صالات الفن التشكيلي في سوريا: تعافي بطيء ومبيعات متدنية

صالات الفن التشكيلي في سوريا: تعافي بطيء ومبيعات متدنية

توجد علاقة توثيقية وطيدة بين الفن والحرب، فلوحات شهيرة كلوحة معركة الإسكندر الأكبر للفنان الألماني ألبرخت ألتدورفر (1480-1538) سجلت لنا ذكرى أحداث حربية هامة في تاريخ البشرية. ولكن بالرغم من الأهمية البارزة للفن التشكيلي بالتعبير عن معاناة البشر زمن النزاعات المسلحة، نجد أنه يتأثر بشدة بآثار الحرب مثل انكفاء الرسامين عن العمل، أو إغلاق المعارض ودمارها، أو نهب الإنتاجات الإبداعية. وفي الوقت الذي ترتهن حركة شراء اللوحات الفنية بالقدرة الشرائية لمواطني البلاد، نلاحظ تراجعها عندما تشهد الأخيرة انهيار اقتصادي وعقوبات الاقتصادية كما حصل في سوريا. في هذا التقرير، أسلط الضوء على واقع بيع اللوحات الفنية في دمشق في الزمن الراهن وبالمقارنة مع الفترة التي سبقت سنة ٢٠١١ وأحداث “الربيع العربي.” وأستعرض الأسباب والظروف التي أدت إلى استرداد عافية بعض صالات العرض الفنية في سوريا، وكيف تؤثر تسعيرة الدولار على السوق المحلي وعلى السعي إلى إيجاد سوق للبيع في دول الخليج العربي. أختتم التقرير بمناقشة البيع الإلكتروني ومستقبل الفن التشكيلي. 

واقع بيع اللوحات الفنية في دمشق 

يشرح الرسام عصام درويش صاحب غالوري “عشتار” و”فاتح المدرس” وضع صالات العرض في سوريا: “اضطرت عدة صالات عرض إلى إغلاق أبوابها خلال سنوات الحرب، وذلك بسبب غياب عنصر الأمان وسقوط القذائف المستمرة الذي يهدد وجودها”. ويضيف: “تعد صالة عشتار من أكثر الصالات التي صمدت تقريباً، ومع ذلك أجُبرت على إغلاقها لمدة سبع سنوات بسبب انعدام حالة الأمان وتداعيات الحرب، فقد كانت القذائف تسقط من كل حدب وصوب نظراً لموقع الصالة في العدوي بالقرب من جوبر التي كانت تدور فيها المعارك، كما أن الجو العام لم يكن يسمح بإقامة المعارض نتيجة المناخ المشحون والمليء بالموت والدماء”. 

وفيما يتعلق بأعماله الفنية، فيشير درويش إلى تغير ملموس وواضح في مسارها من أجواء تصور الحياة بشكل رومانسي قبل الحرب إلى تحولات جذرية في السنوات الأخيرة  تركز على واقع الحرب والتشوهات النفسية والجسدية مثل إنتاجات تُركز على رسم “البورتريهات” والوجوه البائسة والمعذبة والرافضة والمحتجة والخائفة.

استرداد عافية صالات العرض

بدأت صالات الفن التشكيلي تسترد عافيتها مع حلول عام 2019، عند إعلان انتهاء المعارك العسكرية في دمشق وعودة الاستقرار نسبياً إلى العاصمة، يقول درويش:” في السابق كانت معارضي التي كنت أنظمها تتراوح بين 12-20 معرضاً في السنة الواحدة، استضيف فيها أعمال الفنانين، لكني انقطعتُ سبع سنوات متواصلة، وتزامن ذلك مع انخفاض عدد المعارض ومراكز الفنون، إضافة إلى انكماش أعداد مقتني اللوحات وخفوت حضور الفنانين العرب والأجانب بشكل كبير خلال سنوات الحرب”.

وللصدفة في اليوم الذي أعيد فيه فتح صالة “فاتح المدرس” الموجودة في نادي الشرق (منتصف دمشق) سقطت بجوارها على بعد 200 متر آخر قذيفة وكأنها إعلان غير رسمي لانتهاء العمليات العسكرية. ويعلق درويش: “بدأت صالات العرض باستعادة نشاطها منذ 3 سنوات، لكنه تراجع عند وصول جائحة كورونا التي تركت أثرها على حراك الفن التشكيلي شأنها شأن القطاعات الأخرى، المميز أن جمهور المعرض كان كبيراً ومحتشداً وكأنه كان متعطشاً لرشفة فن”. ويوضح أن حركة الشراء في عام 2019 ومنتصف 2020 كانت نشطة وقوية جداً لدرجة أنها من أكثر المراحل التي زادت فيها مبيعات درويش، لكنها حركة الشراء انتكست من جديد بسبب جائحة كورونا. 

ومن جهة أخرى، فقد استعادت “غالوري جورج كامل” نشاطها في وقت أبكر من سابقتها. ويتحدث جورج كامل عن حركة المبيع لصالته التي تأسست عام 2008: “أقمتُ في شهر كانون الأول عام 2021 معرضاً جماعياً يضم قرابة 75 عملاً فنياً والعديد من الفنانين الرواد والكبار من أجيال مختلفة، كنذير نبعة وليلي نصير والياس زياد وأدهم إسماعيل ونعيم إسماعيل ومصطفى الحلاج وفاتح المدرس.” ويشير كامل إلى توقف نشاط الصالة كلياً بسبب الأوضاع الأمنية بين عامي 2012 ـ 2015، ليعود نشاط الصالة إلى العمل بعد هذا العام مكملاً لغاية الوقت الراهن بمعدل ما يقارب 6ـ8 معارض سنوياً”.

يلفت كامل إلى أن معرضه قبل سنوات الحرب كان يعيش مرحلة ذهبية لغاية عام 2012، حيث كان يحتضن حوالي 8 معارض في الفترة الممتدة بين أيلول وحزيران، بينما تُنطم في بقية الشهور ورش عمل ودورات رسم ونحت وعرض مقتنيات للزوار الأجانب والعرب المقيمين خارج سوريا.

