سوريا على حافة المجاعة

سوريا على حافة المجاعة

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات:”

أدى دخول “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين 2019” حيّز التنفيذ، الأربعاء 17 من الشهر الحالي إلى تداعيات اقتصادية عدة أبرزها الانهيار غير المسبوق تاريخياً لليرة السورية أمام العملات الأجنبية، حيث فقدت حوالي 70% من قيمتها منذ الشهر الرابع من العام الحالي، وهو ما أدى إلى ارتفاع جنوني بالأسعار وغياب العديد من السلع والأدوية من الأسواق المحلية. وتزامن هذا الوضع مع تصاعد الأزمة بين بشار الأسد وزوجته أسماء، وابن خاله، رجل الأعمال، رامي مخلوف، وتعرض “العائلة الحاكمة” لهجوم هو الأوّل من نوعه من قِبل موسكو -الحليف الأقوى للنظام- ومؤسّساتها الإعلامية المقربة من الرئيس بوتين.

 وتتعمق المعاناة التي يعيشوها السوريون أكثر في ظلّ ارتفاع عدد الإصابات بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد. الجائحة التي خلفت حتّى الآن نحو 456 وفاة وأكثر من ثمانية ملايين إصابة مؤكدة في 210 دولة وإقليم حول العالم، بحسب موقع “ورلد ميتر” المختصّ برصد ضحايا الفيروس القاتل، حاول النظام الالتفاف عليها بنشر أنباء مفادها أنّ “سوريا ناجية من الوباء”، ليعلن تدريجياً عن وجود إصابات زعم أنّ جميعها لمواطنين قادمين من الخارج أو ممن خالطوهم.

تصاعد الأرقام المفزعة وما سببته من هلع حول العالم، وما رافقها من تصريحات لكبار المسؤولين الأمميين وقادة العالم، لم يكن دافعاً ليغير نظام الأسد من سلوكه في التعامل مع السوريين في ظلّ هذا التحدي الصحي المباغت، حيث تسجّل سوريا يومياً تصاعداً في أعداد الإصابات والوفيات بالفيروس القاتل. حيث أعلنت وزارة الصحة مؤخراً عن تسجيل 9 إصابات جديدة في قرية واحدة فقط بمحافظة القنيطرة جنوب سوريا. وبينما بلغت الإصابات على الأقل 248 حالة، توفي منها سبع حالات على الأقل؛ إلّا أنّ كثيرين من الموالين والمعارضين السوريين ومنظمات صحية وحقوقية عربية ودولية، يشككون في صحة هذه البيانات بسبب غياب الشفافية وتكتّم النظام على الأعداد الحقيقية للإصابات في مناطق سيطرته، حيث أشارت العديد من التقارير إلى أنّ هناك مئات الإصابات وحالات وفيات في معظم المناطق والمدن والمحافظات التي يسيطر عليها النظام، والتي يتمّ تسجيلها على أنّها “فشل كلوي”، أو “ذات رئة”.

وفي حين تدعو حكومة النظام للالتزام بالإجراءات الصحية الوقائية من جائحة كورونا، وعلى رأسها التباعد الاجتماعي، ينظم حزب البعث (الحزب الحاكم) وجهات أمنية، مسيرات “قسرية” موالية في محافظة السويداء جنوبي سوريا، ليتبعها مسيرات ومهرجانات خطابية في دمشق وطرطوس وحمص وغيرها من المناطق الخاضعة لقوّات الأسد، كرد على الاحتجاجات الشعبية ضد الفساد والغلاء وسوء المعيشة، والتي بدأت في السويداء، لتمتد إلى محافظة درعا وعدد من المناطق في العاصمة دمشق.

الوضع الصحي الكارثي في كافة المناطق الخاضعة لسيطرة النظام ترافق مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتراجع القدرة الشرائية لدى عموم السوريين. الفيروس القاتل، الذي يؤكد الأطباء وخبراء الصحة أنّ البشر بحاجة ماسة إلى تعزيز مناعتهم الذاتية لمقاومته، من خلال تأمين قوتهم من الخضار والفواكه واللحوم إلى جانب الاحتياجات الأساسية من المواد الغذائية والأدوية، يجعل من معظم السوريين فريسة سهلة لوحشيته. كيف لا والحال أنّ كيلو البندورة وصل سعره منذ قرابة الشهر إلى 700 ليرة، فيما وصل سعر كيلو البصل إلى 500 ليرة، وسعر كيلو البطاطا ما بين 500 و600 ليرة، في حين تجاوز سعر كيلو الليمون الـ 4000 ليرة، والبرتقال قرابة الألف ليرة، والتفاح 1700 ليرة.

أما كيلو اللحم الضاني فقد وصل إلى 18000 ليرة، ما جعل منه حلمًا من أحلام السوريين من البسطاء وذوي الدخل المحدود. وكذلك الأمر بالنسبة للحم العجل الذي تراوح سعره بين 13000 و14000 ليرة. ليصبح لحم الدجاج ملاذ السواد الأعظم من عامّة الناس رغم ارتفاع السعر عن غير المعتاد حيث وصل الكيلو من الفروج النيء حوالي الألفي ليرة.

كما ارتفع سعر الذهب ليصل ثمن الغرام الواحد، قبل دخول “قانون قيصر” حيّز التنفيذ بأيّام، إلى أكثر من 110000 ل.س، فأغلقت معظم محلات الصاغة، بينما شنّت قوّات النظام حملة اعتقالات لمنع الإغلاق، ومنع البيع بغير السعر الرسمي.
حجم الكارثة هنا يكمن إذا ما علمنا أنّ متوسط أجر السوريين الشهري يتراوح بين 40 و60 ألف ليرة سورية (الدولار حوالي 3000 ليرة في السوق الموازي)، في حين يقدر «مركز قاسيون» مقره دمشق، متوسط إنفاق الأسرة بأكثر من 350 ألف ليرة ما زاد نسبة الفقر عن 83%.

وتضاعفت أسعار الدواء والغذاء والمواد الأساسية مثل الأرز والسكر والزيت خلال عام واحد في سوريا على خلفية العقوبات الأمريكية على النظام، والصراع الجاري داخل الدائرة الضيقة للحكم، أي بشار الأسد وزوجته أسماء و(شقيقه اللواء ماهر الأسد) من جهة، ورامي مخلوف ووالده (خال الرئيس بشار) اللواء محمد مخلوف، المقيم حاليًا في روسيا من جهة ثانية، للهيمنة على الاقتصاد السوري والاستيلاء على ما تبقى منه. ناهيك عن شح الدعم الإيراني، وتداعيات الأزمة المالية الحادّة في لبنان، وليس وانتهاءً بتفشي فيروس كورونا في سوريا.

  • خطر المجاعة يطرق أبواب السوريين..

المبعوث الأممي الخاصّ إلى سوريا، “غير بيدرسون”، حذّر قبل أيّام، من حدوث مجاعة في سوريا مع بدء تطبيق “قانون قيصر”، الذي يتضمن عقوبات أميركية تهدف إلى حجب إيرادات للنظام السوري، تزامناً مع انخفاض قياسي لليرة وانهيار شبه تام للاقتصاد السوري في المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد.

وخلال جلسة عبر الفيديو بمجلس الأمن الدولي، قال “بيدرسون”: إنّ “الوضع في سوريا يزداد سوءًا، حيث يعاني 9 ملايين و300 ألف سوري من انعدام الأمن الغذائي، وهناك أكثر من مليونين آخرين مهددون بذلك، وإذا تفاقم الوضع فقد تحدث مجاعة”.

وكان «برنامج الأغذية العالمي» التابع للأمم المتحدة حذّر، منتصف الشهر الحالي، من أن تطرق المجاعة أبواب سوريا بسبب استمرار التدهور الاقتصادي والمعيشي.

وقال المدير التنفيذي في «البرنامج العالمي»، “ديفيد بيسلي”، في حديث لصحيفة “ذا ناشيونال”، التي تصدر باللغة الإنكليزية في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، إنّ “استمرار تدهور الأوضاع في سوريا قد يجعل خطر المجاعة يطرق الأبواب”، مضيفًا أنّه “لا فائدة من إرسال الأموال للسوريين في الوقت الحالي”.

وأضاف “بيسلي”: إذا أرسلنا مبالغ نقدية للسوريين فلن يستطيعوا شراء أي شيء بها، لذا علينا إرسال مساعدات غذائية، خاصّة وأنّ الأرقام تشير إلى ارتفاع غير مسبوق في الأسعار هناك”. مشيرًا إلى أنّ سعر السلة الغذائية التي يقدّمها «البرنامج العالمي» ارتفعت بنسبة 16% منذ آخر إحصاء شهري، مضيفًا أنّ التوقعات تشير إلى أن الأوضاع “ستزداد سوءًا”.

المسؤول الأممي، شدّد على أنّه “إذا استمر الوضع في سوريا بالتدهور، فإن إمدادات الغذاء ستتعطل، في البلد الذي دمرته 10 سنوات من الحرب، والمجاعة يمكن أن تطرق بابه”، داعيًا إلى “استبدال الأموال المرسلة بالمواد الغذائية”.

ووفقا لتصريحات أممية سابقة، فإنّ 83% من السوريين يرزحون تحت خط الفقر، في حين من المتوقع أن ترتفع النسبة مع دخول قانون “قيصر” حيّز التنفيذ.

القانون الأمريكي، الذي شبهه مقال في صحيفة “ليبراسيون”، نشر في الثامن من الشهر الحالي، بـ “حبل يلتف حول عنق الاقتصاد السوري، الذي يعاني أصلًا من مشكلات جمّة”.

ومما جاء في مقال الصحيفة الفرنسية، أنّه “بين العقوبات الدولية والأزمة الاقتصادية والخلافات داخل الحاشية التي تحكم البلاد، ووسط انتقادات موسكو وطهران والتظاهرات الشعبية، يراكم النظام السوري المصائب”.

فيما بيّنت مجلة “بوليتيكو” الأميركية، في الوقت نفسه، أنّ “قرار الأسد بإقالة رئيس وزرائه عماد خميس الخميس 11 حزيران/ يونيو، مؤشر واضح على أنّ الانهيار الاقتصادي والمعارضة الصريحة الجديدة تشكل تحدّياً حقيقياً لشرعيته”.

وكان المتحدث باسم الأمين العامّ للأمم المتحدة، “ستيفان دوغريك” أكّد، في وقت سابق، أنّ “11 مليون طفل وامرأة ورجل في سوريا بحاجة لمساعدة إنسانية عاجلة.”

وأشارت تقديرات «البرنامج العالمي»، مؤخراً، إلى أنّ “إجراءات العزل العامّ المرتبطة بفيروس كورونا المستجد، ستؤثر على نحو ثمانية ملايين سوري، الأمر الذي يجعلهم يعانون من نقص الأمن الغذائي”.

  • تنبؤات دولية بتداعيات كارثية..

