بواسطة هيفاء بيطار | سبتمبر 8, 2020 | Cost of War, غير مصنف
ليس وعي الشعب السوري بأهمية الطب النفسي هو ما جعل الكثير من السوريين يراجعون عيادات الأطباء النفسانيين، بل وحشية وقسوة الظروف التي يعيشونها وانسداد الأفق أمامهم جعلهم يبحثون عن قشة أمل يتعلقون بها لأنهم غارقون في آلام نفسية ويأس وخيبات قد تدفع الكثير منهم إلى الانتحار، وبالفعل حوادث الانتحار في سوريا كثيرة لكن لا يُعلن عنها في الإعلام الرسمي. وبما أنني عشت في اللاذقية وعاينت عن كثب أزمات الناس خاصة الجيل الشاب فقد هالني فعلاً الإقبال الشديد على عيادات الطب النفسي عساها تقدم لهؤلاء المعذبين في سوريا نوعاً من الحل أو العزاء.
بداية أحب أن أنوه بتعريف الصحة النفسية في الطب النفسي: لا يجب أن نقول عن إنسان أنه بصحة نفسية جيدة وطبيعية إن لم يخضع لإختبارات في الطب النفسي. وعليه لا يجوز أن نعتبر أنفسنا وغيرنا أصحاء نفسياً إن لم نخضع لإختبارات في الطب النفسي. ولأنني مهتمة جداً بالحالة النفسية للشعب السوري وكوني طبيبة عيون لي أصدقاء أطباء اختصاصيون في الطب النفسي. وكنت أزورهم في عياداتهم وأحياناً يكون لي دور في الإصغاء للآلام النفسية للمرضى.
1-معاينة الطبيب الإختصاصي في الطب النفسي تتراوح بين 4000 ليرة سورية و6000 ليرة سورية، وهو مبلغ كبير جداً بالنسبة لمواطن سوري موظف (معدل الراتب في الدولة السورية 30 دولاراً) أو محدود الدخل وثمة الكثير من معدومي الدخل تقوم الجمعيات الخيرية بمساعدتهم. ومنظرهم وهم محتشدون في قاعة انتظار الطبيب النفساني يُشبه تماماً الاحتشاد على الأفران أو مراكز توزيع المعونات الغذائية، معذبون سوريون طاش صوابهم من القهر والفقر والظلم ورداءة الحياة وموت أولادهم يبحثون عن أي مُسكن لآلام أرواحهم، لا أنسى عبارة قالها لي أب سوري: لولا العار لانتحرت، لكن سيُوصم أولادي كل عمرهم بوصمة انتحار والدهم .
2- لعظيم الأسف فإن معظم الأطباء النفسانيين في اللاذقية (المدينة التي عشت فيها كل عمري) لا يُعطون المريض النفساني حقه، لأن ضغط العمل والمراجعين كبير جداً عليهم، لهذا لا يتجاوز اللقاء بين المريض النفساني والطبيب خمس دقائق، يتخللها قطع الحديث باتصالات هاتفية دائمة للطبيب، ونفاذ صبر الأطباء فما أن يبدأ المريض النفسي بالكلام ومن العبارة الأولى حتى يعلو صوت الطبيب النفساني مُشخصاً حالته: عندك اكتئاب أو شخصيتك اكتئابية أو عندك وسواس قهري أو عندك ميول انتحارية أو فصام في الشخصية الخ! يا للسهولة والخفة وانعدام الوجدان التي تُشخص فيها الأمراض النفسية في سوريا، ولماذا يكون لدينا طب نفسي هام ويحترم المريض وكل ما في حياة السوري رديء؟ وأظن الأطباء النفسانيين يجدون عزاء كبيراً لضميرهم لأنه لا يوجد سوى دواء نفساني واحد وحيد يُعطى لكل حالات الأزمات النفسية، وهو دواء سيئ بإعتراف العديد من الأطباء النفسانيين ومصدره إيران أو الهند، وثمة أدوية أخرى مهدئة تساعد في دعم تأثير الدواء الرئيسي. الحوار معدوم بين الطبيب النفساني والمريض، أي لا يتمكن المريض من الفضفضة بآلام روحه، ويشعر المريض أنه دفع مبلغاً كبيراً على أمل أن يصغي إليه الطبيب النفساني ويخرج من العيادة بخيبة أمل يحمل وصفة طبية مُوحدة لكل المرضى عامة.
3- الكارثة الأشنع هي الانقطاع المفاجئ للأدوية النفسية والمهدئة والمنومة، كذلك انقطاع العديد من الأدوية المهمة الأخرى كأدوية الغدة والقلب والضغط وغيرها، إضافة لارتفاع سعر الأدوية دفعة واحدة في سوريا 300 بالمئة دون أن يزيد الراتب قرشاً!
4- معروف أن الأدوية النفسية حتى ترفع مستوى السيروتونين في الدماغ (والذي يُسمى هورمون السعادة) حيث ينقص هذا الهورمون كثيراً لدى مرضى الإكتئاب وأمراض نفسية أخرى، تحتاج لأشهر من تناولها تترواح في الحد الأدنى ستة أشهر وقد يستمر المريض في تناولها ثلاث سنوات وأكثر. وفي بعض الأمراض النفسية كالفصام يتناول المريض الدواء النفسي مدى الحياة، ويجب أن يتم قطعه بالتدريج على الأقل طوال أسبوعين أو ثلاثة، لكن فجأة انقطعت الأدوية النفسية في سوريا وفي حالة كهذه يُصاب المرضى بنوب من الصرع وقد ينتحر البعض، وحتى الدواء الآمن (الليكزوميل أو الليكزوتان) وهو مضاد قلق مقطوع وبرأيي يجب أن توزعه الدولة السورية مجاناً أو على البطاقة الذكية، لأن كل سوري يحتاج لدواء مضاد للقلق عساه يساعده أو يوهمه أنه يساعده في قلقه الكبير. وأدى الانقطاع المفاجىء للأدوية النفسية في سوريا لحالات انتحار كثيرة خاصة عند الشباب الذين لا يجدون أملاً بالمستقبل وينتظرون فرصة للهجرة إلى بلد أوروبي.
5- استعاض الكثير من السوريين وخاصة الجيل الشاب المُحبط وبعضهم جامعيون (أخبرني العديد منهم أنهم توقفوا عن الدوام في الجامعة لأنهم لا يملكون مالاً لتصوير المحاضرات، لأن سعر الورق ازداد وإجرة التصوير ازدادت)، هؤلاء الشبان يلجؤون إلى المخدرات كحبوب الكابتاغون والحشيش وأنواع أخرى من المخدرات تشوش وعيهم وتخدر آلام روحهم ولو لفترة زمنية معينة، ويتعاملون مع مهربين معروفين في اللاذقية يؤمنون لهؤلاء الشباب اليائسين المخدرات الرخيصة ومن أسوأ الأنواع. وتمت مداهمة مجموعات من الشبان (معظمهم جامعيون) في شاليه على البحر أو في بيت أحدهم من قبل الشرطة، وتم سجنهم لأكثر من ثلاثة أشهر وطبعاً بعد تعرضهم لضرب مبرح، بدل أن يُعالجوا في مراكز لعلاج الإدمان، ولست واثقة أن في سوريا كلها مركزاً مؤهلاً لعلاج الإدمان.
