بواسطة Katty Alhayek | أغسطس 4, 2019 | Cost of War, Culture, Reports, غير مصنف
نشر صالون سوريا ضمن تعاون مع شبكة الصحفيات السوريات خلال الأشهر الماضية عدة مواد من مشروع “محتوى نسوي” الهادف لتسليط الضوء على تجارب النساء السوريات المتنوعة في السياق التاريخي المعاصر الذي تلا سنة ٢٠١١. غطى المشروع إحدى عشر موضوعاً مختلفاً خلال سنة ٢٠١٨ بهدف رسم صورة واضحة عن العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية التي تُشكل السياق الحياتي للنساء السوريات اليوم وما يُتيحه ذلك من فرص وعقبات في سوريا وبلاد اللجوء.
مضمون المشروع
يغطي الملف الأول “تاريخ الحراك النسائي/النسوي” في سوريا ما قبل ٢٠١١، وفيه تعرض الدكتورة آراء الجرماني السياق التاريخي لهيمنة حزب البعث على السلطة في سوريا و أثر ذلك على أصالة الحركة النسوية، حيث تم القضاء على عفويتها وقولبتها ضمن اتحادات ونقابات وروابط ومؤسسات تحت كنف الحزب الحاكم. أدى هذا الوضع السياسي التاريخي إلى تكريس أولوية الأجندات القومية والهوية الوطنية للنساء السوريات على حساب أولويات التحرر النسوي والهوية الجندرية. ومع استلام بشار الأسد للحكم (٢٠٠٠)استمر تأطير الحراك النسوي بدءاً من قانون الجمعيات المعيق إلى احتكار السيدة الأولى أسماء الأسد لمعظم أطر العمل النسوي، حيث لم يبقى للمجموعات النسوية الأصيلة سوى هوامش ضيقة للعمل. ومع ذلك استطاعت النسويات والعاملات في المجال النسائي تحقيق الكثير من الإنجازات رغم المضايقات والتشديدات الأمنية.
يسلط الملف الثاني “الحراك النسوي السوري بعد ٢٠١١” الضوء على الهوامش التي أوجدها الحراك الشعبي ضمن سياق الربيع العربي والانتفاضة السورية. وتلفت الكاتبة علياء أحمد النظر إلى أنه رغم تزايد عدد المنظمات والتحالفات النسوية، إلا أن فرص الحصول على التمويل والمنح المالية ليست متساوية لكل المنظمات النسوية\النسائية، حيث تحصل المنظمات الموجودة في الخارج على أغلب هذه الفرص وتُسيطر أجندة الممولين على باقي المنح التي تنالها منظمات الداخل.
يتناول المشاركون/ات في الملف الثالث “النسوية واللغة العربية” الجوانب المختلفة التي تُمييز بها اللغة العربية ضد النساء. فكما تُبيّن علا الجاري فإن الأمثال الشعبية تَستهدف النساء وتنشر الكراهية ضدّهن منذ لحظة الولادة كمثل ”ابنٌ عاصٍ ولا عشر مطيعات“ و”صوت حية ولا صوت بنية“. وتشرح ضحى عاشور أنّ إنتاج الأمثال الشعبية الجندرية كمثل “البنت تجيب العار والمعيار وتدخل العدو للدار” يتم من قبل طبقة من الرجال بهدف شيطنة النساء وإنتاجهن كعدو يجب إخضاعه والسيطرة عليه. وكما يوضح هذا الملف، لاتقتصر الأمثال الشعبية التحقيرية ضد النساء على اللغة العربية بل تنتشر في معظم اللغات المعروفة غرباً وشرقاً. وبالطبع هناك بعض الأمثلة الاستثنائية التي تُقدر النساء ولكن ذلك يُختصر غالباً بالصور النمطية التقليدية المرتبطة بالأمومة ودور الزوجة المربية الفاضلة.
ويمتد أثر التمييز اللغوي ضد النساء، كما تُشير مشاركة عمار ديوب إلى النصوص القانونية، لذا يدعو إلى ضرورة سن دستور وقوانين جديدة مُصاغة بلغة تتبنى المساواة بين الجنسين. ومع أزمة اللجوء السوري، تُضيء فاديا عفاش الضوء على أثر تعلم لغة ثانية في دولة اللجوء على الهويات الجندرية للمرأة والرجل ومنح المرأة أدوات جديدة للتعبير عن الرأي لم تعهدها من قبل مما يُساعدها على خلق صورة أكثر إيجابية عن ذاتها في المجتمع الجديد.