منذ مطلع العام الحالي، تتوالى تحذيرات المنظومة الأممية وفي مقدّمتها «منظمة الصحة العالمية»، والمنظمات الدولية ومنها منظمة «أطباء بلا حدود»، من خطورة الوضع الصحي في سوريا، والتنبؤ بتداعيات كارثية حيث إجراءات حكومة النظام ليست على قدر المسؤولية، ناهيك عن عدم وقف إطلاق النار واستمرار العمليات العسكرية لقوّات النظام والطيران الروسي في الشمال السوري، وخروج مظاهرات احتجاجية ضدّ فساد نظام الأسد وارتفاع الأسعار الغير مسبوق في تاريخ السوريين المعاصر.

لا يخفى على أحد أنّ النظام الصحي في سوريا أصبح اليوم منهاراً تماماً بسبب استنزاف موارده البشرية مع موجات اللجوء باتجاه البلدان الأوروبية والاسكندنافية، ومن ثمّ استهدافه عسكريًا في العديد من المدن من قبل النظام وخاصّة المدن التي خارج سيطرته العسكرية، والتي تقسم الآن إلى مناطق الشمال السوري، التي تشمل إدلب وريف حلب وتخضع لسيطرة قوّات المعارضة السورية المسلّحة، وتعتمد على الدعم التركي بشكل رئيسي. ومنطقة “الإدارة الذاتية الكردية” في شمال شرقي سوريا، والتي تسيطر عليها “قوّات سوريا الديمقراطية” (قسد) بدعم من الولايات المتحدة، والتي أكّد تقرير لـ«مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا» (OCHA) و«الصحة العالمية» وفاة أوّل مصاب بفيروس كورونا في مدينة القامشلي بريف الحسكة، في 18 نيسان/ أبريل الماضي.

وتمّ تسجيل أوّل إصابة بالفيروس في مناطق سيطرة النظام في الثاني والعشرين من شهر آذار/ مارس الماضي لشخص قادم من خارج البلاد، فيما تمّ تسجيل أوّل حالة وفاة في التاسع والعشرين من الشهر ذاته.

  • عجز هائل في القطاع الصحي السوري..

صنفت «منظمة الصحة العالمية» عقب تفشي جائحة كورونا عالمياً، سوريا على أنّها من بين الدول الأكثر عرضة للخطر في إقليم شرق المتوسط​​، “نتيجة للتحدّيات في النظام الصحي الناتجة عن أكثر من 9 سنوات من الحرب في البلاد”. بحسب تصريح لممثل المنظمة الأممية في سوريا، نعمة سعيد عبد، أعلنه في 03/04 الماضي.

ووفقاً لـ «لجنة الأمم المتحدة الدولية المستقلة للتحقيق بشأن سوريا»، فإنّه “لا تعمل في سوريا الآن سوى 64% من المستشفيات و52% من مراكز الرعاية الصحية، كما فرّ 70% من العاملين الصحيين من البلاد”.

وكشفت دراسة مفصلة عن الاستعدادات الصحية السورية للتعامل مع وباء فيروس كورونا، أعدّتها “كلية لندن للاقتصاد” London School of Economics، ونشرت في 25 آذار/ مارس 2020، أنّ “عدد المشافي الحكومية الإجمالي 111 منها 58 فقط تعمل بشكل كامل و27 تعمل بشكل جزئي و26 مدمرة بالكامل”.

فيما بيّن تقرير للأمم المتحدة، نشر في مطلع الشهر الثالث من العام الجاري، أنّ “70% من العاملين في القطاع الصحي قد غادروا سوريا”.

الدراسة البريطانية، التي اعتمدت على التقارير السورية وتقارير «الصحة العالمية» وكذلك بيانات الأمم المتحدة، أوضحت أنّه “باستثناء محافظة إدلب يوجد 465 سريرًا للعناية المركزة في مشافي حكومة النظام و650 سريراً في القطاعين الحكومي والخاصّ”. مقدّرة أنّ 53% من هذه الطاقة مستخدمة (حتّى نهاية الأسبوع الثالث من شهر آذار/ مارس الماضي، مما يترك حوالي 305 سريرًا للعناية المركزة (مع أجهزة مساعدة على التنفس، يضاف لهذا الرقم 20 سريراً في محافظة إدلب، مما يجعل إجمالي المتوفر 325 سريراً مع أجهزة مساعدة على التنفس”.

كما بيّنت الدراسة أنّ “القدرة القصوى للقطاع الصحي السوري، العامّ والخاصّ، على التعامل مع مصابي وباء فيروس كورونا المستجد هي استيعاب 6500 مصاب فقط، منهم 325 في العناية المركزة”. مشيرة إلى أنّ “هناك تفاوت كبير في قدرة المحافظات السورية على استيعاب مرضى هذا الفيروس القاتل، القدرة الأعلى هي في دمشق حيث يمكن استيعاب حوالي 1920 مصاب بينما تنخفض القدرة في حلب إلى 100 فقط وفي دير الزور إلى صفر”.

دراسة “كلية لندن للاقتصاد” شدّدت على أنّه “سيكون من الصعب تطبيق الحجر الصحي مع وجود 83% من السوريين تحت خط الفقر”. محذّرة من أنّ “انتشار الوباء في بلدان مثل سورية واليمن والصومال وليبيا يمكن أن يقود إلى استمرار انتشار وباء فيروس كورونا عالمياً لفترة أطول”.

ورغم الخوف المتزايد من تفشي فيروس كورونا المستجد في الشارع السوري، في ظلّ غياب الثقة بين الحكومة وعموم السوريين حول مدى انتشار الوباء، ونقص الإمكانيات الطبية جراء الفساد في كلّ مفاصل الدولة الرئيسية، وكذلك التقصير من قِبل المنظمات والجمعيات الإغاثية، تغيب المبادرات المجتمعية ودعوات التكافل الاجتماعي لسدّ الحاجات والمستلزمات الضرورية لمنع انتشار الفيروس، خاصّة تجاه النازحين داخلياً من المناطق التي تعرضت لدمار كبير.

مظاهرات السويداء: شعارات واسعة وخيارات ضيقة

مظاهرات السويداء: شعارات واسعة وخيارات ضيقة

لم يفاجأ أحد بخروج الناس إلى الشارع في مدينة السويداء وخصوصاً بعد الانهيار الأخير الذي أصاب الليرة السورية والارتفاع الجنوني في الأسعار، سيما وأنّ مظاهراتٍ سابقة اندلعت في شهر كانون الثاني (يناير) تحت شعار “بدنا نعيش.” لكن أحداً لم يتوقع أن تكون هذه المرة الاحتجاجات سياسية ومباشرة وبهذه الصيغة الواضحة، حيث لم توارب كما في المرات السابقة بل أشارت صراحة إلى أصل المشكلة والمتمثل بالسلطة الحاكمة مناديةً علانيةً بإسقاط النظام وتنحي الرئيس السوري عن الحكم وإنهاء الاحتلالات والتدخلات الخارجية.

المظاهرات التي انطلقت في وسط المدينة ومقابل مبنى المحافظة كانت سلمية بالمطلق ولم تتعرض لأي مضايقات من أحد كما لم ينجم عنها أي أعمال شغب أو عنف، وكانت بشعاراتها الصريحة والمفاجئة قد لفتت أنظار الجميع مع إحساسٍ عام بالريبة والحذر، وسرعان ما بدأت ردود الأفعال تجاهها من كل الأطراف سواء من الداخل أو الخارج، من دائرة السلطة أو من دائرة المعارضة، وخصوصاً بعد أن تصدرت أحداثها نشرات الأخبار.

وكالعادة تجاهلت السلطة بدايةً هذه المظاهرات ثم أعلنت تخوينها وربطها بأجندات خارجية فتهمة الأصولية والتكفير لا تنفع في السويداء، إلا أنّ اتهاماتٍ أخرى تزعم وجود ارتباطات بين المتظاهرين ووليد جنبلاط وجهاتٍ خارجية أخرى تبقى جاهزة وحاضرة لتخوين المتظاهرين. أرسلت السلطة تعزيزاتٍ أمنية مشددة للمراكز الحكومية والأمنية وهددت بقمع المظاهرات بالعنف والقوة والترهيب، ثم سيّرت مسيراتٍ مؤيدة للسلطة، باتت أشبه بمسرحيات لا تنطلي على أحد، حيث أجُبر الموظفون والحزبيون وطلاب المدارس والجامعات على الخروج في مسيرات تحت الضغط والتهديد بالفصل من العمل، بدليل ما تسرب من تسجيلات صوتية لإحدى المسؤولات في حزب البعث تهدد وتتوعد بعقوباتٍ لكل من يتخلف عن المسيرة، وانتهاء بالصدام المباشر والاعتقالات وهو ما حدث فعلاً في اليومين الماضيين وأدى إلى فض المظاهرات بالقوة واعتقال عدد من المتظاهرين أيضاً.

تطرح الاحتجاجات الأخيرة في السويداء أسئلة كثيرة حول ما يمكن أن تحمله هذه الحركات وإلى أي مدى يمكن أن تؤدي إلى نتائج واضحة؟ كيف ستستمر؟ وما هي ردود الأفعال حولها ومنها؟ وكيف يمكن أن تقرأ بشكل عام؟

بدايةً كان من المحبط ما لاقته هذه الاحتجاجات من انتقادات وردود أفعال حولها وخصوصاً من جهات المعارضة وممن لا يزالون يحسبون أنفسهم أوصياء على العمل الثوري ومتعهديه الوحيدين وخصوصاً تلك الأصوات الموجودة في الخارج والتي تباينت ردود أفعالها بين الترحيب والحماس المبالغ فيه كما لو أن المظاهرات حدث كسر محرمات الصورة النمطية عن السويداء ومجتمعات الأقليات وأنها أخيراً التحقت بـ”ثورة الحرية والكرامة” على حد تعبيرهم وأنها ستقلب الموازين على الساحة السورية وغيرها من التهليلات السطحية التي اتسم بها هؤلاء في تعاملهم مع الحدث السوري منذ 10 سنوات حتى اليوم. والمقلق في هذا التأطير، أنّه أنتج حالة من التماهي مع هذه الفكرة عند العديد من السوريين سواء من الشباب المشاركين في الاحتجاجات أو من البعض في الخارج وكأنّ السويداء مطالبة بصك غفران واعتذار لا بدّ أن تقدمه عن موقفها المحايد سابقاً من الصراع المسلح لتنال شرف المشاركة في “الثورة السورية”، بدايةً من الهتافات ورفع “علم الثورة”، الذي رُفع لمرة واحدة، وليس انتهاءاً بأغنية سميح شقير ( قامت حقا قامت).

وعلى الرغم من أنّ الاحتجاجات والشعارات تكاد تتطابق من ناحية الشكل والمضمون مع تلك التي رُفعت عام 2011 في إشارةً غير ملتبسة وصريحة لغاياتها السياسية والمطلبية، إلا أنّ الكثير من الآراء اعتبرت الحراك متأخراً وعديم النفع وقابلته بالاستهتار والتشكيك وبردود فعل شامتة ومتعصبة مثل ( يطعمكم الحج والناس راجعة، هلق لتذكرتوا وجعنا وحسيتوا فيه، هذه ثورة جوع وما بترقى لثورة الكرامة) وغيرها من العبارات التي قللّت من أهميتها وشككت بها.

