بواسطة هيفاء بيطار | سبتمبر 25, 2020 | Cost of War, غير مصنف
أتابع يومياً أخبار أحبتي في سوريا، ويُذهلني هذا التدهور الكبير في معيشة السوريين، ولم أكمل خمسة أسابيع في إقامتي في باريس لكنني أشعر أنني تركت اللاذقية منذ سنة. و كل الشعب (السوري كلون يعني كلون) يُعاني ما لا طاقة لإنسان أن يتحمله، لكنهم مجبرون على التحمل، انقطاع الكهرباء الطويل لساعات تزيد عن أربع ساعات وفي هذا الحر الشديد جعلت السوريين يطيش صوابهم وصاروا يسخرون من قطع الكهرباء بأن يكتبوا على صفحاتهم على الفيس بوك أو صفحات التواصل الإجتماعي: (اليوم كل السوريين رح يتغدوا بازيلا وفول). دلالة عل فساد المؤونة في البرادات، ويأتي ذل قطع الماء لينافس ذل قطع الكهرباء.
ليست الحسكة وحدها عطشى بل كل سوريا، الماء يأتي بالقطارة، والغسالات تعطلت واحترقت بطاريتها، ولا يملك هؤلاء المعذبون في سوريا سوى الكتابة. إحدى السيدات كتبت (ألمي رح أنهار، ألمي أساس الحياة الخ). اعتقدت أنها تتحدث عن ألمها (أي كلمة ألمي من الألم)، لكن المسكينة تتحدث عن الماء وتكتب بالعامية (المي)، اتصلت بها هي تعيش مع إبنتها فقالت: (الماء بالقطارة، مستحيل نقدر نجلي الصحون ونغتسل وننظف البيت، كل يوم نخصصه إما للجلي أو الاستحمام أو مسح البلاط أما الغسالة فاحترق مولدها بسبب لنقطاع الماء “وسعر الغسالة اليوم في سوريا مليون ونصف المليون”.) الغلاء الفاحش لأسعار المواد الغذائية وربط هذا الغلاء باحتكار التجار، وطوال أسبوع احتل ارتفاع سعر البيض في سوريا صفحات التواصل الاجتماعي حيث وصل سعر البيضة إلى 200 ليرة سورية!!! وطالبت إحدى السيدات أن يمتنع كل السوريين عن شراء البيض لمدة شهر لمعاقبة التجار!!! يا لروعة اقتراحك يا سيدة!! الطفل يحتاج البيض كل يوم تقريباً لينمو فكيف ستحرمين أطفال سوريا من البيض!! وبالتأكيد هم محرومون منه لأنه لا قدرة لأهاليهم على شرائه خاصة إذا كانت الأسرة تتكون من عدة أطفال، وتأتي مهزلة القروض المدرسية ذلك أن وزير التربية مصر أن يلتحق التلاميذ بالمدرسة ومتوسط عدد الطلاب في المدارس السورية خاصة الحكومية بين 50 إلى 70 طالباً وتجد ثلاثة طلاب يجلسون في مقعد واحد محشورين كتفاً لصق كتف، ومراحيض المدرسة مزارع جراثيم وأوبئة والمياه فيها مقطوعة. كما أنه في العديد من المدارس تتكوم هضاب الزبالة في المداخل، وتنسجم هضاب الزبالة مع رداءة التعليم.
صار سعر الحقيبة المدرسية من أرخص أنواع النايلون حوالي 40 ألف (ما يعادل راتب شخص واحد عند الحكومة السورية)، وسعر القلم ألفين أو أكثر، ولا زيادة قرش في الرواتب!! بل الدولة السورية تقدم قروضاً للأهالي كي يشتروا اللوازم المدرسية لأولادهم تحديداً من مؤسسات الدولة، وغالباً بضاعة هذه المؤسسات رديئة ومُخزنة منذ سنوات! ولا يخطر لمسؤول سوري أن يتساءل: كيف سيسدد هذا الأب المسكين القروض الطلابية من راتب الاحتقار الذي بالكاد يكفي لشراء الخبز. ويصفع وزير التربية السوري الأهالي بقرار أنهم مجبرون (رغم الارتفاع الكبير جداً في إصابات كورونا في سوريا) على إرسال أولادهم إلى المدرسة، وأن الطالب إذا تغيب أربعة أيام عن المدرسة بدون عذر يُفصل من المدرسة. هذا هو رهاب التعليم في سوريا، وتوصيف رهاب التعليم هو أدق توصيف لتهديدات وزير التربية الذي لا يبالي بصحة التلاميذ ولا برغبة الكثير من الأهالي ألا يرسلوا أولادهم إلى المدرسة في زمن جائحة كورونا. وطبعاً لا يخفى على أحد رداءة التعليم وفساده في سوريا وأن صفوف البكالوريا خاوية تماماً في كل سوريا ويعتمد الطلاب على المعاهد أو الدروس الخصوصية، وثمة العديد من الأهالي الذين أخذوا قروضاً من المصرف ليسددوا أجور الدروس الخصوصية أو باعوا أثاث منزلهم أوغيره من الاجراءات.
رغم هذه الظروف الكارثية فإن البعض يقول نحن بخير ويخونون من تركوا الوطن ويسخرون منهم في غربتهم ويقولون لهم سوف تذوبون في الغربة ولا أحد سيهتم بكم وسوف تذبل حديقة بيتكم ويتكدس غبار النسيان على أثاث بيوتكم. عجيب هذا المنطق التخويني اللاإنساني، كيف تتجاهلون العنف المروع الذي اضطر ثلث الشعب السوري لينزح ويرمي نفسه في البحر بعد أن دمرت البيوت والقرى والمدن ولم يبق لديهم سوى حياتهم عساهم يحافظون عليها إذا ساعدهم الحظ ووصلوا إلى بلاد اللجوء التي تحترم الإنسان. هؤلاء الخونة عديمو الإحساس الذين يكتبون كل يوم على صفحاتهم نحن بخير هم يدعمون نظاماً يوغل في تجويع شعبه وإهانته؛ فحين ينشرون كل يوم صوراً لبحر اللاذقية وبعض شوارعها الجميلة (ولم تعد اللاذقية جميلة على الإطلاق إذ تجد في زقاق بناء من ثلاثين طابقاً)K أو تضع إحداهن في أزمة شح الماء وعطش الحسكة وتفجير خط الغاز الذي جعل كل سوريا تغرق في الظلام في هذا التوقيت تماماً صورة لمدرسة بوقا الزراعية وتكتب ما أجملها، فهذا أشبه بطعنة الغدر، لأننا في قلب مأساة إنسانية مروعة أمام مشاهد لذل وجوع وحرمان الطفل السوري أن يأكل بيضة، الحديث عن جمال بعض الأمكنة في هكذا ظروف كارثية هو خيانة وهو غدر وهو تماهي مع المعتدي والتمثل بسلوكه كما أبدع الدكتور مصطفى حجازي في كتابيه (سيكولوجية الإنسان المقهور، وسيكولوجية الإنسان المهدور) في وصف وتحليل ظاهرة تماهي المُضطهد مع المعتدي أو من يضطهده وتقليد صفاته.
