شتاء سوري طويل دون تدفئة

شتاء سوري طويل دون تدفئة

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

رغم أن قسماً كبيراً من البشر حول العالم يعشقون فصل الشتاء، ويفضلونه على بقية فصول العام، إلا أن جزءاً من المواطنين السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة واللاجئين منهم في المخيمات باتوا يربطون هذا الفصل بالمعاناة في ظل البرد وبالحرمان من الدفء.

وبعد انقضاء شهري كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير)، واقتراب فصل الربيع، تمضي عائلات سورية ليالي صعبة كلما انخفضت درجات الحرارة، وتساقط المطر أو تشكل الجليد. ينتظر عابد من سكان “معضمية الشام” بريف دمشق، وصول رسالة تعبئة مازوت من شركة “تكامل” تزوده برقم للتواصل مع الموزع، إلا أنها لم تصل رغم تسجيل طلبه منذ أيلول الماضي. وعن تجربته يقول عابد: “كرهت كل ما يتعلق بالشتاء، خصوصاً عند تشكل موجات الصقيع، حصلت العام الماضي على 200 ليتر وفق دفعتين، في كل دفعة 100 ليتر، الأولى في كانون الثاني والثانية في آذار (مارس)، ادخرت منهما 75 ليتراً، بدأت استعمالها بتقشف وحذر شديدين خلال موسم الشتاء الحالي”. ويضيف “لم تكن عائلتي تشعل المدفأة إلا ساعة أو ساعتين كحد أقصى ليلاً؛ خشية نفاد كمية المازوت، ومعظم المساء كنا نلتحف بالبطانيات ونرتدي ثياباً سميكة درءاً للمرض”.

وأعلنت شركة “محروقات” في آب (أغسطس) الماضي عن استمرارها بتسجيل البطاقات وتوزيع مادة مازوت التدفئة لموسم شتاء 2020-2021، عبر البطاقة الإلكترونية العائلية بمعدل 200 ليتر لكل عائلة للدفعة الأولى في جميع المحافظات، على أن يتم توزيع الدفعة الثانية بكمية 200 ليتر بعد استكمال الدفعة الأولى. وتدير شركة “تكامل” مشروع البطاقة الذكية (الإلكترونية)، وهو يهدف إلى أتمتة توزيع المشتقات النفطية وغيرها من المواد والخدمات على العائلات والآليات في سورية، وهو مشروع عائد لوزارة “النفط والثروة المعدنية”. كما أعلنت مديرية فرع دمشق لشركة “محروقات” بأنه سيتم بدء توزيع مادة مازوت التدفئة مع دخول شهر أيلول (سبتمبر) 2020.

وتتطابق معاناة عابد مع آلاف الأسر السورية التي لم تحصل على مخصصاتها من مازوت التدفئة حتى الآن، ما يضطر بعضها للاحتيال على البرد عن طريق وسائل تدفئة أخرى، كالمدافئ التي تعمل على الغاز المنزلي، لكنه حل غير مجد، خاصة في الأرياف، إذ أصبحت مخصصات كل أسرة سورية أسطوانة غاز كل شهرين تقريباً، كما أن الأفضلية للطبخ وتسخين المياه خلال البرد، وهي في كل الأحوال لا تكفي لأكثر من عدة أسابيع تبعاً لعدد أفراد الأسرة وحجم الاستهلاك.

ويعتمد كثير من المواطنين على المدافئ الكهربائية، لكن الانقطاع المستمر في التيار الكهربائي وعدم الالتزام ببرنامج التقنين المعتاد وهو رسمياً أربع ساعات قطع مقابل ساعتي وصل في ريف دمشق مثلاً، ما يعني أن ساعات التغذية، بحسب البرنامج، هي 8 ساعات، إلا أن الواقع يخالف ذلك، مع التعطل المستمر في الشبكة الكهربائية، وغياب عدالة التوزيع بين المناطق، بين دمشق وريفها مثالاً، وقد تحصل بعض البلدات والمدن على أقل من ساعتين أحياناً.

وتشتري بعض العائلات ممن تملك قدرة مالية أفضل الحطب للتدفئة، إذ تراوح سعر طن الحطب في بعض المحافظات ما بين 80 إلى 130 ألف حسب النوع والجودة. وتحتاج العائلة، حسب عدد الأفراد وكمية الاستهلاك، إلى ما بين 3 إلى 5 طن، بسعر يتجاوز 500 ألف ليرة سورية، وهي أسعار لا تتناسب كلياً مع متوسط الأجور، الذي يقترب من 60 ألف ليرة سورية في القطاع الحكومي.

وأطلقت “وزارة النفط والثروة المعدنية” منتصف شهر كانون الثاني (ينانير) من العام الجاري خدمة الرسائل النصية القصيرة لتوزيع مادة مازوت التدفئة في محافظتي دمشق وريفها. وأوضحت الوزارة، في بيان صحفي نقلته وكالة “سانا” للأنباء الحكومية، أنه سيتم إرسال رسالة نصية من الشركة السورية لتخزين وتوزيع المواد البترولية (محروقات) إلى الرقم الشخصي للمواطن المعني يتم من خلالها إعلامه بدخول طلبه ضمن جولة التوزيع. وتتضمن الرسالة اسم سائق الصهريج ورقم جواله ليتمكن مالك البطاقة الالكترونية من التواصل مع السائق بشكل مباشر لاستلام مخصصاته. وأكدت الوزارة أن التوزيع حالياً محصور بطلبات البطاقات التي لم تستلم الدفعة الثانية من الموسم السابق وسيتم الانتقال بعد تنفيذ هذه الطلبات للطلبات الجديدة وبحسب أقدمية التسجيل.

ومع تأخر الحصول على مخصصات مازوت التدفئة المدعوم سعرها من الحكومة السورية، لجأت إسراء من سكان منطقة ركن الدين بدمشق إلى شراء حاجتها من المادة عبر “السوق السوداء”. ويبدو أن الفرق السعري كبير، إذ يبلغ سعر ليتر المازوت المدعوم 185 ليرة سورية تقريباً، في حين وصل سعر الليتر في “السوق السوداء” إلى 1300 ليرة سورية في حال توفره، مع وجود مخاطر قانونية على البائع والمشتري للتلاعب وبيع مادة مدعوم سعرها من الدولة بحسب القوانين السورية.

وكشف مصدر في شركة محروقات لتلفزيون “الخبر” المحلي منتصف كانون الثاني من العام الجاري، أنه “بلغت نسبة توزيع مادة مازوت التدفئة في مدينة دمشق 18% من مجمل الطلبات التي سجلت على المادة”. وبين المصدر أن “انخفاض الكميات الواردة من مادة المازوت أدى إلى انخفاض توزيع طلبات مازوت التدفئة إلى 35 طلباً في اليوم الواحد بدمشق، بينما كان يتم توزيع 68 طلباً باليوم الواحد العام الماضي”.

