تتشابه الأوبئة مع الحروب من ناحية النتائج، إذ سرعان ما تلقي بظلالها على الفرد فتترك بصماتها الاجتماعية العاجلة وندوبها النفسية الآجلة، تقتلع عادات بعينها لترسخ محلها سلوكيات أخرى جديدة مرهونة بكينونة الوباء، لتبقى تغيراتها الاجتماعية والنفسية التي خلفتها محفورة في وجدان وبنية المجتمع الموبوء لأجيال طويلة. يعود الإنسان في هذه الفترة إلى النكوص والعودة إلى غريزته القبلية، مهما بلغ من الحضارة مبلغاً كبيراً، فيلجأ إلى أساليب دفاعية تدل في مجملها على الأنانية الفردية وتغليب المصلحة الخاصة على العامة، يصاحبها سلوكيات مبالغة في التمادي في حماية النفس من أي خطر وجودي وتتجلى في حمى الشراء والعنصرية والأخذ بنظريات المؤامرة لتتطور إلى سقوط العقلانية والتقوقع خلف الخرافات لتنتهي إلى التعصب الديني وتبني فكرة الانتقام الإلهي وغيرها.
عدوى الخوف الجماعي
تولد الأوبئة حالة من الخوف الجماعي تنتقل كالعدوى وهو عادة ما يظهر بقوة عند حلول الأزمات، وهذا الشعور المبرر يخضع لما يسمى بـ “غريزة القطيع”. وحسب ما توضح دكتورة في علم الاجتماع هناء برقاوي: “يشعر الفرد بالخوف لمجرد التماسه خوف الآخرين، ملتقطاً هذه العدوى حتى لو كان متأكداً أنه بخير وبمأمن عن الوباء، فيمتثل لسلوك الجماعة، ويتماهى معهم دون أي تفكير أو تخطيط ، فيذوب معهم، محيداً تفكيره الفردي، إذ ينجم عنها غالباً سلوكيات متناقضة تؤثر سلباً على منظومة القيم كتكريس للأنانية الفردية دون التفكير بالآخر، وتغليب المصلحة الخاصة على العامة، وهو ما شاهدناه في سورية، فمثلاً أصيب العديد من الأشخاص بهرع الشراء، فبدأوا باقتناء ما يحتاجونه وما لا يحتاجونه من سلع غذائية ومعقمات وشراء الفائض عنهم في حمى هستيرية ولهاث وراء التخزين والتكديس، دون أن يفكروا بحصول غيرهم على حاجياتهم، ما يفسح المجال لصعود قيم في غاية الأنانية والرغبة بالاستحواذ وحب الذات على حساب قيم أخرى كالافتداء والشعور بالآخر”.
تصاعد المنحى الديني
يشهد الفرد أثناء تفشي الأوبئة تغيراً ملحوظاً في نمط السلوك الديني، ما يشبه الارتكاسة الدينية حيث يبدأ تدريجياً بالتخلي عن بعض معتقداته والتشكيك في قدرتها على حمايته من الأمراض والطعن في كونها تمائم تصونه من الأشرار، لأنها خذلته في مكان ما. في المقابل، يربط العديد بين عبادة الله وطاعته وبين الوباء، فيجدون أن غضبه تجسد على هيئة وباء سوف يفتك بالبشرية جمعاء، ما لم يعود العبد إلى ربه وتقوية أواصره الدينية، فنرى مثلاً أفراداً يتضرعون إلى الله ويعودون إلى ممارسة شعائرهم الدينية التي انقطعوا عنها كثيراً، بالرغم من كونهم أصلاً أناساً غير متدينين، إلا أن شدة الوباء وحصده للأرواح توقظ فيهم النزعة الدينية وتخلق شعوراً ضمنياً بالحاجة الملحة إلى التمترس خلف تعاليمه، إذ أنهم يلجؤون إليه (للدين) بصفته طوق النجاة الوحيد والمخلص النهائي من الوباء. وتشرح ذلك الدكتورة في علم الاجتماع هناء برقاوي: “تزداد الرغبة عند الأشخاص اللا متدينين في ظل تفشي الأوبئة بممارسة الطقوس الدينية، فيميلون إلى التقرب إلى الله إيماناً منهم أنه من أرسل لهم هذا الوباء وبلجوئهم إليه يستطيعون رفعه وأن ما من طريقة أخرى قادرة على دحره، كما أنهم يرون في الطقوس الدينية وسيلة معنوية للنجاة تمنحهم شعور بالطمأنينة وتخفف من معاناتهم، فمن كان لا يصلي يتحول في هذه الفترة إلى متدين دؤوب يجد في الدين طريقة للتخفيف من عبء الخوف والتوتر، وهو يعد من أهم التغيرات الاجتماعية التي تُحدثها الأوبئة وتزرعها في تربة المجتمع”.
عادات اجتماعية إيجابية زرعتها كورونا سهواً
أدخلت جائحة “كورونا” عن غير قصد عادة جديدة طارئة على المجتمع السوري، قد تفتح الباب أمام إعادة صياغة العديد من العادات الاجتماعية المتجذرة فيه. وتصف برقاوي هذه العادة بـ “الإيجابية” وهي إقامة حفلات الزفاف على نحو ضيق كبديل للأعراس الضخمة وأقل كلفة، خاصة بالنسبة لأولئك الذين سيضطرون إلى إلغاء موعد الزفاف والوقوع فريسة الانتظار. وتعقب الباحثة: “فضل العديد من هم على أهبة الزواج إحياء زفافهم على الضيق بدلاً من التأجيل والانتظار مطولاً حتى انحسار الوباء الذي لا يعرف له موعد، وحصرها فقط بدائرة المقربين، ما قد يرسخ لاحقاً عادة جديدة لم نعتد عليها من قبل، والتخلي تدريجياً عن مواصفات العرس الضخم دون مغالاة وبذخ، والأمر ذاته ينسحب على مجالس العزاء، لتقتصرالتعازي على الهاتف والرسائل النصية والالكترونية”.
هذا وقد يخلق فيروس كورونا أثراً عفوياً للأفراد السوريين، بحيث يدفعهم لا شعورياً لتبني فكرة التباعد الاجتماعي واتخاذها كسلوك دائم حتى بعد تقهقر الفيروس، وذلك ما سماه الدكتور في علم النفس جميل ركاب بـ “الفقاعة الحيوية” ويقصد به “بالمجال الذي يشعر به الفرد بعدم الأمان بعد اختراق الآخر له، وهو ما يتجلى في وسائط النقل العامة وعدم ترك مسافة أمان بين الأشخاص تحفظ سلامتهم الصحية لتفادي العدوى وانتقال الأمراض كالإنفلونزا مثلاً، ما يغير من الطقوس الاجتماعية”.
تأثيرات كورونا على السوريين… لا جديد تحت الشمس
بالرغم من أن السوريين استقبلوا الزائر الجديد (كوفيد 19) بكهول مرهقين وطاقة مستنفدة بعد 9 سنوات حرب منهكة واجهوا خلالها شتى أنواع الموت والويلات والحصارات، واختبروا خلالها حظراً اقتصادياً لا يختلف كثيرا ً في مضمونه عن الحظر الذي عايشوه في ظل “كورونا”، إلا أن الأخير تمكن من بسط هيمنته وفرض آثاره النفسية والاجتماعية على خصوصية المجتمع السوري حال جميع الدول الموبوءة، فاستطاع كوفيد 19 من كسر روتين حياة السوريين حسب كلام ركاب: “تعود السوريون في حياتهم السير وفق نظام يومي بوتيرة محددة بصورة روتينية صعب اختراقها، كالاستيقاظ في ساعة معينة، ثم الذهاب إلى العمل، والزيارات الاجتماعية الكثيرة يليها قضاء بعض الأمور، فجاء الفيروس ليضرب النظام اليومي”. هذا ولم تتوقف مهمة كوفيد 19 بحصد أرواح السوريين، بل امتد ليحصد أرزاق العديد منهم وإلزامهم منازلهم، ما رفع من مؤشر الفقر والبطالة، وذلك حسب ركاب.