وتجدر الإشارة إلى أن إقامة المعارض بعد فترة الانقطاع لا تعني بالضرورة حصول حركة شراء، وعن ذلك يوضح كامل: “نسبة المبيعات قليلة جداً وتقارب حوالي 1%، حركة الشراء كانت تقتصر على تغطية أجور الصالة التي تصل إلى 35% ورواتب الموظفين والنفقات الأساسية، هناك أولويات تحكم الناس كالطعام والشراب قبل اقتناء اللوحات، أما البيع عبر الإنترنت فلم يتجاوز نسبة 1 من الألف، والمشاركات السورية خارج البلاد كانت محدودة.”

تسعيرة الدولار

تخضع تسعيرة لوحات الفن التشكيلي لعملة الدولار الأمريكية المتداولة في معظم أنحاء العالم، وذلك وفقاً للجهد والوقت المبذولين لإنتاج العمل الفني، إلى جانب تكلفة المواد المستخدمة، ويشرح درويش: “البيع خارج سورية غير ميسر على الدوام، ولو كان متوفر، لفضله غالبية الفنانين على البيع في الداخل، وذلك بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، فحين يحدد صاحب العمل الفني سعر لوحته لبيعها خارج البلاد بقيمة تصل إلى 6 آلاف دولار، لا يمكنه وضع التسعيرة ذاتها في سوريا خاصة بعد انهيار الليرة السورية. مما يضطر الفنان إلى تقليص التسعيرة إلى النصف أو أقل، فيقع الفنان بين خيارين شديدا الصعوبة.” ويوضح كامل أن تحديد سعر اللوحة يتم بالليرة السورية حصراً، وتصل أسعار اللوحات في صالته بين 200 ـ 800 ألف ليرة سورية.

سوق الخليج الرائج

يلفت درويش إلى تناقص أعداد صالات العرض جراء الحرب، فلم يبق منها الآن إلا ما يقارب 10 صالات فقط، نتيجة توقف نشاط البعض منها كلياً أو تعرضها للتدمير. كما هاجر العديد من المسؤولين عن هذه الصالات والفنانين منذ بداية النزاع بسبب الوضع الأمني والاقتصادي وندرة المعارض وتراجع عدد مقتني الأعمال الفنية، فقرروا الاستقرار في الخارج، حيث حركة الشراء أكبر ومنسوب الأمان والاستقرار أعلى، ولتوفر جهات ممولة لنفقات المعارض.

لطالما اتجهت أنظار الفنانين السوريين نحو سوق الخليج لبيع أعمالهم الفنية، وذلك بسبب استثمار الأثرياء العرب في سوق اللوحات الفنية بمبالغ طائلة، لكن هذا التوجه تضاعف بشدة خلال سنوات الحرب للتعويض عن حجم الخسارة وإنعاش حراك الفن التشكيلي، ويوضح درويش: “أنتج حوالي عشرة أعمال فنية في العام الواحد، ويُعد سوق الخليج ودبي بالتحديد أحد أهم قنوات التصريف ونافذة بيع أساسية وهامة.” ويلفت صاحب غاليري “عشتار” النظر إلى انتشار ظاهرة “المقتنيات الفنية” قبل 2011 واستمرارها خلال سنوات الحرب. وتشير هذه الظاهرة إلى استضافة الرسامين المشهورين في أحد الملتقيات الثقافية من قبل أحد ذواقي الفن ممن يملك ثروة كبيرة. ويقوم هذا الذواق عادةً بدعوة الفنانين إلى إنجاز أعمال فنية منفردة مقابل مبلغ مالي رمزي، ثم يجمعها ويحتفظ بها انطلاقاً من الإيمان بدور الفن في الحياة وبهدف نشر ثقافة الفن التشكيلي.

البيع الإلكتروني

أثرت جائحة “كورونا” على حركة البيع والتجارة عموماً وتوقف نشاط المعارض بسبب إغلاق الحدود وإيقاف الرحلات الجوية، فكان خيار التسويق الإلكتروني أحد البدائل الجيدة للحد من الأثار الاقتصادية للجائحة. وكمثال على البيع الالكتروني، اتخذ الفنان التشكيلي علي داغر من مواقع التواصل الاجتماعي منصة للتسويق، لا سيما بعد انتقاله إلى بيروت، ويقول عن تجربته: “لجأتُ إلى إقامة معارض أون لاين، للأهمية الكبيرة التي تتمتع بها السوشال ميديا خاصة زمن جائحة كورونا وفترة الحظر، ولقدرة هذه الوسائل على الوصول إلى شرائح واسعة وبكلفة أقل توفر تكاليف حجز المعارض المكلفة”.

هذه المادة منشورة في جدلية

المسبح المتنقل .. ملاذ الأطفال النازحين من حر الصيف

المسبح المتنقل .. ملاذ الأطفال النازحين من حر الصيف

ضحكات الأطفال وصيحاتهم تبدد كآبة المخيم وأهله، الذين يشاهدونهم وهم يسبحون ويتراشقون بالمياه داخل سيارة “المسبح المتنقل” التي تزورهم بين الحين والآخر، لتخفف عنهم لهيب حر الصيف، في ظل ارتفاع درجات الحرارة وانعدام كافة المرافق الترفيهية.

وأطلق عدد من أصحاب السيارات مبادرة “المسبح المتنقل” في المخيمات بإدلب بهدف إسعاد الأطفال وتسليتهم، والترويح عن أنفسهم، في ظل الحر الشديد، ومعاناة أهالي المخيمات من قلة المياه وافتقارهم لكافة وسائل التبريد .