هذا هو واقع الطب النفسي في سوريا، طب نفسي وهمي، دواء سيء ثم مقطوع، نسبة انتحار عالية خاصة لدى الجيل الشاب، إدمان على المخدرات الرديئة للهروب من واقع ليس فيه بصيص أمل، الفقر والذل والجوع والهدر الوجودي بانتظار رغيف خبز مُعجن أو كيس أرز ينغل فيه الدود، إضافة لرداءة التعليم وانقطاع الكهرباء شبه الدائم وشح المياه وتلوثها. كل شيء مأساوي وموجع في سوريا، ومن الطبيعي أن يكون الطب النفسي انعكاساً لهذا الواقع. ولو أردت أن أشبه ممارسة الطب النفسي في اللاذقية (وسوريا كلها)، فهي أشبه بتلك اللقطة من مسرحية حيث يقوم المُوجه في المدرسة بفحص القدرة البصرية لكل طلاب الصف (كلون يعني كلون) في نفس اللحظة أكثر من 40 طالب يجيبون على سؤال الموجه الذي يفحص الطلاب على لوحة القدرة البصرية ليعرف صحة الرؤية عند الطلاب. الطب النفسي في اللاذقية وسوريا مهزلة، لا تحليل نفسي ولا حوار بين المريض والطبيب. ثمة دواء وحيد يرفع المزاج أو هكذا يقولون، سرعان ما انقطع. وأظن انقطاعه ليس مشكلة كبيرة، لأن من يقبض راتباً من 30 دولاراً في الشهر ليعيل أسرته لا يوجد دواء في العالم قادر على رفع مزاجه؛ ومن دفنت شهيداً أو أكثر من فلذات أكبادها سحقها الحزن والقهر ولن يفيدها دواء؛ ومن مات ابنه تحت التعذيب في السجون السورية أو اختفى ولا يعلم عنه أحد شيئاً لن يفيده أي دواء. العبارة الأدق للطب النفسي السوري: فالج لا تعالج.
بواسطة أسامة إسبر | سبتمبر 4, 2020 | Culture, غير مصنف
إعداد وحوار: أسامة إسبر
منذ أن عثر على وسيلة التعبير المناسبة له، والتي هي الكاميرا، بدأ الفنان السوري المقيم في المجر بهجت اسكندر حياة جديدة، مختلفة كلياً عن حياته كطالب يدرس الهندسة. علق على كتفه الكاميرا الأولى التي أهداها لنفسه، لأنه يعرف نفسه وما تحب، وانطلق كي يقبض على المشاهد العابرة، وبنى عالماً فنياً متكاملاً من الصور التي تسلسلت من الصور الواقعية التي وثقت لمراحل مهمة في المجر، إلى فن البورتريه الذي دعاه النقاد ”ملكاً له“، إلى الصور الموحية كاللوحة الفنية، ولهذا يجمع في صوره بين العالم المرئي، في جمالية حضوره، والعالم اللامرئي الذي يظل هارباً لكنه يتجسد للحظات ويتجلى حولنا ويمنح نفسه لمن يعرف أن يراه.
بهجت اسكندر يعرف جيداً أن العلاقة مع الصورة ليست علاقة حب عابرة، ليست نوماً في سرير الأشياء واستيقاظاً ورحيلاً، بل هي غوص وسفر وهجرة وإقامة في عوالمها وفي ما وراءها وفيما تقود إليه، ولهذا تظل الصورة ناقصة بالنسبة للروح التي تسعى وتطمح إلى الكمال في منجزها الإبداعي، هذا اللاكمال، هذا النقص هو طريق الروح التي يتجلى بحثها في الصورة.
يعرف كثيرون بهجت إسكندر كفنان وثق لتواريخ وأمكنة وحالات كثيرة في سوريا بلده الأول والمجر بلده الثاني الذي شهد ولادته كمصور فوتوغرافي منذ أن هاجر إليه سنة 1967 وحيث حصل على أرفع الجوائز والأوسمة، ورسخ اسمه كأحد أبرز المصورين الضوئيين في المجر، وسيتعرفون عليه من جديد هنا في هذا الحوار الذي يروي فيه قصته كمصور وكيف ينظر إلى الصورة، مضيئاً تجربته من الداخل، ومتحدثاً عن حياته وفنه، كي يمنح القراء صورة أخرى يرون فيها الفنان في حياته وعمله.
أسامة إسبر: ما الذي قادك إلى الكاميرا وفتنة التصوير؟ هل كان التصوير في البداية مهنة، أم أنك اخترته كفن؟
بهجت إسكندر: عندما وصلتُ إلى المجر من أجل الدراسة والتخصص كان هدفي الأول هو أن أحاول الاستفادة من كل شيء جديد ومفيد. كنتُ متعطشاً للعلم والمعرفة باختلاف أنواعها. وكنت أشعر أنني أمثل منطقة وبلداً أحبه وأعتز به وأحاول حفر ونقش أعمالي بحجر صلب. ومن يعيش هذا يفهم ما أقوله. شاركتُ من البداية دون معرفة واتقان للغة بشكل جيد في الندوات والأنشطة الثقافية، وجذبني الفن بشكل خاص من نحت ورسم وموسيقى وتصوير فقررت أن أحاول التعبير من خلال الصورة لأنها سهلة القراءة والفهم ولغة العصر الحديث.
بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة في عام 1968 قدمت لنفسي هدية هي آلة تصوير روسية الصنع من نوع زينيت، واشتريتُ في الوقت نفسه الأحماض والأوراق والأفلام اللازمة معاهداً نفسي بأن ألتزم التصوير كأداة للتعبير وليس لكسب المال، لأنني كنت أدرس الهندسة وكانت في حينها كافية جداً لتأمين المعيشة بأمان ورفاهية.
كانت الصورة في كثير من الأحيان تحل مشكلة اللغة فكان الجميع يفهمونها مما زادني ثقة وأملاً.
