بواسطة Karim Sa'id | مايو 15, 2020 | Cost of War, غير مصنف
انتقلتْ أسماء الأسد من موظفة في مصرف جي بي مورغان في لندن إلى سيدة القصر الجمهوري في دمشق، وكان الجسر الذي عبرتْ عليه هو زواجها من رجلٍ ورثَ سلطة على بلاد بأكملها جاءتْهُ على طبق من ذهب، فقد كان طالبَ طبٍ، لم يمتلك ميولاً سياسية أو عسكرية. وربما لم يفكر بالرئاسة، لكن خللاً أحدثه القدر في ترتيبات أبيه الرئيس حافظ الأسد، غيّر مسار حياته من طبيب عيون إلى طبيب سياسي فشل في مداواة الجسد السوري وزاد من أمراضه. وكان هذا خطأ ارتكبه هو بقبولهِ للمنصب، بقدر ما ارتكبه من ورّثوه رئاسة سوريا، وكل من لعب دوراً في حدوث ذلك، ذلك أن سوريا ما تزال تدفع ثمن هذا القرار الذي اتخذتْه حلقةٌ ضيقة من الرجال من خلال تمثيلية في برلمان لا وجود له بالمعنى الديمقراطي الحقيقي، ويتسم بعض أعضائه بالجعجعة والتظاهر بمحاربة الفساد وبادعاء العلمانية عبر تصنيع عداوة مسرحية مع وزارة الأوقاف. وظنّ الذين مهّدوا للتوريث أنهم فعلوا الصواب أملاً في إبقاء الوضع في البلاد كما كان في عهد الأب، دون أن يفتحوا أعينهم جيداً ويفكروا باحتمالات أخرى قد يقود إليها الأمر. ولم يعرفوا أن يستثمروا بذكاء قوتهم الضاربة وتحالفاتهم الدولية والإقليمية وعلاقاتهم، ويلعبوا لعبة من ألاعيب عصر الديمقراطية، بل قرروا وضع صمْغ على مؤخراتهم والجلوس على الكرسي والالتصاق بها إلى الأبد، دون اكتراث بانحسار الثروة النفطية، وزحف التصحر والجفاف وشح المياه والأخطار الأخرى الناجمة عن التغير المناخي، ودون معالجة لتصاعد البطالة وللشرخ الطبقي الذي ازداد اتساعاً وللفساد الإداري الذي استشرى، وهيمنة الفاسدين على سلك القضاء، وكل الأزمات الأخرى المتراكمة التي أدت إلى الانتفاضة، وإلى الصراع الذي لم يُحْسم بعد. ولم يكن وضع الصمغ على المؤخرات الأبدية إلا ترجمة لشعارات كان السوريون صغاراً وكباراً يرددونها بقرف حين يُساقون إلى مسيرات التأييد المصطنعة، من الجامعات والمدارس ومن دوائر القطاع العام والخاص، شعارات مسختْ حزب البعث العربي الاشتراكي إلى ببغاء في قفص السلطة. وكانت النتيجة انتفاضة مدنية ملحمية في بداياتها تطورت إلى حرب طاحنة ما تزال احتمالات استمرارها قائمة.
وطفتْ على شاشة الحدث قصةُ صراعٍ جديد على مال شعب السوري دخلت أسماء الأسد كطرف رئيسي فيه، ولم يكن هذا الدخول مفاجئاً ذلك أن أسماء، وبحسب معطيات كثيرة، كانت قد بدأت بترتيباتها الخاصة، وحاولت قنوات إعلامية سورية ودولية تحويلها إلى أيقونة تمثل الوجه الحضاري الناعم للسلطة في سوريا، وقدمتها كمحبة للفنون وللمواهب وللخبرات، والتي تَتوَّجَ حب زوجها الرئيس لها في الآونة الأخيرة بهدية ثمينة، وهي لوحة فنية للفنان العالمي ديفد هوكني اشتُريت من مزاد بريطاني بسعر قارب ٣٠ مليون دولار على ذمة مواقع إعلامية روسية، في وقت يعاني فيه معظم أبناء الشعب السوري من فقر مدقع بعد حرب طويلة مدمرة. وربما كانت الفتاة أسماء تحلم بحياة من نوع مختلف إلا أن “القسمة والنصيب”، كما يقول السوريون، قاداها إلى زواج أخرجها من سياق حياتها العادية ووضعها في سياق آخر يختلط فيه المعشوق بالكرسي، وأحياناً ينحسر الحب ويتحول إلى حب للكرسي. وبدأت أسماء تمارس أدوارها الاجتماعية والاقتصادية والخيرية في ظهوراتها التلفزيونية الكثيرة وانبرت إلى القيام بدور راعية الشباب ومنظِّمتهم ومهندسة المواطن الفاعل، والباحثة عن الموهوبين والمتفوقين، والأهم من ذلك كله دور مصادرة الألم وامتلاكه كما لو أن ألم سوريا هو ألمها، هذا الألم السوري، نتاج الأضاحي الكثيرة لحماية الكرسي. وهذا موضوع أشارت إليه بتعمق الباحثة الأميركية ليزا ودين في كتابها الصادر مؤخراً عن مطبعة جامعة شيكاغو بعنوان”استيعابات سلطوية، الإيديولوجيا والحكم والحداد في سوريا“. وبدأت أسماء عملها كي تصبح ”أم الكل“، عقيلة ”سيد الكل“، إذا ما استعرنا عنوان فيلم دعائي ظهرت فيه أثناء الحرب، والذي أجلست فيه أمامها أمهات الشهداء كي تحدثهم عن معاني الوطنية وتغيير وجه التاريخ، أمهات الشبان الصغار الذين قضَوا على جبهات أعلن السيد الرئيس أثناء زياراته المتقطعة لها أنها جبهات لمعركة كونية، معركة السيطرة على العالم، ضد قوى الشر والاستكبار العالمي، إذا ما استعرنا من قاموس البلاغة الإيرانية. ولكن ينبغي أن نشير هنا، توخياً للدقة والموضوعية، أن تلك الجبهات لم تكن جبهات بريئة، فقد كان هناك ميلشيات ممولة ومدعومة بالمال النفطي ومال الاستخبارات الأردوغانية والسعودية والقطرية والأمريكية والأدوات الأصولية السلفية والجهادية العابرة للحدود. ولم يكن هناك ثوار حالمون، ذلك أن الجيل المدني للثورة السورية تلقى ضربات متواصلة على يد النظام والتيارات الجهادية فقد سُجن من سُجن وقُتل من قُتل وهُجِّر من هُجِّر وهاجر من هاجر وارتد من ارتد، واحتل جبهات القتال مقاتلون منضوون في تنظيمات متشددة ومريبة مرتبطة بقوى أخرى، بل صار بعضهم بنادق قابلة للتأجير خارج سوريا. وحيث يهيمن لوردات الحرب والميلشيات المسلحة والممولة يخمد الحس المدني والنَفس الثوري، ويتحول إلى أصوات مختنقة ومشتتة في الإعلام الاجتماعي، ويُصادَر الخطاب ويُشوَّه. وحين يُصاب المثقفون باليأس يفقدون البوصلة، أو يراهنون حتى على الشياطين، وهذا ما حصل لكثير من المثقفين السوريين المؤيدين للانتفاضة حين وضعوا زعيم جبهة النصرة ابن تنظيم القاعدة الشيخ أبو محمد الجولاني وتشي غيفارا في خانة واحدة، وحجَّ كثيرون منهم إلى البلاط الملكي السعودي وغيره من البلاطات الأوربية والأميركية كي يسترزقوا باسم الثورة وأجّرتْ كثير من الأقلام نفسها لإعداد جرعات السم الطائفية وتوزيعها.
وكما فعلت سوزان مبارك وغيرها من عقيلات القصور الجمهورية سابقاً، بدأت أسماء الأسد برعاية المهرجانات الثقافية والعلمية والطبية وبالتحدث عن دعم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة دون أن يكون هناك تمويل حقيقي للعناية بهم ومتابعة فعلية لهم تتعدى الظهور الإعلامي، ودون أن يكون هناك عدل في استقبال الحالات الكثيرة منهم في المراكز النادرة في سوريا. وغالب الظن أن موضوعهم بات طي النسيان في سنوات الحرب. وقبل ذلك كانت أسماء الأسد تحاول أن تبني شبكات في أوساط الشباب الموهوبين والمجتهدين، وأن تشكل جيلاً جديداً يعكس وجهاً آخر للابن القائد، الذي لم يحصل بعد على لقب الأب القائد، كما لو أنه فشل في امتحان الحصول على لقب البطريرك حتى بين الموالين له. وكما حدث تحول من أسماء الأخرس إلى أسماء الأسد، حدث تحول آخر بدأ يشغل الإعلام العربي والعالمي، وهو التحول من القوة الناعمة إلى القوة الخشنة، ذلك أن وضعيات النعومة والظهورات التلفزيونية المدروسة والمدبرة لا تساعد كثيراً في ترتيب بيت السلطة إذا لم يُرتَّب الوضع المالي، وترتيب الوضع المالي يقتضي وضع اليد على الشركات التي كان رامي مخلوف “مؤْتَمَناً” عليها. هكذا صار لأسماء مخالب أمام باب بيت المال، وبدأت هذه المخالب تخدش وتمزّق. وأسماء ”امرأة تحب السيطرة“، كما وصفها رجل الأعمال السوري فراس طلاس في مقابلة أجرتْها معه قناة الحرة مؤخراً، مضيفاً أنها بدأت تستغل ضعف خصومها وتعيّن موظفين أوفياء لها في مناصب حساسة وتسرّح من لا يُصْغي إلى كلمتها واضعة نصب عينيها هدف السيطرة على الثروة التي يديرها رامي مخلوف لا لكي تعيدها إلى أصحابها وإنما كي تؤمن مستقبل أولادها، عبر لعبة تنقل فيها الإشراف على سيرياتيل وراماك والشركات التابعة إلى الأمانة السورية للتنمية، أو تُلْحقها بوزارة الاتصالات مما يفسح المجال لتقديم زوجها في صورة محارب الفساد، حتى ولو كان الفاسدون من عائلته. ولم يفت فراس طلاس أن يشير بذكاء يميزه عن كثيرين من المتحدثين في الشأن السوري إلى وجود طائفتين في سوريا، الأولى هي الطائفة العلوية التي حاول رامي مخلوف أن يشدها إلى صفه في كلمتيه المصورتين، وطائفة الرئيس، وهي الشبكات التي تشمل أطرافاً من الطوائف كلها في سوريا، تسيطر على المال والقرار، وهذا يحيل إلى موضوع الشبكات الاقتصادية التي شكلها النظام، والتي ضمت مسؤولين وأبناء مسؤولين ورجال أعمال سنة ومن طوائف أخرى، وقد درسها بشكل مستفيض ومتعمق الباحث الأميركي من أصل لبناني بسام حداد في كتابه الموسوم ”شبكات الأعمال في سوريا: الاقتصاد السياسي للمرونة الاستبدادية“، وهو كتاب تساعد قراءته في فهم الصراع الدائر في سوريا من منظور تاريخي يضع في حسبانه السياقات التي توجد فيها سوريا والأطراف المعادية المتربصة بها.
