بواسطة Wael Sawah | يناير 23, 2019 | Roundtables, غير مصنف
*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟
اليسار السوري ليس طارئاً تماماً ولكنه مستعار. ولا عيب في الاستعارة في بعض المجالات. الديمقراطية مثلاً مفهوم مستعار وكذلك الصحافة والأحزاب والتكنولوجيا، فلا عيب إذن أن يكون السوريون قد استعاروا مفهوم اليمين واليسار من الغرب الذي أعارنا السيارة والتلفزيون والكمبيوتر والفايسبوك. ثمّة من يستعير ثوبا فيكون كبيرا جدا أو يكون ضيّقا عليه. السوريون (ومعهم المصريون) كيّفوا ما استعاروه على قياسهم، فبدت الأمور عليهم وكأنها أصيلة. ولعلّ نظرة إلى الوراء ترينا كيف أجاد السوريون لعبة الديمقراطية والبرلمان والصحافة والأحزاب، وأيضا اليسار، من دون أن نغرق في نوستالجيا فارغة.
مشكلتان رئيسيتان طرأتا على كلّ ذلك، فغيّرت من وجه اليسار السوري. الأولى كانت حين تنطّح مجموعة من العسكر لقيادة ما يسمّى بحركة التحرر الوطني، التي دمجت ما بين الطبقي-الاجتماعي والوطني-القومي. وهو ما أدى إلى ضياع هوية اليسار واليمين معا. أما المشكلة الثانية فهي الصراع العربي-الإسرائيلي الذي حول القضية برمتها من جهة إلى جهة أخرى.
وإثر هزيمة حزيران 1967، حدث انقلابان كبيران في الحركة السياسية السورية والعربية عموما، انزاح فيهما جزء كبير من التيار القومي العربي نحو الماركسية، وانزاح مقابله جزء من التيار الماركسي نحو الفكر القومي. حركة القوميين العرب بمعظمها تبنت الماركسية، ووُجِدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، ووُلِد حزب العمل الاشتراكي العربي، كذراع سياسي للجبهة الشعبية في لبنان والأردن، وظهرت منظمة العمل الشيوعي في لبنان، التي قادها محسن إبراهيم وفواز طرابلسي، وتحوّل تيار صلاح جديد في سوريا تدريجا إلى الفكر الماركسي-اللينيني تدريجيا، حتى تبناه نهائيا في منتصف السبعينات. جوهر هذا الانزياح كان اكتشاف التيار القومي العربي أن “العدو القومي الرئيس لحركة التحرر العربية يتمثَّل بالإمبريالية العالمية بقيادة أميركا، والتي تستعمل إسرائيل والحركة الصهيونية” كأداة لها وأن كافة الأنظمة العربية، سواء منها الأنظمة “الرجعية” أو الأنظمة “الوطنية التي تحكمها البورجوازية الصغيرة” عاجزة عن مواجهة هذا العدو.
في المنقلب الآخر، كان تيار في الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة جورج حاوي وتيار في الحزب الشيوعي السوري بقيادة رياض الترك يتخليان تدريجيا عن “الصَّلف الطبقي” ويريان في المسألة القومية وجاهة لا بدّ من مقاربتها. كان جورج حاوي معجبا بعبد الناصر ولينين، وقد باتت هذه المزاوجة أحد معالم الخلاف في الحزب الشيوعي بين «الأمميين» و«القوميين»، الذي أدّى في نهاية المطاف إلى انتصار «القوميين» وبدء الرحلة الجديدة للحزب الشيوعي من خلال مؤتمره الثالث 1972. أما المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري فانعقد في 1969 وشكّل بداية الخلاف بين أكثرية المكتب السياسي للحزب بقيادة رياض الترك من طرف وقيادة خالد بكداش من طرف آخر. وفي كلا المؤتمرين لعبت القضية الفلسطينية والوحدة العربية دورا بارزا.
هزيمة حزيران وتزاوج التيارين القومي والماركسي، أدى إلى جعل بوصلة اليسار السوري هي القضية الفلسطينية و”الإمبريالية العالمية”، وبات اليساريون السوريون يبنون سياساتهم ليس على واقع سوريا بل على مواقف الإمبريالية الأمريكية، حيث يتجلّى موقفهم ببساطة بمعارضة المواقف الأمريكية واتخذا مواقف معاكسة.
والأسوأ أن ذلك جعل الحدود بين السلطة السورية والمعارضة واهية جدا. والحال أنه منذ وصول البعث إلى السلطة في سوريا، اختفت الحدود الفكرية والسياسية بين الفئتين. فعلى الضد من معظم التجارب الدولية، ينتمي كلا السلطة والمعارضة إلى الجذور الاجتماعية والفكرية ذاتها. وهما، متكاملين، يشكلان جزءا مما يسمى بحركة التحرر الوطني التي ندين لها بالتغيير القسري للمجرى الطبيعي للتاريخ في العديد من الدول الآسيوية والأفريقية، والتي تقبع الآن، مصادفة، في أسفل السلم الحضاري والاقتصادي العالمي. وتعود السلطة السورية، في جذورها التاريخية على الأقل، إلى البنية الاجتماعية التي نشأت عليها المعارضة. فهي ترجع إلى الفئات الريفية التي تعلمت وهاجرت إلى المدينة، فالتحمت مع مثقفي الطبقة الوسطى المدينية الذين كانوا يبحثون عن حلول اجتماعية لمشاكلهم الروحية؛ ولقد وجدوا تلك الحلول، وهم الذين درسوا في فرنسا ودولا أوروبية أخرى، في النظريات التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك.
***
فاجأت الانتفاضة السورية المعارضة الغافية على حدود فلسطين، ولذلك تجدها فشلت في اللحاق بركب الثورة، وانقسمت بين من زايد عليها ومن بقي في منطقة الحكومة. وقد رأينا الانقسام يحدث في اليسار السوري وفي الحزب الواحد نفسه، فكثير من قواعد الشيوعيين انضمت إلى الانتفاضة بينما كان قادتها يجلسون في مكاتب الجبهة الوطنية التقدمية ويقارعون الاستعمار من هناك. وكذلك انقسم حزب العمل الشيوعي بين تيارين، انتقل أحدهما إلى صفوف الانتفاضة، بينما بقي الآخر في منطقة “الدفاع عن الوطن”.
وكما فاجأتنا الانتفاضة، فاجأنا تحوّلها إلى العنف واستخدام السلاح. ويمكن القول ثقة أن الحكومة تتحمل المسؤولية الكبرى في اللجوء إلى السلاح كحلّ، من خلال القمع الدموي العنيف للمحتجين السلميين، ولكننا لا يمكن أن نغض الطرف عن تدخلات القوى إقليمية التي كان من مصلحتها عطف الثورة باتجاه حرب أهلية.
