بواسطة رنيم غسان خلوف | أبريل 13, 2021 | Cost of War, News, Reports, غير مصنف
ثلاثون دقيقة فقط، كانت كفيلة بأن يحصل السؤال الذي يدور حوله هذا التقرير الصحفي على 100 إجابة، من خلال تعليقات على المنشور الذي وضع في مجموعة مغلقة خاصة بالسيدات فيها آلاف السوريات، والسؤال هو: عن ماذا سوف تستغني الأسرة السورية في رمضان هذا العام؟
بعض التعليقات أتت جدية جداً، رافقتها إشارة وجه تسقط منه دمعة حزينة؛ وبعضها أتت متهكمة مع وجه يضحك وتنزل دموعه من شدة الضحك، في كلا الوجهين كانت الدمعة حاضرة، مرةً أسى، ومرة أخرى أن شر البلية هو ما يضحك.
تعلق دانا (صيدلانية 25عاماً) بـ”سوف نستغني عن الصيام بأكمله!”. بينما تشير نور (صحفية 35عاماً) أنها سوف تستغني عن الحلويات، اللحم الأحمر والدجاج. وتضيف أم وليد (ربة منزل) أنها سوف تستغني أيضاً عن التمر، العصائر الخاصة برمضان، الحليب، والفواكه وتكتفي مع أسرتها بصنف واحد فقط على الإفطار. بينما تقترح غنوة وهي (معلمة 27عاماً) بأن يكون الصيام فقط عن الكلام والشتائم.
زيارة صعبة!
يزور شهر رمضان السوريين وهم بأصعب حال مادية منذ عشرة أعوام. يطل شهر الخير عليهم، بزمن وصل فيه سعر لتر الزيت النباتي إلى 8 آلاف ليرة سورية أي ما يعادل 2$. بينما وصل سعر كيلو لحمة الغنم حوالي 25 ألف ليرة سورية في الحد الأعلى ضمن العاصمة، أي مايقارب 6$، وهو يساوي نصف راتب موظف حديث التعيين. أما التمر الذي كان يعد من حلويات الفقير والغني، فسيكون هذا العام للأغنياء فقط بعد أن وصل سعر الممتاز منه إلى 10 آلاف ليرة سورية. وحول هذا الوضع تقول أم محمد: “ماذا سأحضر لأسرتي هذا العام؟ عن ماذا سوف أستغني؟ هذا سؤال أطرحه على نفسي منذ بداية الشهر، وكلما ذهبت لشراء حاجيات المنزل كلما فكرت برمضان وسفرته”. أما عمر (صحفي 35عاماً) فقد حسم أمره بعكس أم محمد وسوف يستغني عن كل شيء يحضر مقلياً، وأي شيء فيه لحومات أو دجاج، وسيستغني عن عزيمة أي شخص لأنها مكلفة كثيراً، أما الحلويات ستغيب عن مائدة العيد وتحلاية الإفطار والسحور، وتكفي “بونبونة أطفال” على رأيه. وقد أشار خبير اقتصادي في تصريح خاص لنا أن الأسعار ارتفعت عن العام الفائت بين 250 إلى 500%، على الرغم من أن أمر ارتفاع الأسعار في رمضان اعتادت عليه الأسواق السورية على حد تعبير الخبير، لكن لأول مرة تصل إلى هذه الدرجة، بشكل يفوق قدرة أصحاب الدخل المحدود على شراء حتى كيلو “حُمص”.
منذ عام!
بقيت التعليقات على مضمون المادة الصحفية تتواصل، حيث تحاول زينة (40عاماً ربة منزل)، أن تطلب من الجميع دعماً لرأيها، فهي تريد أن تصوم يوماً بيوم، بمعنى ألا تأكل يوماً كاملاً وبالتالي تأخذ أجر يومين، وتتبعه” منيح إذا بيكون في مي”، بينما أم حيدرة (50 عاماً ربة منزل)، فتقول إن رمضان شهر الخير يأتي وتأتي معه الأرزاق.
منذ عام تماماً أتى رمضان وأتت معه موجة “كورونا”، وعاش الناس موجة غلاء عنيفة رغم أن سعر الصرف كان حوالي “2000 ليرة سورية” للدولار الواحد، ورغم ذلك كانت الأسواق تشهد ازدحاماً كبيراً، هل يا ترى ستشهد الأسواق ازدحاماً هذا العام! وهنا يعقب الخبير الاقتصادي (الذي فضل عدم ذكر اسمه) أن دخل الأسرة هو الذي يحدد نشاط أو ركود الأسواق حتى إن غصت بالناس، الكثير منهم يذهب لإلقاء نظرة ويعود بدون تسوق. وهناك من يذهب لقضاء الوقت ومنهم مايتحين فرصة إيجاد حاجة تناسب ما لديه من أموال، وحتى لا تبقى الأسعار ودخول أصحاب الدخل المحدود خاصة يسيران في خطين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا، يجب أن تزيد الرواتب على الأقل 100% كي يأكل الناس قوت يومهم دون تكلف أو استعراض للوجبات الرمضانية وغير الرمضانية.
بولترز لأقل مائدة!
كان عام 2009 أحد الأمثلة الرئيسية في مادة التحرير الصحفي، بكلية الإعلام في جامعة دمشق عن المادة الصحفية التي نالت جائزة بولترز، وتحدثت عن غلاء الأسعار في أحد دول أوروبا بمشاركة مثال عن تكلفة “صحن السلطة” حينها والذي كان يصل لحوالي دولار ونصف تقريباً. قالب الهرم المعتدل الذي بدأت به المادة الصحفية حينها، جعل الجهات المعنية في البلاد تعمل لتضغط على الأسواق لأجل جعل “صحن سلطة” أرخص؛ لكن اليوم في سوريا هل ستأخذ المواد الصحفية التي تحدثت عن سعر لتر الزيت النباتي، وذرات الذهب الأبيض “السكر”، وطابور الخبز، وحتى “صحن سلطة الملفوف” أي جائزة وإن كانت للصبر! خصوصاً أن جسم الإنسان حسب إحدى اختصاصيات التغذية (التي رفضت مشاركة اسمها) يجب أن يتزود بمصادر الطاقة الرئيسية التي تعينه على تحمل ساعات الصيام الطويلة ومنها “النشويات، القمح، الذرة، الأرز، البروتين، البيض، الحليب، الدجاج، والخضروات.” وبحسبة بسيطة لطبق شبه يومي على موائد السوريين فإن تكلفة طبخة الأرز لعائلة مكونة من 5 أشخاص حوالي 4000 ليرة سورية، وهي سعر كيلو الغرام الواحد من الأرز ذي النوعية المتوسطة. وتشير اختصاصية التغذية أن هناك بدائل مثلاً عن البروتين الحيواني، ” الفول، الحمص، العدس، الفاصوليا”، لكن وصل سعر كيلو الحمص المطحون في العاصمة إلى 5000 ليرة سورية، وسعر صحن البيض ما بين 6000 و8000 ليرة سورية حسب سعر الصرف. ووفقاً لهذا الظرف الصعب فحتى البدائل ربما أصبحت للأغنياء فقط، وربما يجب أن يبحث الصحفيون عن أقل مائدة طعام تكلفةً في رمضان السوريين عام 2021، ليحصلوا على “بولترز”!