ولا نعرف إن كان رامي مخلوف سيتمكن من الظهور في فيديو آخر كي ينذر بعقابه الإلهي، ذلك أن طلاس توقع في الحوار نفسه أن يغادر رامي المشهد بهدوء بعد أن يعتذر ويتنازل عن الشركات التي لا تشكل إلا ١٠٪ من الثروة، وأن يتم التنازل عن الأموال التي في الخارج عبر ترتيب أو اتفاق معين. وفي أحدث تصريح له في الإعلام الاجتماعي في وقت كتابة هذه السطور قال رامي مخلوف بالحرف الواحد متبنياً لغة دينية باطنية مدروسة: ”بعدما توجهتُ إلى عبادكَ لتبليغ مرادكَ لرفع الظلم عن عبادكَ فلم يعينني أحد… فعدتُ واستجرتُ بالواحد الأحد“، وهذا يؤكد أنه لم ولن يحصل على أية مساعدة من الرئيس، وأن الأمور ستأخذ مجراها في تجريده من الأموال والأملاك. وينطوي لجوء رامي إلى لغة دينية كهذه مدروسة وحمالة أوجه على احتمالات نجهل طبيعتها وعلينا أن ننتظر تطور الأحداث. ولا نعرف إن كان ما يجري نوعاً من ترتيب شبكة جديدة تجمع بين رموز سنية وعلوية لإرضاء الأطراف المغذية للصراع وللوصول إلى حل يخرج سوريا من مأزقها الحالي، إذ لا نمتلك معلومات أو إحصاءات دقيقة حول أي شيء في سوريا، إذا لم يكن مسرباً، ولا أحد يستطيع الوصول إلى أية معلومة، داخل القبضة الأمنية الساهرة على حراسة الأخطاء المتراكمة والمكدسة والتي تحولت إلى طبقات جيولوجية فوق خط زلازل السياسة في منطقة حساسة تشهد صراعاً إقليمياً وعالمياً للسيطرة عليها. ولن يكون هناك دور لأعضاء الحكومة الآخرين أو للمستشارين أو المقربين لأن أسماء وزوجها لا يستشيران إلا نفسيهما، ولا يصغيان إلا إلى ما يقولانه (بالطبع، باستثناء القنوات الأمنية). وروى مرة أحد الأدباء العرب في جلسة شخصية أن الرئيس بشار الأسد وجه دعوة من خلال مسؤولة الثقافة في سوريا السيدة نجاح العطار لعدد كبير من المفكرين العرب لمناقشة قضايا الأمن القومي والأخطار التي تهدد المنطقة. وكان من المتوقع أن يصغي الرئيس إلى المفكرين المدعوين كي يتنوَّر بآرائهم، لكنه قرر بدلاً من ذلك أن ينظّر عليهم كعادته، وحاضر بهم فترة طويلة ثم صرفهم دون أن يصغي إلى أي منهم. ولماذا يصغي؟ ومتى أصغى الدكتاتور العربي إلى مثقف أو مفكر؟ هذا طبيعي جداً في الدكتاتوريات. وأُشيعَ أيضاً أن الرئيس وزوجته لا يجالسان إلا الشخصيات الدرامية ولا يحترمان من المثقفين إلا الممثلين والمخرجين وبعض الرسامين والنحاتين المشهورين، ربما لأنه من السهل إعادة توجيه الممثل أو المخرج ودفعه إلى الاشتغال على موضوعات تخدم توجه السياسي، وهذا يفسّر محاولة بعض الممثلين والمخرجين احتلال دور المثقف المنظّر أو النزول إلى الشوارع لتهدئة المتظاهرين سواء في بدايات الانتفاضة أو بعد تفشي وباء كوفيد ١٩، رغم أن موضوع الدراما، وخاصة الكوميديا، معقد، ويمكن أن تكون الكوميديا أداة للسلطة وتنطوي على تمرد عليها في آن واحد معاً كما تبين الباحثة الأميركية ليزا ودين في كتابها ”استيعابات سلطوية، الإيديولوجيا والحكم والحداد في سوريا“، وهو كتاب يخلو من الآراء المسبقة ومسلح بالأدوات المعرفية والمنهجية الدقيقة، وقائم على بحث ميداني إثنوغرافي دقيق. ومن خلال أدوات معرفية وعبر مناهجية يقرأ الكتاب الحدث السوري بعيداً عن الاصطفافات والولاءات من أجل الإسهام في جدل حول الإيديولوجيا واشتغالاتها على الساحة السورية، مما يلغي الفارق بين باحث من ثقافة أخرى وباحث محلي، لأن الصراع ضد السلطة والهيمنة هو صراع عالمي نظراً لتشابكات السلطة العابرة للحدود القومية وقد تنفع فيه دراسة مكتوبة بلغة أخرى أكثر من دراسة مكتوبة بلغة البلد خاصة إذا كانت تخلو من الموضوعية، مما يقود إلى ضرورة إلغاء النظرة القائمة على الشبهة إلى الباحثين الغرببين الجادين الموروثة من النظرة إلى المستشرقين الذين كانوا موظفين في المشروع الكولونيالي. وتكفي الإشارة هنا إلى أن ليزا ودين فُصلت لمدة عام من جامعة بيركلي لأنها انتقدت الممارسات القمعية والاستيطانية الصهيونية. ويفرد كتابها فصلاً كاملاً للكوميديا السورية بعنوان ”الفكاهة في الأزمنة المظلمة“. وفي الفصل الأول الذي جاء بعنوان ”أوتوقراطية نيوليبرالية وتقويضها“، توضح ودين أنه من خلال تسويق دعائي مدروس حاولت أسماء الأسد أن تجسد الفعالية النيوليبرالية، وتقدم نفسها على أنها الاستعارة السائرة والمتحدثة للنظام الأخلاقي النيوليبرالي، على أساس أن مشاريعها مختلفة عن آليات النظام الاستبدادي في السيطرة الاجتماعية سعياً إلى “المواطن الفاعل“. ذلك أن أسماء التي سماها الإعلام السوري سيدة الياسمين وسمّتْها مجلة فوغ وردة الصحراء، والتي تدير مكتبها، بحسب أحد كتاب هذه المجلة الذي تستشهد به ودين، كما لو أنه مشروع أعمال تجارية، عملت، على أن تُظهر نفسها كوجه من وجوه الثراء الليبرالي الجديد، وبُذلت جهود إعلامية في هذا الإطار لتصنيع صورة نيوليبرالية عن رفاه مزعوم لجذب السوريين إلى مزيد من القبول والإذعان للنظام القائم يختلف عما كان يحدث في العهد السابق. وفي خضم التغطية الإعلامية السائدة للخلاف المزعوم بين رامي وأسماء تُختزل القضية السورية الآن إلى صراع على النفوذ والمال بين أطراف إما تعمل على البقاء في السلطة أو تعمل على أن تجدد السلطة وتمنحها وجهاً جديداً، دون إحداث تغيير جوهري في بنيتها، لإرضاء أطراف معينة قبل أن تبدأ وليمة إعادة الإعمار.
وفي هذه الأثناء يحتدم الصراع على بيت مال السلطة، وتنبري له الخبيرة المصرفية السابقة، التي لم يحدث أن وقفت (لا هي ولا غيرها من المسؤولين) مرة في طابور كي تستلم جرة غاز، ولم تركض لاهثة تحت جسْر عمها الرئيس للحاق بميكرو صغير كي تذهب إلى غرفتها المستأجرة في الضواحي أو في العشوائيات، والتي لم تنتظر أمام فرن في ركن الدين أو القدم أو قدسيا أو التضامن أو دف الشوك أو ال ٨٦ وغيرها من الأحياء الأخرى كي تحظى بربطة خبز تسد بها رمق أولادها. غير أن أسماء الأسد أو رامي أو الرئيس ورجال أعمال المرحلة وأصحاب القرار الآخرين في سوريا يستخرجون ثرواتهم من هذا التهميش والتفقير لسواد الشعب السوري، الذي قرف من التكنوقراط ورجال الأعمال والمقاولين وشركاء البزنس والسياسيين الذين عمَّتْ فضائح صفقاتهم حتى فاحت روائحها الفاسدة.