عبد الحميد الابراهيم (45 عاماً) نازح من مدينة معرة النعمان إلى مخيم كفرعروق بريف إدلب الشمالي، أحد أصحاب مبادرة المسبح المتنقل، يتحدث عنها بالقول: “تفتقر المخيمات للنشاطات التي تخص الأطفال، لذلك قررت أن أساهم في زرع الابتسامة على وجوههم، وخاصة أنني أمتلك سيارة شحن هي مصدر الرزق الوحيد بالنسبة لي، ولكنني أخصصها للأطفال في أيام العطل وأوقات الفراغ، حيث أعمل على وضع عازل من النايلون في صندوق السيارة الخلفي، ثم أعمل على تعبئتها بالمياه، وأركنها في ساحة المخيم ليتسنى للأطفال السباحة فيها.”

ويؤكد الابراهيم أنه يشتري المياه على نفقته الخاصة، لكنه لا يتقاضى من الأطفال أي أجر مادي مقابل السباحة، وحول ذلك يضيف: ” تكفيني رؤية الفرح والسعادة على وجوه الأطفال الذين حرمتهم الحرب من كافة حقوقهم، وفرض عليهم النزوح واقعاً معيشياً صعباً يفتقد كافة مقومات العيش الكريم .”

من جانبه يقصد مروان العلوش (26 عاماً) وهو نازح من مدينة سراقب إلى مدينة إدلب، بسيارته التي حولها إلى مسبح متنقل، المخيمات القريبة من مكان إقامته لتسلية الأطفال، وعن ذلك يقول: “في مثل هذه الأيام من كل عام يقصد أهالي إدلب المنتزهات والمسابح بغرض الترويح عن النفس والاستجمام، ولكن ارتفاع الأسعار يمنع أصحاب الدخل المحدود ومعظم النازحين من ارتيادها، لذا قررت المساهمة في هذه المبادرة بدافع إنساني، يدفعني إلى ذلك حبي للأطفال.”

ويشير مروان إلى أنه ينظم دور السباحة للأطفال، ويتيح لهم المشاركة بمسابقات وتحديات لإسعادهم وتحفيزهم .

ويلفت العلوش أن هذه المسابح تعفي الأطفال من عناء التنقل، وتحميهم من مخاطر السباحة في المسطحات المائية الملوثة التي تشكل خطراً على حياتهم.

يستعد الطفل أحمد العوني(10 سنوات) للسباحة مع أصدقائه، وما إن تصل السيارة المسبح حتى يهرع إليها مع العديد من الأطفال بكثير من البهجة والحماسة.

يتحدث الطفل أحمد لـ“صالون سوريا “عن فرحته بالسباحة قائلا: “نعيش في هذا المخيم العشوائي الذي تنعدم فيه وسائل التسلية والترفيه، ولا قدرة لنا على ارتياد المسابح الخاصة خلال فصل الصيف بسبب ارتفاع أجرة السباحة فيها، إلى جانب خوفنا من الغرق، والحاجة لوسيلة نقل تزيد التكاليف علينا، لذا وجدنا في المسابح المتنقلة فكرة جيدة وممتعة، تخرجنا ولو قليلاً من الملل وتنسينا قسوة واقعنا .”

الطفل سالم الصالح (12 عاماً) النازح من بلدة تلمنس إلى مخيم السكة في بلدة حربنوش، يؤكد صعوبة تحمل الحر داخل الخيام، وعن ذلك يقول: “في أوقات الظهيرة أقصد مع أخوتي ظلال الأشجار القريبة من المخيم هرباً من الحر، ونضع المناشف المبللة على رؤوسنا، لذا نكون في غاية السعادة حين نشاهد سيارة المسبح المتنقل، ونقضي فيها أجمل الأوقات، كما تتيح لي الفرصة لممارسة هواية السباحة المحببة إلى قلبي .”

ويشكو سكان المخيمات من الحرارة الخانقة التي تؤثر على الأطفال بشكل خاص، لذا تساهم مبادرة المسابح المتنقل التطوعية بإدخال الفرح والسرور إلى قلوبهم، واستيعاب الأطفال الراغبين بممارسة رياضة السباحة، والتخفيف من وطأة حرّ الصيف.

للمرة الأولى، سندات الخزينة في سوق دمشق للأوراق المالية 

للمرة الأولى، سندات الخزينة في سوق دمشق للأوراق المالية 

سمحت وزارة المالية يوم الثامن من آب/أغسطس 2022 للمرة الأولى بتداول الأوراق المالية الحكومية في سوق دمشق للأوراق المالية للاكتتاب على سندات خزينة بأجل لمدة سنتين، وبنطاق إصدار مستهدف بقيمة 300 مليار ل.س (قرابة 119 مليون دولار أمريكي).

ويحق لشركات الوساطة المالية المشاركة بالمزادات والمصارف العاملة والمؤهلة للاكتتاب على هذه السندات وللأفراد الطبيعيين والاعتباريين المشاركة في المزاد من خلال فتح حساب لدى أي من الشركات أو المصارف المذكورة، بحسب بيان وزاري نقلته وكالة “سانا” للأنباء.

ووفقاً لقانون الأوراق المالية الحكومية الصادر بموجب المرسوم التشريعي 60 لعام 2007، فإن الأوراق المالية الحكومية هي أذونات وسندات الخزينة والأدوات المالية الإسلامية الصادرة عن وزارة المالية التي تسجل قيمتها الاسمية باسم المالك في السجل. ‏

وتعرّف أذونات الخزينة على أنها أوراق دين حكومية قصيرة الأجل لا يتجاوز تاريخ استحقاقها السنة، ‏في حين أن سندات الخزينة هي أوراق دين حكومية متوسطة وطويلة الأجل مدة استحقاقها أطول من سنة، ولا تتجاوز 30 سنة. ‏