ماذا بعد!
ويتساءل المر ماذا بعد! فالسؤال المفتوح اليومي الذي يسأله السوريون منذ ارتفاع سعر الصرف فوق 4000 ليرة سورية “لوين رايحين”، خاصةً مع عدم قدرة الجهات المعنية على ضبط الأسعار. ويجيب الخبير الاقتصادي أنه لا حل في الأفق إلا إذا، تم تحديد سعر الصرف أولاً، وتوفير المواد المستوردة بما بكفل حاجة الأسواق، وعدم ازدواجية الضرائب ومضاعفتها، ووضع سعر موحد للسلع يحقق الربح للبائع ويناسب دخل المستهلك، بهذه المعايير تستطيع الجهات المختصة ضبط الأسواق والتجار، وغير ذلك فإن الوضع يتجه للأسوأ.
هل سيبقى الوضع على حاله عند بداية شهر الخير “رمضان”، أم سيزداد الطين بلةً، فإذا استغنى السوريون عن الزيوت النباتية وعاشوا على المسلوق من الخضروات، هل تستطيع الجهات المعنية ضبط أسعار الخضروات! هذه بعض الأسئلة المفتوحة التي يصعب الإجابة عليها حالياً ضمن الظروف الصعبة التي تجاوزت عشر سنوات من الحرب.
بواسطة Hadia Al Mansour | أبريل 8, 2021 | Cost of War, Reports, غير مصنف
تقف الأرملة روعة السلمان (٤٠ عاماً) عاجزة أمام حالة ابنتها سلمى (٩ سنوات) والمصابة “بالساركوما العظمية” وهي نوع من أنواع مرض السرطان الذي يصيب العظام والأنسجة الرخوة، المرض يمتد بجسد ابنتها ولا سبيل لعلاجها بعد أن أغلقت كل السبل في وجه الأم البسيطة.
تقول السلمان بيأس: “الأعمار بيد الله، وقد فعلت ما بوسعي لأساعد ابنتي في الحصول على العلاج لكنني لم أفلح.” وتضيف أنها اكتشفت مرض ابنتها بعد أن راحت تشكو من ألم في قدمها، وبعد فحصها من قبل الطبيب المعالج وتحليل خزعة تبين أنها تعاني من مرض السرطان، وهي بحاجة لعلاج في تركيا، ولكن الأمر لم يكن “بتلك البساطة”، إذ تتطلب آلية تحويل المريض إلى تركيا مراجعة العيادات الخارجية لمشفى باب الهوى ثم الحصول على موافقة الطبيب بعد فحص المريض مع امتلاك المكتب الطبي حق رفض الإحالة التي لا يرغب بدخولها. وقد تكررت محاولات الأم وابنتها لدخول الأراضي التركية للحصول على العلاج المجاني وغير المتوفر في منطقتها إدلب لكنها لم تستطع ذلك بعد رفض إدارة معبر باب الهوى “المزاجية” السماح لها بالعبور.
حال الطفلة سلمى يشبه حال الكثيرات من مريضات السرطان شمال غرب سوريا اللواتي لا يجدن سبيلاً للعلاج من أخطر الأمراض على الإطلاق نتيجة نقص التجهيزات والأخصائيين والأدوية في الوقت الذي تفرض فيه تركيا قيوداً على دخول المرضى لأراضيها، إذ تم تخفيض عدد الحالات المقبولة يومياً من عشر إلى خمس حالات فقط من مختلف الأمراض المزمنة والحروق والحالات الطارئة المستعجلة.
تلعثمت كلمات صفاء الكشتو (٣٥عاماً) وهي تحدثنا عن مرضها حين قالت إن بداية مرضها كانت منذ أكثر من عام حين لاحظت ظهور كتلة تحت إبطها الأيمن، هذه الكتلة تبين بعد التحليل أنها ورم سرطاني وعلى الرغم من إجرائها لعملية استئصال للكتلة فهي عادت للانتشار في أماكن أخرى من جسدها بعد مدة بسيطة من إجرائها العمل الجراحي. حاولت الكشتو إيجاد وسائل للعلاج لكن عدم توفر العلاج الشعاعي في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة جعل أمر شفائها “مستحيلاً “، بينما لم تتمكن من دخول الأراضي التركية حالها حال الكثيرات من مريضات السرطان ولا حتى تأمين الأدوية المرتفعة الثمن وفق تعبيرها. تعي الكشتو أن تأخر علاجها سيؤدي بها لمصير مؤلم لكنها لا تعلم سبيلاً لتلقي العلاج بعد أن يأست من الشفاء مع انعدام الحلول المتاحة. وهي تحاول نسيان مرضها لتتمكن من متابعة حياتها، فهي لا تشعر بالألم إلا في لحظات الصباح حين تحاول النهوض من فراشها لتمضي يومها بعد ذلك بشكل طبيعي.
ورغم أن افتتاح مركز معالجة أمراض السرطان في إدلب من قبل الجمعية السورية الأمريكية (سامز) بالتعاون مع مديرية صحة إدلب شكل بارقة أمل لعدد كبير من مرضى السرطان شمال غرب سوريا غير أنه لا يوفر كافة أنواع العلاج لمريضات السرطان.