أعرف أن بحر اللاذقية جميل وأحن إليه، لكنني كنت أصور هضاب القمامة على شواطئه، وحين يتفرج العالم كله على الشعب السوري الجائع والعطشان واليائس والذي توحده عبارات هي: “عايشين من قلة الموت”، و”خلينا ساكتين أحسن”، و”الحيط الحيط ويا رب السترة”؛ وحين يتفرج العالم كله على طابور من رجال ونساء وأطفال سوريا واقفين تحت لهيب شمس تموز وآب بإنتظار رغيف خبز سيء (لأن الأفران ينقصها المازوت حتى تخبز الخبز كفاية) ولا أحد من هذا الحشد قادر أن ينطق بكلمة احتجاج أو يقول: “آخ”، لأن قبضة الأمن تنقض عليه فهو يتذمر والوطن ضحية مؤامرة، وعلى الشعب أن يتحمل مع الدولة نتائج المؤامرة. الحديث عن الجمال ونشر صور لبعض المناطق الجميلة في سوريا هو خيانة وانعدام إحساس بآلام الشعب السوري، والحديث عن الجمال في هذه الظروف الكارثية في سوريا هو تماماً وتحديداً إعلان ولاء للنظام.
سوريا ليست بخير والسوري في سوريا ليس بخير، كفوا عن النفاق والخيانه بأن تمطرونا كل يوم بصور اللاذقية الجميلة، كسب الجميلة، صلنفه الجميلة (التي سرق الشبيحة كل بيوتها) ولصقها قرية سلمى التي سوتها البراميل المتفجرة بالأرض وهج سكانها ومات تفاحها الأطيب في العالم. توقفوا عن الحديث عن الجمال فهو خيانة في زمن الموت والحداد. وأحب أن أختم بهذه القصة؛ فمنذ أسبوعين قصدت السفارة البريطانية من أجل الحصول على فيزا لزيارة إبنتي وزوجها وفوجئت أن السفارة البريطانية في باريس تغص بمواطنين من غينيا لدرجة اعتقدت أنني أخطأت في العنوان وبأنني في سفارة غينيا وحكيت مع ابنتي فقالت لي: “أمي أتمنى أن يتم قبول كل الناس من غينيا يعني نسيت كم عانت إفريقيا من الإستعمار”، وتابعت متسائلة: “يعني أنت تعتقدين حال السوري أفضل من حال مواطن من غينيا.” فعلاً خجلت وأحسست بطعنة ألم في قلبي. وضع السوري اليوم هو الأسوأ في العالم. سوريا ليست بخير والسوريين ليسوا بخير. لا تزوروا الحقيقة ولا تخونوا شعب سوريا بالحديث عن الجمال.
بواسطة الحسناء عدرا | سبتمبر 24, 2020 | Cost of War, Reports, غير مصنف
تنهمك في شهر أيلول أيادي ربات البيوت السوريات في إعداد المؤونة، ويسبق هذه العملية أسابيع طويلة من التحضير وخطوات كثيرة، تبدأ بشراء أطنان من أكياس الطماطم والخيار وأوراق الملوخية والبازلاء والفول الأخضر وسواها، مروراً بنزع القشور عنها ثم جمعها وتجميدها. ولمن لا يعرف بيت المؤونة، فهو عبارة عن ركن، يشترط أن يبنى في منطقة أخفض من باقي أرجاء المنزل، على أن يكون بارداً وغير مشمس، يُتخذ كمستودع لتخزين الطعام، تحفظ فيه شتى أنواع المأكولات الشتوية. ويتصدر المكدوس، طليعة هذه الأطعمة التي تُوضع على موائد العائلات السورية ولصنعه، يتوجب على النساء سلق كميات هائلة من الباذنجان بما يتناسب مع أعداد أفراد الأسرة، وتلطيخ أيديهن في خليط ممزوج من الفليفلة الحمراء الحارة وقطع الجوز المفروم، إلى أن تستشعر أصابعهن الناعمة طعم الخريف.
اعتاد السوريون في مطلع شهر أيلول من كل عام على ممارسة هذا الطقس الجماعي كعادة شعبية منذ عقود عديدة، فيبدأون باقتناء بعض البقوليات والخضار والفواكه وتخزينها في الثلاجة حديثاً، وبيت المؤونة سابقاً، لتناولها في فصل الشتاء. غير أن موجة الغلاء الأخيرة حالت دون قدرة البعض على تموين الطعام، لاسيما أنه جاء بالتزامن مع افتتاح المدارس وشراء الحاجيات الضرورية، ما شكل عبئاً إضافياً على كاهل الأسرة السورية.
ما أن تطأ قدمك أسواق الخضار في العاصمة دمشق، حتى تلمس الفرق الشاسع في الأسعار للصنف الواحد، بحجج الجودة والمصدر. تساوم أم إبراهيم بحدة على سعر كيلو الفليفلة الحمراء المفرومة الذي وصل سعره إلى 6000 ليرة، متفاجئة بفارق الأسعار بين سوق وآخر لا يفصل بينهما سوى شارع واحد. تقول للبائع بصوت مرتفع: ”لسا من شوي شفتو أرخص من هيك، 3500 ليرة وأنظف من هاد، كتير غالية هيك”. وما أن تتقدم بضعة أمتار حتى يتناهى إلى سمعك صوت بائع آخر يضيف ألف ليرة أخرى على صنف الفليفلة، وعند السؤال عن سبب الزيادة يجيب بثقة: “نخب أول، لا مثيل له في السوق، أتحداكِ أن تشتري مثله”، والأمر ينسحب على الجوز والباذنجان والبقوليات وغيرها.
