بواسطة طارق علي | فبراير 8, 2021 | Cost of War, غير مصنف
للشهر الثاني على التوالي تستمر أزمة البنزين الخانقة في سوريا. يبدو المشهد مكرراً ويحاكي الأزمة التي عاشها السوريون اعتباراً من أواخر أيلول/سبتمبر الفائت وحتى تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، حيث امتدت طوابير الناس على محطات الوقود لعدة كيلو مترات وقتذاك وصار الحصول على مادة البنزين للسيارات يتطلب انتظاراً يستغرق يومين في بعض الأحيان. وعن الأزمة في ريف دمشق نشر مؤخراً سائق يدعى أحمد. غ منشوراً على فيسبوك يقول فيه: “محطة… في منطقة… توزع بنزين من الجمل أذنه وتصرف عشرات السيارات بحجة نفاذ الكمية بعد انتظار 11 ساعة في البرد الشديد، نجرجر سياراتنا بلا بنزين هلأ”، ليعبر عن استيائه لغياب المسؤولية عن مراقبة الكمية المباعة. إلا أن الحال يبدو أفضل مع جندب. د الذي نشر تدوينة يحمد الله فيها على تمكنه من تعبئة البنزين بعد انتظار ثلاث ساعات فقط.
أزمة وتناقض في التصاريح
يكاد يكون مشهد الأزمة اليوم مطابقاً للأزمة الماضية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفارق الزمني بين الأزمتين كان أقل من شهرين، آنذاك حُلَت الأزمة مباشرة ودون مقدمات بمجرد أن تم رفع سعر البنزين المدعوم من 250 إلى 450 ليرة سورية وغير المدعوم من 450 إلى 650 ليرة سورية، رغم تأكيد وزير النفط في الحكومة السورية خلال الأزمة وفي لقاء مع قناة الفضائية الرسمية السورية بأنه لن يكون هناك أي رفع لسعر البنزين تحت أي ظرف، لكنّ شهراً إضافياً واحداً كان كفيلاً بإسقاط وعود الوزير الذي بدا واثقاً منها للغاية. هذا الوضع أضاف سبباً جديداً من جملة أسباب متراكمة بمجملها أدت لفقدان الثقة بين الشعب وحكومته، وحتى أَخذ الناس باتجاه المشكك دائماً في كل تصريح رسمي، سيما التصريحات التي تنفي حدوث أمر، فيحدث في القليل القادم، الناس لا زالت تتذكر تصريح الحكومة بأنّ الخبز خط أحمر ليرتفع سعره بعد أسابيع بالتزامن مع ازدحام وطوابير جديدة على دور الخبز في الأفران.
وعود حكومية
بررت الجهات المسؤولة الأزمة الماضية بأنها متعلقة بنقص التوريدات من جهة، وإجراء عملية عمرة شاملة لمصفاة بانياس. السببان معاً جعلا ضخ المادة للأسواق ينخفض إلى أكثر من النصف أحياناً، وسط وعود بأنّ انتهاء عمرة بانياس سيحمل انفراجاً وفيراً للمادة في السوق، إلا أنّ الانفراج المفاجئ جاء بعيد رفع سعر المادة مباشرةً، ليطغى على الشارع تساؤل حول الأزمة، فما الرابط بين توافر المادة فوراً بعيد رفع سعرها لحوالي الضعف.
الأسباب من وجهة نظر رسمية
بررت وزارة النفط والثروة المعدنية الأزمة الحالية بضعف التوريدات وهو أمرٌ مفهوم في ظل حصار قيصر/سيزر الأمريكي على سوريا، والذي يمنع وصول المشتقات النفطية إليها، ويحظر عليها الاستيراد، ويهدد أي دولة تتعامل اقتصادياً مع دمشق بعقوبات قاسية.
وقد قالت الوزارة في بيان رسمي لها في العاشر من كانون الثاني/ يناير الفائت: “نتيجة تأخر وصول توريدات المشتقات النفطية المتعاقد عليها إلى القطر بسبب العقوبات والحصار الأمريكي الجائر ضد بلدنا، وبهدف الاستمرار في تأمين حاجات المواطنين وإدارة المخزون المتوفر وفق أفضل شكل ممكن؛ فقد تم وبشكل مؤقت تخفيض كميات البنزين الموزعة على المحافظات بنسبة ١٧% وكميات المازوت بنسبة ٢٤% لحين وصول التوريدات الجديدة التي يتوقع أن تصل قريباً وبما يتيح معالجة هذا الأمر بشكل كامل.”
ووفقاً لسانا كانت قد قالت وزارة النفط والثروة المعدنية في الرابع عشر من كانون الثاني/يناير أنه تم “بدء ضخ كميات إضافية من البنزين والمشتقات النفطية إلى المحافظات إثر عودة مصفاة بانياس للعمل بعد وصول شحنة من النفط الخام”، إلا أنه حقيقة وعلى أرض الواقع لا زال الازدحام هو المشهد الأبرز على كل محطات وقود البلاد، ما يضع الوزارة مرةً جديدة في خانة المتهم أمام الشعب، فقد برعت غير مرة في إطلاق وعود عجزت عن تحقيقها.
تخفيض الحصة المدعومة
قالت الشركة السورية لتخزين وتوزيع المواد البترولية (محروقات) في الأول من شباط الجاري عبر بيان رسمي أنه قد تم نقل 25 ليتراً من الشريحة المدعومة للسيارات الخاصة إلى الشريحة غير المدعومة بحيث تصبح المخصصات 75 ليتراً مدعوماً و125 ليتراً غير مدعوم دون أي تغيير في الكميات الإجمالية للسيارات الخاصة أو كميات التعبئة والمحددة بأربعين ليتر كل سبعة أيام. وأضاف البيان أنه لن يكون هناك أي تغيير على مخصصات السيارات العمومية (مخصصاتها تبلغ 350 ليتراً مدعوماً شهرياً).
قبل هذا القرار كانت حصة السيارة الخاصة مئة ليتر مدعوم من البنزين، ومئة ليتر غير مدعوم، وبالتأكيد فإنّ قراراً كهذا جاء مدروساً ومتوقعاً في إطار رفع الدعم جزئياً، فبدل أن تطالع الحكومة شعبها برفع سعر المئة ليتر المدعومين، حولت 25 ليتراً منهم إلى الشريحة غير المدعومة، وبذلك تكون الحكومة قد قللت الكمية عوضاً عن أن ترفع سعرها فتحدث صدمةً إضافية في الشارع.
حسبة اقتصادية
ويمكن بتحليل اقتصادي سريع تشريح القرار بحيث يكون تقليل الكمية قد جاء عوضاً عن رفع سعر الليتر إلى 525 ليرة سورية، فيدفع المواطن سعر ال75 ليتر (35.625 ليرة سورية)، ويدفع ثمن الـ25 ليتراً غير مدعوم (16.875 ليرة سورية)، ويكون مجموعهما (52.500 ليرة سورية)، بينما كان سعر المئة ليتر المدعوم (47.500 ليرة سورية)؛ فيترتب بالتالي مبلغ خمسة آلاف ليرة سورية إضافية على السائق، وبتوزيع مبلغ الخمسة آلاف على مئة ليتر السابقة، يكون ارتفع سعر الليتر خمسين ليرة سورية، وبالتالي دفع زيادة خمسة آلاف ليتر زيادة عن كل مئة ليتر، 75 منها مدعوم، و25 مخصوم من الدعم.