أإ: تركز في كثير من صورك على وجه الإنسان وعينيه. متى تستطيع الصورة أن تنقل الحالة التي يمر فيها الوجه، ومتى يكون الوجه الواقعي، الذي هو موضوع الصورة، جاهزاً للصورة؟
ب. إ: منذ بدايتي بالتصوير ركزتُ على الإنسان وهمومه اليومية بشكل كبير، وكانت قراءتي للإنسان من خلال وجهه وتعابيره وعينيه تملك كثيراً من الأسهم والميزات التي لا يمكن تجاهلها حيث هي أن العين هي مرآة الإنسان، ولربما كانت العين هي مصدر وهدف قراءتي للحقيقة. وكانت دائماً تذكرني عندما كنت طفلاً صغيراً في سن الثالثة أو الرابعة بوالدي الذي أحضر لي مرة هدية وكانت صندلاً أذكره تماماً بلونه الخمري. وحين انحنى والدي وناولني الحذاء ناظراً إلي توهجت عيناه وبقي معي هذا البريق في العين من وجه أبي الذي فقدته بعدها وأنا في سن الرابعة أو الخامسة. هذه آخر صورة في الذاكرة عن أبي رحمه الله، وفيما بعد أصبح الخيال حقيقة عندما أرى المشاهدين يقفون أمام الصورة ويحاولون قراءتها جيداً وعند ذلك أقول لنفسي وصلت الرسالة وأخذت الصورة مكانها
أإ: كيف تستكشف الوجه فوتوغرافياً؟ ما هي فلسفتك الخاصة في تصوير البورتريه، هل تقوم بالتقاط صورة الوجه مباشرة أم تتحدث مع الشخص وتتعرف عليه ثم تصور وجهه؟ ولماذا تفعل ذلك؟
ب. إ: كما ذكرتُ سابقاً إن الوجه بالنسبة لي هو كل الإنسان، ومن يفهم الوجه يقرأ الإنسان بكامل طباعه، بحزنه وفرحه، بصمته ومحبته. وغالباً عندما ألتقط الصورة الفنية للأشخاص أحب الاطلاع على الشخص من خلال الحديث معه، وقد يستغرق الوقت أكثر من إخراج الصورة لأن كثيراً من الأشياء المهمة تظهر ويتم توضيحها من خلال معرفة الشخص جيداً.
يُقال عني في المجر إنني سيد البورتريه أو ملك البورتريه، وهذا يتطلب مني الجدية وأخذ كل ما يمكن أخذه، من أجل إخراج الصورة المناسبة والمعيرة على الشخص، ولذلك يجب اختيار الوقت المناسب من أجل توقيف الزمن لمدة وجيزة جداً، وكل ذلك من أجل أن تكون الصورة عملاً فنياً أدخل من خلاله إلى باطن الإنسان .
هذا هو السر في جودة وقوة البورتريه، ففي كثير من الأحيان تأخذك تعابير الوجه وحركة الأيدي إلى الباطن وعندها تختار بسرعة الزمن والمكان المناسب لالتقاط الصورة.
أإ: صورتَ كثيراً من الكتاب والشعراء المشهورين، هل كان لقرائتك لأعمالهم دور أو تأثير ما في مقاربةالبورتريه؟
ب. إ: كان لي الحظ الكبير والنادر في المشاركة بمعرض فني في لقاء لأدباء المجر في عام 1979 من القرن الماضي، وحضر اللقاء في الوقت نفسه كبار مفكري المجر في ذلك الوقت الذين تعرفتُ على الكثير منهم، ومع الأسف الشديد غادروا الحياة لتقدمهم في العمر. حدث هذا اللقاء التاريخي في مدينة لاتي تيلك ولامس الأوضاع المجرية في ذلك الوقت، وكانت لي شهرة كبيرة بين أدباء ومفكري المجر بسبب اهتمامي وتصويري للريف المجري بدون تحيز. وبدأت المجلات والصحف بنشر أعمالي بإعجاب شديد وهذا سهّل لي الطريق كي أكون قريباً جداً من أدباء وشعراء المجر الذين بادلوني المحبة والاحترام والتقدير وصار كثيرون منهم أصدقاء لي، وتبادلنا الزيارات، وكانت حديقتي مركز تجمع للأدباء سنوياً مما سهل عليَّ العمل فقد كنت دائماً أراقب تصرفات وحركات المشاهير كي أستطيع التقاط الصورة المناسبة وأحياناً كنت أقوم بقراءة أعمال بعضهم من أجل إخراج الصورة المعيرة الناطقة.
أإ: أقمْتَ الكثير من المعارض، ودوماً صورك كانت مرتبطة بفكرة أو بتوثيق مرحلة بصرية في المجر أو أمكنة أخرى زرتها، وهذا يقودنا إلى سؤال يتعلق بالصورة كعالم قائم بذاته، كيف تجمع الصورة بين كونها وثيقة وكونها عملاً فنياً إبداعياً؟
ب. إ: لقد أقمتُ الكثير من المعارض في أنحاء العالم وبلغ عددها أكثر من 300 معرض خاص. شاركتُ في البداية في المعارض الجماعية بلوحة أو عدة لوحات في السبعينيات من القرن الماضي ولكن بعد استدعائي للعمل كعضو في لجان التحكيم تمكنت من أن أترك المعارض الجماعية من أجل التركيز على مشاكل ومواضيع مختلفة ولطرح أفكاري وأعمالي بشكل أوسع للجمهور ومحبي الفن. فكان من أعمالي التي حصدت الرعاية والجمهور والاهتمام الصحفي والعالمي معارض مثل معرض ”حفنة من العالم“ وكذلك ”الريف المجري في السبعينات“ و“الأمهات الحوامل“ و“أدباء وشعراء ومفكري المجر“، ودائماً كان لدي مجموعة من الصور جاهزة للتنقل بين المدن وصالات العرض. وكانت كل المعارض تستقطب جمهوراً أكبر واهتماماً أوسع وتغطية إعلامية أشمل.
أأ: ما الصورة التي يعتبرها الفنان بهجت إسكندر صورة إبداعية، ماذا يجب أن يتوفر في الصورة كي تكون إبداعية؟
حين ألتقط الصورة الفنية تأتيني فكرة سريعة جداً ويتوضح الهدف من الصورة سواء كانت تذكارية عابرة أم فنية باقية، وتتراكم علي بسرعة فائقة المشاعر مع الهدف، وأحياناً أرى الصورة في مخيلتي بشكلها النهائي على الجدار بالإطار اللازم وكل ذلك في لمحة بصر في جزء من الثانية . يحدث كل ذلك ويتم توقيف الزمن لتبقى الصورة مجالاً للجدل والنقاش وتعيش بدون المصور الفاعل.
وليس أجمل من أن يقوم المصور بكسر الجواجز النفسية من أجل إخراج الصورة المعيرة الصادقة الباقية الدائمة وكل ذلك بسرعة فائقة وأخلاق عالية بدون استغلال مع فهم الآخر ومعرفة مسبقاً بتصرفات وحركات الموديل على أمل اختيار الوجه الإنساني الأفضل المعبر عن الشخص.
أ. إ: أنت فنان متجول، ولقد صورتَ في مدن كثيرة، ما المدينة الأحب إلى قلبك فوتوغرافياً ولماذا؟ هل تبني بعض الأمكنة علاقات خاصة مع المصور؟
زرتُ الكثير من بلدان العالم ولكن كانت دائماً دمشق وجبلة ملازمتين لأفكاري وأحلامي وحبي وحناني. كان أملي كبيراً في توثيق دمشق قبل تكون عاصمة الثقافة العربية ولكن مع الأسف لم يساعدني الحظ في ذلك وبقيت حسرة في قلبي حتى الآن. أما مدينة جبلة فقد حالفني الحظ بدعوة ومساعدة الأصدقاء من محبي المعرفة والقيم حيث شاركت في مهرجان جبلة الثقافي لعام 2004 وتعرفتُ على كثير من الأصدقاء هناك من مختلف البلدان. فألف شكر لهذا المهرجان المستقل والفريد من نوعه وللقائمين عليه.