تصف أم إبراهيم الأعباء المادية والمصاريف الإضافية التي سببها إعداد المكدوس في شهر المونة (أيلول) قائلة: “أنفقت قرابة 100 ألف على تحضير 40 كغ من المكدوس، هذا المبلغ يعد باهظاً بالنسبة لصنف واحد من أصناف المؤونة، أي يعادل قرابة راتب شهرين، هذا ما لم نتحدث عن الأنواع الأخرى، لكن لا يمكن الاستغناء عن هذا الطبق اللذيذ في فصل الشتاء، فهو أساسي على مائدتنا.”
سياسة الاستبدال
تتجه صفاء إلى خيار أقل كلفة في محاولة منها لتقليص نفقات المونة واستثمار مواهبها التي اكتشفتها مؤخراً في الترشيد الاقتصادي التي أصبحت مجبرة على استخدامها في ظل ارتفاع مكونات طبق المكدوس، خاصة الجوز، إذ تلجأ إلى استبدال حشوة فستق العبيد عوضاً عن الجوز المفروم، وعن ذلك تقول: ”وصل سعر كغ الجوز إلى 16 ألف ليرة، وفي أماكن أخرى بلغ 25 ألف، لذلك استغنيت عنه نهائياً، واستبدلته بفستق العبيد، كبديل اقتصادي، طعمه لذيذ لكنه لا يعادل طعم الجوز، أفضل من لا شيء“. بينما ذهبت ولاء لخيار أكثر كلفة بقليل وهو استخدام ثمرة اللوز، عوضاً عن الجوز: “فثمنه مقبول مقارنة بالأخير، فالكيلو الواحد يبلغ 4000“. بينما تضيف سيدة أخرى: “الحمد الله، ولادي مابحبو المكدوس، وفروا علي كتير مصاري”. فيما اتبعت العديد من الأسر السورية سياسة “النصف” عبر تقليص الكميات المعتادة والاكتفاء بكميات محدودة.
من جهتها، لم تصرف رجاء (معلمة في الصف الابتدائي) ليرة واحدة على تحضير المكدوس والسبب حسب قولها: “تملك عائلة زوجي شجرة جوز وأرض زراعية يزرعون فيها جميع أنواع الخضار ومنها الباذنجان ،أخذنا حصتنا، ما كنت سأعد المكدوس لو أنني سأصرف عليه مالاً.” وتضيف مازحة: “لو بقدر بيع الجوز، كنت بعتو، حقو هلق تقريباً 25 ألف”.
كورونا ترفع الأسعار
فعلت كورونا ما لم تفعله سنوات الحرب التسع في سورية، فلم تشهد البلاد مسبقاً غلاءً فاحشاً بالأسعار كالتي تعيشه الآن والذي يطال كل نواحي الحياة دون أن يقتصر على جانب واحد. يعقب شاب (رفض مشاركة اسمه) على هذا المشهد الغارق في الواقعية: “كلفة مؤونة هذا العام مضاعفة عن العام السابق، دوبلت الأسعار على خلفية كورونا بمبررات واهية كضعف الإنتاج مقابل زيادة الطلب، لاسيما مادتي الجوز والزيت إلى جانب الحصار الاقتصادي على البلاد”. بينما حذفت أم جبير فكرة مؤونة الشتاء هذا العام من قائمتها لصالح تأمين المستلزمات الدراسية لأطفالها الأربعة، تقول السيدة: “كان علي الاختيار بين شراء القرطاسية وملابس المدرسة وتخزين الطعام لفصل الشتاء، تعليم أولادي أهم، سنعتمد هذه السنة على المحاصيل الشتوية في غذائنا”.
الكهرباء تفسد مؤونة السوريين
مع الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي لساعات متواصلة في كافة المحافظات السورية، تسبب هذا الوضع بإفساد المؤونة وتكبد السوريين لخسائر مالية لم تكن في حسبانهم، كأم خالد التي أفرغت حمولة ثلاجتها من فول وبازلياء وبامية وملوخية والتي تقدر بحوالي 200 ألف ورمتها في القمامة بعد أن تُلفت بسبب غياب الكهرباء لفترات طويلة، بينما اضطرت لينا إلى استخدام المؤونة المخزنة من لحوم وخضار وطبخها كي لا تفسد.
بواسطة هيفاء بيطار | سبتمبر 8, 2020 | Cost of War, غير مصنف
ليس وعي الشعب السوري بأهمية الطب النفسي هو ما جعل الكثير من السوريين يراجعون عيادات الأطباء النفسانيين، بل وحشية وقسوة الظروف التي يعيشونها وانسداد الأفق أمامهم جعلهم يبحثون عن قشة أمل يتعلقون بها لأنهم غارقون في آلام نفسية ويأس وخيبات قد تدفع الكثير منهم إلى الانتحار، وبالفعل حوادث الانتحار في سوريا كثيرة لكن لا يُعلن عنها في الإعلام الرسمي. وبما أنني عشت في اللاذقية وعاينت عن كثب أزمات الناس خاصة الجيل الشاب فقد هالني فعلاً الإقبال الشديد على عيادات الطب النفسي عساها تقدم لهؤلاء المعذبين في سوريا نوعاً من الحل أو العزاء.
بداية أحب أن أنوه بتعريف الصحة النفسية في الطب النفسي: لا يجب أن نقول عن إنسان أنه بصحة نفسية جيدة وطبيعية إن لم يخضع لإختبارات في الطب النفسي. وعليه لا يجوز أن نعتبر أنفسنا وغيرنا أصحاء نفسياً إن لم نخضع لإختبارات في الطب النفسي. ولأنني مهتمة جداً بالحالة النفسية للشعب السوري وكوني طبيبة عيون لي أصدقاء أطباء اختصاصيون في الطب النفسي. وكنت أزورهم في عياداتهم وأحياناً يكون لي دور في الإصغاء للآلام النفسية للمرضى.