وبحسب المادة العاشرة من القانون ذاته، يقتصر الاقتراض الحكومي بواسطة الأوراق المالية الحكومية على أغراض ‏تمويل عجز الموازنة العامة، وتمويل المشاريع ذات الأولوية الوطنية المدرجة في الخطط العامة للدولة، وتوفير التمويل اللازم لمواجهة الكوارث وحالات الطوارئ، ‏ وتسديد ديون مستحقة على الحكومة؛ بما فيها استبدال الدين العام القائم بأوراق مالية حكومية قابلة للتداول، ‏وإدارة السيولة الحكومية قصيرة الأجل. ‏

من جهتها، رأت وزيرة الاقتصاد والتجارة السابقة الدكتورة لمياء عاصي في تصريح لصحيفة “تشرين” المحلية أن لجوء وزارة المالية إلى استعمال أدوات الدين الحكومي، وإقامة مزادات لسندات أو أذونات خزينة، هو لتمويل المشاريع الإنمائية أو الإنفاق الاستثماري للموازنة العامة للدولة على أسس حقيقية وغير تضخمية، وكذلك لمعالجة عجز الموازنة لعام 2022، الذي بلغ 4,118 مليار ل.س

وأضافت عاصي أن السماح بتداول سندات الخزينة في سوق الأوراق المالية، “يسهل تسييلها وبيعها حسب احتياجات المستثمرين المالية وعدم انتظار موعد استحقاق هذه السندات، ما شأنه أن يحسن مرونة اقتناءها”، لكن الخطر الرئيس للاستثمار بالسندات هو المعدل المرتفع للتضخم، الذي قد يستطيع أن يأكل العائدات، ولن يحتفظ بالقوة الشرائية نفسها التي كانت للأموال وقت شراء السند.

وكانت “وزارة المالية” السورية أعلنت في كانون الأول/ديسمبر 2021 عن روزنامة إصداراتها للأوراق المالية الحكومية (سندات الخزينة) للعام 2022، بقيمة إجمالية 600 مليار ل.س (238,9 مليون دولار حسب سعر الصرف الرسمي المحدد بـ 2512 ل.س) عبر أربعة مزادات، بهدف تمويل المشاريع الاستثمارية للقطاع العام، وذلك من خلال التمويل المتوافر لدى المصارف العاملة في سورية، أو لدى الأفراد عن طرق فتح حسابات لدى هذه المصارف، بحسب بيان الوزارة على “فيسبوك”.

وفي هذا السياق، يبيّن أستاذ الاقتصاد د. مهيب صالحة، عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة العربية الدولية سابقاً، لـ”صالون سوريا” أن الاقتصاد السوري يعاني حالياً من التضخم الركودي؛ أي الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار مصحوباً بالركود الذي هو تدهور المؤشرات الاقتصادية الإنتاجية، وتراجع مؤشرات الاستثمار وارتفاع معدلات البطالة”.

كما يعاني الاقتصاد السوري أيضاً من استهلاك احتياطي الدولة من العملات الأجنبية مع توقف التصدير، وزيادة الاستيراد خصوصاً للطاقة والسلع الأساسية، بحسب د.صالحة.

ويوضح د. صالحة أن هذه المزادات ستسحب أكثر من نصف تريليون ل. س من السوق؛ ما قد يخفف من حدة التضخم فيها على المدى غير القريب، وربما تكون آثاره محدودة للغاية لأن عوامل التضخم في سورية لا تتوقف فقط على فائض الكتلة النقدية عن الكتلة السلعية في السوق؛ إنما على عوامل أخرى كتدهور سعر صرف الليرة والاحتكار، والتصدير من تحت الفائض لتأمين القطع الأجنبي. 

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحزمة من الإصدارات للأوراق المالية الحكومية هي التجربة الثالثة في تاريخ وزارة المالية بعد تجربة عام 2010، حيث أُجري فيها سبعة إصدارات للأوراق المالية الحكومية وتجربة عام 2020، ونُفذ فيها إصداران لسندات الخزينة استناداً إلى المرسوم 60 لعام 2007 الناظم لإصدار الأوراق المالية الحكومية في سورية، طبقاً لبيان “المالية”.

ويؤكد الخبير الاقتصادي أن طرح سندات حكومية في الوقت الحاضر من دون أن تصاحبه سياسات اقتصادية تحفّز الاستثمار وترشّد الانفاق العام، وتخفّض هدر الموارد وبخاصة البشرية والرأسمالية يؤدي إلى إضعاف الائتمان المصرفي وتمويل المشروعات الاستثمارية؛ علاوة على الآثار السلبية على أسعار الفائدة بالنسبة للأنواع الأخرى من الأصول المالية لأن الاستثمار في السندات الحكومية أقل خطراً، ما يترك ضغوطات على التراكم الرأسمالي، ومن ثم المزيد من الركود الاقتصادي من دون كبح جماح التضخم.

ولمواجهة الآثار السلبية المحتملة، يقترح أستاذ الاقتصاد د. مهيب صالحة إدارة الدين العام بطريقة اقتصادية، وإدارة ضريبية فعالة من جهة، وتنشيط الاستثمار في القطاع الخاص ونقل عبء التنمية إليه، “فمن دون ذلك سيتفاقم الدين العام، وسيدفع الاقتصاد والمواطنون ثمن عواقبه طويلة الأجل”.

جولة في بيت جدي بمدينة إدلب

جولة في بيت جدي بمدينة إدلب

في إحدى حارات مدينة إدلب الضيقة، يختبئ متجر هيثم أبو راشد الذي سمّاه بـ”بيت جدي” ، الذي ما أن تدخله حتى تهرب من المزاج العام المثقل بهموم الحياة وتأمين القوت اليومي في مدينة يقبع غالبية أهلها تحت خط الفقر، إلى عبق الماضي والتراث السوري القديم.

يستعين أبو راشد بالموسيقا لتساعده في نقل رواد محله بعيداً عن الواقع، فتعلو أصوات الأغاني التراثية القديمة من مذياعه القديم دائماً، لتطرب زائري متجره من المدفوعين بالفضول لاستكشاف “الأنتيكا”، إضافة لأولئك المتشوقين لرؤية التحف القديمة والحنين للأيام كان يرون مثل تلك القطع في بيوت أجدادهم التي خسروها بسبب الحرب.