في حين كانت منشورات الناس المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي طوال الأزمة الحالية تتخوف أن تستمر الأزمة حتى يتم رفع السعر أسوةً بالأزمة الماضية، فقد نشر الإعلامي السوري نزار الفرا تدوينة تهكمية على فيس بوك قال فيها: “يا الله كل ما انزنقتم ارفعوا سعر البنزين!!”، ليتبعها بهاشتاغ يقول فيه: “كل ما تتزنق اقلع”. فيما نشر السائق محمد. م منشوراً يفصل فيه الأزمة على الشكل التالي: “شبه أزمة، ثم أزمة مع تصريح انخفاض توريدات، ثم أزمة خانقة، ثم يقول الشعب: غلوه بس وفروه، ثم تقول الحكومة أنه لا نية لديها لرفع السعر والحل اقترب وهو نهائي ولن تتكرر هذه الأزمة مجدداً، ثم يصل الشعب لحالة اليأس، وعلى الفور تصل التوريدات وتجتمع اللجنة الاقتصادية ويبدأ الفرج، ثم يرتفع سعر البنزين، وبعد الخطوة السابقة بساعة يتوافر فوراً في المحطات وتعم الأفراح، وأخيراً تعود لتتمكن من التعبئة في دقائق”.
إذن، تم تخفيض الشريحة المدعومة فعلاً، ليتساءل الناس: هل سيتوافر الآن البنزين فجأة!
بواسطة Safi Khattar | فبراير 4, 2021 | News, Reports, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
على الرغم من التقارير والأخبار اليومية عن فيروس كورونا وانعكاساته المباشرة على حياة كل البشر، لازال هناك الكثير من الأسئلة العالقة دون إجاباتٍ حتى هذه اللحظة، ومنها على سبيل المثال ما يتعلق بالوقت اللازم للخلاص من هذا المرض والسيطرة عليه فهل سيبقى بيننا للأبد كما فيروس الرشح مثلاً أم أنه سيختفي بعد فترة ؟ كذلك الأسئلة الكثيرة التي رافقت الإعلان عن إيجاد لقاح للفيروس سواءٌ بما يتعلق بفاعلية اللقاح أو آثاره الجانبية أو ما يشاع حوله من نظريات المؤامرة المنتشرة، وغيرها الكثير من الأسئلة المفتوحة التي حولت المرض من حالة طارئة ومؤقتة إلى واقع قائم ودائم. ومن هنا فإنّ العلاقة ما بين الإنسان والمرض أخذت شكلاً أكثر وضوحاً وواقعيةً إذ أصبح التعامل مع الفيروس مواجهةً لا تخلو من أبعاد وجودية وفلسفية سواء من ناحية فهم المرض والتعامل معه أو من ناحية ما حمله من تغييراتٍ جذرية في علاقات البشر ونظم حياتهم الموجودة وأنماط عملهم وما نتج عن ذلك من ضرورة إيجاد لغة ومفاهيم جديدة تعبر بنا إلى ما بعد الفيروس كخطوة ربما تكون الأهم لنا كبشر لنرى الحياة على هذا الكوكب من زاوية جديدة. وربما يصحُ القول “أنّ ما قبل كورنا ليس كما بعده أبداً”، ليس لأن هناك أشياء جديدة فحسب بل لأن الجائحة قد وضعت كل الأسئلة المؤجلة في الواجهة وبات هناك اليوم الكثير من الوقت للتأمل والتفكير فيها، بدءاً من كيفية التعامل مع المرض والنتائج الكارثية التي خلفها في كل نواحي الحياة ووصولاً لإعادة النظر بالسياسات التي تتبعها الدول وشروط الأولوية فيها، ما دفع الكثيرين لاعتبار أن جائحة كورونا قد تكون بداية التغيير نحو نظام عالمي جديد.
ومن الصحيح القول أيضاً أنّ كل ما سبق قد لا يعني للسوريين شيئاً، فكورونا ليس سوى مجرد تفصيلٍ صغيرٍ في واقعٍ معيشيٍ يزداد سوءاً يوماً بعد يوم. خلال دوامها اليومي تضطر سلمى (40عاماً، موظفة في قطاعٍ حكومي) أن ترتدي الكمامة لتعبرَ فقط من الباب الرئيسي، وتخبرنا بأنه “ممنوع الدخول إلى العمل بدون لبس الكمامة، فالحراس على الباب الرئيسي يجبرون الموظفين والمراجعين أن يرتدوا الكمامة عند الدخول، ليس قناعةً منهم بضرورة ذلك ولكن لأن الباب مراقب بكاميرات موصولة بمكتب المدير العام والتعليمات صارمة حيال ذلك حيث وُضعت في كل مكان من العمل. لكنّ المضحك والمزعج أيضاً في الموضوع أنّ الجميع حال دخولهم من الباب وعبور الكاميرات يخلعون الكمامات ويدسونها في جيوبهم ضاربين بعرض الحائط كل التعليمات الصحية بضرورة التباعد ولبس الكمامات والتعقيم وكذلك الأمر بالنسبة للمراجعين أيضاً. إضافة لذلك يوجد بسطة على الشارع بالقرب من الباب الرئيسي تبيع الكمامات لمن نسي أن يحضر كمامته بمختلف أشكالها وألوانها، كمامات جديدة وحتى مستعملة أيضاً، والطريف بالقصة أنّ البسطة ذاتها التي تبيع المراجعين تعود وتشتري الكمامة منهم بنصف ثمنها إذا أرادوا أن يبيعوها عند خروجهم”.
وتضيف سلمى “في مشهدٍ يبعث على الحزن والأسف أيضاً طلبت معلمة ابنتي من الطلاب في الصف الثالث الابتدائي أن يرسموا لوحاتٍ تعبر عن كورونا للمشاركة في مسابقة حول ذلك، في الوقت التي تكتظ فيه قاعات التدريس والصفوف بأكثر من أربعين طالباً يجلسون كل ثلاثة منهم في مقعد وكما الحال في دوائر الدولة كذلك في المدارس وبين الطلاب، فالهدف الأساسي من الالتزام بالقواعد هو الخوف من العقوبة وتجنبها فقط، فالمهم أن يقف الطلاب في الاجتماع الصباحي في الأماكن المخصصة لكل واحد منهم والتي رسمت بعناية على أرضية الباحة بالإضافة لارتداء الكمامة أمام المدرسين والإدارة”.
إلى جانب الاستهتار بقواعد التباعد الاجتماعي وطرق الوقاية من جهة، والعجز بسبب الفقر وحاجة ملايين السوريين للعمل اليومي من جهة أخرى، فإنّ البيانات التي تنشرها وزارة الصحة السورية والتي تقوم بتحديثها دورياً، تعوزها الشفافية والدقة، خاصةً وأنّ العديد من المصابين لا يمتلكون تكاليف الفحص وبالتالي فإنهم غير ممثلين بالإحصاءات، ولا سبيل للتحقق من أسباب الوفاة والتي وصلت إلى 929 حالة وفاة فقط بسبب الكورونا بحسب الإحصاءات الرسمية (الصورة رقم ١).
