الحرب والاقتصاد يشعلان فتيل الجريمة

الحرب والاقتصاد يشعلان فتيل الجريمة

“ياسر الصعب”، ليس اسماً عادياً لينساه السوريون بسهولة، فالاسم وحده قصة لمجزرة راح خلالها أولاد ياسر الثلاثة، وزوجته، حدث هز الساحة السورية على الصعيدين الواقعي والافتراضي، ففي الأول من شهر تموز/يوليو الفائت استفاقت العاصمة السورية على خبر مقتل ثلاثة أطفال واغتصاب أمهم وقتلها أمام أبيهم المطعون بسكين المهاجمين، في قرية بيت سحم. تعافى ياسر وخرج من المشفى، وألقي القبض على المجرمين الاثنين، وأحيلت أوراقهم للمحكمة، ولكنّ جرحاً لدى ياسر أعمق من مكان الطعنة في رقبته، لن يندمل وحتى بمرور السنين، فقد رأى الأب مشاهداً كأنها هاربة من فيلم سينمائي، وكل ذلك حصل بهدف السرقة، سرقةِ 260 ألف ليرة سورية (130$).

لم يكن تموز/يوليو شهراً عادياً على السوريين، الخارجين، كل يوم، من معركة حياتية قاسية، لتسجل البلاد أعلى مستوى من الجرائم المحلية في شهر واحد، ما ينبئ بأن البلاد تمر بمرحلة دقيقة على صعيد القيم المجتمعية والفكرية والتربوية.

يمكن أن نرد انتشار الجريمة لثلاثة أسباب: اجتماعية – اقتصادية – نفسية.

من الناحية الاجتماعية يُقرَأ الملف على أنه مرتبط بغياب الثقافة الاجتماعية، حيث يقول الدكتور موسى حبشي: “المشكلة كلها تتلخص في الحرب وتبعاتها من غياب لمنظومة الأخلاق الجمعية، فالجيل الناشئ في أتون الحرب لم تتح له ظروف المجتمع أن يرى الأمور من زواياها المتعددة، وبالضرورة أن يبني مفاهيم واضحةً حول التمييز بين الصح و الخطأ”، لا يحمل حبشي المسؤولية المباشرة لأحد، ولكنه يعتقد أن اجتماع الظروف الزمكانية في السنوات الماضية، أنجب أشخاصاً يصطلح حبشي على تسميتهم “دخلاء على القيم السورية”.

أما على الصعيد الاقتصادي فإن راتب الموظف السوري يبلغ في المتوسط الشهري (23$)، ليست المشكلة في هذه الرقم المتدني للغاية قياساً بكل الدول المحيطة، المشكلة أن الشريحة الأوسع في سوريا عاطلة عن العمل الفعلي المستمر، ليعمل جزء لا بأس به كمياومين، هؤلاء عرفوا الجوع الحقيقي-القسري إبان الحجر في أشهر الربيع الماضي بفعل بدء انتشار فايروس كورونا في البلاد، بالطبع لا يمكن تحميل الحجر وحده مسؤولية انهيار القيمة الاقتصادية للمواطن أولاً، ولعملته ثانياً، فقبل كورونا كما بعدها، الناس ما يزالون جائعين، يفترشون الطرقات والحدائق، يبحثون بكل كد وجد عن عمل يكفيهم قوت يومهم، لذا فإن الفقر محرك منطقي للجريمة، فمعظم الحوادث فيما عدا الاغتصاب، تقوم على السرقة. القتل أيضأ لأجل السرقة، وربما الاغتصاب والقتل معاً، ثم السرقة، في إشارة واضحةٍ لمجتمع زادت في كبته تفاصيل الحياة والحرب.

ولكن من الناحية النفسية البحثية تتسع الدائرة، فالحرب خلفت داخل أنفس السوريين آثاراً شظت قلوبهم، كما شظت الحرب أبدانهم، فخلفت مما خلفته أمراضاً وآلاماً نفسية جمة، يخبرنا بها معدل ارتفاع زيارات السوريين للأطباء النفسين، ولكن حتى هذه الزيارات تعتبر ترفاً، فأجور الأطباء مرتفعة حتى على قياس الطبقة الوسطى، فكيف بالفقراء إذاً. يقول الدكتور هاني منصور وهو أخصائي نفسي أن السوريين اليوم ودون مبالغة محتاجون للعلاج: “الاكتئاب يسيطر على المجتمع، وكذلك حالات طبية أخرى، قسم منها يقود للجرائم بشكل مباشر محمولاً على دوافع بيئية – نفسية تجعله يعتقد أن ما يفعله هو الصواب وسينجو بفعلته”. ويشير منصور أنه من المستحيل أن تشهد دولة اختبارات نفسية موسعة للجمهور، ولكن لا شك، أن استعادة ضبط الشارع بعد تنفيسه والسيطرة عليه أخلاقياً سيكون حلاً مقبولاً، “مع ضرورة توعيتهم لمخاطر الجريمة وعقوبتها، وبأن لكل فعل سيكون هناك رد فعل قضائي”.

العنف الأسري

بتتبع الوضع الاجتماعي السوري فقد أثبتت فترة الحجر الصحي المنتهية مع مطلع حزيران/يونيو الماضي أن نسبة العنف الأسري قد ارتفعت نسبياً، إذ سجلت حتى الآن حوالي 318 حالة عنف بحسب مصادر غير رسمية، بينهم 166 اعتداء زوجي، 45 ضرب شقيق لشقيقته، و20 حالة اعتداء أبناء على أهلهم، و87 حالة عنف باتجاه الأطفال دون السن القانوني. وقد كانت آخر إحصائية مسجلة ورسمية عام 2019، وتحدث حينها رئيس هيئة الطب الشرعي في سوريا أن نسبة العنف الأسري ارتفعت بنسبة 25% قياساً بالسنوات السابقة، وبمعدل 504 حالات، بينها 31 طفلا و53 إناث تحت السن القانوني، و420 حالة لنساء بالغات، دون تسجيل أي حالة وفاة بسبب العنف الأسري.

انتشار المعلومة

لا شك أن سوريا كانت تشهد بصورة مستمرة جرائم مختلفة الأشكال، ليس ابتداء   بالسرقة وليس انتهاء بالقتل مروراً بالاغتصاب كما حصل للطفلة سيدرا (١٣عام في ريف الدريكيش – طرطوس) حديثاً، إذ تم استدراجها من قبل قريبها وصديقه، وكلاهما بعمر الأحداث، ليقوم أحدهما باغتصاب الطفلة، ثم شنقها وقتلها بسلك معدني، ومن وجهة نظر القانون فإن العقوبة قد تصل بحدها الأعلى إلى 12 سنة للجناة فقط، على اعتبار أن كليهما دون السن القانوني، بحسب المادة (29) من قانون الأحداث :”تفرض على مرتكبي الجنايات من الأحداث الذين أتموا الخامسة عشر وتحت الثامنة عشرة: إذا كانت جريمته من الجنايات التي تستحق عقوبة الإعدام فيحبس مع التشغيل بين ست إلى اثنتي عشرة سنة”.

ولكن ما جعل قصص هذه الجرائم تنتشر هو مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت مساحةً واسعةً للمعلومات في سوريا، وجاءت هذه المواقع مدعومة بصفحات وزارة الداخلية الرسمية التي باتت تطرح كل ملفات الجرائم وتفاصيلها عبر صفحتها، ليتناقلها الناس باستمرار، وسبب شيوعها أكثر هو شناعة الكثير من الجرائم، ليطالب الناس بالقصاص من هؤلاء المجرمين، وبعضهم وبقسم كبير راح يطالب بعقوبة الإعدام للجناة في الكثير من الحوادث والجرائم.