يختزل الإعلام القضية السورية إلى رواية أبطالها رامي وأسماء وبشار وماهر ومهند لكن القضية أكبر من ذلك، والمشكلة أعقد. وإذا كان النزاع قائماً على ثروات وشركات ستوسّع أموالهم وتمتّن أمنهم، وتساعدهم في التضييق على منافسيهم، وتمول أدوات قمعهم فإن كارثة انهيار المجتمع والدولة، وتمزق الجسد الاجتماعي، والجراح العميقة التي لم تندمل، والتي سيمضي وقت طويل قبل أن تشفى أو تُنسى، لن يفعل لها هذا الصراع على المال شيئا سوى مفاقمتها. ولن تستطيع وردة الصحراء ولا موظفوها ولا الذي كان رامياً بسهام غيره، ولا من قرر أن يتبعه، ولا من اختار الحل الأمني الدموي ولم يُصْغ لنصائح العقلاء في نظامه، أن يفعلوا شيئاً. ربما سيسكنون في فيلات محاطة بالحراس والدشم والرشاشات الثقيلة، ويحلق فوقهم طيران الحليف الروسي، ولكن إلى متى؟
يختزل الخطاب الإعلامي المشكلة السورية إلى صراع مالي داخل المجموعة الحاكمة، ويجيّش “خبراء” النظام والطائفة العلوية وخبراء الداخل ورجال الأعمال السابقين الذين بدأ بعضهم يوزع شهادات الذكاء والغباء من مختبراتهم الإعلامية الطائفية كي يطرحوا مقارباتهم القائمة على التكهنات وتصفية الحسابات، لكن وفي سط كل هذا الضباب الإعلامي تبزغ حقيقة جلية، وهي أن من يضع يده على المال، سواء كان أسماء أم غيرها، قد لا يكون طرفاً في الحل، وإذا ما حالفه الحظ وصار طرفاً فيه فإنه سيرضخ لشروط مفروضة عليه ويلعب دوره المطلوب، ألا وهو ترتيب المصالح الأميركية في نفط شمال شرقي سورية، والمصالح الروسية في طرطوس وتدمر والبادية وكافة البقاع السورية الأخرى، وترتيب المصالح الإسرائيلية تحت مظلة روسية، ناهيك عن المصالح الإيرانية والتركية، ويبقى الخاسر الأكبر في المعادلة هو الشعب السوري.
قذفت الحرب السورية أحجارها على أحد القصور البلورية للنيوليبرالية وهشمته فخرجت منه أسماء الأسد في قناعها النيوليبرالي الجديد ورامي في قناعه الديني كما لو أنه سيعتكف في قبة في قرية بستان الباشا على الساحل السوري، أو سيتم تسفيره إلى بلد آخر كي يسلم المفاتيح، ذلك أن الظلم الذي تعرض له قد فاق طاقته كما يقول في تصريحه الفيسبوكي، وبما أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً حيال ذلك ربما كان الانصراف إلى العبادة حلاً إلى حين. ويبدو أن أسماء الأسد ارتدت ثياب عمل جديدة، ثياب الموظفة المصرفية السابقة وخبيرة الحسابات في جي بي مورغان وشرعت في ترتيب بيت مال الدكتاتورية من جديد كي يرثه أبناؤها وكي تبني قصراً جديداً، تتمظهر فيه النيوليبرالية في أشكال مختلفة إذا ما حالفها الحظ، ويتشكّل أداؤها الآن في دور جديد من أجل فرض ”الكونترول“ على هذا المال (إذا استعرنا الكلمة التي استخدمها فراس طلاس في مقابلته مع الحرة)، وهي تلعب بالنار مع أصابع كثيرة متشابكة مع أصابعها أو منافسة لها، ولا نعرف أية أصابع منها ستحترق، كما لا نعرف في ضوء السرية والغموض اللذين يكتنفان الدكتاتوريات العسكرية ما الذي ستتمخض عنه الأمور.
مراجع معتمدة
1- Wedeen, Lisa. Authoritarian Apprehensions: Ideology, Judgement and Mourning in Syria. Chicago: Chicago University Press, 2019.
2- Haddad, Bassam. Business Networks in Syria: The Political Economy of Authoritarian
Resilience. Stanford: Stanford University Press, 2012.
3- https://www.youtube.com/watch?v=5asF-rCK44s
4-https://www.youtube.com/watch?v=rCI0hZxSkGw
5-https://www.salonsyria.com/رامي–مخلوف–القصة–الكاملة–غير–مكتملة/#.XrjJEy-ZPdc.
6-https://www.salonsyria.com/تطورات–قضية–رامي–مخلوف/#.XrjJLS-ZPdc
7-https://www.facebook.com/watch/?v=1374894359200246
8-https://www.jesrpress.com/2020/04/17/بشار–الأسد–يشتري–لزوجته–لوحة–بقيمة–٣%D9%A0-م/
بواسطة عامر فياض | مايو 13, 2020 | Cost of War, غير مصنف
تسع سنواتٍ ومازال الواقع السكني والمعيشي لمعظم نازحي الداخل على حاله. وتقدر بعض التقارير والإحصائيات الأممية أعدادهم بأكثر من 7 ملايين نازح، يقيم نحو مليونين ونصف منهم في دمشق وريفها. ومنذ بدء حركات النزوح وحتى اليوم، لجأ الكثير منهم، إلى السكن في شققٍ (على العظم) غير مجهزة لذلك ولم تُكس بعد، وذلك نتيجة تزايد الطلب على استئجار البيوت وتحليق أسعار إيجاراتها، ما جعل حارات وأحياءً بأكملها تكتظ بساكني تلك الشقق في ظاهرة تفاقم انتشارها لتتغلل في المشهد العمراني لكثير من المدن، حتى باتت مألوفة بين الناس وفي المكاتب العقارية التي تقدم عروضاً لاستئجار (شقق العظم)، التي كان على ساكنيها أن يستصلحوها بأن يرتجلوا فيها مطبخاً ومرحاضاً ويبتكروا حلولاً ليجلبوا شيئاً من الحياة إلى وحشتها. وقد ظنوا في بداية الأمر أن سكنهم فيها سيكون حلاً إسعافياً مؤقتاً، ولكن هذا المؤقت قد تحول إلى شبه دائم، بعد انعدام خيارات العودة لبيوتهم أو الانتقال إلى سكنٍ أفضل، حيث تجاوزت إقامة بعضهم في تلك الشقق نحو 8 سنواتٍ وأكثر.
أماكن لا تصلح للحياة
حين تدخل شقة أبو عمر تستقبلك على الفور كومة كبيرة، من الحصى والرمل وبقايا قطع الطوب، تم تجميعها في الصالون، بعد أن كانت متناثرة في أنحاء الشقة، لتحتل نصف مساحته، ولتستغني العائلة عنه وتكتفي باستصلاح غرفة واحدة للجلوس والنوم. الجزء المتبقي من الصالون استغله أطفال العائلة كمكان للدراسة فوضعوا فيه طاولة صنعت من قطع (البلوك) التي وضعت فوق بعضها وغطّاها لوح خشبي متآكل.
الغرفة المستصلحة للسكن تمتلئ جدرانها بالحفر والثقوب التي سُدت بقطع الورق والقماش والنايلون. على بابها وضعت ستارة قماشية، وأغلقت نافذتاها بشوادر من النايلون. أما أثاثها فيقتصر على بضع كراتين وصناديق تستخدم كبديل عن الخزانة، وتلفاز صغير من النوع القديم، وضع على أحد الصناديق. وعلى أحد جدرانها ثُبتت قطعة خشبية طويلة فيها مجموعة مسامير عُلِّقت عليها بعض الثياب، فيما فرشت أرضيتها الخشنة بسجادة مهترئة، تماهى لونها مع لون الرمل، وضع فوقها بعض الفرش والبطانيات باهتة اللون. أما ما يسمى بالمطبخ فهو بدوره مكان خاوٍ يفتقر لأبسط مقومات الحياة، يحتوي على بعض أواني الطبخ والصحون وغالونات الماء والصناديق، فيما يغيب عنه أي أثاثٍ (براد، غسالة، بوتوغاز، فرن.. الخ) قد يجعل منه مطبخاً.
في شقة مشابهة تعيش أم عبد الرحمن وأبناؤها الثلاثة، تم استصلاحها بمساعدة الجيران الذين تبرعوا لها بباب خشبي قديم إلى جانب بعض الأثاث المستعمل، وساعدوا في معالجة الثقوب الكثيرة للجدران وتسوية الحفر في أرضيتها الوعرة باستخدام الجبصين والإسمنت. كما قاموا بمد خرطوم ماء وخط كهرباء من بيتهم لإضاءة الشقة البائسة بلمبة صفراء ولتشغيل سخان للطبخ وتسخين الماء. وفي محاولة لتخفيف حدة بشاعة المكان قامت العائلة بجمع الكثير من الكراتين على مدار أيام، فوضعت بعضها تحت السجادة لتخفيف تعرجات الأرضية فيما أُلصق بعضها الآخر، إلى جانب بعض الجرائد، على الجدران والسقف لإخفاء جانب من قبحها وألوانها الكالحة.
تقول أم عبد الرحمن التي توفي زوجها قبل خمسة أعوام:” ندفع إيجار هذه الشقة 20 ألف ليرة ونقيم فيها منذ سنتين. قبل ذلك سكنّا في شقة مشابهة لثلاث سنوات. لا خيار أمامنا سوى شقق كهذه، فإيجار المنزل الجيد يحتاج نحو 50 أو 60 ألفاً وهذا مبلغٌ نعجز عن تأمينه”.
في أحياء مدينة جرمانا تستوقفك مئات البنايات التي تكشف نوافذ شققها، المغلقة بالخشب والشوادر وقطع الطوب وأشياء أخرى، معاناة من يعيش خلفها. أحد تلك البنايات لم تُجهّز للسكن بعد ولم تصلها خدمات الماء والكهرباء والصرف الصحي، ورغم ذلك تقطنها سبع عائلات نازحة منذ نحو خمس سنوات. في مدخلها تتقافز الجرذان بين أكوام القمامة المكدسة عبر سنوات. أدراجها لم تجهز كما يجب وغير آمنة. أبواب شققها مصنعة كيفما اتفق، من بعض الخردة والتنك والخشب.
يروي أبو حسام أحد سكان تلك البناية جانباً من واقعهم السكني: “حين أتينا إلى هنا مكثنا أشهراً في ظروف أكثر سوءاً. في البداية حاولنا إصلاح الشقق فأخرجنا مخلفات البناء من داخلها، أغلقنا النوافذ ووضعنا أبواباً ورممنا بعض الجدران، ثم استطعنا، بعد توسلٍ وعناء، استجرار خطوط الكهرباء من معملٍ لمواد البناء ومن بناية مجاورة، وبعد ذلك جلبنا بعض البراميل والغالونات، لنملأها بالماء، كما جمعنا بعض الأثاث، الذي استغنى أصحابه عنه، من أماكن متفرقة “. ويضيف “تمكنا فيما بعد، كيفما اتفق، من مد خط للصرف الصحي وآخر للماء وبذلك استطعنا توفير مكان يشبه المرحاض داخل شققنا، وقد كنا قبل ذلك نقضي حوائجنا في بعض الشقق غير المسكونة وفي أماكن أخرى”.