أ.إ: ما الكامير الأحب إليك كفنان، والتي تشعر أنها امتداد لعينك الفنية؟ هل من علاقة خاصة مع كاميرات معينة؟
ب.إ: كانت البدايات صعبة جداً حيث كانت الكاميرا الأولى هي زينيت روسية وكنت أعيش حياة صعبة جداً. كانت غرفة العائلة في الليل هي عبارة عن مخبر لتحميض وتكبير الصور. وكانت التجهيزات بسيطة جداً رغم أن مشاركتي في المعارض العالمية والمحلية كانت كبيرة وكثيرة رغم التكاليف والإرهاق في العمل حيث كان عملي الأصلي مهندساً في إحدى الشركات لتصنيع الآلات في هنغاريا. بعد ذلك استعملت الكثير من الكاميرات الألمانية واليابانية، وأخيراً جهزت استديو ثابتاً وكاملاً بالفلاشات وآلات التصوير وكان استنتاجي أن أفضل كاميرا هي الفكرة والتفكير والموضوع والمكان والزمان. إن الصورة تخرج بأي وسيلة حديثة الآن من الموبايل حتى أغلى العدسات. إن آلات التصوير غالية الثمن وعالية الجودة إذا لم تلازمها فكرة تكون كالسيارة الفاخرة بدون طريق أو الحاسوب الجديد بيد من لا يعرف تشغيله، وكل ما تعطيك الكاميرا الحديثة هو جودة الإنتاج وسرعة المراقبة وطاقة الإنتاج ولكن كل ذلك يبقى بدون طعم إذا كان بدون رسالة أوفكرة.
منذ البداية كان الهدف الأول الصدق والمسؤولية الأخلاقية فالصورة تعكس هوية المصور. المهم أن تكون الصورة ذات رسالة أخلاقية وليست بالدرجة الأولى لحصد الشهرة. فالصورة في هذا العصر بالذات تستطيع التدمير أكثر من أي سلاح لهذا المسؤولية كبيرة جداً.
أ.إ: هل يلعب فن الفوتوغراف بالنسبة لك دوراً بالمعنى السياسي؟ خاصة أنك صورت كثيراً من الفقراء والمحتاجين وأشخاصاً في ظروف صعبة؟ ما الدافع الذي كان لديك آنذاك؟
ب. إ: فعلاً أشعر بنخوة كبيرة عندما أقف إلى جانب المهمشين وصوري أغلبها إن لم تكن كلها من أجلهم وليس ضدهم. كنت أحاول أن يراها الجميع من أجل تقديم المساعدة، وكان اختيار مواضيعي وتوسعي الفني دوماً في خدمة الإنسان والمجتمع وليس تفريقه وإحداث الكراهية من مبدأ كلنا زائلون والأعمال باقية.
وعلى سبيل المثال معارضي كلها افتتحت من قبل أدباء ومفكرين وشعراء وليس من قبل سياسيين. وبالمناسبة سمحت لي الفرصة أن أصور ميخائيل غورباتشوف وملكة بريطانيا إليزابيث وولي العهد الأمير تشارلز ووالده أيضاً في سباق الخيل وبقيت هذه الصور في سياقها التذكاري وليس الفني. كما أنني دُعيتُ لقاء راتب باهر كي أصور بشكل دائم مسؤولين سياسيين كبار لكنني لم أقبل العرض لأنني أحب أن يُطلب مني التصوير عن مواضيع مثل مشاكل البيئة والمواصلات والمجتمع والصحة والمقابر والطفولة والشباب، هذه هي الأعمال المهمة التي أحب أن أكون جزءاً منها.
أ. أ: عصرنا هو عصر طغيان الصورة، والانبهار البصري، وتطغى الطبيعة الاستهلاكية الوظيفية على الصورة، والتي صارت مرتبطة بالشهرة العابرة. كفنان، كيف تنظر إلى الصورة الفنية، وأين تضعها في هذا السياق؟ وما الذي ينقذ الصورة من كونها وظيفية واستهلاكية وعابرة؟
ب. إ: إن التصوير متعدد الجذور والأسماء ومتشعب الأهداف: تصوير حفلات وأعراس وأطفال ورياضة وصحافةوطبيعة ومناظر ومجتمع وطب وعلوم وفضاء والكثير من المعرفة، غير ذلك.
بالنسبة لي اخترتُ الإنسان وإبداعاته والمجتمع بما فيه وظروف الحياة وابتعدتُ قدر الإمكان عن تصوير العجائب والأشياء الباهرة بدون معنى أو هدف. أو بالأحرى لم أفهمها كما يبدو لي. ولقد شبهت ذلك بمطعم فيه الوجبات المختلفة وكل إنسان يطلب ما يحب وربما جميع المطبوخات طيبة ولذيذة.
أ. أ: ما الذي يراه المصور الفنان المبدع ولا يراه المصور العادي؟ هل تشعر كفنان أنك تتجاوز المصور – العدسة وتجمع بين الفنان التشكيلي والمصور أحياناً؟ أطرح سؤالي على ضوء بعض الصور التي لديك والتي تتحرك في مناخ أو فضاء تشكيلي.
ب.إ: أحياناً أخلط بين الفن والشطارة في مجالات الفن بشكل عام. أحب الرسم والنحت والموسيقا والشعر وما إلى ذلك. لكننا نعيش في عالم خيالي تتوفر فيه لنا كل وسائل العلم الحديث ويمكن استعمال ذلك بطرق حكيمة وجيدة للبشرية أجمع. ويمكن استعمالها للهدم والتحريض ومثال على ذلك بالنسبة لي الفوتوشوب والفيسبوك الذي فتح لنا نوافذ جيدة للحياة غير أن هذا يمكن عكسه. وفي جميع الحالات يجب أن يكون الإنسان أميناً وصادقاً في علمه وعمله.
أ.أ: كيف نظر نقاد فن الفوتوغراف في المجر إلى تجربتك، وخاصة أنك تأتي من خلفية ثقافية وبصرية مختلفة؟
ب. أ: لقد كُتب عن أعمالي الكثير وأُخرجت حلقات وأعمال تلفزيونية كثيرة، ورغم كل ذلك بقي في ذاكرتي ما كُتب عن أعمالي وشخصيتي بالذات عندما كنت أشارك في المعارض في السبعينيات من القرن الماضي. حيث كتب أحدهم: ”لا يمكن أن يستطيع إنسان غريب الثقافة أن يدخل أعماق الثقافة المجرية والمجتمع المجري والريف المجري كما فعل بهجت إسكندر ولا أحد يصدق أنه لم يولد هنا مع آبائه وأجداده“.
إنها حقيقة وصارت أعمالي مرجعاً للمهتمين بالريف المجري والشأن الاجتماعي.