بين عيادة الطبيب وفرع الأمن

بين عيادة الطبيب وفرع الأمن

بداية لا بد من ذكر أنني أملك بطاقة إقامة في فرنسا وأتقن الفرنسية وبأنني طبيبة اختصاصية في طب العيون وكاتبة، وبأن كل أسرتي (أخي وأختي وأمي يقيمون في باريس)، وابنتي الوحيدة وزوجها الإيطالي يقيمان في بريطانيا. ولكن لأنني مسكونة بعشق سوريا فقد قررت ترك أسرتي وحريتي في باريس وأصدقائي والعودة إلى اللاذقية، عدت إلى اللاذقية في 8 كانون الثاني 2019 متغاضية عن البرد الشديد وانقطاع الكهرباء وغلاء الأسعار والأهم الصمت. فكل شيء مجلل بالصمت، وظيفة اللسان في سوريا تدوير الطعام إن وجد وليس تدوير كلمات الحق. طوابير الناس المنتظرة لساعات جرة الغاز (وأحياناً تنتظر أيام) مجللة بالصمت، طوابير الناس أكثر من 400 شخص ينتظرون رغيف الخبز الرديء (لأن الأفران لا تخبزه جيداً بسبب نقص مادة المازوت) مجلله بالصمت، طوابير الناس المنتظرة الرز الرديء مجلله بالصمت، وكذلك طوابير الناس المنتظرة أرخص وأردأ أنواع الدخان في العالم مجللة بالصمت، وثمة من يشتمها لأنها لا تنتبه لصحتها ولا تبالي بانتشار وباء كورونا! وراتب كل شخص من هؤلاء المنتظرين يعادل ثمن كيلو ونصف الكيلو من اللحم! وطبعاً أساس غذائهم الخبز الرديء والشاي والتسول. لكن يسمح البعض المترف لنفسه أن يشتم هؤلاء السوريين ويصفهم بالقطيع والحمير لأنهم يدخنون ويتقاربون غير مبالين بصحتهم ووباء كورونا.

في هذه الظروف عدت إلى سوريا تسندني بطارية الكهرباء الثامنة في إضاءة الصالون والتلفاز لكنها لا تفيد أبداً في التدفئة ولا في تشغيل أية أداة كهربائية أخرى. كل شيء حولنا يثير الرعب فتداول مجرد كلمة دولار يستحق العقوبة فصار اسم الدولار (الشو اسمو). بعد أيام من عودتي إلى سوريا أصرت جمعية الحوار السوري السوري (وأنا في الواقع لم أكن قد سمعت بها مسبقاً ولا أملك أية فكرة عنها أن تقيم لي تكريماً)؛ فرفضت لأنني أعرف أن سوريا لا تكرم إلا الموالين للنظام، وهم عادة رؤساء اتحاد الكتاب العرب أو شخصيات مماثلة، لكن إلحاح بعض الأصدقاء بأن جمعية الحوار السوري السوري تضم سجناء رأي كثيرين مثل السيد عادل نعيسة مثلاً –الذي سُجن 20 عاماً–وغيره أكثر من ثمانية أشخاص كانوا سجناء رأي وانضموا إلى الحوار السوري السوري كي تبدأ مرحلة الحوار البناء القائم على المحبة وحب الوطن ومحاولة التقارب في وجهات النظر من أجل بناء علاقات محبة بين السوريين ليتمكنوا من بناء وطن مُعافى. قبلت وكانت الجلسة تضم حوالي أربعين شخصية أغلبها موالون وبعض سجناء الرأي السابقين، وكانت اللغة خشبية وميته وخطابية، وكان أحد الحاضرين (لم ألتق به أبداً ولا أعرفه) يدعي أنه فنان تشكيلي وينتمي للحزب الشيوعي، لم ينطق بكلمة ولم يكف ثانية عن التدخين حتى كدنا نختنق. بعد هذا التكريم الهزلي الشكلي اللامعنى له سوى إيهام الناس أن سجناء الرأي السابقين أصبحوا أصدقاء مع الموالين للنظام، فوجئت بمنعي من السفر وباستدعائي لمراجعة فرع الأمن العسكري في اللاذقية! ولم أعرف السبب فأنا عادة لا أنشر مقالاتي على صفحتي على الفيس بوك وأعترف أنني لست كاتبة سياسية بل أتقن التعبير عن آلام الناس وأوجاعهم وصمتهم المُهين وأكتفي أن يوقفني أحدهم أو إحداهن في الطريق ويقولان لي: نحسك تحكين عن وجعنا تماماً لكننا لا نجرؤ على البوح. لم تكن المرة الأولى التي أمنع فيها من السفر بل المرة الرابعة والمرات السابقة كانت على حدود العريضة (الحدود السورية اللبنانية، فكنت أعود أدراجي مذلة مهانة إلى اللاذقية). ولم تكن المرة الأولى التي استدعيت فيها إلى فروع أمنية متعددة بل مرات عديدة حتى أنني وبسبب نفس المقال استدعيت إلى فرعين أمنين وحين سألت: “لماذا هذا الإجراء!” قالوا لي أنهم استحدثوا إجراء اسمه التطابق وطبعاً لم أفهم ما هذا التطابق. هذه المرة (بعد تكريمي الهزلي في اللاذقية) مُنعت من السفر وأستدعيت إلى الأمن العسكري بسبب تقرير كيدي كتبه بي السيد الشبيح المؤذي الفاشل ( إن الناجح لا يؤذي ولا يحقد) الذي يدعي أنه فنان تشكيلي وينتمي للحزب الشيوعي وكلف نفسه آلاف الليرات السورية كي يطبع مقالات كنت كتبتها منذ سنوات خاصة مقالي عن الخوذ البيض الذي نشرته منذ خمس سنوات وكتبت فيه بأنهم منظمة إنسانية إغاثية، من أين أتى هذا المخلوق الكرم حتى يطبع مقالاتي وكي يكتب بصراحة فاقعة على صفحته على الفيس بأنني خائنة وماسونية والتقيت طبقة الروتاري عندما قدمت محاضرات في هولندا (واضح أنه لا يعرف معنى الروتري) لم يترك بذاءة أو شتيمة إلا وشتمني بها وكان بإمكاني أن أقدم شكوى ضده لكن حالة من القرف الشديد أصابتني فحظرته وقام أصدقاء ومعارف كثيرون بحظره، لكن الأمن العسكري قبل مقالاتي التي قدمها ومنعني من السفر واستدعاني. ولا أنكر أن فرائصي تقصفت رعباً وأن دقات قلبي تسارعت فوق المئة، وبأنني سارعت لشراء دواء الليكزوتان المهدىء عيار 3 ولم يؤثر بي، وأنني كنت أنظر كل ثانية إلى ساعتي معتقدة أنها معطلة لأن الخوف يجمد الزمن، وعرفت الأرق بأحقر أشكاله وعرفت التخلي والنبذ بأقسى تجلياته لأن من تعتقدهم أصدقاءك يتخلون عنك ويهربون منك حين تقع في مشكلة أمنية، حتى أن أحد أصدقائي يستعمل تعبير بأنه يتغوط تحته إذا سمع أن أحد عناصر الأمن يسأل عنه.