معاناة يومية
خلال فصل الشتاء وبينما كان الناس يحتفلون بالمطر الوفير، كانت عائلة أبو محمد تعاني مع كل هطول، فتستنفر لتضع الأواني والطناجر تحت قطرات الماء المتسربة من السقف الرطب، والتي كثيراً ما غافلتهم لتبلّل الفرش والبطانيات والسجادة الوحيدة، ولتحرمهم الراحة والنوم. ولم تتوقف معاناتهم على ذلك، فكثيراً ما تعرضوا لاستنشاق دخان المدافئ، المشتعلة في الطوابق السفلى، والذي ينبعث من ثقوب وتشققات مداخنها التي تعبر من خلال جدران شقتهم الكائنة في الطابق الأخير. وعن ذلك يقول أبو محمد: ” لم يأبه صاحب الشقة بمعاناتنا مع الدخان الذي كان ينتشر في المكان ليسبب لنا اختناقاً يومياً، فنحن بنظره بشر من الدرجة الثانية، ما اضطرني لشراء الإسمنت وخلطه ببعض الرمل، المتوفر حيث نقيم، لإصلاح تلك المداخن، التي تحتاج للصيانة كل حين”.
أبو محمد الذي يختنق من دخان مدافئ سكان البناية لا يمتلك مثلهم مدفأة مازوت : “في فصل الشتاء نبحث في جوارنا عن كل ما يمكن إشعاله كبقايا الأخشاب والكرتون وأكياس الورق والنايلون لنضعها في مدفأة حطب قديمة تبرع لنا بها أحد الجيران”.
في مكان آخر تعاني عائلة أبو مؤيد كل يومٍ في نقل نحو عشرة غالونات ماء إلى الطابق الخامس، حيث تقيم، لتعبئة برميلٍ يؤمن حاجاتهم في الاستحمام والغسيل وجلي الأطباق. برميل الماء هذا كان يستخدم سابقاً في أعمال البناء، لذا تشكلت في قعره طبقة سميكة وصلبة من بقايا الرمل والإسمنت. يقول أبو مؤيد: “قبل النزوح من منزلنا، كان طقس الاستحمام يستغرق وقتاً طويلاً، بصحبة الماء النقي الساخن والروائح العطرة، أما اليوم فنكتفي باستحمام سريع لا يشعرنا بأي بنظافة، نستهلك لأجله ليترات قليلة من الماء العكر والملوث، الذي سبب لنا جفافاً وخشونة في البشرة “. مضيفاً: ” نشعر أن طعم ذلك الماء عالق في الصحون والأواني فيما تفوح من ثيابنا رائحة غير محببة حتى بعد أن نغسلها”.
إلى جانب ذلك تعيش العائلة معاناة يومية مع الحشرات المختلفة، كالذباب والبعوض والصراصير وغيرها، التي تنبع من كل زاوية وكأنها معششة في ثقوب الجدران لتؤرق نومهم وحياتهم، فيما تخرج الفئران من جحورها الكثيرة لتصول وتجول في المكان الذي نُصب فيه خمس مصائد في محاولة لقتل أكبر عدد ممكن منها.
انعدام في الأمان وخصوصية منتهكة
تتحدث أم محمود عن الواقع اليومي الذي تعيشه وعائلتها: ” نشعر وكأننا نعيش في العراء وتحت أنظار الجميع. نضطر للتحدث بصوت خافت، فلا نوافذ ولا أبواب تحجب صوتنا الذي يتسرب لجيراننا. وفي الليل قلما نغفو بعمق، حيث يحاصرنا الخوف والقلق كل لحظةٍ من اقتحام أحد للمكان غير الآمن، لذا نضطر لوضع بعض قطع (البلوك) خلف الباب المتداعي لتدعيمه”.
ظروف مشابهة تعيشها جارتها التي توصد باب شقتها بوضع قطعة خشبية متينة بينه وبين الجدار المقابل له. وتحدثنا عن معاناة أخرى: ” حوَّل متعهد إكساء البناية إحدى غرف شقتنا إلى مستودع لمواد البناء والإكساء التي أصبحنا نعيش معها. وكل يوم وفي أي وقت يدخل العمال ليأخذوا منها ما يحتاجونه لعملهم فيتطفلوا على أدق تفاصيل حياتنا، لنبقى في حالة دائمة من التوتر وعدم الاسترخاء”.
وفي إحدى غرف شقة أبو خالد مستودع من نوع آخر، وَضع فيه صاحبها الذي يقيم في الأسفل بعض الأثاث والخردة بالإضافة لبرميلين من المازوت.
يقول أبو خالد: “يأتي صاحب الشقة متى يشاء ليضع أو ليأخذ شيئاً من مستودعه. وخلال فصل الشتاء، كان يأتي يومياً لنملأ له غالون مازوت للتدفئة، بينما كنا نحن نعيش بصحبة البرد القارس الذي نقاومه بما توفر من حطب ومواد يمكننا إشعالها”. ويضيف: “كثيراً ما يحضر أصحاب المكاتب العقارية بصحبة زبائن راغبين بشراء منزل، فيتفحصون مكاننا وينتهكون خصوصيتنا ويرموننا بسهام الشفقة والدونية”.
سنوات من الانتظار المرهق مرت عليهم، كانت لهم بيوت تزخر بالألفة والخير والكرم، مازالوا يحلمون بالعودة إليها، بالرغم من أن بعضها قد دُمِّر بالكامل. يُمنّون أنفسهم كل يوم بالنجاة من جحيم تلك الشقق التي تجبرهم على التأقلم السلبي مع ظروف تميتهم كل يوم آلاف المرات وتحدد لهم طريقة حياتهم وسلوكهم الاجتماعي. تسلبهم حريتهم وإنسانيتهم وتزرع بداخلهم آثاراً نفسية مدمرة تقتل عندهم طاقات الحياة وتغلق في وجوههم آلاف الآفاق والأحلام.
بواسطة Haifa Hakim | مايو 7, 2020 | Cost of War, Culture, غير مصنف
صحيح أن الدراما السورية انطلقت وحققت انتشاراً ونجاحاً في السنوات الأخيرة، وخاض العديد من المخرجين السوريين مواضيع جريئة وتبدو للوهلة الأولى متجاوزة للخطوط الحمراء وأولها طبعاً الأجهزة الأمنية في سوريا. لكن ثمة رسالة لكل عمل فني وإبداعي. فأية رسالة أوصلتها تلك الأعمال الدرامية الجريئة والناجحة جداً للجمهور السوري والعربي. سأعطي مثالاً عن مسلسل تم إنتاجه في 2018 (أي بعد الثورة السورية)، وهو مسلسل (ترجمان الأشواق) بطولة ممثلين مبدعين غسان مسعود (الذي مثل في أفلام هوليودية وأصبح نجماً عالمياً) والممثل المبدع عباس النوري. قصة المسلسل تحكي عن سجين سياسي (عباس النوري) هرب من سوريا إلى أميركا وبقي فيها عشرين عاماً، ويأتيه خبر أن ابنته الوحيدة ذات العشرين ربيعاً خُطفت، وهو لا يعرف ابنته لأنه حين هرب من سوريا إلى أميركا كانت طفلة صغيرة. ويبدأ صراعاً شرساً في نفسه حول كيفية العودة إلى سوريا (وهو السجين السياسي الهارب منها) وضرورة عودته للبحث عن ابنته المخطوفة. ويقرر أخيراً العودة إلى دمشق كي يبحث عن الخاطفين لابنته الوحيدة، وما أن يصل إلى دمشق حتى يتم إستدعاؤه إلى أحد الفروع الأمنية، ولا أحد من أسرته (أمه العجوز وأخته وصهره) ولا أصدقاؤه (غسان مسعود الذي يعمل طبيباً جراحاً في المسلسل) وغيرهم من المعارف والأصدقاء، لا أحد يعرف أي فرع مخابراتي استدعى السجين السياسي السابق الذي تبين أنه شيوعي لأن مكتبته تضم كتباً عن لينين. وتبدأ حالة من الهيجان والهستيريا عند كل فرد من أسرة السجين السياسي وعند أصدقائه في الترجي والتذلل لشخصيات ذات مناصب عالية في الدولة ومعظمهم ضباط فقط ليعرفوا في أي فرع من فروع أمن الدولة احتجز إبنهم. حالة مُروعة من القلق الذي يصل حد الذعر تصيب أهل السجين السياسي وهم يبحثون عنه في فروع الأمن. ونجد السجين السياسي وهو مترجم مهم ومؤلف كتب جالساً بكل ذل أمام المحقق في أحد فروع المخابرات يسأله المحقق عن رأيه بما يجري في سوريا، فيلتزم الصمت، ويسأله إن كانت له علاقة بتنظيمات معادية للنظام السوري، ثم يطلب منه أن يكتب على ورقة كل تفاصيل حياته وبالتفصيل الدقيق، فيقول له السجين السياسي السابق: لكنكم تعرفون تفاصيل حياتي تماماً فلماذا أكتبها؟
أكثر من عشر حلقات في بداية المسلسل تصور تسلط الأجهزة الأمنية في حياة السوري والرهاب الذي يحسه تجاهها، لدرجة يصبح موضوع المسلسل ليس بحث الأب عن خاطفي ابنته بل الخوف لدرجة الشلل والذعر من سطوة الأجهزة الأمنية على حياة السوريين، والسيناريو المُتقن والتصوير الآسر لممارسات الأجهزة الأمنية، على مدى أكثر من عشر حلقات نرى أقرباء السجين السياسي وأصدقاءه يدورون مُروعين من مسؤول إلى مسؤول فقط ليعرفوا في أي فرع أمني هو! يحضرني الكثير من المسلسلات التي ناقشت سطوة الأجهزة الأمنية في سوريا مثل مسلسل (غزلان في غابة من الذئاب) للمخرجة المبدعة رشا شربتجي حيث حكت بالتفصيل وبمصداقية عالية عن ممارسات (يعرفها بالتفصيل كل أهالي اللاذقية تحديداً) عن أحد الشخصيات من رأس النظام الذي روع أهل اللاذقية بممارساته السادية المجنونة كأن يطلب من مجموعة رجال كهول وعجائز في مقهى أن ينبطحوا تحت الطاولات ثم يقوم بإطلاق النار في الهواء وهو يضحك ضحكاً هستيرياً، أو يختار أجمل فتيات اللاذقية ليصبحن عشيقاته ويقتحم بيوت أهلهن في منتصف الليل ليطلب لقاء الصبية التي يريدها عشيقة. وأدت ممارساته إلى هرب العديد من العائلات في اللاذقية خارج سوريا خوفاً على بناتها من الجنون والسلطة المطلقة لأحد أهم شخصيات النظام الذي لا يجرؤ أحد على محاسبته. أبدعت المخرجة رشا شربتجي في هذا المسلسل وشعر أهل اللاذقية بالنشوة كما لو أنهم ينتقمون بطريقة ما من السافل المجرم الذي أذلهم والذي اشترى شهادة الحقوق وفتح مكتب محاماة. الكثير من المسلسلات والحلقات التلفزيونية خاصة (بقعة ضوء) وتحديداً الحلقات التي كان يعدها ويكتبها المخرج الوطني الراقي ياسر العظمة الذي أبدع في عرض حلقات ساخرة وجريئة حول ممارسات الأجهزة الأمنية وسطوتها وصلاحياتها المطلقة في الهيمنة على حياة الناس. ولا أنسى في أحد الجلسات التي ضمت العديد من الشخصيات الأدبية والفنية وكان أحد أهم ضباط الأمن في سوريا في الجلسة (لأنه أخ أحد المثقفين)، أذكر أنه اعترف متباهياً أنه كان هو شخصياً من يعذب المعارض عارف دليلة. وكان في الجلسة أحد أهم المثقفين الذين أخرسهم هذا الاعتراف الوقح كأنه صفعة، خاصة أن معظم هؤلاء كان قد سُجن لسنوات طويلة بتهم عديدة كالانتماء إلى رابطة العمل الشيوعي أو غيرها.