الصورة رقم (١): الإحصاءات الرسمية لحالات الإصابة بفيروس الكورونا بحسب وزارة الصحة السورية
ويدور الحديث اليوم عن مشاوراتٍ ومراسلاتٍ تجريها الحكومة السورية لجلب لقاحات كورنا لكن حتى الآن بقي اللقاح مجهول المصدر في الوقت الذي يرجح فيه اللقاح الصيني أو الروسي مع استبعاد الأمريكي، ولم يُعرف حتى اليوم فيما إذا كانت الحكومة ستدفع ثمن اللقاحات أو ستأخذها كمساعداتٍ من الدول الداعمة. لكن ما فتح أبواب الإشاعات بين عامة الناس تلك التسريبات عن عدد اللقاحات التي ممكن أن تصل إلى سوريا والتي يُرجح أنها بحدود المليوني لقاح، وهنا بدأت التكهنات والتعليقات حول الموضوع فبرأي محمد (بائع أحذية، 38 عاماً)”سيفتح اللقاح باباً جديداً للفساد والربح، يُضاف إلى القائمة الطويلة في البلد وسنرى الكثير من المحسوبية في توزيع اللقاح، بحيث لن يتم إعطاؤه حسب الأولويات الطبية بل لمن يدفع أكثر أو ممن لديه معارف وأصدقاء يدعمونه”
يضرب محمد مثالاً يؤكد رأيه عن حادثة جرت معه في مستشفى البيروني بدمشق أثناء مرافقته لوالده لأخذ جرعة الدواء الكيماوي كونه مصاباً بسرطان الأمعاء. يقول محمد “سمعت الممرضات في المشفى يتكلمون نقلاً عن أحد الأطباء المشهورين قوله بأنّ هناك احتمالاً بأن يُستثنى مرضى السرطان من أخذ اللقاح بحجة أنّ الكميات محدودة ولا أمل كبير لديهم في الشفاء بحيث تبقى الأولوية للأصحاء، ما دفعني لمقاطعة الممرضات بغضبٍ كبيرٍ، فسواء كان الكلام صحيحاً أو مجرد إشاعة فالمنطق المبني عليه بشع للغاية ولا يمكن تحمل طرحه أو الحديث فيه لما فيه من فوقية واستعلاء وتجني أيضاً، علماً أن مرضى السرطان هم أحوج الناس للقاح كونهم مصنفين ضمن الفئات الأعلى خطورة في شدة الإصابة إذا ما حدثت وقد تؤدي بنسب كبيرة إلى وفاتهم”.
يبقى إنكار كورونا المشكلة الأكبر حتى الآن، فعلى الرغم من مضي عامِ على تفشي الوباء في كل مكان والوفيات الكثيرة التي سببها، لا يزال قسمٌ كبيرٌ يعتبرون الأمر “مجرد إشاعات وأوهام ليس أكثر وأنّ ما يجري هي مؤامرة عالمية لبسط السيطرة والنفوذ والتأثير في الاقتصاد والسياسة وتكريس هيمنة الدول الرأسمالية على العالم” على حدّ تعبير سامر ( موظف سائق في شركة خاصة، 46 عاماً) فهو مقتنع بما يقول ويؤكد بأنّ الكثير من الوفيات لأشخاص يعرفهم سجلت بسبب كورونا بينما الحقيقة أنها حدثت بسبب مرضٍ آخر، لذا فهو لن يقبل بأخذ اللقاح أبداً.
نتيجةً لذلك فقد علت الكثير من الأصوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بجعل اللقاح إلزامياً على الجميع وتوفيره مجاناً وإلا فلا نفع من أي إجراءاتٍ للتغلب على المرض.
ومن جهةٍ أخرى يُحاول السوريون التعايش مع حالة المرض واعتباره من “أهل البيت” بحسب رأي سعيد (صاحب دكان صغير، 56 عاماً) حيث يرصد من أمام دكانه ما يحمله له الشارع من قصصٍ وحكاياتٍ، ومن تلك القصص يقول سعيد “أمام المحل هناك سيارتا أجرة تنتظران الزبائن وقد خرج السائقان من داخل سيارتهما متفحصين وجوه المارة، وإذ بفتاتين تفتحان باب إحدى السيارتين وتهمان بالصعود، فما كان من السائق الآخر إلا أن صاح مازحاً بالفتاتين إياكما الصعود إلى السيارة لأنّ زميله مصاب بكورونا، ما جعل الصبيتين تصدقان الأمر في البداية وتتراجعان قبل أن ينفجر السائق ضاحكاً ساخراً من صديقه”.
وعن حادثةٍ أخرى يتابع سعيد سرد قصصه “بعض الباعة القريبين مني استغلوا هلع الناس بالمرض، فأصحاب محلات الألبسة وضعوا عروضاً وهدايا لكل من يشتري وهي عبارة عن جوز قفازات وكمامة بالإضافة لوضع علبة معقم كبيرة بمدخل المحلل لتعقيم أيدي الزبائن، ووصل الأمر لوضع إعلانات مكتوبة على الواجهة تحت عنوان (تنزيلات كورونا، أو عروض كورونا)، بينما بائع بسطة الخضرة القريب يصيح بأعلى صوته (ليمون وبرتقال للكورونا، قرب يا حباب على فيتامين سي) “
أخيراً يبدو أن كورونا قد أصبح حقاً من أهل البيت، فلم تعد الإرشادات الطبية بالتباعد والتعقيم والكمامات هي وحدها من يحدد كيفية التعامل مع الجائحة بل أصبح للناس طرقهم في التأقلم مع المرض واستيعابه ومجاراة مستجداته، لذا فلا عجب أن نرى بعض الأشخاص وقد ارتدوا الكمامات في يوم وخلعوها في يوم آخر أو عانقوا وصافحوا في مكانٍ وامتنعوا في آخر وكأنّ الكورونا تأتي وتذهب على هواهم، يبقى القول في النهاية أن ما حملته هذه الجائحة من تغيرات ربما لن يبقى محصوراً بما نعرفه اليوم بل قد يتعدى ذلك إلى مفاصل جديدة في قادم الأيام.
بواسطة Salon Syria Team | فبراير 3, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
يتفاقم الوضع المعيشي والإنساني في سوريا، يوماً بعد يوم. وأثار هذا الوضع المتردي غضب السوريين سواء من يعيش منهم في مناطق الحكومة أو خارج سيطرتها، لأنه يؤثر في الناس مباشرة. وصار يُطلق على سوريا من باب التهكم اسم “جمهورية الطوابير”، إشارة إلي الأعداد الهائلة من السوريين التي تصف على الدور في انتظار الخبز والغاز والوقود، ما انعكس على الحياة اليومية.
وانتشرت في الإعلام الاجتماعي صور سوريين يشكلون طوابير بلغ طولها كيلومترات بانتظار وقود أو جرة غاز أو ربطة خبز، وسط انتقادات في دمشق لغياب رؤية حكومية لحل الأزمة، وفي ظل لامبالاة روسية وإيرانية ودولية، في وقت تشتد وطأة العقوبات الغربية وخاصة بعد “قانون قيصر” الأميركي.