وقال مصدر في محافظة ريف دمشق لموقع “أثر برس” المحلي بداية شباط (فبراير) الجاري، إن عدد البطاقات التي وزعت مازوت التدفئة عليها بلغ 175 ألف بطاقة، من أصل 653 ألف بطاقة صادرة عن ريف دمشق”، أي بنسبة أقل من الثلث، مشيراً إلى أنه في حال استمر التوزيع بهذا البطء فسنحتاج إلى عشرة أشهر لانتهاء توزيع الدفعة الأولى من مخصصات المازوت. وأضاف أنه يصل إلى ريف دمشق يومياً نحو 36 طلب مازوت، يوزع منها بحدود 20 إلى 22 طلباً للتدفئة، أي بحدود 500 إلى 600 ألف ليتر يومياً وما تبقى لباقي القطاعات، مبيناً أن عملية التوزيع مستمرة لتحصل كافة الأسر على مستحقاتها. ووزعت لجان المحروقات الفرعية في بعض المحافظات مثل درعا وحلب 100 ليتر فقط لكل عائلة في محاولة إسعافية مع صعوبة توزيع 200 ليتر فوراً.

بعد أشهر من الانتظار بفارغ الصبر، وصلت رسالة نصية إلى أحمد من سكان منطقة الكسوة بريف دمشق، ليتواصل مع الموزع في منطقته، وبالفعل حصل على 200 ليتر دفعة واحدة، يقول أحمد مبتسماً في حديثه الخاص معنا: “أنا محظوظ فعلاً، لكنني اضطررت إلى بيع 100 ليتر منها، بسبب تردي وضعي المعيشي، ومرض طفلي”.

وصرحت أكجمال ماجتيموفا ممثلة منظمة الصحة العالمية في سوريا، في حزيران (يونيو) من العام الماضي، إنه وبعد تسع سنوات من الصراع المسلح، يعيش أكثر من 90 بالمئة من سكان سوريا تحت خط الفقر البالغ دولارين في اليوم بينما تتزايد الاحتياجات الإنسانية. بحسب ما نقلت وكالة “رويترز” للأنباء.

الموزاييك: حرفة تلفظ أنفاسها الأخيرة

الموزاييك: حرفة تلفظ أنفاسها الأخيرة

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

ما أن تقودك قدماك إلى النهاية الشمالية لسوق البزورية في دمشق القديمة، حتى يطالعك قصر العظم بتصميمه المعماري الإسلامي، وزخارفه المطعمة بالصدف المستلقي على خشب الجوز والكينا المعتقين لتتساءل في سرك: “من هي اليد الماهرة التي صنعت كل هذا الجمال!”. وخلال تدرجك بلاط الأرصفة الممتدة بين باب شرقي وباب توما وصولاً إلى القيميرية، يأتيك الجواب، هم حرفيو الموزاييك وتصديف الخشب. تُحاول البحث عنهم وتقفي أثرهم، لتتفاجأ أن معظمهم هاجروا وهُجروا وباتوا يعدون على أصابع اليد الواحدة.

يعد اسكندر الحلبي من المدافعين الشرسين عن هذه المهنة، والصامدين في وجه اندثارها، خاصة بعد سنوات الحرب الطويلة التي تركت أثرها، شأنها شأن المهن الأخرى. يقول الحلبي عن تجربته: “بدأت حرفة الموزاييك بالتراجع مع بداية الحرب، هذه المهنة تستهوي السياح، والسياحة متوقفة منذ أكثر من ثماني سنوات، ناهيك عن فقدان المادة الأولية وهي الخشب، إذ تعتمد الموزاييك على أخشاب الجوز والكينا والليمون والزيتون والحور، جميعها مصدرها الغوطة الشرقية التي تدمرت وقطعت أشجارها، وبالتالي أثرت على إنتاج وديمومة هذه المهنة”.

يوضح الحلبي الذي نال الجائزة الأولى في حرفة الموزاييك خلال مشاركته في أحد المعارض الخارجية منذ أربعة أعوام، أن ارتفاع أسعار المواد الأولية للخشب المستورد تحدي إضافي له خاصة، وللحرفة عموماً، وفي حال توفر الخشب المحلي، فهو مكلف للغاية نتيجة صعوبة توفيره والتحكم بأسعاره، وبالتالي امتناع الناس عن الشراء، يضيف قائلاً: “الحصار الاقتصادي على سورية ضاعف من انقراض هذه الحرفة، لعدم وجود أسواق خارجية لتصريف المنتجات، بينما لا يوجد أسواق داخلية لمهنتنا كونها لا تتجاوز الكماليات، على خلاف الأسواق الدولية، لأنها حرفة دمشقية ويدوية وتنال الكثير من الإعجاب دولياً”.

أثر الركود الاقتصادي العالمي والعقوبات الاقتصادية على سوريا  بشكل كبير ومباشر على هذه الحرفة، بدءاً من ارتفاع أسعار المواد الأولية التي وصلت إلى أضعاف مضاعفة، كالصَّدَفْ الذي كان بعشرين ألف ليرة وبات الآن بسبعين ألفاً، إلى جانب الجائحة العالمية كوفيد 19 التي حدت من حركة المطارات وألغت فرصة المشاركة في المعارض الدولية للحرف اليدوية.

قلة الأيدي العاملة وهجرة أصحابها الأصليين

لايملك الحلبي (عضو مجلس إدارة في الجمعية الحرفية للمنتوجات الشرقية) أيدياً عاملة تساعده في الورشة، والأمر ينطبق على زملائه في الحرفة، وعن ذلك يقول: “الورشات في دمشق موزعة في العشوائيات ولا يتجاوز عددها العشرين ورشة، أما ورش الريف فإما أغلقت أو دمرت أو أحرقت أو هاجر أربابها طوعاً أو هُجروا قسراً، بحثاً عن مصدر رزق أكبر”.

يُشير الحرفي إلى بدء عودة بعض ورشات العمل تدريجياً إلى العمل في الأرياف، لكن بشكل محدود وخجول كصنع طاولات زهر أو علب صغيرة الحجم لا أكثر، مطالباً بدعم جدي وملموس لهذه الحرفة قبل أن تنقرض كلياً، خاصة أن الدعم الذي يحظى به الحرفيين “محدود جداً” حسب وصفه.

