بواسطة Basileus Zeno | أبريل 29, 2020 | غير مصنف
جدل بين لاجئين سوريين حول “الحلم الأمريكي” في زمن الكورونا
قبل أيام، في إحدى المجموعات المهمة المعنية بموضوع اللجوء والهجرة، وجّه أحد الأعضاء في الصفحة “شكراً لأمريكا” بسبب تحويل مبلغ له ولعائلته ضمن حزمة المساعدات الحكومية للمؤهلين خلال أزمة فيروس كورونا حيث حصل وشريكته على مبلغ 2900$، تتضمن 2400$ للزوجين ($1200 للفرد)، و$500 لطفلتهما أمريكية المولد. وتابع قائلاً، رغم أنه ليس مواطناً أمريكياً إلا أنّ أمريكا استقبلته وعائلته ودعمتهم مادياً مثل أي مواطن أمريكي ودون تمييز وقت الأزمة.
عند هذا الحد، يبدو التعليق عادياً، وخاصة وأننا نعيش في أزمة اقتصادية وصحية كارثية وأي مساعدة قد تحل أزمة آنية. لكنّ التعليقات على بوست المشارك أغرقت في المديح والتطنيب وتضخيم الإيجابيات لتشطح إلى تجميل حتى أسوأ أشكال الظلم والاستغلال، بما فيه شكر المستشفيات والجامعات التي زعم بعض المعلقين أنها مفتوحة بكل إنسانية للجميع في الولايات المتحدة!
ولم تتوانى العديد من الردود، التي كانت تسخر من التجارب السيئة والمُذلة للسوريين في الخليج وسورية على سبيل المقارنة، عن تصدير أوهام ورسم صور وردية لا أساس لها من الصحة، ولم تخلو المشاركات من إبراز النزعة الطبقية الفوقية والأنانية التي تختزل أثر بنى الاستغلال والعنصرية بتجربة فردية معزولة تُسوّق على أنها ناجحة، حيث يُقارن فيها الفرد مدى سوء أحواله القانونية والاقتصادية في الخليج، وسابقاً في سوريا، ومدى تحسنها وتطورها بعد فترة قصيرة من وصوله.
هذا الشكل من الخطاب النيوليبرالي السائد بين العديد من المهاجرين واللاجئين السوريين في الولايات المتحدة، خاصة من أبناء الطبقة الوسطى وميسوري الحال كما لاحظته خلال بحثي الميداني ومقابلاتي التي أجريتها لأطروحتي الدكتوراه، يتملّص من أي حس بالمسؤولية الجماعية والتضامن مع المُستغلين والمهمشين، ويلوم الفقراء على فقرهم وكأنهم عالات على المجتمع لا يبذلون جهدا ًكافياً للخروج من الثقب الأسود الذي ولدوا فيه أو انتهوا إليه لأنّ كل شيء ممكن في أمريكا وأوروبا، كما لا تفوتهم فرصة دون شتم اليسار والاشتراكية في ردة فعل على خطاب النظام السوري “النيوليبرالي” والممانعة!
يعكس هذا الخطاب قوة الإيديولوجية النيوليبرالية وقدرتها على إعادة إنتاج للذوات الضامنة لاستمرارها من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى يُظهر مدى انعزال بعض المهاجرين واللاجئين السوريين، الذين غادروا مع عائلاتهم من سورية أو كانوا أصلاً مغتربين في بلدان أخرى (خاصة في دول الخليج) واختاروا اللجوء إلى بلدانٍ أفضل لغاية الحصول على الجنسية، عمن تبقى من السوريين ضمن البلد يصارعون البقاء؛ ويؤيد العديد من هؤلاء استمرار الحرب العبثية ولا يُخفون احتقارهم لمن لا يثورون ضد النظام في هذه الظروف، كما يدعمون فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية رغم عدم نجاعتها في إسقاط أي نظام وآثارها الكارثية على الناس العاديين.
لهذا الخطاب أثران سلبيان على الأقل
الأثر الأول، إحباط المتابعين للصفحة، وهم بالآلاف، والعديد منهم سوريون يعتمدون على هذه الصفحات المتخصصة كمصدر للمعلومات ومشاركة التجارب وينتظرون فرصة لم الشمل بأحبتهم المقيمين في الولايات المتحدة أو غيرها، وهم في انتظار مؤلم لمرحلة انتهاء معالجة أوراق لمّ الشمل. كما يوجد العديد من الأعضاء الذين مازالوا محاصرين في سوريا ويحلمون بمغادرة جحيم الحياة هناك، ولم يستطيعوا ذلك لأسبابٍ تتعلق بالفقر أو الخدمة العسكرية أو الخوف من خسارة الممتلكات أو السن أو الإصابة، بالإضافة إلى الملايين ممن علقوا في دول الجوار يعيشون خوفاً وجودياً من الترحيل أو العنصرية، سيما في لبنان وتركيا، والتي أدت إلى تفشي ظاهرة العمالة الرخيصة المستغّلة ودفعت البعض إلى الانتحار أو التعرَض للقتل.
الأثر الثاني، يساهم هذا الخطاب، بتغذية الخطاب النيوليبرالي الرسمي هنا، والذي يقوم على تهميش دور البنية والقاعدة الاقتصادية ونمط الإنتاج وعلاقات الاستغلال غير المحدودة في إنتاج شروط حياة الناس وهيكلتها، كما يتغاضى عن الهيمنة التاريخية للبيض وتحكمهم حتى بالهندسة الديمغرافية لأصوات الناخبين عبر نسج شبكة من القوانين التي تضمن إعادة إنتاج النظام إلى جانب إيديولوجيته: “الحلم الأمريكي.”
يحلو لهؤلاء ترديد أنّ “أوباما أسود” كدليلهم على المساواة أمام القانون الأمريكي وأنّ كل شيء ممكن هنا للمجتهدين، وخلال أحاديثهم قد يشرحون لك بفخر أنهم لا يسكنون في “أماكن قذرة” أو “خطرة” كما سمعت مراراً، وكأنّ مجرد وجود سكان سود في المنطقة (X) هو سببٌ مباشر لانتشار الفقر وسوء الخدمات وتدني مستوى المدارس، والأسوأ أنّ بعضهم مازال يشير إليهم بوصفهم “زنوجاً” (Nigger) وقد يدعوك لأكل حلوى “رأس العبد”.
المؤسف أنّ العديد من الكتابات الأكاديمية التي تتناول اللاجئين تساهم بنزع أنسنتهم عبر الإفراط بأنسنتهم، فبالكاد تجد مثلاً كتابات تصور النزاعات بين اللاجئين أنفسهم، من حيث التمييز الطبقي أو الطائفي أو الجندري أو الديني أو العرقي. على العكس، نجد مثلاً في الحالة السورية، كتلة متماسكة لا ملامح لها من اللاجئين والنازحين السوريين، “جميعهم” هربوا من جرائم النظام وتجمعهم قضية عادلة ومأساة المنفى وخسارة الوطن والحلم المسروق.
لولا أني أعيش في أمريكا منذ 8 سنوات، أمضيتها في الجامعات بين أوهايو وماساتشوستس، وتنقلت في العديد من الولايات، لظننت من قراءة المديح بالنظام الأمريكي العادل أني أعيش في “حلم أمريكي”. مما لا شكّ فيه أنّ أمريكا تحتوي العديد من المزايا الإيجابية التي تتيح للفرد استثمار طاقته وخبرته وتدعم البحث والتطور العلمي، وتجربتي الشخصية إيجابية في هذا المجال، عدا عن فرص العمل الواسعة بالمقارنة مع غيرها من الدول والدعم والنقد البنّاء، بالإضافة إلى المبادرات المنظمة العديدة التي تقاوم الممارسات والقوانين العنصرية وتعمل دون كللٍ لتحسين حقوق الإنسان دون تمييز مستفيدة من هامش الحرية الكبير، ولكن للأسف يتم تصوير واقعٍ مثالي مختلفٍ يستند إلى مبالغاتٍ ومعطيات غير دقيقة.
قد تبدو بعض المعلومات التي سأطرحها في هذا المقال بديهية بالنسبة للأمريكيين وغير الأمريكيين المقيمين فيها، إلا أني ارتأيت توضيحها لقراء اللغة العربية من موقع المسؤولية وخاصة تجاه الباحثين بيأس عن خلاص من أوضاعهم في سوريا ومناطق اللجوء والنزوح المجاورة وهم يسمعون رواياتٍ وردية زائفة تشبه روايات المجرمين من المهربين الذين كانوا يعدون الهاربين على السواحل التركية بيختٍ سياحي وبضعة ركاب قبل زجهم في قارب تتوقف نجاة ركابه المحشورين كالسردين على الصدفة، وهو في طريقه إلى “الجنة الموعودة” عبر اليونان. لن أتناول في هذا الرد مسألة احتلال العراق وتحطيمه ولا القواعد العسكرية وانتهاكات القوانين الدولية ولا العقوبات الاقتصادية التي تدمر حياة الناس العاديين، ولا تؤثر بأية أنظمة، ولا مسألة دعم أنظمة عنصرية ومحافظة بمساعدات وأسلحة (كتلك التي تفتك باليمنيين)، ولن أناقش محاولة إزالة الفلسطينيين المحاصرين من الوجود وإرغامهم على الاستسلام في “صفقة العصر”، فقد باتت هذه المسائل للأسف مجرد قضايا ثانوية وخطاباً متخشباً، بل أصبحت هذه الإجراءات مرحباً بها علنا ًمن قبل البعض طالما أنها تؤذي “أعداء الثورة” أو “الأنظمة الدكتاتورية” أو “ميليشيات الطوائف الأخرى”.