1-معاينة الطبيب الإختصاصي في الطب النفسي تتراوح بين 4000 ليرة سورية و6000 ليرة سورية، وهو مبلغ كبير جداً بالنسبة لمواطن سوري موظف (معدل الراتب في الدولة السورية 30 دولاراً) أو محدود الدخل وثمة الكثير من معدومي الدخل تقوم الجمعيات الخيرية بمساعدتهم. ومنظرهم وهم محتشدون في قاعة انتظار الطبيب النفساني يُشبه تماماً الاحتشاد على الأفران أو مراكز توزيع المعونات الغذائية، معذبون سوريون طاش صوابهم من القهر والفقر والظلم ورداءة الحياة وموت أولادهم يبحثون عن أي مُسكن لآلام أرواحهم، لا أنسى عبارة قالها لي أب سوري: لولا العار لانتحرت، لكن سيُوصم أولادي كل عمرهم بوصمة انتحار والدهم .
2- لعظيم الأسف فإن معظم الأطباء النفسانيين في اللاذقية (المدينة التي عشت فيها كل عمري) لا يُعطون المريض النفساني حقه، لأن ضغط العمل والمراجعين كبير جداً عليهم، لهذا لا يتجاوز اللقاء بين المريض النفساني والطبيب خمس دقائق، يتخللها قطع الحديث باتصالات هاتفية دائمة للطبيب، ونفاذ صبر الأطباء فما أن يبدأ المريض النفسي بالكلام ومن العبارة الأولى حتى يعلو صوت الطبيب النفساني مُشخصاً حالته: عندك اكتئاب أو شخصيتك اكتئابية أو عندك وسواس قهري أو عندك ميول انتحارية أو فصام في الشخصية الخ! يا للسهولة والخفة وانعدام الوجدان التي تُشخص فيها الأمراض النفسية في سوريا، ولماذا يكون لدينا طب نفسي هام ويحترم المريض وكل ما في حياة السوري رديء؟ وأظن الأطباء النفسانيين يجدون عزاء كبيراً لضميرهم لأنه لا يوجد سوى دواء نفساني واحد وحيد يُعطى لكل حالات الأزمات النفسية، وهو دواء سيئ بإعتراف العديد من الأطباء النفسانيين ومصدره إيران أو الهند، وثمة أدوية أخرى مهدئة تساعد في دعم تأثير الدواء الرئيسي. الحوار معدوم بين الطبيب النفساني والمريض، أي لا يتمكن المريض من الفضفضة بآلام روحه، ويشعر المريض أنه دفع مبلغاً كبيراً على أمل أن يصغي إليه الطبيب النفساني ويخرج من العيادة بخيبة أمل يحمل وصفة طبية مُوحدة لكل المرضى عامة.
3- الكارثة الأشنع هي الانقطاع المفاجئ للأدوية النفسية والمهدئة والمنومة، كذلك انقطاع العديد من الأدوية المهمة الأخرى كأدوية الغدة والقلب والضغط وغيرها، إضافة لارتفاع سعر الأدوية دفعة واحدة في سوريا 300 بالمئة دون أن يزيد الراتب قرشاً!
4- معروف أن الأدوية النفسية حتى ترفع مستوى السيروتونين في الدماغ (والذي يُسمى هورمون السعادة) حيث ينقص هذا الهورمون كثيراً لدى مرضى الإكتئاب وأمراض نفسية أخرى، تحتاج لأشهر من تناولها تترواح في الحد الأدنى ستة أشهر وقد يستمر المريض في تناولها ثلاث سنوات وأكثر. وفي بعض الأمراض النفسية كالفصام يتناول المريض الدواء النفسي مدى الحياة، ويجب أن يتم قطعه بالتدريج على الأقل طوال أسبوعين أو ثلاثة، لكن فجأة انقطعت الأدوية النفسية في سوريا وفي حالة كهذه يُصاب المرضى بنوب من الصرع وقد ينتحر البعض، وحتى الدواء الآمن (الليكزوميل أو الليكزوتان) وهو مضاد قلق مقطوع وبرأيي يجب أن توزعه الدولة السورية مجاناً أو على البطاقة الذكية، لأن كل سوري يحتاج لدواء مضاد للقلق عساه يساعده أو يوهمه أنه يساعده في قلقه الكبير. وأدى الانقطاع المفاجىء للأدوية النفسية في سوريا لحالات انتحار كثيرة خاصة عند الشباب الذين لا يجدون أملاً بالمستقبل وينتظرون فرصة للهجرة إلى بلد أوروبي.
5- استعاض الكثير من السوريين وخاصة الجيل الشاب المُحبط وبعضهم جامعيون (أخبرني العديد منهم أنهم توقفوا عن الدوام في الجامعة لأنهم لا يملكون مالاً لتصوير المحاضرات، لأن سعر الورق ازداد وإجرة التصوير ازدادت)، هؤلاء الشبان يلجؤون إلى المخدرات كحبوب الكابتاغون والحشيش وأنواع أخرى من المخدرات تشوش وعيهم وتخدر آلام روحهم ولو لفترة زمنية معينة، ويتعاملون مع مهربين معروفين في اللاذقية يؤمنون لهؤلاء الشباب اليائسين المخدرات الرخيصة ومن أسوأ الأنواع. وتمت مداهمة مجموعات من الشبان (معظمهم جامعيون) في شاليه على البحر أو في بيت أحدهم من قبل الشرطة، وتم سجنهم لأكثر من ثلاثة أشهر وطبعاً بعد تعرضهم لضرب مبرح، بدل أن يُعالجوا في مراكز لعلاج الإدمان، ولست واثقة أن في سوريا كلها مركزاً مؤهلاً لعلاج الإدمان.