كان علي أن أبحث عن واسطة كي لا أنتظر خمس ساعات أو ست ساعات في فرع الأمن في غرفة حقيرة منفردة عادة فيها أسرة معدنية صدئة قذرة وكنت أفقد صوابي من الإنتظار الطويل فأخرج إلى المنشى الضيق وأدخل غرفاً بائسة يعمل فيها موظفون وجوههم مكفهرة أبادرهم بالسلام فلا يردون ولا ينظرون باتجاهي، وأسألهم برجاء ولطف أن يقول لي أحد منهم كم علي أن أنتظر بعد، فلا يردون علي كأنني شبح. أصريت هذه المرة أن ألجأ لأحد معارفي كي يعفيني من الانتظار وبالفعل أعطاني هاتف ضابط عالي المرتبة وقال لي اتصلي به وهو سيؤمن لك مقابلة العميد (أو العقيد، لست متأكدة) في فرع الأمن العسكري، لكنني فوجئت بالواسطة العالية جداً يسألني ساخراً وشامتاً في الوقت نفسه: “ولماذا يزعجك الإنتظار لهذه الدرجة! البارحة ابنتي إنتظرت أربع ساعات لدى طبيب النسائية رغم أنها كانت على موعد!” وجدت نفسي وبحركة انعكاسية ألصق راحة يدي على فمي وأضغط بقوة كي لا تنفلت مني عبارة: “وهل هذه الحالة مثل تلك! هل الانتظار في عيادة طبيب مثل الانتظار في غرفة في مبنى أمن الدولة العسكري أو السياسي أو لا أعرف ماذا.” لكنه وفى بوعده ولم أنتظر، لكن حالة من الهياج اللاإرادي أصابتني قبل موعدي مع العقيد في الأمن العسكري؛ فأخذت أصابعي تتقلص بشكل غير إرادي وأصابني ضيق تنفس وحاصرتني أفكار الموت والانتحار كإعصار تلف جسدي الضئيل واتصلت بقريبي وهو محامي وأخذت أصرخ: “لن أذهب، لن أذهب، قد يعتقلونني، ودارت حول رأسي مئات وجوه لأغلى الأصدقاء كلهم اعتقلوا أكثر من عشر سنوات وهم في العشرينات بسبب جريمة رأي وبعضهم مات تحت التعذيب، وحاول قريبي تهدئتي وقال: “سأوصلك بنفسي لا تخافي مجرد بضعة أسئلة”، وتحولت إلى صراخ ولعنت الساعة التي عدت فيها إلى سوريا وآمنت أن الوطن يعني تماماً الذل، ولا أدرك صدقاً كيف أوصلني قريبي إلى فرع الأمن العسكري في اللاذقية وكنت أنظر بدهشة غريبة للناس التي تمشي وللدكاكين كما أنني أرى كابوساً، كما لو أن ثمة تساؤلاً طالعاً من أعماق روحي: “هل هؤلاء أحياء حقاً”.

ووصلت حواجز الأمن العسكري وكان الموظف أو المُجند الواقف في كوة صغيرة بالكاد تتسعه يلبس فانيلا فقط! “يا للاستهتار واحتقار المهنة ألا يفترض أن يلبس قميصاً”! ونظر إلى باحتقار وهو يطلب هويتي كما لو أنه يحكم علي أنني خائنة سلفاً ورافقني مجند نحيل وفقير لدرجة رغبت لو أعطيه مالاً ليشتري طعاماً وثياباً ومشينا طويلاً في الشمس الحارقة، وكان مبنى الأمن العسكري مؤلفاً من عدة مباني، وأشار لي إلى مبنى ودخلت فوراً غرفة الضابط متجهم الوجه وعلى يمينة أكثر من ثمانية أجهزة هاتف لا تتوقف عن الرنين وكان كالساحر يرد عليها كلها، وطلب مني الجلوس دون أدنى ترحيب وقال تفضلي تكلمي، فحكيت له باختصار قصة الحيوان الذي صور مقالاتي، وبأنه لم يؤذني وحدي فقط بل أذى كثيرين. سألني فجأة: “هل أنت مع الخوذ البيض؟”. فاجأني سؤاله فقلت له هذا المقال كتبته منذ خمس سنوات وأظن وضع وطننا الحبيب سوريا خطير جداً الآن و قاطعني بلهجة آمرة وقال: “هل أنت مع الخوذ البيض؟” قلت: “كل قنوات التلفاز عرضت ما يقوم به الخوذ البيض من أعمال إنقاذ وإسعاف ولو تسمح لي لا يوجد إعلام محايد”. سأل بإصرار: “ماذا تقصدين لا يوجد إعلام محايد؟”. قلت له “هل تسمح أن أكون صريحة معك؟”. قال: “بالطبع نحن نريد من كل مواطن أن يكون شريكنا في الكلام والقرار”. ولا أعرف أي شيطان دفعني لأقول: “هل تذكر حضرتك لما كانت حلب كرة من الجحيم والنار، يومها مذيع القناة الأخبارية السورية قال: ابتسم أنت في حلب”. وحل صمت من رصاص بيننا ولا أعرف لماذا طفا بذهني عنوان رواية ميلان كونديرا: خفة الكائن التي لا تحتمل. هكذا أحسست تماماً كنت خفيفة كريشة عصفور وشعرت بطوفان من السعادة يتفجر في داخلي كينبوع ماء يتفجر من قلب صخر. بدا العقيد أو العميد منزعجاً لدرجة لا توصف، وانشغل باتصالات عديدة ثم نادى المجند وقال له خذ الدكتورة إلى المبنى الآخر. ومشيت مع مجند آخر ينافس الآخر بؤساً وفقراً وقصدنا مبنى آخر ودخلنا غرفة قذرة فيها صوفا ومكتب، وكان موظف المكتب مكفهر الوجه لدرجة شعرت أنه يعاني من بحصة في الكلية أو المرارة لشدة تشنج عضلات وجهه، وتظاهر أنه يقرأ في أوراق ويتفحص بدقة المكتوب، ثم يقلب ورقة إثر ورقة، ولمحت أكثر من عشرين مقالاً من مقالاتي كان قد طبعها الشبيح المدعي أنه فنان تشكيلي. وأخيراً نطق الصنم وقال: “نحن نعرفك دكتورة نعرفك جيداً وهذه التقارير المقدمة بك تقارير كيدية”. وقفت وقلت له: “طالما أنها تقارير كيدية لماذا قبلتوها!، ومن يجب أن يُعاقب أنا أم السافل الذي قدم لكم التقارير الكيدية أم أنكم تتفقون معه”. فقال: “هذا الكلام غير مسموح لك على كل سوف نسمح لك بالسفر مرة واحدة”.

مشيت في الطريق كالمسرنمة أتساءل ما هو الوطن وما هو الحنين؟ وتذكرت أنني تركت كل ميزات العيش المريح في باريس لأنني كنت أحن إلى بالوعة ممتلئة قذارة، وكنت أعتبر أن الوطن هو الحنين، وغلبت قيمة الحنين على الحرية والكرامة. لا شيء في العالم يعلو على الحرية والكرامة. أوقفت تاكسي وانفجرت ضاحكة قال لي: “خير ضحكيني معك”. قلت له: “كنت أقارن بين الانتظار في عيادة طبيب وفي مكان آخر”. قال: “لم أفهم”. قلت له: “الأفضل ألا تفهم”. يا للعار!

Coping with violence and displacement through media: The experiences of Syrian audiences

Coping with violence and displacement through media: The experiences of Syrian audiences

*This article was originally published by the LSE Conflict Research Programme blog.

Since 2011, media has played a significant role in the Syrian conflict, which started as a peaceful uprising, then escalated into a violent civil war resulting in the largest refugee and displacement crisis in the world. Mass media played a negative role, acting as a driver of the Syrian conflict by inciting violence, hate speech, and sectarianism. In this article, I focus on successful alternative media interventions that challenge the violent, stereotypical discourse dominant in mass media. As part of a larger research project, I examine, as a case study, the discourse surrounding the Syrian television drama series Ghadan Naltaqi (GN) [We’ll Meet Tomorrow] which generated an exemplary dialogue between the forcibly displaced segment of its audience and the writer/creator of the show, Iyad Abou Chamat. I consider GN as an alternative media intervention because it provides a case where media creators help displaced people both to mitigate the traumatic effects of a highly polarising conflict, and to find a healing space from violent and alienating dominant media discourses.

The context of Syrian media

Before the war, Syrian media was known for its successes in regard to the Syrian drama industry, and for its failure in term of news and public affairs programming (Kraidy, 2006). However, this has changed rapidly with the emergence, since 2011, of new, alternative online spaces reporting new political perspectives (Wall and El Zahed, 2015). Regardless of these new spaces, it is widely argued that the media interventions that addressed general Syrian audiences from different political opinions were rare throughout the years of the war. Syrian TV dramas were the best medium to expose structural inequalities and the corruption of the ruling social and economic elites (Salamandra, 2011). After the war, several new challenges would face the Syrian media sector, including the television drama industry. Challenges, such as the departure of the most qualified drama makers from Syria and the severe decrease in production budgets of drama serials inside the country have negatively affected the quality of the final products, resulting in many drama series that escape from reality through the genre of soap opera. And yet, the cultural production environment of Syrian drama after the “Arab Spring” and the Syrian war has new, positive margins supporting drama that explicitly tackles the current political events in Syria and the Arab region. A representative example is Ghadan Naltaqi (GN) which ran during Ramadan in the summer of 2015. It is particularly interesting because it provides a case where Syrian TV audiences used Facebook as a space to engage with the producer of the show that undertook representation of displaced Syrians experiences.