أ.إ: ما مشاريعك الحالية؟ هل من مشروع فوتوغرافي ما تعمل عليه؟
ب.أ: لدي أحلام ومشاريع كثيرة وكبيرة وربما أكبر من حجمي. أنا متقاعد منذ أكثر من عشرين عاماً ومتزوج ولدي بنت وولد وثلاثة أحفاد الحمد لله كلهم بصحة جيدة، ويوجدلدي استديو خاص بي بنيته على كيفي ووفق متطلباتي، وهو خاص وليس عاماً. وبنيت حديقة إلى جانب البيت وهي كبيرةوجميلة جداً حيث أخذت من وقتي الكثير ومن حبي الكثير والكثير من العمل والتخطيط والتنفيذ أي أكثر من 30000 ساعةعمل منذ أكثر من 35 عاماً حيث زرعت أشجاراً ووروداً كثيرة، وغرس فيها بعض الشعراء والجمعيات أشجاراً باسم الصداقةوالمعرفة. لقد تغنى بالحديقة الشعراء وهي مكان لاجتماع سنوي لأدباء وشعراء المجر الأصدقاء حيث كان يتواجد من 60 إلى 70 شخصاً في اللقاء الواحد، وهي نموذج في المنطقة وجلبت لي السعادة والراحة كثيراً، وكانت ملتقى للعائلة أيضاً. ولكن يوجد بعض الأفكار والأحلام والمواضيع التي تؤرقني ليلاً ونهاراً. لقد تقدمتُ في السن ويوجد عندي تراث ثقافي كبيروعمل أكثر من خمسين عاماً بدون كلل. وأحياناً أفكر بالعاصفة التي تأخذ الزهر قبل الثمار بالرغم من حصولي على مئاتالجوائز والتقديرات الحكومية والدولية ورضا المجتمع وكثرة الأصدقاء الأوفياء إلا أنه ما يزال يقلقني وضع أعمالي ونهايتها. يوجد كميات هائلة من الأفلام بمختلف المقاسات مكدسة بشكل أنالوج وأحب أن تكون على الدجيتال لحفظها وتنقيتها بأمانومسؤولية وهذا يحتاج إلى إمكانات مادية ضخمة وخمس سنين عمل متواصلة وآلات وتكنولوجيا للحفظ والكثير من الأشياءاللازمة كي يكون لدي أرشيف آمن وسهل البحث وفي متناول المختصين . والسؤال كان دائماً أين محطة هذه الأعمال. قديماًكان يوجد فكرة دار اسكندر للثقافة ولكن حالياً هذه الفكرة صعبة المنال ولربما قد يحالفني الحظ يوماً بمساعدة مجهولبامتطاء الفرس الأبيض. وأقول بصراحة إنه لولا دعم رجال الأعمال المجريين لما تمكنت من إقامة معرض واحد، فكل الشكرلهم، وكل ذلك موثق. أقوم حالياً بتصوير طبقة اجتماعية كبيرة تعيش في المجر وهم الغجر وعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم وسوف تصدر الصور في كتاب مشترك مع صديق مجري قبل نهاية العام ولكن فيروس كورونا كان لنا بالمرصاد.
بواسطة طارق علي | أغسطس 27, 2020 | Culture, غير مصنف
“يا شام لن ننساك إن ننسى.. حتى يضم رفاتنا القبر (…) فدمشق عاصمة الزمان.. فإن رضيت دمشق تبسم الدهر”، بهذه الأبيات ختم ياسر العظمة /دمشق 1942- 78 عام/، قصيدته الأولى “إن رضيت دمشق” التي اختار من دمشق مكاناً لإطلاقها، ومواقع التواصل الاجتماعي مكاناً لاحتوائها.
مشروع العظمة الجديد حمل اسم “مع ياسر العظمة – حطو القهوة عالنار”. ويأتي بعد أن غاب النجم طويلاً عن بلاده، بفعل ظروف الحرب التي أبعدته لمدة سبعة أعوام اعتباراً من 2013 عن مدينته التي قدم لها كل شيء في سلسلته الشهيرة “مرايا”، ليعود إلى عاصمة سوريا بنمط جديد لم يعتده السوريون من بطل الدراما، فمجرد اختياره العرض عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلق حالة من الجدل المستمر، إذ راح يتساءل البعض حول السبب. واعتقد آخرون أن الأمر يعود لترتيبات سياسية كان يعمل عليها العظمة وتتعلق تالياً بإنتاج جزء درامي تلفزيوني جديد، شرط ألا يكون من إنتاج من أشار إليهم مواربة بالمطبلين والمزمرين في قصيدته، “فالمشهديات التي عرضت.. فيها تجلى الطبل والزمر”، إذ اعتبر البعض أنه يقصد المنتج السوري “محمد قبنض”، النائب البرلماني السابق وصاحب المداخلة الشهيرة تحت القبة، التي قال فيها: “تحية لإعلامنا، الإعلام الوطني الكبير، والإعلام ضروري، والطبل والزمر ضروري”. وزاد في أثر التشبيه الذي رصده مدونون على مواقع فيسبوك قول العظمة في قصيدته أيضاً: “عجباً لكتاب وهم قزم.. يتطاولون وطولهم شبر”.
حط العظمة إذاً رحاله في “عاصمة الزمان” كما أسماها، حيث وجد مساحة كافية لمشروع قد يعيش لأشهر قادمة لقامة فنية يصفها الناس بالعبقرية لأسباب كثيرة، ليس على صعيد النظر العنصري إلى المكونات القومية إطلاقاً، بل على قاعدة أن الرجل الذي كان عماداً في الشراكة مع محمد الماغوط ودريد لحام في سبعينيات القرن الماضي، انفصل منتقلاً لمشروعه الخاص، الذي اتضح أن تمكن وسيتمكن من العيش أكثر من كل المشاريع العربية الأخرى، بفعل ذكاء عال تحكم بخط سير المنتج على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، إذ أن العظمة مثل بنفسه ورشة كاملة في وضع القصص والحكايات لحلقاته التي بلغ عددها الآلاف ربما.
رفع العظمة سقف مشروعه عالياً، فالرجل ما أن وضع العرض الترويجي لمشروعه قبل أيام حتى حصد سريعاً نحو 140 ألف إعجاب و25 ألف تعليق وآلاف المشاركات، قبل أن ينشر حلقته الأولى لتقارب الأرقام التي حققها العرض خلال ساعات، وبواقع مليون ونصف مشاهدة فعلية في صفحة الفنان التي تسارع ارتفاع مشتركيها ليصلوا إلى أقل من مليون مشترك بقليل.
يعتمد الرجل بصورة قطعية على رجع الذاكرة السورية-العربية المتعلقة به كفنان كبير وغامض في آن، إذ يكاد يكون من القلائل الذين رفضوا أي تكريم أو ظهور تلفزيوني متأخر خلال مسيرتهم الفنية، لذا فقد عرف العظمة وفريقه كيف يشتغلون على ترويجهم، تجد في التعليقات أن الجميع كان منتظراً، وكعادته فإن العظمة لم يبخل برفع السقف عالياً، وهذا ما خلق جدلاً مستمراً على صفحات الموقع الأزرق.