وعن المركز وعدد الحالات التي تراجعه شهرياً يحدثنا الطبيب ملهم خليل (٣٣عاماً) الأخصائي بأمراض الدم والأورام فيقول إن المركز يستقبل شهرياً أكثر من ٤٠ مريضة سرطان، ٢٠٪ منهن مريضات سرطان ثدي، والبقية تتنوع بين سرطانات الرحم والمبيض والكولون والليمفوما والدم. وأشار الطبيب الخليل لوجود نسب شفاء تام من مرض السرطان بعد الاستفادة الكبيرة من الجرعات الكيميائية والعلاج الهرموني والجراحة التي يقدمها المركز لمريضات السرطان. ويرجع الطبيب الخليل أمر الشفاء لدرجة المرض إن كان درجة أولى أم ثانية أم ثالثة، فكلما كانت مرحلة الكشف عن المرض أبكر كلما كانت الاستفادة أكبر، ويؤكد الطبيب الخليل أن الدرجة الرابعة من المرض قد تكون خطيرة جداً ولا يتوفر لدى المركز العلاج المتمثل بتقديم العلاج الإشعاعي والمناعي أو العلاج الإشعاعي المناعي وهو علاج “مكلف جدا”.
ويرى الطبيب الخليل أنه ليس هناك زيادة في نسبة مرض السرطان وإنما هناك زيادة بنسبة التشخيص لاكتشاف المرض وذلك لسببين غالباً؛ الأول زيادة الوعي لدى الأهالي نتيجة النشاطات التي تعتمدها منظمات المجتمع المدني بضرورة الكشف المبكر عن السرطان من خلال إطلاق حملات توعوية وتوزيع بروشورات وندوات وبرامج إعلامية في الصحف والإذاعات؛ والسبب الثاني هو وجود مركز متخصص ومجاني في إدلب ما دفع المرضى لزيارته والاطمئنان على صحتهم لدى شكهم في وجود أي كتلة أو ورم إذ لم يعد هناك إهمال لموضوع الكشف المبكر عن المرض لدى معظم الناس.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية يعد سرطان الثدي أحد أكثر أنواع السرطانات شيوعاً بين النساء في جميع أنحاء العالم وأن نسبة ٪٥ لـ ٪١٠ فقط من حالات الإصابة تكون بسبب الوراثة. بينما يشكل العيوب الجينية إحدى الأسباب أيضاً، وحذرت الأخيرة من أن معدلات الإصابة بالسرطان في العالم قد ترتفع بنسبة 60% على مدار العشرين عاماً القادمة ما لم يتم تعزيز العناية بالسرطان في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. وقالت وكالة الصحة الأممية إن أقل من 15% من هذه الدول تقدم خدمات شاملة لعلاج السرطان من خلال أنظمتها الصحية العامة، مقارنة بأكثر من 90% من نظرائها الأكثر ثراء.
سارة السعيد (٤٥عاماً) كانت ممن حالفهن الحظ لدخول الأراضي التركية والعلاج في مشافيها بعد إصابتها بسرطان الثدي منذ ثلاث سنوات، تقول السعيد أن الاهتمام بمرضى السرطان تراجع في تركيا في السنوات الأخيرة ولم يعد المريض يلقى الاهتمام والعناية بذات السوية السابقة: “فالمواعيد أصبحت بعيدة تحت حجة كورونا تارة والازدحام تارة أخرى إلى جانب منع دخول مرافقين مع المريض لمن هم فوق الثمان سنوات، الأمر الذي يزيد معاناة المرضى وخاصة كبار السن الذين يحتاجون لوجود أشخاص بالقرب منهم.” ودعت السعيد إلى دعم المشافي والمراكز الطبية في الشمال السوري ورفدها بالمعدات والأجهزة والأخصائين ومراكز التحليل والكشف المبكر عن السرطان لضمان إبقاء مرضى السرطان هناك وعدم تحملهم مشقة السفر والأعباء المالية الكبيرة للدخول إلى تركيا والعلاج فيها بعيداً عن عوائلهم وذويهم.
بواسطة هيفاء بيطار | أبريل 6, 2021 | Cost of War, العربية, مقالات
ثمة مواقف لا يمكن نسيانها وقد تبقى مطمورة في الذاكرة لسنوات لكنك تشعر أنها تزداد ثقلاً وضغطاً على أعصابك وترغب أن (تبق البحصة) كما يقولون.
عندما كنت أعيش في سوريا، كنتُ أسافر كثيراً إلى بيروت لأنني أطبع كتبي فيها ولأنني أعشق بيروت ولدي صداقات كثيرة هناك. وكنتُ أسافر من حدود العريضة (الحدود السورية اللبنانية بين اللاذقية وطرطوس أي الساحل السوري والحدود اللبنانية). وذات يوم كنت مسافرة إلى بيروت حيث كان لدي موعد مع السفارة الفرنسية لتقديم طلب فيزا إلى فرنسا لزيارة أهلي (كلهم في باريس)، وبصعوبة بالغة حصلت على الموعد (كان قد رُفض لي طلب سابقاً)، وككل سوري كنت أشعر بالرعب ما أن يصل التاكسي السوري الذي يضم الركاب إلى حاجز الأمن السياسي قبل الحدود بأمتار قليلة، كان الحاجز يسمى حاجز أبو (ع)، وكان السيد (ع) يُروع السوريين السائقين والركاب، وكل فترة يتحفنا بقرار لا نعلم سببه وهل هو قرار أصدرته الحكومة أن للسيد (ع) مطلق الصلاحيات لإصدار القرارات التي يريد دون أية محاسبة أو حتى محاولة للفهم. كان يوماً شتائياً من عام 2013 وكنت وحدي مع السائق (في ظروف المأساة السورية لم يكن أحد يسافر إلى لبنان إلا لموعد مع طبيب أو موعد مع سفارة، ولكن السائق اللطيف لم يقبل أن يأخذ مني مبلغاً كبيراً ارتضى أن أدفع أجرة راكبين فقط، وأخذ يشكو بأن سفرياته إلى بيروت قليلة جداً، ووصلنا حاجز الأمن السياسي المُرعب ورغم إيهام نفسي أنني متماسكة ولا مبالية ولست خائفة؛ فما أن طلب السائق هويتي وأعطيته إياها واتجه إلى المبنى شديد البؤس للأمن السياسي، حيث يحتشد باقي السائقين وهم يحملون هويات الركاب، ويدخل كل بدوره إلى المبنى حيث يستقبله عدة عناصر أحدهم جالس على كرسي وأمامه طاولة عتيقة ودفتر كبير جداً يسجل فيه اسم صاحب الهوية وكل المعلومات في الهوية. وجدتني أسحب سيجارة من علبة دخان السائق وأبدأ التدخين (وأنا لا أطيق التدخين). لجمت عقلي الذي سخر وأشفق علي ليثبت لي كم أنا خائفة. فالخوف السوري هو خوفٌ خام نرضعه مع حليب أمهاتنا. نُروع أطفالنا بقصص معتقلي الرأي الذين قضى بعضهم سنوات طويلة في السجون وبعضهم قُتل.