معطيات من “الكابوس الأمريكي”
أولاً، بالنسبة للمبلغ فهو يُصرف لمرة واحدة للذين تنطبق عليهم الشروط وحسب، وقد يبدو للمقيمين خارج الولايات المتحدة الأمريكية أنه مبلغ كبير، لكن القدرة الشرائية لهذا المبلغ لا تكفيك كعائلة لأكثر من شهر ونصف، وحسب المنطقة التي تسكن فيها (أجرة شقتي مثلاً 1560$ في الشهر دون الفواتير)؛ كما أنه ليس “منحة كريمة” من حق الجميع كما تمّ الزعم، وإنما لدافعي الضرائب حصراً، وينبغي أن يكون الدخل السنوي للمؤهل تحت عتبة محدّدة، وكأنّ فيروس الكورونا يُميّز بين دافع ضرائب ومواطن ومهاجر “غير شرعي”. وبالمناسبة، لا يمكن للرأسماليين أن يُفوتوا فرصة تفوتهم دون العيش كعلقات تمتص الثروة على حساب الموت والكوارث، فقد صاغ الجمهوريون ثغرة قانونية مكنت نحو 43000 ألف مليونيراً مسكيناً ممن دخله يزيد عن مليون دولار سنوياً من الحصول على 1.7 مليون دولار مساعدة، أي أنّ ما يعادل 82٪ من الفوائد المالية لهذه المنحة ستكون لصالح الأغنياء.
ثانياً، قد لا يعلم معظم المقيمين خارج الولايات المتحدة، أو من ينعمون بحياة أسهل في ظل أنظمة الرفاه الاجتماعي، أنّ الجامعات والمشافي “غير مجانية” في أمريكا، وهناك سيطرة مافيوية من قبل “البيغ فارما” وشركات التأمين على القطاع الصحي وأسعار الأدوية الجنونية (مثلاً سعر جرعة الأنسولين في كندا $25، بينما نفسها في أمريكا حوالي$300 بعد أن كانت حوالي $100 قبل عشر سنوات)، بفعل سيطرة اللوبيات على العديد من أعضاء الكونغرس ودور الشركات الكبرى في صياغة بعض القوانين التي تعود بالأرباح على الشركات الخاصة،(من ضمنها أيضاً مؤسسات السلاح والشركات الأمنية الخاصة التي تكسب من خلال عقود لسجن الموقوفين في سجون خاصة)، عبر جهود جيوش من المحامين الذين يعملون بالتنسيق مع أعضاء في مجلس الكونغرس والشيوخ لضمان قوننة مصالحهم وحمايتها.
تكمن المفارقة أن ما يُطلق عليه في التقارير الحكومية ومنظمات الشفافية بأنه “رشوة” عند ممارساتها في دول العالم الجنوبي، يطلق عليه هنا اسم “لوبي” أو جماعات المصالح Interest Groups، وهي رشوة أيضاً لكنها ممأسسة. هذه الشركات الربحية التي انتعشت كالفطور، خاصة بعد سلسلة من القوانين النيوليبرالية في عهد رونالد ريغان، باتت جزءاً أساسياً من الأزمة التي نعيشها اليوم، والتي تفاقمت إثر أكثر من 40 عاماً من سياسات منهجية استهدفت تجفيف القطاعات العامة من مواردها، وإعفاء الشركات الكبرى من الضرائب، فأمازون مثلاً دفعت مبلغ صفر دولار كضرائب فيدرالية في العام 2018، في حين حققت أرباحاً وصلت إلى 11.7 بليون دولار.
على صعيد الاستثمار في القطاع الصحي والطوارئ، كان ترامب على سبيل المثال، لا الحصر، قد أمر بسحب مبلغ 271 مليون دولار من قطاعات فدرالية، من ضمنها مبلغ 155 مليون دولار من صندوق الإغاثة من الكوارث التابع للوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، وذلك بهدف تمويل مراكز اعتقال تسمح باحتجاز 50 ألف مهاجر وطالب اللجوء.
أمريكا هي البلد الصناعي الديمقراطي المتقدم الوحيد الذي لايوفر لمواطنيه تأميناً شاملاً باعتباره حقا ًمن حقوق الإنسان (وكان هذا المحور الأساسي في نشاط المرشح الاشتراكي الديمقراطي بيرني ساندرز وحملته الانتخابية التي أوقفها بسبب نجاح تحالف الديمقراطيين الرأسماليين في مؤسسة الحزب الديمقراطي ودعمهم لترشيح جو بايدن للحفاظ على النظام القائم). كما لا توجد إجازة مرضية مدفوعة مكفولة من الدولة، حتى في أوج الأزمة، وإنما الموضوع متروك حسب رغبة صاحب الشركة وعقد العامل أو منصبه. مؤخراً تظاهر عشرات العمال في شركة أمازون العملاقة في نيويورك وديترويت وشيكاغو وخرجوا من أماكن العمل معترضين على إهمال توفير الشروط الصحية وعدم منح إجازة مرضية او اختبارات لفيروس الكورونا، وتسبب تسريب حول فضيحة فصل أحد العمال من نيويورك، بسبب اعتراضه على سلوك الشركة الرافض لتحسين الشروط الصحية في المراكز أو توفير اختبارات للعمال حينها، إلى إحراج الشركة، حيث أظهر التسريب اجتماع مجلس الإدارة بحضور جيف بيزوس ودرسوا كيفية تشويه سمعة العامل العاق لمحاربة حراك النقابات المطالبة بتحسين ظروف العمال.
أما على صعيد قطاعي التعليم والصحة “الإنسانيين”، بحسب وصف بعض المعلقّين السوريين، فإنّ معظم الأمريكيين غارقين في الديون للجامعات والمستشفيات، ولم تبقى غير مدارس الأطفال لم تتم خصخصتها بالكامل، مع وجود مشروع لذلك. تُقدّر الإحصاءات عدد الأمريكيين المديونين بسبب قروض الدراسة الجامعية بـ45 مليون أمريكي، كما يموت على الأقل 45000 ألف أمريكي سنوياً بسبب عدم قدرتهم على شراء تأمين صحي. ولطرح مثال حول كارثية النظام الصحي ووحشيته تجاه الفقراء، خاصة في ظروف انتشار وباء الكورونا، تُقدّر فاتورة تكلفة العلاج في المستشفى لمن ليس لديه تأمين بين $42,486 – $74,310 وقد تدفع نفس الفاتورة كذلك إذا اعتبرت شركة تأمينك المستشفى الذي عالجك خارج نطاق شبكتها، وستتدفع الآلاف من الدولارات كجزء من فاتورة محتملة تقدّر بين 21,936$ – 38,755$ حتى لو تمت معالجتك من قبل مزودي خدمة صحية ضمن نطاق الشبكة (موضوع التأمين معقد، ولكن لا يتاح للطبقة العاملة والوسطى تأمين لا يُدفعهم أي مبلغ من جيوبهم الخاصة).
ماذا عن القانون وقوة المؤسسات والعدالة؟ بالنسبة لموضوع أنّ الجميع متساوين أمام القانون، هذا صحيح نسبياً لكنه غير دقيق ولا يأخذ بعين الاعتبار تحيّز القانون ضد السود، ويتجاهل أن الولايات المتحدة تحوي أكبر عدد معتقلين بالنسبة لعدد السكان والمساحة في العالم متفوقة على الصين والهند وروسيا والفليبين، بحيث لو جمع الـ 2.2 مليون معتقل بالغ في مدينة لكانوا ضمن سكان أكبر عشر مدن في الولايات المتحدة. العديد من القوانين سُنّت أساساً لاستهداف السود واللاتينيين، بما فيها “تجريم” الماريغوانا لعقود طويلة، وإبقائهم في ظروف فقر من حيث الخدمات بحيث لا تتوافر لديهم فرص تؤهلهم لارتقاء السلم الاجتماعي وتحسين أوضاعهم الاقتصادية سوى التجارة “غير الشرعية” و “غير المرخصة”. كما تحمي العديد من القوانين رجال الشرطة من المحاسبة حتى عند ارتكابهم جرائم قتل، غير مبررة وموثقة، بحق مواطنين سود مما أدى تفجر حركات احتجاج من حين لآخر أثمرت عن تشكيل حراك قاعدي قوي عام 2013 بات يُعرف بـBlack Lives Matter أو (حياة السود مهمة). وربما أحد أسوأ أشكال نظام العدالة الأمريكية الذي يعكس تحيزا ًطبقياً وعنصرياً يتمثل بنظام الكفالة الربحي “Bail system”، حيث يُتيح هذا النظام للمتهمين الأغنياء (معظمهم بيض) إمضاء فترة ما قبل المحاكمة، التي قد تصل لسنوات، خارج السجن وفي منتجعاتهم، في حين لا يستطيع المتهم الأسود أو اللاتيني، حتى وإن كان متهماً ظلماً، أو عائلته في معظم الحالات من تحمل نفقات خروجه من السجن، ويُعامل معاملة السجين بما فيها العمل لإنتاج مواد لصالح الشركات الربحية التي تتعاقد مع السجون فيما يُعتبر من قبل العديد من الباحثين استمراراً لنظام العبودية وعمل السُخرة، والذي من المفترض أنه قد ألغي بالتعديل الدستوري 13 )كان وثائقي (13) من أفضل ما أنتج حول عنف هذا النظام وعنصريته المؤسساتية(.