المقهورون لا سند لهم ولم يجدوا سوى الشارع للتعبير عما يريدون، شارع له خصوصية واضحة وفريدة في السويداء، فما يمكن تحقيقه في وسط المدينة وقبالة المربع الأمني فيها مباشرة من وقفات واعتصامات وحتى احتجاجات سياسية لا يمكن أن يتحقق في أي حي بضاحية أي مدينة أخرى، فوجود الميلشيات المحلية من جهة والتي يمكن أن تتدخل فيما لو حدث صدام مباشر وخصوصية المجتمع في السويداء من عصبية واضحة إزاء مواقف الأزمات من جهة ثانية شكلا فرصة لانطلاق المظاهرات فيها دون أن يتم قمعها مباشرة. بالإضافة إلى ذلك فإنّ الحماس الواضح لجيل من الشباب الذي وعي وكبر في سنوات الحرب الماضية ويعاني ما يعانيه من فقدان هويته وانسداد الأفق أمامه كان طاغياً، فحضور هذه الفئة العمرية ضمن المحتجين والتي ليست لديها خبرة أو برامج واضحة ومدفوعة بحماس قد يبدو متهوراً في المشهد السوري بعد كل هذه السنوات الدامية، إلا أنه يبقى الأصدق تعبيراً عن ألم وبؤس حال جيلٍ محطمٍ ومهدور دفع وسيدفع فاتورة الحرب الكارثية.

تردّد الكثير من التبريرات السائدة اليوم بأنّ السويداء “قالت كلمتها ووقفت بشجاعة عندما تريد”، فهل يصح هذا القول فعلاً للاختباء والإفلات من سؤال وماذا بعد؟

تتجه الآراء اليوم في المدينة لانتقاد شعارات الاحتجاجات التي رفعت سقفها كثيراً وإن كانت محقة بكل ما قالته من جهة التدليل على أصل المشكلة والحل إلا أنها لم تقارب الصواب في طريقة انتشارها واستقطاب الناس لها أو في مدى تأثيرها على الأرض بشكل فعال ومباشر يؤدي إلى نتائج ويبني مواقف يمكن الاستناد إليها لاحقاً، فلو بقيت الاحتجاجات مطلبية ومعيشية واستفادت من الظروف الحالية لكانت حظيت بتأييد ومشاركة واسعة داخل السويداء وخارجها.

ما أزال أقف عند رأي بائع البسطة في الشارع الذي سمعته يقول: “بات من البديهي والواضح أن المسؤول عما نحن فيه هو النظام الحاكم والسلطة المستبدة بكل رموزها، لكن حتماً الهتاف ضدهم علانية في الشارع لن يفضي إلّا إلى العنف والعنف المضاد ولن يؤدي إلى أي نتيجة.”

قد يكون كلام البائع البسيط صحيحاً لكن لشباب الحراك المتحمس والبائس وفاقدي الأمل رأي آخر تماماً، فبحسب معتصم، أحد المتظاهرين: “لا جدوى من أي محاولة للإصلاح وإن كان الثمن هو الخراب فليأتي، فلم يعد هناك ما نخسره أكثر من ذلك على أي حال.”

يمكن تصنيف المواقف في السويداء اليوم حيال الحراك الاجتماعي إلى ثلاث فئات. الفئة الأولى تضم الراغبين بضرب الناطور فقط دون تحصيل أي شيء لقناعتهم بأنه هو من يسرق العنب، ولا يكترثون لما يمكن أن تؤدي إليه خياراتهم من احتمالاتٍ ونتائج، ودون أن يخبرونا بكيفية ضرب الناطور أو إزاحته من المشهد! وهناك فئة أخرى أكثر عقلانية تريد العنب فقط، وهي فئة أكثر براغماتية إن صح التعبير تعتبر مسك العصا من الوسط هو الحل أو ما بات يعرف في المصطلح الشعبي “قدم في البور وقدم في الفلاحة،” وفي انتظار حدوث تغييرٍ من الخارج لقناعة مترسخة بعد كل هذه السنوات بأنّ المسالة السورية خرجت من أيدي أبنائها. أما الفئة ثالثة فمغلوب على أمرها وعانت وصبرت على ما قاسته لأنها تريد النجاة فقط من حرب عبثية تدمر ماتبقى أو كما يقال “تريد سلتها بلا عنب”. ما يجمع هذه الفئات الثلاث هو عدم قدرة أي منهم على شق أي طريق أو وضع أي خطة أو برنامج يضمن الوصول لأي هدف كان. هو مشهد عصيّ على النتائج ولا ينحصر بما يحدث اليوم في السويداء فقط بل يمكن أن يُعمّم على كافة المناطق ولعله المشهد الذي بات يسم المسألة السورية برمتها منذ استعصاء الحل فيها خلال السنوات الماضية إثر التدويل والعسكرة.

قوة اللحظة والمشهد في الاحتجاجات والتي فرضتها خصوصية المدينة بدت وكأنها تلاشت بعد حادثة فض الاحتجاج بالقوة واعتقال عدد من المشاركين فيه، فالتعويل الضمني والإحساس بالحماية التي وفرته الميليشيات والتوازنات التي أقيمت في المدينة بعد اغتيال وحيد البلعوس لم تعد موجودة اليوم أو هكذا بدا الواقع، وما تشير إليه المعطيات حتى الآن، فلم تتدخل أي من الفصائل المحلية والتي رفعت فيما مضى شعارات حماية شباب المدينة من الملاحقة والاعتقال وتعهدت بالحفاظ على السلم الأهلي وحماية الجميع وعلى رأسهم رجال الكرامة. بل على العكس فالمشهد ذهب إلى أبعد من ذلك، فالبيان الذي أصدرته الهيئة الدينية في السويداء (في 12 حزيران)، والذي أثار حفيظة “شباب الحراك السلمي،” كان موارباً في مضمونه بحيث يبدو أنه إدانة للعصابات والمنفلتين من القانون والذي قد تستغله السلطة كتفويض لاعتقال المتظاهرين وربما تصفيتهم بحجة أنهم مارقون وخارج القانون ويسعون لزعزعة أمن السويداء، وهذا ما يؤكده زج أتباع السلطة من أبناء المدينة لفض الاحتجاجات والاعتداء على المتظاهرين ما يجعل المدينة ممزقة بين موقفين يحدثان شرخاً في المجتمع وهو ما يسعى إليه الحل الأمني، المجرّب سابقاً بنجاح في عدة مناطق. فلو قررت هذه الفصائل مساندة الاحتجاجات والوقوف ضد السلطة بشكل مباشر لكانت أعطت النظام الفرصة الذهبية التي ينتظرها لتصفيه هذه الميليشيات، وهو بالضبط ما يفسر صمت هذه الفصائل إزاء ما يجري وخصوصاً أن ثمن المواجهة سيكون كارثياً ودموياً على الجميع ابتداءً بالتصفيات الفردية والاقتتال الداخلي ووصولاً إلى العقاب الجماعي للمنطقة على غرار باقي المناطق السورية، وخصوصاً في هذه الأوقات الحرجة التي يتم فيها الحديث عن تسويات سياسية قادمة للمنطقة بالإضافة لتقارير جديدة تُفيد بعودة نشاط خلايا داعش في بادية السويداء القريبة ما يخلط الأوراق ويجعل المشهد أكثر تعقيداً في السويداء مما يبدو عليه.

لا أحد يمتلك الإجابة عما ستؤول إليه الأوضاع في الأيام القادمة والى أين ستصل تطورات وتداعيات هذه الاحتجاجات، لكن تبقى الترجيحات المطروحة بقوة والتي يهمس بها الجميع، بأنّ السلطة لن تقدم أي تنازلات إزاء ما يحدث حتماً وخصوصاً وأنها ستستخدم فرض عقوبات “قانون قيصر” هذه المرة أيضاً كشماعة للهروب من تقديم أي حل هي بالأساس عاجزة عن إيجاده، ولا تريد إنجازه بالأحرى كما تجلى منذ 2011، وعليه فإنّ الشباب الذي خرجوا إلى الشارع لايمتلكون خيارات كثيرة، وربما يمكن اختصارها بخيارين لا ثالث لهما، إما فهم المعادلة الداخلية وربطها بتوازنات القوى العظمى في سوريا وعليه سيكون عليهم الانسحاب من الشارع، أو تحويل الشعارات لما يخدم تحقيق نتائج مباشرة على الأرض تلامس حاجات الناس وتخفف من قسوة الواقع المفروض عليهم، أو بحسب تعبير ريّان، وهو أحد المتظاهرين: “الشعب يريد تركيب ميكرفون” في دلالة ساخرة لحلقة “الشعب يريد”، من مسلسل الخربة الشهير، الذي تدور أحداثه في إحدى قرى السويداء، حين تحولت المطالب من إقالة مدير الناحية إلى المطالبة بتركيب ميكرفون للقرية. ويؤكد ريّان على ضرورة: “العمل على جعل ما حدث رابطاً يجمع الناس بدلاً من أن يفرقهم،” فأي نتيجة إيجابية في زمن الحرب تنقذ شخصاً من الجوع والحاجة أهم بما لا يقاس من أي نتيجة أخرى… وعلى رأي أحد شيوخ الدين الذي أعلنها في أكثر من مناسبة بأننا “لا نستطيع ولا نملك إلا خياراً واحداً ألا وهو ’مسك العصا من الوسط فقط‘؛ فالسويداء ليست على قلب واحد في ما يحدث، ولا كرامة لجائع في النهاية.”

الخيار الآخر المتاح سيقود إلى مواجهة مفتوحة ولن تبقى الاحتجاجات ذات طابع سلمي وقد تجر المنطقة للعنف والدمار والمزيد من الدماء وخصوصاً وأنّ كل مقومات النزاع متوافرة على الأرض بدءاً من انتشار السلاح والاحتقان والواقع الأمني والاقتصادي المتردي في المدينة، ووصولاً إلى من ينتظر تلك الفرصة من الخارج لتحقيق حسابات كثيرة، فمن يستثمر في الدمار لابدّ وأنه سيفرح حتماً إذا ما اتسعت دائرة استثماره في منطقة جديدة.

عارف دليلة وربيع ناصر يناقشان الوضع الاقتصادي والسياسي في سوريا

عارف دليلة وربيع ناصر يناقشان الوضع الاقتصادي والسياسي في سوريا

يعاني السوريون من تدهور شديد في أوضاعهم المعيشية بسبب السنوات التسع المتواصلة من النزاع. وفي الأشهر القليلة الماضية تفاقمت خسائر البلاد بسبب عوامل عديدة داخلية وخارجية من ضمنها  مؤسسات مركزة على الصراع، معارك عسكرية، الأزمة الاقتصادية اللبنانية، وباء كوفيد ١٩ وقانون قيصر. ومؤخراً شهد الاقتصاد تدهوراً غير مسبوق في سعر صرف الليرة السورية، وارتفاعاً في الأسعار ومعدلات الفقر وموجة ضخمة من فقدان الوظائف. وصار الانهيار الاقتصادي أولوية محورية للنزاع السوري. يناقش المحرر المشارك في صفحة سوريا في جدلية ربيع ناصر والباحث عارف دليلة  تأثير عوامل بنيوية غذت الصراع ودور اقتصاد الصراع في التطورات الأخيرة بالإضافة إلى سيناريوهات وخيارات على المدى القصير.