تُعد ورشة إسكندر القابعة في حي الطبالة من الورشات الباقية على قيد الحياة، بالرغم من مساحتها الضيقة ومعداتها البسيطة، لكنها تنجز عملاً فنياً في غاية السحر والدقة مع نهاية اليوم وغروب الشمس. وعن آلية صنع الموازييك (الفسيفساء) ومراحل استكمالها، يتحدث الرجل الخمسيني: “أحول الأخشاب إلى عيدان طويلة ورفيعة بمقاسات موحدة ومتساوية الطول في غاية الدقة، وذلك بعد قصها عبر قاطعة الخشب المعروفة باسم المنشار، ثم أقوم بضم هذه الأعواد وفق شكل هندسي معين وأغمسها بالغراء ليوم كامل لضمان التصاقها وتماسكها وعدم انفراطها لتصبح جاهزة في اليوم الثاني وهو ما نطلق عليه اسم الأماية التي بدورها نقوم بقصها لينتج عنها قشور خشبية تدعى الموزاييك، بحيث نقوم بإلصاقها على القطع الخشبية المخالفة والأثاث وسواها”. ويوضح الحلبي أنه يترك في بعض الأحيان أماكن فارغة على الخشب لتلبيسه بالصدف الطبيعي وتسوية السطوح ليرسلها فيما بعد إلى البراد بغية التلميع.

الجميع يستأثر لقب شيخ الكار

إلى جانب الحلبي الذي ينسب لنفسه لقب شيخ الكار، هناك العديد أيضاً ممن يستأثرون بهذا اللقب. فمثلاً يقول الحسن الحرستاني مشهراً في وجهي ختم العائلة كدليل دامغ يقطع الشك بعراقة انتسابه للمهنة “أباً عن جد”. ويتابع حديثه بالقول: “ورثت هذه المصلحة عن أبي الذي بدوره ورثها عن أبيه ثم جده، فجدي هو شيخ الكار.”

تعلم الحرستاني هذه الحرفة منذ الصغر إلى أن اتخذها في الكبر مهنة تدر له المال. تمكن خلال سنوات عمله من تعلم أصول المهنة وإتقان جميع أساليب طرز الحفر الشرقية التي تسمى خيوط الحفر، حيث  بدأت هذه الخيوط غائرة ثم سرعان ما تطورت مع الزمن وأصبحت تجمع ما بين الغائرة والنافرة معاً، وعن ذلك يعد أنواع الخيوط: “هناك القيصري والعربي والفاطمي والأيوبي والفارسي وغيرها”.

تختلف أسعار القطع الخشبية نظراً لاختلاف المواد الداخلة فيها، إذ لكل منها قيمة نقدية مختلفة عن الأخرى، فتلك التي تحتوي صدفاً بحرياً تكون أغلى من النهري، وكذلك المستورد (من الفلبين) أغلى مقارنة بالمحلي(الديري)، بالإضافة إلى كمية الفضة والعضم المستخدمة فيها.

تاريخ صناعة الموزاييك الدمشقية

تعد صناعة الموزاييك الدمشقية من أقدم المهن العريقة التي اشتهرت بها المدينة. يعود تاريخ صناعة الموزاييك إلى أكثر من 700 عام حيث اشتهرت هذه المهنة أيام الأتراك. ويُعد بيت نظام ومكتب عنبر وقصر خالد العظم والسباعي والقوتلي من أشهر البيوت الدمشقية المزينة بهذه المادة. كما أصبح الموزاييك الدمشقي كالسفير الذي سبق السياسيين إلى معظم دول العالم، حيث يحتل الموزاييك الدمشقي مكان الصدارة في أثاث الصالون في قصور رئاسية عالمية كقصر رئيس الجمهورية الفرنسية وقصر رئيس جمهورية المكسيك؛ فضلاً عن قصور خليجية متعددة.

من يسيطر على حدود سوريا وبواباتها؟

من يسيطر على حدود سوريا وبواباتها؟

مع تقلب السيطرة في سوريا وعلى حدودها خلال العقد الأخير، لا تسيطر الحكومة المقيمة في ثلثي البلاد ومعظم مدنها الكبرى سوى على 15 في المائة من الحدود مع الدول المجاورة ونصف معابرها الـ19 (يقع معظمها مع لبنان).

وللمرة الأولى منذ 2011، استقرت في السنة الأخيرة خطوط التماس بين ثلاث «مناطق نفوذ»، ولم يطرأ عليها تغير جوهري، حيث تسيطر الحكومة بدعم روسي إيراني على نحو 65 في المائة من البلاد (المساحة الإجمالية 185 ألف كلم مربع)، وست مدن رئيسية: دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس، ودرعا ودير الزور، تضم 12 مليون شخص. في المقابل، تسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية، بدعم من التحالف الدولي ضد «داعش» بقيادة أميركا، على نحو 25 في المائة من الأراضي، تضم نحو 3 ملايين شخص، ومعظم ثروات النفط والغاز والمياه والزراعة، ومدينتي الحسكة والرقة. كما تقع محافظة إدلب ومدن جرابلس وعفرين وتل أبيض ورأس العين التي تضم أكثر من 3 ملايين، معظمهم من النازحين، تحت سيطرة فصائل تدعمها تركيا، ما يشكل نحو 10 في المائة من سوريا، وضعفي مساحة لبنان.

– سيطرة وهمية

وجاء في دراسة نشرها الباحث الفرنسي فابريس بالانش في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى»، أول من أمس، أن «الحدود رمز السيادة بلا منازع، ولا يزال سجل أداء النظام خالياً تقريباً على هذا الصعيد. ويسيطر الجيش السوري على 15 في المائة فقط من الحدود البرية الدولية للبلاد، في حين تتقاسم جهات فاعلة أجنبية الحدود المتبقية».

وفي جنوب البلاد وغربها، تسيطر الحكومة السورية وتنظيمات مدعومة من إيران و«حزب الله» على 20 في المائة من حدود البلاد. يقول بالانش: «على الرغم من أن سلطات الجمارك السورية هي المسؤولة رسمياً عن إدارة المعابر مع العراق (البوكمال) والأردن (نصيب) ولبنان (العريضة وجديدة يابوس وجوسية والدبوسية)، فإن السيطرة الحقيقية تكمن في الواقع في أماكن أخرى، إذ يحتل (حزب الله) الحدود اللبنانية، وقد أقام قواعده على الجانب السوري (الزبداني والقصير) التي يسيطر منها على منطقة القلمون الجبلية. وبالمثل، تدير ميليشيات عراقية كلا جانبي الحدود من البوكمال إلى التنف. وتمتد قبضة القوات الموالية لإيران أيضاً إلى كثير من المطارات العسكرية السورية التي غالباً ما تكون بمثابة وسيلة لنقل الأسلحة الإيرانية الموجهة إلى (حزب الله) وخط المواجهة مع إسرائيل في مرتفعات الجولان. ويكشف هذا الوضع عن اندماج سوريا الكامل في المحور الإيراني».