أما الراغبين بالشراء، فهم قلة فقط، ولا يكتف الزوار بالمشاهدة فقط، و انما يقوم أغلبهم بالتقاط الصور التذكارية للمقتنيات.

ينغمس  أبو راشد بالأحاديث مع  رواد محله وهو يشرح لهم عن القطع الموجودة، وفي حال خلو محله، يجلس بين رفوف تتوزع داخل محله وتضم صوانٍ نحاسية وخناجر مزخرفة تجاورها المسابح العاجية والتحف الخزفية، ليتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يتفحص مجموعات خاصة بجامعي التحف والمهتمين بـحفظ التراث السوري، والهدف الأول منها بحسب أبو راشد هو المحافظة على ما تلتهمه الحرب من تراثنا.

يتشارك جامعي التحف عبر تلك المجموعات صور مقتنياتهم ومعلوماتهم عنها، كما يبحثون من خلالها  عن قطع ناقصة من الأطقم النادرة، أو يعرضون قطعًا مميزة وقعت صدفة بيد أحدهم، أو ورثها عن اجداده دون معرفة قيمتها، فربما تكون القطعة الوحيدة التي نجت من بيت إحدى الجدات التي نزحت مع ذويها من مسقط راسها، بالإضافة إلى ذلك يتبادل بعضهم القطع التي تستهويهم، أما هدف أبو راشد من الانضمام لهذه المجموعات، فهو البحث عن قطع جديدة يضيفها إلى مجموعته، وخاصة القطع النادرة.

يقول أبو راشد لـ”صالون سوريا”: “رغم تخرجي من كلية الحقوق، لكني هجرت مهنة المحاماة مع بدء سنين الحرب، وحولت هوايتي في جمع القطع الأثرية لمهنة، وفتحت متجر بيت جدي لبيع الأنتيكا والقطع الأثرية في عام 2015، حيث بدأت بداية بالقطع التي ورثتها عن والدي، حتى أصبحت اليوم أمتلك حوالي 7000 قطعة مختلفة الأحجام، قمت بجمعها على مدار سنوات من العمل”.

وتتنوع القطع لدى أبو راشد من دلات القهوة العربية والصواني والفناجين النحاسية والرحى الحجرية التي كانت تستخدم في طحن الحبوب، إلى المهباج الذي كان يستخدم في صناعة القهوة العربية (القهوة المرة حيث يطحن البن والهال فيه)

بالإضافة إلى السبح والالبسة التراثية والشمعدانات والتحف الزجاجية والنحاسية وآلات الموسيقية، كبيانو قديم وعود وكمان، ومجموعة الأسلحة التقليدية المكونة من الخناجر والسيوف الدمشقية والبنادق اليدوية، ومدفع الهاون العثماني النحاسي الذي يفوق عمره قرنين من الزمن، وتعد المجموعة الأسلحة هي الأكثر شعبية بحسب قوله.

عن أسعار القطع يقول أبو راشد “لا يوجد لها ثمن محدد، فهي تخضع للعرض والطلب على السوق ،وهذا ما يؤثر  سلباً على تجارتي، لكني لا أكترث كثيراً بهذا الأمر، لأن هدفي من المتجر لا يقتصر على الربح المادي فقط، انما ايضاً للحفاظ على ميراث الأجداد ، وحماية االتراث السوري من الاندثار، ولا سيما إن سوريا هي بلد قدم الكثير للتراث الإنساني، فمنه خرجت أول أبجدية للعالم وحضارات تدمر وإبيلا وماري شاهدة على تراثنا الذي يجب المحافظة عليه”.

ويشير أبو راشد إلى أن زبائن متجره هم أيضاً من هواة ومحبي المقتنيات القديمة، وهم على دراية بقيمة التحف ولا يشترونها عن عبث، ولهذا فهم يدفعون فيها مبالغ مالية مناسبة.

القت الحرب بظلالها على مهنة أبو راشد كما فعلت بعموم البلاد، حيث منع تقطيع أوصال البلاد أبو راشد من التنقل بين المحافظات لجمع القطع الأثرية كما كان يفعل قبلاً، كما حرمت الحرب متجر أبو راشد من زيارة السياح الأجانب والمغتربين الذين يكونون عادة الزبائن الرئيسين لهذه التجارات.

خالد المحمود، أحد زبائن أبو راشد، يعرف عن نفسه بانه غاو لجمع القطع الأثرية، لذلك يأتي لمحل “بيت جدي” بشكل دوري للاطلاع على القطع الأثرية، يقول خالد “زيارة متجر أبو راشد هي معراج للذكريات والمشاعر التي فقدت جزءاً كبيراً منها بعد تهجيري من مدينة حمص لإدلب، وعندما تعرفت على هذا المتجر بالصدفة، أصبحت أزوره بشكل دوري رغم عدم قدرتي على شراء أي من القطع الموجودة، لكني آتي لرؤية القطع الجديدة وتصويرها وحفظها على مجلد خاص لدي خوفاً من فقدان تلك القطع وعدم قدرتي على رؤيتها مجدداً”.

ورغم صعوبة مهنة أبو راشد، واعتبار العديد من أهالي المنطقة لتجارته “بالرفاهية” التي لا يستطيع الكثير مجاراتها، والأعباء الاقتصادية التي يتحملها، إلا أن خيار ترك المهنة التي بدأها منذ سبع سنوات هو خيار غير مطروح بالنسبة له بسبب حبه للقطع الأثرية،  

سوريون يؤسسون متاحفهم الخاصة بعيداً عن ضجيج الحرب

سوريون يؤسسون متاحفهم الخاصة بعيداً عن ضجيج الحرب

في منطقة “ببيلا” الخارجة منذ سنوات قليلة من حرب قاسية، وبُعيد الشاخصة المرحبة بالقادمين توقنا أمام باب معدني كبير خلفه يقبع بناء من ثلاث طوابق، وبمجرد اقترابك منه ستشعر بالتأكيد أنك غادرت المكان والزمان، لا شيئ سيذكرك بأنك في العام 2022 إلا مشاهد الدمار التي تكشفها النوافذ.