ويُغطي الملف الرابع “النسوية والمنفى” تجارب النساء السوريات في دول الهجرة واللجوء؛ فتشارك كفاح علي ديب قصة رحلة لجوئها إلى ألمانيا وكيف استفادت هي وغيرها من اللاجئات من مساحات الحرية المدعومة بالقانون في ألمانيا لتحقيق طموحاتهن التعليمية والمهنية والاجتماعية، في حين استمرت معاناة أخريات مع العنف والسلطة الذكورية. وتؤكد وداد نبي هذا الواقع عبر تسليط الضوء على تزايد حالات طلاق السوريين/ات في المحاكم الألمانية، حيث تتخذ الكثير من النساء قراراً بالطلاق حالما تصِلن للبلد الجديد أملاً بالتخلص من مشاكل كالعنف المنزلي والاضطهاد وقلة الاحترام، بينما لا تستطيع بعض النساء التخلص من الإرث الاجتماعي الداخلي الذي يُجِبرهن على الصمت والرضوخ. وتضيء نيڤين حوتري على تجربة النزوح الإجباري من خلال مشاركة مشاعرها في مواجهة حكم المنفى من غوطة دمشق.
يطرح الملف الخامس موضوع “النسوية والانترنت“، حيث تغطي رولا عثمان المضايقات والتحديات التي تواجه الناشطات النسويات على مساحات وسائل الإعلام الاجتماعي عندما يطرَحن مواضيع حقوقية ونسوية. وتناقش نوار المير علي استخدام تطبيقات المواعدة والتعارف الإلكتروني، ففي حين تتأقلم السوريات في دول المهجر مع تطبيقات كـ تيندر\Tinder للبحث عن فرص المواعدة، يقل استخدام هذا التطبيق داخل سوريا ليتم التركيز أكثر على استخدام تطبيقات المحادثة مثل المسنجر والسكايب كوسيلة للبحث عن علاقة جدية تنتهي بالزواج مابين سكان الداخل والخارج. أما لمى راجح فتلقي الضوء على شجاعة النساء السوريات في الغوطة الشرقية ممن خاطَرن بحياتهن لينقلن عبر وسائل الواتس آب والماسنجر والتويتر وقائع المعاناة اليومية تحت الحصار والقصف والتهجير.
حاول الملف السادس تناول موضوع “الجنسانية”، وكتبت فيه فدوى العبود عن الآمال الخائبة بخلق حركات الربيع العربي لثورة جنسانية وفرص تحرر حقيقية في العالم العربي لتستمر المضايقات والانتهاكات ضد الأشخاص ذوي الميول الجنسية المختلفة ولأجساد النساء وإرادتهن الحرة.
يتطرق الملف السابع “الفن والنسوية” لعدة جوانب هامة تتعلق بتناول الفن لقضايا النساء وعن كيفية رؤية الفنانات لقيمة عملهن. تُشارك فاديا عفاش تجربتها كفنانة ولاجئة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تعرفت على مفهوم الائتمان\credit (الفضل في إنجاز العمل)، وهو يعني في هذا السياق أن تعترف الفنانات بحقهن في الفضل في إنجاز أعمالهن وأن يتمتعن بالمزايا الناتجة عن هذا الاعتراف. فكما توضح فاديا فقد استغرقتها سنوات قبل أن تُجابه السلوك العام في المجتمع السوري الذي يختزل دور النساء بمساندة الرجال ويُهمش إنجازاتِهن كفنانات. وتُغطي لجين العرنجي كيفية تناول قضايا النساء في المسرح والسينما في سوريا، حيث تُعاني هذه المجالات من قلة وتهميش المخرجات النساء، أما المخرجين الرجال فلم يُقدّم سوى عددٍ محدود منهم صورةً عميقةً وواقعية عن واقع النساء. ومن جهتها تتناول سلوى زكزك تجربة سينما ما بعد الحرب البوسنية التي تُقدم دروساً للسينما السورية عن كيفية تناول واقع النساء السوريات أثناء الحرب وبعدها والطرق المثلى لتطبيق آليات العدالة الانتقالية.
يسلط الملف الثامن “الأدب والنسوية” الضوء على تجارب بعض الأديبات السوريات وعلى كيف يتم تصوير النساء في الأدب السوري. فقد أجرت أروى الباشا حواراً مع الروائية السورية ابتسام تريسي عن أعمالها ورأيها بدور المرأة بالرواية العربية ودور الأدب والنسوية في سياق الثورة السورية. وكتبت رباب هلال عن الشاعرة هنادي زرقه مناقشةً أعمالها الحديثة التي تتناول مواضيع كذكوريّة الحرب وأهمية الحب وقسوة الموت والوحدة. أما وسام افرنجية فقد تناول استخدام الرمز الأسطوري الأنثوي في الشعر العربي مركزاً على آليات توظيف سير الآلهة كعشتار وإنانا وعناة في الأعمال الشعرية بشكل يُقدر النساء ويُعلي من مكانتِهن في المجتمع. وتتضمن مشاركة فدوى العبود في الملف نقاشاً لتمثيل النساء في الأدب بشكل عاماً، حيث تستعرض أمثلة من الأدب العالمي والعربي والسوري والتركي.