انقسم الموقف حيال ما قدمه في قصيدته عالية السقف والنقد والإشارة في مضامين سياسية أكثر منها اجتماعية، فالبعض يراه من أزلام السلطة التي لا زالت ترعاه وقد تكون تحاول استخدامه مجدداً كعنصر منفس للغضب إزاء قضايا عديدة. فيما يراه آخرون أنه سيد نفسه وليس “زلمة” أحد، بل هو كما كان دائماً، صوتا عالياً في وجه الفساد والمحسوبيات والرشى، لولا أن هذا الرجل عمق الخلاف عينه باستخدامه مصطلحات قاسية إلا أنها لا تخرج من إطار الرمادية المباشرة، لتحاكي كل ما أنتجته الدراما من أعمال متحررة ذات سقف مفتوح على أن يظل الحديث في العموميات، وهو ما فعله العظمة بالضبط. وما زاد في الأمر سوءا أنه راح يصعد الخطاب نحو الكتاب والمنتجين والمخرجين بقوة واندفاع، ولولا أن قافية القصيدة تسمح لكان لن يدخر فرصة في ذكرهم واحداً واحداً، ورأى البعض أن الحق معه، فأي عمل إذا ما قيس بسلسلة “مرايا” سيخسر، وإلا لكانت هي خسرت وما استمرت عشرات السنين.
اعتقد البعض في منشورات غير قليلة أن الفنان عاد إلى دمشق متحاملاً على أهلها ليبيعهم وجعاً عاينوه عن قرب بينما كان هو في دول أخرى ينعم بالرفاه، بعيداً عن أهل بلاده الذين وجه لهم قصيدته، تاركاً إياهم وحدهم في السنين العجاف الطويلة.
وهذا بمطلق الحال لا يعني أن السواد الأكبر لم ينتش بما قدمه النجم، وراحوا يشاركون قصيدته ويعلقون عليها برثائيات جديدة، فالحزن – بحسب فرويد- هو أصدق المشاعر المتناقلة، وأكثر تأثيرا إذا ما وجه لأناس يعتريهم الحزن والألم.
إذن، نجح العظمة في تكريس الحزن، في بلد تنقصه الحلول الآتية بالفرح، لا بالتنظير الفني-السياسي الكئيب، الذي يجعل مع الوقت من الحزن عادة، وهو ما جاء عليه العظمة في كل أبيات قصيدته.
بواسطة Amarji | أغسطس 26, 2020 | Culture, Poetry, غير مصنف
سَقْسَقَةٌ
من غابةٍ إلى غابةٍ، من شجرةٍ إلى شجرةٍ، من غصنٍ
إلى غصنٍ — أنصِتِي جيِّـداً! — من حَنْجَرَةِ هازجةِ
الزَّيتونِ إلى حَنْجَرَةِ قُبَّرةِ الشَّواطئ، من حَنْجَرَةِ قُبَّرةِ
الشَّواطـئ إلى حَنْجَرَةِ جُشْـنَةِ الغَيْـط، مـن حَنْجَرَةِ
جُشْـنَةِ الغَيْـطِ إلى حَنْجَرَةِ عـصـفـورِ الشَّـوك، مـن
حَنْجَرَةِ عصفورِ الشَّوكِ إلى حَنْجَرَةِ أبي حنَّاءالأحراش
الأحمر، مـن حَنْجَرَةِ أبـي حنَّاء الأحراش الأحمر إلى
حَنْجَرَةِ سُمـنةِ الصُّخور الزَّرقاء، مـن حَنْجَرَةِ سُمـنةِ
الصُّخـور الزَّرقـاء إلى حَنْجَرَةِ نِمْـنِـمَـةِ الشَّـجر، مـن
حَنْجَرَةِ نِمْنِمَةِ الشَّجر إلى حَنْجَرَةِ نُقشارةِ الجبال، من
حَـنْجَـرَةِ نُـقـشـارةِ الـجبـال إلى حَـنْجَـرَةِ قُـرقُــفِ
المستنقعات، مـن حَنْجَرَةِ قُـرقُـفِ المستنقعات إلى
حَنْجَرَةِ الصُّفَير الذَّهبيِّ، من حَنْجَرَةِ الصُّفَير الذَّهبيِّ
إلى حَـنْجَـرَةِ زرزورِ سُـقَطـرى، مـن حَنْجَـرَةِ زرزورِ
سُـقَطـرى إلى حَنْجَرَةِ زُمَيرِ الثُّلوج، مـن حَنْجَرَةِ زُمَيرِ
الثُّلوج إلى حَنْجَرَةِ شَرْشُورِ الكرز، من حَنْجَرَةِ شَرْشُورِ
الكـرز إلى حَـنْجَرَةِ دُرْسَـةِ القصـب، حَـنْجَرَةِ دُرْسَـةِ
القصـب إلى حَنْجَرَةِ الحسُّـون الأخضـر — أردِّدُ —
بحناجر كلِّ المجنَّحات —
أحبُّكِ
أحبُّكِ
أحبُّكِ.
*
قنديلٌ
ربَّما في سَهْلٍ بعيدٍ
حرَّكَتْ ريحٌ خفيفةٌ زهرةَ دِرْيَاسٍ ثُمانيَّةِ البتلات.
ربَّما في أجمةٍ بعيدةٍ
حرَّكَتْ ريحُ زهرةِ الدِّرياسِ رموشَ مُوظٍ حزين.
ربَّما في مستنقعٍ بعيدٍ
حرَّكَتْ ريحُ المُوظِ ريشَ لقلقٍ أصفرِ المنقار.
ربَّما في خليجٍ بعيدٍ
حرَّكَتْ ريحُ اللَّقلقِ شراعَ زورقٍ أزرق.
ربَّما في نافذةٍ بعيدةٍ
حرَّكَتْ ريحُ الزَّورقِ أهدابَ ستارةٍ بيضاء.
ربَّما في حديقةٍ بعيدةٍ
حرَّكَتْ ريحُ السِّتارةِ شَعْرَ امرأةٍ وحيدة.
ربَّما في غرفتي الآنَ
حرَّكَتْ ريحُ زهرةِ الدِّرْياسِ والمُوْظِ
واللَّقلقِ والزَّورقِ والسِّتارةِ والمرأةِ —
شعلةَ قنديلي وأطفأتْها.
*
مَلَنْخُوليا
القمرُ على الدَّرجات الحجريَّة المهجورة
أصيصُ حبقٍ منسيٌّ أيضاً
قطٌّ خَدِرٌ
حفيفُ
نَقْلِ
نِعَالِ
كآبتي
في صعودها ونزولها.
بواسطة هيفاء بيطار | أغسطس 25, 2020 | Cost of War, غير مصنف
ربما يجب أن نعيد تعريف كلمة مثقف، وأؤمن أن الفن والثقافة إن لم يكن هدفهما الأخلاق والخير فهما ساقطان ولا يجب تسمية المثقفين (الذين يقفون مع المستبدين والديكتاتوريين بالمثقفين)؛ أقول هذا الكلام لعدة أسباب ولملاحظات كثيرة بدأتُ أنتبه لها بشكل خاص منذ بداية الثورة السورية. وكلمة ثورة خط أحمر في سوريا، فالمنتفع من الفساد والاستبداد لا يُسمي ما حصل في سوريا ثورة، بل مؤامرة. سأذكر بعض مواقف من نسميهم مثقفين وهم فعلاً حاصلون على شهادات عالية من جامعات أوروبية وأمريكية أو من جامعات عربية.