وكانت قوات الحكومة قد سيطرت على معبر نصيب مع الأردن في منتصف 2018، بموجب اتفاق روسي – أميركي – أردني قضى بتخلي واشنطن عن معارضين، مقابل عودة قوات الحكومة وإبعاد إيران. لكن فصائل تدعمها قاعدة حميميم الروسية تسيطر على مساحات واسعة من الحدود الأردنية. وأفاد التقرير بأنه رغم السيطرة على نصيب، فإن «حركة المرور لا تزال محدودة جداً حالياً، ووجود الجيش في محافظة درعا سطحي. ولإخماد المقاومة المتنامية في المنطقة بسرعة، اضطر النظام إلى توقيع اتفاقيات مصالحة، بوساطة روسية، تاركاً الفصائل المتمردة المحلية تتمتع باستقلالية مؤقتة وحق الاحتفاظ بأسلحة خفيفة. وحافظ المتمردون السابقون أيضاً على روابط قوية عبر الحدود عن طريق الحدود الأردنية، مما يمنحهم مصدراً محتملاً للدعم اللوجيستي في حالة نشوب صراع جديد». ورعت «حميميم» قبل أيام اتفاق تسوية جديداً قضى بدخول الجيش السوري إلى طفس (غرب درعا).

وتسيطر الحكومة على المعابر غير الشرعية مع لبنان، وتلك الخمسة الرسمية، وهي: جديدة يابوس – المصنع، والدبوسية – العبودية، وجوسية – القاع، وتلكلخ – البقيعة، وطرطوس – العريضة. وتوجد على طول الحدود معابر كثيرة غير شرعية، معظمها في مناطق جبلية وعرة، بحسب تقرير سابق لوكالة الصحافة الفرنسية.

وليست هناك معابر رسمية بين البلدين، لكن «خط فك الاشتباك» بين سوريا والجولان المحتل. وبعد 2011، كانت تسيطر فصائل على المنطقة، غير أن قوات الحكومة عادت إليها بدعم روسي في بداية 2018. كما أعيد في يوليو (تموز) فتح معبر نصيب – جابر مع الأردن الذي كانت قد سيطرت عليه فصائل معارضة في أبريل (نيسان) 2015. أما معبر الرمثا – درعا، فاستعادته دمشق بعدما فقدت السيطرة عليه منذ عام 2013.

– وكلاء وحدود

في عام 2013، بدأت تركيا في بناء جدار حدودي في القامشلي، معقل الأكراد شرق الفرات. ومنذ ذلك الحين، وسعت هذا الحاجز على طول الحدود الشمالية بأكملها. وكان أحد الأهداف منع التسلل من «حزب العمال الكردستاني» و«داعش»، ومنع تدفق مزيد من اللاجئين السوريين إلى تركيا التي تستضيف بالفعل 3.6 مليون لاجئ. وقال التقرير: «لا يزال العبور الفردي ممكناً عبر السلالم والأنفاق، لكن الشرطة التركية توقف معظم هؤلاء المهاجرين وتعيدهم بعنف إلى سوريا».

وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2019، شنت تركيا عملية عسكرية، بالتعاون مع فصائل موالية، وسيطرت على شريط بين تل أبيض ورأس العين في شرق الفرات الذي يخضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية». ودفع هذا الأخيرة لعقد تفاهم مع دمشق سمح بدخول الجيش الروسي والسوري إلى شرق الفرات، وتقليص مناطق سيطرة حلفاء أميركا وتركيزهم على القسم الشرقي من شرق الفرات على حدود العراق. وحلت الدوريات الروسية – التركية محل الدوريات الأميركية – التركية على خطوط التماس هذه لضمان انسحاب «قوات سوريا الديمقراطية» من منطقة الحدود التركية.

عليه، فإن الجزء الوحيد من الحدود الشمالية مع تركيا الخاضع لسيطرة دمشق هو معبر كسب (شمال اللاذقية)، وحتى هذا المعبر تم إغلاقه من الجانب التركي منذ عام 2012. وباتت السيطرة على الجانب السوري من الحدود تباعاً على النحو التالي: أولاً المناطق حتى خربة الجوز من قبل التركمان الموالين لتركيا؛ ثانياً المناطق بين جسر الشغور وباب الهوى من «هيئة تحرير الشام»؛ ثالثاً حتى نهر الفرات من قبل الموالين لتركيا المعروفين بـ«الجيش الوطني السوري»؛ رابعاً حول عين العرب من قبل الجيش الروسي و«قوات سوريا الديمقراطية»؛ خامساً المناطق بين تل أبيض ورأس العين من قبل «الجيش الوطني السوري» المدعوم من أنقرة؛ سادساً من رأس العين حتى نهر دجلة من قبل الجيش الروسي و«قوات سوريا الديمقراطية».

ماذا عن المعابر؟ تتقاسم جهات عدة، وبدرجات مختلفة، السيطرة على الحدود مع تركيا، إذ إن معبر كسب تحت سيطرة دمشق من طرف اللاذقية، لكنه مقفل من الجانب التركي. ويخضع «باب الهوى» لسيطرة إدارة مدنية تابعة لـ«هيئة تحرير الشام» التي تسيطر على معظم إدلب، في حين يتبع «باب السلامة» لمنطقة أعزاز في محافظة حلب، ويقع تحت سيطرة فصائل «درع الفرات» التي تدعمها أنقرة، كما هو الحال مع معبر «جرابلس».

وكانت تل أبيض تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي طردت «داعش» في 2015. وفي أكتوبر 2019، أصبح تحت سيطرة فصائل سورية مدعومة من الجيش التركي، كما هو الحال مع مدينة رأس العين.

وعين العرب (كوباني) التي تقع شمال حلب كانت تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»، ولكن دخلته في نهاية 2019 قوات الحكومة رمزياً، وانتشرت دوريات روسية قرب المدينة، وهو مغلق رسمياً. أما القامشلي – نصيبين، فهو مقفل، ولا يزال رمزياً تحت سيطرة قوات الحكومة التي تملك «مربعاً أمنياً» ومطاراً في المدينة.

– من طهران إلى دمشق

تضمن اتفاق «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) ودمشق نشر بضع مئات من الجنود السوريين على طول تلك الحدود، لكن «وجود هذه القوات كان رمزياً فقط. ومنذ ذلك الحين، انطلقت الدوريات الروسية باتجاه الشرق، في محاولة لإقامة موقع في مدينة المالكية (ديريك)، والسيطرة على المعبر مع العراق في سيمالكا – فيشخابور، وهو طريق الإمداد البري الوحيد المتاح للقوات الأميركية في شمال شرقي سوريا». كما هددت ميليشيات عراقية مراراً وتكراراً بالاستيلاء على فيشخابور.