Production and broadcast of Ghadan Naltaqi (GN)

Ghadan Naltaqi (GN) focuses on the daily lived experiences of a group of displaced Syrians who rent separate rooms in one modest building in Lebanon. The group is composed of individuals coming from different social positions in pre-war Syria, and represent diverse political views vis-à-vis the conflict. The show depicts many of the political, economic and cultural challenges that face Syrian refugees who live in neighbouring countries such as Lebanon. The series received positive reviews from Arab critics and audiences, and it was awarded the 2015 Best Comprehensive Drama series of the Year – shared with The Godfather-East Club – by the Television and Radio Mondiale in Egypt (Alaraby Aljadid 2015).

The show also generated controversy over gender-related themes and scenes around sexuality and virginity, which resulted in the decision of Arab TV stations such as Abu Dhabi Al Emarat TV to delete such scenes from broadcast because they did not fit with their censorship standards. However, an uncensored version of the series in high definition, was uploaded by the series production company ‘Clacket Media Productions,’ and is available on YouTube free of charge. The availability of GN on YouTube provided broader access to Syrian audiences around the world who had no other way to watch the series.

Censoring the content that tackles sexuality from the series angered some Syrian critics (such as Brksiah, 2015) because that omits new experiences of personal freedom many refugees encounter once they move out of their traditional, conservative communities inside Syria. Indeed, one of GN contributions – to the representation of gender issues in Arab media – is showing the agency of refugee women and the new margins of freedom that displacement offers for women to explore newfound bodily pleasures.

Audiences experiences and communication needs

As a coping mechanism with displacement, watching Syrian TV drama serials provided Syrian audiences with ways to connect with family, friends, and other displaced Syrians all over the world. From pre-war life in Syria, the ritual of watching TV drama serials during Ramadan–with the rest of the family members–was a common family tradition that constructed shared memories between Syrians. Separated by borders and racist politics since 2011, watching Ramadan TV serials and discussing them online with family members, friends, and other diasporic Syrians became a continuation of that nostalgic tradition.

To explore Syrian audiences’ experiences with media texts that tackles the war and the refugee crisis, I interviewed the writer/creator of GN Iyad Abou Chamat and 25 members of his audience who friended him on Facebook after GN aired. Some of these interviewees reside inside Syria and others live in countries like Germany, Turkey, Saudi Arabia, France, Dubai, Morocco, and the United States. The particularity of the Syrian war-related topic in GN and its applicability to both the creator of the series, as well as to audiences’ lived experiences evoked a significant level of online participation with Chamat. He assured me that the series was inspired in many ways by his real-world experience. In 2012, he fled Syria, due to the ongoing war, to Lebanon. Then he travelled to France, a country where, in 1996, he had received post-graduate training in scenography after he graduated from the Higher Institute for Dramatic Arts in Damascus, Syria.

GN fulfilled Syrian audiences’ communication needs to be represented in the media in a way that resembles the reality of the war and its complexity. For instance, Reem (female, resides inside Syria) said: ‘The series, for me, is my voice, my opinion, my ideas. It is everything that is going on in my head and my heart about what is happening in Syria. The series described what is happening in a very professional and honest way.’ Additionally, Syrian audiences who engaged with GN and its writer/creator identified with the represented experiences of the series’ characters. Most interviewees identified with the whole represented lived experiences of the series’ characters and preferred not to name any particular character as the one that they identify with the most. However, several interviewees named Jaber as the character that they identify with the most. The reason is because Jaber (regardless of his political positions as supporter of the Syrian regime) is the character that deals the most with the challenges of displacement and transferring from a middle-class lifestyle in Syria to an impoverished lifestyle in Lebanon. Unlike his brother Mahmood, who is a poet, and Wardeh, who continues her on-demand job in bathing the deceased, Jaber came to Lebanon after he lost everything in the war including his small shop. Thus, Jaber’s storyline focuses on his search for any job while he finds a way to emigrate to Europe. The following comment explains the reason behind some participant audiences’ identification with Jaber: “Ghadan Naltaqi represented the suffering of every Syrian inside and outside the country. I saw myself in the suffering of Jaber while he was searching for a job, while he was wandering the street selling CDs in order to live with dignity not needing anyone.” (Ibrahim, male, resides in undisclosed place outside Syria).

Syrian audiences used Facebook as a platform for pedagogical exchange with TV drama creators. Like in live theater where, after the performance, audiences may be able to approach the cast to inquire about certain scenes and storylines, after each episode GN’s audiences were able to communicate with Chamat to praise, critique or clarify some aspects of the series’ narratives. GN audiences’ online participation with Chamat is also motivated by recognising and admiring Chamat’s political intervention and reading of the Syrian conflict through the text’s symbolism. Joubin (2013) argues that Syrian drama creators use metaphors of love, marriage, and gender (de)constructions indirectly to challenge and explore larger issues of political critique, nationalism, government oppression, and corruption. My research supports Joubin’s argument.

Chamat confirmed that the main storyline in his series – about the love triangle between Wardeh and two brothers Jaber and Mahmood (who reside next to Wardeh’s room in the same Lebanese school building that was turned into a refugee location for Syrians who rent separate rooms) – is a metaphor of the Syrian war. Wardeh is a symbol of Syria, Jaber is a symbol of the Syrian regime, and Mahmood is a symbol of the Syrian opposition. Chamat clarified this point: ‘…this symbolism was explicit and implicit. The audience figured out quickly this symbolism and they dealt with Wardeh in a real way as if she was Syria.’ Chamat admits to having a larger pedagogical message in his series: ‘Today there is a complete political failure in tackling the Syrian war; therefore, I depend on art to speak to Syrian people’s consciences. Art is very important when politics fail.’ Several audience members explain this symbolism by referring to a scene from Episode 26 where Jaber and Mahmood fought in Wardeh’s room over who loves her and deserves her more, which accidentally causes the burning of the room. Batoul (female, resides inside Syria) said: ‘the most amazing scene was the fire scene in Wardeh’s room because this scene summarised the years of the Syrian crisis. The two brothers burnt the room of the girl who they both loved.’

Salamandra (2011) notes that Syrian drama creators, before the current war, were known for confronting audiences with the consequences of corruption and neoliberal policies by using ‘stark social realism’ (285). After the war, GN symbolises, for Syrian audiences, a continuity of this respected tradition of Syrian art and culture that reflects and critiques the power structures of their society. Zeno (2017) demonstrates that refugees’ experiences are dominated by feelings of loss and humiliation; thus, it is important for them to find cultural references that invoke a sense of dignity and pride to cope with their displacement. Based on that, GN served as a source of national pride motivating audiences to participate online and engage with Chamat and his show. Interviewees reported feeling national pride because of the series’ success in globally representing the experiences and stories of real-world people like them who suffer from and survive through the Syrian war.

In sum, GN functioned as an entertainment intervention that provided displaced Syrians with scripts to interpret their nostalgic past in Syria, their painful present in the diaspora, and their hopeful future that contains newfound freedom. Interviewees’ perspectives show that the main intervention of drama serials like GN is complicating news media narratives about the Syrian conflict by representing diverse, complex characters and storylines that resemble the lived experiences of audiences in contrast to the news media that is either ideological or stereotypical or both (Alhayek, 2014). One particular strategy that GN’s team used was to choose famous actors who are known for supporting or opposing the Syrian government and assign them opposite political positions in the show. Syrian audiences saw and appreciated this strategy as an intervention to encourage audiences to listen to the opposite political views from their own and to acknowledge that no political side is solely responsible for the destruction of Syria.