على صعيد الحياة اليومية للعائلات، تتفاوت تكاليف المعيشة والرواتب من مكان لآخر، ولكن معظم الرواتب لا تكفيك سوى لدفع الفواتير، دون إمكانية لحفظ مبالغ للطوارئ، وبسهولة يمكن أن تنتهي إلى الشارع في حالة خسرت عملك، وكنتَ مثلاً غير مؤهلا لفتات المساعدات التي لن تسمح لك حتى بدفع أجار بيتك، وعلى عكس الأوضاع في سوريا قبل الحرب، حيث كان من الممكن أن تستدين من أهلك أو أصدقائك وقت الحاجة أو أن تشتري بالدين من السمّان، جارك الصبور في الحي، لا يمكن لأحد تقريباً أن يساعد حتى أخوته في أمريكا. وإذا كان لديك ابن أو ابنة مثلاً دون سنّ المدرسة، فالتحدي الكبير أن تجد “Day Care” أو حضانة تعتني بهم أثناء دوامك، وحتى عندما تجد قد تدفع معظم راتبك وإلا خسرت عملك. على سبيل المثال أرخص مكان قريب من جامعتي، يُكلف حوالي 60 دولار باليوم، حضانة الجامعة عادةً أرخص بقليل لكنك ستنتظر سنوات قبل أن يأتي دورك، والوضع أسوأ في المدن الكبرى كنيويورك وسان فرانسيسكو. وعلى عكس معظم دول العالم، حتى الشمولية منها، لا توجد إجازة أمومة مكفولة بالقانون في أمريكا، ومعظم الأمهات تُجبرن على العودة مبكراً بعد أسبوعين للعمل، والعديد منهن يخسرن وظائفهن ويُطردن أو يعملن وظيفتين أو ثلاث لتأمين الحد الأدنى من المعيشة، ويتفاوت سوء الوضع إن كنتِ أماً من أقليات (سود، لاتينيين..) أو بيضاء.
أما جغرافياً، فجميع المناطق في الولايات المتحدة مقسمة بحسب أرقام (Zip Code) تعكس ضمنياً فوارق طبقية وعنصرية مترسخة تاريخياً في بنية النظام، مصير حياتك فعلياً متوقف عليه، من حيث جودة المدارس المتاحة لأطفالك إلى الأمان وحتى الفوائد على أقساط البيت أو السيارة. يجب أخذ هذه العوامل جميعاً بعين الاعتبار لتحليل أسباب ارتفاع أعداد ضحايا الكورونا فايروس بين الأمريكيين السود بالمقارنة مع البيض بسبب عدم المساواة العنصرية الأساس، حيث لا يمتلك معظمهم ترف العمل من المنزل ومضطرين للعمل في قطاع الخدمات التي تعتبر أساسية، وأغلبيتهم لا يمتلكون سيارات خاصة أو منازل مستقلة مما يجعل فرص “التباعد الاجتماعي” أمراً مستحيلاً ورفاهية غير ممكنة لأغلبهم وليس لأنهم “جهلة” أو لا يتمتعون “بحس المسؤولية” تجاه مجتمعاتهم وبلادهم، كما يُروّج البعض.
خاتمة
أقرأ من حينٍ إلى آخر مقالاتٍ أو تعليقات على الفيس بوك وتويتر يكتبها كُتاب عرب مقيمين في الدول الأوروبية يُصدرون فيها تعميمات، لا تستند إلا على معرفة وتجربة محلية، حول جميع الأنظمة الديمقراطية بوصفها نقيضاً جوهرانياً لكتلة أخرى هي الأنظمة الشمولية، وتستهجن الهوس والمبالغة في مسألة الهويات والثقافوية عند تحليل الأوضاع في الولايات المتحدة الأمريكية مما يُنم عن مدى الانفصال عن واقع الحياة في الولايات المتحدة المنتظمة على أساس العلاقة العضوية بين الرأسمالية والعنصرية والمسيحية الإيفانجليكية. كما يتشارك مع هؤلاء ليبراليون يغضون النظر عن كافة أشكال التمييز والاستغلال والعنصرية البنيوية والمؤسساتية ويركزون وحسب على صندوق الانتخاب (وليس القوى القامعة “قانونياً” لأصوات الناخبين غير المرغوب بهم أو الناشطين الديمقراطيين) نكاية بأي نقد قد يبدو لهم “اشتراكياً” أو “يسارياً”، حتى ولو كانوا يُجملون أوضاعهم الاقتصادية المزرية. فلا يجد بعضهم مثلاً تناقضاً بين مزاعم المساواة المطلقة وعدم التمييز العنصري وقانون حظر السفر، ذي الدوافع العنصرية المعلنة، والذي تم تعديل لغة نسخه الثلاث، لتوافق عليه المحكمة الدستورية العليا، التي نعرف سلفاً حكمها لأنها تعكس الانقسامات الحزبية (الجمهوري- الديمقراطي)، فأصبح القانون مغلفاُ بقالب “حماية الأمن الوطني” وأنه من “صلاحيات” السلطة التنفيذية إقرار قوانين ترتأي أنها لصالح الأمة. كما يعيش العديد من المعلقّين، باعتبارهم طالبي لجوء أو مهاجرين، في حالة إنكار لمدى سوء نظام اللجوء في أمريكا الذي حرم آلاف العائلات من لمّ الشمل عبر مماطلات إدارية مقصودة لسنوات دون تفسير، وحرمان طالبي اللجوء من حق حصول القرار على طلباتهم بعد المقابلات التي قد تصل إلى ثلاث مقابلات يفصل بينها سنوات، كما تصل مدة الانتظار في العديد من الحالات إلى ست سنوات، وقد تنتهي بالرفض أو التحويل للمحكمة في انتظار جديد لسنوات طويلة وإضافة تكاليف باهظة للمحاميين.
بعد ذكر بعض هذه المعلومات على نحوٍ مختصر في معرض ردي على أصحاب “الحلم الأمريكي” وأعداء “الاشتراكية” لتوضيح أنّ هذا التجميل لأفظع أشكال الاستغلال الرأسمالي تزوير علني لحقائق الحياة هنا ويُعطي صورة مغلوطة عن أوضاع السوريين وغيرهم في الولايات المتحدة، هُوجمت من قبل عدد كبير من المعلّقين. معظم التعليقات تجنبت طرح أي معلومة مفيدة، وإنما اقتصرت على فكرة أنّ “أمريكا عظيمة”، في خطابٍ يشبه خطاب ترامب، وأنّ وضع فلان كان في الخليج غير مستقر، وآخر أصبح صاحب شركة هنا، ووبخني أحدهم قائلاً “إذا لم يعجبك الوضع ارجع إلى بلدك” مختصراً الردود الناقدة بأنها مجرد “نق”، وأنه على الأقل أستطيع كتابة هذا الكلام من قلب “الإمبريالية” دون خوف. يُخيل لي أنه لا يوجد تمييز بين “النقد” و “النق” [التذمر] رغم وجود حرف الدال في آخر الكلمة في لغتنا العربية، ربما من قلة الاستخدام وكثرة القامعين.
في سوريا كان يُقال لنا إذا لم يُعجبكم وضع الفساد والمحسوبيات العلنية والذل اليومي “اطلعوا من البلد”، وبعد انتفاضة عام 2011 أصبح التضييق على المنتقدين تهجيراً، أو اعتقالاً، أو قتلاً سياسة منهجية للنظام، ولدى العديد من الثائرين عليه على حدّ سواء. وفي الولايات المتحدة، يكفي مجرد نقد نشر معلومات كاذبة أو غير دقيقة، مع افتراض حسن النية، والسعي مع المُستَغلّين لبناء عالمٍ أكثر عدلاً ومساواة للجميع، إلى أن يجعلك عرضة لتقريع من العنصريين البيض وبعض السوريين على حدّ سواء صارخين في وجهك “ارجع إلى بلدك،” التي لم أعد أعرفها.
خلال سبع سنوات من الدراسة في الولايات المتحدة، وحالياً لدي ٥١ طالب وطالبة رائعون في صف “مدخل إلى السياسات المقارنة”، حيث ننتقد ونقارن ونحلل بين طبيعة الأنظمة والاقتصاد السياسي والفجوة الطبقية والعنصرية المتزايدة، لم يقل لي أحدهم “عد إلى بلدك” فبلدي أًصبح صفي وطلابي وزملائي.
[يُعاد نشر هذا النص بالتعاون والشراكة بين موقع “حكاية ما انحكت” مع «جدلية»]
بواسطة Amal Mohsen | أبريل 29, 2020 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
تبدو التقارير التي تنشرها منظمة الصحة العالمية ووسائل الإعلام حول ندرة إصابة الأطفال بفيروس كورونا مطمئنة وواعدة إلا أنّ ما يحدث لهم من حالاتٍ نفسيةٍ أثناء الحجر قد تكون أشد خطراً وألماً عليهم وخصوصا في بلدٍ كسورية تعاني من صعوبات الحرب التي لم تنته بعد لتأتي جائحة كورونا وتضيف فصلا جديدا من فصول الخراب المستمر.
في الأيام الأولى للحجر كانت ابنتي الوحيدة (8 سنوات) تظنّ أنها عطلة رائعة أشبه بعطلة العيد، كانت سعيدةً لأننا سنجلس طويلاً معاً ولن أضطر لتركها والذهاب للعمل وسيكون هناك متسعٌ من الوقت لفعل أشياء ممتعةٍ ومسلية، ورغم جهودي لابتكار تلك الأشياء المسلية والمفيدة أصبحت جملتها المفضلة بعد مضي أسبوع واحد فقط: ” لقد مللت”!
