كيف يواجه أطفال سوريا الكورونا؟

كيف يواجه أطفال سوريا الكورونا؟

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

تبدو التقارير التي تنشرها منظمة الصحة العالمية ووسائل الإعلام حول ندرة إصابة الأطفال بفيروس كورونا مطمئنة وواعدة إلا أنّ ما يحدث لهم من حالاتٍ نفسيةٍ أثناء الحجر قد تكون أشد خطراً وألماً عليهم وخصوصا في بلدٍ كسورية تعاني من صعوبات الحرب التي لم تنته بعد لتأتي جائحة  كورونا وتضيف فصلا جديدا من فصول الخراب المستمر.

في الأيام الأولى للحجر كانت ابنتي الوحيدة (8 سنوات) تظنّ أنها عطلة رائعة أشبه بعطلة العيد، كانت سعيدةً لأننا سنجلس طويلاً معاً ولن أضطر لتركها والذهاب للعمل وسيكون هناك متسعٌ من الوقت لفعل أشياء ممتعةٍ ومسلية، ورغم جهودي لابتكار تلك الأشياء المسلية والمفيدة  أصبحت جملتها المفضلة بعد مضي أسبوع واحد فقط: ” لقد مللت”!

 في البداية حاولتُ استغلال الوقت المتاح لنا وتنظيمه وتوزيعه بين تدريسها لتعويضها عن انقطاع المدرسة، وبين ممارسة هواياتها المفضلة كالعزف والرسم والأشغال اليدوية، كما مارسنا التمارين الرياضية وشاهدنا الرسوم المتحركة وقرأنا جميع القصص في مكتبتها وتشاركنا أعمال المنزل، وعلى الرغم من كل المحاولات لكسر روتين الملل والقيام بأشياء جديدة إلا أنّ طول مدة الحظر جعلت كل ما نقوم به مملاً ومكرراً. من المؤكد أن التواصل الحسي المباشر ضروري ومهم لنمو شخصية الطفل من كل جوانبها، وحرمانه من الحركة والتواصل الاجتماعي مع المحيط سينعكس سلباً على نموه وملكاته، لذا بدأت ابنتي تدريجياً بفقدان اهتمامها بهواياتها وسيطر الملل على حياتها ولم تعد ترغب باللعب وترفض قراءة الدروس أو مطالعة الكتب، وفقدت رغبتها بالرسم وعزف الموسيقى، ومهما يكن الوقت الذي نمضيه معاً، إلا أنها باتت دائمة الشكوى من وحدتها ومن افتقادها الكبير لمدرستها وأصدقائها.

غياب الأب

بعد استشهاد زوجها اعتادت ريم وأطفالها (4 و6 سنوات) تمضية الوقت خارج منزلهم البسيط المؤلف من غرفةٍ واحدةٍ وذلك عبر القيام بزياراتٍ لا تنتهي للأهل ولجميع الجيران والأصدقاء وحتى أصدقاء الأصدقاء أحياناً، هاربةً من وحدتها وواقعها وعاجزةً عن العمل بسبب صغر أعمار أطفالها ومكتفيةً بالراتب المتواضع الذي تتقاضاه كتعويض من الدولة على استشهاد زوجها.

الحجر الصحي الذي فرضته كورونا وضع ريم مباشرةً أمام مرارة واقعها إضافة لصعوبة التعامل مع طفلين اعتادا الخروج واللعب مع الآخرين دون رقيب. بداية الحجر كان نشاطهما الدائم كارثة حقيقية، وصراخاً ولعباً وعنفاً متبادلاً بينهما ما اضطرها لاستخدام العقاب الجسدي لكبحهما ومن ثم إجبارهما على الجلوس أمام التلفاز عندما تكون الكهرباء متوفرة.

العنف المفاجئ الذي أبدته الأم انعكس على الأطفال بشكلٍ مباشرٍ، فقد تحولا إلى طفلين خاملين وبدت علامات الاضطراب في سلوكهما تبدو واضحة، الطفل الكبير كان ينزوي لوحده وكثيراً ما كان يُكلم نفسه أو أحد ألعابه بالإضافة إلى اضطراباتٍ في النوم والأحلام المزعجة، أما الطفل الصغير فلم يكن بأفضل حال من أخيه فقد كانت تأتيه مساءً نوبات هلع ويُمضي ساعةً قبل النوم في الصراخ والبكاء، إضافةً إلى تبوله في فراشه على نحوٍ متكررٍ.

نوال (35 سنة) تعاني هي الأخرى من غياب زوجها في لبنان وقد هرب من الخدمة الاحتياطية وهو الآن عالق هناك دون عمل ولا يستطيع العودة. كانت نوال تعمل في مشغلٍ للخياطة قبل أن يتوقف بسبب الحجر الأمر الذي اضطر ابنها المراهق عُمر (14 عاماً) إلى العمل في توصيل الطلبات لدى أحد المحلات لتأمين دخلٍ للأسرة ريثما ينتهي الحجر وتعود أمه للعمل.  تحكي نوال عن مخاوفها الكبيرة على ابنها وهي تذرف دموعها وتقول “يخرج عمر للعمل منذ الصباح وحتى المساء، يؤلمني اضطرارنا لعمله في هذا الوقت بالذات، فالمرض من جهة ودخوله سن المراهقة من جهة أخرى، أخشى عليه من رفاق السوء والاستغلال وأخاف أن يتعلم التدخين أو تعاطي الممنوعات وأشعر بخوفٍ شديدٍ عليه وكأني أرميه بيدي للتهلكة”.

ألعاب الكترونية

سعاد (38 سنة) التي حاولت جاهدة تنظيم وقتها وأوقات أسرتها بصورةٍ دقيقة ومن مختلف الجوانب لتجعل من أطفالها (قيس 12 سنة، وصقر 10 سنوات) نموذجاً مختلفاً عن أطفال الحي الذين يضيعون أوقاتهم بالألعاب الإلكترونية، وكانت تحاول الشرح لأمهاتهن عن سوء تلك الألعاب ومخاطرها الجسدية والنفسية على الأولاد من وجهة نظرها.

كانت تسال نفسها دائماً كيف يمكن لأمٍ أن تسمح لأولادها بالجلوس لساعاتٍ طويلة أمام هذه الألعاب؟ ما الممتع في ألعاب العنف والمعارك؟

 لكن بقاء الأطفال كلّ هذه المدة في المنزل وتعطّل كافة الأنشطة والنوادي التي كانت تملأ وقت الأطفال بعد المدرسة أفلت زمام الأمور من يدها بدءاً من مواعيد تناول الأسرة للطعام وانتهاء بمواعيد النوم.