هذا هو واقع الطب النفسي في سوريا، طب نفسي وهمي، دواء سيء ثم مقطوع، نسبة انتحار عالية خاصة لدى الجيل الشاب، إدمان على المخدرات الرديئة للهروب من واقع ليس فيه بصيص أمل، الفقر والذل والجوع والهدر الوجودي بانتظار رغيف خبز مُعجن أو كيس أرز ينغل فيه الدود، إضافة لرداءة التعليم وانقطاع الكهرباء شبه الدائم وشح المياه وتلوثها. كل شيء مأساوي وموجع في سوريا، ومن الطبيعي أن يكون الطب النفسي انعكاساً لهذا الواقع. ولو أردت أن أشبه ممارسة الطب النفسي في اللاذقية (وسوريا كلها)، فهي أشبه بتلك اللقطة من مسرحية حيث يقوم المُوجه في المدرسة بفحص القدرة البصرية لكل طلاب الصف (كلون يعني كلون) في نفس اللحظة أكثر من 40 طالب يجيبون على سؤال الموجه الذي يفحص الطلاب على لوحة القدرة البصرية ليعرف صحة الرؤية عند الطلاب. الطب النفسي في اللاذقية وسوريا مهزلة، لا تحليل نفسي ولا حوار بين المريض والطبيب. ثمة دواء وحيد يرفع المزاج أو هكذا يقولون، سرعان ما انقطع. وأظن انقطاعه ليس مشكلة كبيرة، لأن من يقبض راتباً من 30 دولاراً في الشهر ليعيل أسرته لا يوجد دواء في العالم قادر على رفع مزاجه؛ ومن دفنت شهيداً أو أكثر من فلذات أكبادها سحقها الحزن والقهر ولن يفيدها دواء؛ ومن مات ابنه تحت التعذيب في السجون السورية أو اختفى ولا يعلم عنه أحد شيئاً لن يفيده أي دواء. العبارة الأدق للطب النفسي السوري: فالج لا تعالج.
بواسطة هيفاء بيطار | أغسطس 25, 2020 | Cost of War, غير مصنف
ربما يجب أن نعيد تعريف كلمة مثقف، وأؤمن أن الفن والثقافة إن لم يكن هدفهما الأخلاق والخير فهما ساقطان ولا يجب تسمية المثقفين (الذين يقفون مع المستبدين والديكتاتوريين بالمثقفين)؛ أقول هذا الكلام لعدة أسباب ولملاحظات كثيرة بدأتُ أنتبه لها بشكل خاص منذ بداية الثورة السورية. وكلمة ثورة خط أحمر في سوريا، فالمنتفع من الفساد والاستبداد لا يُسمي ما حصل في سوريا ثورة، بل مؤامرة. سأذكر بعض مواقف من نسميهم مثقفين وهم فعلاً حاصلون على شهادات عالية من جامعات أوروبية وأمريكية أو من جامعات عربية.
أولاً: أحد زملائي الأطباء وكنا نعمل معاً في المشفى الوطني في اللاذقية وجمعتنا زمالة وهو اختصاصي ناجح ومن أسرة ثرية وعريقة، كتب لي منذ أيام ما يلي: “لا حظي عزيزتي كيف كان موقف الأوروبيين أثناء جائحة الطاعون، وكيف هو موقف الشعب السوري أثناء موجة كورونا، الشعب السوري لا يستحق الاحترام جالس لا يقوم بأي عمل مفيد ينتظر الحل من القدر!”. في الواقع أثار كلامه عاصفة من الغضب في أعماقي ولم أستطع الرد فوراً، وكنت قد قرأت أن ستين طبيباً ماتوا في شهر تموز أثناء علاجهم مرضى كورونا أي ماتوا بكورونا. وكتبت للدكتور الاختصاصي إياه أسأله: “ماذا باعتقادك يمكن أن يفعل الشعب السوري؟”، فلم يرد.
ووجدتني أتقمص معاناة شعبي المُروعة وأجيبه أن الشعب السوري يعيش أعظم معاناة في عصرنا حتى سميت المأساة السورية بمأساة القرن، وبأن راتب السوري هو أدنى راتب في العالم ولم يعد الراتب الذي هو حصوة يسند خابية، وبأن المواطن السوري يعاني هدراً وجودياً مُخزياً للغاية وهو يهدر أيامه في انتظار (وسط طابور من 400 شخص) بانتظار توزيع ربطة خبز من أردأ الأنواع (لأن الأفران بسبب نقص المازوت لا تخبز الخبز كفاية)، أو أنه يهدر يومه بانتظار توزيع مساعدات من المؤسسات الاستهلاكية للدولة. وأرسلت للدكتور فيديو لأكياس الرز التي يسرح فيها الدود. السوري الذي لا يستطيع شراء اللحم والسمك والفاكهة لأولاده بسبب الفقر المدقع. السوري يرى أطفاله يذوون أمام عينيه بسبب الجوع وسوء التغذية وبسبب فساد التعليم والطبابة في حين زادت أسعار الأدوية بنسبة 300 بالمئة ومعظمها غير متوفر ولم يزد الراتب قرشاً ليتناسب مع سعر الدواء على الأقل. الأدوية النفسية التي انقطعت فجأة والتي تعتمد شريحة كبيرة من الشعب السوري عليها وهذه الأدوية يجب إيقافها بالتدريج وعلى مدى ثلاثة أشهر ويؤدي انقطاعها فجأة لنوبات صرع لدى المرضى. لن أظلم هذا الزميل بأن أطلق عليه اسم “الدكتور الشبيح” لأنه يحتقر شعبه ويكرهه ويصفه بالرعاع والجهل ولا يترحم حتى على زملائه الأطباء الذين ماتوا وهم يعالجون مرضى كورونا. لعله نسي السنوات التي كنا فيها زملاء موظفين في المشفى الوطني في اللاذقية، المشفى الذي رائحته رائحة المراحيض بسبب القذارة والذي تمت فيه صفقات فساد كبيرة لم يُعاقب عليها الفاسدون الكبار. يتربع هذا الزميل في ثرائه وفي مزرعته الفخمة ويحتقر شعبه ويكرهه ويتهمه بالجهل وبأنه ينتظر الفرج من الله، وهو يعلم أن هذا الشعب الجبار في التحمل لا يستطيع أن يعترض أو يجهر بالحق لأن أجهزة الأمن متربصة به. هو يشارك في قتل شعبه باحتقاره له وسخريته حتى من طريقته في التدين. أجل هو من الأطباء القتلة لأن قتل الروح يوازي قتل الجسد. وأظنه يعرف أن بعض زملائه الأطباء مارسوا التعذيب في المعتقلات حتى الموت على شعبه الذي يحتقره ويقول عنه أنه رعاع.