ويسود اليوم سؤال: أكان الأمر يستحقّ كلّ ذلك؟ في مسرحية “يعيش يعيش” للرحابنة تسأل هيفا (فيروز) السؤال نفسه: “اللي بيندفع حقه ناس هو أغلى من ه الناس؟” والحال أن هذا سؤال وجودي أكثر منه سياسيا. وقد سألت نفسي هذا السؤال منذ إطلاق أول رصاصة. وانقسمت داخليا في الجواب: فالقسم الإنساني كان يؤكد بوضوح على أن لا شيء يستحقّ التضحية بطفل أو صبية أو رجل أو امرأة لهم أسرة وأصدقاء ومحبون. السياسي الذي داخلي كان يقول إن الثورة لو لم تحدث اليوم لحدثت بعد سنوات، ولكان وقعها اشد مرارة. وأعتقد اليوم أن ذلك ما سيحدث بعد سنوات أو عقود.
***
لم تقسم الحرب السورية اليسار السوري فحسب، بل واليسار العربي والعالمي أيضا. وقد رأينا في تونس مؤخرا متظاهرين يساريين يرفعون صور الرئيس السوري بشار الأسد أثناء احتجاجاتهم على حكومتهم. ومعظم اليسار الحاكم في أمريكا اللاتينية وغيرها يؤيد ما يرونه “ممانعة” سورية للإمبريالية العالمية. بالمقابل، ثمّة العديد من اليساريين والمثقفين في العالم والدول العربية الذين يقفون إلى جانب حقّ السوريين في تقرير مصيرهم وفي رفضهم لحكم أو نظام معين.
ووجد قسم آخر من اليسار، الذي يستند إلى البوصلة ذاتها، نفسه في مواقع يتحالف فيها مع تيارات إسلامية متطرفة، منها حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين. ولعلّ مرد ذلك أن هذا القسم لا يزال يهتدي بنجم الشمال الذي هو موقف هذه القوى “المعلن” من القضية الفلسطينية وإسرائيل والإمبريالية.
والآن، هل يمكن الحديث حالياً عن “يسار سوري”؟ لا يمكن للحياة السياسية ولا المجتمعية أن تتقدّم بدون حوار وجدال وصراع بين المحرك إلى الأمام والقوّة التي تريد المحافظة على الواقع. ولئن اتفق على تسمية الفئة الأولى يسارا، فإن هذه القوّة ستظلّ موجودة وستظلّ تلعب دورا في عملية التغيير. غير أن المفاهيم لن تكون ذاتها، واليسار التقليدي (وخاصة اليسار الشيوعي الذي لا يستطيع التمييز بين روسيا بوتين وبين الاتحاد السوفييتي) سيتحوّل إلى معاقل اليمين بدون خجل. أما اليسار المتجدّد الذي يرى في الحركة إلى الأمام قدر السوريين، فسيظلّ موجودا، وسوف يجمّع نفسه قريبا في حركة واضحة المعالم تسير على طريق واضح ومحدّد.
بواسطة سلوى زكزك | يناير 21, 2019 | Cost of War, Reports, غير مصنف
أضواء زينة أعياد الميلاد تملأ فضاء الحي حيث يقع مشفى خاص ذائع الصيت في دمشق، وفي داخله أشجار ميلاد مزينة وعمال يتوافدون لتهنئة إدارة المشفى وتقبّل الهدايا، في أجواء احتفالية لا يعطلها حضور المرضى المتعبين مع أوجاعهم ومرافقيهم.
وقد شهدت المشافي الخاصة زيادة في عدد روادها بعد الحرب، العديد منهم لا يدفعون تكاليفها بنفسهم وإنما يتكلون على مساعدة الجمعيات الأهلية، إذ أصبح الاستطباب على حساب هذه الجمعيات الآن وضعاً طبيعياً ومكرراً، بعد أن كان سابقاً علامة نقص وإشارة لأن متلقي تلك المساعدة فقير وغير قادر على دفع نفقات علاجه بنفسه. وتشمل هذه المساعدات الطبية العلاج والعمليات الجراحية، وقيمة الوصفات الطبية، وخاصة للأدوية اليومية والاعتيادية التي توصف لعلاج أمراض كالقلب والسكري والأمراض العصبية وغيرها.
وأما أسباب تحول المساعدات الطبية المطلوبة من الجمعيات الخيرية أو من لجان الكنائس فأمر طبيعي ومتواتر فهي: بسبب عجز المشافي الحكومية عن تأمين خدمات العلاج للعدد الكبير من المرضى، ولانشغالها بمعالجة جرحى الجيش أو الحوادث الإسعافية الناجمة عن تفاصيل الحرب الدائرة، وثانياً بسبب الارتفاع المضاعف لتعرفة أي إجراء طبي، حتى لوكان يقتصر على شراء حبوب مسكنة لوجع الرأس أو مرهم خاص بترطيب الأنف.
وقد تضاعفت قيمة نفقات العلاج لأكثر من عشرة أضعاف، في ظل حالة فقر شبه عامة وعجز في القدرة الشرائية وفقدان السيولة. يضاف إلى ماسبق ازدياد الحاجة للخدمات الطبية، نظراً لازدياد الأمراض في ظل انعدام أسس الوقاية والحماية، وكثرة التعرض للأسباب الممرضة، ونقص الخدمات، وزيادة الشدات النفسية والخوف والتهجير والوحدة، وانعدام الأمن الشخصي والعام والغذائي والدوائي والوقائي.
ويبدو التعامل سهلاً وسلساً مع الحالات المرسلة أو المتكفلة من قبل الجمعيات، فطلبٌ محددٌ من المريض مؤكد برأي الطبيب المعالج، يليه موافقة، فتمرير للمحاسبة، ثم موعد وتنفيذ للمداخلة الطبية المطلوبة. لكن اللافت في مشهد المشفى هو الانفراط الواضح للعقد الاجتماعي لحالة المرافقة إلى المشافي، وفقاً للتقليد المتعارف عليه والثابت حضوراً وتعاملاً وتكيفاً.
رجلٌ مع زوجته التي قدمت للولادة، زوجة مع زوجها المقيم في جناح كبير للرجال الذين أجروا عمليات جراحية مختلفة، شاب لم يتجاوز الثالثة عشرة يسند جده العاجز عن تحريك ظهره، جارة مع جارتها العجوز المصابة بحالة ارتفاع بالسكر، صديقة مع إحدى الصديقات التي ستخضع لتنظير هضمي.