تقول سعاد “حاجة ولديَّ للتواصل مع أصدقائهما في فترة الحجر جعلتني أوافق على استخدامهما للموبايل، وبدأت الأمور بالتطور وصار من الضروري تنزيل الألعاب الالكترونية كي يتشاركا مع أقرانهما اللعب أو على الأقل ليستطيعا إيجاد أحاديث مشتركة فيما بينهم والآن صارت هذه الألعاب تشغلهما طول الوقت. تغيّرت مواعيد نومهما وصارا أكثر بدانةً،  وعندما حاولت حرمانهما منها وإعادة التنظيم إلى حياتنا تفاجأتُ بحجم إدمانهما على تلك الألعاب وبالعنف الكبير الذي اكتسباه سواء في التعامل معي أو فيما بينهما، إذ تحول جو الإخاء بينهما إلى أنانية وعداوة وتنافس على فوزٍ افتراضي غالباً ما ينتهي بعراكٍ وصراخ ٍحقيقي.”

علاقات على المحك

تبتسم سميرة بمرارة عندما تستمتع لأغنية فيروز “خليك بالبيت” فلم يعد هناك مكان للاشتياق بينهما، فزوجها الذي كانت تفتقد غيابه وتتمنى حضوره في البيت، أصبح بقاؤه بسبب الحجر الصحي كارثةً حقيقية أدّت لدمار هذا الزواج.

تقول سميرة: “زواجنا كان تقليدياً، كنتُ في العشرين من عمري وكان في الخامسة والعشرين، لم نعش قصة حب قبل الزواج لكن الأيام التي عشناها معاً كانت جملية لا تخلو من الاحترام والألفة، كانت أدوارنا واضحة هو ملتزم بعمله خارج المنزل (موظف صباحاً وسائق بعد الظهر)، وأنا ملتزمة بدوري كربة منزل. لا أنكر مرورنا بخلافاتٍ كأي زوجين أو افتقادي له في كثير من المواقف التي تخص تربية الأطفال كمشاكلهم في المدرسة أو صعوبات مرحلة المراهقة التي عانيت منها مع ابني الأكبر، فظروف الحياة الصعبة وخاصة فترة الحرب، والمشاكل المادية التي تعرضنا لها ككل الناس في بلدنا فرضت عليه العمل المستمر وجعلته بعيداً وغريباً عن تفاصيل المنزل. بعد بقائه في المنزل لوقتٍ طويلٍ، بسبب فترة الحجر، تحوّل إلى شخصٍ مزاجيٍ وعصبيٍ مختلفٍ تماماً عن الشخص الذي كنا نعرفه. أصبح يتدخل بتفاصيل لم يُعرها يوماً أي اهتمام كطريقة تنظيفي للمنزل وطريقة طهي الطعام ثم طريقة تربيتي وتعاملي مع الأطفال، ومَنع الأطفال من اللعب داخل المنزل وصرنا نتحرك على إيقاع مزاجه وأوقات نومه ويقظته وبرامجه المفضلة على التلفاز.  كنتُ أبرر له تصرفاته “لم يعتد قضاء كل هذا الوقت في المنزل” لكن المبررات لم تعد مقبولة حين تحولت إلى عنفٍ لفظيٍ وصراخ  ومن ثم إلى غضبٍ لا يهدأ إلا بضربهم، لم يبقَ أمامي من حلٍ سوى الهرب بالأطفال إلى منزل والدي الأمر الذي فاقم من المشاكل بيننا إلى حدّ الانفصال.”

من الممكن أن تكون هذه الخلافات فترةً مؤقتةً  في حياة هذه الأسرة لكن من المؤكد أن انعكاساتها على الأطفال كفقدان ثقتهم بوالدهم وشعورهم بعدم الأمان لن تمحى بسهولة.

مازلنا نسير في المجهول فأزمة كورونا لم تنته بعد وربما ما هو آت أسوأ في حال تفشي المرض، لقد بات على السوريين توقع الأسوأ دوماً فليست الكورونا إلا تفصيلاً آخر في المأساة السورية، مأساة دفع الأطفال أغلى أثمانها ولا يزالون، قد يسأل طفل عن معنى جملة “خليك بالبيت” وهو بالأساس يعيش في العراء أو في مخيمات بعيدة بعدما تهدّم بيته، وقد يصح القول بأنّ الكورونا لن تصيب رئات الأطفال بالمرض والالتهابات لكنها حتماً ستبقى محفورة في ذاكرتهم ونفوسهم  كفصلٍ جديدٍ من فصول مأساتهم الطويلة.

العنف غير المعلن في زمن الكورونا

العنف غير المعلن في زمن الكورونا

* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات

كرّست جائحة فيروس كورونا نمطاً حاداً ومستجداً في شكل الحياة اليومية لأهل الأرض، يوماً بعد يوم تتسع دائرة المواجع الشخصية والعامة، الجسدية والنفسية، لا نجاة من القلق، وزمن تراجع الخوف المشحون بالضعف، زمنٌ ضئيل وضعيف ولا يعوّل عليه.

من مواطن العزاء للبشرية، أنها وقفت معاً في مواجهة تداعيات هذا الفيروس، الذي تحول إلى جائحةٍ عالميةٍ تُسابق الضوء في سرعة انتشارها. لكنّ المواجهة الموحدة لا تعني أبداً وجود أوجهٍ متطابقة من أشكال العنف التي فرضتها هذه الأزمة العالمية، أشكالٍ لا تعدّ ولا تحصى لكنها استحقاقٌ إنسانيٌ وإن تمظهر في حالاتٍ قليلة العدد نسبياً وعلى نطاقٍ ضيقٍ، ثمة مواجع خاصة وخفية، موجعة وتعني أشخاصاً محددين، غير معلنة لأنها خارج سرب المواجع العامة.

ماري سيدة في السبعين من عمرها، أرملة ولم تنجب، تعيش بمفردها في بيتٍ واسعٍ، وهي تتناول طعام إفطارها، سقط جسر الفك العلوي من فمها، باتت بلا أسنان! طبيب الأسنان أغلق عيادته خوفاً على سلامته أولاً ولأنّ المخبر الذي يصنع له الأسنان التركيبية ممنوعٌ من فتح أبوابه، كما أنّ غالبية زبائنه يسكنون في الريف، وإن كان قريباً جغرافياً لكنه مغلق بسبب التوصيف الإداري.

 باتت ماري مضطرة لأن تعيش على السوائل، واسطوانة الغاز في ساعاتها الأخيرة، لم تفعل ماري شيئاً، لا أحد يمكنه إعارتها أسنانه! ولا أسنان جاهزة في السوبر ماركت أو في الصيدليات لتطلب إيصالها لها عبر خدمة التوصيل إلى البيوت، اتصلت بطبيبها، قال لها المخبر مغلق وفنيو المخبر يعيشون في الضواحي المغلقة.