“كلما قل الوعي برزت الحاجة إلى فرض القوانين”، هذه العبارة تنطبق على المجتمع السوري بحسب رأي الدكتور ركاب، إذ أن الأولوية كانت للقانون وكلمة الفصل، لا سيما في ظل الأزمات، لكن هذا لا ينفي وجود وعي لدى بعض الشرائح السورية والتي يقل عندهم سلوك عدم الاستجابة لقوانين الحجر الصحي وتكون أكثر التزاماً وتقيداً بإجراءات السلامة.
الانجرار بسهولة وراء الشائعات
تبدو مقولة أن “الكذب والشائعات يمكن أن يدوروا حول العالم قبل أن تنطلق الحقيقة وتصل إلى الباب” مناسبة جداً في أوقات الأزمات والأوبئة، إذ كثيراً ما يصاحب الأوبئة وقلة المعلومات عنها، موجة عنيفة من الإشاعات التي يطلقها البعض وينجرف خلفها العديد من الناس ممن يتملكهم الخوف فيتلقون الإشاعة ثم بدورهم يقومون بنشرها دون التأكد من دقتها، ما يفسح المجال لصعود نظرية المؤامرة والاعتقاد بوجود مكائد تُحاك ضد شعب بعينه، أو دولة ولعل الاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية من جهة وبينها وبين إيران من جهة وبينها وبين بعض اللبنانيين، خير مثال على ذلك.
في كتاب “الأوبئة والمجتمع” لـ”فرانك سنودين”، يُشير الكاتب إلى أنه حينما انتشر وباء الكوليرا ظهرت في فرنسا نظرية مؤامرة بأن الوباء من صنع الإنسان، إذ انتشرت إشاعة مفادها أن حكومة الملك “لويس فيليب” تضع مادة الزرنيخ في آبار المياه، ومع انتشار الوباء وموت حوالى 20 ألف فرنسي اندلعت موجة عنف ضد الحكومة من قبل الشعب. هذا المثال التاريخي يُنبئ بأن آثار الكورنا على سوريا قد تتطور وتتفاقم أكثر وأكثر خلال الأسابيع والأشهر القادمة.
بدأ الناس في سوريا يحادثون أنفسهم بصوت عال في الطرقات من الأزمات التي تتوالى على رؤوسهم يوماً بعد يوم، وآخرها انقطاع المادة الدوائية التي لا يمكن الاستغناء عنها تحت أي ظرف. بالقرب من الصيدلية المركزية في شارع بغداد خرجت سيدة في الخمسينات من العمر تصرخ: “معقول ما في دوا بالبلد! الله لا يوفقهم ولا يجبرهم! ابني عمره 9 سنوات مريض ربوّ، صرلي قريب الأسبوعين عم بفتل من صيدلية لصيدلية ما عم لاقي علبة دوا”.
بينما وقفت سيدة في ستينات من العمر مع ابنتها التي تحمل الوصفة الطبية الممتلئة بأسماء الأدوية وعند سؤالها أجابت: “معي القلب والضغط والسكري ولم أستطع الحصول على أي منها حتى المسكنات مقطوعة وأغلب الصيدليات مسكرة”. أما أسماء التي قطعت مسافة طويلة من الغوطة الشرقية بسبب إغلاق جميع الصيدليات هناك ظنّاً منها أن دوائها متوفر في دمشق، فقد عادت أدراجها خائبة ولم تحظ بأي علبة دواء.
جاءت تصريحات وزير الصحة “بشر يازجي” منفصلة عن الواقع فقد صرح أن: “المواد الدوائية لم تنقطع من الأسواق وأن المعامل ما تزال تعمل وليس هناك ما يبرر توقفها”. وهذا مناف تماماً لما يحدث على أرض الواقع .معظم الصيدليات في دمشق مغلقة وعدد قليل مازال يفتح أبوابه لكن دون فائدة؛ فخلال جولة على عدد من الصيادلة كان يدخل المرضى من مختلف الأعمار وأغلبهم كبار في السن ويسألون عن أدوية الضغط والقلب والربو وغيرها لتكون الإجابة واحدة عند الجميع: “لا يوجد”.
ووفقاً للدكتورة هبة في صيدلية “الداوود” في منطقة الصالحية فإن المستودعات قد توقفت عن تزويدهم بالأدوية منذ ثلاثة أسابيع، والآن الكميات الموجودة لديهم تُقارب على النفاذ، فأدوية الأمراض المزمنة مقطوعة بشكل كامل كأدوية الغدة، الضغط، القلب، السكري، الربو، وأدوية الأمراض النفسية والكولسترول وحتى السيتامول والمسكنات. وتقول دكتورة هبة أنهم يحاولوا إعطاء المرضى علبة واحدة من الأدوية المتوفرة ليخدموا أكبر عدد من المرضى، لكنها تتساءل لماذا لا تقوم الدولة بدعم المواد الأولية لينخفض سعر الدواء بدل رفعه. وتضيف: “القدرة الشرائية للمواطن لا تسمح برفع أسعار الأدوية وسوف يحدث كساد” وأضافت عن إغلاق الصيدليات: “يومين وينفذ لدينا الدواء ونغلق صيدلياتنا نحن أيضاً.”
كانت وزارة الصحة عدلت قبل العيد العديد من المستحضرات الدوائية التي استفاد منها حوالي 12 معملاً من أصل 80 معملاً في سوريا، مع العلم أن معظم هذه التعديلات اعتمدت على سعر تصريف الدولار بـ435 ليرة بالتسعير، علماً أنه تم اعتماد سعر دولار تفضيلي 706 ليرة للمعامل التي استوردت المواد الأولية بعد آذار من العام الجاري.
بينما الصيدلاني فادي يرى أن هناك صيدليات لديها أدوية ولا تريد بيعها ريثما يتم تعديل تسعيرة الدواء، وأضاف: “نحن لم نغلق الصيدلية ومازلنا نبيع المريض الأدوية المتوفرة لدينا، حتى أن هناك مستودعات لديها كميات كبيرة من الدواء ولا تريد بيعها منتظرة رفع الأسعار. والبعض الآخر يقوم بتوزيع علبة أو علبتين دواء في الأسبوع.”
أدوية الأمراض المزمنة مفقودة من السوق
وحسب د. زينة فإن المصانع والمعامل والمستودعات تمتنع عن إعطاء الأدوية بشكل نهائي، وجميع المواد المخزنة لدينا انتهت، والأدوية المزمنة مفقودة نهائياً من الأسواق بمختلف أنواعها: كدواء حمض البول، وأدوية القلب والغدة والضغط وهي أدوية أساسية لذلك الطلب عليها زاد بشكل مضاعف بسبب الأزمة الحاصلة. و تبرر المعامل أن ليس لديها مواد أولية والإنتاج متوقف، و لو لم تصل لمرحلة العجز والخسارة لم تغلق الصيدليات أبوابها.
أسماء مريضة قصور بالغدة اتجهت لشراء الأدوية المستوردة لأن الأمر لا يحتمل تأجيل وقد يؤثر على حياتها، ولكن مع ذلك لم تسلم من جشع بعض الصيادلة حسب تعبيرها، وأضافت: اشتريت ثلاث عبوات من نفس الدواء من صيدليات مختلفة بثلاثة أسعار 6000، 10000، 12000 وأضافت القطاع الصحي لا يحتمل المتاجرة والاحتكار والاستغلال. من جانبه، يعلق هادي حوراني أن “ارتفاع الأسعار ليس بالأمر الجديد، الرقابة مفقودة منذ زمن على أسعار الأدوية، و لا يوجد صيدلية تبيع مثل الأخرى.”