أما قبل الحرب، فقد كانت حالات الولادة تشهد حضور العائلة الكبيرة مع الأم المستقبلية ماعدا الزوج، أم الولاّدة وأم الزوج والشقيقة وشقيقة الزوج والعمة الأكبر و..، والزوج آخر القادمين كي لا يستمع لأنين زوجته وصراخها، وكي لا يرى تفاصيل الولادة التي تعتبر طقساً نسائياً خالصاً. اليوم شاب ثلاثيني برفقة زوجته الولاّدة، تتأبط ذراعه ويحمل حقيبة الطفل ومتاع زوجته وينتظران قدوم الطبيب الموّلد، يبدو أنهما غريبان عن المكان، أو أنهما من مدينة بعيدة، وربما بقي أهلهما في الريف البعيد، وتشتت أوصال العائلة ليسكن الزوجان هنا معاً بعيدين عن الجميع، بدافع العمل أو الالتحاق بخدمة محددة. فرض هذا الواقع أن يكون الزوج وحده معها، وربما قد قام ببعض التجارب المسبقة لكيفية تغسيل الطفل لوحده، وكيفية العناية به في أيامه الأولى حيث تكون الأم غير قادرة على ذلك، المهم أنهما حالة تخالف كل التقاليد العائلية التي كانت تحصل وقت الولادة.
تقول سيدة لأخرى قدمت مع زوجها “سيعيقك حجابك أثناء إجرائك لتنظير المعدة”، خاصة وأن حجابها مفروش على كامل صدرها ومثبت بدبابيس من الجهتين تشد على ذقنها ورقبتها، تتحفظ وتحافظ على صمتها. لكن الزوج يرد: “لا مشكلة، أصلاً أنا أعرف أن من سيجري التنظير هو طبيب،” ويكمل “أفترض أن خطراّ مسها وأسعفوها حتى دون حجاب، حينها لا ذنب لها، ولا ثمن تسدده جراء وضع إسعافي خاص.” ترتاح قسماتها وباللاشعور تبدأ بإزالة تلك الدبابيس الواخزة والمقيدة.
***
يطلب رجلٌ موجوع المساعدة من موظف في المشفى قائلاً له: “هات يدك أسندني” فمن يقوده هو حفيده البالغ ثلاثة عشر عاما فقط، وهو غير قادر على التحكم بجسد جده الضخم. دونما سؤال يتلو الرجل قصته: “الرجال إما في الجيش أو خارج البلاد” نسمع غصته النافرة من صدره. سيدة متقدمة في العمر تقول: “حسبنا حساب كل شيء في حياتنا إلا رحيل الرجال.”
في المشهد أيضاً شباب “هلاليون”، أي مجموعة إسعاف من طاقم الهلال الأحمر، يحملون النقالة الإسعافية متجهين نحو سيارتهم بعد أن قاموا بنقل سيدة متقدمة في العمر ووحيدة تعاني من ضيق حاد بالتنفس ومن فقدان جزئي للتوازن. تحتفظ العجوز برقم طوارئ الهلال الأحمر على جوالها، كما تمنحه الرقم واحد في ترتيب الأرقام الخاصة المدونة كميزة للاتصال المباشر السريع دون كتابة الأرقام في ذاكرة الهاتف الأرضي. وحيدة هي والإسعاف مشغول وسياراته قليلة العدد، لا تلبي الحاجة المتزايدة والفورية .
تسأل سيدة عن عنوان مخبر التشريح المرضي الذي كتبه الطبيب الجراح على ورقة خاصة، لتأخذ إليه العينة التشريحية لفحصها بعد استئصالها من قدم ابنتها، وتقول: “سأترك ابنتي لوحدها ريثما أذهب إلى المخبر وأعود”. فتتطوع سيدة بنقل العينة إلى المخبر، لكن الأم ترفض و تقول وبرجاء “إذا ممكن أن تبقي قريبة من ابنتي؟” مشيرة بيدها إلى غرفة الابنة، تودع السيدة المتطوعة للمساعدة بعينين دامعتين وترحل شبه راكضة.
كان يوماً عادياً في مشفى خاص، المرض عادي وكذلك الشفاء، والمال اللازم للإنفاق الطبي والجمعيات الخيرية والمدنية والمجتمعية. كل شيء عادي في الحرب، إلا الحرب ذاتها. فهي تقلب الأدوار بجذرية سريعة وقصيرة الأمد، تغيير كبير، لكنه كان يحتاج لزمن أطول في زمن مختلف.
هل نهلل للتغييرات؟ أم نقول إنّ الحرب قد مرت من هنا؟ أم نتلمس التغيير الحقيقي والمنطقي للوظائف الاجتماعية التي يفرضها المجتمع في ظل تغيرات بنيوية لا نملك ردها، المهم هو البناء على ما قد يتكثف ويتركز كتغير حقيقي، قد يقلب الأدوار، ولكنه قد يضعها على المسار الصحيح.
بواسطة Karim Abu Halawa | يناير 18, 2019 | Roundtables, غير مصنف
*ينشر هذا المقال ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟
يلحظ الباحث المهتم بشؤون وأوضاع التيارات اليسارية مفارقة تستحق التفكير، وهي أنه مقابل الحضور الهام والمتميز لليسار العربي ثقافياً وفكرياً، إلا أنه بقي هامشياً وتابعاً بالمعنى السياسي. فضلاً عن قابليته الكبيرة للانقسام. ومثل غالبية الأحزاب العربية لم تعرف الحياة الحزبية الداخلية لليسار السوري أي مرونة وديمقراطية في الحراك والتمثيل، ولا في الانتخابات الداخلية أو العامة، وهذا تقليد موروث من أدبيات اليسار العالمي عموماً، الذي يمتلك مواقف مسبقة من كل أشكال الدمقرطة بدعوى أنها ليبرالية وغربية وصورية … إلخ.
أما موضوعياً، فإن مستوى تطور البنية الاجتماعية قد غلب عليه طابع العلاقات الزراعية وأنماط الملكية الفردية للحيازات الزراعية إلى جانب ضعف الإنتاج الصناعي وغلبة طابع الخدمات على الإنتاج السوري، ما يعني أن الأنصار العضويين لأفكار وتنظيمات اليسار، وهم العمال، لا يشكلون سوى نسبة قليلة من أفراد المجتمع. مع إن تاريخ الحركات الفلاحية في سورية يبيّن أن الفلاحين في غالبيتهم العظمى ينتسبون إلى الفئات والشرائح الكادحة في المجتمع السوري.