في البداية حاولتُ استغلال الوقت المتاح لنا وتنظيمه وتوزيعه بين تدريسها لتعويضها عن انقطاع المدرسة، وبين ممارسة هواياتها المفضلة كالعزف والرسم والأشغال اليدوية، كما مارسنا التمارين الرياضية وشاهدنا الرسوم المتحركة وقرأنا جميع القصص في مكتبتها وتشاركنا أعمال المنزل، وعلى الرغم من كل المحاولات لكسر روتين الملل والقيام بأشياء جديدة إلا أنّ طول مدة الحظر جعلت كل ما نقوم به مملاً ومكرراً. من المؤكد أن التواصل الحسي المباشر ضروري ومهم لنمو شخصية الطفل من كل جوانبها، وحرمانه من الحركة والتواصل الاجتماعي مع المحيط سينعكس سلباً على نموه وملكاته، لذا بدأت ابنتي تدريجياً بفقدان اهتمامها بهواياتها وسيطر الملل على حياتها ولم تعد ترغب باللعب وترفض قراءة الدروس أو مطالعة الكتب، وفقدت رغبتها بالرسم وعزف الموسيقى، ومهما يكن الوقت الذي نمضيه معاً، إلا أنها باتت دائمة الشكوى من وحدتها ومن افتقادها الكبير لمدرستها وأصدقائها.
غياب الأب
بعد استشهاد زوجها اعتادت ريم وأطفالها (4 و6 سنوات) تمضية الوقت خارج منزلهم البسيط المؤلف من غرفةٍ واحدةٍ وذلك عبر القيام بزياراتٍ لا تنتهي للأهل ولجميع الجيران والأصدقاء وحتى أصدقاء الأصدقاء أحياناً، هاربةً من وحدتها وواقعها وعاجزةً عن العمل بسبب صغر أعمار أطفالها ومكتفيةً بالراتب المتواضع الذي تتقاضاه كتعويض من الدولة على استشهاد زوجها.
الحجر الصحي الذي فرضته كورونا وضع ريم مباشرةً أمام مرارة واقعها إضافة لصعوبة التعامل مع طفلين اعتادا الخروج واللعب مع الآخرين دون رقيب. بداية الحجر كان نشاطهما الدائم كارثة حقيقية، وصراخاً ولعباً وعنفاً متبادلاً بينهما ما اضطرها لاستخدام العقاب الجسدي لكبحهما ومن ثم إجبارهما على الجلوس أمام التلفاز عندما تكون الكهرباء متوفرة.
العنف المفاجئ الذي أبدته الأم انعكس على الأطفال بشكلٍ مباشرٍ، فقد تحولا إلى طفلين خاملين وبدت علامات الاضطراب في سلوكهما تبدو واضحة، الطفل الكبير كان ينزوي لوحده وكثيراً ما كان يُكلم نفسه أو أحد ألعابه بالإضافة إلى اضطراباتٍ في النوم والأحلام المزعجة، أما الطفل الصغير فلم يكن بأفضل حال من أخيه فقد كانت تأتيه مساءً نوبات هلع ويُمضي ساعةً قبل النوم في الصراخ والبكاء، إضافةً إلى تبوله في فراشه على نحوٍ متكررٍ.
نوال (35 سنة) تعاني هي الأخرى من غياب زوجها في لبنان وقد هرب من الخدمة الاحتياطية وهو الآن عالق هناك دون عمل ولا يستطيع العودة. كانت نوال تعمل في مشغلٍ للخياطة قبل أن يتوقف بسبب الحجر الأمر الذي اضطر ابنها المراهق عُمر (14 عاماً) إلى العمل في توصيل الطلبات لدى أحد المحلات لتأمين دخلٍ للأسرة ريثما ينتهي الحجر وتعود أمه للعمل. تحكي نوال عن مخاوفها الكبيرة على ابنها وهي تذرف دموعها وتقول “يخرج عمر للعمل منذ الصباح وحتى المساء، يؤلمني اضطرارنا لعمله في هذا الوقت بالذات، فالمرض من جهة ودخوله سن المراهقة من جهة أخرى، أخشى عليه من رفاق السوء والاستغلال وأخاف أن يتعلم التدخين أو تعاطي الممنوعات وأشعر بخوفٍ شديدٍ عليه وكأني أرميه بيدي للتهلكة”.
ألعاب الكترونية
سعاد (38 سنة) التي حاولت جاهدة تنظيم وقتها وأوقات أسرتها بصورةٍ دقيقة ومن مختلف الجوانب لتجعل من أطفالها (قيس 12 سنة، وصقر 10 سنوات) نموذجاً مختلفاً عن أطفال الحي الذين يضيعون أوقاتهم بالألعاب الإلكترونية، وكانت تحاول الشرح لأمهاتهن عن سوء تلك الألعاب ومخاطرها الجسدية والنفسية على الأولاد من وجهة نظرها.
كانت تسال نفسها دائماً كيف يمكن لأمٍ أن تسمح لأولادها بالجلوس لساعاتٍ طويلة أمام هذه الألعاب؟ ما الممتع في ألعاب العنف والمعارك؟
لكن بقاء الأطفال كلّ هذه المدة في المنزل وتعطّل كافة الأنشطة والنوادي التي كانت تملأ وقت الأطفال بعد المدرسة أفلت زمام الأمور من يدها بدءاً من مواعيد تناول الأسرة للطعام وانتهاء بمواعيد النوم.
تقول سعاد “حاجة ولديَّ للتواصل مع أصدقائهما في فترة الحجر جعلتني أوافق على استخدامهما للموبايل، وبدأت الأمور بالتطور وصار من الضروري تنزيل الألعاب الالكترونية كي يتشاركا مع أقرانهما اللعب أو على الأقل ليستطيعا إيجاد أحاديث مشتركة فيما بينهم والآن صارت هذه الألعاب تشغلهما طول الوقت. تغيّرت مواعيد نومهما وصارا أكثر بدانةً، وعندما حاولت حرمانهما منها وإعادة التنظيم إلى حياتنا تفاجأتُ بحجم إدمانهما على تلك الألعاب وبالعنف الكبير الذي اكتسباه سواء في التعامل معي أو فيما بينهما، إذ تحول جو الإخاء بينهما إلى أنانية وعداوة وتنافس على فوزٍ افتراضي غالباً ما ينتهي بعراكٍ وصراخ ٍحقيقي.”
علاقات على المحك
تبتسم سميرة بمرارة عندما تستمتع لأغنية فيروز “خليك بالبيت” فلم يعد هناك مكان للاشتياق بينهما، فزوجها الذي كانت تفتقد غيابه وتتمنى حضوره في البيت، أصبح بقاؤه بسبب الحجر الصحي كارثةً حقيقية أدّت لدمار هذا الزواج.
تقول سميرة: “زواجنا كان تقليدياً، كنتُ في العشرين من عمري وكان في الخامسة والعشرين، لم نعش قصة حب قبل الزواج لكن الأيام التي عشناها معاً كانت جملية لا تخلو من الاحترام والألفة، كانت أدوارنا واضحة هو ملتزم بعمله خارج المنزل (موظف صباحاً وسائق بعد الظهر)، وأنا ملتزمة بدوري كربة منزل. لا أنكر مرورنا بخلافاتٍ كأي زوجين أو افتقادي له في كثير من المواقف التي تخص تربية الأطفال كمشاكلهم في المدرسة أو صعوبات مرحلة المراهقة التي عانيت منها مع ابني الأكبر، فظروف الحياة الصعبة وخاصة فترة الحرب، والمشاكل المادية التي تعرضنا لها ككل الناس في بلدنا فرضت عليه العمل المستمر وجعلته بعيداً وغريباً عن تفاصيل المنزل. بعد بقائه في المنزل لوقتٍ طويلٍ، بسبب فترة الحجر، تحوّل إلى شخصٍ مزاجيٍ وعصبيٍ مختلفٍ تماماً عن الشخص الذي كنا نعرفه. أصبح يتدخل بتفاصيل لم يُعرها يوماً أي اهتمام كطريقة تنظيفي للمنزل وطريقة طهي الطعام ثم طريقة تربيتي وتعاملي مع الأطفال، ومَنع الأطفال من اللعب داخل المنزل وصرنا نتحرك على إيقاع مزاجه وأوقات نومه ويقظته وبرامجه المفضلة على التلفاز. كنتُ أبرر له تصرفاته “لم يعتد قضاء كل هذا الوقت في المنزل” لكن المبررات لم تعد مقبولة حين تحولت إلى عنفٍ لفظيٍ وصراخ ومن ثم إلى غضبٍ لا يهدأ إلا بضربهم، لم يبقَ أمامي من حلٍ سوى الهرب بالأطفال إلى منزل والدي الأمر الذي فاقم من المشاكل بيننا إلى حدّ الانفصال.”
من الممكن أن تكون هذه الخلافات فترةً مؤقتةً في حياة هذه الأسرة لكن من المؤكد أن انعكاساتها على الأطفال كفقدان ثقتهم بوالدهم وشعورهم بعدم الأمان لن تمحى بسهولة.
مازلنا نسير في المجهول فأزمة كورونا لم تنته بعد وربما ما هو آت أسوأ في حال تفشي المرض، لقد بات على السوريين توقع الأسوأ دوماً فليست الكورونا إلا تفصيلاً آخر في المأساة السورية، مأساة دفع الأطفال أغلى أثمانها ولا يزالون، قد يسأل طفل عن معنى جملة “خليك بالبيت” وهو بالأساس يعيش في العراء أو في مخيمات بعيدة بعدما تهدّم بيته، وقد يصح القول بأنّ الكورونا لن تصيب رئات الأطفال بالمرض والالتهابات لكنها حتماً ستبقى محفورة في ذاكرتهم ونفوسهم كفصلٍ جديدٍ من فصول مأساتهم الطويلة.