لن أضيع الوقت في التحدث عن المشكلة الأبدية بشح الكهرباء في سوريا وتلوث المياه وندرتها. أكاد أرى في عيني زميلي الطبيب الاختصاصي الشبيح رغبته في موت شعبه، فمصلحته وضمان ثروته أن يموت هؤلاء الفقراء المظلومون المعذبون في الأرض، لأن وعيهم وإدراكهم لحقوقهم قد يهددان مزرعته الفخمة وبيته القصر. “الدكتور الشبيح” يشارك بقتلهم ، يا للعار كيف استطاع أن يقسم قسم إيبوقراط الذي يرتعش كل طبيب وجداني حين يقسمه. ثمة أطباء كثيرون شبيحة بفكرهم وممارستهم. الشعب السوري عظيم لأنه يحافظ على حياته، لأنه قادر أن يستأنف يوماً جديداً من الذل والقهر والجوع دون أن ينهار لأجل أولاده. إنه جبار لمجرد أنه باق. وهذه هي بطولته الأعظم والأهم. وهو باق لأن بقاءه من نوع: هنا على صدوركم باقون كالجدار – وفي حلوقكم كقطعة الزجاج كالصبار – وفي عيونكم زوبعة من نار. البقاء هو فعل المقاومة الأعظم للسوري زميلي الطبيب الشبيح.
ثانياً: ثمة مثقفون لمعت أسماؤهم كالأضواء الزائفة لتملقهم للمسؤولين والحكام، ووقفوا ضد مطالب شعبهم بالحرية والكرامة، هؤلاء لم يتخذوا أي موقف متعاطف مع شعبهم المسحوق، بل إن بعضهم امتدح أحد أهم رموز الفساد في سوريا. ثمة كاتبة تعلن صراحة أنها لن ولم تصرح عن أي موقف مما يحصل في سوريا! وتمتدح شخصية من أهم الشخصيات في النظام السوري. أستغرب كيف يمكن لكاتب ألا يكون له موقف مما يجري في وطنه ومن معاناة شعبه! كيف يمكن لكاتب أن يتجاهل جوع أطفال سوريا ومعاناتهم في مخيمات اللجوء أو في الداخل السوري حيث التسول وفساد التعليم والجوع. كيف يمكن لكُتاب أن يطرزوا كتابات منفصلة كلياً عن الواقع وعن المأساة السورية، وبعضهم يحصل على جوائز! بل إن بعضهم يصنف نفسه وتصنفه الكثير من الجهات الثقافية بأنه كاتب سوريا المعارض الأول فيما هو لم يمنع من السفر مرة واحدة، ويسافر في كل أصقاع الأرض وتطرز مديحاً برواياته إحدى أهم المسؤولات الشبيحات. وهذا الفساد الثقافي ينطلي على الكثيرين للأسف. لكن وكما يقال الثلج سيذوب ويبان المرج. لا أحد يستطيع أن يخدع الشعب أبداً مهما التمعت الأضواء الزائفة حول البعض، مهما اضطر الشعب المسحوق المظلوم للصمت خوفاً على أولاده وعلى نفسه كمعيل لهم. لكن الشعب (مهما وصفوه بالقطيع والرعاع) لا تخطىء بوصلة الحق لديه. وهو يميز بين الأضواء الحقيقية والزائفة، وإذا كانت العبارة الأكثر تداولاً بين السوريين (خلونا هلق ساكتين)؛ فذات فجر قريب ستصدح الحناجر بكلام الحق ولن يبقى أي مواطن سوري صامت.
بواسطة الحسناء عدرا | أغسطس 13, 2020 | Cost of War, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
تعيش سلمى وهي أم لطفلين هاجسين، الأول ظهور علامات الولادة المبكرة بعد أن أخبرها الطبيب باحتمال وضع مولودتها في الشهر المقبل وذلك قبل شهرين من الموعد المحدد، أما الثاني فهو الخوف من التقاط فيروس كورونا، لا سيما في ظل انتشار معدلات الإصابات ويأتي ذلك في ظل الحصار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، إذ تشكل النساء الحوامل الحلقة الأضعف في مواجهة الفيروس بعد كبار السن. وعن مخاوفها تقول سلمى: “أخشى أن ألد قبل الآوان، سأدخل في الشهر السابع بعد عدة أيام، أعاني من تشنجات تسببت لي بفتح عنق الرحم، ما قد يعجل من ولادتي ويقلب كل توقعاتي، كما أنني اتفقت مع طبيبي الخاص على أن يتولى أمور التعقيم الذي تكفل به على مسؤوليته الشخصية، محاولاً طمأنتني وعدم إثارة الخوف في داخلي، فيكفيني آلام المخاض”.
وعن الاحتياطات التي ستتخذها للوقاية من فيروس كورونا، تقول السيدة ممازحة: “يبدو أن طفلتي رح تجي معقمة خالصة وريحتها كلها كلور من كتر ما عم عقم وغسل، سآخذ معي معدات التعقيم من قطعة صابون ومعقماً لليدين ومنشفتي الخاصة، بالإضافة إلى منع الزيارات بتاتاً، وسأضطر إلى تقديم بعض الرشى للممرضات للقيام بواجبهن كما جرت العادة في ولاداتي السابقة كي يهتمين بي على نحو أكبر”.
أما لونا فاختارت دون عناء تفكير الولادة في جناح تابع لمستشفى خاص لانعدام ثقتها بالمستشفيات العامة من جانب النظافة والتعقيم والرعاية خاصة في ظل شكاوى الناس المتكررة من غياب مظاهر التعقيم، عدا عن الازدحام والأعداد الكبيرة فيها، ما يعرضها لالتقاط الفيروس بنسب أكبر. وتؤكد لونا: “حتماً سألد في مشفى خاص، على الأقل أملك ترف خيار البقاء في غرفة لوحدي دون أن تشاطرني بها مريضة أخرى، ناهيك أنني سمعت أنهم يعتنون جيداً باقسام الولادة، ومع ذلك كله، سأحضر معي كمامتي وفوطتي الخاصة”. وقد حاولت لونا مراراً عدم السماح للخوف من التسلل لداخلها حيث عقبت بالقول: “منعت نفسي من الشعور بالخوف لأن ذلك يؤثر سلباً على صحتي الجسدية ويثبط من مناعتي، ضاعفت اهتمامي بنوعية الطعام وتناول المأكولات التي ترفع المناعة نظراً لوجود الفيروس الذي يهدد الحوامل بشكل خاص، كما أنني ابتعدت عن الأخبار السلبية والمحبطة وأخبار الفيسبوك المكتظ بأوراق النعوات، بالإضافة إلى التعقيم المستمر داخل المنزل وأخذ الحيطة والحذر في الخارج، أعمل على قدر طاقتي، والباقي على الله”.