السؤال الوحيد الأهم الذي يطرح نفسه: ما تأثير هذه الدراما التلفزيونية السورية الناجحة جداً جماهيرياً وذات الحرفية والفنية العالية والتي تبدو أنها تنتقد بجرأة عالية متجاوزة الخطوط الحمراء والأجهزة الأمنية وسطوتها وكيف يعيش الناس مُروعين من سطوة الأجهزة الأمنية! في الواقع هذه المسلسلات ورغم أنها ساعدت الناس كي تنفس عن آلامها وإحساسها بالظلم والقهر وكأنها كانت صرختها المكبوتة لسنوات طويلة، لكن في حقيقة الأمر فإن كل هذه المسلسلات رسخت في وعي الناس ولا وعيهم حقيقة السلطة المطلقة لأجهزة الأمن، وبأنه لن يحصل أي تغيير على أرض الواقع؛ وبأن الاستبداد يتكاثر؛ وبأن شخصية السادي المجرم (كبطل مسلسل المخرجة رشا شربتجي في مسلسل غابة من الذئاب) قد ناب عنه ما هو أوحش منه وأكثر إجراماً ووحشية، وكان من هرم النظام وفوق القوانين، وهو من خطط لخطف العديد من الشبان الأثرياء وطلب فديه بالملايين عنهم. ودفع أهالي المخطوفين الملايين بصمت وذل ولم يجرؤ أي منهم بتقديم شكوى ضد المجرم مطلق الصلاحيات. وأحد الشبان الأثرياء المخطوفين كان من معارفي وكان في الـ 37 من عمره، وحين حرره المجرم من الخطف بعد أن دفع أهله 60 مليون ليرة سورية للخاطف الخارج عن القانون، زرته لأقول له الحمد لله على سلامتك. وطول ساعة قضيتها عنده في البيت لم ينطق بكلمة واحدة هو وزوجته وكل سؤال كنت أسأله له أو لزوجته كان جوابهما الوحيد: “يكثر خير الله”! أي ذل وذعر يعيشه الإنسان السوري الذي لا يجرؤ أن يقول كلمة واحدة حتى بعد أن دفع الملايين لتحريره من عصابة الخطف التي يقودها شخص لا يجرؤ أي قاضي على محاسبته. وهذا المواطن المسحوق الذي يعرف سلفاً أن لا جدوى من التقدم بشكوى بحق الخاطفين، بل كل ما يمكنه قوله: “يكثر خير الله”.
للأسف هذه الأعمال الدرامية السورية خاصة تلك التي انتقدت بفنية عالية ومصداقية عالية ممارسات وتسلط الأجهزة الأمنية في سوريا على حياة الناس، لم يكن لها أي تأثير على أرض الواقع، فتسلط الأجهزة الأمنية ما زال كما هو، بل أزعم بأن هذه الأعمال الدرامية التي سمحت بشيء من التنفيس وفشة الخلق للمواطن السوري من ممارسات الأجهزة الأمنية فإنها في الواقع رسخت في لاوعيه المزيد من الخوف والذعر من فروع المخابرات مُطلقة الصلاحيات. ولأن لا شيء يتغير على أرض الواقع. بالتأكيد لا أنكر أن الكثير من التنظيمات الإرهابية والسلفية مارسات ممارسات وحشية بحق الشعب السوري وخاصة الناشطين منه وخطفت وقتلت وتوحشت، وأن جبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الإرهابية أوغلت في أعمال الإجرام بحق الشعب السوري وبدعم من دول إقليمية عديدة. لكن ما أردت إلقاء الضوء عليه هو تلك الأعمال الدرامية السورية التي حققت نجاحاً لافتاً وشعبية كبيرة لدى الإنسان السوري المُروع من سطوة الأجهزة الأمنية. فهذه الأعمال تظل كمزهرية للزينة فقط، وسط خراب كبير في سوريا هدم الحجر وكبرياء البشر وإحساسهم بكرامتهم وعزة نفسهم.
وبما أن شهر رمضان الفضيل حل أماناً وفرحاً في نفوس الكثيرين، وبما أن هناك ازدحام كبير في عرض المسلسلات الخاصة برمضان (أي التي تُعرض عرضاً أولياً في رمضان)؛ فقد سمح لي فقر الحياة في سورية والفضول في معرفة الجديد والقديم الذي تعرضه هذه المسلسلات المُخصصة للشهر الفضيل. فقد رُوعت حقاً من التدني الفكري والفني لمعظم هذه المسلسلات وأحب أن أذكر بضع نقاط أساسية فيما يخص الدراما الرمضانية:
أولاً: هناك (وكل سنة في شهر رمضان) ما يُسمى مسلسلات أو دراما النجوم كما لو أن هناك قاعدة أن يكون لكل نجم مسلسل خاص به ويقوم ببطولته (كما لو أنهم يُفصلون بدله للممثل) فمثلاً كل سنة وعلى مدار سنوات من دراما رمضان يجب أن يكون هناك مسلسل بطولة الممثلة يسرى ومسلسل آخر بطولة عادل إمام. ومسلسل أو أكثر بطولة عابد فهد ( لذي كرر عدة أدوار كضابط أمني متوحش حتى حفظ الدور ظهراً عن قلب)، وكذلك الممثل جمال سليمان الذي يجب أن يكون له بطولة مطلقة في مسلسلات رمضان. كذلك في الدراما اللبنانية ثمة ترسيخ لنجوم معينين مثل كارين رزق الله وشوقي أبي شقرا. لا أقلل من القيمة الفنية لهؤلاء المبدعين النجوم لكن صدقاً الناس أصابها الملل منهم، خاصة أن الأدوار تُفصل على شخصيتهم أي يتم إبتكار أحداث وكتابة سيناريو حسب رغبة النجم. وغالباً ما يختارون أن يكون دورهم مثالياً وأخلاقياً كما لو أنهم واعظون ومبشرون للخير والفضيلة. أما مواضيع المسلسلات بشكل عام فهي بحالة قطيعة تامة مع واقع الناس وظروف حياتهم. الكثير من المسلسلات تكون القصة فيها الخيانة الزوجية (مثل مسلسل بردانه أنا اللبناني وأولاد آدم لمكسيم خليل، ومسلسل ليالينا 80 المصري وغيره)، وكأن موضوع الخيانة الزوجية هو أزمة الناس في العالم العربي (الذين – كما أعتقد نسوا الجنس وجنسهم) وأصبحوا لاهثين وراء رغيف الخبز ومهددين بالموت جوعاً. ومن الضروري الإشارة إلى عدة مسلسلات سعودية كُتب عنها كثيراً وحضرت بعض حلقاتها وأنا مذهولة وهي تروج علناً للتطبيع مع إسرائيل. وللأسف لم تتعرض تلك المسلسلات للنقد الجاد بل ثمة تواطؤ على التغاضي عنها. معظم مواضيع هذه المسلسلات هزيلة وغير مقنعة ومُفتعلة وتعتمد على الإطالة وتكرار المشاهد لغاية أن يكمل المسلسل 30 حلقة. لا يوجد مسلس عالج موضوع البطالة في العالم العربي وهجرة الشباب اليائس من إيجاد وظيفة في وطنه ولا ظاهرة انتحار الشباب يأساً (كما حصل في تونس وفي لبنان مثلاً)، ولم يتجرأ أي مسلسل أن يشير بشجاعة وصراحة إلى فساد الطبقة الحاكمة، بل دوماً هناك فاسد كبير وناهب للمال العام وعادة يكون تاجر مخدرات ويتمكن غالباً من شراء براءته برشوة القضاء؛ أما هذا الفاسد فلا أحد يعلم من يدعمه وواضح أن كل الطبقة السياسية تدعمه وفي كل العالم العربي (كلون يعني كلون)، لكن لا أحد يجرؤ على المس بشخص النائب أو الوزير (في كل بلدان العالم العربي) وفضح الـ(كلون يعني كلون). مواضيع رمضان هذا العام تُثير الخجل لضعفها الفني والفكري وانفصالها عن الواقع.