بواسطة سلوى زكزك | أبريل 28, 2020 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
كرّست جائحة فيروس كورونا نمطاً حاداً ومستجداً في شكل الحياة اليومية لأهل الأرض، يوماً بعد يوم تتسع دائرة المواجع الشخصية والعامة، الجسدية والنفسية، لا نجاة من القلق، وزمن تراجع الخوف المشحون بالضعف، زمنٌ ضئيل وضعيف ولا يعوّل عليه.
من مواطن العزاء للبشرية، أنها وقفت معاً في مواجهة تداعيات هذا الفيروس، الذي تحول إلى جائحةٍ عالميةٍ تُسابق الضوء في سرعة انتشارها. لكنّ المواجهة الموحدة لا تعني أبداً وجود أوجهٍ متطابقة من أشكال العنف التي فرضتها هذه الأزمة العالمية، أشكالٍ لا تعدّ ولا تحصى لكنها استحقاقٌ إنسانيٌ وإن تمظهر في حالاتٍ قليلة العدد نسبياً وعلى نطاقٍ ضيقٍ، ثمة مواجع خاصة وخفية، موجعة وتعني أشخاصاً محددين، غير معلنة لأنها خارج سرب المواجع العامة.
ماري سيدة في السبعين من عمرها، أرملة ولم تنجب، تعيش بمفردها في بيتٍ واسعٍ، وهي تتناول طعام إفطارها، سقط جسر الفك العلوي من فمها، باتت بلا أسنان! طبيب الأسنان أغلق عيادته خوفاً على سلامته أولاً ولأنّ المخبر الذي يصنع له الأسنان التركيبية ممنوعٌ من فتح أبوابه، كما أنّ غالبية زبائنه يسكنون في الريف، وإن كان قريباً جغرافياً لكنه مغلق بسبب التوصيف الإداري.
باتت ماري مضطرة لأن تعيش على السوائل، واسطوانة الغاز في ساعاتها الأخيرة، لم تفعل ماري شيئاً، لا أحد يمكنه إعارتها أسنانه! ولا أسنان جاهزة في السوبر ماركت أو في الصيدليات لتطلب إيصالها لها عبر خدمة التوصيل إلى البيوت، اتصلت بطبيبها، قال لها المخبر مغلق وفنيو المخبر يعيشون في الضواحي المغلقة.
لا أحد من المعنيين فكر بعيادةٍ إسعافيةٍ لمعالجة الأسنان مرفقةً بمخبرٍ للتعويضات السنية وجعلها في متناول المحتاجين لخدماتها وخاصةً من كبار السن.
بادرت أغلبية الناس وخاصة من الفئة العمرية الشابة لمدّ يد العون لكبار السن الوحيدين والوحيدات، لكن ثمة مطالب لم تخطر على بال أحد. هيام، سيدة في الثمانين من عمرها، تعيش وحيدةً أيضاً في الطابق الثاني عشر في برجٍ سكني في منطقة راقية، لا تريد شيئاً من الأطعمة أو الأدوية أو المنظفات، فطبيعتها الوسواسية دفعتها ومنذ سماعها لأول خبر عن أول إصابة بالكورونا لملئ خزائنها بالمؤن ولشراء أدويتها الدائمة عن عامٍ كامل. لكنها مشتاقة للحديث مع شخصٍ تعرفه، تثق بأخباره، وتفرح لنبرة صوته ومداعباته اللطيفة، اتصلت بسلمى، ابنة صديقتها، وطلبت منها طلباً عجيباً “أرغب بأن تزوريني اليوم يا سلمى، لكن عبر سماعة الانترفون، فأنا خائفة جدا حتى من استقبالك، فلربما نقلت لي العدوى؟” لبّت سلمى دعوة هيام، استغرقت الزيارة عشرين دقيقة، لكن المصيبة أنّ هيام باتت تطالب سلمى بزيارات مماثلة ومتكررة، وسلمى لا تملك وقتاً كافياً ولا أخباراً مطمئنة.
أشارت بعض الدراسات إلى ارتفاع نسب الإصابة بفيروس الكورونا بين الرجال بنسبة تعادل ضعف نسبة إصابة النساء، وقد اعتبرت بعض النساء الكورونا فرصة لتسخر من اهتزاز ثقة الرجال بقوتهم الجسدية في مواجهة فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة،
قوة يتحكم الرجال عبرها بمصائر النساء وبتفاصيل حيواتهن، ليحققوا الهيمنة بحكم القوة الظاهرة والمنسوبة للرجال حصراً، والسلطة بحكم الغلبة الجسدية والنفسية والمجتمعية، لكن هذه القوة تعرضت لاهتزازاتٍ عديدة، اهتزازاتٍ أظهرت خللا ًفي موازين القوى، مفسحةً المجال أمام تراجع قوة ذكورية تقليدية بظهور نمطٍ معزز ٍمن القوة فرضته كورونا بقوة الخوف وبسطوة الحذر الشديد.
وليد رجل خمسيني، يخافُ على صحته جداً، مهووس بالنظافة الشخصية، يزور الحلاق يوم الثلاثاء فقط، لأنه اليوم الذي يلي عطلة الحلاقين، ويذهب باكراً جداً ليكون أول زبون، ليتنعم بمنشفة تم غسلها في يوم العطلة ولم توضع على رأسٍ غير رأسه أبداً، لكنه في زمن الكورونا التزم الجلوس في المنزل، وطالب زوجته بالتسوق وبشراء الخبز وبالحصول على الأدوية والمواد المعقمة من الصيدلية تحديداً لتثبيت جودتها، وانزوى في غرفته يكاد لا يخرج منها، وكلما عادت زوجته من الخارج يطالبها بتعقيم كل شيء، حتى شعر رأسها، وهي تصرفاتٌ فاقمت من مشكلةٍ قديمة عند وليد، تحملتها زوجته تحت إلحاح الواجب كزوجةٍ مخلصة، رغم رفضه لكل طلباتها بضرورة مراجعته لطبيب نفسي، لكنها الآن باتت ممزقة بين حقها بالحياة الكريمة وبين تطرف مواقفه، مما دفعها للتوقف عن تلبية طلباته وتهديده بالذهاب إلى منزل والدتها المتقدمة في العمر، علّه يخفف من أوهامه المرضية ومن معاملتها بدونية غير مقبولة وكأنه مسموح له التضحية بها من أجل بقائه في حالةٍ من الأنانية والعدوانية لا مبرر لها وغير مقبولة. لكنّ وليد بقي أسير مخاوفه وبات حبيس غرفته وأوهامه وفقد كل إمكانيات التواصل حتى مع زوجته.
في الأزمات الكبرى، تتوجه المبادرات والأفكار والآليات نحو الاحتياجات الأكثر شمولية، نحو الخدمات المركزية ونحو الاحتياجات الأكثر أولوية حسب توصيف مراكز معالجة الأزمات.
يعمل غاندي في بيع الألبسة المستعملة، وله زبائن كثر وخاصة من السيدات، لكن قرار الإغلاق شمله وبات محكوماً بالتوقف عن العمل. أربعون يوماً مرت على إغلاق المحل، وما كان متوفراً من مالٍ نفذ، ولم يتبق منه شيئ. غلاء الأسعار يلتهم كل الموارد، والعائلة بحاجة لطعامٍ وشرابٍ ودواء، وتحت عنوان الحماية والحفاظ على الصحة العامة كان من المبّرر ترك الناس دونما مورد، حتى أصحاب الموارد المتوسطة باتوا بلا أي مدخرات، فحياة الفرد هي الأهم وصاحبة الأولوية المطلقة، لكن كيف وبماذا؟ لا أحد يملك جواباً، لأن السؤال نفسه مؤجل ولا يمتلك الأولوية القصوى.
اتصل غاندي بزبائنه، أبدى استعداده لإيصال قطع الملابس إلى بيوتهن، لكنه كان يحتاج لموافقتهن على الشراء أولاً في ظل شح مالي كبير وواسع وفي ظل المخاوف من رفض الزبائن شراء ألبسة مستعملة ربما يرتع الفيروس على سطوحها وبين طياتها. كما أنّه كان محتاجاً لمبادرةٍ من صديقٍ يملك سيارة خاصة لنقل غاندي مع بضاعته مجاناً إلى بيوت الزبائن، وكان له ما سعى إليه. حمل غاندي معه بضاعة كان قد احتفظ بها في منزله قبل الإغلاق، لكن بعد وصوله إلى أبواب بيوت زبائنه اصطدم بقلة الطلب على بضاعته، قطعة أو قطعتان في أكثر حد، والناس محرجة من المفاصلة، إحراجٌ تلمسه غاندي أيضاً وفرض عليه خفض أسعار بضاعته، لكن الرمد أفضل من العمى كما يقال، وما كسبه غاندي اليوم لن يمكنه من شراء بضاعةٍ جديدةٍ بدلاً من التي باعها، لكنه سيوفر عليه عناء الاستدانة من صديق أو قريب، في زمنٍ بات الاقتراض نادراً بل حتى مستحيلاً.
وكما تُرك العجزة منسيين في دورهم دونما احتسابٍ حتى لأعداد المتوفين منهم، ليشكل موتهم بصمت وإهمالهم وكأنهم أضاحي الفيروس الفتاك وصمة تمييز سلبي ضد فئة من المجتمع، وكما تُركت النساء وحدهن لمتابعة مسلسل المظالم الطويل، وكما تُرك الجوعى غارقين في فاقتهم في محاولاتٍ بائسةٍ منهم لترك الشوارع حيث يعيشون، وكما تُرك اللاجئون والنازحون تائهين في غربةٍ مضاعفةٍ، عُرضة للوعيد والتهديد بالترحيل أو بالموت، وكما سُرّح عشرات الآلاف من العمال، وكما تم ترحيل مخالفي الإقامات من عمالٍ أجانب لكنهم فقراء، كذلك نمت في دائرةٍ ضيقةٍ دائرة متفرعة عنها لكنها غارقة في التجاهل والنسيان وكأنها منفية خارج الزمان والمكان، توضحت في تلك الدوائر الضيقة دروب آلام ٍجديدة، مضفورةٍ بالشوك ومسيجةٍ بالعتمة.