يركز الملف التاسع على قضايا المعتقلات والمختطفات في سوريا. فتتناول لامار ٲرْكَندي المعاناة القاسية المتعلقة باستعباد النساء والطفلات الإيزيديات في محافظتي الرقة وإدلب والرحلة الشاقة والمُكلفة التي يتكبدها أهالي المختطفات لتحريرهنّ من براثن التنظيمات المتطرفة. وتكتب مريم حايد عن معاناة المعتقلات في سجون النظام السوري، وكيف تستغل أجهزة المخابرات مفهوم الشرف في قضية اعتقال النساء مما يحد من مشاركة النساء في العمل السياسي المعارض ويُعرض المعتقلات لضغوطات اجتماعية كبيرة عند الإفراج عنهن. وتنتقد سلوى زكزك انعدام مراكز وآليات الدعم النفسي والصحي والاجتماعي للمعتقلات والمعنفات والنازحات.
يتناول الملف العاشر أثر التسليح على النساء. فتصف لامار ٲرْكَندي شجاعة المقاتلات الكرديات في قتال تنظيم داعش ومواجهته على خطوط القتال الأمامية. أما سونيا العلي فتشرح عبء الإصابات الحربية والإعاقات الجسدية والضغوط النفسية على النساء اللواتي يُعانين من أبعاد مختلفة من التهميش والتجاهل والعنف. وتؤكد شادية التعتاع على مدى قسوة معاناة آلاف النساء في سوريا إثر بتر أطرافِهن وتعرّضهن لإصابات ناتجة عن قصف الطيران العشوائي منبهةً لمشاكِل كمُعضلة غلاء الأطراف الصناعية وتعرض النساء لإصاباتٍ نتيجةً لانتشار السلاح بين أفراد أسرهن.
وتقديراً لجهود المدافعات عن حقوق النساء والناشطات النسويات، تختتم شبكة الصحفيات السوريات مشروع “محتوى نسوي” بملف “هي مدافعة“. وتسلط فيه مها الأحمد الضوء على قصص نجاح قياديات سوريات من إدلب عملن بجهدٍ كبير للحد من الآثار التهديمية للحرب عن طريق إنشاء مراكز لتوثيق الانتهاكات الحقوقية ضد المرأة وتنظيم دورات مهنية للنساء متخصصة في محو الأمية واستخدام الكمبيوتر وتعلم اللغة الإنجليزية. وتعكس سونيا العلي تجارب النساء ذوات المناصب القيادية في منظمات المجتمع المدني داخل سوريا وخارجها، وكيف كسرت سنوات الحرب الصور النمطية والقيود التي كرستها تقاليد المجتمع على عمل النساء ودورهن في المجتمع المدني.أما ميرنا الرشيد فتغطي مشاريع ومبادرات نسائية في مدينة السويداء تهدف إلى تفعيل دور النساء القياديات في المجتمع وزيادة الوعي بحقوقهن.
الفرص والتحديات في تنفيذ المشروع
استطاع مشروع “محتوى نسوي” تغطية أصوات نسوية/نسائية سوريّة في مناطق جغرافية متنوعة داخل وخارج سوريا، ورسم صورة واضحة عن معاناة وتجارب النساء المتنوعة. وسعى المشروع لتحقيق التوازن ما بين التطرق لمواضيع سياسية متعلقة بالسلاح والمنفى والاعتقال وطرح مواضيع ثقافية متعلقة بالأدب والفن واللغة العربية والانترنت. ويمكن القول أن المشروع نجح بشكل أساسي باستعراض أهم العقبات اليومية المادية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تُعيق النساء السوريات وتحول دون تحقيق طموحاتهن في عيش حياة كريمة مبنية على العدالة والمساواة والسلام. وسلطت كتابات المشاركات في هذا المشروع الضوء على أهم عوامل اللامساواة والتهميش التي تُسهم في الإنتاج الاجتماعي للذكورة والأنوثة في المجتمع السوري. إلا أنّ المشروع واجه عدة تحديات إما بسبب محدودية التمويل أو نقص الكفاءة والتدريب في بعض المجالات. أكبر التحديات التي واجهت المشروع هو الخلط ما بين مفهومي الكتابة النسوية والكتابة النسائية. فالكثير من المُساهمات تقع تحت إطار الكتابة النسائية لا النسوية، وهذا الواقع يستدعي تشبيكاً أكبر بين الناشطات النسائيات والنسويات السوريات لتعريف ماذا تعني النسوية في سوريا اليوم وكيف تتشابه أو تختلف مع غيرها من الحركات النسوية حول العالم. أظهر هذا المشروع أيضاً الحاجة الملحة لوجود تضامن نسوي حقيقي مابين النسويات السوريات، فظواهر الشللية والتنفاسية والتراتبية تُشكل عواملاً محبطة تُهيمن على مناخ معظم العمل النسوي السوري على نحوٍ يؤثر على طبيعة وجودة العمل، وقد انعكس ذلك على هذا المشروع من خلال خسارة أصوات نسوية هامة رفضت المساهمة فيه لأسباب قد تعود إلى قلة المعرفة الشخصية أو الرغبة في النشر في وسائل إعلامية أكثر شهرة. يستدعي هذا الجانب القاتم من العمل النسوي نقاشاً جاداً حول أخلاقيات العمل النسوي، ليس فقط من الجانب النظري بل من الجانب العملي وكيف يمكن أن نطبق في حياتنا اليومية والمهنية أخلاقاً تعكس قيم وطموحات العمل النسوي الحقيقي الساعي لمحاربة كافة أشكال الاضطهاد والتهميش. ومن ناحية أكثر عملية، كان من الصعب ضمن الجدول الزمني المحدد لنشر ملفات المشروع تغطية ملفات هامة كملف الجنسانية بشكل يستوفي حقها. فعلى سبيل المثال تمت دعوة العديد من الأصوات الخبيرة بموضوع الجنسانية للمساهمة في الملف، لكن تم رفض هذه الدعوات لأسباب عدة منها أمنية متعلقة بالخوف من انتقام العائلة أو المجتمع عند الكتابة عن موضوع حساس كالمثلية الجنسية. من التحديات العملية أيضاً كان عدم تقبل الكثير من الكاتبات والكتاب السوريين\ات لواقع وجود مُحررة تُشرف على كتابة المواد وتُرسل اقتراحات للتحسين، فكثير من الكاتبات والكُتاب قاموا برفض إجراء تعديلات على النص إنطلاقاً من النظرة أن النص مُلكية الكاتب وأنّ دور المحررة يقتصر على تحسين الجانب النحوي والأخطاء المطبعية فحسب دون التدخل في مضمون النص. ورغم التحديات المذكورة هنا بهدف التعلم منها في المشاريع المستقبلية، إلا أنّ فرصة العمل والنشر في مشروع “محتوى نسوي” كانت مُناسبة قيّمة للإضاءة على الإنتاج المعرفي لنساء سوريات وناشطات نسويات من توجهات سياسية وثقافية مختلفة.
بواسطة Hiam Karm | يوليو 16, 2019 | Cost of War, Reports, غير مصنف
زرت السوق المسقوف (المقبي بالعامية) في حمص، لأول مرة بعد سنين، دخلتُه عبر محيط يسكنه الدمار والخراب، مدفوعة بالحنين لأيام كنا فيها لا نستطيع أن نتجول فيه إلا أرتالاً من شدة الازدحام. للأسف ونحن في الأسبوع السابق لعيد الفطر، لم نكن نتجاوز مئتي شخص في السوق في ساعة الذروة، وبضع محلات مفتوحة لزبائن قد يأتون!
قبل الحرب، كان السوق، كغيره في المدن السورية الكبرى والصغرى منها، مركزاً للنشاط التجاري في المدينة، وتبادل البضائع والسلع بمختلف أنواعها، وتجمّعاً لأصحاب المهن اليدوية والباعة والزبائن الآتين من القرى والأرياف المحيطة بمدينة حمص. كان يضج بأصوات الباعة وهم يعلنون عن بضاعتهم وجودتها وأسعارها التي تناسب مختلف الشرائح الاجتماعية، من الملابس الجاهزة والأقمشة على اختلاف أنواعها ومواد النوفوتيه ولوازم الخياطة والبسط القديمة والفرو والخيوط المختلفة والحبال، والأحذية والقباقيب والجوارب والحقائب والمواد المكتبية ومواد الزينة والمكياج والذهب والفضة إلى الشرقيات والنحاسيات، والمواد الغذائية والحلويات والسكاكر والأسماك واللحوم، وفي سوق العطارين يضم المحل الواحد أكثر من خمسة آلاف صنف بين أعشاب ونباتات وتوابل وزيوت وعطور، إضافة إلى ورشات الصياغة والحدادة وتبييض النحاس وصباغة الأقمشة والتنجيد والخياطة العربية.
انقرضت الكثير من الصناعات اليدوية التي كانت تشغلها تلك الأسواق، كعصر الدبس ودباغة الجلود، واستبدلت بأخرى جديدة؛ وبلغ عدد المحلات، وفقا لتوثيق دائرة الآثار والمتاحف بحمص، قبل 2011، 890 محلاً، شرقياً ومحلياً وتراثياً، موزعة في 13سوقاً، هي سوق النوري، والحسبة، والبازرباشي*، والمنسوجات، والصاغة، والقيصرية المجاور لخان القيصرية**، والعبي، والمعصرة***، والمعرض (العطارين)، والعرب، الذي كان الوساطة بين البدو والحضر، والفرو، والنحاسين، والخياطين والنجارين. ومازالت تلك الأسواق محافظة على صفات بنائها المعماري الأثري، إذ يعود تاريخ تشييد جزء كبير منها إلى العهدين الأيوبي والمملوكي، وأجزاء أخرى تعود إلى زمن الاحتلال العثماني.