 لا أحد من المعنيين فكر بعيادةٍ إسعافيةٍ لمعالجة الأسنان مرفقةً بمخبرٍ للتعويضات السنية وجعلها في متناول المحتاجين لخدماتها وخاصةً من كبار السن.

بادرت أغلبية الناس وخاصة من الفئة العمرية الشابة لمدّ يد العون لكبار السن الوحيدين والوحيدات، لكن ثمة مطالب لم تخطر على بال أحد. هيام، سيدة في الثمانين من عمرها، تعيش وحيدةً أيضاً في الطابق الثاني عشر في برجٍ سكني في منطقة راقية، لا تريد شيئاً من الأطعمة أو الأدوية أو المنظفات، فطبيعتها الوسواسية دفعتها ومنذ سماعها لأول خبر عن أول إصابة بالكورونا لملئ خزائنها بالمؤن ولشراء أدويتها الدائمة عن عامٍ كامل. لكنها مشتاقة للحديث مع شخصٍ تعرفه، تثق بأخباره، وتفرح لنبرة صوته ومداعباته اللطيفة، اتصلت بسلمى، ابنة صديقتها، وطلبت منها طلباً عجيباً “أرغب بأن تزوريني اليوم يا سلمى، لكن عبر سماعة الانترفون، فأنا خائفة جدا حتى من استقبالك، فلربما نقلت لي العدوى؟” لبّت سلمى دعوة هيام، استغرقت الزيارة عشرين دقيقة، لكن المصيبة أنّ هيام باتت تطالب سلمى بزيارات مماثلة ومتكررة، وسلمى لا تملك وقتاً كافياً ولا أخباراً مطمئنة.

أشارت بعض الدراسات إلى ارتفاع نسب الإصابة بفيروس الكورونا بين الرجال بنسبة تعادل ضعف نسبة إصابة النساء، وقد اعتبرت بعض النساء الكورونا فرصة لتسخر من اهتزاز ثقة الرجال بقوتهم الجسدية في مواجهة فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة،

قوة يتحكم الرجال عبرها بمصائر النساء وبتفاصيل حيواتهن، ليحققوا الهيمنة بحكم القوة الظاهرة والمنسوبة للرجال حصراً، والسلطة بحكم الغلبة الجسدية والنفسية والمجتمعية، لكن هذه القوة تعرضت لاهتزازاتٍ عديدة، اهتزازاتٍ أظهرت خللا ًفي موازين القوى، مفسحةً المجال أمام تراجع قوة ذكورية تقليدية بظهور نمطٍ معزز ٍمن القوة فرضته كورونا بقوة الخوف وبسطوة الحذر الشديد.

 وليد رجل خمسيني، يخافُ على صحته جداً، مهووس بالنظافة الشخصية، يزور الحلاق يوم الثلاثاء فقط، لأنه اليوم الذي يلي عطلة الحلاقين، ويذهب باكراً جداً ليكون أول زبون، ليتنعم بمنشفة تم غسلها في يوم العطلة ولم توضع على رأسٍ غير رأسه أبداً، لكنه في زمن الكورونا التزم الجلوس في المنزل، وطالب زوجته بالتسوق وبشراء الخبز وبالحصول على الأدوية والمواد المعقمة من الصيدلية تحديداً لتثبيت جودتها، وانزوى في غرفته يكاد لا يخرج منها، وكلما عادت زوجته من الخارج يطالبها بتعقيم كل شيء، حتى شعر رأسها، وهي تصرفاتٌ فاقمت من مشكلةٍ قديمة عند وليد، تحملتها زوجته تحت إلحاح الواجب كزوجةٍ مخلصة، رغم رفضه  لكل طلباتها بضرورة مراجعته لطبيب نفسي، لكنها الآن باتت ممزقة بين حقها بالحياة الكريمة وبين تطرف مواقفه،  مما دفعها للتوقف عن تلبية طلباته وتهديده بالذهاب إلى منزل والدتها المتقدمة في العمر، علّه يخفف من أوهامه المرضية ومن معاملتها بدونية غير مقبولة وكأنه مسموح له التضحية بها من أجل بقائه في حالةٍ من الأنانية والعدوانية لا مبرر لها وغير مقبولة. لكنّ وليد بقي أسير مخاوفه وبات حبيس غرفته وأوهامه وفقد كل إمكانيات التواصل حتى مع زوجته.

في الأزمات الكبرى، تتوجه المبادرات والأفكار والآليات نحو الاحتياجات الأكثر شمولية، نحو الخدمات المركزية ونحو الاحتياجات الأكثر أولوية حسب توصيف مراكز معالجة الأزمات.

يعمل غاندي في بيع الألبسة المستعملة، وله زبائن كثر وخاصة من السيدات، لكن قرار الإغلاق شمله وبات محكوماً بالتوقف عن العمل. أربعون يوماً مرت على إغلاق المحل، وما كان متوفراً من مالٍ نفذ، ولم يتبق منه شيئ. غلاء الأسعار يلتهم كل الموارد، والعائلة بحاجة لطعامٍ وشرابٍ ودواء، وتحت عنوان الحماية والحفاظ على الصحة العامة كان من المبّرر ترك الناس دونما مورد، حتى أصحاب الموارد المتوسطة باتوا بلا أي مدخرات، فحياة الفرد هي الأهم وصاحبة الأولوية المطلقة، لكن كيف وبماذا؟ لا أحد يملك جواباً، لأن السؤال نفسه مؤجل ولا يمتلك الأولوية القصوى.

اتصل غاندي بزبائنه، أبدى استعداده لإيصال قطع الملابس إلى بيوتهن، لكنه كان يحتاج لموافقتهن على الشراء أولاً في ظل شح مالي كبير وواسع وفي ظل المخاوف من رفض الزبائن شراء ألبسة مستعملة ربما يرتع الفيروس على سطوحها وبين طياتها. كما أنّه كان محتاجاً لمبادرةٍ من صديقٍ يملك سيارة خاصة لنقل غاندي مع بضاعته مجاناً إلى بيوت الزبائن، وكان له  ما سعى إليه. حمل غاندي معه بضاعة كان قد احتفظ بها في منزله قبل الإغلاق، لكن بعد وصوله إلى أبواب بيوت زبائنه اصطدم بقلة الطلب على بضاعته، قطعة أو قطعتان في أكثر حد، والناس محرجة من المفاصلة، إحراجٌ تلمسه غاندي أيضاً وفرض عليه خفض أسعار بضاعته، لكن الرمد أفضل من العمى كما يقال، وما كسبه غاندي اليوم لن يمكنه من شراء بضاعةٍ جديدةٍ بدلاً من التي باعها، لكنه سيوفر عليه عناء الاستدانة من صديق أو قريب، في زمنٍ بات الاقتراض نادراً بل حتى مستحيلاً.