وتجد الإشارة إلى أنّ الأزمات بحدّ ذاتها وفي خضم البحث عن حلولٍ لها أو عن كوابح تقلل من فرط مساوئها ُتنسي أصحاب القرار والمبادرات أو القائمين على حلها مرغمين وتحت وقع الصدمة التوجه نحو فئاتٍ لا تصرخ مطالبةً باحتياجاتها الإنسانية والضرورية، ويقيّم المجتمع ومراكز الخدمات والقرار هذه الاحتياجات على أنها احتياجاتٍ ثانويةٍ، مما يؤجل أو يمنع المساعدات عن أفرادٍ وإمكانية الوصول إليهم، وتتفاقم المشاكل أو مواطن النقص البنيوية لتصبح عنفاً صارخاً لا يمكن إنكاره ولا تجاهله أو الامتناع عن مد يد العون لأصحابه. ربما هنا يبرز دور المبادرات الفردية أو المجتمعية، وربما هنا يتوجب الاهتمام أو لفت النظر للفئات الأكثر هشاشة بالبنية النفسية أو بالفئة العمرية أو بحجم الاحتياج من حيث عدد الأفراد أو طبيعة العمل، أو المكان، خاصة عندما يتحول المكان بحد ذاته كمكان السكن أو العمل إلى مصدرٍ للعنف يساهم في تكثيف تغييب الخدمات أو يفاقم من صعوبات الوصول إلى الاحتياجات مهما بدت ثانوية أو قابلة للتأجيل.
وربما هنا تصبح الأزمات الكبرى مجالاً رحباً للإبداع الإنساني الفريد من نوعه والمتميز في أشكاله، في محاولة نوعية لتلبية المسكوت عنه، المخفي أو غير المعلن، لكنه احتياجٌ صارخٌ ولابدّ من تلبيته.
بواسطة Ibrahim Hamidi | أبريل 27, 2020 | غير مصنف
بعد تراخٍ فرضه وباء «كورونا»، جرت الأسبوع الماضي جرعة مكثفة من الاتصالات بين الأطراف المنخرطة في الملف السوري، خصوصاً الدول الثلاث «الضامنة» لمسار آستانة، في محاولة لاستعادة التنسيق الثلاثي، وترميم الشقوق الظاهرة في جداره، إضافة إلى زيارة إيرانية خاطفة لدمشق، بعد «رياح روسية» هبت من موسكو، وخلطت أوراق «الضامنين» في سوريا.
الحملة الإعلامية التي ظهرت في وسائل إعلام روسية مقربة من مراكز القرار كانت لافتة. ومعروف أن هناك تيارين في موسكو: الأول، تمثله وزارة الدفاع وجهاز الاستخبارات العسكرية؛ والثاني، تمثله الخارجية ومراكز أبحاث تدور في فلكها. وغالباً، ما يكون الكرملين هو الفاصل بين الاتجاهين، والمرجح لرأي على آخر.
لا يمكن للحملة؛ مقالات واستبيان رأي جاءت من طرف مؤسسات تابعة لـ«مجموعة فاغنر» أو «طباخ الكرملين»، وجرى «تطعيمها» لاحقاً بمقالات نارية في صحيفة «برافدا» وعلى مواقع فكرية توصف بأنها رصينة؛ أن تأتي من دون غطاء سياسي، خصوصاً في بلد مثل روسيا، حيث لكل إشارة معنى. عليه، فأغلب الظن أن الرسائل الآتية من موسكو تتضمن الضغط إزاء ثلاث مسائل:
الأولى، سياسية – عسكرية، ترتبط بالزيارة الأخيرة لوزير الدفاع سيرغي شويغو، وتتعلق بضرورة التزام دمشق بالاتفاقات العسكرية الموقعة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان، وألا تستجيب دمشق لتشجيع على فتح معركة مع الأتراك وفصائل موالية لهم في شمال غربي سوريا، لأن موسكو ترى علاقتها بأنقرة أكبر استراتيجياً بكثير من إدلب، وأن معارك شمال غربي سوريا قرارها روسي يخص ملفات كبرى.
الثانية، إيرانية – إسرائيلية، أراد فيها الكرملين تذكير دمشق بالتفاهمات الروسية – الإسرائيلية – الأميركية، ورغبة موسكو بتقييد دور إيران في سوريا وتحديد ملامحه، خصوصاً فيما يخص وجود تنظيمات تابعة لإيران في الجنوب السوري، وخاصة في الجولان. وهنا، لا تنفصل هذه الأمور عن «الرسالة الإسرائيلية» التي جاءت لدى استهداف محسوب لسيارة تابعة لـ«حزب الله» على طريق دمشق – بيروت.
الثالثة، اقتصادية – ريعية، تتعلق بتنامي اعتراض شركات روسية وتنظيمات بعضها تابع لـ«فاغنر»، بسبب عدم توفر عائدات مالية موازية للتدخل العسكري، خصوصاً في قطاعات حصص النفط والغاز والصفقات الاقتصادية.
وفي خضم «الرياح الروسية» نحو سوريا، حط وزير الخارجية الإيراني مجمد جواد ظريف في دمشق، والتقى الرئيس بشار الأسد، ثم اتصل الرئيس حسن روحاني بنظيره الروسي. والواضح أن طهران قلقة من ثلاثة تطورات سورياً:
الأول، استبعادها من التفاهمات الروسية – التركية الخاصة بإدلب، المبرمة في 5 مارس (آذار) الماضي. فإيران بالاسم فقط ضمن مسار آستانة، وهي غير منخرطة في الدوريات الروسية – التركية، ولا الترتيبات العسكرية، بل إن اتفاق موسكو الأخير سمح لتركيا بتعزيز قواتها العسكرية إلى نحو 16 ألف عنصر، وآلاف الآليات والدبابات، في شمال غربي سوريا. لذلك، فإن طهران نقلت رأي دمشق إلى موسكو، بضرورة أن يكون اتفاق إدلب مؤقتاً لا يسمح بوجود تركي دائم.
الثاني، الإشارات العربية الآتية إلى دمشق، سواء سعي الجزائر إلى إعادتها إلى الجامعة العربية وفتح دول عربية أخرى أقنية سياسية من بوابة التعاون الإنساني ضد «كورونا»، لـ«إعادة سوريا إلى الحضن العربي ودورها الطبيعي».
الثالث، الغارات الإسرائيلية، واستمرار تل أبيب باستهداف مواقع إيرانية في سوريا، بما في ذلك في البوكمال، قرب حدود العراق وقرب دمشق. والجديد كان قصف «درون» إسرائيلية سيارة لـ«حزب الله» على الطريق بين دمشق وبيروت، التي تعدها إيران امتداداً لطريق طهران – بغداد، إضافة إلى قصف «تنظيمات إيرانية» بالتزامن مع زيارة ظريف إلى دمشق.
تركيا، من جهتها، لديها ثلاثة عناصر قلق استدعت التنسيق الثلاثي. بداية، أعربت عن القلق من جهود أطراف عدة لـ«شرعنة» سياسية لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية التي تعدها أنقرة امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني» المصنف «تنظيماً إرهابياً» لديها. وقد يكون المقصود أميركا التي تدعم «الوحدات» شرق الفرات، أو دمشق التي تقيم علاقة معها. لكن الإشارة تصل إلى موسكو أيضاً التي وسعت وجودها العسكري في القامشلي، وتقيم علاقة طيبة مع الأكراد.
ثانياً، تريد تركيا استعجال موافقة روسيا لتنفيذ البنود الأخرى المتعلقة باتفاق موسكو، خصوصاً ما يتعلق بعودة النازحين إلى بيوتهم في شمال غربي سوريا، وتقديم ضمانات بعدم استهدافهم، وتوفير بنية تحتية لهم، بما يشجع ملايين الناس على الرجوع إلى مناطقهم. ثالثاً، القلق من استمرار جهود دول عربية مع موسكو ودمشق لمواجهة النفوذ التركي في شمال غربي سوريا وشمالها الغربي.
واستدعت هذه التطورات اتصالات بين بوتين وإردوغان وروحاني، ثم اجتماعاً عن بعد لوزراء خارجيتهم، سعياً للحفاظ على نقاط التقاطع بين الدول الثلاث في المسرح السوري، التي يبدو أن مساراتها معرضة للانفصال، أو ربما الصدام، مع مرور الوقت، والاقتراب من المصالح الجوهرية لكل طرف.
**تم نشر نسخة من هذا المقال في «الشرق الأوسط».
بواسطة Syria in a Week Editors | أبريل 27, 2020 | Syria in a Week, غير مصنف
رصاص تركي
26 نيسان/ابريل
قتل شخصان وأصيب سبعة آخرون بجروح وتسمم بالغاز جراء إطلاق الجيش التركي الرصاص الحي والغازات المسيلة للدموع لفك اعتصام على طريق حلب – اللاذقية في محافظة ادلب بشمال سوريا الاحد .