ولا تزال المعابر الشمالية إلى تركيا كافة مغلقة، كما يمنع الجدار الحدودي أنشطة التهريب، ما جعل معبر سيمالكا – فيشخابور النافذة الدولية الوحيدة أمام «الإدارة الذاتية». وعلى الجانب العراقي من الحدود الشرقية لسوريا، كانت ميليشيات عراقية مسؤولة عن معظم المناطق منذ خريف 2017، عندما فقدت «حكومة إقليم كردستان» سيطرتها على الأراضي المتنازع عليها بين كركوك وسنجار، لكن لم تشمل هذه الأراضي المفقودة فيشخابور. وتسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» على الجانب السوري من الحدود، بدعم من القوات الأميركية. وأفاد التقرير: «لكن الوكلاء الإيرانيين منعوها، ومنعوا غيرها من الجهات الفاعلة، من استخدام أي معابر أخرى، وذلك جزئياً بمساعدة التعاون الدبلوماسي الروسي، إذ تم إغلاق معبر اليعربية الحدودي الرسمي أمام المساعدات الإنسانية للأمم المتحدة منذ أن استخدمت روسيا حق النقض ضد تجديدها في مجلس الأمن الدولي في ديسمبر (كانون الأول) 2019. ومن بين التداعيات الأخرى لهذا القرار أنه يجب أولاً إرسال جميع مساعدات الأمم المتحدة إلى (الإدارة الذاتية) بالكامل إلى دمشق، قبل أن يتم نقلها إلى الشمال الشرقي من البلاد».

وعليه، فإن الباحث الفرنسي يرى أن معبر سيمالكا – فيشخابور «يعد أمراً حيوياً للبقاء السياسي والاقتصادي للمنطقة التي تتمتع بالحكم الذاتي، حيث يمثل نقطة الدخول الوحيدة للمنظمات غير الحكومية الكثيرة التي تعمل فيها وتوفر دعماً أساسياً للسكان المحليين». ومع ذلك، لا تزال الحكومة السورية تعد الدخول عبر هذا المعبر جريمة يُعاقب عليها بالسجن لفترة تصل إلى 5 سنوات، و«من المحتمل أن يكون تعنت النظام بشأن القضايا الإنسانية هو طريقته لمحاولة إعادة تأكيد سيطرته على جانب واحد على الأقل من السيادة الحدودية».

ويقع عين ديوار تحت سيطرة «قسد»، ومعبر زاخو يستعمل للعبور إلى كردستان العراق، فيما يخضع اليعربية – الربيعة لـ«قسد»، في وقت يقع فيه معبر البوكمال – القائم تحت سيطرة قوات الحكومة وميليشيات إيرانية، وقد جرى تدشينه بعمل بين سوريا والعراق في خريف 2019. وتسيطر قوات التحالف الدولي بقيادة أميركا على معبر التنف – الوليد منذ طرد تنظيم داعش. ويقول دبلوماسيون غربيون إن أميركا سيطرت على التنف لقطع طريق طهران – بغداد – دمشق – بيروت، وإن إيران ردت على ذلك بفتح طريق مواز عبر البوكمال.

– أجواء مفتوحة

وفي مقابل محدودية السيطرة على الحدود ومعابرها، فإن الحكومة تملك النفوذ على الموانئ البحرية والمطارات، بما فيها مطار القامشلي في مناطق الأكراد شرق نهر الفرات، علماً بأن التحالف الدولي أقام شرق الفرات عدداً من القواعد العسكرية التي تسمح له باستخدامها لهبوط وإقلاع وإقامة طائرات مروحية وشاحنة شرق نهر الفرات. كما حولت روسيا مطار القامشلي إلى قاعدة عسكرية لها.

ورغم وجود منظومات صواريخ «إس-300» و«إس-300 متطور» و«إس-400» تابعة للجيش الروسي الذي يملك قاعدتين في طرطوس واللاذقية، لا تزال الأجواء السورية «مفتوحة» أمام التحالف الدولي والطائرات الإسرائيلية التي شنت مئات الغارات على «مواقع إيرانية» في سوريا.

وإذ يعلن مسؤولون سوريون، واللاعبون الدوليون والإقليميون، بشكل دائم «التمسك بالسيادة» ووحدة البلاد، وأن مناطق النفوذ «مؤقتة، وليست دائمة»، فإن «التوازنات» بين خمسة جيوش، روسيا وأميركا وتركيا وإيران وإسرائيل، والتفاهمات بين أميركا وروسيا شرق الفرات، وبين روسيا وإيران وتركيا في «صيغة آستانة» في شمالها، تجعل الرغبات الرسمية السورية خاضعة للعبة دولية – إقليمية تحد -إلى الآن- من تحقيق «السيادة الكاملة»، وترجمة التصريحات إلى واقع ملموس.

  • نقلا عن “الشرق الأوسط”
الحرير الطبيعي في دير ماما مهنة تسير باتجاه الاندثار

الحرير الطبيعي في دير ماما مهنة تسير باتجاه الاندثار

وصلت نيران الحرب في سوريا إلى كل شيء يتعلق بحياة السوريين، حتى الأمور التي تتعلق بالذاكرة الثقافية والتي كانت تحت مرمى الصراع الممتد من عام 2011.

تقع قرية ديرماما على السفوح الشرقية لسلسلة الجبال الساحلية السورية، وتتبع لمدينة مصياف في محافظة حماه، وتعتبر مركزاً أساسياً لتربية دودة القز وصناعة الحرير الطبيعي في سوريا.

خلال التسعينات وصل إنتاج ديرماما إلى 11 طناً من الشرانق التي تستخدم بصناعة الحرير وبقي الوضع على حاله حتى 2011، أما إنتاج الحرير في سوريا فقد وصل إلى  3.1 طن عام 2010. لكن هذه المهنة التي كانت تعود بمردود اقتصادي على فئة من السوريين، أصبحت ضحية الأوضاع في البلاد، حيث تراجع الاهتمام فيها وعانت الكثير من الصعوبات.

“أولادي يقولون لي ما فائدة هذا المتحف؟ لو وضعنا فيه ماعزاً وشربنا من حليبها، أليس أفضل من ذلك”، هذا ما يقوله صاحب متحف الحرير الطبيعي في ديرماما، محمد سعود، وأحد مربي دودة القز فيها. يؤكد سعود أن مهنة تربية دودة القز الموجودة في القرية منذ مئات السنين باتت مهددة بالانقراض، إذ لا يعمل فيها سوى ثلاث أو أربع عائلات.

وتبدأ عملية تربية دودة القز بـ “البذرة”، ثم تفقس البيوض وتعطي الدود الذي يتغذى على ورق التوت، وعندما يكتمل نموها تتوقف الدودة عن الأكل وتبدأ بنسج غلاف خارجي وتعرف بهذه المرحلة باسم “الشرنقة” ثم تتحول إلى فراشة، لتبدأ مرحلة إنتاج الخيوط التي تستخدم في الحصول على منتجات الحرير (شالات وثياب بأنواعها المختلفة).

ويوضح سعود الذي حول جزءاً من منزله إلى متحف للحرير، أن المهنة تواجه صعوبات عديدة بدءاً من قلة العائد المادي ورداءة البذور التي تنتج منها البيوض.