وكما تُرك العجزة منسيين في دورهم دونما احتسابٍ حتى لأعداد المتوفين منهم، ليشكل موتهم بصمت وإهمالهم وكأنهم أضاحي الفيروس الفتاك وصمة تمييز سلبي ضد فئة من المجتمع، وكما تُركت النساء وحدهن لمتابعة مسلسل المظالم الطويل، وكما تُرك الجوعى غارقين في فاقتهم في محاولاتٍ بائسةٍ منهم لترك الشوارع حيث يعيشون، وكما تُرك اللاجئون والنازحون تائهين في غربةٍ مضاعفةٍ، عُرضة للوعيد والتهديد بالترحيل أو بالموت، وكما سُرّح عشرات الآلاف من العمال، وكما تم ترحيل مخالفي الإقامات من عمالٍ أجانب لكنهم فقراء، كذلك نمت في دائرةٍ ضيقةٍ دائرة متفرعة عنها لكنها غارقة في التجاهل والنسيان وكأنها منفية خارج الزمان والمكان، توضحت في تلك الدوائر الضيقة دروب آلام ٍجديدة، مضفورةٍ بالشوك ومسيجةٍ بالعتمة.

وتجد الإشارة إلى أنّ الأزمات بحدّ ذاتها وفي خضم البحث عن حلولٍ لها أو عن كوابح تقلل من فرط مساوئها ُتنسي أصحاب القرار والمبادرات أو القائمين على حلها مرغمين وتحت وقع الصدمة التوجه نحو فئاتٍ لا تصرخ مطالبةً باحتياجاتها الإنسانية والضرورية، ويقيّم المجتمع ومراكز الخدمات والقرار هذه الاحتياجات على أنها احتياجاتٍ ثانويةٍ، مما يؤجل أو يمنع المساعدات عن أفرادٍ وإمكانية الوصول إليهم، وتتفاقم المشاكل أو مواطن النقص البنيوية لتصبح عنفاً صارخاً لا يمكن إنكاره ولا تجاهله أو الامتناع عن مد يد العون لأصحابه. ربما هنا يبرز دور المبادرات الفردية أو المجتمعية، وربما هنا يتوجب الاهتمام أو لفت النظر للفئات الأكثر هشاشة بالبنية النفسية أو بالفئة العمرية أو بحجم الاحتياج من حيث عدد الأفراد أو طبيعة العمل، أو المكان، خاصة عندما يتحول المكان بحد ذاته كمكان السكن أو العمل إلى مصدرٍ للعنف يساهم في تكثيف تغييب الخدمات أو يفاقم من صعوبات الوصول إلى الاحتياجات مهما بدت ثانوية أو قابلة للتأجيل.

 وربما هنا تصبح الأزمات الكبرى مجالاً رحباً للإبداع الإنساني الفريد من نوعه والمتميز في أشكاله، في محاولة نوعية لتلبية المسكوت عنه، المخفي أو غير المعلن، لكنه احتياجٌ صارخٌ ولابدّ من تلبيته.

The Role of Private Business in Peace and Development

The Role of Private Business in Peace and Development

The private sector has a pivotal role as a driver of economic development and an actor which can contribute to peacebuilding in a variety of ways, through its core function of stimulating growth, creating entrepreneurial opportunities, providing jobs, and generating wealth. But the way in which these functions are implemented and the environment in which business operates will determine whether its impacts will be positive in terms of economic opportunity, equality, social justice, the natural environment and governance. These elements together underpin sustained peace by addressing the root causes of the conflict. If economic growth generated by the private sector does not translate into more equitable wealth distribution, job creation and accountability, it will do little to remove the sources of tension and fragility within a society.

Private business is never politically neutral: decisions to produce, invest or create jobs have political and policy implications which can shape the peacebuilding process. Therefore, the first step is to look at the kinds of business that exist in the local context and the nature of their involvement in the conflict before being able to consider how they can support economic development and peacebuilding, and how to avoid potential negative impacts.

Experience shows that war-time adjustment in the private sector has a long-term impact and economic reversals can be deep and protracted. This has consequences for the relationship between private business and economic development in such contexts. These consequences are at the core of the post-war reconstruction programmes supported by international actors.

Private business is affected by conflict in manifold ways; from the loss of assets, capital, skills and infrastructure to the disruption of governance which hinders its potential to contribute to economic growth and development. But of note in contemporary conflicts is the emergence of new actors and rules which affect businesses by creating enduring regulatory instability and unpredictability. Local SMEs, which arguably have the greatest stake in the return to normality and peace, are especially at risk in an environment lacking rules and regulations and where corruption is pervasive and rights compromised.

A particular challenge stems from the emergence of new governance actors (especially non-state armed actors) and new business elites reliant on violence, and their amalgamation through war economy dealings. These new governance/business arrangements often include state actors who are also engaged in the “business of war” – that is, in illegal and criminal activities that proliferate in the war economy. But there are also cases in which the private sector acts as “governor” by becoming a provider of public goods – although this too may entail having to cut deals with armed groups and criminal groups, creating a different platform from which to engage in peacebuilding.

These different facets of the business presence on the ground impact its potential for a positive contribution to economic development, both during conflict and in its aftermath. It is important to bear in mind when speaking about the business sector that it is not a monolithic actor with a unified agenda. The interests, incentives and capabilities of businesses, and hence their courses of action, differ according to factors such as size, legal status, ownership profile, and the broader security and geopolitical framework. This will also be determined by the extent and the manner in which a business is linked to the political and military elite. Paying bribes may be the only option for SMEs to survive during and after the war. Meanwhile for TNCs it may be the way to secure privileged access to business opportunities, as has been the case of cement manufacturer Lafarge, charged with financing terrorism in Syria.

The end of conflict does not mean that the business operating environment has changed. Business often faces many of the same difficulties: weak and corrupt institutions, political instability, the presence of organised crime, inadequate access to finance, infrastructure problems, skills shortages etc. Such security, governance and market conditions influence the propensity to invest in the long term and hence affect the job creation associated with a peace dividend. What all this means is that there are sometimes exaggerated expectations of private business capacity, will and feasibility of action in conflict and post-conflict contexts, including business’s contribution to truth and reconciliation as a way of dealing with historical legacies.

 International assistance/approaches

The international approach in support of private sector development in conflict-affected areas has for a long time relied on universal blueprints with policy reform packages. Such approaches have often encountered political obstruction and failed to achieve expected outcomes. This has to do with the reluctance among donors to commit to approaches better suited to address the unique specificities of societies affected by armed violence and fragility, which would render a different view of the role of the private sector. More recently, there have been indications that such practice is beginning to change.