هنا أسس خليل عبدالله متحفه الخاص، و جمع فيه مئات القطع القديمة التي تعكس تاريخ دمشق خاصة وسورية عامة، وبين القطع العديدة ستسمع حكايات أعراس ريف دمشق، ومجوهرات سيداتها، إضافة لمجالس رجال الحارة وسيوفهم القديمة وخناجرهم، ولا ننسى مصبات القهوة وسهرات المذياع وصناديق السمع، وأول الدرشات الهاتفية بهواتف “القرص”.

يخبرنا خليل بأنه بدأ بجمع التحف كهواية من أربعين سنة، ومع بداية الحرب في ببيلا قام بإخلاء البناء كاملاً، وبقيت التحف حوالي السبع سنوات في مكان آمن داخل العاصمة.

وعن بناء المتحف يوضح الرجل الستيني ”اشتريت قطعة أرض في ببيلا منذ سنوات عديدة، وقررت إنشاء بناء فيها أحوله إلى متحف، بعدما ضاق منزلي بالتحف العديدة التي أملكها“.

 يرفض عبدالله -الذي كان يعمل سابقاً بالشحن بين الدول العربية- بيع القطع التي يمتلكها خاصة وأنه حصل عليها بعد جولات عديدة في مختلف المحافظات السورية، كما اشترى الكثير منها من دول أوروبية، ودول عربية أيضاً.

نجح متحفه في استقطاب الكثير من الشخصيات الهامة ووسائل الاعلام، كما يستقبل عبدالله كل من يرغب بزيارة المكان بوجه بشوش، ولكنه يرفض أن يكون متحفه مأجور فهو يخاف على مقتنياته، ولا يمكنه ترك المكان مفتوحاً أمام أعداد كبيرة.

يقول عبد الله ”حتى اليوم لم أكتف من جمع المقتنيات ومازالت أسعى للمزيد، لكن صعوبة تأمين البنزين جعلت من العسير علي التنقل بين المحافظات، لكني لا أكف عن زيارة البيوت التي يود أصحابها بيع قطعهم القديمة، ومازالت قادراً على تميز القطع الأصلية، واكشفها بطرفة عين، وخاصة تلك المصنوعة من الصدف“، متأسفاً لغياب الحرفيين أصحاب الخبرة الذين سافر غالبيتهم بعد الحرب، كما يتأسف لجهل الكثيرين بما يملكون من إرث خلفته العائلة ما يجعلهم عرضة لاستغلال التجار.

في جولتنا بالمكان الذي يضم أكثر من ألف قطعة، عرفنا عبدالله على أنواع مختلفة من الأوبالين بتصاميم متنوعة، وأطلعنا على “المينة” الرائعة بألوانها المتعددة من خلال قطع فنية مختلفة منتشرة على رفوف المتحف تنوع بين صحون ومزهريات وسواهما، ومن داخل الصناديق يمكن التعرف على مختلف بلدان العالم من خلال طوابع وعملات ترجع لسنوات قديمة وحقب زمنية مختلفة، رتبها كلها في دفاتر خاصة، و مازال يعرف قصة كل عملة وكل طابع إضافة لتاريخ ومكان شرائها. 

لا يريد عبدلله من متحفه أي شيء، ”فهو بالنسبة لي مكان للراحة والسعادة أجلس فيه يومياً، أدخن نرجيلتي وأطمئن على سلامة محتويات المكان، وأُسعد أكثر حينما يشاركني أصدقاء العمر وأصدقاء أبنائي بزيارة المتحف، ونتبادل الأحاديث والقصص في ليال لا تشبه تعب ليال دمشقي بشيء“ بحسب قوله.

وفي قلب دمشق

 هذه الليالي ربما هي قريبة من الليالي التي ينظمها هيئم طباخة بشكل دوري في منزله العربي الكائن في حي القنوات داخل دمشق القديمة، هذا المنزل الذي جعله أشبه بالمتحف المتخصص بالتراث أيضاً.

 التجربة في منزل طباخة تختلف عن سابقتها، فهنا نحتاج للسير بين الأحياء القديمة والبيوت العتيقة كي نصل لمدخل المنزل، وبمجرد تجاوزنا العتبة سنجد نفسا أيضاً امام كمية كبيرة من القطع التراثية وأول ما يصادفنا هو “صندوق الدنيا” الذي كان وسيلة لتسلية الأولاد قبل زمن الموبايلات والشاشات، أمامه كانت تتزاحم رؤوس صغيرة لرؤية صور تروي حكاية بسيطة تمنحهم من المتعة ما كان يسعدهم لساعات في حينها.

 يعمل طباخة بالأصل بمجال الألبسة، وهو يملك محلات في المنطقة نفسها، تركها لأولاده وتفرغ لعشقه القديم المتمثل بجمع التحف والاعتناء بها، لهذا اشترى منزلا خاصاً وحوله لمتحف، تحول لنقطة علام في المنطقة ونجح في استقطاب من الشخصيات الثقافية والاقتصادية في البلد، يقول طباخة :” أتمنى لو يملك كل أهل دمشق زاوية في بيوتهم يعرضون فيها القطع القديمة“. 

 يشتري طباخة القطع من خلال جولاته في الأسواق ومن خلال معارفه، وبالنسبة له “أصغر قطعة غالية على قلبي، فجل وقتي أقضيه في المتحف، وبابي مفتوح للجميع“ بحسب قوله، وكي يكمل الجو التراثي، قرر ارتداء اللباس الدمشقي القديم مع الطربوش، ويشرح لنا عن لباسه من خلال قصيدة تتحدث عن تفاصيل كل قطعة من هذا اللباس التي تبدأ بالطربوش، ويختم قصيدته بالقول:” بان الحارات لا تحلو الا بلباس رجالها”.