وعلى صعيد السيكولوجيا الجمعية والطابع الغيبي للذهنية السائدة، يمكن فهم دوافع مقاومة الأفكار اليسارية والثورية ذات الطابع التغييري، ذلك أن الذهنية الإيمانية والقدرية تعتبران التفاوت في الغنى والفقر أمر طبيعي لا يحتاج إلى تعديل، فالدنيا نصيب، ويمكن من خلال التبرعات والصدقات والزكاة التي يقدمها الأغنياء للفقراء أن تقلص الفوارق وتحسن الأوضاع، لكنها بالتأكيد لا تستطيع إلغاء الفوارق الطبقية ولا العوامل الموضوعية لتوزيع الثروة وامتلاك وسائل الإنتاج، باعتبارها هي العوامل المفسّرة لوجود الفقر المدقع والغنى الفاحش في مجتمع واحد.
ومقابل الحضور الهامشي لليسار السوري بالمعنى السياسي، لا بدّ من ملاحظة ألقه وتفوقه فنياً وثقافياً وتميزه فكرياً. وليس أدل على ذلك من مؤلفات وكتابات بو علي ياسين، وياسين الحافظ، وإلياس مرقص، وأدونيس، ومحمد الماغوط، وسعد الله ونوس، وممدوح عدوان، ومعها كتابات صادق العظم وطيب تيزيني وياسين الحاج صالح قبل أن يتخذوا مواقف ملتبسة ومن ثم منحازة في فهم وتفسير “الحراك” والأحداث التي جرت في سورية بعد عام 2011. فإنتاج هؤلاء في مجالات الفلسفة والفكر والأدب المسرحي والروائي المتنوع وبسويّة فنية عالية شاهدٌ آخر على الهامشية السياسية لليسار السوري مقابل تفوّقه الإبداعي.
ولعلّ ما يفسر ذلك جزئياً أن معظم المثقفين السوريين من ذوي الميول اليسارية هم في غالبيتهم ممن تركوا الأحزاب الشيوعية واليسارية أو لم ينتسبوا إليها أساساً، لكنهم في توجهاتهم الفكرية والفلسفية ورؤاهم الثقافية أقرب إلى اليسار من خلال استلهامهم لقيم العدالة ومقاومة الظلم ونظرتهم المساندة للتغيير الاجتماعي والسياسي والقيمي. فمواقف اليسار العربي عموماً من التراث مثلاً، مكّنت بعض من أبرز قرّاء التراث من إعادة التفكير فيه، وبناء صورته الفعلية أو المتخيلة استناداً إلى ميل راديكالي تجاوزي مستلهم من بعض اللحظات الإسلامية، ومن ثورة القرامطة والزنج، ومن كتابات المتصوفة كالحلاج وابن الفارض والخيّام والسهروردي وابن عربي، وبعض أفكار المعتزلة وعلماء الكلام، وصولاً لكتابات ابن رشد العقلانية ونقده العميق لأفكار الأشاعرة والتيار النقلي السلفي تاريخياً. مثلما عبّر مفكرو عصر النهضة العربية مثل سلامة موسى وفرح أنطون ومحمد عبده ومن ثمّ طه حسين ونصر حامد أبو زيد والجابري وعبد الإله بلقزيز ومهدي عامل وحسين مروة وجورج طرابيشي وغيرهم، والذين وظفوا وبدرجات متباينة مناهج النقد الحديث لإعادة قراءة التراث العربي من وجهة نظر حداثية. أي أن هذا التباعد عن المواقف الإيديولوجية لأحزاب اليسار العربي تاريخياً وراهناً قد أعطى هؤلاء المفكرين هوامش أوسع للتفكير والتعبير خارج القوالب الإيديولوجية المسبقة، وأعطى لمساهماتهم بعداً تجاوزياً يقع في صميم فلسفة التغيير.
لكن التفاوت في أداء اليسار بين المستوى السياسي والمستوى الاجتماعي والثقافي، يحيل على خلل وقصور أبعد من الالتزام الحزبي التنظيمي والتقيد بالمبادئ والشعارات، ليصب في خانة قصور تيارات اليسار عن متابعة التطورات الفلسفية والفكرية التي طرأت على الماركسية، سواء على يدي غرامشي ومدرسة فرانكفورت النقدية، عند كلّ من أدرنو وهابرماس وأريك فروم، أو التجديدات اللاحقة على انهيار المنظومة الاشتراكية والتي تحدثت عما وراء الشيوعية والرأسمالية، وانحازت إلى مقولات الديمقراطية الاجتماعية ودولة الضمان الاجتماعي والرفاه، وصولاً إلى أطروحات الطريق الثالث التي دعت إلى إعادة النظر بأدوار الدولة والمجتمع المدني والأسرة، ونقد البعد الإيديولوجي المسيطر على فهم اليمين واليسار لهذه الأدوار كما تجلّت في كتابات “أنتوني غيدنز” في تنظيره للطريق الثالث والذي يدعو فيه لإعادة تجديد الديمقراطية الاجتماعية بوصفها النموذج الواقعي والممكن لتحقيق العدالة الاجتماعية بمعناها الأعمق.
وليست التحولات التي أصابت الاقتصاد العالمي وانكشاف دعاوى الليبرالية المتوحشة وازدياد الاستقطاب والتفاوت بين الأغنياء والفقراء محلياً وعالمياً سوى ظروف موضوعية يفترض بها أن تجدد دماء الحركات اليسارية عالمياً وتمنح للتيار النقدي اليساري الكثير من الوجاهة والمشروعية في مواجهة أشكال الخلل وتزايد الاستغلال والعبوديات المعاصرة والتي أخذت تلقى العديد من أشكال الاحتجاج والمقاومة في المراكز الغربية نفسها.
هذه العوامل مجتمعة، إضافة إلى التضييق على العمل السياسي وهوامش الحريات المتاحة والقمع والسجن الذي تعرضت له كوادر اليسار في سورية ومصر بشكل خاص، تفسّر ضعف اليسار العربي عموماً والسوري على نحوٍ خاص، وهي إلى جانب الانقسامات الإيديولوجية والتناحر العقائدي وضعف تجديد بنى ومقولات أحزاب اليسار أسهمت في تكريس ضعفه وبقاءه جزراً معزولة في المحيط التقليدي المحافظ عربياً، فضلاً عن تدني قدراته السياسية والتنظيمية في مواجهة مد الإسلام السياسي الذي أعاد إنتاج البنى الاجتماعية والسياسية المحافظة والتقليدية بصورة كاريكاتورية أشبه ما تكون بما أسماه مهدي عامل بالحداثة الرثة أو ما نسميه بالأدبيات السوسيولوجية المعاصرة بحداثة التخلف ذات الطبيعة السياسية المحافظة والعلاقات الاجتماعية المحدثنة شكلاً والتقليدية مضموناً ووظيفةً وأداء.