“!حصار “حلال” وحصار “حرام

“!حصار “حلال” وحصار “حرام

مع تطور نتائج الحصار الاقتصادي الأمريكي على سورية والمسمى بـ ”قانون سيزر“ يتداعى أمامي فيض من قصص الحصار العسكري والاقتصادي الذي فرضه النظام السوري على الغوطة الشرقية، والذي امتد من مايو/أيار 2013 حتى استعادة السيطرة عليها في فبراير/شباط 2018.

لقد كانت أطول فترة حصار شهدها التاريخ الحديث، فطيلة مدة خمس سنوات حوصر ما يزيد عن 350 ألف في منطقة مساحتها تزيد قليلاً على 100 كيلومتر مربع، تعاون على من يعيش فيها تجار الحرب وتناحر على غلالها قادة الفصائل فكان الحال شبيهاً بالوضع الذي يعيشه المواطن السوري في الداخل بعد فرض الحصار الأمريكي عليه.

”قانون سيزر“ الأمريكي لم يوضع لخدمة المعارضة في حربها ضد النظام، بل وضعه المشرع الأمريكي بغاية ”تحسين سلوك النظام“ كما صرّح جيمس جيفري، الممثل الخاص لشؤون سوريا والمبعوث الخاص للتحالف العالمي لهزيمة داعش، في عدة مناسبات. وحتى لو توافق هذا القرار مع مصالح المعارضة السورية ورغبتها في إخراج إيران وحزب الله من سورية إلا أنّ المشروع الأمريكي يضع في اعتباره أمن اسرائيل أكثر من تحقيق العدالة والمحاسبة لصالح المواطن السوري المتضرر الأول والأخير من أفعال النظام ومن قانون سيزر على حد سواء.

القانون الأمريكي ينص فعلياً على الكثير من الأمور البراقة التي تهم المعارضة والمواطن السوري ولكنه لا يضع آليات لتطبيقها، وأكبر مثال على ذلك ما حدث في الأسبوع الماضي حين قامت روسيا والصين بالاعتراض على قانون يسمح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر المعابر الواقعة خارج سيطرة النظام في حين أنّ قانون سيزر ينص صراحةً على السماح بمرور المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة من قبل سوريا أو روسيا أو إيران أو أي داعمٍ أجنبي، والسماح بحرية الحركة والمساعدات الطبية، والتوقف عن استهداف المنشآت الطبية والمدارس والمناطق السكنية والتجمعات المدنية والأسواق.

القانون له تأويلات كثيرة ويبدو أن له تطبيقات خارج نصه ”البراق“، بحسب الاقتصادي السوري عارف دليلة، وسيطال في النهاية معيشة المواطن ولقمة عيشه وصحته، ولا يمكن التغاضي عن هذه الآثار الكارثية مهما كانت دوافع معدّي القرار المعلنة بأنها عقابٌ للنظام بسبب جرائمه ورغبةً في فرض التغيير.

يحمل هذا السيف الأمريكي دوافع أمريكية، وقد يتفق معارضو النظام مع بعض النقاط من حيث ابتزاز النظام وداعميه الروس في سورية، ولكن القرار سيبقى مسلطاً على أي نظام بديل قد يأتي من بعده، حتى ولو كان بقيادة المعارضة نفسها، تجربة العراق والعقوبات الأمريكية عليها لا زالت نصب أعيننا ولا فائدة من الدروس ما لم نعتبر منها.

بالرجوع إلى الغوطة الشرقية إبان حصارها، فقانون سيزر يشبه كثيراً ما حصل هناك مع وجود القصف الوحشي الذي لم يرحم المحاصرين ولم يفرق بين مدني وعسكري. وفي محاولة للتغلب على الحصار قامت فصائل المعارضة – كل على حدة – بحفر أنفاقٍ لها تصل بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة النظام لإدخال المواد الغذائية والطبية والمحروقات من جهة، ولتسهيل حركتها وإمداداتها العسكرية من جهة أخرى. كانت هناك خمسة أنفاق تم حفرها وتشغيلها خلال الفترة الممتدة بين عامي 2014 وحتى مايو/أيار 2017 بعد إعادة النظام السوري سيطرته على حي برزة الدمشقي، ويمكن تعداد الأنفاق بالترتيب الزمني:

  • نفق الزحطة (حرستا – غرب الأوتستراد) بإشراف فصيل فجر الأمة ثم لاحقاً أحرار الشام الإسلامية.
  • نفق جيش الإسلام (حرستا – برزة) والذي أغلق مباشرة لوجود النفق في مناطق سيطرة فجر الأمة مما نتج عنه الكثير من الإشكالات والخلافات.
  • نفق الفيلق (عربين – القابون) وهو أكبر نفق كانت تسير فيه الشاحنات وبإشراف فيلق الرحمن.
  • نفق النور (عربين – القابون) وهو كبير أيضاً وبإشراف جبهة النصرة.
  • نفق (حرستا” المعارضة“ – حرستا ”المهادنة“) وهو نفق واسع وتم تفجيره عدة مرات ولكن فصائل المعارضة أعادت فتحه عبر تحويلات متعددة.

عندما لاحظ النظام السوري عدم جدوى الحصار مع تدفق البضائع عبر المعابر إلى المناطق المحاصرة بدأت فكرة الاستفادة المادية من الحصار مع إمكانية مراقبة تدفق البضائع ونوعيتها مع التحكم بأسعارها، فأصبحت سيارات ”المنفوش“، وهو متعهد محلي من مسرابا في الغوطة الشرقية، تدخل بسلاسة عبر معبر مخيم الوافدين الواصل بين دوما والمخيم، وبذلك بدأ عمل الأنفاق يتناقص، واقتصر على المواد التي لم تدخلها سيارات المنفوش مثل الدواء والمحروقات والأدوية الزراعية والذخيرة. وخلال الأشهر الستة التي سبقت استعادة السيطرة على الغوطة الشرقية توقف تدفق البضائع نهائياً ليعيش المحاصرون في ظل وضعٍ معيشي هو الأصعب تماماً بالمقارنة مع أية منطقة محاصرة، فأصبحت مادة السكر والرز والزيت تباع بالغرامات وبأسعارٍ خيالية.

من سياق ما حدث في الغوطة الشرقية، لم ينجح الحصار في إسقاط فصائل المعارضة بل عزّز نفوذها ومكنّها من إحكام سيطرتها على المنطقة، وكذلك فعلت الحرب، فقد غاب العمل المدني عن الواجهة وتمت السيطرة عليه، حتى أن قائد فيلق الرحمن أعلن نفسه قائداً عاما للقطاع الأوسط بما فيها المؤسسات المدنية والثورية في تلك المنطقة وجير لصالح معركته كل المواد والأموال المرصودة والمودعة ”أمانة“ في عهدته كما اكتُشف لاحقاً.

نرى تلك الصور والأمثلة من الغوطة الشرقية تتكرر، لكن على نحوٍ أوسع لتشمل سورية. فالنظام السوري أصبح في وضع المحَاصَر، وباتت قنوات هروبه من العقوبات في وضعٍ لا تحسد عليه، فلبنان الذي كان بمثابة حديقة خلفية للنظام السوري وتجار الحرب للهروب من المراقبة الأمريكية أصبح هو نفسه يعاني من حصار ٍأمريكيٍ غير مباشر وانحساٍر للدعم الخليجي، مما هدد المواطن اللبناني بكارثة اقتصادية غير مسبوقة.

بدأت أولى عمليات التصعيد في لبنان مع تقديم رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته في أكتوبر/تشرين الأول 2019 على خلفية احتجاجات مدنية ضد النخبة الحاكمة التي يتهمها اللبنانيون بالفساد وجرِّ لبنان إلى انهيار اقتصادي لم يشهده منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990، ثم أتبع ذلك تخفيض تصنيف لبنان الائتماني مع نظرة مستقبلية سلبية في فبراير/شباط 2020 مما أدى إلى انهيار كبير في سعر صرف العملة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية، حيث وصل سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية إلى 9500 ثم تحسن تدريجياً ليصل حتى تاريخ كتابة هذه المقالة إلى حدود 6800، مع العلم بأن الليرة اللبنانية بقيت محافظة على سعر صرف ثابت منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان بحوالي 1500 مقابل الدولار.