غاب السائق طويلاً في مبنى الأمن العسكري وبدأت دقات قلبي تتسارع ونزلت من السيارة وأردت دخول المبنى فمنعني عنصر موظف أن أدخل. وأطل السائق بوجه مكفهر مذعور وقال لي: “آسف دكتورة ممنوع تسافري إلى بيروت.” صُعقت وسألته: “لماذا؟” اعتقدت أن أحد كتبة التقارير كتب بي تقريراً، لكن السائق أخبرني أن كل السيارات التي ستسافر عن طريق العريضة ممنوعة من عبور الحدود وأن ثمة قراراً أصدره السيد (ع) بأن عليهم العودة من حيث أتوا وإن لم يعجبهم القرار يمكنهم السفر عن طريق معبر الدبوسية (أي المعبر الحدودي بين حمص ولبنان)! وتساءلت لماذا إذلال الناس بهذه الطريقة وهم من سكان الساحل، ولم عليهم إضاعة ساعات من وقتهم ومالهم حتى يصلوا إلى حمص ومعبر الدبوسية! لا يمكنك أن تسأل أبداً في سوريا خاصة المسؤول عن الأمن السياسي، ولا أعرف كيف امتلكت شجاعة التهور وخطفت هويتي من يد السائق وقلت له سأقابل السيد (ع)، فرجاني ألا أفعل وأن هذا خطر علي، لكنني كنت كالصاروخ مندفعة تجاهه. ورغم أن عدة عناصر من الأمن حاولوا منعي إلا أنني أصريت أن أقابله واقتحمت غرفته شديدة البؤس المؤلفة من أريكة عتيقة ومكتب صغير. كان لدى السيد (ع) عدد من الزوار الرجال، وكان منهمكاً في سحق عدة بيضات مسلوقات في رغيف خبز ووضع شرائح البندورة فوقها، وخلف مكتبه كانت صورة الرئيس تحتل الحائط. جلست قبل أن يقول لي “اجلسي”، ونظر إلي بدهشة وقال غاضباً: “خير!” شرحتُ له أن لدي موعداً مهماً في السفارة الفرنسية. فقال: “ألم يقل لك السائق ممنوع السفر ألم تفهمي الكلام هل أعيده ثانية!” وجدتني بحالة من الارتباك والتشوش الذهني ولا أدري ما الذي دفعني لأخرج بطاقتي بأنني اختصاصية في طب العيون ووضعتها على مكتبه دون أن أنطق كلمة واحدة. وفيما هو يمضغ سندويشة البيض، أمعن النظر في بطاقتي وأجفلت حين انتفض واقفاً وقال وهو يبتسم لي: “عيني ربك، عيني ربك أنت طبيبة عيون مثل السيد الرئيس.” ومسح يده اليمنى بقميصه ومزق قصاصة ورق من دفتر أمامه وكتب أنه مسموح لي بالسفر إلى لبنان وأعطاني القصاصة، لكنه أصر أن أشرب فنجان قهوة، وخفت أن يتراجع عن رأيه فقبلت دعوته تحت الإصرار. كنتُ أمسك فنجان القهوة بيد مرتعشة رغماً عني وباليد الأخرى أطبق بكل عزيمة وقوة على قصاصة الورق التي تسمح لي بالسفر إلى لبنان، وأثناء حديثنا اكتشفتُ أنه يتكلم الفرنسية بطلاقة رائعة، وأخبرني أنه قضى سنوات في فرنسا وأنه أحب فرنسية لكنها ماتت بالسرطان ويفكر أن يكتب قصة حبه العظيمة.
لم يصدق السائق أنني نجحتُ بإقناع من تتقصف الفرائص رعباً لمجرد ذكر اسمه السيد (ع) بالسماح بسفري لبيروت. وسألني: “شو عملتي دكتورة، كل السيارات لم تمر وكلها عادت من حيث أتت، فماذا فعلت؟”. أخبرته: “لم أفعل شيء لكن أنا محظوظة.” أصر السائق وسأل: “كيف يعني محظوظة؟” قلت له: “لا تكثر من الأسئلة لنعبر الحدود بسرعة لو سمحت.” ولاحظتُ أن السائق صار ينظر إلى بارتياب وحذر ولم يعد ينطق حرفاً. ورغم أني أسافر معه دوماً إلا أن السائق صار يخشاني، ربما لاعتقاده أنني أعمل مع أجهزة الأمن ومع السيد (ع).
هذه الحادثة التي أردت التقليل من قيمتها ودفنها عميقاً في ذاكرتي لطالما أيقظتني ليلاً لأسترد تلك اللقطة اللامعقولة (عيني ربك أنت طبيبة عيون مثل السيد الرئيس). وكنتُ أحس بألم وخزي وأنا أستعيدها وأتساءل أين العدالة! صحيح أنني فرحتُ عندما سمح لي السيد (ع) بالعبور إلى لبنان، لكن كان فرحي مجللاً بالخزي وأنا أرى العديد من السيارات ممنوعة من العبور وتعود أدراجها. السيد (ع) الذي يعرف الجميع أنه بقي لأشهر يمنع كل سوري من إدلب من دخول لبنان لأن أخاه استشهد في إدلب. السيد (ع) الذي كان يتلقى أفخم الهدايا من السائقين.
فرحنا نحن السوريين له طعم الحزن والقهر. الخوف السوري حالة تستحق الدراسة النفسية العميقة. أظن أنني محظوظة لأنني كنت محتارة بين اختصاصين، الطب النفسي وطب العيون، ولم أعلم أن اختياري لطب العيون سيكون كخاتم سليمان.
