لعلّ قائلًا يقول إنّ هذه رؤية مشتركة بين الكاتب والمخرج، أو ربّما لم يكن المخرج إلا مُنفِّذًا ببّغائيًا لسيناريو جاهز. طيب، ماذا عن «صلاح الدين» أو «الزير سالم»؟ ترك حاتم علي لوليد سيف حريّةً شبه مطلقة في تصوير صلاح الدين كما يشاء، ولكنّه واصلَ لعبته الأثيرة في تهريب لقطاته. لستُ أوَّلَ من يشير إلى جمال المشاهد التي تجمع الخليفة العاضد (تيم حسن) وصلاح الدين (جمال سليمان) التي كانت مناقضةً، أو متباينةً على الأقل، مع صورة صلاح الدين السائدة في المسلسل وفي التاريخ على السواء. كان وليد سيف يسعى إلى تبيان صورة البطل الذي سيحقّق أحلام الأمّة في تحرير بيت المقدس: البطل العصاميّ الذي يشبُّ ليحطّم جميع الحواجز التي تفصل بينه وبين حلمه، بيد أنّ كاميرا المخرج كانت تلتقط الصورة الخفيّة للبطل، الصورة الأخرى التي يتخلّى فيها البطل عن ثياب الراهب والجنديّ والقائد ليصبح سميرًا ذكيًا للخليفة الداهية الذي ضاعفتْ براعة تيم حسن من دهائه ونظرات عينيه الثاقبة. كانت جلسات الحوار ولعب الشطرنج أجمل مشاهد المسلسل، ولم يُخفِ حاتم علي ولعه بالمواقف الفاصلة التي تكشف الشّروخ، فوضع بطليه أمام امتحان مؤلم: الصداقة أم المصلحة العامة؟ هل أتخلّى عن الصديق أم عن أحلام الأمة؟ ما الذي سيؤثّر على الأمة لو تأخَّر الفتح المُنتَظر عدة أيام أو أسابيع قبل أن يموت الخليفة المريض. لم تكتفِ الكاميرا بتوثيق ما يحدث أمامها بل سعى حاتم علي بذكائه اللمّاح إلى تصوير بواطن البطلين. ليس الاختيار بين الصديق وبين الأمة المحور الوحيد لهذا الامتحان القاسي، بل ثمّة صراع داخليّ أقسى التقطته الكاميرا في الأعين: ثمّة صديق يترقَّب، بل يتعجَّل، موت صديقه كي يتحرّر من عبء التخلّي ومن عبء الضّغوط التي يُمطره بها القادة المحاربون الذين لا يكترثون لهذه السّفاسف الصغيرة. البلاد أهمّ من العلاقات الصغيرة النّافلة، ولكنّ الأعين لها حساباتها المُفجِعة. عاودَ حاتم علي تركيزه الشّغوف بمصائر العائلة، وإنْ كانت مقتصرةً هنا على صديقين. على أنّه كان قد قدَّمها بوضوح أشدّ في «الزير سالم»، حين بدا المسلسل مسلسلين. سيناريو ممدوح عدوان منشغلٌ بمسألة السُّلطة والمعارضة والطغيان والثأر، فيما كاميرا حاتم علي مشغولة بتوثيق الشّروخ التي ستحطّم بيت همّام بن مرّة الذي كان الساحة الفعليّة لحرب البسوس. العائلة مرةً أخرى، الأعين مرةً أخرى: عينا ضباع (نجاح العبد الله) المشظّاة بين رثاء الأخ الذي قُتِل وبين رثاء الأخ الذي يبتغي الثأر وبين رثاء الزوج الذي لا بدّ أن يكون في الطرف الآخر؛ وعينا همّام المنقسم بين العائلة وبين الصديق. ألمحَ عدوان بسرعة إلى جلسات السَّمر بين مهلهل وهمّام التي كانت تؤرّخ لآخر لحظات الصداقة التي ستتفتّت مع شروق الشّمس، إلا أنّ الكاميرا لاحقتْ تلك الشّروخ إلى نهاياتها. كان مشهد مقتل كليب قاسيًا، ومشهد تفجُّع الحارث بن عباد الذي أُرغِم على الدخول في حربٍ ينفر منها مؤلمًا، إلا أنّ الفاجعة الفعليّة كانت في عيني ضباع في جميع المشاهد التي تبعت حادثة القتل الأولى. كان الشَّرخُ الذي أبعد الأخت عن أخاها والصديق عن صديقه بدايةَ الفاجعة التي ستُفتِّت العائلة كليًا حين ينحاز كلُّ ابنٍ من ابنَيْ ضباع وهمّام إلى الجيش الذي يراه الأحقَّ بالنُّصرة. كان انقسام ذلك البيت التاريخيّ البعيد، وتقاتل الأخوين، إلماحًا أول للانقسام الذي سيمزّق عائلة أخرى بعد قرون، عائلة الأب والعمّ في «أحلام كبيرة»، ويواصل تمزيقه لعائلة الجيل الثاني من الإخوة الأعداء.