يمكن أن نلاحظ مما سبق ومن تزامن انهيار العملة السورية الأخير مع العملة اللبنانية بأنّ ما يحدث لليرة السورية متأثر بشكل كبير بما حدث للاقتصاد اللبناني.

لقد حافظت الليرة السورية على سعر صرف وصل إلى 500  ليرة مقابل الدولار وذلك طوال سنوات الحرب الشديدة (بعد أن كانت 47 ليرة مقابل الدولار قبل بداية الأحداث في سوريا في 2011) وحافظت على هذا الرقم سنوات عدة حتى بداية الاحتجاجات في لبنان وبداية انهيار المصارف اللبنانية، حيث بدأ سعر صرف الليرة بالارتفاع حتى وصل إلى 2500 ليرة سورية مقابل الدولار وذلك قبل تفعيل قانون سيزر، ليرتفع مع بداية تطبيق العقوبات الأمريكية الى أكثر من 3000 ليرة ثم ليعود بعدها خلال أقل من شهر إلى حدود 2400 ليرة مقابل الدولار.

كانت الأزمة الاقتصادية والسياسية  في لبنان القشة التي قصمت ظهر الاقتصاد السوري الذي اعتمد على لبنان بشكل كامل للالتفاف على أية عقوبات خارجية مفروضة على مصارفه ووزاراته ومؤسساته وتجار حربه، وإنّ مفاعيل قانون سيزر سوف تطال المصارف والمؤسسات والشركات اللبنانية في حال تعاونها مع نظيراتها في سورية كما هي الحال بالنسبة للمؤسسات البنكية ومراكز التحويلات خارج لبنان، وبالتالي أحكم القانون الأمريكي الجديد خناقه على النظام السوري والاقتصاد الذي احتكره النظام طيلة العقود الخمسة الماضية، حتى أصبحنا لا نفرق بين مؤسسة خدمية والنظام الحاكم.

في النهاية، وبعيداً عن الحالة المعيشية للمواطن والتي أصبحت ما دون خط الفقر، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: أليس هذا ما يريده أغلب نشطاء الثورة ومعارضي النظام؟ ألم يفرح هؤلاء بالحصار على سورية/النظام في الوقت الذي شجبوا فيه ونددوا عبر بياناتهم الكثيرة بحصار الغوطة الشرقية ومناطق الحصار الأخرى ونادوا بفك الحصار عنها؟ أم أنّ هذا الحصار حلال وذاك حرام؟

في المقابل لا يمكن لنا التفريق بين المؤسسات الخدمية – كما أسلفنا – وبين مؤسسات النظام، وبالتالي مع انعدام أفق الحل في سوريا فهل سيكون هذا الحصار بداية لتصويب الحل السياسي كما طرحت الخارجية الأمريكية على موقعها وعلى لسان وزير خارجيتها مايك بومبيووالسفير جيمس جيفري؟

أليس أكثر المتضررين من انهيار العملة السورية وغلاء الأسعار هم المواطنون العاديون والموظفون المدنيون إلى جانب العاملين في قطاعات الجيش والأمن والشرطة المساندة للنظام؟!

لا أعتقد بأنّ أي خير قد يأتي من الإدارة الأمريكية الحالية أو أي إدارة سابقة ولاحقة، فالتاريخ شاهد على ذلك وهو مليء بالعبر.

الاقتصاد السوري واشتراكيات تلفظ نفسها!

الاقتصاد السوري واشتراكيات تلفظ نفسها!

قبيل نشوب الحرب السورية، كانت البلاد تتجه بمنحى تصاعدي فيما سمي حينها بمرحلة النمو الاقتصادي وازدهاره، لا سيما مع انتقال البلاد من نظام الاقتصاد الاشتراكي إلى نظام اقتصاد السوق الاجتماعي. اعتبر حينها الاقتصاد السوري مثالاً للدول النامية في المحيط، حيث ارتكز على الزراعة والصناعة الخفيفة وبدرجة أكبر على النفط، وبلغت قيمة الناتج المحلي في عام 2010 نحو 60 مليار دولار. إلا أن ذلك انهار تباعاً مع كل يوم تقدمت فيه الحرب بعد 2011، حيث فرضت حزمة عقوبات اقتصادية متتابعة عزلةً على سوريا تعادل أضعاف الحصار الاقتصادي والسياسي الذي فرض إبان فترة الثمانينات، وصولاً إلى قانون قصير الأخير الذي دخل حيز التنفيذ في السابع عشر من حزيران/يونيو الفائت.

المعركة الأخيرة

يذكر تقرير البنك الدولي عن تبعات الحرب والخسائر الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا: “أن خسائر الاقتصاد السوري بلغت نحو 226 مليار دولار، وذلك بسبب دمار البنى التحتية والخسائر البشرية الفادحة، خلال الحرب المستمرة”، ويرد في التقرير أن أكثر من ثلث الكتل السكنية قد دُمر بشكل كامل، وأن أكثر من نصف المستشفيات والمستوصفات قد دُمر بشكل كامل أو جزئي. هذا عدا عن فقدان السوريين لنحو نصف مليون وظيفة سنوية، ما جعل نحو 6 من 10 أشخاص يعيشون في فقر شديد، إضافة إلى أن 3 من كل 4 أشخاص لا يعملون، أي ما يعادل نحو ثمانية مليون سوري عاطل عن العمل.

تؤكد كثير من الآراء الاقتصادية أن سبيل العودة الوحيد يكمن في تحويل أو إعادة الاقتصاد إلى إنتاجيته التصديرية قبل عشرة أعوام، وذلك يتم عبر بناء أسس ومواثيق واضحة للمستثمرين، ولاحقاً، فتح باب التنافس الشريف ضمن ميزات تعددية تستطيع البلاد تقديمها على صعيد التجارة. إلا أن الأمر يبدو أصعب بمراحل مما كان عليه قبل الحرب، فاليوم يسيطر تجار الحرب على البلاد، ويتقاسمون ثرواتها دون حسيب أو رقيب، خصوصاً أن سورية فقدت عدداً يقدر بالآلاف من المصانع والمعامل الإنتاجية، وتدهورت بالضرورة قيمة إنتاج القطن والقمح لأسباب عدة ومعها آليات توليد الكهرباء، واستخراج النفط، وبدرجة موازية الجسور وعموم البنى والسكك الحديدية. وتقدر مصادر اقتصادية أن خسائر الحرب في الثلثين الأولين من الحرب تعادل تريليون دولار.

وتحاول الحكومة عبر تصريحاتها إعطاء أهمية خاصة لحركة إعادة الإعمار، على اعتبارها حلاً إنقاذياً لوضع البلاد عموماً، فلا تدخر جهداً عبر وزرائها في الحديث عن خطة اقتصادية شاملة ستنطلق قريباً. فعلى سبيل المثال كان محافظ حمص قد رفع مشروعاً متكاملاً للحكومة عن خطة إعمار شاملة لمدينة حمص وسط البلاد، والتي دمرت الحرب أكثر من نصفها، مشروع مضى على تقديمه نحو خمسة أعوام، وحتى الآن لا حراك فعلياً على الأرض ولا شيء ينذر ببدء الإعمار، إلا تصريحات فقدت مصداقيتها دون رجعة.

ترى بعض الآراء الاقتصادية المتواترة خلال الفترات الماضية أن من أهم الصعوبات التي واجهت الصناعيين في إعادة بناء  ترميم الاقتصاد هو تنامي نفوذ طبقة تجار الحرب وانعدام الرؤية التنموية الحكومية وعدم وجود أي خطة حقيقية لتعافي المنشآت الصناعية المتضررة وإصدار قرارات تفضل التجارة على الصناعة والإنتاج، وهذا خطير جداً لأنه يحول البلد إلى بلد استهلاكي فقير بدل أن يكون إنتاجياً في طور النمو والازدهار وخاصة بعد الحرب، مع التأكيد على أن أكبر الكوارث لا تكمن في هجرة رؤوس الأموال وحسب بل وفي انعدام الثقة الاستثمارية الخارجية والداخلية وعدم وجود أي جهد أو مساع حقيقية لترميمها.