لتسليط الضوء على الجوانب المختلفة لهذه المسألة – المعاناة، يُنظم “صالون سوريا” طاولة مستديرة لمناقشة ذلك، ويدعو كتاباً وخبراء، إلى مناقشة المواضيع والقضايا التالية:
1- ما هي أسباب الازمة وتفاقم معاناة السوريين داخل البلاد؟ هل السياسات الداخلية أم العقوبات الخارجية؟ سلوك حلفاء دمشق؟
2- أسباب انهيار الليرة السورية، وكيف يمكن تحليل التفسيرات والسرديات الرسمية للحكومة في هذا الخصوص؟
3- ما تأثير “قانون قيصر” على الوضع الاقتصادي في سوريا؟
4- ما هي أسباب الوضع المتدهور الحالي في سوريا وما هي السياقات التاريخية؟
5- ما انعكاس التدهور الاقتصادي في لبنان على الوضع الاقتصادي في سوريا؟
6- ما أسباب انقطاع الوقود والغاز وارتفاع أسعار المواد الغذائية؟
7- كيف يلعب تدهور الزراعة في سوريا دوراً في الأزمة المعيشية؟
8- ما دور النفط السوري في الأزمة الحالية؟ وكيف تدير الجهات المشرفة على حقول النفط السورية عمليات الإنتاج والتوزيع؟
9- كيف يمكن تحليل اقتصار الدعم الروسي على الجانب العسكري فيما تغفل روسيا مدّ يد المعونة الاقتصادية للشعب السوري؟
10-ما أسباب تراجع دور إيران الاقتصادي، خاصة أن إيران كانت تمد الحكومة السورية القائمة تاريخياً بالوقود؟
11- ما طبيعة الحلول الاقتصادية المقدمة في المناطق التي تقع خارج سيطرة النظام؟ وكيف تُدار الأمور هناك؟
12- ما هو تأثير تفشي كوفيد ١٩ والفيروسات المتحورة عنه على مستقبل الاقتصاد السوري؟
13- ما هي الحلول والسبل للخروج من هذه الأزمة الاقتصادية الراهنة؟
يتطلع فريق ” صالون سوريا” لاستقبال المواد لمناقشة هذه الاسئلة.
ستنشر المواد الواردة تباعاً وتفعل روابطها:
كورونا: تفصيلٌ صغيرٌ في يوميات السوريين
لوحات دمشقية: تنافر العيش في وفرة العتمة
الموزاييك: حرفة تلفظ أنفاسها الأخيرة
شتاء سوري طويل دون تدفئة
“لم يتبقَّ شيءٌ للبيع غيرُ كليتي”
الفقر يدفع النساء لبيع شعرهن في سوريا
لماذا خسرت سوريا نصف ثروتها الحيوانية؟
الطب البديل خيار استراتيجي لمن لا يملك ترف الاختيار
السوريون أحياء لكنهم لا يعيشون
سوريا والعيش في وفرة العتمة
ما الفوائد التي تجنيها روسيا من الأزمة الاقتصادية الخانقة في سوريا؟
شهادات أطباء متضاربة حول أداء المستشفيات خلال جائحة كوفيد-١٩
“جيل ضائع” بإدلب بين تسرب التلامذة وهجرة الاساتذة
“الخبز الذكي” و الليبرالية الجديدة الحمقاء
الانتحار في سورية: أزمة حرب أم ظاهرة طبيعية
عمال المياومة: أكثر المتضررين من الأزمة الاقتصادية السورية
غلاء المعيشة يغير تقاليد عيد النوروز
موسيقى الشباب في سورية: بين الحرب وكورونا
السخرية في مواجهة العدم
بواسطة Salon Syria Team | فبراير 2, 2021 | Cost of War, Reports, غير مصنف
لا شك أن الوضع العالمي الناجم عن تفشي وباء “كوفيد ١٩” ألقى بظلاله على الصحافة الإلكترونية والمطبوعة، خاصة في منطقتنا العربية. وتأثر موقعنا، ”صالون سوريا“، بهذه الظروف العامة، ما أدى إلى خفوت نشاطه وتعليق استقبال مواد جديدة من كتاب وصحفيين في الفترة القصيرة السابقة. لكن، مع بداية العام الجديد يعود إلى قرائه، ويواصل تسليط الضوء على الشأن السوري بمختلف جوانبه واشكالياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن الظروف التي فرضها تفشي الوباء، وصعوبة التنقل بين البلدان، والأوضاع الاقتصادية الصعبة في سوريا ودول الجوار، أثرت على عمل كثير من المنظمات بينها ”صالون سوريا“. وفي ضوء هذه الأوضاع الصعبة، سيجْمعُ “صالون سوريا” بين نشر مواد مدفوعة الأجر ضمن حدود متاحة وبين مواد تُنْشر على أساس تطوعي. ولا شك أن العمل التطوعي عامل مهم يُسْهم في استمرارية المنابر الإعلامية، ومنها ”صالون سوريا“ الذي لا يتحيّز لأي طرف، بل يبحث عن الحقيقة ويدافع عن القيم والتطلعات والمصالح المشتركة بين السوريين في مختلف مناطقهم وخلفياتهم واتجاهاتهم، كونه منبرا مفتوحا للنقاش الجاد والمسؤول ومعنياً بالمساهمة في بناء مستقبل سوريا والسوريين بعيداً من مصالح آنية ضيقة أو إرادات خارجية.
سيُشرْع موقع ”صالون سوريا“ على الفور باستقبال ونشر مواد ومقالات جديدة ونصوص أدبية. ويرحب فريق “صالون سوريا” خصوصاً بمواد تغطي قضايا تمس الواقع السوري الحالي كالتدهور الاقتصادي وانهيار الليرة والأزمة المعيشية الخانقة التي تؤثر على حياة السوريين وتحرمهم من حقوقهم في حياة حرة كريمة يتحقق فيها الأمن الغذائي والسكني والصحي. وسيلقي “الصالون” الضوء على الأوضاع في مختلف المناطق السورية بكافة أطيافها السياسية ومشاكلها الداخلية والخارجية.
سيعيد فريق “صالون سوريا” تنظيم سلسلة من “الطاولات المستديرة”، التي ستركز على قضايا المرأة السورية وتلوث البيئة والتغير المناخي والسموم المتخلفة عن انفجار الذخائر على الأرض السورية وتأثيرها في غذاء السوريين وحليب الأمهات، والواقع الحالي لتفشي فيروس “كورونا”، وتردي الوضع الصحي في المستشفيات بسبب الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي والافتقار للأدوية والتجهيزات الطبية وعوامل أخرى. كما سيدعو الموقع الكتاب إلى تحليل الدور الأميركي والروسي والتركي والإيراني والأوربي وغيره في القضية السورية من خلال تحليل طبيعة هذه الأدوار وأهدافها ومراميها البعيدة.
تكتسب مناقشة هذه الملفات، بُعداً إضافياً حالياً مع اقتراب الذكرى السنوية العاشرة لبدء الأزمة السورية.
يعود موقع ”صالون سوريا“ إلى قرائه من جديد، مشدداً على التعويل على الروح التطوعية للكتاب وعلى أن هذه المنصة، منبر كل قلم معني بالشأن العام، وبسوريا كدولة مواطنة وقانون.
في ظل هذه الظروف التي تزيدها قتامة احتمالات تفاقم السلالات الجديدة من “كورونا”، يصبح الإعلام ضرورة ملحة تقتضي تضافر الجهود كلها، لمد عمر الصحافة الجادة والهادفة.