يسعى طباخة لتوثيق تاريخ بلده من خلال القطع التي يجمعها، وهذا التراث يتمثل بكل التفاصيل من زجاجات العطر الشهيرة على رفوف الحلاقين القدماء، وملابس طلاب المدارس أو أزياء الأحياء المختلفة بالإضافة لأواني الطبخ وأدوات الأكل وزجاجات الكولا القديمة، وشرائط المسجلات والكثير غيرها.

ومتحف في السويداء

هذا الشغف هو أيضاً ما دفع شادي عدنان اسليم، 42 سنة، لتأسيس متحفه في محافظة السويداء. ونشأ عدنان في منزل عائلة غني بالتاريخ، فهو بيت روماني قديمة يقع بقلب السويداء، وكان يضم صوراً وخناجر وكل مقتنيات العائلة التي تعود لأجيال مختلفة حافظوا عليها وصانوها، لهذا تفتحت عينا شادي على هذا الإرث، وبدأ منذ عشرين سنة بجمع دلال القهوة، وكان ينوي جمع دلة من كل قرية، وتفاصيل تراثية تخص كل منطقة، ومع الأيام ازداد العدد لديه، حتى قرر في عام 2019 تأسيس متحفه الخاص على نفقته الخاصة، وكان الأمر مكلفاً بشكل كبير بالنسبة له، لكن شغفه كان أكبر من الظروف، عن هذا يقول عدنان: “أريد توثيق تاريخ بلدي، كي يتعرف أبناء هذا الجيل على ماضي آبائهم وطبيعية الحياة القديمة”، ولتحقيق الغاية بنى منشآة في مساحة تصل لمئة متر وهي تضم حوالي ثمانية آلاف قطعة باختلاف أحجامها.

يؤكد شادي بأنه يعاني كثيراً في تأمين القطع بسبب صعوبة الوصول إليها وارتفاع التكلفة، خاصة وأن مشروعه دون عائد، فالدخول للمتحف مجاني. ورغم أنه وضع صندوقاً للتبرعات، لكن ما يجمعه الصندوق لا يشكل ربع المبلغ اللازم لخدمة المكان، وما يزيد الأمور صعوبة هو عدم وجد أية جهة داعمة لمشروعه، فالدعم الذي حصل عليه هو إعلامي فقط وبالكلام والتشجيع.

رغم هذا، إلا أن شادي مصر على حلمه، رغم تراكم الديون التي أجبرته على بيع سيارته، ولهذا قرر عدم الاستماع لانتقادات الناس بخصوص ما يصرفه من مال وتعب. يقول شادي بكل فخر، ”المتحف هو الأهم على مستوى الوطن العربي فهو يضم قطعاً كثيرة ونادرة، خاصة على مستوى الأسلحة كالسيف الدمشقي وسيف الجوهر والخناجر العثمانية والعُمانية والبدوية وغيرها، وهي كلها قطع ذات قيمة مادية وتاريخية عالية“.

لا تقتصر التجربة على هذه المتاحف الخاصة الثلاثة فثمة متاحف عديدة أخرى وباختصاصات متنوعة مثل المتحف الجيولوجي للدكتور المرحوم فواز الأزكي الذي أسسه عام 2002 في قريته قسمين وسط طبيعة ساحرة، مستفيداً من خبرته الطويلة في المجال الجيولوجي فهو خريج جامعة بوخارست وحاصل على الدكتوراه من الجامعة نفسها، وأستاذ في جامعة تشرين في كلية العلوم وقسم الجيولوجيا.

الحفافة.. صالون تجميل متنقل في صرّة امرأة 

الحفافة.. صالون تجميل متنقل في صرّة امرأة 

عندما كانت خضرا، تزور أمي في البيت، كنت أحصل على فسحة قسرية، كنت أطرد من البيت بكلمة ”روح إلعب”، كنت قد تجاوزت سن الثانية عشر بقليل، و صرت أعي أن ثمة سبباً لإخراجي من البيت كلما زارتنا السيدة العجوز ذات التجاعيد، وقد اكتشفت السبب ذات زيارة عندما اقتحمت البيت مسرعاً، لأجد أمي تتربع تحت شجرة العنب بينما تجثو خضرا، على ركبتيها وتحرك خيطا أخذ شكل المثلث لكونه يمر بين أصابع كلتا يديها، وتقبض على جزء منه بين أسنانها، وبحركة تشبه حركة رأس الدجاجة حين مشيها، كان رأس خضرا، يتحرك نحو الأمام والخلف وكأنها آلة، وهنا عرفت لماذا كانت تُسمى “خضرا الحفافة“.

 كنت أحسب أنها تسمية محلية بحتة تختص بالمنطقة الشرقية من سورية، لكن لاحقاً اكتشفت أن العراق يستخدم ذات التسمية للمهنة النسائية.

كانت خضرا تنفرد بمهنة بالغة الحساسية في حي كبير ضمن مدينة الحسكة، لم يكن ينافسها إلا مرور بعض نساء الغجر في الحي بين فترة وأخرى، ويطرحن ذات الخدمات بسعر أقل، وكانت النسوة في الحي يستقبلن الغجريات اللواتي يعرفن شعبياً بأحد اسمي (القرباط – الغجر)، بحثاً عن توفير بضع ليرات، في حين أن حجتهن أنهن يتقن العمل أكثر من “خضرا”، والطريف أن غياب “القرباطيات”، بدافع ترحال قبائلهن المستمر، كان يعيد لـ “حفافة الحي”، سطوتها على السوق.