يرى كثيرون أنّ حاتم علي أفضل مخرج سوريّ على الإطلاق، ولكنّي أظنّ أنّه حُكمٌ لم يكن حاتم نفسه سيقبل به، وكان سيشير إلى هيثم حقّي، بالرغم من أنّ حقّي اعتزل الإخراج تقريبًا بعد هجرته. كان حاتم أذكى تلاميذ هيثم حقّي، ولم يُخفِ تأثّره به. جميع السّمات التي تُميِّز حاتم علي ورثها عن المعلّم الكبير: ذكاء الكاميرا، المغامرة في منح وجوه جديدة أدوارًا مهمّة، والعمل بدأب على مشروع واضح يكون بصمةً للمخرج أيًا يكن كاتب السيناريو. لا يتّسع المجال إلى مقارنةٍ تفصيليّة بينهما، ولكنْ لعلّ بوسعنا القول إنّ حاتم علي أكملَ مشروع هيثم حقّي، محافظًا على بصمةٍ خاصة به. لم يكن حقّي منبع التأثير الوحيد في مسيرة حاتم علي، إذ سبقه الراحل علاء الدين كوكش الذي رحل عن دنيانا قبل فترة وجيزة، من دون أن ننتبه إلى أنّ الموت بدأ يختطف حرّاس ذاكرتنا تباعًا. رحل كوكش وحيدًا في مأوى للعجزة، ورحل حاتم علي وحيدًا في غرفة فندق بعد أن كان قد قرَّر الهجرة إلى بلاد تحترم حقوق مواطنيها وتمنح حياةً مريحةً في الشيخوخة. هرب كوكش من الدنيا وأمضى سنوات في عزلة شيخوخته، فيما كان علي يمنّي النّفس بشيخوخة رغيدة بعد عقدين أو ثلاثة، غير أنّ الأقدار لها حساباتها المُفجِعة. ربّما كان العقدان اللذان بخلت بهما الأيام على حاتم علي سيشهدان ولادة عملٍ يُصوِّر التغريبة السوريّة التي كان علي يرى محقًا أنّ الوقت ما يزال مبكّرًا على تنفيذها. قد ينفّذها مخرج آخر، وقد تبقى أسيرة الأحلام الكبيرة التي باتت الجعبة الوحيدة لناس هذه البلاد الذين تلاشت حياتهم وذكرياتهم ولم يبق لهم إلا الأحلام. على الأرجح أنّ مشهد جنازة علي سيكون أحد مشاهد تلك التّغريبة؛ رحيل مُدوِّن الأحلام، وحارس الذاكرة، ومُوثِّق الشّروخ التي قصمت ظهر هذه البلاد التي تلفظ أبناءها تباعًا.

مشهد أخير (1)

في أحد مشاهد مسلسل «ذكريات الزمن القادم»، نرى خالدة (ضحى الدبس) وهي تركض في شوارع الشام المزدحمة بحثًا عن أمّها المصابة بالزهايمر. كانت الأم (ثناء دبسي) قد خرجت من البيت بحثًا عن أطياف الماضي التي لم تكن تتعامل معها كأطياف بل بوصفها واقعًا، فيما كانت الابنة تُمشِّط الشوارع بلهفة وجنون بحثًا عن الأم التي كانت حارسة الحاضر والمستقبل، بينما الكاميرا ترصد صرخات خالدة الملتاعة من أعلى كعين إله محايد، وتُورِّط الناس في الشوارع، على غفلة منهم، في البحث عن أطياف الماضي والحاضر والمستقبل. المسلسل من إخراج هيثم حقّي.

مشهد أخير (2)

في إحدى صور جنازة حاتم علي، نرى منى واصف مذهولةً متفجّعةً، مثل أمٍّ أضاعت أطياف الماضي والحاضر والمستقبل، وهرعت إلى شوارع المدينة بحثًا عنها. الكاميرا تواجه العينين اللتين تبدوان مرآةً مُفجِعةً لخواء المدينة التي تبدَّدت جميع أطيافها، بينما منى واصف مثل هيكابي التي فقدت زوجها وأبناءها وبناتها وأحفادها في حرب طروادة، وثمّة دخان لامرئيّ يومئ إلى الحرائق التي نهشت البلاد. هذا المشهد بلا مُخرِج.

المشهد الأول مرآة معاكسة للمشهد الثاني، وكلاهما يخلوان من حضور حاتم علي. حاتم علي الغائب الأكبر في جنازته. هو يبتسم الآن. لعلّه هو الوحيد الذي يعرف مكان تلك الأطياف، ويزجي وقته في مسامرتهم بعد أن نجح في تصوير مشهده الأخير.