تمتاز هذه الأسواق، كمثيلاتها في دمشق وحلب، بنمط العمارة الإسلامية، إذ يغطي مجملها سقوف أسطوانية، وعقود حجرية مقببة ضخمة، والمحلات مبنية من الحجارة بواجهات حجرية على شكل أقواس نصف دائرية وأعمدة تاجية، تتوضع عليها أشكال هندسية ذات زخارف قديمة، ومن الأعلى نوافذ ضخمة بأقواس للتهوية والإنارة؛ وعند تلاقي سوقين أو أكثر تبرز قبة كبيرة تتوج مفرق الطرق، فيما تكتسي الأرضية بالحجارة البازلتية.
استخدمت الحجارة البازلتية، التي تميز البناء الحمصي القديم، لتوفرها في مناطق الوعر، غربي حمص، لكنك تجد في بعض الأسواق سقوفاً من حجارة كلسية وقنب، بعضها على شكل قباب بفتحات تهوية. ويتميز مدخل سوق القيصرية بمصراع خشبي مصفح يتوسطه باب صغير يعود إلى عام 1300م، يليه دهليز مسقوف يؤدي إلى درج حجري يصل بدوره إلى الطابق العلوي ذي الـ27 محلاً، محاطة بـ20 عموداً من الحجر الأبيض تحمل سقوفاً خشبية، وتظهر داخل أحد المحلات في سوق المعصرة آثار المعصرة الحجرية.
دارت طاحونة الحرب، منذ 2012، على هذه الأسواق العريقة، ولحقها الدمار والحرائق. ومنذ ثلاثة أعوام بدأت أعمال الترميم والتأهيل بالتنسيق بين محافظة حمص ومنظمة الأمم المتحدة، الفرع الإنمائي UNDP، وبإشراف المديرية العامة للآثار والمتاحف، وعلى مساحة 42000 متر مربع. حيث يتم استبدال التغطية المعدنية المتضررة بأخرى حديثة مشابهة وذات طابع تراثي يقارب مرحلة الثلاثينات؛ ويشمل الترميم إصلاح الأضرار الإنشائية، وتعويض الحجارة الناقصة، وإعادة بناء بعض المحال المدمرة حسب المواصفات الموضوعة من قبل دائرة الآثار والمتاحف، والمخططات المختصة بها. وتتم إعادة البناء بنفس الحجارة القديمة، بعد فرزها، وترحيل الأنقاض، وتركيب غلاقات جديدة و”آرمات” وشبك معدني موحد للنوافذ والمحال، وإصلاح البنية التحتية، وترميم الأرضيات الحجرية.
يتم الترميم على أربعة مراحل؛ انتهت أعمال المرحلتين الأولى والثانية في 2017، وبدأت أعمال المرحلة الثالثة في2018. بلغ عدد المحلات المرممة ضمن أعمال المرحلة الثالثة، حتى بداية شهر آذار من العام الجاري، 750 محلاً، حسب تصريح لطارق سفر، ممثل UNDP في محافظة حمص، لصحيفة تشرين الرسمية. لكن السيد سفر يشتكي من أن “عدم عودة أصحاب المحلات بعد ترميمها يسبب لنا إحراجاً أمام الوفود الزائرة وبعض المانحين” طالباً من أصحاب المحلات ترحيل الأنقاض المتبقية في محلاتهم، لنقلها بعيداً عن أنظار وفود المنظمة، الذين يسألون عن سبب عدم فتح المحلات، الأمر الذي يستدعي أن تعيد الدول المانحة النظر في منح المساعدات في المستقبل.
معوقات وكلف مالية:
تجاوزت نسبة الإنجاز في مشروع التأهيل حالياً 90 بالمئة، حسب التصريحات الرسمية، لكن عودة انتعاش الأسواق لا تتجاوز الـ20 بالمئة، قياساً بما كانت عليه قبل 2011 ، وما حصل من تقسيم طائفي لأحياء حمص بالحواجز، والمعارك التي كانت دائرة، وانغلاق كل حي على أهله، واستحداث أسواق جزئية، انتعشت في كل حي، وتوسعت بعد انتهاء الحرب فيها، وانتفاء أسباب الخوف من التنقل بينها، وأصبح لها رصيد لا يقل عن خمس سنوات؛ لكنها تفتقد إلى الحرف، وتبييض النحاس والشرقيات والحبال والعبي وزي الفلاحين، التي كان يوفرها السوق القديم، ولم تعد موجودة الآن.