بواسطة Hasana Saqbani | أبريل 4, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
تُشكل الحوالات المالية مصدراً أساسياً للدخل الشهري لكثير من الأسر السورية التي تعتمد عليها لتأمين احتياجاتها المعيشية في ظل انخفاض القيمة الشرائية لليرة السورية وتدهور الأوضاع الاقتصادية، إلا أن المعاناة تلاحق المواطن السوري حتى في استلام الحوالة المساندة التي يتلقاها من أقربائه في الخارج اذا أراد استلامها من خلال شركات الصرافة والتحويل المرخصة رسمياً أو حسب سعر الصرف الرسمي في ظل الإجراءات المتخذة لتقيد التحويل.
تُعد الحوالة المورد المادي الوحيد التي يحمي صاحبه من العوز بالنسبة لأشخاص كُثر داخل سوريا، كحال ماريا (41 عاماً) التي تسكن هي وشقيقتها في منزل مستأجر، وتشكل الحوالة المالية التي تتلقاها من أخيها المتواجد في ألمانيا السند الحقيقي في الفترة الراهنة حسب تعبيرها. تتحدث ماريا عن وضعها: “أعتمد بشكل كلي في تغطية نفقاتي على المبلغ الذي أتلقاه في بداية كل شهر من أخي الذي هاجر بسبب ظروف الحرب لأن المورد أصبح شبه معدوم، ليس لدي أي نوع من المدخول و لو أن الحوالة غير موجودة لا أعرف ماذا كنا سنفعل، أحاول الاقتصاد قدر الإمكان في النفقات وتدبير الأمور بحكمة لكي يكفي المبلغ لنهاية الشهر”.
وتوضح ماريا طريقة حصولها على الحوالة: “نتعامل مع أشخاص حيث يتم تحويل المبلغ بصورة غير رسمية وإرساله باليورو واستلامه بالليرة السورية، ويُحتسب المبلغ حسب سعر السوق السوداء مع أجور تحويل بين 3-5 في مائة، وهذه هي الطريقة الأنسب حتى لا أخسر جزءاً كبيراً من المبلغ بسبب القرارات العبثية التي يضعها أصحاب القرار لسلب مساعدات الناس من أقاربهم”.
من جانبها دانيا (26 عاماً) وهي خريجة كلية الحقوق تقول: “مجال دراستي يتطلب إذا دخلت المحاماة التدريب لمدة سنتين بشكل غير مأجور لذلك ليس هناك وارد مادي بشكل نهائي، أحصل على حوالة شهرية 400 ألف ليرة أحاول من خلالها تغطية المصاريف الشخصية، في الفترة الراهنة من له شخص خارج سوريا قادر على دعمه مادياً هو الشخص الذي يستطيع الشراء وتحريك السوق.”
وأضافت دانيا: “وضع الحوالات حساس في الفترة الراهنة فإما ارسال الحوالة بالطرق الرسمية وهذا يعني خسارة نصفها، فاستلام الحوالة يكون إما في الشركات الخاصة التي تسلم المبلغ على سعر 2200 ليرة سورية للدولار الواحد في حين السعر الحقيقي يصل لحد 4400 ليرة سورية بمعزل عن أجور التحويل التي تقارب 10 بالمائة من المبلغ الإجمالي، أو الاعتماد على أشخاص تعمل في هذا المجال وأجدها خطيرة لأني لا أعرفهم بصورة شخصية، لذلك نعتمد على استلام الحوالة المالية عن طريق الأقارب لاعتبارهم أضمن، فترسل كأمانة مع شخص يكون في زيارة إلى دمشق”.
السعر الرسمي يبدد موارد مهمة للعملة الأجنبية
المسؤولية تقع على عاتق المصرف المركزي لإيجاد آلية يوحد من خلالها السعر مع السوق السوداء لتعود الثقة ويتم التحويل بالطرق الرسمية حسب ما أوضحت الدكتورة منال شياح وهي دكتورة في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق وأضافت: “لاشك أن الحوالات المالية تشكل دعامة وإفادة للبلد ولكن ما يحدث على أرض الواقع أنه عندما يتم التحويل المالي إلى سوريا يتم التحويل بالسعر الرسمي ويصل إلى الناس بصورة أقل بكثير من السوق السوداء، لذلك معظم الحوالات لا تدخل بصورة رسمية وإنما بالطرق غير المباشرة أو التهريب، لذا يجب إيجاد آلية لرفع سعر الصرف الرسمي أو إحداث مقاربة في سعر الصرف بالنسبة للحوالة، لكي لا تهرب الناس من التحويل الرسمي، وبالتالي يبدد موارد هامة من العملة الأجنبية”.
تشير الشياح إلى الفوارق الكبيرة في أسعار الصرف: “سعر المصرف المركزي لدولار الواحد 1250 ليرة، السعر الذي يصل للمواطن عن طريق شركات الحوالات الخاصة 2200 ليرة سورية، والسعر في السوق السوداء ما بين 4400 و 3700 ليرة للدولار الواحد مما يجعل الفوارق كبيرة جداً، لذلك يعتمد المواطن على طرق مختلفة مثل التحويل عن طريق المبادلة بين الأقارب في خارج وداخل سوريا، أو عن طريق أشخاص تمتهن تحويل الأموال بين البلدان حيث يتم دفع المبلغ بالعملة الأجنبية في الخارج ويصل بالليرة السورية حسب سعر الصرف في السوق السوداء، وفي كلتا الطريقتين القطع الأجنبي لا يدخل سوريا ولا يستفيد منه البلد بصورة نهائية، ويتم اللجوء لها لتفادي السعر الرسمي القليل والخسارة الناتجة عنها.”
قرارات المصرف المركزي غير صائبة
وعند الاستفسار عن أسباب عدم اتخاذ أي إجراء برفع سعر الصرف المركزي لتتمكن الناس من الإرسال عبر الشركات الرسمية، أشارت الدكتورة الشياح إلى أن: “ارتفاع سعر المصرف المركزي إقرار بانهيار الليرة السورية، وفي الحقيقة الانهيار الاقتصادي حاصل ولكن الكثير من المسؤولين وأصحاب القرار ليس لهم مصلحة برفع سعر الصرف لأنهم مستفيدون بشكل كبير. حالة الشلل الاقتصادية مرتبطة بالفساد المنتشر، سنبقى نعاني إلى أن نتخلص من الفساد، كل يوم نسمع بقضية فساد بمليارات، عندما نتخلص من الفساد ستكون القرارات الصادرة عن البنك المركزي صائبة وفي مصلحة البلاد”.
كما تشير الشياح إلى ضرورة رفع إجازات الاستيراد لـ 2500 ليرة وتوضح: “بين سعر المركزي وسعر السوق يوجد فرق 3500 ليرة فهؤلاء الأشخاص مستفيدون كثيراً لذلك يتم وضع عراقيل لكي لا تذهب الأرباح الطائلة التي يحصلون عليها. الفساد والاحتكار هما المعياران للحصول على إجازات الاستيراد لسلع أو مواد معينة في سوريا، فالاستيراد يكون على سعر الصرف 1250 ليرة والبيع على سعر 4500 ل.س وبالتالي تحقيق أرباح هائلة ليس من مصلحة المستفيدين من رفع سعر المصرف المركزي، فجميعهم أصحاب سلطة وبمكان صنع قرار.”
تجاوزت نسبة الفقر في سوريا 90 في المائة وحالة الشلل في الأسواق كبيرة، فالدعم عن طريق الحوالات يشكل طوق النجاة لكثر، نسبة الأشخاص التي تعتمد على الحوالات في نفقاتها تُقدر بحوالي 30 في المائة من السكان. يجب اتخاذ قرار برفع سعر التحويل في مجال الحوالات، وخاصة أنها مصدر موثوق بالنسبة للمواطن تفادياً لحالات النصب التي تحدث وللاستفادة منها في اقتصاد البلاد، وكذلك تعديل تسعيرة إجازات الاستيراد وخاصة أن الاستيراد للتجار يتم بسعر المركزي ويحصل عليه المواطن بسعر السوق السوداء، على عكس الحوالات التي ترسل له بالعملة الأجنبية ويستلمها على سعر الرسمي و يبقى المواطن الفقير هو الخاسر دائماً.
بواسطة الحسناء عدرا | أبريل 2, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
يتصدر الحصول على ربطة خبز بشق الأنفس عبر البطاقة “الغبية” وفق ما يسميها السوريون، طليعة أزماتهم اليومية وأشدها إيلاماً. حالة ازدحام خانقة تشهدها الأفران حتى ساعات الليل المتأخرة. نادراً ما تقع عيناك على وجه يرتدي كمامة أو أن ترى أحداً يتبع أدنى الإجراءات الوقائية من فيروس “كورونا” في نسخته الجديدة انطلاقاً من مبدأ المساومة بين الموت جوعاً أو بالفيروس، لتمتد ساعات الانتظار إلى أكثر من أربع ساعات متواصلة، إلا أنه في حالات استثنائية وعند ووجود “واسطة جوا الفرن” يمكن للمرء تجاوز الأدوار والمرور متخطياً العناقيد البشرية الملتحمة فوق بعضها، فهنا لكل شيء ثمن، لكن هناك من يعجز عن رشوة الانتظار، تراه يضبط جهازه الخليوي عند الساعة الرابعة فجراً لينهض منذ ساعات الشقاء الأولى لحجز مكان له في طابور الخبز الذي لا ينتهي، كي يفوز ببضعة أرغفة ساخنة تسد بطون أطفاله الخاوية بعد انتظار ذليل، لأنه لا يملك ترفي الاختيار والتململ. يقول أحدهم: “ببساطة، إذا ما نطرت، بناموا ولادي جوعانين وبيبكوا من الجوع “.
تقف أم عمر إلى جانب محل بزورية بانتظار خروج ابنتها ظافرة بزجاجة عرق سوس تحضيراً لقدوم شهر رمضان الذي يبدو أنه سيكون غير كريم هذا العام على خلاف السنوات الماضية. تستقبلها بشهقة طويلة لدى سماعها سعر العبوة الذي تضاعف ثلاث مرات، فيما لائحة الاحتياجات الأساسية تطول وتتمدد، تقول السيدة الخمسينية بحسرة: “أنفقت اليوم مبلغ ستين ألف ليرة على حاجيات صغيرة، منها ليتر زيت نباتي بـ 7 آلاف ليرة، بت أقنن استعماله وأستخدمه عند الضرورة القصوى، قلصت وجبات المقالي، لأستبدلها بالمشوي، كما اشتريت كيلو تفاح وآخر برتقال، بعد أن ألح أحفادي على شرائه بعد طول اشتهاء، ابني أيضاً لديه امتحانات ويجب أن يتناول بعض الفواكه”.
قاطعت السيدة مجبرة صنف البيض منذ أكثر من 15 يوماً لارتفاع سعره، ليوبخها الطبيب على فعلتها المشينة بحق صحتها، وتعقب: “أعاني من مرض هشاشة العظام، قاطعت الحليب والبيض، وبخني الطبيب على ذلك، لا أستطيع شرائهما، فسعر صحن البيض يصل إلى 6500 ليرة”. تختصر حديثها بالقول: “صرتي تخافي تطلعي برا البيت من كتر الغلا، كل يوم سعر جديد”.
أسعار اللحومات والخضار تحلق عاليا ًعلى إيقاع “الدولار” الذي يعتبر التعامل معه في العلن تهمة تقودك إلى السجن، بينما راتب الموظف الهزيل مازال على الليرة السورية،
فسعر كيلو لحم الغنم يصل إلى 28 ألف ليرة، وكيلو الدجاج 6 آلاف ليرة. هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار دفع العديد من الأسر السورية إلى إتباع سياسة التقتير وإزاحة الكماليات لصالح الضروريات القصوى، كحال أحلام التي اعتمدت على المأكولات الغنية بالخضار والإكثار منها في برنامج أسرتها الغذائي اليومي وتوضح: “لم أعد أذكر آخر مرة دخلت اللحمة منزلنا، أما الدجاج فمرة بالأسبوع، احتفظ بفروج في الثلاجة منذ 20 يوماً تحسباً لأي دعوة غداء مفاجأة”.
غير أن هذا الغلاء الفاحش لا يمكن أن تجد له أثراً على شاشات الإعلام المحلي، بل يختفي ويتلاشى تماماً عبر حركة خُلبية بـ”الكاميرا السحرية” التي تتجول في صالات البيع المباشر بحثاً عن لائحة أسعار غير منطقية لتبدلها بأخرى منطقية يتقبلها عقل وجيب المواطن، وما إن ترحل “الكاميرا السحرية” يُعاد تعليق لائحة الأسعار الحقيقة.