ربيع ناصر باحث اقتصادي وأحد مؤسسي المركز السوري لأبحاث السياسة، ويعمل كباحث في سياسات الاقتصاد الكلي، النمو الشامل وديناميات الصراع. حصل على الإجازة الجامعية في الاقتصاد من جامعة دمشق في ١٩٩٩. كما حصل على شهادة الماجستير في الاقتصاد من جامعة لايشستر في المملكة المتحدة.

معاناة مضاعفة: ما بين قانون سيزر وأثرياء الحرب

معاناة مضاعفة: ما بين قانون سيزر وأثرياء الحرب

في الحادي والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) عام 2019، وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على قانون سيزر – قيصر، الذي بدأ تطبيقه اعتباراً من يوم أمس في السابع عشر من حزيران) يونيو)، القانون يحمل اسماً يُنسب لشخص ما يزال مجهول الهوية، يُقال إنه خرج من سوريا، ولاحقاً، سرب آلاف الصور التي قيل عنها إنها صور لــ “ضحايا تعذيب” في سوريا.

بنود القانون تخبر عن قسوتها، وعن إجراءات ضمن حزمة عقوبات أشد من كل سابقاتها، فهذه المرة يعتبر القانون أن مصرف سوريا المركزي هو مؤسسة مالية رسمية هدفها غسل الأموال، وكذلك فإن هذه العقوبات ستطال كل دولة أو شخص يقدم أي من أنواع الدعم المالي أو التقني أو اللوجستي أو سواهم، للحكومة السورية، أو أي شخصية سياسية سورية. وتتضمن هذه العقوبات توفير القروض الخارجية وخطوط ائتمان التصدير، ما يجعل من سورية في عزلة من الناحية النظرية، إذا ما وجدت، كما وجدت خلال كل أعوام الحرب طرقاً عدة للالتفاف على العقوبات المقررة. ولكن يبدو أن العقوبات هذه المرة ستحاصر الحكومة أكثر من أي مرة سابقة؛ وسيحاصر القانون المدنيين أيضاً، فهو يمنع أي أحد من توفير السلع أو الخدمات أو التكنولوجيا للسوريين، ومعه منع تقديم أي دعم يهدف لتوسيع الإنتاج المحلي سواء في الغاز الطبيعي أو النفط وسواهما.

لا شك، إذن، أن حزمة العقوبات هذه ستحاصر البلد، أكثر مما هي محاصرة، ولكن هذه المرة لن تكون على الحكومة لاعتبارات سياسية فقط، إنما ستحقق تجويعاً إضافياً لسوريي الداخل، على ما يقوله خبراء اقتصاديون ومطلعون على بنود الملف وتأثيراته، فهذه المرة ستطال العقوبات كامل الاقتصاد السوري المنهك أساساً، والذي بات، حتى، قبل تطبيق هذا القانون، غير قادر على تلبية احتياجات السوق المحلية.. أما سياسياً فيبدو الأمر أنه تعزيز لمحاصرة الموقف الحكومي السوري، الذي حاولت روسيا دعمه في الأسابيع الماضية، عبر تفعيل البروتوكول رقم /1/ الذي يتيح لها توسيع استثماراتها في سورية.

قيصر دخل حيز التنفيذ

في لقاء مع وزيرة الاقتصاد والتجارة السابقة في الحكومة السورية، “لمياء عاصي” أكدت أن هدف الولايات المتحدة من إصدار قانون قيصر، هو تشديد الضغط على سورية في محاولة لتغيير موقفها وتحالفاتها: “العقوبات الأمريكية على سورية  ليست جديدة بل تعود لعام  1979، وبعد 2011 شددت واشنطن عقوباتها واستهدفت مؤسسات عامة وخاصة وشخصيات من المسؤولين في الدولة ورجال الأعمال بتهمة أنهم يقومون بمساعدة الحكومة السورية من خلال أعمالهم”. وتضيف: “قانون سيزر يحتوي على بند جديد وهو استهداف الأشخاص والشركات الأجنبية ممن يساعدون سورية سواء في تأمين احتياجاتها التقنية في مجالات النفط والغاز والطاقة أو الشركات التي تبرم عقود لإنجاز أي مشروع متعلق  بإعادة الإعمار”.

عاصي تعتقد أن الالتفاف على العقوبات ما زال ممكنا ومتاحاً، وذلك عبر الاعتماد على الحلقات الوسيطة في ملفي الاستيراد والتصدير، مشيرةً أن الكلفة ستكون عالية على الشعب السوري أولاً.

ورغم أن القانون رافقه ما رافقه من تهويل إعلامي، ولكن الأمر قد يكون بمثابة فرصة ذهبية لسورية في إطار العودة إلى الاعتماد على الذات، سيما في مجال المنتجات الزراعية والصناعية. وتشير “عاصي” هنا إلي ضرورة التركيز على نقطتين أساسيتين: تتعلق النقطة الأولى  باعتماد السياسات “الحمائية”، كبديل عن الانفتاح التجاري، مقابل الحرب والعداء الذي تفرضه أطراف دولية على سورية، مضيفة: “لا يمكن إكمال مشروع الإصلاح الاقتصادي وما سمي بــ “اقتصاد السوق الاجتماعي”، وبالتالي فإن الاعتماد الأساسي سيكون على الإنتاج المحلي في الزراعة والصناعة، وهذان القطاعان يمثلان (الاقتصاد الحقيقي)، وهذا ما سيرفع الناتج الإجمالي المحلي ويحسن دخل الفرد”. أما النقطة الثانية بحسب عاصي، فهي تتطلب الانضمام إلى اتفاقيات تبادل تجاري مع دول حليفة للموقف الرسمي السوري، وتشير إلى أن: “كثيراً من الدول بدأت بالخروج من سيطرة الدولار كعملة للتجارة الدولية مثل الصين التي أنشأت صندوقاً للتبادل التجاري بالعملات المحلية مع دول آسيا”، وتردف عاصي أن كثيراً من الدول مثل كوبا وغيرها تمكنت من التعامل مع العقوبات لتقليل آثارها.

انهيار العملة ما قبل قانون قيصر بأسابيع

قبل تنفيذ قانون سيزر انهارت الليرة السورية بنسبة ٢٠٠% منذ بداية ٢٠٢٠، قبل أن تعود للتحسن مؤخراً. وبما أنها ليست المرة الأولى التي تعاقب سوريا، ، توضح الوزيرة السابقة “لمياء عاصي” الأسباب العديدة التي تجعل تطبيق سيزر مختلفاً، أهمها التهويل الذي صاحب القانون، وكذلك الأزمة المالية/المصرفية في لبنان، ويضاف لذلك المضاربة من قبل عدد غير قليل من التجار، الذين راحوا باتجاه تحويل أموالهم إلى دولار، وتقول عاصي: “بالطبع هذه الرغبة، مصدرها الخوف من القانون، وبناء عليه تم طرح كميات كبيرة من العملة السورية مما أدى إلى هبوط قيمتها بشكل كبير، وتفاقم الأثر السلبي والنفسي لتدني سعر الصرف بدخول مضاربين في محافظة إدلب والشمال السوري (قسد) وغيرها، وبالتالي فإن انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية كان له انعكاس سلبي قوي على أسعار كل السلع  ولاسيما الغذائية والأساسية والدوائية  للمواطنين وأدى إلى ارتفاعها بشكل منفلت إلى حد كبير”.

حلم إعادة الإعمار بعد قيصر

لا شك أن التحديات التي تواجه السوريين اليوم غير قليلة، وربما أهمها ما يتعلق بالحياة المعيشية، المتأرجحة بين الأسعار من جهة، وتدني الدخل من جهة ثانية، وما يلحقهما من فوارق جوهرية تتعلق برؤية كل منهم للمستقبل ومعه (إن أمكن) الاتفاق على أجندة موحدة لأولوياتهم، وتالياً البحث في كيفية إدارة مواردهم المحلية بكفاءة عالية، على الأقل، لتناسب الضغوط التي تواجههم، وتقول عاصي في الإطار: “هذا يتطلب منهم محاربة الكثير من الظواهر المستشرية في المجتمع، مثل التهريب والاحتكار والفساد وغيرها، تلك القضايا تعيث خراباً بالاقتصاد السوري أكثر من العقوبات أيا كان شكلها”، وتكمل: “إن الهدف الأساسي من قانون قيصر وقبله العقوبات الأمريكية والأوروبية هو تكبيل إرادة الشعب السوري وبالطبع هذه العقوبات سيكون لها تأثير على مشاريع ومرحلة إعادة الإعمار، ولكن الشعب السوري الذي عانى كثيراً من العقوبات الغربية لا يمنعه قانون قيصر وغيره من الاستمرار في عملية إعادة إعمار بلده”.

أثرياء الحرب والتفاوت الطبقي

أفرزت ظروف الاقتصاد والعمل غير الشرعية في الحرب، طبقة من أثرياء الحرب الجدد، هؤلاء الذين اكتنزوا ثروات طائلة، ولا شك أنهم – قانونياً- متورطون بالكسب غير المشروع، وذلك كله في ظل غياب فعلي للمحاسبة، وفي أفضل الأحوال محاسبة صورية، أو دفعهم لمد السوق بمبالغ مالية، عسى أن تفعل شيئاً في دعم الاقتصاد، خارج مكتسبات اشتعال الحرب وسيطرة الفساد.

وفي العودة إلى بداية الملف، تحديداً قبل 14 عاماً، توضح عاصي: “بدأت الفجوة بين الأكثر غنى والأقل دخلاً  تزداد بشكل كبير وملحوظ بعد البدء بتطبيق ما سمي باقتصاد السوق الاجتماعي عام 2006 مع بداية الخطة الخمسية العاشرة التي احتوت على الكثير من الأمور الاقتصادية التي تهدف إلى رفع كفاءة  الاقتصاد الوطني”، وتكمل: “ولكن ما طبق من برنامج التحول كان الجزء المتعلق بالتحرير التجاري، وكان في مصلحة التجار والمستوردين المتنفذين بينما شرائح واسعة من صغار المنتجين وأصحاب الورش الصغيرة أغلقوا ورشاتهم وتحولوا إلى مستوردين بينما العمال تحولوا إلى متعطلين عن العمل، كما عانى الفلاحون وقاطنو الأرياف بشكل عام من قلة الفرص التنموية وبؤس الحياة المعيشية”.

تالياً، ساهمت الحرب بتكديس الثروات في أيدي فئة معينة سواء من الأثرياء التقليديين أو الجدد، ليزداد عمق الهوة بين قلة غنية وغالبية فقيرة ازدادت بؤساً بعد سنوات، “حيث أدت العمليات العسكرية والإرهابية والتخريبية إلى تدمير البنى التحتية والأحياء السكنية والتجارية في كثير من المناطق والى استنزاف الموارد  وشحها، إضافة إلى نهب الثروات الباطنية (النفط) الذي مارسته الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا واستهداف المحاصيل الأساسية مثل القمح الذي يتم إحراقه للسنة الثانية”، بحسب عاصي.