وقال عبد العزيز زياد من “تجمع اعتصام الكرامة” الذي تنظمه فعاليات شعبية وناشطون ضد دخول القوات الروسية الى ريف ادلب ” اقتحمت القوات التركية اعتصام الكرامة برفقة عدد كبير من عناصر الشرطة فجر اليوم بواسطة مدرعات وجرافات وآليات ثقيلة قرب بلدة النيرب في ريف ادلب الشمالي الشرقي قرب مدينة سراقب لطرد المعتصمين بالقوة “.
وبدأ اعتصام الكرامة في 13 من شهر آذار / مارس الماضي احتجاجاً على الاتفاق الروسي التركي في الخامس من آذار /مارس الماضي والذي يقضي بفتح طريق حلب اللاذقية امام مرور دوريات روسية- تركية .
رياح روسية–أوراق سورية
25 نيسان/ابريل
تكثفت في الأيام الأخيرة الاتصالات بين الأطراف الثلاثة «الضامنة» لمسار آستانة، موسكو وأنقرة وطهران، لاستعادة التنسيق بينها بعد «رياح روسية» هبّت على سوريا وخلطت أوراق بين الدول الثلاث.
وأوضح دبلوماسي غربي: «هناك تياران في موسكو: الأول تمثله وزارة الدفاع وجهاز الاستخبارات العسكرية؛ والآخر تمثله وزارة الخارجية ومراكز أبحاث تدور في فلكها. وغالباً ما يكون الكرملين هو الفاصل بين الاتجاهين، والمرجح لرأي على آخر حسب أولوياته»، لافتاً إلى أن الحملة الإعلامية الأخيرة على دمشق، التي جاءت من مؤسسات تابعة لـ«مجموعة فاغنر» أو «طباخ الكرملين»، وجرى «تطعيمها» لاحقاً بمقالات نارية في صحيفة «برافدا» وعلى مواقع فكرية توصف بأنها رصينة؛ لا يمكن أن تأتي من دون غطاء سياسي، خصوصاً في بلد مثل روسيا، حيث لكل إشارة معنى.
وأشار الدبلوماسي إلى ثلاثة أسباب وراء «الرياح الروسية»، تشمل الضغط على دمشق لالتزام الاتفاقات العسكرية بين موسكو وأنقرة حول إدلب وتذكيرها بالتفاهمات الروسية – الإسرائيلية – الأميركية بتقييد دور إيران وتنامي اعتراض شركات روسية وتنظيمات بعضها تابع لـ«فاغنر» بسبب عدم توفر عائدات مالية موازية للتدخل العسكري.
في المقابل، ظهر انزعاج إيراني بسبب عدم المشاركة باتفاق إدلب واستمرار الغارات الإسرائيلية على «مواقع إيرانية» في سوريا كان آخرها قصف «درون» إسرائيلية سيارة لـ«حزب الله» على الطريق بين دمشق وبيروت بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية محمد جواد ظريف إلى دمشق.
رامي مخلوف؟
24 نيسان/ابريل
كشفت مصادر إعلامية سورية، أمس، عن قيام وزارة المالية بحجز أموال شركة تابعة لرامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد.
ونشر موقع «سناك سوريا» نص قرار الحجز لشركة «آبار بتروليوم سيرفيس» المسجلة في بيروت، التي تعمل في صفقات نقل الوقود والمواد النفطية، وقد ورد اسمها في قائمة العقوبات الأميركية. وحسب القرار، فإن الحجز الاحتياطي جاء ضماناً لحقوق خزينة الدولة من الرسوم والغرامات المتوجبة في قضية تعود لعام 2019.
كان مخلوف نفى ارتباطه بالشركة. وقال الموقع: «قرار الحجز الجديد يظهر أنه لا تزال هناك رسوم وغرامات لم يتم تسديدها، ما استدعى الحجز على أموال الشركات والأشخاص الواردة أسماؤهم في القضية». كانت المديرية العامة للجمارك السورية أصدرت قراراً بالحجز على أموال مخلوف، ضمن سلسلة إجراءات اتخذتها دمشق ضد شبكات وشركات تابعة له نهاية العام الماضي.
الجلاد والضحية: تبادل ادوار
23 نيسان/ابريل
بدأت في ألمانيا، أمس، أول محاكمة علنية بالعالم في انتهاكات منسوبة إلى النظام السوري، مع مثول رجلين يعتقد أنهما ضابطان سابقان في الاستخبارات السورية، داخل قفص الاتهام بمحكمة في كوبلنز، في «تبادل للأدوار» مع سجنائهما السابقين.
وقال المحامي السوري أنور البني إنها «أول محاكمة علنية حيادية مستقلة بحق متهمين من النظام بارتكاب جرائم».
وحضر المشتبه به الرئيسي أنور رسلان (57 عاماً) بصفته عقيداً سابقاً في جهاز أمن الدولة، وهو ملاحق بتهمة ارتكاب جريمة ضد الإنسانية. كما حضر إياد الغريب (43 عاماً)، وهو متهم بالتواطؤ بتوقيف متظاهرين واقتيادهم إلى السجن نهاية 2011. وفرّ الشخصان إلى ألمانيا وطلبا اللجوء مثل مئات آلاف السوريين، منذ نحو 9 سنوات. وهما موقوفان منذ 12 فبراير (شباط) 2019.
وبعد سنوات على لقائهم الأول مع سجَّانهم في واحد من أبشع السجون السورية؛ «القسم 251» في دمشق، عاد معتقلون سابقون وواجهوا شبح الماضي في ألمانيا. والأدوار هذه المرة كانت مقلوبة… وجدوا سجَّانَهم السابق؛ الضابطَ في المخابرات رسلان، أنحفَ بكثير مما يتذكرونه، وكانت يداه ترتجفان… بدا مكسوراً خلف الزجاج داخل قاعة المحكمة، وإلى جانبه المتهم الثاني؛ المجنّد السابق، الغريب، الذي غطّى وجهه.
لم ينطق رسلان إلا بكلمتين ليذكر اسمه، وبقية الوقت؛ ساعة وربع الساعة التي استغرقتها تلاوة التهم من قبل الادعاء، جلس بصمت في علبة خشبية بقفص زجاجي، والمدّعي العام يتلو على مسامعه أنه متهم بتعذيب أكثر من 4 آلاف معتقل، وقتل 58 معتقلاً آخرين على الأقل بين أبريل (نيسان) 2011 وسبتمبر (أيلول) 2012. كما قرأ أجزاء من شهادات 24 ضحية. وقال محامي الضحايا لاحقاً إنه وجد الاستماع إليها «مؤلماً».
صحة الشعب السوري؟
22 نيسان/ابريل
سخر مسؤول أميركي من حديث وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال لقائه الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق، أول من أمس، عن حرص طهران على «صحة الشعب السوري».
وقال المبعوث الرئاسي الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري في بيان: «لو كانت إيران مهتمة بالفعل بصحة وسلامة الشعب السوري، لدعمت العملية السياسية في سوريا بقيادة الأمم المتحدة طبقاً لقرار مجلس الأمن 2254. وسحبت قوات الحرس الثوري و(حزب الله)، وغيرهما من القوات الإرهابية المنضوية تحت قيادتها، من جميع أرجاء سوريا، وتقبلت حلاً سياسياً بدلاً من السعي لتحقيق انتصار عسكري وحشي».
وأضاف جيفري أن «مساهمات إيران في سوريا تقتصر فقط على العنف وعدم الاستقرار. ينبغي على نظام الأسد وحلفائه تقبّل إرادة الشعب السوري، الذي يطالب ويستحق العيش في سلام وحرية من القصف، والهجوم بغاز الكلور، والبراميل المتفجرة، والاحتجاز التعسفي، والتجويع».
وأعلنت طهران أن الرئيس الإيراني حسن روحاني قال لنظيره الروسي فلاديمير بوتين في اتصال هاتفي بينهما أمس: «نؤكد ضرورة مواصلة الحوار بين إيران وروسيا وتركيا في إطار مسار آستانة، من أجل العمل على حل أزمات المنطقة».
من جهة أخرى، بحث بوتين مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان في اتصال هاتفي تطورات الأوضاع في سوريا، عشية اجتماع وزاري ثلاثي عبر الفيديو لتنسيق المواقف.
ميدانيا، قتل تسعة عناصر من مجموعات موالية لقوات النظام وحليفتها إيران جراء القصف الإسرائيلي الذي استهدف ليل الاثنين – الثلاثاء منطقة تدمر في وسط سوريا، حسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان». وجاء القصف بعد ساعات من لقاء الأسد وظريف أول من أمس.
صندوق العزلة
21 نيسان/ابريل
بدأت واشنطن شن حملة دبلوماسية مضادة، لمنع الحكومتين الروسية والسورية من الإفادة من وباء «كورونا» في فك العزلة السياسية المفروضة على دمشق وتخفيف العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية.
الموقف الأميركي، وفق مسؤولين غربيين، يقوم على أن «النظام السوري يشن حملة تضليل ممنهجة بدعم روسي لاستغلال (كورونا) وسيلة لتخفيف العقوبات المفروضة عليه رداً على الحرب الشنيعة التي يشنها النظام ضد الشعب السوري. ويزعم أن العقوبات الأميركية تُلحق ضرراً بجهود مواجهة الوباء، مع انتقادات للأمم المتحدة». وحث هؤلاء المسؤولون نظراءهم العرب والأوروبيين على «مواصلة ممارسة الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية لدفع النظام لإحراز التقدم على مسار التسوية السياسية بموجب القرار 2254».