A key aspect in this respect is the importance of conducting broad and sustained stakeholder consultations to better understand the challenges of private sector development in such contexts, and how private sector growth can most effectively contribute to economic development in a manner that addresses the impact of conflict at the local level. Another key change is the recognition that the private sector is not and cannot be approached as a stand-alone actor. Rather, the notion of “business-based peacebuilding” relies on the model of multi-stakeholder partnerships as a framework for more proactive engagement of the private sector in dealing with issues of development, peace and security.

While the actual processes of the private sector’s involvement in peace-related activities differ across countries and different conflict zones, a common trait has been a tendency to work as much as possible with other societal actors. These include international and local non- governmental organisations, local governments, religious and academic institutions, international donors and multilateral institutions. Experience shows that business is most effective in addressing conflict-related issues when working collaboratively with other actors.

*Published in Partnership with the LSE’s Conflict Research Programme.

Summary by the LSE report editors of the presentation given by Professor Raymond Hinnebusch at the London School of Economics Political Economy and Governance in Syria 2018 conference.

من فكرة صغيرة إلى مشاريع كبيرة: حكاية مخبز القرية

من فكرة صغيرة إلى مشاريع كبيرة: حكاية مخبز القرية

لا يمكنك أن تعبر المكان دون أن تستوقفك رائحة الخبز اللذيذة التي تنتشر على طول الطريق منبعثةّ من مخبزٍ صغيرٍ في قرية نائية لكنه يخفي خلفه قصة نجاح كبيرة بطلاتها نساءُ قرية سهوة بلاطة في ريف السويداء.

بدأت الحكاية باقتراحٍ بسيطٍ بين مجموعة من الصديقات لإنشاء صندوق خيري صغير يجمع التبرعات من نساء القرية بمبالغ زهيدة لا تتجاوز 200 ليرة من كل امرأة لمساعدة من كنّ في حاجةٍ لبعض الدعم وبخاصة تلك النسوة اللواتي فقدن أزواجهن ولا يوجد من يعيلهن ويعيل أسرهن، إلا أنّ الفكرة العفوية تطورت إلى اقتراحٍ بإنشاء مشروعٍ صغيرٍ يؤمن عملاً ودخلاً لأولئك النسوة عوضاً عن تقديم مساعداتٍ محدودة لهن. تعددت الاقتراحات وتراوحت بين تأسيس ورشة خياطة وتطريز أو مركز تجميل وغيرها، لكن تم الاتفاق أخيراً على إنشاء مخبزٍ لصنع خبز الصاج الذي تشتهر به السويداء، وما إن طرحت الفكرة على مستوى القرية حتى تحمس لها الجميع وبخاصة من أبناء القرية المغتربين في الخارج وقدّموا لها الدعم المالي الكافي لشراء المعدات والمستلزمات الأساسية للبدء بالمشروع.

لم أتمكن، لأسبابٍ خاصة، من لقاء أي من المسؤولات في الجمعية، لكني استطعت لقاء بعض الشبان في القرية والذين تجمعني بهم معرفة سابقة، أخبرني أحدهم، مفضلاً عدم ذكر اسمه، عن بعض التفاصيل فيقول: “بدأ العمل في المخبز بعد فترة قصيرة من طرح الفكرة وتجهيز المكان والمعدات، وأصبح يُنتج الخبز بجودة ونوعية ممتازة مراعياً المعاير الصحية والطبيعة من خلال تأمين أفضل أنواع القمح والاهتمام بجودة الإنتاج والنظافة والتسويق الجيد أيضاً، واليوم وبعد مرور 6 سنوات على إنشائه نجح المشروع بشكلٍ ممتاز واستطاع تأمين عملٍ ودخلٍ ثابت لأكثر من 20 امرأة في القرية ولبعض الشباب أيضاً الذين تولوا عمليات تسويق المنتج خارج البلدة”.

 لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، فقد أنشأت الجمعية صندوقاً لتقديم الدعم لطلاب الجامعات والمدارس بشكلٍ شهري وبمنتهى السرية حفاظاً على قيمة العمل ومنعاً من التسبب بأي إحراجٍ لمن يتلقى المساعدة. وبحسب سليمان (25 عاماً) وهو أحد شباب القرية المتطوعين في المشروع ” فإنّ إمكانيات صندوق دعم الطلاب محدودة في الوقت الحالي ولا يمكن أن يتكفل الصندوق بكامل المصاريف المادية للطلاب المحتاجين، إلا أنّ المبالغ المقدمة تشكل دعماً لا بأس به للأسر محدودة الدخل وخاصة إذا كان فيها أكثر من طالب في الجامعة، المهم في المبادرة هو التشجيع على العلم وإيصال رسالة للطلاب بأن هناك من يقف بجانبكم ويشجعكم”.

 ونتيجة ً للأرباح الجيدة التي أتت من المخبز والجهود المبذولة من أهل القرية لإنجاحه، فقد أثمر المخبز عن تطوير مجموعة أخرى من المشاريع الصغيرة كان أولها إنشاء أقسامٍ جديدة فيه لإنتاج الفطائر والحلويات الشعبية (لزاقيات ومرشم وغيرها) والتي لاقت رواجاً ونجاحا ًكبيراً، بالإضافة إلى إقامة مشروعٍ صغيرٍ لإنتاج الأجبان والألبان بحيث يساهم في خلق فرص عملٍ جديدة وتسويق المنتج المحلي بأسعارٍ جيدة.

 ومن إنجازات جمعية النساء الخيرية في السهوة أنها قامت بمبادرةٍ بالاشتراك مع أهل القرية لإلغاء إحدى العادات الموجودة في المجتمع والتي تقوم على تقديم وجبات الطعام في مناسبات العزاء والتي عادةً ما يقوم بتقديمها أقرباء الميت أو جيرانه واستبدالها بوجبة طعام يقدمها المخبز، مخففاً بذلك الكثير من الأعباء المادية على الناس وخصوصاً في ظل الأوضاع الصعبة التي يمر فيها الجميع.

ومنذ عامين تقريباً توسع نشاط الجمعية ليشمل إنشاء حديقة للبلدة ومشتلاً زراعياً في قطعة أرضٍ كانت مهملة قبالة المخبز. كما شرعت الجمعية مؤخراً بمشروع جديد وهو إنشاء معملٍ لتجفيف الفواكه في القرية مستفيدة من توفر الفواكه المحلية وتنوعها، حيث ساهم المشروع في تسويق الفواكه المحلية ومساعدة الفلاحين وتأمين المزيد من فرص العمل لشباب وصبايا البلدة.