قبل الحرب كانت تصل بذور دودة القز إلى سوريا من فرنسا وإيطاليا واليابان والصين، ثم انقطعت البذور ما أدى إلى توقف العمل بهذه المهنة لخمس سنوات. بعد ذلك عاد العمل بتربية دودة القز، حيث اعتمد الأهالي على بذور محلية مصنعة بمنطقة وادي قنديل في اللاذقية، لكن الأهالي يصفونها بالرديئة. وتنتج البذار المستوردة خمسة وخمسين كيلو من الشرانق، بينما تعطي المحلية خمسة عشر كيلو فقط، كما أن الخيوط الناتجة عنها غير سليمة أو جيدة.

ويشير سعود الحاصل على شهادة شيخ كار حرفة الحرير (من اتحاد الحرفييّن السورييّن)، إلى أن صعوبات المهنة تشمل أيضاً تراجع عدد أشجار التوت في القرية التي تتغذى عليها الدودة، وعدم وجود نشاطات لتسويق منتجات الحرير وغياب أي دعم.

ولكن لماذا هذه الإصرار على الاستمرار في هذه المهنة؟، يقول محمد سعود: “لو لم أكن أحب هذه المهنة وأعمل فيها من خمسين سنة لما حافظت عليها”.

في آخر نسختين من معرض دمشق الدولي حمل الأهالي منتجاتهم من الحرير الطبيعي، لعلهم يجدون سوقاً لتصريفها وبيعها، لكن ذلك لم يتحقق بسبب ضعف الإقبال. وكان مربو دودة القز يعتمدون سابقاً على السياح القادمين إلى سوريا من مختلف دول العالم، قبل أن يتوقف النشاط السياحي في البلاد قبل سنوات عديدة.

يناشد الأهالي منذ سنوات الحكومة السورية والمنظمات الدولية المعنية بالتراث الثقافي، بضرورة الاهتمام بمهنة دودة القز والحرير الطبيعي. ويطالب الأهالي بالعمل على توفير بذار بجودة عالية وإقامة أنشطة لتسويق منتجاتهم، لكي لا تصل مهنة الحرير الطبيعي إلى مرحلة الاندثار ويترحموا عليها، لكن هذه المطالبات لم تجد أي آذانٍ صاغية حتى يومنا هذا.

سوريا والخوف من الجنون

سوريا والخوف من الجنون

وصل المواطن السوري فعلاً إلى مرحلة أنه بات يخشى أن يجن ويفقد عقله، وصار يشعر (كما كتب لي أحد الأصدقاء من الداخل السوري: “أحس أنني يجب أن أتعلم لغة جديدة!! كيف سأشرح لك؟ يعني تبقى لغتي هي العربية لكن علي أن أنطقها بطريقة مختلفة بحيث تبدو لغة جديدة، أي أشعر أنني لا يجب أن أكون أنا”. رسالته لي طويلة مضطربة مليئة بالتشوش الذهني والخوف فهو مثل ملايين السوريين في الداخل أصابه رهاب الاعتقال بسبب منشوراته على الفيسبوك؛ وختم رسالته بأنه يتمنى فعلاً على النظام لو يصدر نشرة تحدد للناس ما يجب أن يكتبوه حتى لا يُعاقبوا بجرم “وهن شعور الأمة”، وصدقاً لا أفهم كيف يمكن لشخص أن يوهن عزيمة ويوهن شعور أكثر من عشرين مليون سوري سواء كانوا في الداخل أو الخارج.

ذكرني المسكين بقصة مُخزية لكن طريفة حدثت مع أحد أعز أصدقائي وهو طبيب قلبية يعيش في باريس ومشهور طلبت منه إحدى الجامعات المهمة في السعودية أن يؤلف كتاباً عن  “أمراض القلب والقثطرة القلبية باللغة العربية”، وفعلاً ألف الكتاب وذكر أنه من المفيد خاصة للرجل بعد الأربعين أن يشرب كأساً من النبيذ الأحمر يومياً فهو يفيد القلب، وطُبع الكتاب بنسخ أنيقة جداً. وبعد أقل من أسبوع تلقى الطبيب رسالة من عميد كلية الطب يأمره أن يغير كلمة “نبيذ لأنها خمرة أي مُنكر، وأن يستبدلها بعبارة عصير العنب المتخمر”. وفعلاً أتلفت كل النسخ التي تحوي كلمة نبيذ وتم استبدالها بعبارة “عصير العنب المتخمر”.

أستحضر تلك الحادثة لأنني أشعر أن ثمة رابطاً أو شبهاً كبيراً بينها وبين ما يحصل في سوريا مؤخراً من قرارات عجيبة غريبة وتجريم المواطنين بكتاباتهم على الفيسبوك “جرائم إلكترونية” لأنها توهن عزيمة الشعب السوري عالي العزيمة وعزة النفس ويتمتع بحرية التعبير ويفضفض عن مشاعره وأفكاره. وصُعق الناس بسجن مذيعة في التلفزيون السوري وتوقيفها في الأمن الجنائي لأن كتابتها على الفيسبوك في فضح الفساد والكلام عن الفقر يوهن عزيمة الشعب السوري! كما تم توقيف طالبة في كلية الصيدلة (عشرون عاماً) بسبب كتابتها على الفيسبوك، إضافة إلى توقيف العديد من المواطنين العاديين بسبب كتاباتهم التي توهن عزيمة الأمة أو تضعف الشعور الوطني للشعب السوري.

أصبح قول الحقيقة ووصف عيشنا الذليل ووصف طوابير الناس على الأفران جريمة إلكترونية توهن عزيمة الشعب السوري! أليس هذا التعبير بذاته أشبه بنكته سمجة في ظل ما عاناه السوري من قهر لا يتحمله نبي طوال عشر سنوات من جوع وتشريد واعتقالات وفساد مروع وخوف. هل منظر السوريين يزدحمون أمام مكاتب الصرافة ازدحاماً ينافس ازدحامهم أمام الأفران كي يقبضوا الحوالة التي يرسلها لها الأبناء والأقرباء كي يشتروا طعاماً ولا يموتون من الجوع (وطبعاً هم يقبضون ثلث المبلغ المُرسل لهم لأن الثلثين تأخذهما الدولة)، هل مجرد وصف هؤلاء يوهن عزيمة الشعب! هل العيش في ظلام شبه دائم حيث الكهرباء تتوفر بأعلى حد ثلاث ساعات طوال 24 ساعة والكتابة عن الظلام وتعطل الأجهزة الكهربائية لدرجة أن أحدهم قال إنه استبدل البراد بنملية لحفظ الطعام، هل وصف حقيقة الواقع جريمة توهن عزيمة الشعب السوري!