بواسطة طارق علي | فبراير 2, 2021 | Cost of War, News, Reports, غير مصنف
تستمر أزمة البنزين في الداخل السوري لتدخل شهرها الثاني، مشهد الازدحام لا يبدو أنه انخفض أو سينخفض في الأيام القليلة المقبلة، إذ صار من الواقع بما لا يدعو للقياس أكثر من مرةٍ، أن معظم الكازيات تشهد ازدحاماً مطابقاً ليومها السابق، وهناك طوابير وصل بعضها إلى ثلاثة كيلومترات، ما يحتم على السائق في أحيانٍ الانتظار لـ48 ساعة لتعبئة المادة في سيارته المحدودة لثلاثين ليتراً فقط لا أكثر، وبتباعد زمني عن التعبئة السابقة يكون أسبوعاً على الأقل. ورغم أن هذا الارتجال الحكومي حمل معه وعداً للسوريين بأنهم سيلحظون انخفاض الازدحام، ولكن ذلك لم يحصل حقاً، الطوابير ازدادت، ساعات الوقوف ازدادت، التعب ازداد، الغضب ازداد، الصبر وحده انخفض، انخفض وبدأ يحمل معه غضباً واضحاً على ملامح الناس، في المحطات، في الأسواق والطرقات، على اعتبار أن الأزمة التي بدأت من البنزين لن تقف بتأثيرها عنده، بل كان للأسعار التي ارتفعت فجأة في أسواق الهال حديث آخر.
أسئلة مشروعة
حاولت – ولا زالت – الحكومة السورية الارتجال في إيجاد الحلول، هذا إذا ما تم اعتبار أنه قد تم تحليل المشكلة وتشريحها لفهمها قبل الإدلاء بالتصاريح والبدء بتنفيذ استراتيجية لم تجد نفعاً، سيما مع التصريحات التي تأخذنا لتقول أن مصفاة بانياس تنتج معظم الحاجة السورية، وبأنها بعد العمرة ستنتج بزيادة عما سبق تصل إلى 25%، ما يقودنا نحو السؤال الملح، لماذا العمرة في هذا الوقت!.
هذا السؤال أجابت عنه وزارة النفط ومعها مؤسسات المحروقات، بأن ما يحصل الآن هو عمرة دورية، فالمصفاة وصلت لمرحلة قد تخرج فيها عن الإمداد ما لم يتم إجراء العمرة/الصيانة لها، وحالاً، وهنا السؤال، لماذا حالاً! أجابت الوزارة لماذا، ولكنها غابت تماماً وغيبت أجهزتها عن الإجابة الكاملة، أو حتى الشرح لماذا لم تتم العمرة سابقاً، وهي سبق وأن أسلفت أن آخر عمرة كانت في عام 2013، إذن، كان أمام الوزارة سبع سنوات كاملة لإجراء العمرة، يتخللها عاما 2014/2015، وفي هذين العام كان يمكن القول أن البلد غارقة بالمادة دون تسجيل أي نقص ولو طفيف بمستوى الإيراد والتحضير، فيما راح ناشطون يدونون أسئلتهم المتمحورة حول الجزئية ذاتها، متسائلين لماذا لم تجرى هذه العمر في الربع الثاني من العام الجاري!، على اعتبار أن البلد حينها كانت في مرحلة حظر الحركة والتجول، ما جعل الحاجة إلى المادة أقل بكثير قياساً بأي وقت آخر، وكانت المادة متوافرة في السوق دون أي ازدحام، ما يضعنا مجدداً في موضع المنتظر للإجابة من حكومة عينها لا تملك الإجابة، وإن ملكتها، فهي ستخبئها لا لأنه ثمة هدف سياسي من الأمر، بل سبب وراثي تكتسبه الحكومات السورية في الهرب من المواجهة بالمعلومة، وإن كانت صحيحة، سيما أن كل ما تفعله صار ثقيلاً على صدر المواطن غير المتقبل لأزمات تخلق عقب أزمات، إذ لا يكاد يخرج السوري من أزمة حتى تتلقفه أزمة أشد وطأة. فهناك أيضاً أزمة الخبز التي دخلناها في هذه الأيام مع البطاقة الذكية، البطاقة عينها التي جاءت لتنظم توزيع البنزين والخبز والسكر، فخلقت أزمة، ذاتها الآن ستتكفل بموضوع الخبز، والتي نجحت في أن تنقل الازدحام من نوافذ الأفران إلى (دكاكين) المعتمدين، ففي دمشق وطرطوس صار هناك طوابير جديدة للخبز، الخبز أي المادة الرئيسية في حياة المواطن.
مشاهد مكررة
أبو سامي، سائق سيارة عمومية، لليوم الثاني ينتظر دوره على محطة وقود حكومية، ويقول عن تجربته: “بنطر يومين لعبي، بروح بشتغل 3 أيام، برجع بنطر يومين على الكازية، وهيك، صرلي شهر، يعني فيك تقول قضيت شي 10 أيام من أصل 30 يوم بالشهر وأنا نايم ع لكازيات، وعلى اجا الصهريج وما اجا، عطل الفرد ولا اشتغل، خناقة مع اللي وراك من ضيقة خلاق العالم، دفشة صغيرة للي قدامك لأنو خلص بنزين سيارتو، هيك مقضيينها”.
وكذلك كان حال الأسبوعين الأولين مع مفتاح وهو أيضاً سائق عمومي: “أول فترة كنت انطر متلي متل هالعالم، بس ما بقى وفت معي، صرت روح اشتري بنزين حر الغالون بـ40 ألف، وبرفع أسعار طلباتي أربع أضعاف وبعرف أنو بيصير رقم فلكي وكبير ع لمواطن بس اللي مضطر بيطلع وأريح الي ما نام ع دوار الكازيات”.
السوق السوداء
علماً أن الحكومة تدعم مواطنيها ب100 ليتر بنزين بسعر 250 ليرة سورية لليتر الواحد، وتقدم له 100 لتر إضافية غير مدعومة بضعف سعر المدعوم، وكان نشط سوق البنزين السوداء بحضور وكثافة عالية على الطرقات الدولية، ومداخل المدن، ليسجل سعر الغالون الواحد (20 ليتر)، 40 ألف ليرة سورية، قياساً ب5 آلاف ليرة سورية للغالون المدعوم، أي بزيادة ثمانية أضعاف عن سعره داخل المحطة، ويرجع أمر توافر البنزين في السوق السوداء لعاملين، الأول نتيجة التلاعب في محطات الوقود وتوفير بنزين سري يتم بيعه إلى الخارج، والثاني عبر التهريب من المنافذ غير الشرعية بين سوريا ولبنان، وفي الحالتين لم تنفذ أي حملة من قبل الشرطة لمكافحة الظاهرة على الطرقات العامة، والتي تعرض بضاعتها على طرفي الطريق.
سوق الهال يحتاج البنزين
انعكست أزمة البزين على قطاعات أخرى، أبرزها أسواق الخضار، التي ارتفعت أسعارها مع انقطاع المادة، نظراً لأن المادة التي تمر من الفلاح إلى سوق الهال إلى المحال المنتشرة، تمر بمرحلتين من النقل، كل مرحلة تكلف أكثر من قبل على اعتبار أن بعض هذه السيارات تعمل على البنزين، وهو بالضرورة ما خلق ارتفاعاً بالأسعار لينعكس على الأسواق التجارية أيضاً، وعلى كل شيء يتم أو سيتم نقله باستخدام السيارات، وضمنها أجور النقل بين المحافظات، وفي المحافظة ذاتها.
وعود ناقصة
وعدت الوزارة أن ينتهي ترميم مصفاة بانياس خلال الثلث الأول من تشرين الأول المقبل، على أن تعود المصفاة لمد المحافظات بالتوريدات التي انخفض معظمها إلى النصف، دون أن يكون هناك ذكر لمصفاة حمص الرديفة لبانياس، والتي بدورها تحتاج عمرةً أيضاً. وبدون أن تتحدث الوزارة عن الأمر، فهي تضع المصفاة أمام احتمالين، إما عمرة مفاجئة أو نقص جديد في التوريدات ولو كان في وقت بعيد نسبياً، إلا إذا تم ربط الانتاجية بصورة كاملة بمصفاة الساحل واعتمادها بالتوريد التام إلى الداخل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن سوريا في الوضع الراهن تنتج نحو ربع حاجتها من المشتقات النفطية يومياً، ما يجعل الأمر أكثر صعوبة سيما مع استمرار تطبيق بنود عقوبات قيصر التي تحظر الاستيراد في سوريا.