ثانياً: من الضروري أن نشير إلى شكل النجمات أو الممثلات أو تجاوزاً الحسناوات، المبالغة في عمليات التجميل وخاصة نفخ الشفاه والخدود ووشم الحواجب بطريقة معينة حيث يبدو الحاجب كخط عريض بعرض الإصبع معيب، كذلك المبالغة في حقن البوتوكس الذي يشل العضلات فيفقد الوجه قدرته التعبيرية. صدقاً لم أعرف مثلاً الممثلة الجميلة (رواد عليو التي لعبت دور عفوفة في ضيعة ضايعة وكانت جميلة جداً وجمالها طبيعي) بعد أن غيرت كل ملامح وجهها من نفخ شفتين وخدود ووشم حاجبيها. صدقاً لم أعرفها، صارت كما يسمونهم في فرنسا (دمية كولاجين) وغيرها من الممثلات اللاتي أصبحن صورة نمطية واحدة لمفهوم الإثارة والجمال ولا أعرف من يحدده! منظر نيكول سابا الجميلة أساساً أصبح مُنفراً بعد حقن شفتيها، كذلك ملكة جمال لبنان سابقاً نادين نجيم أستغرب لماذا حقنت شفتيها وغيرهن كثيرات. كما أن المبالغة في إظهار المفاتن بالثياب الضيقة جداً والفساتين القصيرة والشورت وغيره غريب عن بيئة مجتمعاتنا المحافظة. واضح أن غاية المنتج والمخرج جذب أكبر عدد من المشاهدة عن طريق إغواء وإغراء المشاهد بالممثلات الحسناوات. أستغرب هذا الاستهتار والخيانة للفن الراقي والمقنع للمشاهد فميريل ستريب الحاصلة على أربع أوسكارات لم تقم بحقن نقطة بوتوكس في وجهها وفي مقابلة معها قالت: “أنا أعبر بملامح وجهي، كل خط في وجهي يعبر”. كذلك صرح جورج كلوني الممثل العالمي أنه ممنوع على الممثل تغيير ملامح وجهه لأنها أداته في إيصال الانفعالات والأحاسيس للمشاهد. بينما نجد نجمات مثل نبيلة عبيد وناديا الجندي وبوسي ويسرى وغيرهن بوجوه من كولاجين، ملامح جامدة ولا يوجد خط واحد في وجوههن المنفوخة وقد فقدن القدرة على التعبير. للأسف سقطت معظم الممثلات الشابات في العالم العربي بفخ التجميل، ما يعكس ضغط المجتمع على النساء وإحساسهن بعدم الثقة بجمالهن لدرجة تشعر فيها أجمل نساء المجتمع على شاشات تلفازنا بالضغط لاجراء عمليات تجميل قد لا تمنحهن الثقة التي حرمهن منها المجتمع.
ثالثاً: وأخيراً يؤسفني وأستغرب لماذا تغيب معظم البرامج الهامة الثقافية والاجتماعية الهامة والراقية والتي تعني حقاً بوجع المواطن في شهر رمضان الحالي! هل ثمة تعارض بين حشد التسلية في شهر رمضان والثقافة الأصيلة الجادة!
بواسطة Amal Mohsen | أبريل 29, 2020 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
تبدو التقارير التي تنشرها منظمة الصحة العالمية ووسائل الإعلام حول ندرة إصابة الأطفال بفيروس كورونا مطمئنة وواعدة إلا أنّ ما يحدث لهم من حالاتٍ نفسيةٍ أثناء الحجر قد تكون أشد خطراً وألماً عليهم وخصوصا في بلدٍ كسورية تعاني من صعوبات الحرب التي لم تنته بعد لتأتي جائحة كورونا وتضيف فصلا جديدا من فصول الخراب المستمر.
في الأيام الأولى للحجر كانت ابنتي الوحيدة (8 سنوات) تظنّ أنها عطلة رائعة أشبه بعطلة العيد، كانت سعيدةً لأننا سنجلس طويلاً معاً ولن أضطر لتركها والذهاب للعمل وسيكون هناك متسعٌ من الوقت لفعل أشياء ممتعةٍ ومسلية، ورغم جهودي لابتكار تلك الأشياء المسلية والمفيدة أصبحت جملتها المفضلة بعد مضي أسبوع واحد فقط: ” لقد مللت”!
في البداية حاولتُ استغلال الوقت المتاح لنا وتنظيمه وتوزيعه بين تدريسها لتعويضها عن انقطاع المدرسة، وبين ممارسة هواياتها المفضلة كالعزف والرسم والأشغال اليدوية، كما مارسنا التمارين الرياضية وشاهدنا الرسوم المتحركة وقرأنا جميع القصص في مكتبتها وتشاركنا أعمال المنزل، وعلى الرغم من كل المحاولات لكسر روتين الملل والقيام بأشياء جديدة إلا أنّ طول مدة الحظر جعلت كل ما نقوم به مملاً ومكرراً. من المؤكد أن التواصل الحسي المباشر ضروري ومهم لنمو شخصية الطفل من كل جوانبها، وحرمانه من الحركة والتواصل الاجتماعي مع المحيط سينعكس سلباً على نموه وملكاته، لذا بدأت ابنتي تدريجياً بفقدان اهتمامها بهواياتها وسيطر الملل على حياتها ولم تعد ترغب باللعب وترفض قراءة الدروس أو مطالعة الكتب، وفقدت رغبتها بالرسم وعزف الموسيقى، ومهما يكن الوقت الذي نمضيه معاً، إلا أنها باتت دائمة الشكوى من وحدتها ومن افتقادها الكبير لمدرستها وأصدقائها.
غياب الأب
بعد استشهاد زوجها اعتادت ريم وأطفالها (4 و6 سنوات) تمضية الوقت خارج منزلهم البسيط المؤلف من غرفةٍ واحدةٍ وذلك عبر القيام بزياراتٍ لا تنتهي للأهل ولجميع الجيران والأصدقاء وحتى أصدقاء الأصدقاء أحياناً، هاربةً من وحدتها وواقعها وعاجزةً عن العمل بسبب صغر أعمار أطفالها ومكتفيةً بالراتب المتواضع الذي تتقاضاه كتعويض من الدولة على استشهاد زوجها.
الحجر الصحي الذي فرضته كورونا وضع ريم مباشرةً أمام مرارة واقعها إضافة لصعوبة التعامل مع طفلين اعتادا الخروج واللعب مع الآخرين دون رقيب. بداية الحجر كان نشاطهما الدائم كارثة حقيقية، وصراخاً ولعباً وعنفاً متبادلاً بينهما ما اضطرها لاستخدام العقاب الجسدي لكبحهما ومن ثم إجبارهما على الجلوس أمام التلفاز عندما تكون الكهرباء متوفرة.
العنف المفاجئ الذي أبدته الأم انعكس على الأطفال بشكلٍ مباشرٍ، فقد تحولا إلى طفلين خاملين وبدت علامات الاضطراب في سلوكهما تبدو واضحة، الطفل الكبير كان ينزوي لوحده وكثيراً ما كان يُكلم نفسه أو أحد ألعابه بالإضافة إلى اضطراباتٍ في النوم والأحلام المزعجة، أما الطفل الصغير فلم يكن بأفضل حال من أخيه فقد كانت تأتيه مساءً نوبات هلع ويُمضي ساعةً قبل النوم في الصراخ والبكاء، إضافةً إلى تبوله في فراشه على نحوٍ متكررٍ.
نوال (35 سنة) تعاني هي الأخرى من غياب زوجها في لبنان وقد هرب من الخدمة الاحتياطية وهو الآن عالق هناك دون عمل ولا يستطيع العودة. كانت نوال تعمل في مشغلٍ للخياطة قبل أن يتوقف بسبب الحجر الأمر الذي اضطر ابنها المراهق عُمر (14 عاماً) إلى العمل في توصيل الطلبات لدى أحد المحلات لتأمين دخلٍ للأسرة ريثما ينتهي الحجر وتعود أمه للعمل. تحكي نوال عن مخاوفها الكبيرة على ابنها وهي تذرف دموعها وتقول “يخرج عمر للعمل منذ الصباح وحتى المساء، يؤلمني اضطرارنا لعمله في هذا الوقت بالذات، فالمرض من جهة ودخوله سن المراهقة من جهة أخرى، أخشى عليه من رفاق السوء والاستغلال وأخاف أن يتعلم التدخين أو تعاطي الممنوعات وأشعر بخوفٍ شديدٍ عليه وكأني أرميه بيدي للتهلكة”.
ألعاب الكترونية
سعاد (38 سنة) التي حاولت جاهدة تنظيم وقتها وأوقات أسرتها بصورةٍ دقيقة ومن مختلف الجوانب لتجعل من أطفالها (قيس 12 سنة، وصقر 10 سنوات) نموذجاً مختلفاً عن أطفال الحي الذين يضيعون أوقاتهم بالألعاب الإلكترونية، وكانت تحاول الشرح لأمهاتهن عن سوء تلك الألعاب ومخاطرها الجسدية والنفسية على الأولاد من وجهة نظرها.
كانت تسال نفسها دائماً كيف يمكن لأمٍ أن تسمح لأولادها بالجلوس لساعاتٍ طويلة أمام هذه الألعاب؟ ما الممتع في ألعاب العنف والمعارك؟
لكن بقاء الأطفال كلّ هذه المدة في المنزل وتعطّل كافة الأنشطة والنوادي التي كانت تملأ وقت الأطفال بعد المدرسة أفلت زمام الأمور من يدها بدءاً من مواعيد تناول الأسرة للطعام وانتهاء بمواعيد النوم.
تقول سعاد “حاجة ولديَّ للتواصل مع أصدقائهما في فترة الحجر جعلتني أوافق على استخدامهما للموبايل، وبدأت الأمور بالتطور وصار من الضروري تنزيل الألعاب الالكترونية كي يتشاركا مع أقرانهما اللعب أو على الأقل ليستطيعا إيجاد أحاديث مشتركة فيما بينهم والآن صارت هذه الألعاب تشغلهما طول الوقت. تغيّرت مواعيد نومهما وصارا أكثر بدانةً، وعندما حاولت حرمانهما منها وإعادة التنظيم إلى حياتنا تفاجأتُ بحجم إدمانهما على تلك الألعاب وبالعنف الكبير الذي اكتسباه سواء في التعامل معي أو فيما بينهما، إذ تحول جو الإخاء بينهما إلى أنانية وعداوة وتنافس على فوزٍ افتراضي غالباً ما ينتهي بعراكٍ وصراخ ٍحقيقي.”