لكنّ الدلالة الأكثر سلبية من وجهة نظر التحليل السوسيولوجي برأينا، تكمن في غياب الشباب والمرأة وضعف تواجدهما في ساحات اليسار، مع ملاحظة امتلاك اليسار بمختلف أطيافه لتصورات تنتقد الثقافة الأبوية السائدة وتعلي من مكانة المرأة في المجتمع وتدعو إلى تحررها وتمكينها، أي أن الطاقة المستقبلية الشبابية والبشرية التي تنتسب أو تملك ميولاً يسارية آخذة في النضوب والتلاشي، وهي ظاهرة تستحق التحليل وتستدعي مراجعة تجارب اليسار السوري نقدياً وبصورة شجاعة تكفل التعرف على نقاط الخلل والضعف والاعتراف بأشكال التقصير المتعددة فكرياً وتنظيمياً وسياسياً، وإلا سيتحول اليسار السوري بمختلف أطيافه وتلاوينه ورموزه إلى مجرد إرث أو ذكرى لا مكان لها في التقاط التغييرات والتحولات المجتمعية ولا في التعبير عنها والنطق باسمها. وهو أمر سوف يفقر الحياة السياسية والثقافية السورية التي تكاد تخسر أحد مكوناتها الذي امتلك في لحظات فاصلة الكثير من الدينامية والحيوية، وما انفك يبشر بغدٍ أفضل.
بواسطة Noha Alhasan | يناير 16, 2019 | Cost of War, Culture, غير مصنف
تغيرت حياة أبو عمر (٣٩عاما) من مدينة كفرنبل وانقلبت إلى أحسن حال بعد عثوره على أحد الكنوز الأثرية القريبة من مدينته، وذلك أثناء قيامه بالتنقيب عن الآثار في منطقة سرجيلا الأثرية،فبعد أن كان أبو عمر يعمل في تصليح الدراجات النارية، أصبح اليوم يمتلك الأراضي والعقارات. عن تجربته يقول أبو عمر: “تركت عملي في تصليح الدراجات بعد أن أصبح دخله لا يسمن ولايغني من جوع في ظل الغلاء الفاحش، و أصبحت أعمل في مهنة التنقيب عن الآثار، وقد شجعني على هذا العمل، عثور بعض أقاربي على تحف أثرية قيمة.“
واستغل تجار الحروب ما تمرّ به البلاد من خرابٍ وفوضى فضلا ًعن غياب الرادع الأمني، لتغدو المواقع الأثرية في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وخصوصا في إدلب وريفها، مسرحاً للتنقيب العشوائي غير المشروع. ونشطت حركة التنقيب والتجارة في مجال الآثار عقب خروج مدينة إدلب عن سيطرة القوات الحكوميةمنذ آذار/مارس ٢٠١٥، حيث شرع المئات في عمليات الحفر العشوائية بحثاً عن قطعٍ نادرةٍ ضمتها تربة المحافظة والتي شهدت نهضة حضارية خلال العصور الكلاسيكية (لاسيما خلال الفترة الرومانية والبيزنطية) والإسلامية.
إن عملية البحث عن الآثار ليست بالأمر السهل، وإن حالف الحظ أبو عمر أحد بالعثور على لقىً ثمينة غيرت حياته، إلا أنه يوجد في المقابل العديد ممن يبحثون عن الآثار منذ مدة ولم يجدوا شيئاً حتى الآن. كحال الشاب حسام (٢٠عاماً) من بلدة حيش، والذي عانى من البطالة بعدما اضطر لترك دراسته في الجامعة بسبب الأوضاع الأمنية، فراح ينقب عن الآثار، منذ شهور يصعد التلال ويجوب الوديان عله يوفق بالعثور على لقىً أثرية تمكنه من تأمين متطلبات الزواج على حد قوله. الأستاذ خالد السيد (٣٥عاما) خريج قسم الآثار ينتقد التنقيب عن الآثار بشدة قائلاً: “لم يترك لصوص الآثار في المحافظة وريفها زاويةً إلا ونقبوا فيها بحثاً عن القطع الأثرية، مستخدمين أجهزة كشف متطورة، فهم يتسابقون ويتصارعون على سلب تاريخ سوريا من أجل ملء جيوبهم.”
وعن أسعار بعض القطع الأثرية يحدثنا تاجر الآثار أحمد (٤٥عاما) من معرة النعمان قائلاً: “يتراوح سعر التماثيل الأثرية النادرة بين عشرة آلاف ومئة ألف دولار، أما أسعار العملات الرومانية فتتجاوز الألف دولار للقطعة الواحدة.“ ويقول أحد التجار بأنه باع إحدى القطع بمئة ألف دولار كونها نادرة جداً مشيراً إلى أن طريق التهريب كان يمر بلبنان، ولكن في الآونة الأخيرة شهد هذا الطريق تشديداً كبيراً، ما جعل الكثيرين يفضلون التهريب إلى تركيا، متجاوزين التدقيق العالي على المعابر.
هذا وقد طالت الآثار المدمرة للحرب في سوريا، الإرث الحضاري والتاريخي من متاحف وقلاع وتلال وأسواق ومدن منسية، إذ تعرضت الكثير من المواقع الأثرية للقصف العنيف والمتواصل من قبل الطيران الحربي التابع للنظام السوري وحلفائه، الأمر الذي أدى لهدم تلك العديد من المباني كلياً أو جزئياً وطمس معالمها الأثرية. محمد السعيد (٤٠ عاماً) من سكان قرية البارة الأثرية يتحدث بحزن عن قريته التي انقلبت بشكلٍ جذري عما كانت عليه سابقاً، وللبارة رصيد أثري يعود إلى العهود الرومانية والبيزنطية القديمة ومن بعدها العربية. يقول السعيد بغصة: “دمر القصف ما دمره من المباني الأثرية، أما ما بقي منها فقد شوه معالمه النازحون، حيث قصدت القرية عشرات العائلات النازحة وأسسوا فيها مسكناً لهم، وقاموا بتكسير حجارة تلك المباني وبنوا فيها حظائر للماشية من الجدران الإسمنتية.” كما أن جزءاً كبيراً من تلك المباني دُمّر إثر عمليات تجريب السلاح من قبل عناصر تابعة لفصائل عسكرية بحسب السعيد، فباتت الجدران القديمة مسرحا للتأكد من مدى صلاحية السلاح والذخيرة وفاعليتها، بعد ما كانت تلك المواقع سابقاً تحظى بأهمية كبيرة لدى السائحين الذين يتوافدون إليها من كل حدبٍ وصوبٍ. وتشكل آثار محافظة إدلب ثلث آثار سوريا حيث يبلغ عدد مواقعها الأثرية أكثر من ٧٦٠ موقعاً.