يعاني تجار السوق المسقوف من الإيجارات المرتفعة، وعلى صاحب المتجر، أن يعيد رفع أعمدة وسقف المحل ليشمله الترميم، كون البرنامج يقتصر على الواجهات فقط، هذا عدا ما فُرِض عليهم من كسوة داخلية موحدة، ما يكلفه أموالاً كثيرة، والضرائب المتراكمة عن السنوات الماضية.
كان يفترض أن يتم ترميم الأسواق المحيطة، في شارع أبي العلاء المعري وسوق الناعورة، وشارع “أبو العوف”، وباب هود، وسوق الخضار، وسوق الجندي، بالتوازي مع الأسواق القديمة، لربطها به****؛ كما أن خلو أحياء حمص بمعظمها، جعل منطقة السوق في عزلة، رغم عودة عمل المؤسسات الحكومية، فأحياء البياضة والخالدية ووادي السايح وباب هود والقصور والقرابيص وجورة الشياح (الكتلة الشمالية) شبه خالية، وعاد حوالى ثلث المهجرين لأحياء الورشة وباب هود والحميدية وبستان الديوان.
يرى الكثير من أصحاب المحلات أن العودة إلى بيوتهم ومحلاتهم مرهقة ومكلفة جداً، إضافة إلى انعدام الأمن داخل السوق ليلاً، وتأخر تركيب عدادات الكهرباء؛ بينما يفضل البعض الآخر فتح “ولو بسطة” على باب المحل، ريثما تعود الحركة إلى السوق، من أجل فرض وجوده داخله.
يقترح أنطوان الأخرس (صائغ) إغلاق المحلات المخالفة في الأحياء السكنية ليضطر التجار للعودة. وأبو عبدو، تاجر جملة لبيع الصابون وزيت الزيتون، كان يعمل في محل العائلة الذي ورثه عن أبيه، في السوق منذ أكثر من 40عاماً، ثم تحول، بعد احتراق محله وخسارة بضاعته، إلى بائع زيت زيتون على رصيف أحد الشوارع، فهو أقل تكلفة وأكثر منفعة، كونه لا يملك مالاً كافياً للترميم والإكساء وتعويض البضاعة.
أما عبد الباقي الطرشة (صاحب محل ألبسة) فيرى ضرورة ترميم سوق الناعورة لأنه صلة الوصل بين الدبلان والسوق المسقوف، ويقول “نحن بحاجة للدعم المادي والمعنوي لعودتنا بشكل أفضل”. فيما يعاني مرهف صليبي (صاحب محل مجوهرات) من عدم القدرة على شراء أجهزة جديدة. أما طلحة السلقيني فيقول: لم نتلق أية مساعدة مالية، وتم ترميم المحال على حسابنا الشخصي.
سيدة خمسينية اعتادت زيارة الأسواق بشكل متكرر ترى أن عودة كامل المحلات، كالأقمشة والصاغة ومستلزمات الخياطين، ضروري، “فمن يقصد السوق يرغب بكل حاجياته، والتنوع مطلوب”. وسيدة أخرى تعمل في الخياطة، تعاني من صعوبة التنقل بين أسواق الأحياء المتباعدة بحثاً عن مستلزماتها، بعد أن كانت تجدها في شارع واحد من السوق المسقوف.
كل محاولات الحكومة لإظهار عودة الحياة الطبيعية إلى حمص، غرضها إعلامي، فلا يكفي إعادة المؤسسات الحكومية في مركزها وأحيائها، حيث يحيط بها الدمار. ولا يبدو أن البيروقراطية الفاسدة وحدها ما يمنع تقديم التسهيلات الحقيقية لعودة السكان والأسواق؛ إذ يتبين أن لا نية للحكومة في ذلك، وهو ليس ضمن اهتماماتها.
ويبقى للسوق المسقوف ركنُه الخاص في الذاكرة الجمعية لأهالي مدينة حمص وريفها؛ فلطالما كان ومازال قادراً على احتضان كل أطيافها. وعودته كما كان مؤشر حقيقي على عودة الحياة الطبيعية للمدينة، فهل يتحقق الحلم!
الهوامش
*معروف بسوق النسوان أو البالة.
**يلفظه أهل حمص “القيساوية”.
*** نسبة لمهنة عصر الدبس قديما.
****يتم حالياً تأهيل البنية التحتية والأرصفة في سوق الناعورة وشارع “أبو العوف” وباب هود.
بواسطة سلوى زكزك | يوليو 11, 2019 | Cost of War, غير مصنف
أثارت الحرائق التي طالت مواسم القمح في الرقة والحسكة ودير الزور وإدلب وسلمية وأرياف حلب والحسكة وريف السويداء الغربي وريف حمص الشرقي، ردود فعل غاضبة ومستنكِرة، الرد الأكثر حضوراً كان الخوف، الخوف من الجوع ومن العجز عن تسديد الديون المقترضة وخاصة بفوائد عالية، والتي ستتحول إلى قروض متعثرة السداد.