توقف المعامل عن تزويد السوق بالأدوية
و يوضح محمد حجازي مندوب شركة “ميرسيفارما” لصناعات الدوائية: “تتمسك وزارة الصحة بسياسة تسعير غير منطقية بزعم أن الدواء خط أحمر، و تُلزم مصنعي الأدوية بأسعار قليلة تتناسب مع القدرة الشرائية للسوريين في حين تزداد تكاليف استيراد المواد الأولية وتكاليف الإنتاج بشكل مضاعف، بدءاً من المواد الأولية التي تُستورد عن طريق دول وسيطة بسبب العقوبات، ومروراً بأجور الشحن وارتفاع أجور الأيدي العاملة، وليس انتهاءً بأجور المستودعات، وأجور الصيدليات في الوقت الذي تلزم وزارة الصحة الصيدليات بأسعار شبه رمزية لغالبية الأدوية مع تقليص هامش الربح للصيدلاني أيضاً الذي لا يتجاوز 16%، هناك أدوية بسعر 200 و300 ليرة، علماً بأن كلفة العبوة والتغليف والحفظ أكثر من هذا المبلغ، فالدولار الأميركي الواحد تجاوز 2700 ليرة سورية”، ويكمل: “الأدوية الإيرانية الموجودة في الأسواق أسعارها عشرة أضعاف سعر المحلي و لا تتجاوز جودتها 50% بالنسبة للأدوية السورية. الكمية التي لدينا نفذت، طلبنا من الدولة تزويدنا بالمواد الأولية لكي ننتج فلم تقبل، طلبنا رفع سعر الدواء لكن وزارة الصحة رفضت، التصدير ممنوع إلا في حال تغطية السوق المحلية، وزير الصحة صرح الدواء خط أحمر ولن يتم رفع سعره ولكن دون أي إجراءات أو تجاوب.”
تراجع عدد المعامل السورية المنتجة للدواء منذ بداية الحرب السورية عام 2011 من 63 إلى 42 معملاً، حيث توقفت العديد منها عن الإنتاج، بسبب الخسارة الشديدة مع بداية الأزمة، لكنها عادت إلى العمل حالياً وارتفعت أعدادها لتبلغ 96 معملاً وفقاً لوزير الصحة السوري الدكتور نزار يازجي في تصريح لسبوتينك في عام 2019.
ووصل عدد معامل الأدوية في سوريا إلى نحو 70 معملاً عام 2011 تنتج أكثر من 8000 صنف، تغطي 93% من احتياج السوق المحلية مع فائض يصدر إلى أكثر 44 دولة. فحسب إحصائيات اتحاد منتجي الدواء العرب حتى عام 2011 كانت سوريا تحتل المرتبة الثانية عربياً، من حيث تصدير الدواء، بقيمة تبلغ 210 ملايين دولار، بعد الأردن التي سجلت 370 مليون دولار، ثم مصر والإمارات.
وحسب الأرقام الرسمية، فإن هذه الصناعة تضررت في الحرب كباقي القطاعات الأخرى، وكان نصيبها خروج أكثر من 19 معملاً من الخدمة، وتراجع الإنتاج بنسبة 75%، مع توقف عشرات المعامل وما استمر منها عمل بربع طاقته الإنتاجية. وخلال العامين الماضيين ومع عودة الاستقرار إلى محيط العاصمة دمشق ومدينة حلب بدأت بعض المعامل بالعودة تدريجياً إلى الإنتاج، كما منحت الحكومة نحو 92 ترخيصاً لإنشاء معامل جديدة، وما زال السوريون يعانون من نقص حاد تتجاوز نسبته 70% من حاجة السوق من الأدوية والمنتجات الصيدلانية، إضافةً إلى مشكلة تدني فعالية الدواء المحلي.
فعالية الدواء المحلي لا تتعدى 10 بالمائة عن جودتها قبل الحرب
تراجعت فاعلية الأدوية المحلية وأصبحت شبه معدومة حسب الصيدلانية “مها الخطيب”: “فاعلية الأدوية اذا أردنا مقارنتها مع ما قبل 2011 أصحب شبه معدومة ولا تتعدى 10 % عما كانت عليه قبل الحرب، ومما أثر على ذلك مصدر المادة الفاعلة كانت أوربية والآن المصدر الهند، وضعف الرقابة، كما أن المعامل تخفض كمية المادة الفعالة في الدواء لكي تعوض خسارتها.” وأضافت: “أن الشركات تلتف على قرارات وزارة الصحة التي لا تسمح برفع سعر الدواء كونه “خطاً أحمر” وتتحاشى الخسارة، وتقوم بإيقاف إنتاج أصناف دوائية علاجية كفيتامين الأعصاب وغيرها على أهميتها الصحية، واستبدالها بمتممات غذائية لأنّ أسعارها أغلى، إذ لا يجوز تحويل منتج دوائي علاجي إلى متمم غذائي بحسب تعليمات الوزارة، التي توفر إمكانية تعويض خسارة الشركة من خلال التصدير للخارج. مثال فيتامين الأعصاب كان يباع 190 ل.س وبعد أن غير ترخيصه لمتم غذائي أصبح سعره 2200 ل.س.”
وأضافت “الخطيب” أن “شركة “تاميكو” التابعة للدولة مفقود لديها السيتامول والأدوية المزمنة الأخرى، وتجبرك بعض المستودعات على أخذ دواء منتهي الصلاحية وكاسد لكي تعطيك دواء آخر. لدينا أكثر من 80 معملاً ولا يوجد مواد أولية فلماذا لا تقوم الدولة بتوفير المواد الأولية وتبقى الأسعار على حالها، يوجد أدوية مقطوعة منذ سنتين لم يتم إنتاجها الا عندما تم رفع سعرها، يوجد أدوية ارتفعت 500% مثل أدوية الأمراض النفسية”، وختمت حديثها: “كل واحد بديرة المعامل والوزارة والنقابة والصيادلة والمواطن والبنك المركزي، لا يوجد تنسيق لكي نصل الى نتيجة”.
In a webinar dated 12 May 2020, Villanova University Scholar and Jadaliyya Syria Page Co-Editor Samer Abboud examined the emergent “illiberal peace” in Syria. The absence of an internationally mandated or internally negotiated peace process, he argued, has allowed the Syrian regime to craft an illiberal peace as an outcome to the nearly decade-long conflict. This illiberal peace is shaped through a politics of exclusion in which Syrian society is bifurcated into the loyal and disloyal through processes of reconciliation, settlement, and new legal regimes of citizenship. Click below to watch the recording of the talk.
أكثر من 72 حريقاً خلال شهر واحد في السويداء قطعت الشك لدى الجميع بأن أسبابها ليست طبيعة، لكنها أعادت إلى الواجهة خلافات عميقة وقسمّت الآراء بين طرفي الصيغة السورية المشهورة (موالاة_معارضة) في محاولة الجواب عن سؤال من يقف وراءها ومن المستفيد منها؟
ما يجمع الآراء الآن أن النار تلتهم محاصيلهم دون تفرقة بين موال ومعارض، إلا أنهم ورغم ذلك ما يزالون على نفس الخطى القديمة في تفسير ما يجري و تبادل الاتهامات عن مسؤولية ما يحدث. ما يثير الاستياء حقاً هو تكرار نفس التبريرات والجمل والمحاجات وكأن ما مرّ على السوريين من أهوال الحرب لم يغير في لغتهم ومواقفهم أي شيء؛ فما يزال وليد جنبلاط برأي البعض هو المسؤول عن افتعال أي مشكلة في السويداء ويدعمه ويقف خلفه بحكم الضرورة الإسرائيليون وتتوسع دائرة الاتهامات لتصل حداً لا معقولاً فإحدى صفحات الأخبار المحلية نشرت إشاعة مفادها أن ترامب أمر بحرق قمح السويداء ليزيد الضغط على الحكومة السورية مع اقتراب تطبيق قانون سيزر في أول شهر حزيران. أيضاً الأسطوانة نفسها نجدها في الطرف المقابل الذي يتهم عملاء إيران والميليشيات وتجار الأزمات بالوقوف خلف تلك الحرائق، وإن صح ما يدعيه هؤلاء أحياناً من جهة تحليل الموقف وقراءته بالنظر للجهة المستفيدة إلا أن ردات الفعل لم ترق حتى لأبسط أشكال اتخاذ القرارات الصحيحة والتي طالت هذه المرة قوت يوم الناس وأرزاقهم بشكل فج ومباشر واقتصرت على بعض الاتهامات والمناكفات هنا وهناك، وخصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي حيث تم أيضاً إنشاء صفحات ومجموعات متنوعة تحت أسماء ارتجالية كمجموعة “خنقتونا وحرقتونا وحطمتونا”، والتي دعت مؤخراً لوقفة احتجاجية بساحة المدينة أمام مبنى المحافظة للتعبير عن رفض ما يحصل ومطالبة الحكومة بتحمل مسؤوليتها ومحاسبة الفاعلين.