ونتيجة لهذه الفوضى العارمة والانتهاكات بحق الآثار، ظهر في إدلب نشطاء ومتطوعون أخذو على عاتقهم حماية مابقي من الآثار والحفاظ عليها، فبادروا بتأسيس مركز آثار إدلب. وحول الهدف من المركز وعمله تحدّث مؤسس المركز ومديره المختص بعلم الآثار الأستاذ أيمن النابو ( ٣عاماً) قائلاً: “تم تشكيل مركز آثار ادلب في النصف الثاني من عام ٢٠١٢ من أجل حماية آثار محافظة إدلب، من قبل عدد ٍمن الأكاديميين والمختصين في علم الآثار. وكان يقتصر العمل بدايةً على موضوع توثيق الانتهاكات ومن ثم تطور في السنوات الأخيرة ليشمل حماية القطع الأثرية التي تم جمعها من مناطق مختلفة والتي يبلغ عددها مايقارب الألفي قطعة أثرية، حيث يتم تغليف القطع بمادة (تايفك) التي تحميها من العوامل الجوية، بالإضافة لمادة الأكياس الفقاعية التي تحميها من الاصطدام والكسر نتيجة ظروف الحرب التي نعيشها.” كما أكد النابو أنه يتم أيضاً حماية اللوحات الفسيفسائية وترميم ما تعرض منها للأذى، ويختتم حديثه بأن المركز يسعى إلى توسيع النطاق الجغرافي لعمله ليمتد إلى ريف حلب وريف حماه الشمالي ريثما يتم إنشاء مراكز خاصة في كل محافظة. ويأمل العاملون في مجال الآثار توفر مناخ مناسب يسمح لهم بتقييم الأضرار وتوثيقها وترميم آثار هذا البلد العريقة والتي تعرضت لأضرارٍ جسيمة خلال سنوات الصراع.
بواسطة Hussin Shawish | يناير 14, 2019 | Culture, Roundtables, غير مصنف
كلما فكرت باليسار السوري قفزت إلى ذهني الجملة التي قالها لي رياض الترك في برلين، لدى زيارته الأولى لأوربا بعد خروجه من سجنه الثاني، عندما قدمت له ورقة بعنوان “هل بقي لليسار من دور يلعبه؟”. كانت الجملة: “لا يوجد يسار”. يومها اعتقدت أنّه حكم وجود واقعي. الآن، وبعد أن صار ما صار، أعتقد أنه كان حكم إعدام.
لخّص، بالنسبة لي، هذا التصريح من شيخ اليسار السوري آنذاك الجانب الذاتي من أزمة اليسار السوري. إنّه الفقدان المطلق للثقة بالنفس. وعندما يفقد المرء الثقة بنفسه يلتحق بأحد أولئك الشجعان الذين مازالوا يحتفظون بتلك الثقة. ويفترض المنطق أن يكون ذلك الملتَحَق به قريباً فكريّاً من المسكين الفاقد للثقة بنفسه. لكنّ حزب الشعب الديمقراطي لا علاقة له على ما يبدو بهذا المنطق، فاختار الإخوان المسلمين، أو لعلّه التحق به لهذا لسبب إيّاه؟
وعندما يرتكب المرء هذه الحماقة فلماذا نستغرب أن ينزلق إلى ما هو أكبر منها؟ كأن يدافع جورج صبرة عن جبهة النصرة مثلاً، في كلمته التي أصبحت من الشهرة بحيث لا أحتاج هنا لذكرها. فالتعاون مع الإخوان المسلمين يمكن تبريره بأنهم سبق أن شاركوا في انتخابات برلمانية ديمقراطية ذات يوم على الأقل، كما هو معروف، رغم كل ما يمكن أن يُقال عن ديمقراطيّتهم بأنها “ديمقراطية أدواتية”، أي أنها مجرّد أداة للوصول إلى الحكم، بدليل غيابها الكامل عن بنية الحزب وعلاقاته الداخلية المبنية على مبدأ الولاء المبني على البيعة الشرعية..الخ. أما جبهة النصرة فقد كانت وما زالت تعتبر الديمقراطية وحكم الشعب شركاً بالله، وهو منطق السلفية الجهادية نفسه الذي أعاد صياغته سيد قطب في كتبه الكثيرة وخاصة “معالم في الطريق” الذي أصبح “إنجيل الثورة الإسلامية” وخاصّة في فرعها الجهادي. وهنا أذكّر باختصار شديد أن الكتاب المذكور كان أحد أكثر ما يقرأه الإخوان أنفسهم، إلى درجة أنهم كانوا يختصرون العنوان بكلمة “المعالم” في أحاديثهم بسبب شهرته بينهم.
خيبتي تلك مع الرفيق رياض الترك تكرّرت مضاعفةً، عندما قرأت نص الكلمة التي ألقاها في احتفالية الذكرى السبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس بتاريخ 14/12/2018 حيث يتحدّث عن “صدمات صغرى” سبّبها النظام بإطلاق مئات السلفيين من سجونه ودفعه لهم لمصادرة الثورة وأسلمتها، لكنّ صدمته الكبرى كانت عدم التدخّل الدولي. إذن فالرجل لم يتعلّم من سبع سنوات فشل لإحدى أكثر الثورات مأساوية في التاريخ الحديث أي شيء.
ولكن ماذا كان يمكن لليسار أن يفعله واقعياً، حتى ولو لم يكن متأثّراً ب”مانديلا سوريا” الذي جعله السجن، على ما يبدو، يعتقد أن كل ما كان هو نفسه يدعو إليه من برنامج اجتماعي ووطني وقومي هو كلام نافل أو مؤجّل في أفضل الحالات وأن النضال الوحيد الذي يستحق التضحية بكل شيء هو القضاء على السجّان الحالي، حتّى ولو كان السجّان المقبل هو والي اردوغان في سوريا مثلاً؟
كان يمكن له أن يتعلّم من دروس جيرانه في إيران مثلاً، فيرى كيف يمد الإسلاميون يدهم للجماعات اليسارية قبل الثورة فإذا استلموا السلطة تخلّصوا منها، واحدةً بعد الأخرى. وقد كان من شأن هذا الدرس أن يجعل الرفاق يتذكّرون قصة “التخوم” التي كان لينين يركّز عليها باعتبار تحديدها قبل أي تعاون مع الآخرين شرطاً مُسبقاً لأي تعاون من هذا النوع. حتّى هنا كان اليساريون الثوريون السوريون يفتقدون لعذر كبير تمتّع به رفاقهم الإيرانيّون وهو أن الشاه كان صنيعة للإمبريالية الأمريكية بالمعنى الملموس (دور السي آي إي في الانقلاب ضد مصدق..الخ). هذا البعد العالمي للنضال لم يختفِ فقط من الخطاب اليساري الثوري السوري، بل ظهر عكسه بالضبط، أي الاستنجاد بالتدخّل العسكري الإمبريالي، إلى درجة أن عدم ذلك التدخّل شكّل “الصدمة الكبرى” للرفيق رياض الترك، كما قال هو نفسه.