لن يملك المقترضون أية إمكانية أو دعم لسداد الديون أو لإعادة جدولتها بطريقة أقل سوءاً، ليس الديون النقدية فقط! بل وإجمالي تكلفة المواسم من بذار ومبيدات حشرية وأسمدة وثمن مياه السقاية وقيمة المحروقات وأجور الأيدي العاملة وكل التبعات المالية الناجمة عن توقف عجلتي الحياة الاقتصادية والاجتماعية في آن معاً.
يقول “الياس” بأن أراضيه الزراعية الواقعة على المنحدر الغربي للقرية قد صارت بالنهر! المقصود هنا أن كمية الأمطار الهاطلة وقوتها قد جرفت الأراضي باتجاه قعر الوادي حيث نهر القرية، المصيبة لم تقع على رأس “الياس” وحده بل على جميع أصحاب الأراضي الواقعة على المنحدرات، لدرجة ضاعت معها تضاريس المكان وبات الفلاحون مضطرين لتقديم كشف لإعادة تحديد وتحرير الأملاك الزراعية، أي ضبط حدود الأراضي ومساحاتها وتوثيق ذلك وتسجيله بمحاضر رسمية.
الحرائق والأمطار الغزيرة حصدت خيرات الفلاحين وأوقعتهم في عجز لا تعويض عنه ولا من سائل عن كيف سيتدبر المزارعون أحوالهم، أو من سيعينهم وكيف سيكون العون أو الدعم لقدرتهم على تحمّل مصائبهم، والأهم هو كم ستبلغ الخسارات الفعلية في دورة الحياة الاقتصادية؟
تأخرت الأعمال الزراعية كثيراً هذا العام حتى أوائل شهر أيار، وذلك بانتظار توقف المطر كي تتحقق الفائدة المرجوة منها مثل الدهن بالزيت الشتوي وكسح الأغصان ورش المبيدات الفطرية والحشرية.
يقول “نظام” بأن الطقس لهذا العام كان مربكاً وطال إرباكه لدرجة بات معها طقسا معيقا عن متابعة أساسيات الحياة اليومية والأعمال الزراعية، أمطار غزيرة لكن دون ثلج، والثلج ظاهرة طبيعية يعول عليها المزارعون للقضاء على دود الأشجار وعلى جرذان الحقول التي تأكل البذار قبل تخمرها أو تبرعمها في الأرض.
يتوقع أحد تجار التفاح في منطقة زراعية تعتمد في تصاريف حياتها على مواسم التفاح، يتوقع بأن يعرض عدد كبير من الفلاحين أراضيهم الزراعية للبيع، وكثرة العرض ستؤدي حكماً إلى هبوط في الأسعار، لابل سيجعلها ميتة كما يوضح نظام، ويعطي أمثلة كثيرة على أراض تساوي ثلاثة ملايين ليرة بيعت بمليون ليرة وذلك في لحظة احتياج قصوى وقاسية، ومنتهزو الفرص جاهزون وجيوبهم مليئة بالليرات التي تتناقص أمام حاجة الفلاحين وتتزايد في حسابات الناهبين الجدد حين تتحول إلى ملكيات واسعة اغتنمت على حساب الفلاحين وتحت إلحاح الحاجة.
غابت عن المساحات المحترقة كل عوامل الأمان والحماية، حتى وسائل إطفاء الحريق البدائية المطلوبة ومنابع المياه اللازمة أو الحضور الاحتياطي في مثل هذا الموسم لصهاريج المياه وآليات الإطفاء والنقل، وعزا البعض أسبابها لارتفاع درجات الحرارة الشديد والمفاجئ في وقت نضج فيه القمح وبات جاهزاً للحصاد، أو إلى سوء التعامل مع الأعشاب اليابسة ومخلفات الأراضي المهجورة ومقولة أن عقب سيجارة واحد كاف لإشعال حرائق على مساحة كبيرة وشاسعة ؟ وبعضهم قال: وبعد أن تبنت داعش علناً إحراق تلك المواسم، (بأن داعش تربط قطعة قماش مبللة بالنفط ومشتعلة بجسد جرذ حقل أو فأر وفي رحلة هربه من ضراوة اشتعالها على جسده يهرب ضمن المساحات الممتدة) ليتمدد الحريق وليشهد الناس احتراق أعمارهم مع احتراق أرزاقهم بأم أعينهم ولا سبيل لإطفائها إلا أجسادهم البائسة وطلب النجدة من الجميع لكن بعد فوات الأوان، وماذا عن الحرائق المشتعلة ليلاً! وماذا عن المناطق التي لا يوجد أي حضور فيها لداعش! كلها أسئلة بلا معنى وبلا أجوبة مضمنة بالخوف وبأسئلة الخسارات الكبيرة التي لا تعويض عنها ولا راد لها كما بدا واضحا.