إذن، فإن كل ما سبق أدى إلى ارتفاع معدل الفقر والبؤس بين السوريين، ثم جاءت العقوبات ومنها سيزر لتزيد الطين بلة وتجعل حياة الناس أكثر صعوبة وبؤساً سواء بزيادة تكلفة المواد التي يستهلكونها أو بفقدان الكثير منها من أسواقهم في ظل دخولهم الثابتة التي باتت لا تلبي معظم احتياجاتهم الضرورية لبقائهم على قيد الحياة.

وتختصر جملة “البقاء على قيد الحياة” سقف حلم السوريين الذي تجاوزوا بنسبة 83% تحت خط الفقر، بحسب احصائيات دولية، هؤلاء الناس تعبوا، وملوا، وما عادوا يريدون تحليلات اقتصادية، واجتهادات سياسية، جل ما يريدون، حياةٌ كريمة، أكبر أحلامها، ألا يناموا فيها جائعين.

اقتراحات اقتصاديين لمنع تفاقم الأزمة الاقتصادية في سوريا

اقتراحات اقتصاديين لمنع تفاقم الأزمة الاقتصادية في سوريا

طغا التخبط الاقتصادي الذي يعيشه السوريون في هذه الفترة على كل ما عاشوه خلال سنوات الحرب التسع الماضية. ولاسيما مع الإجراءات الحكومية المتخذة لتفادي انتشار جائحة كورونا، ومما فاقم الأمر سوءاً انهيار قيمة الليرة السورية وتصاعد سعر صرف الدولار إلى عتبة 2700  ليرة سورية؛ فأصبحوا تائهين فيما سيؤول إليه الحال بعد كل هذا التدهور المعيشي. ترافق تصاعد صرف الدولار مع إغلاق عشرات المحلات التجارية لعدم ثبات أسعار المواد، وعزوف الموظفين عن الذهاب إلى العمل الذي لا يسمن أو يغني عن جوع.

تقول (هادية 38 عاماً، موظفة في وزارة التربية ولديها طفلان): “كيف لمواطن يتقاضى متوسط دخل 50 ألف ليرة سورية ما يعادل (19 دولار) أن يتمكن من تغطية نفقاته المعيشية، ونفقات أطفاله وفواتيره وأجرة منزله، ألغينا الكماليات ونسعى لتأمين الأساسيات ولكن الوضع المعيشي لم يعد يحتمل، ولم نعد نستطيع تأمين أدنى احتياجاتنا كأسرة، الإجراءات الحكومية تمعن في إفقار المواطن والتأطير في المواد المدعومة عن طريق البطاقة الذكية التي فتحت باب جديد للفساد ولإذلال المواطن.” وتضيف: “منذ حوالي الشهرين لا أذهب إلى عملي لأنني سوف أدفع مواصلات أكثر مما سأتقاضى، بدنا فعل ما عاد بدنا حكي بدنا حل ولادنا ماتت من الجوع”.

ويرى الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي ابراهيم العدي أن الموظفين هم الفئة الأكثر تضرراً في الأزمة الاقتصادية، وبما أن الحكومة عاجزة عن ضبط والتحكم بالأسواق والأسعار فيجب عليها زيادة ما تتحكم به وهو الكتلة النقدية (الرواتب). وأضاف التجار بيدهم السلع والخدمات، والحكومة بيدها الكتلة النقدية، وطالما أنها لا تستطيع التأثير في سعر السلع والخدمات، فهي حتماً تستطيع التأثير في الكتلة النقدية، يجب زيادة الرواتب حتى 500% على أقل تقدير وهذا أمر لن يغطي كامل نفقات المواطن، فالهدف ليس تغطية كامل نفقات وانما تحسين الوضع قليلاً، زيادة الرواتب من الممكن أن تدعم فئة محددة في المجتمع وليست حلاً  كاملاً للوضع المعيشي وإنما دعم جزئي  للموظفين، فالحكومة تتحكم في الكتلة النقدية ومن واجبها زيادة الرواتب.

زيادة الرواتب والتضخم المحتمل

دخلت الأسواق السورية مرحلة التضخم الجامح والبلاد تذهب إلى مرحلة صعبة ولا يمكن التكهن بمدى هبوط الليرة ومتى سيكون الاستقرار، فقد فقدت الليرة السورية أكثر من 10 مرات من قيمتها من 2011 لغاية منتصف عام 2019، و40 مرة إضافية من منتصف 2019 لغاية الآن. وبالتالي فإن معدل التضخم كان لغاية منتصف 2019 بحدود 1000%، وتجاوز في الظروف الراهنة 3000%. بينما يذهب خبراء اقتصاديون إلى أن أكثر من 80% من السوريين تحت خط الفقر، وحسب د. العدي: “التضخم هو حالة موجودة وحدثت، زيادة الرواتب يجب أن تحدث لو حدث التضخم، التضخم ليس سببه زيادة  الرواتب فقط، وإنما مجموعة عوامل كالعرض والطلب، ونمط الاستهلاك، وسعر الصرف. إن زيادة رواتب هي واحدة من عشرة عوامل، في سوريا يعتبرون التضخم عدواً افتراضياً لا يمكن القضاء عليه، إذا فرضنا زاد الراتب بمعدل 100% التضخم ممكن يبتلع 20 إلى 25 بالمائة وعلى مدى زمني.”

يضيف مستغرباً: “لا أعرف ماذا يقدم المستشارون الاقتصاديون من نصائح للدولة! كل دول العالم التي تحدث فيها حروب تتأثر العملة ولكن عملياً كل دول العالم عندما تزيد الأسعار تزيد الرواتب.” ويكمل: “تجارب وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ميؤوس منها، ليس لها دور، لم يكن لها دور في الماضي ليكون لها دور في الحاضر، بعز قوة الدولة الاقتصادية لم تضف شيئاً كانت شكلية لا أكثر، فإذا كانت دولة عاجزة عن التحكم في السوق فيجب أن لا تعجز عن زيادة الرواتب كحد أدنى لدعم المواطن في هذه الأوضاع الكارثية التي يمر بها الشعب..”

الاستغلال أصبح حالة عامة

ارتفاع الأسعار ليس من قبل التجار فقط، وإنما طال جميع المهن الأخرى والمدارس والجامعات والمشافي الخاصة. يقول د. ابراهيم العدي: “فالوضع الطبيعي للعامل في الدولة إن لم يكن فاسداً وصل لمرحلة اللامعقول مع مثل هذه الرواتب وتلك الأسعار، وإذا أردنا النظر حولنا في الحياة اليومية العملية نجد جنون الأسعار طال كل مجالات الحياة من سيارة الأجرة أو عامل صحية أو حتى الأطباء جميعها رفعت أجورها كما التجار، المهن الطبية والتي تعتبر ضرورة للمواطن كمثال بسيط طبيب الأسنان أصبح يتقاضى أجر معالجة السن الواحد 100 ألف ليرة بما يعادل راتب موظف لشهرين كاملين، والمعاينة بلغت عند بعض الأطباء خمسة  عشرة  ألفاً  والتي لا تحتاج أكثر من عشر دقائق، المهن الطبية ومن في حكمهم تجاوزت حدود المعقول”. وحسب تعبير دكتور العدي: “من غير المنطقي أن يتقاضى طبيب ثمن زيارة مريض لعدة دقائق بضعة آلاف في الوقت الذي يتهرب الأطباء من الضريبة بأساليب عدة، لذلك الضبط يجب أن يكون بما يتناسب مع دخل المواطن ليس بما يحصل عليه الأطباء في الدول المجاورة”.

 من جانبها “ليلى جمعة” تحدثت عن معاناتها مع أقساط مدارس أولادها التي أصبحت غير معقولة: “هل يعقل قسط إحدى المدارس الخاصة كان في العام الماضي 310 ألف وفي هذه السنة ارتفع 500 ألف ومن عشرة أيام ارتفع إلى 700 ألف، واليوم اتصلوا بنا من الإدارة ليتم إعلامنا أن القسط أصبح مليون ومئة ألف، متسائلة أين الرقابة ووزارة التربية، لم يعد أحد يستطيع دفع كل هذه المبالغ.”

أما الخبيرة الاقتصادية الدكتورة “رشا سيروب” فدعت عبر صفحتها على الفيسبوك لتطبيق المادة  /5/ من الدستور السوري  التي تنص على: “تجوز المصادرة الخاصة  لضرورات الحرب والكوارث العامة”،  وأضافت ” الوضع لم يعد يحتمل  شد وجذب ومسلسلات فيسبوكية”.

الاقتصاد المغلق

يرى الصناعي “عاطف طيفور” أن الاقتصاد المغلق هو الحل فقد اقترح أن يتم إغلاق جميع منافذ التصدير والتهريب، وإغلاق جميع منافذ الاستيراد للكماليات، وعبر بالقول:  “كل من يظن أن الوطن بحاجة لقطع أجنبي فهو على خطأ، نحن بحاجة لمنتجات زراعية وصناعية وبحاجة لليرات السورية وبحاجة للذهب والعالم مقبل على جفاف اقتصادي والعملة الوطنية لكل دولة هي الأساس مع اكتفائها الذاتي واقتصادها المغلق، وليس هناك حاجة  للتصدير ولكننا بحاجة لاكتفاء ذاتي، وأن يكون التصدير بيد الدولة للمواد الاستراتيجية فقط، وأن  يكون القطع التصديري بيد الدولة فقط”، ويضيف: “تتضاعف الاستيرادات كلما ارتفعت نسبة إعادة التصدير والتهريب، كما أن الأسعار تتضاعف كلما ارتفعت نسبة التصدير لأي مادة على حساب الفائض الداخلي، فالوطن  بحاجة لفائض من خيراته ومنتجاته.” ويختم “طيفور”: “بدل أن يكون تقشفاً على المواطن، ليكن تقشفاً بالتصدير يفتح ويغلق حسب دراسة أسبوعية وشهرية لكل مادة على أساس توفرها والفائض والسعر المحلي. لا يمكن فرض تقشف وشد أحزمة على فئة بشكل غير مباشر وفتح الأبواب على مصراعيها لباقي الفئات بشكل مباشر.”

مهما كانت الحلول المقترحة لحل الكارثة المعيشية التي يعيشها المواطن السوري، يبقى أثرياء الحرب والفاسدون بقوتهم وجبروتهم وتزايد ثرواتهم بالمليارات التي جنوها من لقمة عيش الفقير، ويبقى الفقير ينتظر بضع آلاف ليرة في نهاية كل شهر والذي لا يستطيع من خلالها أن يمضي يومه إلا بشق الأنفس غير آبه لا بانتشار مرض ولا غيره، فهو الخاسر الوحيد الذي يطبق أسنانه على الحديد راجياً من الله أن يكفيه حاجة العوز.