أبو أمجد، فلاح ستيني، احترق محصوله هذا العام، لكنه رفض المشاركة بهذه الاحتجاجات واعتبرها مهزلة لا طائل منها، ويقول والغصة واضحة في حنجرته: “كفانا كلاماً وحركات ودعوات فارغة لا نفع منها، تعبنا وأرزاقنا ليست شماعة ليستخدمها هؤلاء للظهور والخطابات الفارغة، لو أن الدعوات بتشكيل فرق حراسة ونواطير قد تم أخذها بشكل جاد لما وصلنا إلى هنا.” ويضيف: “بعد كل تلك السنين يطلبون من الجهة المتهمة أن تكون هي المسؤولة عن حمايتهم بدل أن تشكل مجموعات حراسة تقطع الطريق على تخريب أي شيء وتحمي أرزاق الناس من الحرق، لدينا في المحافظة عشرات الميليشيات المسلحة التي لم نر عنصراً واحداً منها في مهام كهذه وكأن ما يجري لا يعنيهم، ما لم تتحرك الناس لحماية أراضيها بقوة السلاح سوف تبقى الحرائق تتجدد هنا وهناك دوماً، فلنحمي الأرض أولاً وبعدها فلنحتج كما نشاء.”
وبالرغم من بعض المبادرات التي قامت بها بعض القرى بإنشاء دوريات حراسة إلا أن التجربة لم تعمم على كافة المناطق وجاءت متأخرة كثيراً في مناطق أخرى بعدما التهمت النيران مئات الدونمات ومئات الأشجار أيضاً للسنة الثانية على التوالي.
باتت لا تطاق الطريقة المُبسطة للبعض في طرح الموضوع والتعامل معه ولا تختلف بين الحكومة ومعارضتها، فنجد مثلاً من يخرج علينا على الشاشات ليحلل هل فعلاً الحرائق مفتعلة أم لا، وإذا كانت كذلك فمن المستفيد، ليتحفونا في آخر المطاف بأن الفاعل لا بد وأن يكون إحدى العصابات التي لها ارتباطاتها ومصالحها سواء مع جهات في الداخل أو الخارج أو كليهما معاً، مستغلين الموقف في استعراضات فارغة وجعجعة كلامية فارغة. وما بين الدعوة للوقوف في وجه المخططات الغربية للنيل من سوريا وصمودها من جهة، والدعوة لأحرار السويداء بالانتفاض والثورة على السلطة المستبدة من جهة أخرى، تتوسع دائرة النيران التي لم يخبرنا أحد سبل إيقافها.
يبقى ميزان الكلام ما يقوله الناس المتضررون على أرض الواقع وقد وقفوا عاجزين أمام لهيب يحرق كل شيء أمام أعينهم ووصل رماده إلى حناجرهم. الكل غاضب ويشتم بأعلى صوته، حكوا كثيرا عما يحدث، فمثلاً فارس (فلاح، 42 سنة) يمتلك جراراً زراعياً وقد شارك بإخماد الحريق الذي أتى على 100 دونم مزروعة قمح يملكها مناصفة مع أخيه، ويقول فارس عن نكبته: “خسارتي لا تعوض هذا العام فثمن البذار وتكاليف الحراثة بلغ قرابة المليون ليرة وخسارتنا في المحصول تقدر بحوالي 3 مليون هي كل ما كنا نحلم به لتأمين موسم هذا العام يقينا الجوع والحاجة”، ويتابع شكواه قائلاً: “نحن فلاحون أباً عن جد ولم يحدث أن اندلعت النيران في حقولنا ولا مرة، لكن السنة الماضية وهذه السنة هناك من يقوم بإحراق المحاصيل عمداً، لا أحد فعلياً يمكنه إثبات أو تأكيد أي اتهام لأي جهة كانت، لكن برأيي الشخصي أن شركات القمح الروسية هي من يقف وراء الحرائق كونها المستفيد الأكبر من ذلك.”
وبالفعل هناك كثير من الآراء التي تؤيد رأي فارس حيث بات من المعروف أن سوريا تستورد كميات كبيرة من القمح الروسي وبخاصة في السنوات الأخيرة، إلا أن كميات الأمطار الجيدة والاستثنائية في السنتين الأخيرتين كانت ستقلب الموازين وتشكل تهديداً لسوق تلك الشركات على حد رأيهم.
إلا أن سعيد (37 سنة، مدرس) لا يتفق مع هكذا طرح ويقلل من أهميته، فيقول: “لروسيا مصالح ومكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية هائلة في سوريا منذ أن تدخلت في الحرب السورية واستولت على مفاصل البلد الحيوية واستثمرت في الموارد السورية بعقود طويلة وما يهمها في النهاية هو الحفاظ على الهدوء والاتفاقات والمصالحات التي رعتها وأبرمتها في كثير من المناطق السورية ولا أظنها تسعى لمقايضتها لتبيع بعض القمح وتفتعل مشكلات وتوترات هي في غنى عنها.” ويتابع سعيد موضحاً: “برأيي أن الموضوع ليس أكثر من رسائل سياسية تريد إيران وأتباعها على الأرض أن يوصلوها للآخرين بأنهم لن يجلسوا متفرجين وهم يرون محاولات إخراجهم من الملف السوري، وخاصة بعد ما يشاع مؤخراً عن تنسيق دولي بدعم روسي لقطع طريق طهران بيروت عبر البادية والقيام بعملية عسكرية كبيرة للسيطرة على مناطق نفوذ الميليشيات التي تدعمها إيران انطلاقاً من الحدود العراقية شرقاً إلى حدود إسرائيل جنوباً، وهو ما يفسره أيضا ًعودة داعش وخلاياها النائمة للنشاط في أكثر من مكان في البادية السورية مع اتهام الحكومة بإطلاق سراح بعض العناصر والقيادات المحتجزة لديها بالتزامن مع تقديم تعزيزات عسكرية من الميليشيات العراقية للمناطق الشرقية وإعادة انتشار وتموضع للقوى الإيرانية ولحزب الله وخصوصا في مناطق الجنوب والبادية.”
وفي نفس السياق يقول عامر (40 سنة، موظف) أن “إحدى أهم سياسات إيران في التعامل مع الملف السوري هي محاولة الدخول في النسيج الاجتماعي للمناطق التي تريد فرض سيطرتها عليها ويتم ذلك بطرق كثيرة منها التشيع والمشاريع الاقتصادية وشراء الولاءات مروراً بإنشاء عصابات تقوم على تخريب وتفكيك العلاقات داخل المجتمع ونشر الخوف والترويع بين السكان، إضافة إلى الترويج لأعمال مشبوهة كتجارة المخدرات وتعاطيها وتهريب السلاح والخطف والسرقات وغيرها مما يجعل المجتمع مفككاً وضعيفاً ويسهل السيطرة والتحكم به واستخدامه كورقة ضغط إن اقتضى الأمر فيما بعد.” وهذا ما يراه عامر اليوم سبباً مباشراً لافتعال الحرائق في أرزاق الناس في أغلب المناطق السورية من حقول الجزيرة شمالاً حتى حوران جنوباً لإيصال رسالة واضحة للجميع بمدى نفوذ وقوة إيران على الأرض.