أيّ يساري حقيقي كان يُفتَرَض أن تكون “صدمته الكبرى” هي هذا التصريح مثلاً في العام الثاني للثورة: ففي 13 كانون أول 2012 نشرت الحياة ما يلي على لسان معاذ الخطيب : “..كون الحراك العسكري إسلامي اللون بمعظمه هو شيء إيجابي..”. بالنسبة لمعاذ الخطيب كان ذلك إيجابياً طبعاً فالرجل نفسه “إسلامي”، لكنّ التصوّر العام عن مفهوم “اليساري” يجعل أي مراقب محايد يتوقّع من يساريي الثورة السورية في ذلك الوقت أن يعيدوا حساباتهم ويواجهوا جماهيرهم بالحقيقة المرّة وطرق التعامل معها. فماذا فعل هؤلاء فعلاً؟ لقد لجأووا إلى التكتيك النفسي المعروف “الإنكار”. وهو تكتيك يصنّفه المحلّلون النفسيون في خانة “آليات الدفاع النفسي”، كما نعلم. ولكي ينجح هذا الإنكار كان يجب اللجوء إلى “لغة إنكارية” بالكامل بحيث نستبدل عبارة “المجاهدين” بعبارة “الثوار” في المرحلة الأولى ثم بعبارة “المعارضة” في المرحلة التالية. فكلمة معارضة تنطبق على جبهة تحرير الشام تماماً كما تنطبق على “تيار اليسار الثوري” التروتسكي. ومن جهة أخرى نقتصر عندما نتحدّث عن أهداف الثورة على هدف إسقاط الدكتاتورية الحاكمة في دمشق، فهو أيضاً هدف الجولاني كما هو هدف رياض الترك.
هل كان اليسار يستطيع أن يفعل غير ذلك؟
لا شك. وهذا الجواب القطعي سببه ظروف اندلاع الثورة السورية: ممهّداتها (ربيع دمشق ودور المثقّفين الأقرب إلى اليسار فيه)، المسار الذي بدأت به الثورة السورية (شكل الحراك السلمي وشعاراته، الغياب التنظيمي شبه الكامل للإسلاميين في كوادر الثورة في مرحلتها الأولى، حسب كافة الباحثين)، طبيعة القيادة التي قدّمت أولى المبادرات السياسية في مرحلة مشاورات الدوحة المبكّرة، وأخيراً السمعة النضالية الخاصة التي كان رياض الترك يتمتّع بها بسبب تاريخه وشجاعته في مواجهة الديكتاتورية من داخل سوريا وليس من خارجها، والتي شكّلت له “رأسمالاً رمزيّاً” لدى الجماهير كان يمكنه استغلاله للمساهمة في ترجيح الكفّة في صفوف المعارضة لصالح اليسار..
فلماذا لم يفعل الحزب ذلك؟
أظنّ أنني أجبت على ذلك في بداية هذا المقال بشكل غير مباشر. فاليساري الذي يفقد الثقة ب”الرسالة البنيوية” لليسار، سيخدم اليمين في النهاية.
أما عن ماهية تلك “الرسالة البنيوية”. فهي يمكن استنتاجها فقط من مصدرين: الأول نظري يتناول تاريخ الصراع الاجتماعي ودور الذات الثورية فيه، والثاني تطبيقي يحلّل بنية المجتمع السوري في مستوياتها الثلاثة الكبرى الاقتصادية والسياسية والايديولوجية وكيف تتطوّر هذه المستويات الثلاثة أو كيف يعرقل تخلّف أحدها تطوّر الآخر، كما حصل ويحصل فعلاً وما هو “موقع” الذات الثورية في تلك البنية وكيف تعزّز موقعها في سبيل تحقيق برنامجها، الذي هو في النهاية برنامج “القوى الاجتماعية الساعية للتطوير” التي تمثّلها. وهذا كلّه موضوع دراسة يضيق هذا المجال عنها. لكنّ حزب الشعب الديمقراطي السوري فوّت على نفسه فرصة هذه الطريقة في “البرمجة” منذ مؤتمره السادس في أواخر نيسان 2005. رغم أنّ الدافع الواضح وراء مغادرة الأدلجة الماركسية اللينينية إلى غير رجعه كان يكمن خلف كل كلمة من كلمات برنامجه السياسي الصادر عن ذلك المؤتمر. وقد غادر الحزب تلك الأدلجة فعلاً وسار في اتجاه آخر. لكنّه كان إلى اليمين للأسف وليس إلى يسار جديد. وقد كان استمراراً لمسار بدأ في الثمانينات وسار ببطء إلى أن سرّعته الثورة السورية. الهدف السياسي الإجرائي المحدّد والملموس لذلك المسار كان التعاون مع الإخوان المسلمين (الحاضرين الغائبين في كل من مؤتمري حزبي البعث والشيوعي-المكتب السياسي في أواخر 1979 وفق تعبير ياسين الحاج صالح). وهذا التعاون هو المقصود بهذه الفقرة التي ننقلها هنا من البرنامج السياسي للمؤتمر السادس للحزب: ” لقد وضعنا هذا البرنامج، آخذين في الاعتبار الانفتاح على المجتمع وعلى الحركة الديمقراطية في سوريا بطيفها المتنوع، وضرورة الوصول إلى برنامج مشترك في أيّ لقاء أو مؤتمر وطني لأطرافها”.
أخيراً سأسمح لنفسي بهذه الملاحظة غير السياسية: لقد أثبتت خبرتي مع السياسيين العلمانيين العرب عموماً أنّ التصوّر الذي كان كامناً في لاشعورهم حول الإسلاميين كان دائماً يعاني من التشوّه. فهم إمّا يرونهم كمجموعة من الدراويش أو كحزب إسلامي تماماً كما أن الحزب الديمقراطي المسيحي في المانيا حزب مسيحي، أو كمجموعة من الأصوليين المتخلّفين والخطرين (وهو تصوّر حديث متأثر بسلوكيّات الجهادية السلفية). كل هذه التصوّرات لا تنطبق على موضوعها كما أصبح واضحاً بعد سبع سنوات من الثورة السورية، وإن كان ثمة ما هو صحيح في تلك التصوّرات جميعها في الوقت نفسه. أما ما هو التصوّر الأقرب إلى الواقع فمعرفته تتطلّب دراسة بنية التنظيمات الإسلامية وخاصة الجانبين التثقيفي والتنظيمي. ولكن ذلك بالذات هو ما لم يكن من الممكن لمعظم المناضلين ذوي الماضي الشيوعي أن يعرفوه، بحكم البيئة السياسية المختلفة كلّياً التي ترعرعوا فيها. لكنّ الممكن فعلاً، حتّى لمناضل لم يعرف في حياته غير الأوساط الشيوعية هو دراسة تجارب الآخرين من شيوعيي هذا العالم عندما تعاونوا مع الإسلاميين، كتجربة الإيرانيين مع الخميني مثلاً.