ما حققته هذه الجمعية الصغيرة من نتائج تجاوز نجاح المشاريع والمبادرات التي أنشأتها على المستوى المادي ليصل إلى خلق حالةٍ من التعاون والتكاتف الاجتماعي في القرية وتعزيز قيم العمل الجماعي والتشاركي، حيث غدت الجمعية مشروعاً شخصياً لكل فردٍ من القرية يحاول دعمها بما يستطيع.

 أخبرني عمر (24 سنة، طالب جامعي) عن مدى تأثير الجمعية في تشجيع المبادرات الطوعية والعمل الجماعي في القرية فيقول “نجاح جمعية النساء شجعنا نحن الطلاب على إقامة مبادرات جديدة بيننا، فقمنا بحملات تنظيف لشوارع البلدة ومحيطها، كما قمنا بإنشاء فرقٍ لحراسة الحراج في القرية لمنع عمليات التحطيب التي انتشرت بشكل كبير في السنوات الماضية، بالإضافة لحملات التشجير في محاولة لإعادة الغابة كما كانت سابقاً، هذا عدا عن الدورات التعليمية المجانية التي قمنا بها لتدريس بعض المواد لطلاب المدارس وخصوصا لطلاب الشهادة الإعدادية والثانوية”

  أدى تفاقم الأزمة الاقتصادية مؤخراً وانعكاساتها السلبية على الحالة المعيشية للناس وارتفاع الأسعار الجنوني إلى مجموعة من المشكلات التي باتت تهدد عمل الجمعية وقد تؤدي إلى توقف عملها، حيث بات من الصعب تسويق المنتجات كما كان في السابق، الأمر الذي انعكس على إيرادات الجمعية وقلص أرباحها للحد الأدنى، مما دفع الجمعية إلى الاعتماد على التبرعات من أبناء القرية لسدّ بعض الثغرات المالية والإيفاء بالتزاماتها. وبحسب فيديو منشور على صفحات شبكات الأخبار في السويداء، قام المركز الإذاعي والتلفزيوني بزيارة المخبز مؤخراً وأعدّ تقريرا مصوراً عنه حيث تحدثت إحدى المسؤولات عن أبرز الصعوبات التي تواجههم حالياً والتي تتمثل بالتسويق وارتفاع أسعار بعض المواد، حيث يبلغ الإنتاج اليومي للمخبز بين 60إلى 80 كيلو من الطحين، ويطمحون لزيادة الإنتاج فيما لو توفرت فرص تسويق جيدة إلى خارج البلدة.

هناك محاولات اليوم في أكثر من قرية بالسويداء لتعميم هذه المبادرات، والتركيز على دور المنظمات المدنية والخيرية المحلية لتخفيف آثار الحرب وانعكاسها على الجميع، سيما مع تفاقم وطأة العقوبات الاقتصادية وتفاقم الفساد والاضطرابات الإقليمية التي أثرت على تدفق السيولة المالية من المغتربين، وحتى وإن كانت النتائج أقل من التوقعات المرجوة، إلا أنها تبقى تجربةً مهمة وذات قيمة كبيرة تسهم في دعم المجتمع والحفاظ على تماسكه.

The Poor in Damascus Do Not Even Have the Option to Be Afraid of Corona

The Poor in Damascus Do Not Even Have the Option to Be Afraid of Corona

This article is published as part of the Salon Syria Roundtable: War on Corona: A New Fateful Battle for the Syrians

Despite procedures taken by the government to tackle the Corona virus outbreak like closure of schools and universities; suspension of work for most official employees; cessation of public transport; closure of restaurants, cafés, and commercial shops; nighttime curfew; and a ban on transportation between governorates, and despite a statement by the United Nations saying that the situation in Syria could be catastrophic and the increase of infected cases to ten, including two deaths, many people in Damascus do not care about all of that, as streets in the daytime are full of pedestrians, honking cars, and calls of street vendors.

When I looked out of my balcony and saw all these people moving about in the streets, I asked myself “aren’t these people afraid for their lives? Doesn’t the Corona virus scare them? Why don’t they quarantine themselves in their homes just like most of the people around the world?” The answer then came to me from their exhausted faces and weary footsteps. Simply put, they are like no other people in the world. They resemble no one except for their country, which has suffered from the epidemic of war, besieging them for nine years and forcing them to experience countless forms of death.

The Poor Do Not Even Have the Option to Be Afraid of Corona

At seven in the morning, Abu Abdullah sweeps the street in front of a few grocery stores, which were exempt from the closure decision, he then carries the trash to a cart using his hands. He does not use a mask or gloves, for he does not give attention to the epidemic. “We have been playing with death for nine years. We escaped it more than once. I do not think God Almighty will kill us with an invisible virus,” he said.

Abu Abdullah is not an employee of the municipality. He performs these tasks in exchange for some money from the owners of these shops, in addition to vegetable and fruit leftovers and dry bread, which they give him for free.

Not far from Abu Ahmad and in front of a kiosk that sells government subsidized bread, dozens of people gather in a gruesome crowd. A quick glance reveals that most of them are poor and destitute. I stopped a woman who has just come out of the crowd as she angerly removed her scarf off her faces, which she was using as an alternative for a mask and asked her if she feared being present in crowded places. “If I could buy normal [unsubsidized] bread, I wouldn’t come here. The price of a bundle of that bread is seven hundred Syrian pounds, which is enough to cover the cost of an entire meal for me and my family. We, the poor, are prohibited from being afraid of the epidemic,” she replied.

Adnan, a child working as a delivery boy for a supermarket, is also fearless of the Corona virus. He wears his mask and carries on with his work with a smile on his face. He climbs the stairs of dozens of buildings carrying the orders of customers who chose to stay at home for fear of their safety. This is a choice that Adnan and his brother, who works in a similar job, cannot have because they are the only breadwinners of their displaced family suffering from grave living conditions.

Behind a small cart selling strawberries and green almonds stands Abu Ghassan wearing a mask and gloves and shouting out for his few goods. He is convinced of the importance and necessity of the quarantine, but he cannot do it himself. “I wish I could stay at home and relax from the epidemic nightmare that daunts upon me while I am working. I must deal with dozens of customers every day. However, if I stay at home, I might survive the Corona virus, but I will not survive the hunger,” he said.

With the start of the Stay at Home campaign and the nighttime curfew a few days ago, and in a dramatic scene, most roasteries I passed by were packed with customers buying enough supplies of nuts and salty treats to last them for days or even weeks in preparation for the home quarantine. Outside one of these roasteries stood an old man begging pedestrians and customers walking out with their bags, “help me, may God keep Corona away from you,” he was saying. A few meters away, a child was lying on the sidewalk wearing worn-out clothes with no care in the world about this epidemic.