لدى يارا (46 سنة، صحفية) وجهة نظر مختلفة فهي لا تستبعد كل تلك الأسباب والاحتمالات السابقة إلا أنها تعتقد: “أن ما يجري ناجم عن استكمالاً استمرار إدارة البلاد ومتغيرات الأحداث على الأرض بنفس الذهنية والعقلية الأمنية والتي غالباً ما تعتمد على زيادة التوتر وافتعال مشاكل جديدة لتبرير الحالة الكارثية التي وصلت إليها سوريا وخصوصاً أن الانهيار الاقتصادي المتسارع وغلاء الأسعار بات حملاً لا يقدر أحد على تحمله ولا تقدر الحكومة أيضاً على إيجاد أي حل له. بالإضافة أن ما يجري في الآونة الأخيرة من خلافات بين رامي مخلوف والرئيس تندرج ضمن نفس السياق، وأن هذا الخلاف له أثر مباشر على الاقتصاد في بلد كسوريا فربما يكون إخراج هكذا خلافات للعلن له غاية واضحة في جعله شماعة للخراب الاقتصادي الحاصل وتحميله كل النتائج التي يمكن أن تتطور إليها الأحداث خصوصاً وأن رامي مخلوف في مشهد الحطب من خلفه كان قد هدد جهاراً بكوارث لتطال الاقتصاد السوري فيما لو أزيح من المشهد، وهذا ما بتنا نسمعه في الشارع ويردده الكثيرون اليوم من أن الغلاء وتدهور سعر صرف الليرة وحتى الحرائق هي من أفعال رامي مخلوف.” وتضيف يارا: “صحيح أن الحرائق قد طالت العديد من المناطق السورية إلا أن للسويداء حصة مختلفة ووضعاً خاصا ًحيث أن ما يجري ليس إلا عقاباً واستكمالاً لحالة الإهمال والإفقار المتعمدة تجاه المحافظة التي آثرت اعتماد بعض الحياد في المقتلة السورية رافضة إرسال أبنائها للخدمة العسكرية.”
قد تطول الرواية في سرد تداعياتها واستعراض أسبابها ومن يقف وراءها ويستفيد منها، لكن كل ذلك يبقى بعيداً عن إيجاد حلول عملية للمشكلة، ومن البديهي أن الحكومة هي المسؤولة عن حفظ الأمن العام والغذائي في البلد وأن المسؤولية الأكبر تقع على عاتقها، لكن من غير البديهي مطلقاً الانتظار والأمل منها أن تؤدي ذلك الدور، أو الخروج بوقفات احتجاجية للتنديد بتقاعسها بحماية الناس فقط، المطلوب اليوم هو حماية المحاصيل بأي ثمن لحين الانتهاء من العمليات الزراعية.
“قرر الفريق الحكومي المعني بإجراءات التصدي لوباء كورونا خلال اجتماعه اليوم إلغاء حظر التجول الليلي المفروض بشكل كامل”. بهذا التصريح المقتضب طالعت الحكومة السورية شعبها بقرارها الصادر عن ما تسميه “الفريق الحكومي المعني بإجراءات التصدي لكورونا”، لكن غاب عنها أن التسمية خاطئة من أساسها، كان الأجدر بها تسميته “الفريق المعني بمكافحة الوباء”، لا التصدي له في بلد تمارس فيه “لجنته المتصدية” تجاوزات وأخطاء وحدها كفيلة بانتشار الفايروس في أي لحظة، ما لم يتم تعديل معظم الإجراءات الارتجالية الحالية، والسابقة، وغالباً اللاحقة.
بتتابع لحظي تكفلت صفحة رئاسة مجلس الوزراء السوري، على موقع Facebook، بنشر كل ما صدر من قرارات عن الفريق الحكومي، وسرعان ما نشرت قرارهم الثاني المتعلق برفع حظر التنقل بين المدن، وبين المدن والأرياف، وكذا القرار المرفق بالسماح بفتح المحلات التجارية من الثامنة صباحاً وحتى السابعة مساء. ولم تنس الحكومة أن توجه صفعة للسوريين العالقين في الخارج حيث “تقرر استمرار قرار تعليق قدومهم إلى إشعار آخر، على أن يتم مناقشة هذا الموضوع بعد معالجة جميع الحالات وانتهاء مدة الحجر للمتواجدين في مراكز الحجر”. وكذلك الداخلون إلى سوريا بطرق غير قانونية، فهؤلاء يحجرون لـ14 يوماً، ثم يتم تحويلهم للقضاء، وأيضاً إعادة دوام الجامعات التي يصل تعداد طلاب بعضها إلى عشرات الآلاف، وذكر الفريق أن دوام الجامعات يبدأ من التاسعة والنصف صباحاً، وحتى التاسعة والنصف مساء، وهو أمر غير مسبوق حتى قبل بداية الحرب في سوريا.
إلى جانب كل ما ذكر، أصدرت الحكومة الكثير من القرارات المتعلقة برفع الحظر وآليته، وهي بمجملها قرارات متخبطة، وبعضها متناقض، على ما يقول الكثير من الناس، ومنهم رؤى التي تشكو: “الحكومة تقرر، والشعب ينفذ، والكورونا على وشك أن ينتشر” وتضيف: “خلص إذا بدهم يانا نموت منزت حالنا تحت شي سيارة، مو حابة اعطيهن فرصة ليموتوني بالكورونا”.
قد يكون ما ذكر أعلاه من قرارات مقبولاً لدى بعض السوريين، ولكن قسماً كبيراً رفضه، وعبر عن رفضه على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت منبراً ومكاناً يؤخذ به لقراءة المزاج العام، سيما في سوريا، حيث لا منابر أخرى ليعبر الناس فيها عن آرائهم، ولكن الحكومة تركت الباب مفتوحاً لاحتمال إعلان حظر تام وكامل في أي لحظة، وفق المتغيرات وأهميتها، على ما قالته في تصريح لاحق.
رفض واستنكار
قد يكون لا حصر لما قاله السوريون هازئين بالقرارات هذه، متسائلين كيف يُرفع الحظر وقد بلغ مصابو سوريا بالفايروس 122 مواطناً، بينما كان الحظر مطبقاً بشدة منذ نهاية آذار\مارس وحتى 15 أيار\مايو، حيث سجلت البلاد لذاك التاريخ 50 إصابة فقط، وبعدها سجلت أكثر من 70 إصابة في 12 يوماً، فرفع الفريق المعني الحظر دفعةً واحدة.
” يا أما نحن عايشين ببلد وحكومتنا ببلد تاني، أو أن حكومتنا مبسوطة بالكورونا وحابة تجربه”، يقول ماجد مكملاً: “خلص وصلنا لمرحلة ما بقى قادرين نفهم الحكومة ولا نتفاهم معها، كيف عندن كل هالقدرة يجربوا فينا”. ولا تختلف ريم مع ماجد، فهي ترى أيضاً أن ما يحصل غير منطقي متسائلة عن آلية هذه القرارات: “مين أعطى لهاد الفريق صلاحية التجريب والاجتهاد، هاد وباء عالمي أصاب الملايين، على شو معولة حكومتنا، على وعينا، طيب نحن أثبتنا أننا بلا وعي، شوف مناظر الطرقات بعد ما انرفع الحظر”.
المتنفس الأزرق
اللافت في بعض التعليقات والتدوينات على موقع Facebook هو جرأة الناس على رفض كل ما يحصل، وعادة لا يحصل هذا في بلد كسوريا، واتضح ذلك من تعليقاتهم المباشرة على صفحة رئاسة مجلس الوزراء، حيث قال محمد أشرفي في تعليق له: “يا عمي خلصونا بقى من كورونا، واجتمعوا لتوقفوا انهيار المواطن، اجتمعوا لتوقفوا انهيار البلد، اجتمعوا واعملوا أي شي منيح، مشان الله لا بقى تجتمعوا مشان كورونا”. أما أسماء الدغيم فكتبت: “حلو، بيعدوا بعض وبتنتشر الكوارث، برافو”. وعلاء الدين لم يوفر فرصة للتندر على الفريق قائلاً: “3 إصابات: حظر تجول ووقف الشغل والمدارس والجامعات وكل الحياة أما122 إصابة: الغاء حظر التجول ورجعت الجامعات ووسائل النقل”، وختم تعليقه: “مين لعبان بإعدادات سوريا”. وهنا وجد الكثير من السوريين العالقين في الخارج مكاناً لإرسال آمالهم لحكومة بلادهم أن تعيدهم بسرعة إلى وطنهم، كما قالت شامية علبي: “رجاء ساعدونا بالعودة إلى الشام نحن الزوار العالقين في السعودية بدنا نرجع لعائلاتنا ووظائفنا بسوريا”.
بعض القبول
في تعليقها على صفحة رئاسة الوزراء قالت غزل: “أحلى خبر، أي هيك ها”، أما ريمه الفائز فقد كانت سعيدة: “صار فيي اطلع ع اللاذقية أخيراً”، وتساءل محمد عبيد في تعليق لا يخلو من السخرية: “يعني هلأ منطلع لبرا ونمشي قدام دوريات الشرطة وما بيحاكونا”.