بواسطة Yazan el-Haj | يناير 22, 2021 | Culture, غير مصنف
«صح النوم! خِلْصت الفضيحة.»
كان هذا الردَّ الساخرَ لصاحب المكتبة عام 2001 حين سألتُه عن نسخة من وليمة لأعشاب البحر. أذكر أنّي رددتُ بجملة صارخة اجتمعتْ فيها هرمونات سنّ السادسة عشرة مع بداية الطّبع الحاد الذي سيلازمني إلى اليوم: «على فكرة، عرفت حيدر حيدر قبل الضجّة!». لم يكن صاحب المكتبة ليفهم افتخاري الذي آنَسَني طوال العامين اللذين فصلا بين ضجّة إعادة نشر الرواية في مصر عام 1999 وبين أوّل صِدام شخصيّ حادّ حيال حيدر في مدينة دير الزور التي رسّختْ تلك الحادثةُ فيها إحساسي حينها بأنّها أضيق من عالمي. ربّما كان افتخارًا ساذجًا، ولكنْ ما أزعجني آنذاك التّعاملُ مع حيدر وكأنّه ولد فجأةً من الفضيحة، وكأنّه ما كان ليوجَد لولا تحريض من شخص أخرق لا يعرف القراءة. في واقع الحال، عرفتُ حيدر حيدر منذ عام 1997، حين قرأتُ جزءًا من سيرته في باب «مرفأ الذاكرة» في مجلّة العربي الكويتيّة، وأذكر أنّي سُحرتُ بكمّ ارتحالاته التي وسمَتْ حياته من حصين البحر إلى حلب إلى دمشق إلى بيروت إلى قبرص إلى الجزائر. ستسحرني تجربة مماثلة أخرى لاحقًا هي تجربة عبد الرحمن منيف، وحينها بدأتُ تلمُّس الفوارق بين التّجارب، وتلمُّس آلام الغُربة ومعنى العلاقة الشائكة التي تربط كلًّا منا بوطنه. ما الوطن في نهاية المطاف؟ أليس هو التّفاصيل الصغيرة التي تربط أيًا منّا بأرض ما، بمدينة ما، بنهر ما، بشارع ما، بشخص ما؟ لم أكن أعرف وليمة لأعشاب البحر حتّى في ذلك العام الذي شهد صِدامي الأول (الذي ستليه صِدامات كثيرة) حول جوهر الأدب وصلته الغامضة بالفضيحة. ولكنْ كنتُ قد قرأتُ حكايا النّورس المهاجر وربّما الومض. حكايا النّورس المهاجر حتمًا، إذْ أذكر الصّدمة التي صعقتني عند قراءة الفهد التي كانت إحدى قصص المجموعة وصارت تُطبَع لاحقًا منفردةً بوصفها نوڨيلا خارج نطاق المجموعة الأصليّة التي أدخلتْ اسم حيدر حيدر إلى مشهد الأدب السوريّ أواخر الستينيّات.
ما كنتُ أعرف من الأدب السوريّ آنذاك إلا تجارب مخيّبة مع أعمال متفرّقة لعبد السلام العجيلي وكوليت خوري وغادة السمّان، ولذا بدتْ الفهد ناتئة عن كلّ ما قرأت. هنا كاتبٌ يعجن اللغة على هواه ويعيد إنتاجها صافيةً جارحةً في آن. هنا كاتبٌ يدرك جوهر الكتابة المرتبطة ارتباطًا لا انفصام فيه مع الطبيعة والمرأة والبلاد والمنفى … واللغة. اللغة مرةً أخرى، لأنّها توجز كلّ ما سبق. هنا كاتبٌ محكومٌ بالمفارقات التي سيّجتْ حياته وأدبه، إذ لا يُقرأ لذاته بل لكونه أُدخِل قسرًا في هذا الجدال أو ذاك، كما حدث في الضجة المصريّة الشهيرة. لم تُقرأ الفهد، مثلًا، إلا بوصفها خلفيّةً غامضةً للفيلم الذي أخرجه نبيل المالح مع أنّه يكاد لا يشبه الرواية؛ كان هذا الفيلم أحد أبرز الأفلام التي أقلقتْ مراهقتنا حين تداولنا مشاهدته سرًا بحثًا عن عري جسد الممثّلة إغراء، فيما كانت الرواية في عالمٍ آخر يولد من جسدٍ آخر هو جسد الأرض والإنسان، جسد التمرّد الذي حُكم عليه هو أيضًا بقراءات لاحقة غبيّة انطلقت من خلفيّات طائفيّة في سنوات الخواء السوريّ. أما وليمة لأعشاب البحر فقُرئت (إنْ كانت قد قُرئت حقًا) بوصفها فضيحة وإسفافًا لا من جانب الجهلاء الذين ثاروا بلا وعي كالعادة، بل أيضًا من جانب مثقّفين مثل محمد حسنين هيكل ورجاء النقّاش ومحمد الرميحي، فيما هي في واقع الحال إحدى أجمل الروايات العربيّة. ملحمةُ ارتحالات وغربة لا تنتهي، آسَفُ لأنّي أجّلتُ قراءتها بالرّغم من (على الأرجح بسبب) الضّجيج الذي رافق إعادة نشرها. ظننتُ حينها أنّها شبه سيرة ذاتيّة لكاتبها الذي عرفتُ لمحات من حياته، ولكنّ تلاحُقَ القراءات غيَّر تفكيري. ليس مهمًا إنْ كانت سيرة ذاتيّة أم لا، بل المهم أنّها سيرة؛ سيرة بشر حاولوا أن يبقوا بشرًا في عالم يسحق كلّ شيء. أظنّ أنّ أعظم ما علّمتني إيّاه تلك الوليمة هي أنّ حياة أيّ شخص تستحق أن تُكتَب وأن تُخلَّد، وأنّ التفاصيل التي تجعل البشر بشرًا هي جوهر الفنّ. ما أزال أذكر المشهد الأخير حيث يركض مهدي جواد في شوارع عنّابة قبل أن يغطس في البحر، أو بالأحرى قبل أن «يقذف جسده إلى البحر» بحسب جملة حيدر الدّقيقة الموجعة؛ مشهد سكنَ ذاكرتي وسيبقى إذ سرقتُه في قصة قصيرة مزّقتُها لاحقًا كي أنسف ذلك التأثير، كما تسلّلت لغة حيدر حيدر إلى لغتي وستبقى، وكما لَطَمَني التّاريخان اللذان يُنهيان الرواية: 1974-1983، مع ثلاث مدن هي الجزائر وبيروت وقبرص. ثمّة مَنْ يقضي تسع سنوات في كتابة عمل واحد، وينقّله معه أينما حلَّ وكيفما ارتحل، كما لو كان حقيبة منفاه أو حقيبة ما تبقّى من بلاده التي ضاقت حتّى عن أن تظفر إحدى مدنها بأن تكون مسرحًا لكتابة تلك الملحمة المؤرِّقة. لولا حماقةُ صاحب المكتبة ذاك، كانت قراءتي للوليمة ستتأخّر على الأغلب، إذ اندفعتُ في اليوم التالي إلى المركز الثقافيّ واستعرتُ نسخةً منها ودخلتُ إلى فردوس الرواية الذي يلتحم بالجحيم في متاهةٍ مرعبة. يخطر لي الآن أنّ المفارقات التي حكمتْ على حيدر حيدر انتقلتْ إليّ أنا أيضًا كلعنةٍ لا براء منها، إذ تذكّرتُ أنّي لم أحتفظ بأيّة نسخة من أعماله عندي؛ كانت إما نسخًا ورقيّة مستعارة أو نسخًا إلكترونيّة. ويحيّرني دومًا أنّه يغيب حين أقلّب في ذاكرتي الأعمال الأهم في الأدب السوريّ، وكأنّي لا أعدّه سوريًا أو كأنّ غيابه الورقيّ حَكَمَ عليه دومًا بأن يبقى عندي مثل طيفٍ لا سبيل إلى إحكام قبضة الحواس عليه. طيف سكنني ولن يتركني حتّى لو نسيتُه؛ طيف التصق بالذّاكرة إلى حدّ الغفلة إذ باتَ جزءًا منّي بلا وعي منّي؛ بات جزءًا من قاعدتي التي لا أرتضي استثناءً لها: الكاتب هو اللغة، الكاتب هو الأسلوب. ولذا غرقتُ في لغة حيدر حدَّ النّسيان.