إعادة تسليط الضوء على سوريا

إعادة تسليط الضوء على سوريا

توقفت وسائل الإعلام السائدة، وإلى حد كبير، عن تغطية الأحداث في سوريا. ولاحظنا هذا في” جدلية“ من خلال انحسار المواد والفقرات في تقريرنا الإعلامي الشهري الذي يغطي التطورات في البلاد. ونجم هذا التغير عن عدة عوامل، أبرزها الفرص المتضائلة، كما يبدو، لسقوط النظام أو هزيمته بعد كانون الأول 2016، بعد أن ساعد التدخل الروسي المباشر النظام في هجومه لبسط سيطرته على مدينة حلب. ونشبتْ معارك ثانوية بعد ذلك التاريخ، وخاصة الهجمات التي قامت بها القوات الأميركية وقوات قسد لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة. لكن، عند هذه النقطة، بدأ الحلفاء الخارجيون لعدد من المجموعات المسلحة المعارضة، وخاصة المملكة العربية السعودية وقطر، بالانسحاب من الصراع، واختاروا بدلاً من ذلك الانخراط في حرب إعلامية متكررة على نحو غريب حول الصراع السوري وبعض القضايا الإقليمية الفرعية في الخليج العربي. وفي الوقت نفسه، تهاوتْ على جانب الطريق التحالفات التي كانت مصدر مساعدة معتبرة لمجموعات المعارضة المسلحة. على صعيد آخر، توسّع دور تركيا، بسبب “التنسيق” مع روسيا وإيران، الذي مكّنتْهُ مفاوضات آستانة والعمليات العسكرية المباشرة في شمال حلب وإدلب والرقة والحسكة (درع الفرات وغصن الزيتون وربيع السلام.) ومن خلال هذه الوسائل وغيرها، نجحت تركيا في فرض سيطرتها المباشرة على ما يُدعى بمناطق “المعارضة المدعومة من تركيا”.  وفي الاشتباكات الأخير المباشرة مع جيش النظام السوري في إدلب، بدا كأن العمليات العسكرية التركية قد وصلت إلى أوجها.  وبعد أن حظيتْ كلٌّ من تركيا والنظام بسيطرة أكبر على المناطق الخاصة بهما، تراجع اهتمام قطاعات الأمن ومراكز الأبحاث في أميركا بالشأن السوري عما كان عليه أثناء ظهور الجماعات ”الجهادية” المتورطة في الحرب داخل سوريا. وبعد الاستيلاء على الرقة انحسرت هذه الاهتمامات الأمنية أكثر، وانحسرت معها تغطية سوريا في وسائل الإعلام السائدة في كل من الولايات المتحدة وبشكل أكثر عموماً.  وبعد أن تراجعتْ حدة المعارك صار واضحاً أن السلطات السورية فشلتْ في معالجة الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدهور. وما زال السوريون يعانون من بؤس شديد وأوضاع أمنية متدهورة. ومؤخراً، أضاف وباء كوفيد 19 عبئاً جديداً على كاهل الشعب والمؤسسات. وفيما تحترق البلاد ببطء وسط تغطية إعلامية منحسرة، يدعو المحررون في صفحة «سوريا» على” جدلية“ (والذين انضم إليهم الآن عضوان جديدان) إلى انخراط نقدي جديد لتناول الأوضاع الحالية في سوريا.  وعلى ضوء التطورات الأخيرة، نهدف إلى دراسة مظاهر معينة من مأزق سوريا الحالي، آملين تشجيع المزيد من الحوار والتحليل على صفحتنا. إن ما نطرحه فيما يلي لا يشكل قائمة شاملة “تقيّم” كل شيء حدث مؤخراً في سوريا، ولا يهدف إلى استبعاد مجالات أخرى من البحث، بل يهدف إلى إطلاق حوار مستمر، في محاولة لتسليط الضوء على بعض المواضيع التي نعتقد أنه لا يمكن تجاهلها. تنتهي بعض العناوين بأسئلة، وهناك أخرى فيها أسئلة متضمنة فيها، بعضها أكثر تصريحاً، فيما بعضها الآخر مفتوح. وهي تعكس تعدد وجهات النظر والأساليب التي تجدونها في «جدلية»، وتشكل جميعها مقدمة لتحفيز وإنتاج بحث قائم على الأدلة والتحليل. نطلب ممن يهمه الأمر من المؤلفين أن يشاركونا أفكارهم وموادهم على العنوان التالي: syria@Jadaliyya.com.

روسيا وسوريا

تخلو النقاشات الأخيرة حول تأمين الشركات الروسية لعقود مدرة، أو الاستئجار الروسي طويل الأمد لمرفأ طرطوس، من العمق. ربما كان صحيحاً أن روسيا تسعى إلى عائد اقتصادي لاستثماراتها، لكن أهدافها الأساسية في سوريا جغرا-سياسية، وتنسجم مع اهتمامها بالسيطرة والاستقرار والحصول على موطئ قدم استراتيجي تمارس نفوذها في المنطقة انطلاقاً منه. ويتمتع النظام الروسي بمرونة نسبية في كيفية تحقيق هذه الأهداف، ويمارس قوته من أجل الهيمنة من خلال مقاربة تجمع بين القوة الوحشية والدبلوماسية. فعلى سبيل المثال، بدأ الروس منذ تدخلهم المباشر محادثات مع معظم الفاعلين والقوى في البلاد مبدين رغبة بالتحاور معهم، وحافظوا أيضاً على العلاقات مع جميع البلدان المجاورة لسوريا، ويتميّز هذا عما قام به أي طرف آخر في الصراع السوري. ذلك أن الاستقرار وإنهاء الصراع العسكري يخدمان مصالح النظام الروسي. لكن النظام السوري تعامل بتردد مع هذا الموقف الروسي وقاوم التسوية لإنهاء الصراع. ويرى الجانب الروسي أن هذه التسويات ضرورية لوضع سوريا على مسار إعادة البناء، الذي يفسح المجال للاستقرار والنمو، وفي النهاية، للأرباح. إن البصمة الروسية على الصراع السوري واضحة على المستوى الكلي وأنهت جوهرياً التحديات العسكرية المختلفة ضد النظام، لكنها تقوم أيضاً بالتدريج بإعادة صياغة عدد متنوع من البنى الأمنية والسياسية والاقتصادية في البلاد.  لكن هذه العملية ليست متناغمة ولا خطية، بالطبع، ولن تكون بالضرورة ناجحة.  ونذكر هنا بعض الاتجاهات والعوامل المعقدة:

١- يمتلك الموقف الروسي سمتين: الدفاع والدولة. ليس سراً أن الافتقار للشفافية في السياسة الروسية الداخلية، كما في أمكنة أخرى، يجعل من الصعب تمييز التفاصيل ومن الصعب إيراد الدليل. ويكفينا القول أنه لدى معالجة مسألة النوايا والنفوذ الروسي، من الضروري أن نضع في أذهاننا الدفع والجذب بين السياسة الداخلية المحافظة والأمن ونزعة المغامرة الخارجية.

٢-إن محاولة روسيا لإعادة صياغة الدولة السورية، وخاصة على مستوى الجهاز الأمني، عنتْ الصراع مع عوامل وقوى جديدة تفضل مواصلة حصاد الفرص والثروات من الحرب على مواجهة لايقين السلام وتسوية الخلافات. ذلك أن الخسائر الجسدية والمادية الفادحة التي منيَ بها النظام السوري أثناء الصراع زادت من ضرورة استتباب الأمن بشكل كامل. وهنا يمكن التعويل على طبقة جديدة من أمراء الحرب وأقطاب الأعمال السوريين والروس من قبل نظام ضعيف، يحاول حماية مصالحه.

٣- على روسيا أن تصارع أيضاً صندوق أدوات الدبلوماسية المحدود للنظام والقيود المؤسساتية، وكلاهما خُرِّبَ بسبب الرفض الطويل للنظام في التعامل سلمياً مع المنشقين. هذا هو الجانب الآخر من جنون الارتياب المستوطن في القمة، رغم قبضة النظام شبه المطلقة على السلطة في المنطقة التي يسيطر عليها. كان جنون العظمة هذا جوهرياً لعمليات النظام منذ أواخر الستينيات، وتوسع في السبعينيات وأوائل الثمانينيات حين واجه التهديد الأكثر خطراً لحكمه قبل انتفاضة 2011.

٤- تثير تعقيدات التحالف الذي يفرضه الأمر الواقع بين روسيا وإيران وحزب الله في الحرب ضد المعارضة تحدياً آخر، وخاصة في امتزاجها مع الحاجة للحفاظ على علاقات قوية مع تركيا وإسرائيل. تمتلك إيران وحزب الله حصصاً استراتيجية في سوريا أكبر من التي تمتلكها روسيا، مما يجعلهما ينفران من مخاطرة الضغط على النظام بما أنهما سيدفعان الثمن الفوري لتغيير النظام أو أي إزعاج مهم له.  إن الشاغل الأمني الرئيسي لإسرائيل حالياً هو وجود قوات إيران وحزب الله قرب حدودها. وتزداد قدرة روسيا على تحقيق أهدافها في البلاد من خلال تعقيد المقايضات المطلوبة.

٥- إن التحدي الرئيسي للنجاح الروسي هو الحضور الأميركي في سوريا، كما دلت عليه رغبة الولايات المتحدة للدخول في تسوية مع تركيا. وكان تشكيل منصات سياسية مثل سوتشي يهدف إلى الحد من التأثير الأميركي المباشر على “الصفقة النهائية” في سوريا.

إن التعقيدات والتحديات التي تواجه روسيا في سوريا هي بعض المواضيع القليلة الممكنة للبحث والتحليل في هذا المجال. وتتضمن مسائل أخرى التغيرات الصغيرة على المستوى الجزئي التي تحصل على المستوى الاجتماعي فيما توسع روسيا موطئ قدمها الأمني والسياسي وحتى الثقافي، كما تتضمن أدوار لاعبين آخرين إقليميين ودوليين تتصاعد في الخلفية، وكيف يجب أن تتعامل روسيا وأميركا مع السياسات الخارجية الأكثر عدوانية التي نشهدها لدى قوى إقليمية صاعدة مثل تركيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وبالطبع إسرائيل التي تواصل اعتداءاتها.