لارا واحدة من المعجبين بالقرارات الصادرة، وتعتقد أن خنق الشعب كما حصل خلال فترة الحجر لن يفيد بشيء، وتقول لنا: “بدنا نتنفس، رح نموت ببيوتنا من الخنقة، يعني خلص شو رح نستفيد، هيك هيك العالم شالحة الكمامات ولا متقيدة أبداً بمعايير السلامة الصحية”. ويتفق مازن معها في تصريحه لنا: “ليش الحبسة بالبيت إذا في عالم خير الله برا مو قابضة القصة وعم تتابع حياتها ولا كأنو في شي”، وتساءل مازن: “انحجر واحبس حالي والعالم برا كأنها ناطرة الكورونا، أي خلص ما بتروح غير عليي شهرين قاعد بالبيت والناس برا بلا وعي”.
الوعي السوري مع وقف التنفيذ
ما أن أعلنت الحكومة الحظر في نهايات آذار\مارس الماضي، حتى راح السوريون يبحثون عن أول شيء يهمهم، وهو استثناء التجوال وغيره من الاستثناءات التي كانت تمنح غالباً بناء على العلاقات والمعارف، وكأن إجراءات الحكومة كانت من باب الخجل أمام دول العالم، غير المكترثة أصلاً؛ ففي الأيام الثلاث الأولى كانت وزارة الداخلية تنشر يومياً أعداد من تم توقيفهم لخرق حظر التجوال، ولكن فجأة توقفت أخبار هؤلاء الذين يجب إيقافهم إذا ما خرقوا الحظر، يبدو أن الفريق إياه قد اقتنع بأن الكثير من الإجراءات مبالغ فيها، فالسوري يكفيه ما يكفيه مما عاشه خلال السنوات الماضية.
صار بعض الناس يستمتعون بخرق الحظر، فالسوري في الداخل يستلذ بأفعال بعينها وهي ظاهرة سورية غير سليمة وترتبط بمفرزات الحرب: “كوصف نفسه بأنه لن يتجرأ أحد عليه”، وعلى هذا نقيس، فشوارع النهار مزدحمة أيما ازدحام، ففي الشهر الأول من الحظر كان يمكن أن تشاهد ارتفاعا نسبياً في معدل ارتداء الكمامة والقفازات بين الناس، في الشهر الثاني صرت محتاجاً للبحث والتدقيق لتعثر على شخص يرتديها، المسألة مرتبطة بالوعي، وربما بحالة التنصل من المأساة، كما أشار “فرويد” مراراً في مؤلفاته.
المأساة الكوميدية
هل يمكن تصديق أن الناس خرجت لتحتفل بإلغاء الحظر، نعم، سجل ناشطون مقطعا مصوراً يظهر آلاف السوريين متجمعين في حي الشعلان الدمشقي وهم يرقصون ويمرحون محتفلين بقرار الحكومة. هؤلاء عينة حقيقية لم تدرس أبعاد القرار، ولا يعرفون من أصدره غالباً، ولكنهم سعيدون على مبدأ الأعمى الذي يقود أعمى، فكل تجمع ولو بدأ صغيراً فسيكبر ويكبر، فضول السوريين يفعل أكثر، ولو أنهم قاربوا الأمر من زاوية أخرى، فهم كان مسموحاً لهم بالتحرك أساساً لغاية السابعة والنصف مساء، ولكن العتب على حكومة جعلت كثيراً من رعاياها يقبلون ما لا يفهمونه.
الحكومة في واد والشعب في واد
ليست هذه أول مرة تصدر فيها الحكومة قرارات “اعتباطية”، وأكيد أنها لن تكون الأخيرة، وقد يكون من الظلم في مكان تعميم الأمر على جميع الوزراء فيها، فثمة وزراء يقومون بعملهم التنفيذي بجدية بعيداً عن الحياة اليومية المباشرة، ولكن هذا ليس موضوع بحثنا، المهم في الأمر هو ما يقوله الناس في الطرقات، لا أحد راض، لا أحد مرتاح، حس الانتقاد بلغ مستويات غير مسبوقة، لقمة العيش لدى الجميع هي الأولوية هذه الأيام. ورغم ذلك فإن ما يحصل في ملف فايروس كورونا ينذر بوقائع سوداء، على اعتبار أن أدنى حقوق السوري أن يسأل عما يحصل مؤخراً، فكيف يخرج شخص من الحجر الصحي الذي يستمر 14 يوماً، يخرج ليكتشف لاحقاً أنه مصاب بالفايروس بعد أن خالط من خالطهم. حصل هذا قبل أيام فعلاً، ومثله ربما حالات ستتكشف مع الأيام، وربما لا، العلم عند الحكومة ، والتي حاولت مستدركةً تحت ضغط الناس أن تبرر الأمر بتصريح يقول: “نتيجة التحليل للحالة الأخيرة كانت سلبية، وعاد للمنزل، ثم ظهرت عليه الأعراض، وتبين إصابته بالفايروس، فقمنا بعزله”، ولكن بعد ماذا، بعد اختلاطه بأهله وسواهم. في حين أشارت “منظمة الصحة السورية”، وهي منظمة محلية غير رسمية أن “هذه الحالة بالتحديد غير مبشرة بالخير، فاحتمال أن يكون هناك عدة حالات مشابهة بين الذين تم تخريجهم من الحجر، وبالتالي من الممكن قريباً أن نرى الكثير من الإصابات المحلية”، وأكملت المنظمة: “نحن اليوم أمام خطر أكبر من ذلك الذي كان مع تسجيل أول إصابة، وقتذاك خضعنا لكثير من إجراءات الحظر ونسبة لا بأس بها من الالتزام، لكن اليوم نحن أمام احتمال انتشار الوباء دون قوانين مساعدة”. ومن باب المنطق يسأل الناس كيف يخرج من لديه واسطة من الحجر بعد 3 لـ 4 أيام فقط، حتى في هذه هناك وساطات (توصيات) في بلد الوسايط؛ فيوماً بعد يوم يتكشف أن كل شيء في هذه البلاد محكوم بالمعارف حتى الكورونا، الفايروس الذي يخشى خبراء انفجار إصاباته بأي لحظة. في ظل كل تلك المعطيات التي صارت أمراً واقعاً في بلد غير مهيأ لأي حدث طبي أكان بسيطاً أم خطيراً، فالإمكانيات الطبية تكاد تكون معدومة، وهذا ما تجلى من سوء مراكز الحجر والتأخر في أخذ المسحات الطبية والكثير من الأمور التي لا تبدأ من الأدوية ولا تنتهي عند التجهيزات.
إذن، الحكومة كعادتها رمت الكرة في ملعب السوريين، وكأنها تقول لهم، النجاة فردية، كل شخص فيكم مسؤول عن نفسه، مُتم أم عشتم، هذه قضيتكم وحدكم.
أسفر النزاع السوري، بعد 9 سنوات على اندلاعه باحتجاجات سلمية، عن 3 أنواع من الظلم: أحدها بأثر رجعي، والثاني بأثر حالي، والثالث بأثر مستقبلي. وكان أحد تجلياته ارتفاع قيمة الخسائر الاقتصادية إلى أكثر من نصف تريليون دولار أميركي، وإلحاق الضرر بنحو 40 في المائة من البنية التحتية، إضافة إلى انحدار 86 في المائة من الناس داخل سوريا، البالغ عددهم نحو 20 مليوناً، إلى ما دون خط الفقر.
المفاجأة المؤلمة الأخرى أن إحصائية جديدة لعدد الضحايا كشفت ارتفاع عددهم إلى نحو 700 ألف شخص، ما يعني ضعف العدد المتداول من مؤسسات أممية، استناداً إلى أرقام صدرت قبل سنتين. هذه الأرقام – الضحايا تتعلق بالماضي. أما المفاجأة الأخرى، فهي تتعلق بالمستقبل، وتأتي من الكشف عن وجود أكثر من 3 ملايين طفل سوري (داخل وخارج سوريا) خارج المدارس. وهذا يساوي تقريباً نصف عدد الأطفال السوريين الذين هم في عمر التعليم؛ نصف هؤلاء يعيشون مع أهلهم في مناطق النزوح واللجوء التي تضم نحو 13 مليوناً.