إذاً، فمن الجلي أن الاقتصاد السوري انهار بصورة قد تبدو لا رجعة عنها في الأمد المنظور، والسياسات الحكومية (الاستجدائية – التشليحية) توحي بهذا، فليس من الصعب مراقبة العمل الحكومي واستخلاص نتائج لا تحتاج تركيزاً عالياً، ولا حتى تحتاج متخصصاً اقتصادياً، إذ يكاد لا يمر شهر دون أن تطرح حكومة البلاد على مواطنيها حلاً اقتصادياً تَسِمهُ بالإنقاذي، وكان آخر هذه الاجتهادات قراراً صدر في بداية الأسبوع الثاني من تموز/يوليو الحالي، قضى بفرض ما سماه رواد مواقع التواصل الاجتماعي بالإتاوة – أخذ المال عنوةً دون وجه حق). قضى القرار بإلزام كل سوري أو من في حكمه بدفع مبلغ 100$ أمريكي بمجرد دخوله إلى سوريا، ليتم تصريفه من البنك المركزي وتالياً، يكون المواطن قد فقد 50% من قيمة العملة قياساً بالسوق السوداء. وتساءل مدونون عن الهدف من استثناء الأجانب من تصريف هذا المبلغ بالسعر الرسمي الذي صار يعادل نصف سعر السوق السوداء، وراح آخرون للتساؤل عن شرعية إجبار السوري الذي ذهب ليجلب أغراضاً من لبنان أو ذهب لرؤية طبيبه وعادوا في نفس اليوم أو اليوم التالي، وحتى لو بعد أيام، وكذلك حال الطالب السوري، فلماذا يجب على هؤلاء دفع هذا المبلغ، في بلده متوسط الراتب الشهري فيه لا يتعدى 25$؟

تحدث الباحث محمد صالح الفتيح في تدوينة له متسائلاً عن كيفية تأمين النقد الأجنبي المستخدم لدعم الاستيراد الذي ترفض الحكومة التخلي عنه؟، مكملاً: “لماذا لا يتم إيجاد حلول أكثر فاعليه له، فقرار إلزام القادمين بصرف 100$ على الحدود بالسعر الرسمي هو أحد هذه الإجراءات التي تهدف لضمان استمرار المستوردات، علماً أنه غير حيوي”.

المعركة الأولى – طوشة الستين

في ستينيات القرن التاسع عشر اندلعت حرب أهلية خلفت مجازر راح ضحيتها أكثر من 50 ألف سوري وقتذاك، وتمثلت بثورة الفلاحين على الإقطاعيين، وتالياً، الصراع العشائري–المذهبي، وانتهت بتدمير أكثر من 500 قرية، وكوارث اقتصادية لا تحصى، وانتهت بتدخل أممي عاجل عبر لجنة دولية.

كانت الشام وقتذاك ترزح تحت الاحتلال العثماني، وكانت دمشق رائدةً عالمية في انتاج البروكار والحرير الطبيعي والصناعي، وكانت تلك الصناعات في حينه، تعادل أهمية النفط في يومنا هذا، وهذه الصناعات أسهمت في ازدهار شامي غير مسبوق على مستوى الدول آنذاك، قبل أن تشتعل الحرب وتحرق معها كل معامل الإنتاج هذه، في صراع درزي–مسيحي ابتدأ في لبنان وحط رحال دماره في دمشق.

كانت هذه الصفعة الأولى للاقتصاد السوري في التاريخ الحديث، أما الصفعة الثانية فقد بدأت في عام 2011، وما بين الانهيارين بلد يحاول الوقوف، وفي كل مرة تقص هاتان القدمان بفتنة، أو حرب، أو صراع، أو انفجار.

واقع ثقافة الكتب في سورية .. ماذا تبقى للقارئ؟

واقع ثقافة الكتب في سورية .. ماذا تبقى للقارئ؟

من المعروف في الحروب أن الثقافة والفنون هما أول من يتضرر وآخر من يتعافى. وقد دفعت الثقافة في سوريا ثمناً باهظاً من الخسائر الناجمة عن الحرب الطويلة وتبعاتها الاقتصادية، والتي لم تُلحق أذاها بمصادر الثقافة ومنتجيها ومروجيها فقط، بل طال أذاها القارئ أيضاً.

وقد أجهزت المعارك التي اندلعت في البلاد على الكثير من دور النشر والمكتبات والمطابع ومستودعات الكتب وغير ذلك، فعلى سبيل المثال تعرض مقر دار الجندي ومستودعاتها في الغوطة الشرقية لأضرار كبيرة، فيما أُحرق المستودع الرئيسي لدار الحصاد ونهبت وخُرِّبت مطابعها إلى جانب خسارتها لكميات كبيرة من الورق ومعدات الطباعة وغيرها. كما لحق الدمار أيضاً بمستودعات مكتبة النوري العريقة في منطقة حرستا، وهذا مجرد غيضٍ من فيض.

وخلال سنوات الحرب تبدلت هوية عشرات المكتبات فتحولت لمقاهٍ ومحلات تجارية أو لجأت لبيع القرطاسية والألعاب والهدايا لتقاوم الإفلاس، فيما تراجع حجم الإنتاج والتوزيع في دور النشر، التي باتت تواجه عقبات كبيرة تهدد استمرارها، وذلك نتيجة عوامل عديدة منها: ارتفاع أسعار الورق ومواد الطباعة والتجليد بشكل خيالي. وتوقف الكثير من المطابع عن العمل. وصعوبة تسويق الكتاب، نتيجة غياب المعارض وتراجع نسبة المبيعات. إلى جانب ذلك حُرم الكثير من الناشرين من المشاركة في المعارض الخارجية لصعوبة الخروج من سورية ولعجزهم عن تحمل نفقات السفر والشحن، فيما أغلقت بعض الدول أبوابها في وجههم، فحرموا بذلك من تسويق إصداراتهم.

حلول بديلة

نتيجة للظروف والعوامل السابقة لجأت وتلجأ معظم المكتبات إلى بيع النسخ المزورة لبعض الكتب التي تحقق مبيعات جيدة. وعند الاطلاع على الكتب المعروضة في بعض المكتبات أمكنني ملاحظة حجم التزوير بسهولة، بدءاً من الغلاف، المصنوع كيفما اتفق، ونوعية الورق الرديء، مروراً بالطباعة، التي تختلف سماكتها وقتامتها بين صفحةٍ وأخرى وسطرٍ وآخر، وليس انتهاءً بالحجم الضئيل للكتاب مقارنة بالنسخة الأصلية منه.  ويحدثنا غسان (45 عام)، صاحب مكتبة عامة في مدينة جرمانا تحفل بعشرات الكتب غير الأصلية، عن هذا الأمر: ” نتيجة عجز معظم المكتبات عن شراء النسخة الأصلية للكتب الرائجة وصعوبة إدخال بعضها إلى سوريا تكتفي باقتناء نسخة واحدة من كل كتاب لتقوم بتصويرها أو إعادة طباعتها”. ويبرر البائع ذلك الأمر بقوله: ” النسخة الأصلية التي  قد يصل سعرها إلى أكثر من  عشرة آلاف ليرة، تباع النسخة المزورة منها بنحو ثلاثة أو أربعة آلاف، وبذلك نستطيع نشر شيء من الثقافة وتزويد القارئ ببعض الكتب الهامة وتعويض بعض الخسائر”.

 وعلى الرغم من أن الكتب المزورة قد ترأف بحال القارىء إلا أنها لا تحقق له الفائدة والثقافة المطلوبتين، فهي إلى جانب كونها رديئة الطباعة وسطور صفحاتها متقاربة وكلماتها صغيرة وشبه متلاصقة، نجد أن حجم الاختصار الكبير فيها، والذي يحذف صفحات بأكملها وأحياناً فصولاً، يجعلها تفقد قيمتها الفكرية والثقافية وتسيء لعقل القارئ.