تتلقف سمر خبر ارتفاع سعر ليتر الزيت النباتي الذي وصل إلى 8 آلاف ليرة بالسخرية والتهكم قائلة: “أفكر جدياً بتعبئة الزيت في عبوة الكحول ورش الطعام بقطرات معدودة، الغلاء لا يصدقه عقل”.
أخذت التوابل والبهارات والمكسرات حصة الأسد من موجة الغلاء، إذ تفوق الصنوبرعلى الذهب، فوصل سعر الكيلو الواحد إلى 240 ألف ليرة، أي ما يقارب غرام وربع من الذهب. أصيبت أم عبدو بالدهشة لدى سماعها بسعر الوقية الذي وصل إلى 80 ألف، تقول والذهول يغزو معالم وجهها: “حتماَ، سيكون الدخل الشهري للشخص الذي سيشتري الصنوبر بالملايين، بالنسبة لي نسيته منذ دهر، واستبدلته بحبات فستق العبيد”.
أُلحقت أزمة الوقود بأخواتها، إذ أصدرت اللجنة المتخصصة بالمحروقات منذ عدة أيام قراراً بتخفيض حجم الكمية من المواد البترولية بالنسبة للسيارات بمعدل ما يقارب 50% في العاصمة دمشق، حيث خصصت للسيارات الخاصة والسياحية 20 لتر بنزين كل 7 أيام، أما بالنسبة للسيارات العمومية (تاكسي) فقد تم تخفيض الكمية إلى 20 لتراً وتعبئتها كل 4 أيام.
فيما شمل القرار السرافيس العاملة على الخطوط داخل العاصمة وإيقاف إمدادها بمادة المازوت أيام الجمعة. ويقول إبراهيم الذي يعمل سائق سيارة أجرة ظهراً وموظفاً صباحاً: “رفعوا سعر البنزين وماعادت توفي معنا، العالم ماعم تركب تكاسي، عدا عن نوعية البنزين السيئة، مخلوطة مع زيت وكلها شوائب”.
يعزو المحلل الاقتصادي شادي أحمد سبب تردي الأوضاع الاقتصادية في سوريا إلى “اختلال قوى الإنتاج نتيجة الحرب أولاً، والعقوبات الاقتصادية ثانياً، وخروج معظم الإمدادات كالقطن والنفط من سيطرة الحكومة السورية ثالثاً، الأمر الذي حول الاقتصاد السوري من اقتصاد يستورد كل شيء بعد أن كان يصدر معظم ما ينتج”. يوضح المحلل “أن الأسرة السورية وفق سلم النفقات باتت تحتاج إلى 3 منتجين لتتمكن من العيش، أي تشكل حوالي 80% من الدخل ينفق على الطعام والشراب وبعض الدواء بسبب غلاء الأسعار، بمعنى آخر لا تستطيع العيش بدخل واحد”.
وكانت صحيفة الوطن المحلية نشرت تقريراً صادراً عن “نقابات العمال” في بداية العام يوضح ارتفاع تكاليف المعيشة في سوريا بشكل غير مسبوق، حيث ذكر التقرير أن الأسرة المكونة من 5 أشخاص أصبحت تحتاج إلى 600 ألف ليرة سورية لسد نفقات المعيشة في الشهر، ليشير التقرير إلى تراجع القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود بنسبة 90% نتيجة الارتفاعات الكبيرة في أسعار المواد الأساسية التي وصلت إلى مستويات تجاوزت 1000%. في الوقت الذي أصبح هناك فجوة كبيرة بين الأسر السورية فهناك عائلات لا يتجاوز متوسط دخلها الشهري حاجز50 ألف ليرة سورية.
بواسطة Mason Al-Shaheen | أبريل 1, 2021 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “المعاناة اليومية في سوريا“
“كعادتي كل صباح أشرب القهوة أمام نافذة غرفتي المطلة على الشارع الرئيسي في المدينة، أراقب الغيوم الرمادية في السماء فأتوقع طقساً ماطراً؛ ثم أسأل نفسي ماذا عن طقس الشارع اليوم؟ أطالع وجوه المارة بحثاً عن إجابة فيتوقف نظري بالتحديد عند الصيدلية المقابلة لمنزلي، لا يكاد يخرج أحدهم منها حتى يدخل الآخر، حركةٌ من النشاط اللافت لا تشبه حالة الركود التي تعيشها البلد أو المحلات المجاورة لها والفارغة إلا من أصحابها، أستذكرُ اعتياد عائلتي منذ الطفولة على تقديم مساعدة مادية لصيدلية القرية في كل موسم أو مناسبة. أعود لأسأل نفسي ماذا عن صيدلية المدينة هل يمكنني فعل شيء؟ وقبل أن أنهي القهوة غادرت المنزل قاصدةً تلك الصيدلية وسمعت الإجابة التي أريد: “نعم بالتأكيد.”بهذه العبارات تحدثت راما (اسم مستعار) والتي تبلغ من العمر 26 ربيعاً وتقطن في مدينة جرمانا في ريف دمشق الجنوبي.
تعمل راما في مجال التدريب الشبابي وتكمل دراستها العليا في جامعة دمشق. تفكر راما في مدى الحاجة إلى الدواء، في حرب تدخل عامها العاشر، وتواصل إطلاق رصاصها على حياة السوريين بدءاً من انهيار الليرة السورية وما يرافقه من جنون في الأسعار، وصولاً إلى طوابير انتظار الخبز وليس انتهاءً بالوقود والدواء. هذا كله ووباء كورونا في أرض الديار والذي فاقم أزمة الأدوية من ناحية فقدانها أو ارتفاع تكلفتها، فبحسب مديرة الشؤون الدوائية في وزارة الصحة د. رزان سلوطة في تصريحات سابقة لها لوسائل إعلام محلية منذ مدة تقول: “هناك شح في بعض المواد الأولية التي نستوردها نتيجة أزمة كورونا وكثير من الدول أحجمت عن تصدير المواد الأولية لديها.” كما وتتحدث عن جاهزية المعامل التي تعمل بكامل طاقاتها لتأمين كافة أنواع الأدوية خاصة أدوية الضغط والسكري والقلب، ولكن ما أن ينتهي الحديث عن تغيب أو توافر بعض أصناف الدواء ليبدأ حول الارتفاع الكبير في أسعاره وتغيير التسعير من وقت لآخر ومن يوم لآخر إن صح القول.