وماذا سيكتب الناس غير واقعهم ووجعهم، وهم يعرفون ويحتاطون في كتابتهم لأن في عقل كل واحد منهم عنصر مخابراتي مزروع داخل تلافيف دماغه يأمره أن يكتب بطريقة مُعينة ويحذره أن يتجاوز الخطوط الحمراء التي يعرفها حتى الطفل المقمط في السرير. ونجد معظم الكتابات تندرج تحت “الفعل المبني للمجهول” لدرجة أنني أعتقد أن أكثر شعب يستعمل الفعل المبني للمجهول هو الشعب السوري، فتجد كتابات وشكاوي “الله لا يوفقكم، الله يفجعكم بأولادكم، الله يسود عيشتكم مثل ما سودتم عيشتنا، وغيرها..)، لكن يعم الصمت حين تسأل هؤلاء من الذين تدعون عليهم بالموت والعقاب الرباني.

أيه نكتة سمجة مُخزية أن كتابات صادقة هي توصيف فقط للحياة أو الجحيم السوري يمكن اعتبارها جريمة إلكترونية! ويتم العقاب عليها وإجبار الشخص أن يكتب تعهداً ألا يكتب ما يحس به وما يوجعه وما يحلم به! كيف سيكتب الموطن السوري عن النور وسط الظلام! كيف سيصفون طعم السمك اللذيذ واللحم وهم ينتظرون يوماً كاملاً للحصول على خبز مُعجن لا تأكله الدواب! ما المطلوب من هذا الشخص أن يكتب أنه كان في قمة السعادة وهو ينتظر في ازدهار أزمة كورونا ساعات طويلة وسط حشد من الفقراء أمثاله للحصول على ربطة خبز، ربما عليه أن يعود إلى البيت ويكتب مدعياً أنه كان سعيداً بالشمس الساطعة التي أنسته ظلام الليل وانقطاع الكهرباء.

وإلى متى سيظل الرعب والتهديد يقبض على عنق كل سوري، فيشعر السوري أنه مُراقب حتى وهو في سريره مدثراً باللحاف! فبعد كل ما شهده السوري من فظائع وموت وتهجير وعيش ملايين السوريين في مخيمات النزوح البائسة هل من كتابة توهن شعورهم الوطني وعزة نفسهم! هم الذين تمرغت كرامتهم في وحل الذل والقهر والدم وصاروا يحسدون من مات ويقولون: “نيالو ارتاح”. لا أنسى ما كتبه أحدهم: “لم يعد لنا عزاء من انقطاع الكهرباء كل اليوم وخاصة ليلاً (من الساعة 7 حتى 12 ليلاً) لم يعد لنا عزاء من الظلمة والبرد القارس سوى صور النازحين تغوص أقدام أطفالهم في الوحل والطين والثلج.” شعور المواطن السوري بكرامته وعزة نفسه سحق سحقاً لدرجة قال لي الكثيرون: “عايشين وبالعين السكين وساكتين”. أظنهم استدركوا الآن أنهم لو كتبوا تلك العبارة على صفحتهم على الفيسبوك فسوف يتهمون بوهن شعور الشعب السوري.

لوحات دمشقية: تنافر العيش في وفرة العتمة

لوحات دمشقية: تنافر العيش في وفرة العتمة

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا

تنهار بنية الحكاية، لم تعد دمشق مروية قابلة للسرد، فقدت المدينة روحها ومعالمها، خمد تدفق تفاصيل العيش، تحولت للوحات معتمة في معرض يعتمد على غياب الضوء، معرض للندوب، للجروح، للكلام الفاقد للغة وللمعنى، أوسع من العبث وأعقد من أن تفسره كلمات أو تتفهمه القلوب.

لوحة 1

في دمشق، أكياس خبز السندويش متروكة بدعة وأمان على عتبات المحال المغلقة. منذ الصباح الباكر تمر سيارات توزيع الخبز السياحي والصمون تضع حمولتها حسب طلب أصحاب المحال وتمضي، أزمة الرغيف باتت معضلة حقيقية، لكن لا أحد يفكر بأن يأخذ ربطة خبز أو حتى سندويشة صمون واحدة، رغم غياب الرقيب، في دمشق ينام الخبز على الحجر في أمان ووفرة، وأمعاء السوريين تترجى زيارته لها.

يكتسب الخبز قداسة كبيرة في وجدان السوريين، يطلبونه علناً ولكن لا يسرقونه، تشتكي سيدة من أن عدد أرغفة الخبز ناقصة في الربطة، يصرخ الجميع: كل شيء إلا الخبز! مع أن السوريين قد تخلوا عن طلب رغيف أو قطعة منه أو مجرد لقمة ممن عانى من ساعات الانتظار في الطوابير ليفوز بربطة أو أكثر، أو تمكن من شراء ربطة بسعر تجاوز الألف ليرة. تحول الخبز من لغة مشتركة إلى خط أحمر لا يمكن تجاوزه ولا النطق باسمه. بات مخجلاً ومربكاً جداً أن تطلب رغيفاً وتمضي. الرغيف يعني وجبة لشخص، زوادة لطالب أو لعامل، يعني وقتاً طويلاً ومهدوراً، يعني برداً وقهراً ووجع في الظهر وفي كامل الجسد، حتى رائحة الخبز المنعشة تحولت لانقباضات في المعدة ومثيرة لغصة في القلب.

لم تشهد أية مادة غذائية تبدلاً جذرياً ومأساوياً في آلية التعامل معها كما رغيف الخبز. كان خيطاً من التواصل المحبب والسخي والمألوف وانقطع بصورة دراماتيكية، جذرية وعنيفة غير قابلة حتى للاستفهام.

لوحة 2

تغرق دمشق في الظلام، وأنا أعبر الحارة الفرعية أحاول أن أهتدي بمصباح الهاتف النقال، ألمح ظل يد غريبة تحاول الوصول إلى هاتفي، يتضخم الرعب في داخلي، عتمة الطريق وعتمة الخوف، أصرخ وأقطع الطريق راكضة، يبتعد الشاب، يغرق في الظلام ويحتمي به. بات طبيعياً جداً أن ينتزع أحدهم جوالك من بين يديك، محفظتك، المبلغ المالي النقدي البسيط الذي بحوزتك، ما تبقى من نقود أعادها لك السائق أو بائع البسطة او البقال أو الفرّان؛ حتى مرتبك الشهري الهزيل قد يُسحب من يدك أو من جيبك وأنت واقف على آلة الصراف الآلي.