أظنّ أنّ حيدر حيدر كان السّبب الأكبر في دفعي إلى قراءة أدب السبعينيّات السوريّ. صحيحٌ أنّه طرقَ أبواب النّشر أواخر الستينيّات إلا أنّه أقرب إلى جيل السبعينيّات الذين غيّروا خارطة الأدب السوريّ سردًا وشعرًا ومسرحًا. لم يجتمع الكمّ والكيف بهذه الدّرجة من الألق إلا في السبعينيّات: نزيه أبو عفش وبندر عبد الحميد ورياض الصالح الحسين شعرًا، سعد الله ونّوس مسرحًا، هاني الراهب وحيدر حيدر سردًا، ممدوح عدوان كعادته مثل نحلة لا تكاد تستقر على زهرة حتّى تغادرها إلى أخرى، وإنْ كانت زهرته الكبرى هي المقالات. هل كانت تلك السّنوات شديدة الخصوبة بحيث أنبتت كلّ هذه الأشجار، أم إنّ تلك الأسماء هي التي كانت غمامًا لمطرٍ أحيا أرضًا شبه قاحلة بعد أن صمت الروّاد أو غادروا إلى المنافي؟ لا نعلم بالتّحديد، غير أنّنا نعرف حتمًا أنّها أغنى سنوات في تاريخ سوريا المعاصر في الثقافة والفن (كيف لنا أن ننسى لؤي كيّالي ونذير نبعة ويوسف عبدلكي ومصطفى الحلّاج وعمر أميرلاي؟) لأنّها استوعبت الجميع على اختلاف اتّجاهاتهم. فلنبق في القصة التي كانت نقطة انطلاق حيدر حيدر. كانت الواقعيّة في القصّة قد حزمتْ آخر أمتعتها مع أعمال سعيد حورانيّة، لتمهّد لظهور عاصفة نصوص زكريا تامر التي جرفت كلّ ما كان قبلها بلا رحمة؛ نصوص لا تشبه القصة ولا تشبه القصيدة، ولكنّها تشبه تلك البلاد في فوضاها. غير أنّ حيدر لم يركن لوصفة تامر الأثيرة بالرغم من التّشابه الظاهريّ في دفقة الشّعر في أعمالهما، بل شقَّ طريقًا منعزلةً تأثّرت بالآداب الغربيّة وصانت بريق لغة التّراث ولكن بأدوات جديدة؛ طريقًا تحفر في الشّعر بإزميل الحكاية، أو تغرس قصائد في تربة سردٍ مغوٍ كمصيدة. كانت قصصه متفرّدةً لأنّها تبدو وكأنّها تضيق بحدودها، إذ بدت أقرب إلى سكتشات لمشاريع أكبر بدأها بـ الفهد، ومسّها مسًا طفيفًا في الومض والفيضان، ثمّ بدا وكأنّه وجد ضالّته أخيرًا في الوعول والتموّجات: قصص طويلة أقرب إلى النوڨيلا واصلَ كتابتها حتّى بعد نشر روايته الأولى الزّمن الموحش التي شرّح فيها دمشق بقسوةٍ جارحة، ليكتشف أنّ مبضع اللغة لن يهدأ إلا بتشريح باقي البلاد، كلّ البلاد، فكانت وليمة لأعشاب البحر، الوليمة الكبرى التي شغلته قرابة عقد في كتابتها واستنزفته قرابة عقد كامل من الصمت بعدها، قبل أن يعود بمفاجأة جميلة حملت عنوانًا غامضًا هو مرايا النّار، وعنوانًا فرعيًا أكثر غموضًا: «فصل الختام». ختام ماذا؟ لعلّها ختام فصول «نشيد الموت» الأربعة التي بدأ غنائها في الوليمة وبقيت أصداؤها عصيّة على التّلاشي. ولكنّها كانت في الوقت ذاته ختامًا حزينًا لأعمال حيدر في ذاتها. حين ثارت ضجّة وليمة لأعشاب البحر كانت تجربة حيدر حيدر قد أمست وراء ظهره حقيقةً ومجازًا. كانت أهم أعماله قد كُتبت ونُشرت منذ سنوات. كانت مرايا النّار أشبه بذروة أعمال حيدر، لا بمعنى أنّها الأفضل بل بمعنى أنّها ختام طريق الصعود، إذ بدأ ألق أعماله يخفت شيئًا فشيئًا حين التهمتُ أعماله كلّها عامي 2001 و2002. لعلّ بوسعنا استثناء مجموعة غسق الآلهة، وربّما كتاب مراثي الأيام، ولكنّهما – على جمالهما – عجزا عن منافسة أعماله الأقدم.