في المقابل، لم توفر موسكو منبراً أممياً أو ثنائياً لم تثر فيه ملف العقوبات والعزلة، لكن برزت في الأيام الأخيرة انتقادات للأسد. ونشرت مواقع روسية مقربة من مركز صنع القرار مقالة لافتة حملت انتقادات لاذعة جديدة، وكتب المقالة السفير الروسي السابق ألكسندر اكسينيوك الذي يعمل حالياً مستشاراً لدى المجلس الروسي للشؤون الدولية، وهو مركز يقدم استشارات لوزارة الخارجية. واللافت أن مقالته نشرت بالتزامن على موقع المركز وعلى الموقع الإلكتروني لـ«نادي فالداي للحوار» الذي أسسه الرئيس فلاديمير بوتين وبات يعد أرقى منتدى للحوار الاستراتيجي في روسيا.
“رسائل قاسية“
20 نيسان/ابريل
فوجئت دمشق بـ«رسائل قاسية» جاءت من وسائل إعلام ومراكز أبحاث روسية، تضمنت تململاً من أداء الرئيس بشار الأسد، وحديثاً عن «تدهور شعبيته»، فضلاً عن «فقدان الثقة» لدى السوريين بأنه سيكون قادراً على تحسين الأحوال في البلاد.
وجاءت في استطلاع مؤسسة تابعة للدولة إشارات لافتة، إذ رأى 37 في المائة تقريباً أن الوضع في البلاد غدا خلال العام الأخير أسوأ من السابق. والأوضح من ذلك كان الرد على سؤال عن استعداد المواطنين لمنح ثقتهم مجدداً للأسد في 2021؛ إذ رفض نحو 54 في المائة ذلك بشكل حاسم، كما أن 23 في المائة فقط وافقوا على ترشيح الأسد مجدداً.
وكانت موسكو قد وجهت «رسائل قوية» إلى دمشق عبر مقالات في وسائل إعلام حكومية. وشكل هجوم شنته أخيراً وكالة «الأنباء الفيدرالية»، وهي مؤسسة ليست حكومية لكنها قريبة من «الكرملين»، أحدث إشارة قوية إلى ذلك.
على صعيد آخر، أُفيد أمس بتجميد قرار فتح «معبر تجاري» بين مناطق سيطرة قوات النظام و«هيئة تحرير الشام» في بلدتي سرمين وسراقب في ريف إدلب.
بواسطة Motaz al-Hinawy | أبريل 26, 2020 | Culture, غير مصنف
آلاف المشاهد تزدحم في ذاكرتي لأصدقاء وأبناء غادروا على عجلٍ دون أن يلتفتوا خلفهم وكأنّ رحلة هروبهم لم تكن إلا لعبة غميضة قصيرة الأمد يلعبونها في زوايا المكان لكنها طالت وامتدت بعيداً إلى أماكن الشتات في كافة أصقاع الأرض. سأروي يوماً قصص الشوق المعلّق على محاجر الأمهات في انتظار أبناءٍ لن يعودوا، أبناءٍ دفنتهم الحرب وغابوا في شقوق الأرض وآخرون غيبهم سراب الطريق الطويل في غربةٍ لا نهاية لها. “لن أتأخر في غيبتي” هكذا أخبروا أحبتهم ظناُ منهم أنّ العودة قريبة، كانوا في لحظتها على ثقةٍ بأنّه رغم كل هذا الرعب والدمار الذي خلفته سنوات الحرب السورية الطويلة لابدّ وأن يحظوا بلحظة وداعٍ أخيرة حرموا منها جميعاً، فكل الحروب تنتهي عاجلاً أم آجلاً. أما اليوم فلم يبق لهم سوى الانتظار، وحده الشتات كان بانتظارهم وحدهم.
كنتُ واحداً ممن غادروا هذه البلاد وعدتُ إليها بعد أن كاد يخنقني الحنين. أقف اليوم عند عتبة بيت جدي مستعيداً ذاكرة طفولة ضبابية كالحلم، وكما في تلك الأيام، أجلس عند موقد النار وألفّ أصابعي بخيوط الصوف السميكة، تلك التي كانت تستخدمها جدتي لتصنع منها فتيلاً لضوء قنديلها، وأتذكرها اليوم كما لو أنّ ما حدث لم ينته بعد. أسترجع صوتها وهي تنادي على عمي كي لا يسافر بعيداً، لتبقى بعدها تردّد بمرارة “لم يعد مجيد يا بني، يبدو أن الشموع التي أضأتها له لم تنفع، آه لو يعود سأشعل له أصابعي إن عاد.”
ألفّ أصابعي الآن وأنا أستعيد مشهد جدتي وهي تحكي لي حكايات الغابات والأنبياء بينما كان مغزل الصوف يدورُ في يدها، أنا الطفل الذي ظنّ وقتها أنها تغزل الخيطان وتخبئها لتلفها ذات يوم على أصابعها وتوقدها احتفاءً بعودة ابنها، لذلك كنت أكرهُ صوف الخراف كثيراً وأبكي كلما رأيت شيئاً يشبهها. لم أرد شيئاً يذكرني بخيوط الصوف حتى لحية جدي البيضاء والطويلة كانت تشعرني بالفزع والخوف، وكم كنت أخاف النار أيضاً، النار التي لا تعني لي سوى احتراق أصابع جدتي، وكي أحميها خطرت ببالي فكرةٌ صغيرة وهي ألّا أدعها تُشعل النار لوحدها أبداً، ومن حينها لا أذكر إن مرّ يومٌ دون أن أكون حارس النار في بيتها، حارساً يحمل أعواد الثقاب بجيبه الصغيرة ويفتح دفتر ذاكرته ليشهد على نارٍ لن تنطفئ بعدها.
في صباحات تلك الأيام البعيدة كنتُ أستيقظ على صوت باب الغرفة الخشبي وهي تشرعه لندى الصباح ورائحة الحبق المزروع في زوايا المكان، ليبدأ يومي بإشعال التنور في الغرفة الصغيرة في قبو البيت، فجدتي كانت تحرص على أن تُعدّ خبزها بنفسها مع فجر كل صباحٍ. كنتُ أرقبها وهي تعارك وعاء العجين ملثمة بشالها الأبيض كما لو أنها كانت فارساً يخوض معركةً عنيفةً، بينما كنتُ أجلس بالقرب منها لأدفع ببقايا القش وأوراق البلوط تحت نار الموقد كي لا تخمد. لا يمكن أن أنسى مشهد الضوء المتسلل من الشباك الصغير في أعلى الغرفة الحجرية وهو يمتزج بدخان الموقد ورائحة الخبز مشكلاً فضاءً ممتداً لخيال طفل أدهشته ألاعيب الضوء والدخان، وكالجنية في الحكايا كنت أخالها تحاكي أحداً ما أو ترقص معه وهي تلوّح بكلتا يديها بأرغفة الخبز وكأنهما جناحا حمامة، ضاربة أكفها تارة على خشبة أمامها وتارة أخرى على صاج الخبز بجانبها، كم كنت سعيداً وأنا أسترق النظر محدّقاً بأصابعها الصغيرة لأتأكد أنها بخير.
كنتُ أحرصُ على إبقاء النار متقدة ًفي بيتها كل يوم خوفاً من أن تُشعل أصابعها في غفلةٍ مني، فأدورُ حول نار الغسيل ونار الطبخ ونار الشتاء كفراشةٍ تحتفي باللهيب لأشعلها بدلاً عنها. من خوفي على أصابعها أخذت على عاتقي حتى إشعال البخور في ليالي الصيف الحارة لطرد الحشرات من غرفتها، “لن أدعها تمس النار” كنت أهمس في داخلي وأردد “أنا حارس النار …أنا حارس النار”.
لا أتذكر إن مرّ يومٌ في طفولتي دون نارٍ، لكني فزعت ذات يوم عندما انتبهت أن خيوط الصوف تملأ البيت، خيوط طرزتها على شبابيك غرفتها وعلى أطراف السرير، شالات خبأتها في رفوف خزانتها، معطف جدي، إطار الصورة المعلقة لعمي مجيد، بساط الغرفة المصبوغ بالأحمر، وسادة نومها، وحتى مقابض الأبواب ومعطفي الدافئ، وحدها أصابعها كانت عارية من خيوط الصوف، لم أنتبه في غفلة دهشتي أنها ربطت جديلتها أيضاً بعقد صوفيّ مطرز يتدلى على أكتافها وعنقها ويمتد حتى أسفل ظهرها.
في آخر أيامها وقبل أن تتيبس عظام مفاصلها رأيتها تمسك صندوقاً صغيراً وتنزل به القبو عبر الدرج، وما إن شممت رائحة الدخان تنبعث من غرفة التنور حتى هُرعت صوبها لأجدها جالسةً بجانب الموقد وقد فتحت الصندوق وبدأت بإحراق كتبٍ ودفاتر كانت كل ما بقي لها من رائحة ولدها الغائب. وقفتُ متجمداً عند الباب فاللحظة التي كنت أخافها دائما قد أتت، كان الصمت رهيباً في الغرفة والدخان الكثيف المنبعث من الموقد قد حوّل المكان لمسرحٍ كبيرٍ مفتوح على كل المشاهد والأسئلة، وحدهما عيناي كانتا مسمّرتين على يديها في انتظارٍ وخوفٍ أوقف الهواء في حنجرتي، لم أدر كم من الوقت مرّ حينها وكل ما أذكره بعد ذلك أنها وبعد أن خمدت النار ضمتني إلى صدرها وأطلقت أصوات حنجرتها المكبوتة منذ زمن لنحيبٍ طويل.
جدتي التي أضرمت النار في طفولتي ذات يوم، قالت لي وهي على فراش الموت هامسة في أذني: “عندما أموت قُصّ ضفيرتي الملفوفة بعقد الصوف وأشعلها عندما يعود مجيد.”