علاقات على المحك
تبتسم سميرة بمرارة عندما تستمتع لأغنية فيروز “خليك بالبيت” فلم يعد هناك مكان للاشتياق بينهما، فزوجها الذي كانت تفتقد غيابه وتتمنى حضوره في البيت، أصبح بقاؤه بسبب الحجر الصحي كارثةً حقيقية أدّت لدمار هذا الزواج.
تقول سميرة: “زواجنا كان تقليدياً، كنتُ في العشرين من عمري وكان في الخامسة والعشرين، لم نعش قصة حب قبل الزواج لكن الأيام التي عشناها معاً كانت جملية لا تخلو من الاحترام والألفة، كانت أدوارنا واضحة هو ملتزم بعمله خارج المنزل (موظف صباحاً وسائق بعد الظهر)، وأنا ملتزمة بدوري كربة منزل. لا أنكر مرورنا بخلافاتٍ كأي زوجين أو افتقادي له في كثير من المواقف التي تخص تربية الأطفال كمشاكلهم في المدرسة أو صعوبات مرحلة المراهقة التي عانيت منها مع ابني الأكبر، فظروف الحياة الصعبة وخاصة فترة الحرب، والمشاكل المادية التي تعرضنا لها ككل الناس في بلدنا فرضت عليه العمل المستمر وجعلته بعيداً وغريباً عن تفاصيل المنزل. بعد بقائه في المنزل لوقتٍ طويلٍ، بسبب فترة الحجر، تحوّل إلى شخصٍ مزاجيٍ وعصبيٍ مختلفٍ تماماً عن الشخص الذي كنا نعرفه. أصبح يتدخل بتفاصيل لم يُعرها يوماً أي اهتمام كطريقة تنظيفي للمنزل وطريقة طهي الطعام ثم طريقة تربيتي وتعاملي مع الأطفال، ومَنع الأطفال من اللعب داخل المنزل وصرنا نتحرك على إيقاع مزاجه وأوقات نومه ويقظته وبرامجه المفضلة على التلفاز. كنتُ أبرر له تصرفاته “لم يعتد قضاء كل هذا الوقت في المنزل” لكن المبررات لم تعد مقبولة حين تحولت إلى عنفٍ لفظيٍ وصراخ ومن ثم إلى غضبٍ لا يهدأ إلا بضربهم، لم يبقَ أمامي من حلٍ سوى الهرب بالأطفال إلى منزل والدي الأمر الذي فاقم من المشاكل بيننا إلى حدّ الانفصال.”
من الممكن أن تكون هذه الخلافات فترةً مؤقتةً في حياة هذه الأسرة لكن من المؤكد أن انعكاساتها على الأطفال كفقدان ثقتهم بوالدهم وشعورهم بعدم الأمان لن تمحى بسهولة.
مازلنا نسير في المجهول فأزمة كورونا لم تنته بعد وربما ما هو آت أسوأ في حال تفشي المرض، لقد بات على السوريين توقع الأسوأ دوماً فليست الكورونا إلا تفصيلاً آخر في المأساة السورية، مأساة دفع الأطفال أغلى أثمانها ولا يزالون، قد يسأل طفل عن معنى جملة “خليك بالبيت” وهو بالأساس يعيش في العراء أو في مخيمات بعيدة بعدما تهدّم بيته، وقد يصح القول بأنّ الكورونا لن تصيب رئات الأطفال بالمرض والالتهابات لكنها حتماً ستبقى محفورة في ذاكرتهم ونفوسهم كفصلٍ جديدٍ من فصول مأساتهم الطويلة.
بواسطة سلوى زكزك | أبريل 28, 2020 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
* تُنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا “الحرب على كورونا: معركة جديدة مصيرية للسوريين\ات“
كرّست جائحة فيروس كورونا نمطاً حاداً ومستجداً في شكل الحياة اليومية لأهل الأرض، يوماً بعد يوم تتسع دائرة المواجع الشخصية والعامة، الجسدية والنفسية، لا نجاة من القلق، وزمن تراجع الخوف المشحون بالضعف، زمنٌ ضئيل وضعيف ولا يعوّل عليه.
من مواطن العزاء للبشرية، أنها وقفت معاً في مواجهة تداعيات هذا الفيروس، الذي تحول إلى جائحةٍ عالميةٍ تُسابق الضوء في سرعة انتشارها. لكنّ المواجهة الموحدة لا تعني أبداً وجود أوجهٍ متطابقة من أشكال العنف التي فرضتها هذه الأزمة العالمية، أشكالٍ لا تعدّ ولا تحصى لكنها استحقاقٌ إنسانيٌ وإن تمظهر في حالاتٍ قليلة العدد نسبياً وعلى نطاقٍ ضيقٍ، ثمة مواجع خاصة وخفية، موجعة وتعني أشخاصاً محددين، غير معلنة لأنها خارج سرب المواجع العامة.
ماري سيدة في السبعين من عمرها، أرملة ولم تنجب، تعيش بمفردها في بيتٍ واسعٍ، وهي تتناول طعام إفطارها، سقط جسر الفك العلوي من فمها، باتت بلا أسنان! طبيب الأسنان أغلق عيادته خوفاً على سلامته أولاً ولأنّ المخبر الذي يصنع له الأسنان التركيبية ممنوعٌ من فتح أبوابه، كما أنّ غالبية زبائنه يسكنون في الريف، وإن كان قريباً جغرافياً لكنه مغلق بسبب التوصيف الإداري.
باتت ماري مضطرة لأن تعيش على السوائل، واسطوانة الغاز في ساعاتها الأخيرة، لم تفعل ماري شيئاً، لا أحد يمكنه إعارتها أسنانه! ولا أسنان جاهزة في السوبر ماركت أو في الصيدليات لتطلب إيصالها لها عبر خدمة التوصيل إلى البيوت، اتصلت بطبيبها، قال لها المخبر مغلق وفنيو المخبر يعيشون في الضواحي المغلقة.
لا أحد من المعنيين فكر بعيادةٍ إسعافيةٍ لمعالجة الأسنان مرفقةً بمخبرٍ للتعويضات السنية وجعلها في متناول المحتاجين لخدماتها وخاصةً من كبار السن.
بادرت أغلبية الناس وخاصة من الفئة العمرية الشابة لمدّ يد العون لكبار السن الوحيدين والوحيدات، لكن ثمة مطالب لم تخطر على بال أحد. هيام، سيدة في الثمانين من عمرها، تعيش وحيدةً أيضاً في الطابق الثاني عشر في برجٍ سكني في منطقة راقية، لا تريد شيئاً من الأطعمة أو الأدوية أو المنظفات، فطبيعتها الوسواسية دفعتها ومنذ سماعها لأول خبر عن أول إصابة بالكورونا لملئ خزائنها بالمؤن ولشراء أدويتها الدائمة عن عامٍ كامل. لكنها مشتاقة للحديث مع شخصٍ تعرفه، تثق بأخباره، وتفرح لنبرة صوته ومداعباته اللطيفة، اتصلت بسلمى، ابنة صديقتها، وطلبت منها طلباً عجيباً “أرغب بأن تزوريني اليوم يا سلمى، لكن عبر سماعة الانترفون، فأنا خائفة جدا حتى من استقبالك، فلربما نقلت لي العدوى؟” لبّت سلمى دعوة هيام، استغرقت الزيارة عشرين دقيقة، لكن المصيبة أنّ هيام باتت تطالب سلمى بزيارات مماثلة ومتكررة، وسلمى لا تملك وقتاً كافياً ولا أخباراً مطمئنة.
أشارت بعض الدراسات إلى ارتفاع نسب الإصابة بفيروس الكورونا بين الرجال بنسبة تعادل ضعف نسبة إصابة النساء، وقد اعتبرت بعض النساء الكورونا فرصة لتسخر من اهتزاز ثقة الرجال بقوتهم الجسدية في مواجهة فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة،
قوة يتحكم الرجال عبرها بمصائر النساء وبتفاصيل حيواتهن، ليحققوا الهيمنة بحكم القوة الظاهرة والمنسوبة للرجال حصراً، والسلطة بحكم الغلبة الجسدية والنفسية والمجتمعية، لكن هذه القوة تعرضت لاهتزازاتٍ عديدة، اهتزازاتٍ أظهرت خللا ًفي موازين القوى، مفسحةً المجال أمام تراجع قوة ذكورية تقليدية بظهور نمطٍ معزز ٍمن القوة فرضته كورونا بقوة الخوف وبسطوة الحذر الشديد.
وليد رجل خمسيني، يخافُ على صحته جداً، مهووس بالنظافة الشخصية، يزور الحلاق يوم الثلاثاء فقط، لأنه اليوم الذي يلي عطلة الحلاقين، ويذهب باكراً جداً ليكون أول زبون، ليتنعم بمنشفة تم غسلها في يوم العطلة ولم توضع على رأسٍ غير رأسه أبداً، لكنه في زمن الكورونا التزم الجلوس في المنزل، وطالب زوجته بالتسوق وبشراء الخبز وبالحصول على الأدوية والمواد المعقمة من الصيدلية تحديداً لتثبيت جودتها، وانزوى في غرفته يكاد لا يخرج منها، وكلما عادت زوجته من الخارج يطالبها بتعقيم كل شيء، حتى شعر رأسها، وهي تصرفاتٌ فاقمت من مشكلةٍ قديمة عند وليد، تحملتها زوجته تحت إلحاح الواجب كزوجةٍ مخلصة، رغم رفضه لكل طلباتها بضرورة مراجعته لطبيب نفسي، لكنها الآن باتت ممزقة بين حقها بالحياة الكريمة وبين تطرف مواقفه، مما دفعها للتوقف عن تلبية طلباته وتهديده بالذهاب إلى منزل والدتها المتقدمة في العمر، علّه يخفف من أوهامه المرضية ومن معاملتها بدونية غير مقبولة وكأنه مسموح له التضحية بها من أجل بقائه في حالةٍ من الأنانية والعدوانية لا مبرر لها وغير مقبولة. لكنّ وليد بقي أسير مخاوفه وبات حبيس غرفته وأوهامه وفقد كل إمكانيات التواصل حتى مع زوجته.