أنتبه الآن إلى عنوان هذا الكتاب: مراثي الأيام الذي صدر عام 2001، وكذا أنتبه إلى عنوانَيْ مجموعتين لنزيه أبو عفش صدرا في تلك السنوات: الله يبكي، وأهل التابوت. وأبدأ استعادة ذكريات تلك السنوات التي كنت فيها ثملًا باكتشافاتي المتلاحقة في قراءة تجارب جيل السبعينيّات، وغافلًا عن التقاط الإشارات الخفيّة التي التقطها أدباء السبعينيّات أنفسهم، ومتناسيًا التحوّلات الكبرى في سوريا آنذاك، مع انتهاء عهد طويل وبداية عهد آخر كان يومئ بسراب التّفاؤل. بدت سنوات العقد الأول من الألفيّة مرشَّحةً بقوّة للمقارنة مع سوريا السبعينيّات التي كنّا نظنّ أنّها كانت فردوسًا كي تضمّ كلّ تلك الغابات الوارفة، مثلما كنّا نظنّ أنّ ألق الأدب السوريّ سيعود في ظلّ الانفتاح الموعود. غير أنّنا كنّا سذّجًا وبقينا سذّجًا لسنوات. كانت الإشارات الخافتة آنذاك تومئ إلى أنّنا سنشهد أيامًا مختلفة، وهذا ما بدا للمراقبين الخارجيّين أيضًا: لا موت ولا معتقلات ولا منافي؛ سوريا «الانفتاح» حيث الصحافة الجديدة وشركات الموبايل والسيّارات التي ستصبح في متناول الجميع؛ سوريا إغلاق سجن المزّة وعودة المنفيّين وتكريم الأدباء الشيوخ بأوسمة الاستحقاق؛ سوريا الجوائز التي تَعِدُ الأدباء الشّباب بدُنيا لا تحزّبات فيها ولا رقابة ولا تحجّر العهد البائد. على أنّ هذه الصورة تُخفي صورةً أخرى أبلغ وراءها. كانت تلك السنوات نفسها هي التي شهدت الموت السريريّ لجيل السبعينيّات: أُقيل أنطون مقدسي من منصبه في وزارة الثقافة وهو كان عرّاب سنوات السبعينيّات؛ مات سعد الله ونّوس وهاني الراهب وسيلحق بهما ممدوح عدوان بعد بضع سنوات؛ تفرّقَ في المنافي من لم يمت بعد من الرسّامين؛ عاد زكريا تامر إلى منفاه بعد أن خُدع في «الوطن» وخلد إلى الصمت الذي كان سعيد حورانيّة قد خلد إليه منذ الستينيّات حتّى رحيله؛ هجرَ بندر عبد الحميد الشّعر، ولجأ حيدر حيدر إلى قريته كملاذ أخير في الشيخوخة. ولم يكن حظّ الأدباء الذين جاؤوا في الثمانينيّات والتّسعينيّات أفضل من سابقيهم: عام 1998، أُهدِر دم ممدوح عزّام إثر نشر روايته قصر المطر وعايش مأساةً مماثلةً لمأساة حيدر؛ تواصلَ تهميش الأدباء «المغضوب عليهم»: ركنَ إبراهيم صموئيل إلى الصمت بعد عام 2002، وزِيْد في تجاهل فوّاز حدّاد. كانت تلك سنوات اليد الحديديّة المغلّفة بقفّاز مخمل «الإصلاح والتّطوير والتّحديث». وأنتبه الآن إلى أنّ توازي هاتين المرحلتين وتماثلهما ينسحب أيضًا على عناوين أعمال السبعينيّات: الزمن الموحش لحيدر حيدر، دمشق الحرائق لزكريا تامر، الفرح ليس مهنتي لمحمّد الماغوط، حبر الإعدام لسنيّة صالح، أيّها الزمان الضيّق أيّتها الأرض الواسعة لنزيه أبو عفش، خراب الدورة الدمويّة لرياض الصالح الحسين، الدّماء تدقّ النوافذ وأمّي تطارد قاتلها لممدوح عدوان.
لم تكن فردوس السبعينيّات فردوسًا إذن. ولم تكن سنوات العقد الأول من الألفيّة الثالثة فردوسًا أيضًا. كانت السنوات الأولى سنوات السّراب البعيد الذي يحسبه الظمآن ماءً، وكانت السّنوات الثانية سنوات الغفلة التي تناسى فيها الظمآن السّراب والماء وعضَّ على عطشه بانتظار ماءٍ قد يأتي وقد لا يأتي. لعلّه الجحيم، أو المطهر ربّما؛ لا فرق! كان جيل السبعينيّات يحذّرون من الفجائع التي كانوا يستشعرون حدوثها الآن وهنا، وبعد عقود. لم أنتبه إلى دفق الفجيعة الذي ينزّ من كلّ حرفٍ من حروف مرايا النّار التي عرفتُ منذ البداية أنّها ستكون روايتي المفضّلة من روايات حيدر. ربّما سحرتني الملانخوليا التي تؤطّر الرواية كلّها، كما تفعل عادةً في المراهقة وبداية الصّبا. ثمّة عالمٌ قاسٍ مؤلم في ثنايا الملحمة الصغرى التي لا تُسلِّم مفاتيحها كاملةً إلا حين تُقرأ بالتوازي مع الملحمة الكبرى، ولكنّ إغواء اللغة ورهافة الإحساس حجبا قسوة العالم للوهلة الأولى، ليستشعر القارئ، من ثمّ، جراحه الخفيّة بعد أن يظنّ أنّه انتهى من القراءة. كانت الزّمن الموحش المبضعَ الذي شقَّ به حيدر أجسادنا كلّنا، وكانت وليمة لأعشاب البحر الإصبع الذي نكأ تلك الجراح، ثمّ أتت مرايا النّار لتصبح الملحَ على تلك الجراح المفتوحة. عشرون عامًا تقريبًا تفصل بين الزمن الموحش وبين مرايا النّار، وعشرون عامًا تقريبًا تفصل بين قراءتي الأولى لـ مرايا النّار وقراءتي الرابعة أو الخامسة لها قبل أيام. الطيف هو الطيف، والسراب هو السراب، والظمآن هو الظمآن، ولذا واصلَ حيدر تحذيراته المتلاحقة من الفجائع التي ستأتي لا محالة، من اللوياثان – لو استخدمنا المصطلح التوراتيّ الأثير لدى حيدر – الذي سيلتهم كلّ شيء، سيلتهم الطّيف والسراب والماء والظمآن. لعلّ جمال أعمال حيدر يكمن في أنّه يحنو على جميع شخصيّاته بالرغم من أنّه لا يخفي انحيازاته. الفجيعة طوفان يجرف الجميع، ولذا لا فرق بينك وبين غيرك، فالكلّ ضحايا، وإنْ لم يدركوا ذلك للوهلة الأولى. «الذاكرة وحدها المنجى من هلاك محقّق»، كما يقول في الزمن الموحش، ولكن هل هي حقًا؟ أليست الذاكرة هلاكًا هي الأخرى؟ أليس هذا ما يدركه مهدي ومهيار وآسيا وفلّة في وليمة لأعشاب البحر؟ أليس هذا ما ندركه كلّنا حين نتذكّر ما لا نودّ تذكّره؟ أليس هذا بالذات ما يتوق ناجي في مرايا النّار كي يهرب منه؟ أليس هذا ما أسعى إليه الآن كي أُعيد جمال لحظات سنة المراهقة تلك بعيدًا من تداعيات السنوات العشرين التي أثقلت الذاكرة وأَدْمَتْها؟ ولكنْ لعلّ الذاكرة منجى حقًا حين ننتقي ما نودّ تذكّره: خطّ الثلث في عنوان وليمة لأعشاب البحر بغلافها الأبيض في طبعة دار «ورد»؛ غلاف مرايا النّار الأزرق، وغلاف غسق الآلهة الأخضر في طبعة دار «بترا»؛ غبار صفحات الزمن الموحش التي لم يَسْتَعِرها أحد منذ شهور؛ جلد المفكّرة الحمراء التي كنتُ أدوّن فيها ما أحبّ من اقتباسات. لا بدّ أنّي دوّنتُ الاقتباس الذي على غلاف الوليمة: «وكانت بلادًا جميلة». لا أعرف الآن ذلك الزمن الذي كانت فيه البلاد جميلة، ولستُ متأكّدًا من وجوده أصلًا؛ غير أنّي كنتُ متأكّدًا من وجوده قبل عشرين عامًا، كنتُ متأكّدًا من أنّ هذه البلاد القاحلة كانت جميلةً يومًا، إذ لا بدّ من وجود ذلك الزمن وإلا لن تكون البلاد جديرةً إلا بالحرائق.
كنتَ تريد الكتابة عن مرايا النّار. ما الذي فعلته يا أحمق!
*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.