صراع النخبة: قضية رامي مخلوف

في 30 نيسان 2020 نشر ابن خال الرئيس بشار الأسد رامي مخلوف أول فيديو من عدد من الفيديوهات عبر (فيسبوك) كاشفاً عن خلاف داخل الدائرة الداخلية للعائلة الحاكمة في سوريا. لا بد أن شيئاً ما حفز الرئيس السوري كي يمارس ضغطاً كبيراً على ابن خاله البليونير رغم أنه ليس من الواضح لماذا والتخمينات تتكاثر. يقول البعض إن الرئيس يحاول أن يعزز صورته ويعاود تعزيز سلطته من خلال تهميش أحد أعضاء النظام الأكثر فساداً.  ويرى آخرون بأن هناك صراعاً على النفوذ بين عائلة مخلوف وعائلة السيدة الأولى، تهدف من ورائه السيدة الأولى إلى الاستيلاء على شركة الاتصالات المدرة التي أغنت مخلوف. ويسلط آخرون الضوء على دور روسيا في إعادة صياغة بنية سلطة النظام، لكن المصالح والبواعث غير واضحة هنا. فالاتهامات في الفيديو الثالث ضد طبقة محدثي النعمة وأثرياء الحرب توحي بأن التنافس بين النظام ونخبة جديدة قد يكون وثيق الصلة أيضاً. لكن آخرين يوردون عوامل اقتصادية أوسع كسبب للتغير، بما أن النظام يحتاج إلى ثروة رامي مخلوف الكبيرة كي ينعش من جديد اقتصاداً دمرته الحرب. ليست هذه التفسيرات والاقتراحات نهائية، بالطبع، ومهما كان الأمر، فإن سياسة هذا التطور المفاجئ واقتصاده السياسي (تم في 19 أيار “الحجز الاحتياطي“ لأرصدة رامي مخلوف) يقتضيان المزيد من الشرح. يستدعيان أسئلة: لماذا رامي مخلوف بالتحديد، وليس “فاسدين” آخرين؟ وما الذي تشير إليه قضية مخلوف بشكل محدد لرعاة سوريين مختلفين وأتباعهم حول مناصبهم ونقاط ضعفهم؟ تحتوي فيديوهات مخلوف على آيات قرآنية، مما أدى إلى موجة تعليقات كثيرة على الإنترنت سخرتْ من تدينه المعلن حديثاً وتصويره لنفسه كضحية. إن شكواه من” التعامل غير الإنساني” معه من قبل أجهزة الأمن التي ساعد في تمويلها، وضغطها عليه واعتقالها لموظفيه، هي إحدى مفارقات كثيرة في الوضع الحالي. وسواء قوربت بشكل ساخر أو في محاولة لفهم ما يشير إليه مخلوف (هل كومة الحطب في خلفية الفيديو تشدد على الطبيعة النارية لفيديوهاته؟)، يستدعي الصراع تأويل سياسات النظام الناشئة في التمثيل. ويثير أيضاً أسئلة حول من الذين يخاطبهم مخلوف؟ وما الذي يفهمه ابن خاله بشار الأسد من هذه الفيديوهات. ينبغي ألا تفوتنا الإشارة أيضاً إلى الأبعاد الدولية لتهميش مخلوف، فيما يتم التنافس بين إيران وروسيا حول أيهما تكون له اليد العليا التي يمكن أنها تلعب دوراً في هذه القضية. و يعتقد البعض أن فصائل داخل بنية السلطة في روسيا تدعم مخلوف ضد الأسد، أو على الأقل تحتاط على رهاناتها. بينما تشك قلة بأن الروس منحازون لبشار مثل نظرائهم الإيرانيين.  فضلاً عن ذلك، إن رامي وأفراد عائلته وكثير من مساعديه مستهدفون بالعقوبات الأوربية أو الأمريكية بسبب دورهم في الصراع السوري. في ضوء هذا، فهل من المحتمل أن الخلاف الحالي ناجم عن قانون قيصر لحماية المدنيين الخاص بسوريا؟ إن المظاهر الإقليمية والدولية للانقسام داخل العائلة، وما يعنيه من ناحية المصالح الجيوستراتيجية، وما يمكن أن ينبئ به على صعيد الاستقرار المحلي، وما يقوله لنا عن توزيع غنائم الحرب أو خلق أشكال جديدة من القوة الإمبريالية، موضوعات تتكشف وبحاجة لتحليل.  ولهذا ندعو لكتابة مقالات تستقصي صراع النظام مع مخلوف وسط الأبعاد الأوسع السياسية والاقتصادية والسيميوطيقية والإقليمية والدولية التي يضيئها. ندعو الكتاب إلى معالجة موضوع أو أكثر مما هو مذكور أعلاه.

الوضع في إدلب: مسارات مختلفة

لفتت إدلب والمناطق المحيطة بها الانتباه منذ بداية الانتفاضة السورية والصراع اللاحق. وقد أوصلت اللافتات الإبداعية والرسوم الكاريكاتيرية المبتكرة لكفرنبل وعلى جدران سراقب رسائل عن المقاومة والأمل واليأس من خلال الفكاهة والفن. ومؤخراً، وفي أعقاب جريمة قتل جيمس فلويد على يد ضابط شرطة أبيض في مينيابوليس، ظهر فن تضامني ضد التمييز العنصري الممنهج ووحشية رجال الشرطة في المنطقة مع شعار “لا نستطيع التنفس” متحدثاً عن مسائل الاستبداد والقمع وضعف المواطنين عالمياً.

انتشرت مئات المشاغل والمنظمات غير الحكومية ومراكز التدريب لـ”المواطنين الصحفيين”، والشبكات الاجتماعية في المنطقة قبل إغلاق الحدود في منتصف 2015 بعد صعود تنظيم الدولة الإسلامية. ومر ملايين السوريين عبر إدلب هاربين من القصف العشوائي للنظام السوري و(بعد 2015) من القصف الروسي. وإما عثروا على الملاذ في تركيا أو واصلوا رحلتهم المحفوفة بالمخاطر عبر البحر المتوسط آملين الحصول على اللجوء في أوربا. ومن المعروف جيداً للسوريين ودارسو السياسة السورية أن قرب المنطقة من الحدود التركية سهّل حركة الجنود والضباط المنشقين الذي شكلوا حركة الجيش الحر في 9 حزيران 2011 وفيما بعد الجيش السوري الحر في 29 تموز 2011. ومنذ 2015 حين وقعت المحافظة تحت سيطرة المعارضة، حكم إدلب عدد من الفصائل المتنازعة، التي حُل كثير منها فيما بعد، لكن اثنتين استمرتا هما هيئة تحرير الشام المرتبطة بالقاعدة (المعروفة سابقاً باسم جبهة النصرة) وأحرار الشام.  ومرت المنطقة بتغيرات اجتماعية اقتصادية جذرية سيكون لها تأثير مستمر. ويواصل العنف الإثني والطائفي، والهجرة القسرية، والتغيرات الديموغرافية إعادة تشكيل الملامح الاجتماعية للمنطقة، كما بين اتفاق المدن الأربع في نيسان 2017، الذي قاد إلى تبادل المواطنين (السنة) من مضايا والزبداني في ريف دمشق مع سكان (شيعة) من كفريا والفوعة في ريف إدلب. وحدث التغير الديموغرافي القسري أيضاً في منطقة عفرين الكردية في ريف شمال حلب (على حدود ناحية الدانا قرب مدينة حارم في إدلب في الجنوب)، والتي سيطرت عليها القوات التركية والقوات السورية المتحالفة معها (الجيش السوري الحر)، في 18 آذار 2018. ومنذ ذلك الوقت صارت عفرين الوجهة الرئيسية لقوات المعارضة التي أُجْبرت على مغادرة الغوطة الشرقية، واستقرت مع عائلات سورية أخرى (من العرب والتركمان) في منازل أُخْلي منها سكان مدنيون أكراد. ومنذ أيار 2017 كانت إدلب موضوعاً لاتفاق “خفض التصعيد” بين تركيا وروسيا وإيران. لكن هذه الاتفاقية انتُهكت من قبل أطراف كثيرة، ونجم عن ذلك غارات جوية من النظام والمزيد من تشريد المواطنين. وشُن الهجوم الأحدث، “فجر إدلب 2″، في 19 كانون الأول 2019 وشرد حوالى مليون مدني إلى الحدود التركية قبل أن تفرض اتفاقية جديدة (تم التوصل إليها بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين) وقفاً جديداً لإطلاق النار بدأ في السادس من آذار 2020. وسيطر النظام وحلفاؤه على مدينتين رئيسيتين (خان شيخون ومعرة النعمان) في إدلب مما قلص الرقعة التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام وجماعات مسلحة أخرى بشكل كبير. ومن المفارقات أن الانتشار العالمي لوباء كوفيد 19 خفف مؤقتاً من ضغط الهجمات الجوية على الناس العاديين الذين كانوا يهربون بشكل جماعي. وبسبب الدور المهم الذي لعبته إدلب أثناء الانتفاضة، بما أن مناطق المحافظة كانت بين “المتظاهرين الأوائل” وكذلك دورها في الحرب واللايقين حول مستقبل المحافظة، ندعو إلى كتابة مقالات تحليلية ونقدية حول واحد أو أكثر من الأسئلة التالية:

1-حول الوباء الكوني: ما هو تأثير كوفيد 19 على السكان المحليين والنازحين في إدلب؟ كيف يتعامل سكان إدلب مع احتمالات تفشي كوفيد 19 في مناطقهم؟ ما هو الوضع الحالي للبنية التحتية والمنشآت في محافظة إدلب؟ كيف تستطيع المنظمات المحلية التعامل مع حالات الطوارئ الصحية في هذه الفترة؟ أية أنواع من الخطابات الدينية والعلمية والكوميدية والقائمة على نظرية المؤامرة تبزع في السياق؟

2-حول الصراع القائم: ما احتمالات صمود وقف إطلاق النار الحالي؟ ما دور تركيا في إدلب وكيف يمكن أن يتغير هذا مع مرور الوقت؟ تاريخياً، لماذا كانت إدلب مركز الجماعات الجهادية والإسلامية المسلحة في 2011-2013 ولماذا فشلت الجهود الأولى لتشكيل جيش حر سوري أكثر علمانية؟

3-حول المساعدة الدولية: ما هو دور المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية في إدلب؟ ما هي إسهاماتها الرئيسية وعيوبها؟ ما الذي نستطيع تعلمه من سياسات المعونة والممارسات على الأرض في السنوات التسع الأخيرة؟

4-حول الاقتصاد السياسي للحرب: ما أهمية إدلب للاقتصاد السياسي للحرب (مثلاً أنشطة المهربين والاتجار بالبشر ولوردات الحرب وأهمية الضرائب والرسوم الجمركية، أهمية باب الهوى ومعابر حدودية أخرى، دور مصادرة الملكية؟ بأية طرق أصبحت الاقتصادات المحلية أكثر اندماجاً في الاقتصاد التركي، في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المدعومة من تركيا، أو المناطق التي يسيطر عليها النظام؟