أولاً: أحد زملائي الأطباء وكنا نعمل معاً في المشفى الوطني في اللاذقية وجمعتنا زمالة وهو اختصاصي ناجح ومن أسرة ثرية وعريقة، كتب لي منذ أيام ما يلي: “لا حظي عزيزتي كيف كان موقف الأوروبيين أثناء جائحة الطاعون، وكيف هو موقف الشعب السوري أثناء موجة كورونا، الشعب السوري لا يستحق الاحترام جالس لا يقوم بأي عمل مفيد ينتظر الحل من القدر!”. في الواقع أثار كلامه عاصفة من الغضب في أعماقي ولم أستطع الرد فوراً، وكنت قد قرأت أن ستين طبيباً ماتوا في شهر تموز أثناء علاجهم مرضى كورونا أي ماتوا بكورونا. وكتبت للدكتور الاختصاصي إياه أسأله: “ماذا باعتقادك يمكن أن يفعل الشعب السوري؟”، فلم يرد.
ووجدتني أتقمص معاناة شعبي المُروعة وأجيبه أن الشعب السوري يعيش أعظم معاناة في عصرنا حتى سميت المأساة السورية بمأساة القرن، وبأن راتب السوري هو أدنى راتب في العالم ولم يعد الراتب الذي هو حصوة يسند خابية، وبأن المواطن السوري يعاني هدراً وجودياً مُخزياً للغاية وهو يهدر أيامه في انتظار (وسط طابور من 400 شخص) بانتظار توزيع ربطة خبز من أردأ الأنواع (لأن الأفران بسبب نقص المازوت لا تخبز الخبز كفاية)، أو أنه يهدر يومه بانتظار توزيع مساعدات من المؤسسات الاستهلاكية للدولة. وأرسلت للدكتور فيديو لأكياس الرز التي يسرح فيها الدود. السوري الذي لا يستطيع شراء اللحم والسمك والفاكهة لأولاده بسبب الفقر المدقع. السوري يرى أطفاله يذوون أمام عينيه بسبب الجوع وسوء التغذية وبسبب فساد التعليم والطبابة في حين زادت أسعار الأدوية بنسبة 300 بالمئة ومعظمها غير متوفر ولم يزد الراتب قرشاً ليتناسب مع سعر الدواء على الأقل. الأدوية النفسية التي انقطعت فجأة والتي تعتمد شريحة كبيرة من الشعب السوري عليها وهذه الأدوية يجب إيقافها بالتدريج وعلى مدى ثلاثة أشهر ويؤدي انقطاعها فجأة لنوبات صرع لدى المرضى. لن أظلم هذا الزميل بأن أطلق عليه اسم “الدكتور الشبيح” لأنه يحتقر شعبه ويكرهه ويصفه بالرعاع والجهل ولا يترحم حتى على زملائه الأطباء الذين ماتوا وهم يعالجون مرضى كورونا. لعله نسي السنوات التي كنا فيها زملاء موظفين في المشفى الوطني في اللاذقية، المشفى الذي رائحته رائحة المراحيض بسبب القذارة والذي تمت فيه صفقات فساد كبيرة لم يُعاقب عليها الفاسدون الكبار. يتربع هذا الزميل في ثرائه وفي مزرعته الفخمة ويحتقر شعبه ويكرهه ويتهمه بالجهل وبأنه ينتظر الفرج من الله، وهو يعلم أن هذا الشعب الجبار في التحمل لا يستطيع أن يعترض أو يجهر بالحق لأن أجهزة الأمن متربصة به. هو يشارك في قتل شعبه باحتقاره له وسخريته حتى من طريقته في التدين. أجل هو من الأطباء القتلة لأن قتل الروح يوازي قتل الجسد. وأظنه يعرف أن بعض زملائه الأطباء مارسوا التعذيب في المعتقلات حتى الموت على شعبه الذي يحتقره ويقول عنه أنه رعاع.
لن أضيع الوقت في التحدث عن المشكلة الأبدية بشح الكهرباء في سوريا وتلوث المياه وندرتها. أكاد أرى في عيني زميلي الطبيب الاختصاصي الشبيح رغبته في موت شعبه، فمصلحته وضمان ثروته أن يموت هؤلاء الفقراء المظلومون المعذبون في الأرض، لأن وعيهم وإدراكهم لحقوقهم قد يهددان مزرعته الفخمة وبيته القصر. “الدكتور الشبيح” يشارك بقتلهم ، يا للعار كيف استطاع أن يقسم قسم إيبوقراط الذي يرتعش كل طبيب وجداني حين يقسمه. ثمة أطباء كثيرون شبيحة بفكرهم وممارستهم. الشعب السوري عظيم لأنه يحافظ على حياته، لأنه قادر أن يستأنف يوماً جديداً من الذل والقهر والجوع دون أن ينهار لأجل أولاده. إنه جبار لمجرد أنه باق. وهذه هي بطولته الأعظم والأهم. وهو باق لأن بقاءه من نوع: هنا على صدوركم باقون كالجدار – وفي حلوقكم كقطعة الزجاج كالصبار – وفي عيونكم زوبعة من نار. البقاء هو فعل المقاومة الأعظم للسوري زميلي الطبيب الشبيح.
ثانياً: ثمة مثقفون لمعت أسماؤهم كالأضواء الزائفة لتملقهم للمسؤولين والحكام، ووقفوا ضد مطالب شعبهم بالحرية والكرامة، هؤلاء لم يتخذوا أي موقف متعاطف مع شعبهم المسحوق، بل إن بعضهم امتدح أحد أهم رموز الفساد في سوريا. ثمة كاتبة تعلن صراحة أنها لن ولم تصرح عن أي موقف مما يحصل في سوريا! وتمتدح شخصية من أهم الشخصيات في النظام السوري. أستغرب كيف يمكن لكاتب ألا يكون له موقف مما يجري في وطنه ومن معاناة شعبه! كيف يمكن لكاتب أن يتجاهل جوع أطفال سوريا ومعاناتهم في مخيمات اللجوء أو في الداخل السوري حيث التسول وفساد التعليم والجوع. كيف يمكن لكُتاب أن يطرزوا كتابات منفصلة كلياً عن الواقع وعن المأساة السورية، وبعضهم يحصل على جوائز! بل إن بعضهم يصنف نفسه وتصنفه الكثير من الجهات الثقافية بأنه كاتب سوريا المعارض الأول فيما هو لم يمنع من السفر مرة واحدة، ويسافر في كل أصقاع الأرض وتطرز مديحاً برواياته إحدى أهم المسؤولات الشبيحات. وهذا الفساد الثقافي ينطلي على الكثيرين للأسف. لكن وكما يقال الثلج سيذوب ويبان المرج. لا أحد يستطيع أن يخدع الشعب أبداً مهما التمعت الأضواء الزائفة حول البعض، مهما اضطر الشعب المسحوق المظلوم للصمت خوفاً على أولاده وعلى نفسه كمعيل لهم. لكن الشعب (مهما وصفوه بالقطيع والرعاع) لا تخطىء بوصلة الحق لديه. وهو يميز بين الأضواء الحقيقية والزائفة، وإذا كانت العبارة الأكثر تداولاً بين السوريين (خلونا هلق ساكتين)؛ فذات فجر قريب ستصدح الحناجر بكلام الحق ولن يبقى أي مواطن سوري صامت.