تراجع نوعية ومضمون الكتاب

خلال السنوات الأخيرة بات واضحاً حجم التراجع والتبدل الكبير في النوعية والمضمون الفكري والثقافي والمعرفي للكتب المطروحة في الأسواق، حيث يطغى على معظم المكتبات والبسطات حضور الكتب  الدينية والترفيهية وكتب الأبراج، إلى جانب بعض الروايات الاستهلاكية الرائجة ذات العناوين المطروقة والتي لا تغني ولا تطور عقل القارئ. ويلخص أحمد(50 عاماً) ، صاحب مكتبة عامة في  الحلبوني، سبب ذلك بقوله: ” أصبحت سوريا خارج حركة الثقافة العالمية ما أبعد القارئ عن مواكبة أحدث إصدارات الكتب القيمة والمميزة  والتي تحظى باهتمام وانتشار عالمي، فهي لا تصل إلينا إلا نادراً وذلك نتيجة ارتفاع سعرها، بعد انخفاض قيمة الليرة السورية، وصعوبة استيرادها وضعف إمكانية الترجمة والطباعة وغياب كثير من المترجمين المميزين عن الساحة السورية”.

وتضطر كثير من دور النشر اليوم لنشر كتب سطحية لا تحظى بأي قيمة فكرية لكتَّابٍ لا يمتلكون أي موهبة أو إبداع وإنما يمتلكون المال فقط، وذلك لتتمكن من الاستمرار. ويقول أحمد الذي يعمل لصالح إحدى دور النشر (فضل عدم ذكر اسمها) : “كنا نُخضِع أي مخطوطٍ لتقييم دقيقٍ ونرفض نشره ما لم يكن قيماً وجديراً بالنشر ولكن اليوم تضطر الدار لنشر أي كتاب. وقد كنا سابقاً ندعم الكثير من التجارب المبدعة والجادة لبعض الكتَّاب بنشرها على نفقتنا الخاصة ومن ثم تحصيل تكاليف النشر بعد بيع المنشورات في حفلات التوقيع والمعارض، أما اليوم فقد باتت معظم دور النشر عاجزة عن دعم أحد”. وبحسب أحمد، ثمة عامل آخر أسهم أيضاً في تراجع مستوى منشورات دور النشر وهو “خسارة البلاد للكثير من كتابها وأدبائها ومفكريها الذين غادروها، فباتت نتاجاتهم تُنشر في الخارج بعيداً عن متناول يد القراء في سوريا”.

من جهته يشتكي  أبو نديم (62 عام)، بائع بسطة كتب تحت جسر الرئيس، من غياب مصادر الكتب القيمة والثمينة التي كانت تمدُّ البسطات بالعناوين النوعية، حيث يقول: “لم يعد هناك أي مصدر نرفد به بسطاتنا، فالمكتبات المنزلية القيمة التي كنا نشتريها لم يعد لها أي وجود اليوم. فيما انعدم وجود معارض الكتب التي كانت توفر لنا عروضاً جيدة تمكننا من شراء كميات كبيرة بسعر الجملة. أما دور النشر التي كانت تمدّنا بالكتب القديمة وبعض الإصدارات الرائجة فقد أصبحت اليوم عاجزة حتى عن توفير الكتب لنفسها”. ونتيجة لهذا الواقع “أصبحت بسطات الكتب المستعملة اليوم تقتني أي كتاب بصرف النظر عن مضمونه الفكري والمعرفي وذلك لتتمكن من مواصلة عملها”. بحسب أبو نديم.

قبل الحرب كان معرض دمشق للكتاب يمثل المصدر الغني والرئيسي للقارئ الشغوف باقتناء الكتب والبحث عن العناوين الفريدة بنُسخها الأصلية التي كانت تتدفق من كل حدب وصوب إلى المعرض الذي كان يستضيف آنذاك نحو 300 دار نشر عربية وعالمية. لكن تلك الحقبة الذهبية اختفت تماماً منذ العام 2012،  حيث توقف المعرض لمدة أربع سنوات. ورغم إعادة افتتاحه في العام 2016 إلا أنه لم يعد لما كان عليه في الماضي، وعن ذلك يحدثنا أبو نديم الذي زار المعرض في دورتيه الأخيرتين: “غابت عن المعرض عشرات دور النشر العريقة والنوعية فيما فردت معظم أقسامه لدور نشر تجارية ذات صبغات إيديولوجية ودينية كبعض دور النشر اللبنانية والإيرانية وغيرها، فيما بدا واضحاً حجم التراجع، كماً ونوعاً، في مستوى المنشورات داخل أجنحة دور النشر السورية،  لذا لم يحظَ المعرض باهتمام يذكر من قبل القراء الذين لم يجدوا فيه ما يرضي ذائقتهم “. يذكر أن معظم الأصدقاء الذين زاروا المعرض يشاطرون أبو نديم وجهة النظر ذاتها.

واقع البلاد يؤثر على عادات القراءة ونوعيتها

الوضع النفسي العام، القلق والتوتر وضغوط الحياة اليومية التي أفرزتها الحرب وتبعاتها، التفكير في الحدث السوري وتحليله والدخول في دهاليزه السياسية، هي عوامل كان لها آثار سلبية كبيرة على عادات القراءة التي تحتاج إلى تركيزٍ كبيرٍ وذهنٍ صافٍ وراحةٍ نفسية، وهو ما لم يعد في متناول القراء. ونتيجة لذلك بات الكثير منهم يبتعد عن قراءة الكتب الفكرية والثقافية والعلمية وغيرها ليتجهوا لقراءة الكتب الخفيفة والسهلة والتي لا ترهق عقولهم ولا تحتاج لتفكير كبير، كبعض الروايات والقصص البسيطة. ويحدثنا غسان عن نوعية الكتب التي يُقبل عليها القراء في مكتبته: “تحظى  الروايات السلسة كرويات أحلام مستغانمي وباولو كويلو ودان براون وإليف شفق، بأعلى نسبة مبيعات، فبمعدلٍ وسطي نبيع شهرياً نحو 60 رواية منها، فيما نبيع نحو 20 كتاباً في التراث والدين، ومقابل ذلك لا تحقق كتب الفكر أو النقد أو الفلسفة أو التاريخ سوى مبيعات هامشية لا تكاد تذكر”.

وقد تغيرت اهتمامات بعض القراء الذين توجهوا، في محاولة للهرب من ضغوط الحياة، نحو علوم الطاقة واليوغا والتأمل والاسترخاء فباتوا يقرؤون الكتب المتعلقة بتلك العلوم التي استقطبت الكثير من الناس خلال الحرب. فيما انشغل قراء آخرون بتعلم لغات وثقافة بعض البلدان الأوروبية التي يحلمون أو ينتظرون السفر إليها، فجاء ذلك الانشغال على حساب الوقت المخصص للمطالعة.

من جهة أخرى تخلى البعض عن عادة القراءة ليستبدلها بمشاهدة المسلسلات والأفلام والبرامج الوثائقية التي لا تحتاج لجهد ذهني كبير، من بينهم المدرس فراس (42 عاماً) الذي كان مهووساً بالمطالعة ويمتلك مكتبة ضخمة. وعن سبب ذلك يقول: “لنحو شهرين لم أقرأ سوى 50 صفحة من الكتاب الذي كنت أطالعه، فبمجرد أن أقرأ بضعة أسطرٍ منه أشرد بعيداً، لأغرق بالتفكير في المستقبل الغامض والوضع الاقتصادي المعدم وعجزي عن تأمين ثمن سجائري، لهذا قل شغفي بقراءة الكتب وفقدت شيئاً من المتعة فبت أبحث عن شيء مسلٍ ينسيني واقعي كمشاهدة الأفلام وممارسة بعض الألعاب الترفيهية”.

 الكتاب الذي كان في ما مضى  يقع في قمة الأولويات تراجعت أهميته ليصبح نوعاً من الكماليات، وبات شراؤه حلما بعيد المنال عند كثير من الناس، ففي ظل تدهور الواقع المعيشي والغرق في مستنقع اليأس والمجهول والعجز عن تأمين أبسط متطلبات الحياة يصبح شراء الكتاب نوعاً من الترف والبذخ، فالثقافة لا يمكنها أن تصبح بديلاً عن الخبز.