أين الحفافة؟

توفيت خضرا قبل سنوات، ولم يعد لـ “الحفافة” وجود مهني، ومن بقين ممن مارسن هذه المهنة حتى بداية الألفية الثالثة، هن الآن في العقد السادس أو السابع من العمر على أقل تقدير، ومنهن فتون، السيدة التي نزحت مع أسرتها في العام ٢٠٠٥ من محافظة الحسكة نحو ريف دمشق الجنوبي هرباً من الجفاف، وهي حالياً تسكن في محيط بلدة “سعسع”، لتدير شؤون البيت وتنظم حركته في غياب الذكور من أفراد أسرتها لساعات طويلة في العمل، وتوكل لفتون رعاية أحفادها حينما تغادر زوجات أبناءها إلى المزارع القريبة ليعملن في قطاف الخضار.

تقول فتون لـ“صالون سوريا“، عن عملها كـ ”حفافة” ”كنت أحمل صرة أو كيساً من النايلون يحتوي على عدة العمل المكونة من كرة من خيطان القطن التي تستخدم عادة في تجهيز (لحاف الصوف)، إضافة لمقص وملقط شعر وعلبة كريم كان عبارة عن (دهون القطن)، وتعني (فازلين)، وكنت أتقاضى مبلغ ٢٥ ليرة سورية عن حف الوجه، وفي حال كانت السيدة تريد أن تزيل شعر جسدها كانت تدفع مبلغ ٥٠ ليرة إضافية.“

فتون التي ورثت مهنتها كـ “حفافة”، عن أمها، تضيف ”توقفت عن العمل لمدة ست سنوات بطلب من زوجي، لكن سوء الأحوال المعاشية أقنعه بعملي مجدداً، فمهنتي تحتاجها النسوة مثل ما تحتاج القابلة لتوليدهن، وحين عودتي للمهنة كان عدد زبائني يتراوح بين ٥-٨ نساء أسبوعياً، ويصل ما أتقاضاه شهرياً من عملي لنحو ٢٥٠٠ ليرة، وكان هذا مبلغ يساوي راتب موظف في بعض الأحيان، وغالباً ما كنّ يردن تنظيف كامل للوجه والجسد، ورغم احتياجهن لي إلا أن عدداً قليلاً من النساء كنّ يطلبن المساعدة في إزالة الشعر من المناطق الحساسة، وهنا كنا نستخدم السكر الذي نذيبه مع بعضٍ من الليمون أو ملح الليمون لنصنع ما تسميه النساء بـ “العقيدة”، وقد صار تحضير السكر سهلاً بعد ظهوره معلباً في الأسواق، وقد توقف عملي بشكل نهائي بعد أن وصلت إلى ريف الشام، فالمعرفة المسبقة بالحفافة من قبل الزبونات واحدٌ من أهم شروط نجاحها في العمل واستمراريته، كما إن وصولي لهنا تزامن مع زيادة عدد الصالونات، وظهور أدوية وأجهزة إزالة الشعر“.

سمرة، تعمل كفافة في مخيم للنزوح بريف دير الزور الشمالي حيث تعيش، عن ظروف عملها تقول لـ“صالون سوريا“: “أعمل في حف نساء المخيم، وبشكل جماعي، أجلس معهن بالتتالي في خيمة واحدة منهن، فيما تجلس البقية أمام باب الخيمة لمنع دخول أحد من الذكور او الأطفال، وآخر من تقوم بحف وجهها، هي صاحبة الخيمة، فانتهاء الجلسة لأي منهن يعني مغادرتها نحو خيمتها“.

تضيف السيدة التي بلغت العقد السادس من عمرها ”غالباً ما يكون الحف مرة واحدة شهرياً لكل من النساء، وهو يرتبط بتنظيم الجسد بعد انقضاء العادة الشهرية، وغالباً ما تكون الواحدة منهن قد استحمت بشكل سريع خشية أن تشم الحفافة رائحة سيئة منها، وتبلغ قيمة حف الوجه ٢٠٠٠ ليرة، في حين أن تنظيف الجسد بالعقيدة يكلف ٣٠٠٠ ليرة إضافية، وهو سعر أقل بكثير من الصالونات التي تتواجد في المدن“، وتشير سمرة، إلى أنها عادت لممارسة الحف بعد سكنها في المخيم، في حين أنها وحتى السنة الثانية من الحرب لم تكن تمارس هذه المهنة لكون النساء يعتمدن الأساليب الحديثة في التجميل.

سمرة تعتبر جلسات الحف شبيهة بجلسات السهر، فالنساء تتحدث عما يواجهنه من مشاكل زوجية، وحياتية، ثم يتبادلن الأخبار عن نساء أخريات في المخيم، ويتدرج الأمر نحو أخبار المخيم الحساسة من وصول المساعدات، وآخر ما سمعنه من أزواجهن عن أخبار الحرب، فيما يدور حديث بين الحفافة والزبونة عن أشياء أخرى تتعلق بالزبونة على مستوى جسدي، مثل سؤالها للحفافة عن مشاكل في شعر الرأس، أو أمراض نسوية، وتقدم الحفافة بحكم كبر سنها النصيحة الطبية مثل “استخدمي المرهم كذا للفطور، أو الدواء الفلاني لإزالة الألم”، وغالبا ما تكون النصيحة مبنية على تجربة سابقة للحفافة نفسها أو لزبونة عانت من ذات المشكلة.

تنهي الحفافة عملها أحيانا بسؤال “رح تتحممي”، وإن كانت الإجابة بالنفي، تخرج كحلاً عربياً من صرتها لتضع للزبونة منه، ثم تسرح لها رموشها بـ “المسكرة”، والبعض من “أحمر الشفاه”، سيكون إتماماً لعملية تجميل شاملة ورخيصة، لتكون “الحفافة”، صالون تجميل متنقل، لم يعد موجوداً في المدن كما هو الحال في تسعينيات القرن الماضي، ونادر الوجود في يومنا هذا، وحدود امتداده بين أسوار المخيمات أو جغرافيا القرى البعيدة عن الصالونات الحديثة، وإمكانية الحصول على جهاز إلكتروني أو عقاقير دوائية لإزالة الشعر بشكل سريع.