في الأزمات الكبرى، تتوجه المبادرات والأفكار والآليات نحو الاحتياجات الأكثر شمولية، نحو الخدمات المركزية ونحو الاحتياجات الأكثر أولوية حسب توصيف مراكز معالجة الأزمات.
يعمل غاندي في بيع الألبسة المستعملة، وله زبائن كثر وخاصة من السيدات، لكن قرار الإغلاق شمله وبات محكوماً بالتوقف عن العمل. أربعون يوماً مرت على إغلاق المحل، وما كان متوفراً من مالٍ نفذ، ولم يتبق منه شيئ. غلاء الأسعار يلتهم كل الموارد، والعائلة بحاجة لطعامٍ وشرابٍ ودواء، وتحت عنوان الحماية والحفاظ على الصحة العامة كان من المبّرر ترك الناس دونما مورد، حتى أصحاب الموارد المتوسطة باتوا بلا أي مدخرات، فحياة الفرد هي الأهم وصاحبة الأولوية المطلقة، لكن كيف وبماذا؟ لا أحد يملك جواباً، لأن السؤال نفسه مؤجل ولا يمتلك الأولوية القصوى.
اتصل غاندي بزبائنه، أبدى استعداده لإيصال قطع الملابس إلى بيوتهن، لكنه كان يحتاج لموافقتهن على الشراء أولاً في ظل شح مالي كبير وواسع وفي ظل المخاوف من رفض الزبائن شراء ألبسة مستعملة ربما يرتع الفيروس على سطوحها وبين طياتها. كما أنّه كان محتاجاً لمبادرةٍ من صديقٍ يملك سيارة خاصة لنقل غاندي مع بضاعته مجاناً إلى بيوت الزبائن، وكان له ما سعى إليه. حمل غاندي معه بضاعة كان قد احتفظ بها في منزله قبل الإغلاق، لكن بعد وصوله إلى أبواب بيوت زبائنه اصطدم بقلة الطلب على بضاعته، قطعة أو قطعتان في أكثر حد، والناس محرجة من المفاصلة، إحراجٌ تلمسه غاندي أيضاً وفرض عليه خفض أسعار بضاعته، لكن الرمد أفضل من العمى كما يقال، وما كسبه غاندي اليوم لن يمكنه من شراء بضاعةٍ جديدةٍ بدلاً من التي باعها، لكنه سيوفر عليه عناء الاستدانة من صديق أو قريب، في زمنٍ بات الاقتراض نادراً بل حتى مستحيلاً.
وكما تُرك العجزة منسيين في دورهم دونما احتسابٍ حتى لأعداد المتوفين منهم، ليشكل موتهم بصمت وإهمالهم وكأنهم أضاحي الفيروس الفتاك وصمة تمييز سلبي ضد فئة من المجتمع، وكما تُركت النساء وحدهن لمتابعة مسلسل المظالم الطويل، وكما تُرك الجوعى غارقين في فاقتهم في محاولاتٍ بائسةٍ منهم لترك الشوارع حيث يعيشون، وكما تُرك اللاجئون والنازحون تائهين في غربةٍ مضاعفةٍ، عُرضة للوعيد والتهديد بالترحيل أو بالموت، وكما سُرّح عشرات الآلاف من العمال، وكما تم ترحيل مخالفي الإقامات من عمالٍ أجانب لكنهم فقراء، كذلك نمت في دائرةٍ ضيقةٍ دائرة متفرعة عنها لكنها غارقة في التجاهل والنسيان وكأنها منفية خارج الزمان والمكان، توضحت في تلك الدوائر الضيقة دروب آلام ٍجديدة، مضفورةٍ بالشوك ومسيجةٍ بالعتمة.
وتجد الإشارة إلى أنّ الأزمات بحدّ ذاتها وفي خضم البحث عن حلولٍ لها أو عن كوابح تقلل من فرط مساوئها ُتنسي أصحاب القرار والمبادرات أو القائمين على حلها مرغمين وتحت وقع الصدمة التوجه نحو فئاتٍ لا تصرخ مطالبةً باحتياجاتها الإنسانية والضرورية، ويقيّم المجتمع ومراكز الخدمات والقرار هذه الاحتياجات على أنها احتياجاتٍ ثانويةٍ، مما يؤجل أو يمنع المساعدات عن أفرادٍ وإمكانية الوصول إليهم، وتتفاقم المشاكل أو مواطن النقص البنيوية لتصبح عنفاً صارخاً لا يمكن إنكاره ولا تجاهله أو الامتناع عن مد يد العون لأصحابه. ربما هنا يبرز دور المبادرات الفردية أو المجتمعية، وربما هنا يتوجب الاهتمام أو لفت النظر للفئات الأكثر هشاشة بالبنية النفسية أو بالفئة العمرية أو بحجم الاحتياج من حيث عدد الأفراد أو طبيعة العمل، أو المكان، خاصة عندما يتحول المكان بحد ذاته كمكان السكن أو العمل إلى مصدرٍ للعنف يساهم في تكثيف تغييب الخدمات أو يفاقم من صعوبات الوصول إلى الاحتياجات مهما بدت ثانوية أو قابلة للتأجيل.
وربما هنا تصبح الأزمات الكبرى مجالاً رحباً للإبداع الإنساني الفريد من نوعه والمتميز في أشكاله، في محاولة نوعية لتلبية المسكوت عنه، المخفي أو غير المعلن، لكنه احتياجٌ صارخٌ ولابدّ من تلبيته.
بواسطة Vesna Bojicic-Dzelilovic | أبريل 16, 2020 | Cost of War, غير مصنف
The private sector has a pivotal role as a driver of economic development and an actor which can contribute to peacebuilding in a variety of ways, through its core function of stimulating growth, creating entrepreneurial opportunities, providing jobs, and generating wealth. But the way in which these functions are implemented and the environment in which business operates will determine whether its impacts will be positive in terms of economic opportunity, equality, social justice, the natural environment and governance. These elements together underpin sustained peace by addressing the root causes of the conflict. If economic growth generated by the private sector does not translate into more equitable wealth distribution, job creation and accountability, it will do little to remove the sources of tension and fragility within a society.
Private business is never politically neutral: decisions to produce, invest or create jobs have political and policy implications which can shape the peacebuilding process. Therefore, the first step is to look at the kinds of business that exist in the local context and the nature of their involvement in the conflict before being able to consider how they can support economic development and peacebuilding, and how to avoid potential negative impacts.
Experience shows that war-time adjustment in the private sector has a long-term impact and economic reversals can be deep and protracted. This has consequences for the relationship between private business and economic development in such contexts. These consequences are at the core of the post-war reconstruction programmes supported by international actors.
Private business is affected by conflict in manifold ways; from the loss of assets, capital, skills and infrastructure to the disruption of governance which hinders its potential to contribute to economic growth and development. But of note in contemporary conflicts is the emergence of new actors and rules which affect businesses by creating enduring regulatory instability and unpredictability. Local SMEs, which arguably have the greatest stake in the return to normality and peace, are especially at risk in an environment lacking rules and regulations and where corruption is pervasive and rights compromised.
A particular challenge stems from the emergence of new governance actors (especially non-state armed actors) and new business elites reliant on violence, and their amalgamation through war economy dealings. These new governance/business arrangements often include state actors who are also engaged in the “business of war” – that is, in illegal and criminal activities that proliferate in the war economy. But there are also cases in which the private sector acts as “governor” by becoming a provider of public goods – although this too may entail having to cut deals with armed groups and criminal groups, creating a different platform from which to engage in peacebuilding.
These different facets of the business presence on the ground impact its potential for a positive contribution to economic development, both during conflict and in its aftermath. It is important to bear in mind when speaking about the business sector that it is not a monolithic actor with a unified agenda. The interests, incentives and capabilities of businesses, and hence their courses of action, differ according to factors such as size, legal status, ownership profile, and the broader security and geopolitical framework. This will also be determined by the extent and the manner in which a business is linked to the political and military elite. Paying bribes may be the only option for SMEs to survive during and after the war. Meanwhile for TNCs it may be the way to secure privileged access to business opportunities, as has been the case of cement manufacturer Lafarge, charged with financing terrorism in Syria.
The end of conflict does not mean that the business operating environment has changed. Business often faces many of the same difficulties: weak and corrupt institutions, political instability, the presence of organised crime, inadequate access to finance, infrastructure problems, skills shortages etc. Such security, governance and market conditions influence the propensity to invest in the long term and hence affect the job creation associated with a peace dividend. What all this means is that there are sometimes exaggerated expectations of private business capacity, will and feasibility of action in conflict and post-conflict contexts, including business’s contribution to truth and reconciliation as a way of dealing with historical legacies.
International assistance/approaches
The international approach in support of private sector development in conflict-affected areas has for a long time relied on universal blueprints with policy reform packages. Such approaches have often encountered political obstruction and failed to achieve expected outcomes. This has to do with the reluctance among donors to commit to approaches better suited to address the unique specificities of societies affected by armed violence and fragility, which would render a different view of the role of the private sector. More recently, there have been indications that such practice is beginning to change.
A key aspect in this respect is the importance of conducting broad and sustained stakeholder consultations to better understand the challenges of private sector development in such contexts, and how private sector growth can most effectively contribute to economic development in a manner that addresses the impact of conflict at the local level. Another key change is the recognition that the private sector is not and cannot be approached as a stand-alone actor. Rather, the notion of “business-based peacebuilding” relies on the model of multi-stakeholder partnerships as a framework for more proactive engagement of the private sector in dealing with issues of development, peace and security.
While the actual processes of the private sector’s involvement in peace-related activities differ across countries and different conflict zones, a common trait has been a tendency to work as much as possible with other societal actors. These include international and local non- governmental organisations, local governments, religious and academic institutions, international donors and multilateral institutions. Experience shows that business is most effective in addressing conflict-related issues when working collaboratively with other actors.
*Published in Partnership with the LSE’s Conflict Research Programme.
Summary by the LSE report editors of the presentation given by Professor Raymond Hinnebusch at the London School of Economics Political Economy and Governance in Syria 2018 conference.