الولادة المنزلية للنجاة من العدوى
في ظل انتشار فيروس كورونا والتحذيرات المتكررة بعدم الذهاب إلى المستشفيات إلا للضرورة القصوى كونها بؤرة خصبة تشجع على التقاط العدوى، وبما أن النساء الحوامل معرضات بشكل متزايد لخطر الإصابة بمرض خطير من فيروسات كورونا، لجأت العديد منهن لخوض تجربة الولادة المنزلية والعودة إلى عادات الجدات القديمة بالرغم من كونها غير رائجة خوفاَ على حياتهن وحياة أطفالهن. ومن هذه التجارب، عايدة التي قررت وضع مولودها الأول في المنزل في قرار جاء متأخراً وذلك قبل يوم واحد فقط من موعد ولادتها في مستشفى خاص، وتوضح: “اتصلت مع طبيبي الذي أشرف على مراقبة وضعي الصحي طوال فترة حملي و ألغيت عمليتي قبل يوم واحد من موعد ولادتي لأخبره بأنني سأتجه إلى الولادة المنزلية خوفاً من التقاط أي عدوى، بعد ذلك حصلت على رقم إحدى القابلات اللواتي يُشهد لها بالإنسانية والمهنية واتفقت معها على أمور التعقيم “، مضيفة: “على الأقل تأكدت من تعقيم كل الأدوات لأن القابلة عمدت إلى تطهيرها أمام عيني مع ارتداء القفازات والكمامة، وأضمن هنا أنني لن التقط الفيروس، كانت تجربة جديدة ومثيرة حقاً بالنسبة لي”.
اعتادت نبيلة اصطحاب حقيبتها الممتلئة بالمعدات الطبية الخاصة بالولادة الطبيعية، فهي عملت قابلة قانونية لأكثر من 33 عاماً في أحد الأحياء الشعبية في دمشق، وقد نالت شهرة عالية في أوساط الحي وعرف عنها بتقاضيها أجور رمزية مقابل عملها الذي تصفه بـ”الإنساني” لافتة إلى أن عملها ازدادت وتيرته بالتزامن مع ظهور جائحة كورونا حيث تقول: “الولادة في المنزل كانت موجودة من قبل، لكنها اتسعت وازداد الإقبال عليها منذ ظهور جائحة كورونا، إذ قصدتني العديد من النساء الحوامل خشية تعرضهن للفيروس والتقاطه من المستشفيات وانتقاله للمولود”. وعن إجراءات التعقيم التي تتخذها السيدة تقول: “أضع جميع أدواتي من مقص جنين ومقبض رحم وملقط وغيرها في جهاز تعقيم خاص لمدة نصف ساعة، مع الحرص على ارتداء الكمامات والقفازات”.
إلا أن إلفت تتمنى لو بإمكانها الولادة في منزلها، لكنها لا تستطيع ذلك كونها خضعت لعملية قيصرية سابقة تحول دون ولادتها طبيعياً وتوضح قائلة: “ليتني أستطيع أن ألد في منزلي، لكن الأمر مستحيل كوني أجريت عملية شق في البطن في ولادتي الأولى، فوجودي في المستشفى الآن ضروري جداً نظراً لكونها عملية جراحية، لكن لو كانت حالتي الجسدية تسمح لي بإجراء ولادة طبيعية، لما ترددت لحظة واحدة في إحضار قابلة إلى بيتي خوفاً من التقاط أي عدوى في المستشفيات أو الاختلاط مع أحد”.
إرجاء الحمل حتى إشعار آخر
اتفقت سحر مع زوجها على تأجيل فكرة الحمل في ظل الظروف الراهنة للعام المقبل على أمل توفر لقاح لفيروس كورونا وتقول: “كنا زوجي وأنا نخطط للإنجاب للمرة الثانية بعد طفلي الأول إلا أننا عدلنا عن الفكرة ريثما يتم تأمين لقاح، لاسيما أن انتشار الفيروس بدأ بالتصاعد، فنحن بغنى عن الوقوع في المحظور، خاصة أنني لدي طفل”. أما خلود فلا تستطيع تأجيل تحقيق حلم الأمومة وقررت الحمل في هذه الظروف غير المناسبة، كونها تزوجت متأخرة وفرص الإنجاب قليلة بالنسبة لها، وتقول: “بدي لحق جيب ولد، فعمري شارف على الأربعين، لا أستطيع الانتظار أكثر، كل شيء من الله خير”. وتنصح رامية السيدات اللواتي لديهن أطفال من قبل تأجيل فكرة الحمل، سيما وسط ارتفاع الأسعار وانتشار الأمراض.