ترتيب سوريا عالمياً
في ظل أن سوريا هي «الكارثة الإنسانية الأكبر» منذ الحرب العالمية الثانية، حسب تصنيف أممي، ليس غريباً أن تكون مؤشراتها تدل على ذلك، إذ تقع في المرتبة 128 (من أصل 129 دولة) في مؤشر «التحول لقياس الحوكمة»، وفي المرتبة 180 (من 189) في مؤشر «التنمية البشرية»، وهي «في أسواء ترتيب في مجال حماية الطفل»، وفي الموقع 174 (من أصل 180) بالنسبة إلى حرية الصحافة.
ظلم ثلاثي
كانت هذه بعض خلاصات بحث أعده «المركز السوري لبحوث السياسات»، بعنوان: «العدالة لتجاوز النزاع – تقرير آثار النزاع السوري»، بعد سنوات من العمل، ليكون مرجعياً للمؤسسات الأممية والحكومات العربية والأجنبية عن آثار النزاع السوري، بعد 9 سنوات من اندلاع احتجاجات درعا في ربيع 2011.
يقول البحث إن النزاع أوجد 3 أنواع من الظلم: «الأول، ظلم ذو أثر رجعي، يتجلى في تدهور ما تراكم من الثروة الحضارية، المادية واللامادية، وتدميرها. والثاني، الظلم الحالي الذي يمثل إنتاج الظلم الآن. والثالث، الظلم المستقبلي، حيث تضفي قوى التسلط الطابع المؤسسي على البنى والعلاقات والاقتصادات، فتصنع هذه القوى مقومات الظلم المستقبلي».
ظلم اقتصادي
أدّى النزاع إلى ظهور اقتصادات مختلفة ومجزأة «داخل الدولة المتشظية»، حسب التقرير الذي يقول إنها «حوّلت المقومات الاقتصادية إلى مصادر لاستدامة العنف، من خلال تدمير جزء كبير من رأس المال، أو إعادة تخصيصه لأنشطة مرتبطة بالنزاع».
ويقدّر التقرير الخسائر الاقتصادية للنزاع حتى نهاية عام 2019 بنحو 530.1 مليار دولار، بالمقارنة بالسيناريو الاستمراري، ما يعادل 9.7 ضعف الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010، بالأسعار الثابتة. ويشمل هذا الرقم الخسارة في الناتج المحلي البالغة 420.9 مليار، والزيادة في الإنفاق العسكري بنحو 37.8 مليار، والأضرار التي لحقت بمخزون رأس المال، وقدرها 64.6 مليار، إضافة إلى الإنتاج غير الرسمي للنفط والغاز، المقدر بـ9.9 مليار. وخلال الفترة ذاتها، شهد الدعم الحكومي تراجعاً مطرداً، كنسبة مئوية من الناتج المحلي بالأسعار الجارية، من 20.2 في المائة في 2011 إلى 4.9 في المائة في 2019. ونتيجة لذلك، انخفض عجز الموازنة العامة مع الدعم من خارج الموازنة من 23.6 في المائة إلى 8.8 في المائة.
وكان مسؤولون روس قد قالوا قبل 3 سنوات إن كلفة إعمار سوريا ربما تصل إلى 400 مليار دولار، في حين قدرها البنك الدولي بنحو 300 مليار دولار قبل 3 سنوات. لكن منذ ذلك الوقت، توقفت الدراسات عن الملف السوري، مع تراجع الاهتمام الدولي به، وإن كان الصراع قد تفاقم، واستمرت العمليات العسكرية فيه، وهي بين صعود وهدوء يضبطه تفاهم الفاعلين الخارجيين.
ومنذ تدخل الجيش الروسي في نهاية 2015، استعادت قوات الحكومة، بدعم روسي وإيراني، مساحات واسعة، ارتفعت من 10 إلى 64 في المائة، في حين تقع مساحة 26 في المائة منها تحت سيطرة الأكراد المدعومين من التحالف الدولي بقيادة أميركا. وتسيطر فصائل مدعومة تركياً على نحو 10 في المائة.
وباتت «مناطق النفوذ» الثلاث إلى حد ما مستقرة من حيث السيطرة، لكنها تعاني من مشكلات اقتصادية متشابهة. ورغم انخفاض قيمة الليرة بدءاً من 2011، عندما كانت 46 ليرة للدولار، شهدت موجة أخرى من الانخفاض، بنسبة 43 في المائة في سبتمبر (أيلول) الماضي مقارنة بشهر يوليو (تموز) 2018، إذ سجلت الفترة بين أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ويناير (كانون الثاني) 2020 تسارعاً في تدهور قيمة العملة، ليصل إلى 96 في المائة في 16 يناير (كانون الثاني) مقارنة مع 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ويبلغ سعر الصرف حالياً نحو 1700 ليرة للدولار الأميركي.
وسجّل إجمالي العمالة انخفاضاً حاداً في أثناء النزاع، من 5.184 مليون عامل إلى 3.058 مليون، وارتفع معدل البطالة من 14.9 في المائة إلى 42.3 في المائة، وفقد سوق العمل 3.7 مليون فرصة عمل، ورفعت الخسارة الضخمة لفرص العمل نسبة الإعالة الاقتصادية من 4.13 شخص لكل مشتغل في عام 2010 إلى 6.4 شخص في عام 2019.
مظلمة بشرية
ارتفع عدد السكان داخل سوريا بمعدل 0.9 في المائة في عام 2018، و1.1 في المائة في عام 2019، ليصل العدد إلى 19.584 مليون نسمة في عام 2019. وتسبب النزاع في نزوح قسري لأكثر من 5.6 مليون شخص بحثاً عن الأمان في لبنان وتركيا والأردن، ودول مضيفة أخرى. ووصل عدد النازحين داخلياً بحلول أغسطس (آب) الماضي 6.14 مليون، و«هو أكبر عدد من النازحين داخلياً بسبب نزاع في العالم». ويقول «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» (أوتشا) إن 11.7 مليون شخص في سوريا يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية والحماية.
وأدّت العمليات العسكرية الأخيرة في إدلب إلى نزوح أكثر من مليون شخص باتجاه حدود تركيا. ويضمّ شمال غربي سوريا 3 ملايين مدني، نصفهم على الأقل مهجَّر مرة واحدة على الأقلّ، حسب الأمم المتحدة.
وحصل أكثر من 3.6 مليون لاجئ سوري في تركيا، منهم نصف مليون في إسطنبول وحدها، على حماية. لكن اللاجئين السوريين يعانون في بلدان أخرى، مثل لبنان الذي يستضيف نحو مليون لاجئ سوري، وروج للعودة بلا هوادة، واتخذ خطوات فعالة للحدّ من تدفُّق اللاجئين.
والمعاناة تشمل أيضاً الموجودين داخل البلاد، إذ بلغ معدل الفقر ذروته عند 89.4 في المائة في نهاية عام 2016، وانخفض في عام 2019 إلى 86 في المائة. وأدت الأزمة الاقتصادية في لبنان إلى تفاقم الوضع الاقتصادي. كما أضافت جائحة «كورونا» أعباء ضخمة على الأسر السورية، وأدت إلى ارتفاع كبير في معدلات الفقر والبطالة، مقارنة بعام 2019. ومن المتوقع أن يؤدي «قانون قيصر» الأميركي الذي يبدأ تنفيذه في منتصف يونيو (حزيران) المقبل، وتمديد العقوبات الأوروبية قبل أيام، إلى إضافة أعباء إضافية على الوضعين المعيشي والاقتصادي.
أولوية الاتفاق العسكري
ترك استمرار النزاع أثره الهائل على السياسات المالية التي تتبناها الحكومة. ولا تزال هذه السياسات تعطي الأولوية للإنفاق العسكري، مما أدى إلى إعادة تخصيص الموارد المتاحة بعيداً عن الأنشطة والخدمات التي يضطلع بها القطاع العام. وسعت الحكومة إلى زيادة إيراداتها من خلال فرض رسوم وضرائب مختلفة، إضافة إلى تحرير أسعار السلع الأساسية، ولا سيما المحروقات، وإلغاء دعمها جزئياً، حسب التقرير.