Corona Threatens the Livelihood of the Poor

In one of the squares in the city of Jaramana, Abu Shaker, a taxi driver, waits for more than two hours for passengers, who have become almost non-existent, to get into his car, which he sterilizes a number of times every day. “Our work suffered after the decision to close restaurants, markets, and commercial shops. People’s movement was paralyzed to a great extent. Fear also found its way to their hearts and they are now afraid to take a taxi because they are concerned of getting infected with the virus,” said Abu Shaker. “I have to pay a monthly installment for the owner of the taxi in exchange for using it. Because of the nighttime curfew, my work hours decreased, and I am unable to pay the installment,” he added.

Several men, working as porters of furniture and construction material, gather in another square. Their eyes, filled with sorrow and pain, stare in all directions in search of someone who might require their work.

One of these men, Abu Yaser, tells me about their work during the Corona crisis, “a couple of days ago, I carried four sandbags and two cement bags to an apartment on the fifth floor for three thousand Syrian pounds. This was the last job I did. I was lucky compared to other porters who have not done much work for several days.” He then went on to say, “our work provides for our livelihood day by day. We are now at risk of losing our jobs, as people will no longer need our service in such conditions.”

At noon, a popcorn trolley is blaring a famous folklore popcorn song but there are no kids gathering around it as its owner was accustomed to. “In the past I used to sell a lot. Especially when children came out of schools. After the Corona crisis, my sales have dropped seventy per cent because children are no longer going out of their homes as much as they used to. I fear that the situation might get worse, then I would have to stop this work, which is my only source of income,” said the trolly’s owner.

Only the Poor Are Paying the Price for the Preventative Measures

Due to the closure decisions and the cessation of public transport, thousands of people lost their jobs and are now threatened by a daunting and frightening future, especially those who do not have any other source of income or some form of support they can resort to.

Shadi did not get the chance to celebrate his new café as he had to close it one week after opening it. “I spent two months preparing for the opening. I prepared the place and put a lot of effort in the decorations. I had to borrow a million Syrian pounds. Most of the equipment I got for the café have not been paid for yet,” Shadi said. “What can I do now to make up for my loss? How can I pay the rent? I fear the closure and curfew will go on for a long time because in that case I might die of sorrow rather than Corona,” he added.

Abu Omar, a bus driver, told me about the implications of his stopping work, “the bus used to provide work for three drivers, thus, three families were being supported. During the past few days, our income decreased by more than a half. The decision to stop all public transportation deprived our families from income and we are now threatened with necessity. Had it been not for the financial aid my siblings have provided, I would have actually starved.”

Mohannad, who used to work as a waiter in a restaurant, is also suffering. “I understand the importance of the closure decision in preserving public safety. However, will the restaurant owner give me any compensation to help me secure my daily livelihood? Will my landlord relieve me of paying rent? Will I find someone who can provide medicine for my sick mother who suffers from hypertension and diabetes?”

Preventative Measures Cost a Lot

An ounce of preventions is worth a pound of cure. Despite the importance of this adage, it is not suitable for many people in Syria. Prevention requires a lot of money. Due to the greed of the crisis dealers, the price of a mask reached seven hundred Syrian pounds, which is also the price for a small bottle of rubbing alcohol. The outrageous increase in prices also affected soap and cleaning materials, adding an additional burden on people who barely can provide their daily bread. In a saddening paradox, Abu Ghassan (the strawberry and green almond seller) paid his full daily labor to buy the mask, gloves, and a small bottle of rubbing alcohol.

Reinforcing the immune system requires various healthy foods, in addition to psychological comfort and avoiding stress. However, most people cannot enjoy these luxuries as the prices of fruits and vegetable skyrocketed. For example, the price of bananas, apples, and onions reached one thousand Syrian pounds for one kilogram, and the price of a kilogram of lemon or green pepper, which are high in vitamin C, surpassed one thousand six hundred Syrian pounds. Buying meat has turned into an unattainable dream.

Perhaps the man I met at the grocery store says it best. After he was intent on buying two kilograms of lemons and onions, he angrily stopped when he learned their prices. He eventually bought two onions and two lemons and sarcastically said, “they give advice to strengthen our immunity system! Do we strengthen it by eating bread, lentil, and bulgur? The poverty, pain, and deprivation we are experiencing will surely destroy all parts of our bodies. It seems that there is no savior for us other than Divine Providence.”

When I asked a butcher about how his business fairing, he answered with a sigh, “most customers are just buying one or two hundred grams of meat. Some people are buying the bones and putting them with the soup to give it the flavor of meat. People are barely able to buy bread and cheap vegetables.”

As the time for the night curfew sets, a sudden silence prevails. People then experience another form of suffering inside their homes that lack most entertainment gadgets and the most basic necessities of life as a result of previous crises, for example, the shortage in cooking gas, long hours of electric blackouts, and deteriorating internet services which hinders electronic communications, the only outlet available for people.

I stare at the dark windows of the houses and I think about their residents. What are they doing? What does the future hold for them? Will they be able to sleep with all these nightmares they are experiencing while they are asleep or awake?

المواطنة لا الفزعة

المواطنة لا الفزعة

رغم نشأتي في أسرة يسارية الفكر، كانت ترى في المناطقية عيباً مجتمعياً، إلّا أنني بقيتُ حاملة لآثار تلك المناطقية حتى بلغت الخمسين ونيفاً، تقودني إليها جذوري وردود فعلي حين أُصبح محط اتهام بمرتبة إنسانيتي ومواطنتي لأنني سليلة فلّاحين. يدفعني هذا الاتهام للتحصّن وراء مناطقيتي، فتراني أستدعيها على الفور حين تقديمي لنفسي كحورانيّة، وكأنني أقول حذاركم والمساس بأجدادي فأنا حفيدة فلّاحين من حوران فانتبهوا لما تنوون قوله حتى قبل أن يلفظوا حرفاً.

ربما هذا بالضبط ما يحدث أيضاً مع الطوائف والقوميات وليس المناطق فقط، في مجتمع فيه أغلبية ذات لون واحد تجعل الفئات الأصغر أو الأضعف فيه تشعر أنها مضطرة لحماية نفسها تحسباً لأي انتهاك محتمل.

 يحدث هذا على ما أظن حول العالم، في كل الدول التي يفتقد مواطنوها قوانين تحمي مواطنتهم، وتضبط حقوقهم وواجباتهم، فتختفي الانتماءات الصغيرة لعدم وجود ما يخشوه، ولعدم الحاجة للتقوقع حول أنفسهم أوللتحالف على عماء تحت غطاء الدفاع الاستباقي عن النفس، والتضامن في وجه المخاطر المحتملة.