لكنّنا على ما يبدو لا نتعلّم إلاّ من كيسنا.
بواسطة Salon Syria Team | يناير 14, 2019 | Culture, Roundtables, غير مصنف
تهدف هذه الطاولة المستديرة التي أعدها لـ“صالون سوريا“ وأشرف عليها أسامة إسبر وباسيليوس زينو، والتي تحمل عنوان ”ما الذي تبقى من اليسار السوري؟“ إلى تسليط الضوء على واقع اليسار السوري بمختلف تياراته ودوره السياسي والثقافي والاجتماعي في سوريا، ومدى تأثيره في الأجيال الجديدة، وما الانتصارات التي حققها وأين فشل. كما تهدف الطاولة المستديرة إلى إلقاء نظرة من الداخل على اليسار السوري وتجربته وأين أخطأ وأين أصاب، ومن أجل هذا الهدف اتصلنا بعدد من الكتاب والباحثين وطلبنا منهم المشاركة في هذه الطاولة المستديرة انطلاقاً من تجربتهم، وخاصة من كان منخرطاً في السابق في أحزاب يسارية معينة، أو درس هذه التيارات وبحث فيها وتبنى موقفاً نقدياً منها.
دعت الطاولة المستديرة الباحثين والكتاب السوريين المهتمين إلى مناقشة الموضوع من زوايا مختلفة، كما قام بعض الصحفيين في هذا الإطار باستطلاع الآراء لمعرفة رأي الشارع ورأي الكتاب والباحثين بواقع اليسار الحالي، وطرحنا المحاور التالية للمشاركة:
١- منذ السنوات التي تلت استقلال سورية وحتى الثمانينات من القرن الماضي، برز العديد من المثقفين والمفكرين اليساريين الذين تميزوا بنضالهم واجتهاداتهم الفكرية رغم الخلافات العقائدية والتنظيمية والانقسامات التي شهدتها التيارات والأحزاب اليسارية. ما هي الخطوط الفكرية، البحثية والنقدية والتحليلية (إن وجدت) التي يعمل عليها اليسار السوري، وما مدى حضوره في الثقافة السورية وفي المجتمع السوري؟
٢- وسط الأوضاع الكارثية والدمار الذي أصاب البنية التحتية والاجتماعية والاقتصادية في سورية، هل توجد حركات أو محاولات ضمن سورية تسعى إلى إحياء الحياة الثقافية والفكرية والسياسية على نحوٍ يستجيب للتضحيات والتحديات التي بُذلت؟
٣- ما هي الأسباب التي دفعت بعض اليساريين أثناء مراحل انعطافية حاسمة للتعويل على ضرورة التحالف الاستراتيجي مع حركات أصولية إقصائية أو الدفاع عنها؟
٤- هل يمكن الحديث حالياً عن “يسار سوري” أو مجرد أفراد ذوي ميول يسارية؟ ما الذي تبقى من اليسار السوري على صعيد إنقاذ النظرية في ضوء الواقع السوري وعلى صعيد تنشيط عمل اليسار في إطار رؤية جديدة مختلفة عن السابق الحزبي والتبعي للمركز الذي انهار، وبعيداً عن التحول إلى فئة تحالفية للحصول على حصة من كعكة السلطة؟
٥- ما الدور الذي لعبه مفكرون ومناضلون ماركسيون خالفوا التيار الرسمي وأغنوا الفكر الماركسي على المستوى النظري لكنهم حوربوا على المستوى الحزبي أو كانت لهم وجهة نظر مغايرة مثل الياس مرقص ونايف بلوز وجلال صادق العظم، وغيرهم.
٦-كيف تشكل المكتب السياسي وما هي أطروحاته السياسية، وما طبيعة تحالفاته أو دعوته للتحالف مع الإسلاميين التي أثارت جدلاً؟ وكيف كان موقف التيارات اليسارية الأخرى منه، تجربة سجن رياض الترك والتحولات الأخيرة التي طرأت على أفكاره.
٧-كيف تأسست رابطة العمل الشيوعي، ما هي طروحاتها الجوهرية وكيف انتهت؟ أم هل ما تزل موجودة؟ وهل استطاعت أن تؤسس قاعدة شعبية حقيقية؟ وما هي مواقف الأحزاب اليسارية الأخرى منها؟ وهل ترى الآن أن الأفكار النظرية لهذه الحركة كان يمكن أن تقدم رؤية سياسية مهمة في السياق السوري؟
٨- موقف اليسار من الانتفاضة والحرب في سوريا، ولماذ لم يستطع اليسار استغلال الحدث السوري الكبير وترك الساحة للإسلاميين وتياراتهم الجهادية المتطرفة، وما هي مبرراته في اتخاذ الموقف الذي اتخذه.
سينشر موقع ”صالون سوريا“ المساهمات التي ترده تباعاً ويقوم بتفعيل الروابط:
الفرص الضائعة وسياسة الإنكار، حزب الشعب الديمقراطي
حسين شاويش
اليسار السوري إلى أين؟ هامشية سياسية وحضور ثقافي أغنى
د. كريم أبو حلاوة
اليسارالمتجدد سيظل موجوداً
وائل سواح
سلام الكواكبي: “اليسار إما مستقطبٌ سلطوياً أو نخبوي مرضي”
غسان ناصر
نايف بللوز /الماركسي المختلف (1931-1998)
الهيثم العطواني
اليسار السوري.. التباس الهوية والخطاب
عامر فياض
نحو مادية ديالكتيكية “مثاليّة” للضياع العربيّ الأخير!
د. علي محمد اسبر
رابطة العمل الشيوعي في سورية بعض ما لها وما عليها
جمال سعيد
اليسار السوري والمواقف المعاكسة للرؤى اليسارية والثورية
أمل نصر
مأزق اليسار السوري وغياب الديمقراطية
أنور بدر
اليسار السوري وسؤال الفعالية
غسان ناصر
حوار مع محمد (أبو علي) صالح (١): حزب العمل الشيوعي والاعتقال وربيع دمشق
محمد صالح
حوار مع محمد (أبو علي) صالح (٢): الطائفية ومجزرة الساعة في حمص
محمد صالح
اليسار التائه بين شعارات متنافرة
حسيبة عبد الرحمن
المنهج الماركسي ما يزال حياً وقابلاً للحياة
سحر حويجة