بواسطة طارق علي | أغسطس 19, 2020 | غير مصنف
لم يكن لكارثة بيروت وقع عادي على السوريين، أهل سوريا الخارجون تتالياً من حرب المدن الرئيسة، الداخلون في حرب الاقتصاد المباشرة، وبالضرورة انغلاق معيشتهم على أنفسهم في ظل ترد واضح في سبل تأمين الحياة، أي حياة، وإن كانت في أدنى سلم الكرامة، المهم هو العيش، بأي طريقة. الناس جائعون، يريدون طعاماً، وعدلاً، وإنصافاً، يريدون بلادهم كما كانت قبل عشرة أعوام، يريدون البلاد، أي بلاد، على ألا يكون فيها سيف وحرب لا تنتهي.
انطلاقاً من الأثر النفسي لكل ما عاشه السوريون خلال أعوام الحرب الطويلة، فمن السهل تفسير مدى التعاطف غير المسبوق مع بيروت مقارنة بشبه انعدامه حيال أي مصيبة ألمت في شعب أو جماعة حول العالم. ولهذا تفسيرات كثيرة، فليست كل مدينة بيروت، فمن ذاق طعم الحرب، وشهد سقوط ضحاياها، وعاين سياراتها المفخخة، وانفجاراتها المتتالية، لا شك صار خبيراً بالألم، الألم الذي يخلفه فقدان الأحبة، هذا من جهة، ومن ثانية فإن لكل سوري في لبنان حبيباً. وقد يكون هذا الحبيب شعباً بأكمله، بنصفه، بفرد فيه، بتراب، بماض، بحاضر، بإيمان سوري مطلق أن بيروت أخت الشام، وكلاهما لبعضهما خل يرافق الآخر في حزنه ومصابه، لا بفرحه، فقدر هذه الأوطان ألا تذوق الفرح.
بمواليهم ومعارضيهم تضامن السوريون مع بيروت أيما تضامن، جمعت كارثة المرفأ القاسية بين الاثنين حزناً على بلد يرى فيه السوريون انعكاساً حضارياً لخاصرة كانت حتى القرن الماضي جزءاً وركيزة في تحقيق فوائد الامتداد الجغرافي لجغرافيتين متلاصقتين عرضاً، ومتتاليتين طولاً من لواء اسكندرونة وحتى آخر فلسطين على المتوسط، مروراً بقلب هذا الامتداد، لبنان الحالي.
لا يرتبط الأمر مباشرة بكليشيه “شعب واحد في وطنين”، ولا بقضية حاضر ومستقبل واحدٍ، فاللبنانيون أنفسهم منقلبون على بعضهم، ومنقلبون تبعاً لحزبيتهم حول السوريين أنفسهم في لبنان، إلا أن الأمر بجله مرتبط بطيبة السوريين، قد يكون الخروج السوري من لبنان أسهم في تعزيز المناطقية والحزبية داخل لبنان، في معسكرين متناطحين، إلا أن السوري اليوم لا يجد نفسه معنياً بتبعات هذا الخروج، كل ما يعنيه أن مدينةً أحب فيها زنبقها الأبيض، ذاته الذي صار أحمر بعيد الكارثة بلحظات، في الحالتين رائحة الألم وصلت حتى باب توما وجالت في شوارع الشام العتيقة لتجتاح البلاد دفعةً واحدة.
لا شيء يحدث في دمشق إلا وتراه في مرآة بيروت، بيروت الجريحة، التي فقدت من جملة ضحاياها، 43 سورياً قضوا في الانفجار، وكأن الموت يأبى إلا أن يرافق هذا الشعب في حله وترحاله. وبمطلق الحال وقبل أن يتضح أن سوريين قضوا في التفجير، كان هاشتاغ “من قلبي سلام لبيروت”، يجتاح مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا، لا أحد يجبر الناس على الكذب في المحبة، كان الصدق يقطر من منشورات هؤلاء الناس الذين راح قسم منهم يغير صورة حسابه على موقع فيسبوك إلى اللون الأسود، وقد اتهمهم البعض بالمغالاة، وإن كانوا هؤلاء القلة التي رفعت الصوت لعدم التضامن مع بيروت، تحت ذريعة أن لبنان وأهله لم يتضامنوا يوماً مع ضحايا بلادهم، لتشهد الساحة جدلاً وصراعاً لا زال مستمراً وإن كان بوتيرة منخفضة عن الأيام الأولى لما بعد الانفجار. هذا الخلاف مفهوم، وقد يكون ضرورياً، فمن المستحيل أن تتحقق نسبة مئوية تامةً يتحد فيها الجميع دون استثناء حيال قضية ما، لا بد دائماً من صوت مخالف، هذا الصوت خفت تحت وطأة صدق المتضامنين، مع العاصمة الأخيرة، كما سماها البعض في تدويناته.
“ما شفناهم ولا مرة تضامنوا معنا وسمعونا صوتهم بمصايبنا ونحن صرلنا 10 سنين عم نموت”، يقول مراد مكملاً: “القضية ما دخلها بالحس الإنساني من عدمه، القضية هي تسجيل موقف لشعب ما رضي يسجل موقف معنا”. يجيبه شادي: “بيروت مو يعني سمير جعجع ولا نبيه بري ولا فلان أو علان، بيروت يعني وجع ناس لسا أولادها تحت الركام”، وكذا تتالت السجالات قبل أن تحسم لصالح الأكثرية الحزينة، والأكثرية العاطفية في بلادنا هي انتصار الإنسان على السياسة، في بلد دائماً ما تكون أكثريته الحزبية-السياسية-الاقتصادية مجتمعة على تدمير المجتمع بصورة عامة، والفرد بصورة خاصة، على قاعدة أن التدمير من النواة أكثر نجاعة، وأشد تأثيراً، تمهيداً لمجتمع جائع لا تقوم فيه قائمة لمفكر أو منظر.
التعاطي السوري كان قائماً على النوع الاجتماعي-الانساني على قاعدة “شفنا الموت، وما بدنا حدا يشوفوا”، وبالقياس فإن كل مأساة محلية صارت مفرغةً من الاهتمام على اعتبار أن التكرار يؤدلج المشهد ويجعله على سوية واحدة من الأهمية، وتالياً، فإن ازدياد الضحايا المطرد في أمر مستمر يجعل من البقية تعداداً، حسب المقولة الشائعة: “موت فرد هو مأساة، أما موت الملايين فهو مجرد إحصائية”.
لذا، وجد الشاميون أنفسهم هذه المرة أمام اختبار حقيقي لإنسانيتهم وقدرتهم على الحزن مجدداً بل وإبداء التعاطف، والأمر مرده في علم النفس يقوم على حزن أشخاص لمشاهدة مجزرة مكررة ألمت بهم، فيتمنون ألا يلحق ببلد يحبونه ذات السيناريو من المجازر.
لبيروت: السوريون معك، وإن كانوا حملوا منك يوماً نكراناً أو أذية، ولكن في ملمات الأحبة: الناس لبعضها.