بينما تجد تلك الفئات تتحوّل في الدول ذات السلطة الديكتاتورية إلى مجتمعات مغلقة تحافظ بشدة على أواصر وصلات بين أفرادها، قوامها العادات والتقاليد والممارسات واللهجة المشتركة، ويصبح الانتماء للمنطقة أو الطائفة أو القومية معنى الوجود وأصل الحياة التي تصبح بلا معنى لديهم بدون تلك الروابط، ويصبح هذا الانتماء عصب الوجود كلّه، إلى درجة أن يُحرِّم الإنسان على نفسه الاقتراب من الخطوط الحمراء لمنطقته أو طائفته أو قوميته خشية فقدان انتمائه لها بلفظه خارجها، والحكم عليه بالقطيعة فينقطع شريان الحياة.

الكارثة ليس فيما ينهجه عموم الناس غرائزياً، الكارثة حين تلمس من أصحاب العقل والثقافة والمنطق والعلم الخوف من الاقتراب من تلك الخطوط الحمراء ونقد ما يمس مجموعاتهم، في حين يدعون للحريّة والتحرر من القيود الدينية والطائفية والقومية لدى الآخر، أي آخر. هذا الخوف هو بالضبط ما جعل أجنّة الإجرام والانحراف تصبح قوّة مؤثرة قد تأخذ أهلها إلى داهية كما يحدث في درعا والسويداء، وأرى فيه نموذجاً لما يمكن أن يحدث بعد حين في أنحاء سوريا، ويحوّلها كلّها إلى أرض لحرب أهليّة حقيقية سعى النظام السوري من سنوات عديدة لتتبنى المصطلح دول العالم حين توصّف المقتلة الجارية في سوريا تحت رعايته ومن بطولته وبطولة أشباهه.

ما يحدث في درعا والسويداء في الجنوب، وما سيحدث في الشرق والغرب والشمال، بين العرب والكرد، بين أهل الدير والرقة، بين إدلب وحلب، حتى بين الطوائف التي تحمل من مئات السنين تاريخاً مثقلاً بالظلم والقهر من إحداها للأخرى، أو عداءاً تاريخياً بين واحدة وأخرى، هو بجدارة حرب أهلية حقيقية ستحصد الجميع بلا استثناء، أو بالأحرى ستحصد ما بقي من بلد وأهله. لم تعد القضايا الساخنة المطروحة على الساحة السورية ثورة شعب ولا حراك تغيير ولا انتفاضة مقهورين، تعدّت كل هذا بعد سنوات حرب طويلة أنهكت السوريين اقتصادياً واجتماعياً، وأودت بأحلامهم إلى داهية، تعدّت كونها حمل السلاح للدفاع عن النفس، أو لتغيير نظام حكم بثورة مسلّحة، أو لأرض معركة لنزاعات بين دول تريد موطىء قدم لها في منطقة جغرافية حسّاسة تفتح نوافذ على شرقنا الملعون، أو حتّى لم تعد لحفاظ سلطة الاستبداد على الحكم، ولا للدفاع عن وطن، ولا لمحاربة إرهاب.

القضايا الساخنة ضاقت لتتحول لدفاع عن مصالح فردية، أو مجموعاتية، أو مناطقية، أو قوميّة، أو طائفية دينية. ضاقت حتى مُسِخت كل القضايا التي جمعت حولها السوريين حين اتّحدوا تحت شعار الحريّة، والعدالة، والديمقراطية، والمواطنة المتساوية.

 تلك نتائج طبيعية لمجتمعات أنهكها السلاح، فأصبح صوته يحكم الأرض لا القانون، في ظل دولة لم تعد تملك مقومات دولة، تقودها سلطة السلاح المستبد وفق عقلية تشبه بشكل ما عقلية العصابات التي أنتجها الوضع الراهن، سلطة فلت عقالها فانفلت السلاح على الأرض المستباحة، فوق رأس الشعب  المستباح.

ما يجري في درعا والسويداء نموذج واضح لمن ما زال يملك بصراً وبصيرة، السلاح أغرق الأرض وأصبح في متناول الجهلة والهُمّل، والزعران والمجرمين، والمنحرفين وسَقَط القوم، يتم استخدامه لغايات وأهداف ليس فيها ذرة من الأخلاق، للسرقة ولفرض السطوة وللخطف وللتهريب ، لتجارة السلاح والحشيش، لتهريب الآثار، للصفقات المشبوهة في سوق مفتوح للمنافسة، وتضارب مصالح لا حدود له.

كل هذا يجري تحت بصر سلطة لا سلطة لها تتظاهر بالعماء، وأفراد وعائلات، وحمايل وعشائر وشيوخ، غضّوا الطّرف، وتظاهروا بالعمى والطرش، وتسلحوا بالخرس، حتى وقعت الواقعة وستقع، ولم يعد بالإمكان ضبط عقال الحمقى، في بلد مريض عليل، بلا قانون، وشعب بلا حماية، يهرول للتقوقع كل حول نفسه، وتحيا غرائز البقاء والدفاع عن الانتماء الضيّق، العائلي أو المناطقي أو الديني أو غيره.

في ظل وضع بهذا السوء، وعندما تقع الواقعة، تحيا غرائز البقاء والدفاع عن الانتماء الضيّق تذرّعاً بأسباب هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، وتُستثار العواطف بالدعوة للنخوة والفزعة، وانصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وأنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمّي على الغريب، وتُشعل النار وتحترق البشر والحجر.

ما تحتاجه درعا والسويداء وما يحتاجه من سيأتيهم الدور بعدهما ليس عقلاء وشيوخاً لم يكونوا يوماً عقلاء، إنما صحوة مجتمعية تعيد ترتيب أولوية الولاء فتضع على رأسها الولاء لوطن في نزعه الأخير، تنعش فيه دولة ديمقراطية تحمي مواطنيها وتضع قوانين تضبطهم، تدافع عن حقوقهم وتفرض عليهم واجباتهم، دولة يتفوّق بها حس المواطنة على أي حس مناطقي أو قومي أو طائفي أو ديني، دولة يشعر في ظلها الإنسان بالأمان فلا يحتاج لقوقعة يتوهّم أنها تحميه، ولا يهرول للاحتماء تحت عباءة تجرّده من حرّيته وتثنيه عن الجرأة المطلوبة للتخلّص منها كمرحلة أوليّة على الطريق للتخلّص من كل أنواع الاستبداد السلطوي، السياسي منه أو الديني أو العسكري أو المناطقي. الحريّة تبدأ عندما نبدأ في كسر قيودنا الفردية لنستطيع أن نكسر القيود التي تكبّلنا جميعاً فنتحرر.