وكانت إيران قد قالت إنها قدمت ما بين 20 و30 مليار دولار لدعم النظام خلال 9 سنوات. كما طالبت روسيا بتعويضات اقتصادية وسيادية عن مساهمتها العسكرية. وكانت الخسارة الاقتصادية قد شملت التراجع في الإنفاق العسكري بنحو 37.8 مليار.
وانخفض الإنفاق العام على التنمية من 7.3 في المائة من الناتج المحلي إلى 2.9 في المائة في 2019. ويعود السبب في ذلك إلى أن غالبية الإنفاق على التنمية أعيد تخصيصه لينفق على الجوانب العسكرية.
وشهد الإنفاق على الدعم تراجعاً مطرداً من 20.2 في المائة في 2011 إلى 4.9 في المائة في 2019. ووصل العجز الإجمالي للموازنة العامة، الذي يشمل النفقات العسكرية، إلى 33.5 في المائة من الناتج في 2018، و26 في المائة في 2019.
دين خارجي
أدت السياسات المالية إلى حصول عجز ضخم، انعكس في ارتفاع الدين العام الخارجي والداخلي، مما يعني عبئاً كبيراً سيخلّفه النزاع على كاهل الأجيال المستقبلية، وسيتفاقم مع مرور الزمن. فقد ازدادت حصة الدين العام من الناتج من 30 في المائة في 2010 إلى 208 في المائة في 2019. ونجمت هذه الزيادة بصورة أساسية عن الدين الخارجي الذي ارتفع من 7 في المائة من الناتج في 2010 إلى 116 في المائة في 2019.
وازداد الدين المحلي (كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي) من 17 في المائة في 2010 إلى 93 في المائة في 2019. كما تسبب الدين المحلي أيضاً بحصول زيادة كبيرة في معدلات التضخم.
وبما أن القروض أنفقت على النفقات الجارية والأنشطة المرتبطة بالنزاع، فإن البلد سيكون في حاجة إلى مزيد من القروض في حقبة ما بعد النزاع، ما سيرفع الدين العام، ويفاقم حالة الظلم التي تطال أجيال المستقبل، ويطيل أمدها.
جيل ضائع
يستمر السوريون في «فقدان ملايين السنين من التعليم»، إذ بلغ عدد الأطفال ممن يتراوح عمرهم بين 5 أعوام و17 عاماً، ممن هم خارج المدرسة، نحو 2.4 مليون في عام 2019. ويقول البحث: «تعد الحصيلة الحالية كارثية لأن ملايين الأطفال سيعانون من نقص المهارات والمعرفة، بالإضافة إلى الآثار الأخرى للنزاع. كما خلّف النزاع فقداناً في اتساق المناهج الدراسية في أنحاء سوريا، بسبب إنشاء أنظمة تعليمية مختلفة في كل منطقة، بحسب القوى الحاكمة فيها، ووجود 6 مناهج دراسية مختلفة تستخدم في المدارس». وهناك عدد مشابه خارج سوريا. ويوضح البحث: «ضاعت 24 مليون سنة تدريس على السوريين في مرحلة التعليم الأساسي، وهذا يعقد فرص النهوض في المستقبل».
وبحسب تقرير أممي، قتل 5427 طفلاً، وجرح 3739 آخرون، كان بينهم 900 طفل قتلوا في شمال غربي سوريا العام الماضي، بينما جُند في القتال 4619 طفلاً. وقالت «يونيسيف» إن قرابة 6 ملايين طفل سوري ولدوا منذ مارس (آذار) 2011، منهم مليون ولدوا في دول الجوار، وإن 7.5 مليون من الأطفال السوريين يحتاجون إلى المساعدة، 5 ملايين منهم داخل سوريا. لذلك، يجري الحديث عن «جيل ضائع» في سوريا.
700 ألف ضحية
يكشف التقرير ارتفاع معدل الوفيات الخام من 4.4 لكل ألف نسمة في عام 2010 إلى 9.9 لكل ألف نسمة في 2017، و7.0 لكل ألف في عام 2019، ويقول: «هناك 570 ألف قتيل بشكل مباشر، و120 ألفاً بسبب غياب المعدات والأدوية وظروف المعيشة المناسبة».
وكانت إحصائيات سابقة تشير إلى مقتل 384 ألف شخص على الأقلّ، بينهم أكثر من 116 ألف مدني، فيما خلّفَت الحرب عدداً كبيراً من الجرحى والمعوَّقين، إضافة إلى عشرات آلاف المعتقلين والمفقودين. ويدفع المدنيون «الثمن الأكبر»، حسب تصريحات للأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي قال إن الحرب «لم تجلب، بعد عقد من القتال، إلا الدمار والفوضى».
واحتجز أو أُخفِي عشرات الآلاف منذ 2011، ومات آلاف وهم رهن الاحتجاز بسبب التعذيب وظروف الاعتقال الرهيبة. وفي 2019، حدّثَت الحكومة سجلات مئات يُعتقد أنهم فُقدوا أو تُوُفّوا، لكن لم يتلقَّ أي من أسرهم رفات أحبائهم أو معلومات إضافية من السلطات.
تجزئة القرار
لدى قياس «دليل حالة الإنسان» المتعلق بالأداء الديموغرافي والاقتصادي والاجتماعي، وأداء التنمية البشرية والمؤسسات، أشار إلى تدهور المؤشر بنحو 42 في المائة بين عامي 2010 و2019، مدفوعاً بانهيار الأداء المؤسساتي الذي انخفض بنسبة 67 في المائة.
وظهر صراع مستميت بين القوى السياسية الفاعلة، فأثناء النزاع «تعرّضت عمليات صنع القرار للتجزئة والتدويل، إذ شاركت كثير من الجهات الداخلية والخارجية في تحديد الأولويات والآليات المتناقضة، بحسب مصالح كل جهة. واعتمدت الأشكال المختلفة من المؤسسات المتنازعة، المتمحورة حول العنف، استراتيجيات متطرفة أثّرت تأثيراً سلبياً على الإنسان والعلاقات الاجتماعية والموارد، وأدّت إلى إخضاع المجتمعات». ورغم انخفاض حدّة المعارك خلال الفترة الواقعة بين 2017 و2019، فإن كل من قضايا سيادة القانون، والمشاركة، والمساءلة في الحكم، استمرت في التدهور.
وتحدث التقرير عن «التناقضات الكبيرة بين القوى الداخلية الفاعلة الخمسة، بما في ذلك المجتمع المدني، حيث تأتي أولويات العدالة، والحرية، والشفافية، والمشاركة، والديمقراطية، في أسفل قائمة أولويات قوى التسلط، وهذا بدوره يعكس طبيعة الجهات الفاعلة التي تتمحور حول النزاع». وأشار إلى «تعمق العلاقات العضوية بين الفاعلين السياسيين والنخبة الجديدة من القطاع الخاص، التي حولت الثروة (التي نجت من التدمير) إلى مصلحتها الخاصة، من خلال إعادة توزيع قسري غير مسبوق لمخزون رأس المال المادي وغير المادي».
تطبيق خجول
وأشار التقرير إلى «فشل النظام العالمي في حماية المدنيين في سوريا»، لافتاً إلى أن «تطبيق القانون الدولي في أثناء النزاع السوري كان خجولاً، مما أعاق تخفيف معاناة المدنيين، وأسّس لنزاع طويل الأمد». وقال إن الصراع على السلطة العالمية «كان له تأثير مباشر على استعصاء النزاع السوري. وتمثّل هذا الصراع في نهج الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي في معالجة الحرب السورية وآثارها، وانعكس في الأولويات والسياسات المتناقضة، بما في ذلك التدخلات السياسية، والعسكرية، والعقوبات، والدعمين الاقتصادي والإنساني، مع انخراط كبير من الجهات الإقليمية ذات المصالح المتضاربة».
وعليه، يقترح التقرير مقاربات بديلة لبدء عملية تجاوز النزاع، بناء على تحليل ديناميكياته، والاقتصاد السياسي للقوى الرئيسية الفاعلة فيه. ومن هذه المقاربات: «التوافقات الاجتماعية وفق نهج تشاركي: الاقتصاد السياسي للمؤسسات المتمحورة حول السلم»، و«تفكيك اقتصاديات النزاع»، وتوفير «العدالة للأطفال».