 أصل إلى الشارع العام المحروم من الإضاءة أيضاً، وحدها أضواء السيارات  العابرة تبدد قليلاً من وحشة العتمة، دراجات نارية بلا أضواء تعرفها من جعير أصواتها فتبتعد مذعوراً لتصطدم بأحدهم فيصرخ قائلاً بلهجة حانقة ومرتعشة: “كنت روحتني”. سيارات بلا مصابيح تحاذيك وتشاركك طريقك لدرجة التلامس المباشر بينكما، أبدل في وضعية الجوال، أقلبه ليسقط ضوء المصباح على الأرض، أعرف أن الحفر تلتهم الرصيف، وأن ما كان درجاً بين الرصيف العالي والمعبر المؤدي للجهة الأخرى قد تآكل وتحول إلى مجرد تلة صخرية منحدرة بشدة. عشرات الأشخاص يسيرون بغير هدى، أمهات يمسكن بأيدي أطفالهن، يتعثر طفل ويبكي آخر، يطلب طفل من أمه أن تحمله،هو مثقل بالنعاس وبالخوف، والأم تبدو وكأنها لا تسمعه؛ فجأة تصرخ حاثة أطفالها على الهرولة فقد توقفت إحدى الحافلات بالقرب منهم: “عجلوا، عجلوا)، وتركض قبلهم لتحجز مكاناً لها ولهم؛ وهم كالصيصان المذعورة يبكون ويركضون. تمتلئ الحافلة بالركاب وبعتب الأطفال على أمهم حيث ظنوا أنها حين سبقتهم لحجز المكان كانت ستتخلى عنهم وحيدين متسربلين بالخوف في وسط العتمة.

لوحة 3        

أربعة فتيان يحدقون في صورة شاب معلقة على الجدران، هي ليست صورة بالمعنى الحرفي، بل إعلان عن فقدان شاب ودعوة لمن يعرفه أو يعرف مكان تواجده للاتصال برقم هاتف موضوع في أسفل الإعلان، يتضمن الإعلان صورتين للشاب المفقود، أولهما وهو يفترش الرصيف بمنامة متسخة وحالة من الانكسار المهين، وثانيتهما صورة له بكامل يفاعته وجماله وأناقته وابتسامته العريضة والمشرقة. يقول أحد الفتية مشيراً إلى مكان محدد قائلاً: “كان ينام هنا”. أما أنا فأتساءل عن سر دمج الصورتين معاً في إعلان واحد رغم التناقض الحاد بين الحالتين، هل يقصدون استدرار تعاطفنا! أم إبراز الحاجة الملحة للتعاطف أو لفعل شيء ما وعلى وجه السرعة؛ بحيث نبدو وكأننا نقول: “يا حرام كيف كان وكيف صار”، ونردف بكل ما في قلوبنا من رجاء: “يا رب يلاقوه بسرعة”.

حين يعتاد البشر الفقد والتشرد والتهجير والشتات، لا تكفي صورة واحدة لدب الحمية في النفوس من أجل المساعدة، بات المطلوب إضافة عناصر تشويقية تصل حد الذروة، تخيلوا التشويق في حده الأقصى من أجل تلبية الرجاء بالمساعدة، وبماذا؟ البحث عن ابن أو أخ أو زوج أو أب، كيف كان في عز راحته وجماله وكيف صارت أحواله، مرمياً على قارعة الطريق، وحيداً وضعيفاً. باتت المبالغة بإثارة المشاعر حتى حدودها القصوى ضرورية لإضفاء تفضيل أكبر للحالة، تثقيل عاطفي وأخلاقي لطلب الدعم، لو وضعوا صورته وهو في عز انكساره لقلنا كلنا: “أكيد أنه قد مات من الجوع أو من البرد”، أما تلاصق الصورتين في إعلان واحد فهو حالة إعلان حرب عاطفية حاشدة في مواجهة سطوة التعود على التغييب والفقدان والشتات، أن نكسو الحب والواجب بالدراما التشويقية المبالغ بإظهارها لغوياً وعاطفياً وحتى بالصور، لعمري هو وجه آخر من وجوه الحرب.

لوحة 4

في دمشق القديمة، شاب ينقي الحمص، تبدو الصورة مشرقة جداً، الحصى والتراب في كيس منفصل، الحبات الخضراء الصغيرة وأنصاف الحبات في وعاء خاص، والحبات الصالحة للسلق تتربع لامعة وفخورة بنفسها في قدر منفرد، يقول الشاب: “نحن لا نغش زبائننا، ومن اعتاد على نكهة الحمص الحقيقية في وجباتنا لن يعود أبدا لعندنا إن تنازلنا عن عادات الجودة المتأصلة”. يسمح لي بالتصوير ويريني حبات الحمص الناضجة والشهية. على الرصيف الضيق المقابل فتاتان تقطعان الخبز الجاف لإعداد الفتة لزبائن المحل، حضور النساء وخاصة الفتيات جلي وواضح في سوق العمل حتى في مطاعم الفول والحمص والفطائر، يقول المعلّم للفتاة : “صغري شقف الخبز، هيك بيغص الزبون”. تلمع في عينها دمعة وتقول: “لم نأكل الفتة منذ وفاة والدي الذي كان يعدها لنا شخصياً، حتى أمي لا تعرف إعداد الفتة!”

تترك شابة طاولتها الثابتة على الرصيف بعد أن أنهت وجبتها من الفول، يتبعها طفلان صغيران، يطلبان بعض المال، يلح الأصغر مقترباً منها أكثر تقول لهما: “مصاري ما في، سأشتري لكما فطاير”. يرفضان بشدة ويطلب الأكبر منها سيجارة، تنذهل الشابة، أصرخ بهما: “سيجارة!” يؤكد الطفلان على طلب سيجارة ويصرّ الأصغر على الطلب بعبارة: “خرمانين ع سيكارة وما معنا مصاري”.

بعد أمتار قليلة ثلاثة من طلاب المدارس الهاربين يلاحقون شابتين، يقولون لهما بنبرة مائعة وبصوت واحد: “يا حلو يا حلو”، تغضب إحدى الشابتين وتضحك الأخرى. يصرخ بهم رجل عابر قائلاً: “هدول متل أخواتكن”. يصرخ الثلاثة في صوت واحد : “أخواتنا ممنوع يطلعوا من البيت!”

يسألهم الرجل عن اسم مدرستهم، ينكرون أنهم طلاب، يعترف أحدهم بأنهم هربوا من المدرسة وأودعوا حقائبهم المدرسية شبه الفارغة مع أحد أقرانهم الذي يعمل في جمع قمامة وتنظيف الأراجيل في مقهى شعبي قريب.

تتزاحم اللوحات على جدران آيلة للسقوط وفي ترتيب عجائبي ينتمي لسريالية مغرقة في العدم، تتناسخ الشخصيات المعلقة وكأنها مجرد مجسمات صممت لمعرض يزعمون أن شخوصه من لحم ودم ولهم رائحة بشر ناطقين بكافة اللغات.

تترصد دمشق شخوصها، تتنكر لهم، تتركهم معلقين ما بين الهاوية والسماء، تتسلل من بينهم لابسة طاقية الإخفاء، لم تعد قادرة على سماع أنينهم ولا رؤية جراحهم النازفة، من قال إن التجاهل العمدي ليس واحداً من أشكال الحب تحت ضغط الحزن وفقدان الحيلة!

من فرط التعب أسلمتكم للعبث، علّه يجعل الموت لعبة استغناء ساخرة، أو ربما يفيض العبث بجذوة للعيش تخرج من بطن العتمة وتصرخ: “لقد أكل الغول أولادي! فأعينوني على نفخ الروح فيهم”.