الإنتاج الثقافي السوري

انتشار الأفلام الوثائقية السورية والاحتفاء العالمي بها، الاقتصاد السياسي الناشئ والمحتوى الاجتماعي للدراما الرمضانية السورية، استمرار الكوميديا التهكميّة في أوقات الاضطرابات، الأنواع المختلفة من التضامن التي تمكّنها الموسيقا، أشكال التجريب الفني في (الأدب والفن المعاصر والأفلام، مثلاً) التي تنتج في المنفى، هذه بعض الموضوعات التي برزت في دراسة الثقافة الشعبية السورية. إن مسائل التمثيل والاستجابة، من يمثل سوريا وكيف يتقاطع السياسي والجمالي، ومنطق الإنتاج الثقافي الحالي يمكن أن تساعدنا على التفكير بشكل أكثر عمقاً بمسائل مثل الذاتية والوجدان والارتباط السياسي. كما أن المجادلات حول تصوير المعاناة البشرية، وحول الديناميات الجندرية للحرب، والطرق التي تتسع فيها الأجناس الفنيّة  في مواقف التهجير وإعادة ترسيخ الاستبداد، كل هذه تستحق انتباهاً مجدداً.  ويمكن أن نضيف أيضاً استقصاءات صناعة العالم بعد أن أصبحت الأزمة جزءاً من الحياة العادية ولم تعد لغة الهيمنة والمقاومة تبدو ملائمة لهذه اللحظة وللتعبير عن الديناميات التعاطفية والبنيوية لرأس المال أو إغواءات الاستبداد، أو مؤخراً، الحياة في ظل الوباء العالمي وغير المجرب بشكل متكافىء. وهناك مسائل أخرى يشير إليها مفهوم “ثقافة” ولكنها لا تتعلق مباشرة بالتعبير الفني الشعبي تتضمن ما يلي: كيف أعاد الصراع إعادة بناء الأعراف الاجتماعية، وعبر عن الأمزجة وممارسات التفكير الأخلاقي؟ كيف تمت إعادة صياغة أشكال مختلفة من سياسة الهوية (كتلك التي حول الطائفة أو المنطقة أو الهوية السوريّة) في سياق التدخل الإقليمي وتدخل الدول العظمى المستمر؟

عدم الاستقرار

إن أعوام الصراع المحلي والتهجير والبؤس جعلت عدم الاستقرار وغياب الأمن من الوقائع اليومية للسوريين. ويواصل تداخل العنف مع عدم استقرار المعيشة وعواقب وباء كوفيد 19 فرض قيود نفسية ومادية على حيوات الناس اليومية. وبقي الوضع القانوني للسوريين في الوطن وفي البلدان المجاورة غير محلول، وما يزالون خاضعين لحملات الطرد والاعتداء وسوء المعاملة بما أنهم يفتقرون إلى الحقوق التي تضمن لهم الحماية. إن عدم استقرار السوريين ناجم عن تفاعلاتهم مع سلسلة من الفاعلين، من النظام السوري أو المجموعات المسلحة، إلى التدخلات الإنسانية الدولية، وهذه لها تأثيراتها المؤذية. لكن السوريين لا يلعبون دوراً سلبياً في إنتاج عدم الاستقرار هذا. فقد عثروا على طرق كي يتنظموا ضد الأوضاع داخل وخارج البلاد. ويتزامن طلب الأمن والأمان مع بيئة قانونية متغيرة دوماً تهدف إلى الحد من الحقوق والموارد المتوفرة للاجئين وطالبي اللجوء السياسي. وتعني هذه التغيرات المتواصلة أن السوريين يفتقرون إلى المعلومات والتكنولوجيا الضرورية لمعالجة عدم استقرارهم، لكنهم يحتاجون أيضاً إلى أشكال من التنظيم قادرة على تلبية المطالب الفردية والجماعية الملحة.  فضلاً عن ذلك، إن الإنتاج الثقافي السوري يتناول موضوع عدم الاستقرار بطرق حاذقة وغير حاذقة مبيناً كيف يستجيب السوريون لأوضاعهم غير الآمنة ويحاولون فهمها. ويتطلب فهم غياب الأمان وعدم الاستقرار لدى السوريين اليوم فهماً للكيفية التي تؤثر بها الأشكال المتداخلة للسلطة والقوة على حياتهم وكيف يفهمون ويقاومون ويحاولون تخفيف عدم الاستقرار بدورهم. إن بعض الأسئلة التي يمكن معالجتها في هذا السياق تشمل:

1-كيف مرّ السوريون بحالات اللاأمان الجديدة؟ كيف تم العبير عن الصمود؟ ماذا عن الأشكال الجديدة من الاغتراب داخل وخارج البلاد؟ ما هي معانيها الضمنية للسياسة؟

2-إلى أي درجة انخرط السوريون في اقتصاد الصراع، وصاروا أكثر اعتماداً على المعونات والتهريب والأسواق غير الرسمية، إلخ؟

3-كيف تكيفت النساء بخاصة مع التهجير وأوضاع اللاجئين وظروف الحرب في سوريا، وأوضاع أخرى متواصلة من اللاأمان؟ كيف أعيد تصور أدوار الجندر في أوضاع الدمار والصعوبات اليومية؟

إعادة البناء

سرّعتْ التغيرات العسكرية الأخيرة في الصراع السوري لصالح النظام الجدل حول إعادة البناء في فترة ما بعد الصراع. وفي غياب عملية سلام مفروضة عالمياً، رفض المتدخلون الدوليون والدول الغربية تقديم الموارد لانتعاش سوريا وهو ضروري جداً. وقدمتْ روسيا والصين مقترحات متواضعة حول إمكانية الإسهام في عمليات البناء المستقبلية. ولم يطرحْ النظام رؤية بنيوية لإعادة البناء، بصرف النظر عن سلسلة القوانين والسياسات التي تهدف إلى جذب رأس المال الأجنبي إلى البلاد. في غضون ذلك، فإن احتياجات إعادة البناء طويلة الأمد للشعب السوري لم تُعالج حتى في التخطيط للمستقبل، مما فاقم عدم الاستقرار وغياب الأمن والأمان.

لم ينته الصراع بعد، ويواصل لاعبون رئيسيون اتباع استراتيجيات أمنية وعسكرية لكسب القوة والنفوذ. وفشلتْ محاولات الأمم المتحدة (محادثات جنيف واللجنة الدستورية) في تمهيد طريق لإنهاء الحرب. وستتحدى الأولويات المتصارعة للفاعلين الداخليين والخارجيين، والقوى السياسية القمعية المنخرطة في الصراع، ومظالم اقتصادية اجتماعية متفاقمة، ستتحدى أية عملية إعادة بناء شاملة. لقد أنتج الفاعلون الدوليون تقارير سميكة حول ما الذي يجب أن يُفْعل في سوريا على صعيد إعادة البناء، وكيفية القيام به وكيفية تجنب تمكين النظام السوري في الإسهام في عملية إعادة البناء. ونشرتْ مؤسسات مثل البنك الدولي وهيئات مختلفة تابعة للأمم المتحدة، طرقاً جديدة من إنتاج المعرفة مثل التكنولوجيا الجوية والإعلام الاجتماعي، وهي المواقع التي يتم فيها إنتاج المعرفة حول احتياجات إعادة البناء في سوريا. وتنشط بعض الوكالات الدولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي داخل سوريا لكنها محدودة من ناحية العمل الجيلي والبنيوي الذي تستطيع أن تُحدثه.  فضلاً عن ذلك، تميل المؤسسات في التعبير عن مشكلات سوريا وحلولها، إلى استخدام مفاهيم مرتبطة بلغة التدخل الدولي، واضعين سوريا في تيارات عالمية، أو ما بعد كولونيالية كما يقول البعض، رائجة حالياً في إعادة البناء بعد الصراع.  وبينما تفكر الأسرة الدولية في الكيفية التي تتدخل بها في إعادة البناء في سوريا بصورة مستقلة عن عملية سلام، أصدر النظام السوري سلسلة من القوانين باسم إعادة البناء، بما فيها إجراءات لإعادة تنظيم الملكية، وجذب رأس المال الخاص، وتوليد شراكات عامة خاصة. بتعبير آخر توجد خطة لإعادة البناء، لكن النقاد يقولون إنها معرقلة سلطوياً، وتواجه تحديات إدارية هائلة، وتعتمد على ميزانية كبيرة تفتقر إلى تمويل فعلي. وركزت معظم الجهود حتى الآن على مناطق بقيت تحت سيطرة الحكومة. ويوحي الطور الحالي من الصراع بأن المعارك الداخلية والخارجية ستُخاض على موارد إعادة البناء في مرحلة ما بعد الصراع، وخاصة فيما يواصل النظام السوري ممارساته الإقصائية في فترة ما بعد الصراع من خلال حرف الموارد بعيداً عن بعض المناطق، مانحاً معظم عقود إعادة الإعمار للمنتصرين في الحرب. وفي هذه الأوضاع، ستكون إعادة الإعمار عملية غير متكافئة تخدم كي تعزز قوة الدولة بدلاً من فتح ممر نحو المصالحة. وتتضمن بعض الأسئلة المتعلقة بهذا الموقف ما يلي:

١-ما هي النقاشات الداخلية حول إعادة البناء التي تدور داخل سوريا الآن؟

٢-كيف نصّبَ المتدخلون الدوليون أنفسهم كمنتجي معرفة أساسيين حول إعادة البناء في سوريا؟  وأي نوع من المعرفة يتم إنتاجه في هذا السياق؟

٣-كيف يتم نقاش إعادة البناء في سوريا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟

٤-كيف تتسق خيارات إعادة البناء مع محاولات النظام للتقارب مع الدول الإقليمية؟

٥-كيف من المحتمل أن تفتح إعادة الإعمار فرص تضامن بديل، وتتوسع وراء اقتصاد الصراع الحالي؟

٦-أية أنماط من إعادة البناء والانتعاش سيتم توقعها إذا بقي النظام في السلطة؟

إن المواضيع المناقشة أعلاه هي فقط بعض المجالات الممكنة للبحث في سوريا اليوم. وفيما نتطلع لزيادة التغطية المتعلقة بسوريا على صفحاتنا في الأسابيع والشهور القادمة، نود أيضاً أن نلفت انتباهكم إلى عمل ممتاز قامت به شبكة من المتعاونين معنا. فقد نشر المركز السوري لبحوث السياسات (وهو مؤسسة شريكة) مؤخراً تقريراً اقتصادياً اجتماعياً بعنوان” العدالة لتجاوز النزاع في سوريا“. يستند التقرير إلى بحث ميداني مكثف ودقيق تم أثناء السنوات العديدة السابقة وانتظره طويلاً المراقبون والمؤسسات الدولية التي تعتمد على مركز أبحاث السياسة كي تقدم معطيات وتحليلاً دقيقاً عن سوريا.  سيتوفر ملخص عن هذا التقرير الشامل ومتعدد الأوجه على «جدلية» قريباً وستنشره مؤسستنا الشقيقة ”تدوين للنشر“. ويمكن أن تترقبوا إطلاق التقرير في العربية والإنجليزية، هنا و هنا.

ونشرنا بالتعاون مع موقعنا الشقيق، ”صالون سوريا“ تقريراً ثنائي اللغة تحت عنوان “سوريا في أسبوع” كي نواجه انحسار الانتباه من خلال معالجة تطورات مهمة في البلاد. نشرنا التقرير أسبوعياً منذ كانون الثاني 2018 حتى آذار 2020، حين توقف عن النشر. نتطلع إلى دعمكم المتواصل وانخراطكم من خلال القراءة، إرسال المقالات أو الاقتراحات لمجالات تحتاج إلى التغطية.  راسلونا على هذا العنوان: syria@Jadaliyya.com

[لقراءة المقال بالأنجيليزية، اضغط/ي هنا]

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.