بواسطة Rama Badra | أغسطس 8, 2020 | Cost of War, Reports, غير مصنف
لطالما صادرت الحرب أحلام آلاف الشبان والفتيات في سوريا بدءاً من أحلامهم الصغيرة المقتصرة على استكمال مراحل دراستهم الجامعية وتأدية الخدمة الإلزامية بالنسبة للشبان وتأمين عمل محترم يضمن لهم حياة كريمة وصولاً إلى بناء العائلة والخوض في مرحلة الاستقرار الأسري الذي انتقل من كونه مرحلة أساسية من حياة المواطن السوري ليصبح حلماً صعب المنال أو طموحاً بعيد المدى ضمن طموحات الشباب بالدراسة والعمل و تحقيق الذات خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية السائدة اليوم في البلاد. ونظراً لارتفاع تكاليف الزواج ذهب البعض إلى التأجيل والبعض الآخر بحث عن بدائل للمستلزمات الخاصة بتقاليد حفلة الزفاف ومهر العروس والتجهيزات الخاصة بها، فوسط جنون أسعار الذهب الذي بلغ حد ١١٠٠٠٠ للغرام الواحد عيار ٢١ استعان كثيرون بالذهب البرازيلي والفضة كمنقذ من أزمة لا يبدو حلها قريباً مع وجود عدة أشكال وألوان من الذهب البرازيلي بأسعار مناسبة نوعاً ما، وهناك ممن قدمن تنازلات واتبعن سياسة ترتيب الأولويات، كسارة التي وجدت نفسها أمام عتبة الاختيار بين حفلة الزفاف وشراء الذهب، لتنهي معركة الحسم لصالح الأولى، إذ تمهلت الشابة بشراء الذهب في فترة الخطوبة على أمل انخفاض سعره عند اقتراب الزفاف إلا أن توقعاتها باءت بالفشل فجاء الواقع عكس الآمال المعقودة عليه، فأصابها الندم لعدم شرائه قبل انتقاله من مرحلة الغلاء إلى الغلاء الفاحش ففضلت إقامة حفل زفاف صغير بتكاليف متوسطة مستبدلة المصوغات الذهبية بالبرازيلية منها التي تبدو على حد قولها مشابهة للذهب الحقيقي.
أما علي فليس بأفضل حال، فقد أجل تجهيز منزله عدة مرات متتالية آملاً أن تتحسن الأسعار، وها هو الآن يؤجل ذلك إلى أجل أجل غير مسمى ومعه يؤجل موعد ارتباطه الرسمي مقترناً بخطيبته التي انتظرته طويلاً مع عقد ذهبي ناعم قد ابتاعه لها بشق الأنفس منذ شهر شباط حين كانت الأمور على تدهورها أفضل حالاً بكثير مما هو الأمر عليه اليوم. أما موعد زفاف علي فأصبح في طي المجهول فإن كان قد عقد نيته على الزواج في أواخر العام الحالي فها هو الآن يصرح لنا بأن كل آماله وأحلامه قد طارت من أول نافذة كاد أن يركبها في منزله الذي ابتاعه على الهيكل حيث يقول: “في أيام الرخص.. فالمنزل سيبقى على الهيكل حالياً لأن كلفة الإكساء ارتفعت بشكل كبير”.
خطوة استباقية وسياسة التقنين
عمدت لمى إلى اقتناء ما تراه مناسباً كحاجات للعروس من متجر لألبسة البالة نظراً لانخفاض سعرها مقارنة بتلك الجديدة فهي تدرك تماماً أن شراءها من الأسواق الجاهزة قد يكلفها أضعافاً مضاعفة بالرغم من أنها ليست مخطوبة ولكن أغلب من حولها من الفتيات المقبلات على الزواج قد اقتصرن على شراء قطعة أو اثنتين بسبب ارتفاع الأسعار.
فيما استغنت علا عن كل ما يتعلق بالملابس الخاصة بالعروس فقد كان لديها مخزون كاف منها كانت قد ابتاعتها منذ سنوات كلما سمحت لها الفرصة بأسعار “لقطة” على حد تعبيرها، وبذلك عندما تمت خطوبتها اقتصرت تجهيزاتها الخاصة على بدل واحد من الملابس. أما بالنسبة للذهب فقد روت لنا: “قمنا بشراء الذهب والخواتم حين كان سعر الغرام ٣٢٠٠٠ وأحمد الله على ذلك لأننا لو قمنا بتأجيله لما استطعنا شراءه بعد الارتفاع الكبير الذي شهده.” و استأجرت علا وزوجها منزلاً في عشوائيات مدينة دمشق بعد أن ألغت حفلة الزفاف كي تتمكن من تأمين العفش والأدوات الكهربائية الضرورية للمنزل.
وبالرغم من أن الوضع المادي لخطيب آلاء يُعد ميسوراً لاسيما أنه يعمل مهندساً في السعودية إلا أنها اشترت بعض حاجياتها من ألبسة البالة بغرض التقنين، حيث تقول: “يرسل لي شهرياً ما يقارب 500 ألف ليرة سورية لتجهيز حاجياتي الخاصة ريثما يحين موعد الزفاف، غير أنني وجدت الأسعار مرتفعة جداً فلجأت إلى البالة فهي جديدة وجودة عالية والذي أقوم بتوفيره أصرفه على شراء مستحضرات التجميل.”
أزمة تأخر الزواج
في تصريح حديث للقاضي الشرعي الأول في دمشق محمود معراوي يذكر فيه أن نسبة تأخر سن الزواج في سورية خلال عامي 2019 و2020 وصلت إلى حوالي 70 % عازباً، ويعود السبب إلى قلة أعداد الذكور إثر وفاة عدد كبير منهم في الحرب وهجرة قسم آخر ما أدى الي ارتفاع أعداد الإناث مقارنة بأعداد الذكور. تبدو هذه الإحصائية منطقية، لاسيما في ظل الصعوبات الكبيرة التي تواجه الشباب السوريين في تأمين مستقبلهم وارتفاع تكاليف الزواج، كما ساهمت ظروف الحرب السورية خلال الأعوام الفائتة في تأخر زواج الشباب من كلا الجنسين إذ إن التحاق الشباب بالخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية قد أسهم في عزوف الشباب عن فكرة الزواج حالياً، بالإضافة إلى النزوح الداخلي والخارجي لعدد كبير منهم مما أدى إلى قلة “العرسان”. بالإضافة للمعدلات العالية من البطالة والأزمات النفسية المتعددة وعدم الاستقرار الاقتصادي والنفسي والاجتماعي و الصحي مؤخراً مع استمرار انتشار و تفشي وباء كورونا بين السوريين، كل هذه الأسباب مجتمعة تشكل عوائق صعبة الاجتياز في وجه كل من يحلم ببيت الزوجية المنتظر، فاليوم أصبح تعدد الزوجات أمراً مرحباً به عند فئة كبيرة من العائلات السورية وسط قلة المتقدمين لطلب أيدي الفتيات اللواتي كنّ قابعات في المنازل على أمل عريس “لقطة”، أما الآن هناك من ينظر لأي شاب يمتلك منزلاً وعملاً بغض النظر عما إذا كان متزوجاً أو عازباً على أنه هو ذلك العريس” اللقطة”.