خبايا الصيدلية
“الخير لو قليل بس موجود والدنيا ما بتخلا” هكذا بدأ السيد (منير) حديثه والذي فضّل عدم ذكر اسمه الحقيقي لأنه بحسب قوله “عمل الخير لا يحتاج أسماء.” ومنير صاحب واحدة من أقدم الصيدليات في جرمانا -هي ذاتها التي قصدتها راما- وعند سؤاله عن المساعدات المالية تحدث عن تردد ثلاثة أشخاص بشكل مستمر على صيدليته منذ ما يقارب ثلاث سنوات، يضعون لديه مبلغاً من المال كي يتم تقديم الدواء مجاناً للمرضى الذين لا يملكون ثمنه، وعند سؤاله عن المعايير التي على أساسها يقدم الدواء مجاناً يقول: “لا شروط ولا معايير هذا يعود للتقدير الشخصي للحالات” ويتابع حديثه؛ عند دخول سيدة كبيرة تسأل في البدء عن تكلفة وصفة الدواء الذي طلبه الطبيب فعندما يرى ارتسام علامات التردد والارتباك على ملامحها يدرك حينها ضرورة تقديم الدواء دون أخذ حقه ويقول للسيدة: “هذا الدواء من فاعل خير”.
ويذكر السيد منير أنه في بعض الحالات تأتي إحداهن وتسأله عن سعر الدواء وبعد معرفتها تخبره أنها ربما تعود ثانيةً فيحدثها عن ضرورة أخذ الدواء ويقدمه دون مقابل وإذا ما رفضت يقول لها: “الدوا ضروري لحالتك خديه وروحي يا حجة”، ذلك أنه حتى عند صرف كامل المبلغ الموجود في الصيدلية من قبل فاعلي الخير، تقديم الدواء مجاناً لبعض الحالات لا يتوقف عند صاحب الصيدلية الذي يقول عن إعطاء دواء لمريض دون مقابل “المريض بشوفها كبيرة كتير”.
كما يذكر أنه عند تقديم الدواء مجاناً لأحد أبناء المنطقة والذين يعرفهم بحكم عمر الصيدلية البالغ نحو 40 عاماً، قد يرفض أحدهم في البداية وذلك بسبب الحرج الاجتماعي لكنه يردد على مسامعهم أن ذلك من فاعل خير كي يخفف من وطأة الموقف عليهم.
بضع حبات تكفي
لا يقتصر الأمر على تقديم المال فقط فهناك العديد من العائلات التي تذهب إلى الصيدلية وفي جعبتها الكثير من علب الدواء المتنوعة التي تنقصها بضع حبات فقط وضمن مدة الصلاحية ليتم تجميعها في صندوق مخصص يتم تقديمه إلى جمعيات خيرية أو مؤسسات أو نشطاء الخدمة الاجتماعية في بعض الكنائس، إذ تملك هذه الجمعيات طبيباً مختصاً قادراً على فرز وتصنيف ووصف الدواء للأفراد الذين يرتادون هذه الجمعيات، كما يمكن تقديمه لبعض المرضى أيضاً وهذا موجود في أغلب صيدليات المنطقة بحسب السيد منير.
تناقضات صارخة
حيث يد الغلاء تضرب وتجرح في كل مكان تأتي يد الخير لتداوي أيضاً في كل مكان، هذا ما يؤكده حديث راما: “صديقتي في القرية التي أنتمي إليها في ريف السويداء الجنوبي افتتحت صيدلية جديدة وباتت تعرف العائلات والنساء الأرامل وأضع لديها مبلغاً من المال بالقدر الذي أستطيع”، وتابعت: “لست وحدي من يفعل ذلك، صديقتي الثانية في القرية محامية تعمل كل فترة على القيام بمبادرات شخصية كجمع مبالغ مالية منها ومن عائلتها وأصدقائها المسافرين في الخارج ووضعه في صيدلية القرية الأساسية خاصة وأنّ صاحبها يعرف كل أهل القرية وعلى دراية بالعائلات والأشخاص الذين لا يمكنهم دفع ثمن الدواء وتحديداً أولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة كالضغط والسكري والقلب وبحاجة مستمرة إلى الأدوية، حيث يوجد في الصيدلية أيضاً صندوق مخصص للمساعدات المالية يتم دعمه بشكل كبير من قبل المغتربين.” كما تطرقت إلى عدم اقتصار المبادرات على الدواء، ففي شهر أيلول ومع اقتراب المدارس تم إطلاق مبادرات اجتماعية لدعم التعليم، وكمثال عن ذلك تقول المحامية ميرفت: “قمنا وأصدقائي المقيمين في الخارج بإنشاء مبادرة اجتماعية هدفها جمع التبرعات من أجل تجهيز كافة الطلاب في القرية، ولكافة المراحل التعليمية بالدفاتر والأقلام والكتب نظراً لغلاء القرطاسية ومستلزمات المدارس وكي لا يكون هناك فوارق طبقية بين الطلاب، وتشمل المبادرة تأمين متطلبات الفصل الأول والثاني”، علماً أن هذه المبادرة ليست الأولى فمع بداية الحجر الذي فُرض على البلاد في الشتاء الماضي قامت ميرفت وأصدقائها بتأمين سلال غذائية للعائلات المحتاجة في القرية حسب ما روت.
إننا محكومون بالدواء
من الجدير ذكره أن المبادرات التي تقوم بها الجمعيات والمنظمات وخاصة المبادرات الفردية والشبابية ازدادت في الفترة الأخيرة في سوريا خاصة في ظل الظروف التي فرضها كورونا والحاجة إلى الأدوية بمختلف أصنافها، إذ يبدو الاستئذان من المسرحي السوري سعدالله ونوس صاحب مقولة “إننا محكومون بالأمل” وارد جداً الآن، فبعد مضي نحو 24 عاماً على مقولته تلك وفي عصر الوباء بات القول اليوم “إننا محكومون بالدواء”، لا سيما في بلد يشهد حالة من الانهيار الاقتصادي وانخفاض مقومات الحياة وارتفاع الأسعار الجنوني ما قد يعني إصابة أفراده بضغط الغلاء لا الدم فقط، وفرط الجوع لا السكري فقط، لكن كما هو الحال في علاج كورونا حيث لا قدرة إلا على معالجة الأعراض لا الأسباب، هكذا تأتي مبادرات السوريين على الصعيد الشخصي والاجتماعي لتكون مسكّناً يساعد في الصبر على آلام المعيشة وتضييق الخناق.