عالموسم سندفع أجار بيتنا المستأجر في حمص عن تسعة أشهر كاملة، حيث يدرس أبناؤنا الثلاثة في الجامعة، عالموسم سأذهب لطبيب الأسنان لتصليح أسناني وتركيب جسر للفك العلوي كي أتمكن من الأكل بصورة جيدة، ستخضع زوجتي لعملية جراحية لاستئصال كتلة من الثدي، سنرمم أرضية المطبخ، سأصلح محرك السيارة، سندهن البيت، سنشتري مدفأة جديدة بدلا من القديمة المهترئة، سنشتري مازوتاً للتدفئة، سأسدد الأقساط المتراكمة لأبي سعد الذي يحول الفوائد لمبلغ جديد تترتب عليه فوائد إضافية! أي يتحول الدين إلى دين مركب.
تمتلك “سعاد” أرضاً صغيرة مزروعة بالتفاح، تستدين كل عام مالاً للعناية بها، وفي نهاية الموسم تحسب ما دفعته وما جنته، خسارات قليلة والأهم أنها لم تهدي أحدا صندوقاً من التفاح ولم تأكل هي وعائلتها ما يشبعهم منه، هذا العام قررت ترك أرضها لليباس، على حين قام شقيقها بقلع بعض شجرات التفاح المعمرة وزرع بدلاً عنها خوخاً ودراقاً، البَرَد هذا العام قضى على أزهار المشمش والخوخ، والرياح العاتية كسرت ترابين الكرمة والمطر الحامضي ثقب الأوراق وباتت غير صالحة للبيع أو للأكل، دواء الرش غير فعال وكلفة النقل إلى أسواق المدينة مكلفة ومرتفعة جداً، وسعر التفاح في هبوط مستمر والدولار يأكل الأخضر واليابس ويرفع أسعار كل شيء إلا خيراتنا ونتاج مواسمنا، والضمّان يئن ويشتكي من قلة أرباحه والعمال الزراعيون في الكساح وقطف التفاح وتوضيبه في الصناديق يطلبون ما يحتاجونه للعيش وليس ما نقدر على دفعه وأسعار الصناديق البلاستيكية حلقت عالياً جداً.
المواسم المحروقة أعراس مؤجلة وديون متراكمة، ارتفعت أسعار القمح رسمياً لكن القمح احترق! ولا سعر له، لم يعد يساوي شيئاً. ومن لا يزرع لا يكتوي بنار المواسم المحترقة لكنه يخاف ارتفاع ثمن الخبز، ويخاف من غياب الرغيف، والمزارع يخاف من التربة المحروقة التي تضررت وقد لا تنتج ما يغطي دورتها الزراعية المطلوبة منها، وأكياس الخيش تنام في المستودعات والمؤن ضئيلة وشحيحة، كيف يشتري مزارع القمح برغلاً من غير أرضه، كيف سيكون طعمه أو رائحته!
في القرية الوادعة حيث ابتلع النهر أراضي المنحدرات سيرصف الرجل الذي يُقرض الفلاحين بالفائدة هيكل صليب الكنيسة بالحجر الأسود وسيشكرونه كثيراً وسيكتسب صفة ابن القرية البار والمؤمن، ودفتر الديون في جيبه وفي عقله يسجل أرقاماً متتالية ومتصاعدة، وهناك حيث رائحة الحرائق وحيث يكتوي التراب من النار سينشدون أغاني الحصاد وتدور حلقات الدبكة لتحتفل بمواسم لم تحصد، لترسم حدود الخسارات في كل الاتجاهات، حيث لا أجوبة ولا ترقب ولا توقعات أو نتائج لمن يقرر السؤال، أسئلة الخسارات لا غير ودوامة من العبث والفراغ والفزع، ومزيد من الأراضي المعروضة للبيع وبأسعار جائرة وبعضها لسد الديون فقط، والبعض الآخر وإن حالف أصحابها الحظ ستؤمن لهم ما كان مطلوباً من موسم واحد تأمينه! تخيل أن تخسر أرضك سداداً أو تعويضاً لغلال موسم واحد! إنه سؤال الخسارات وماذا بعد.
بواسطة Sonya Al Ali | يونيو 27, 2019 | Cost of War, غير مصنف
خلال سنوات الحرب تبدلت الأدوار الجندرية في مجال العمل بالتعليم والصحة والإعلام نتيجة غياب الرجل لأسباب متعددة مرتبطة بالنزاع المسلح؛ فبرز دور المرأة السورية في مجالات شتى، فقد كانت المراسلة الحربية والمعلمة والطبيبة والمقاتلة الصامدة في وجه الظلم. كان للمرأة أيضاً مشاركةً ملحوظةً في بناء المجتمع المدني وصنع القرار على أسس علمية وديمقراطية عبر مشاركتها وانتسابها لمنظماته النسوية، إضافة إلى دورها في تأسيس بعض المنظمات بهدف حماية المرأة من آثار الحرب والصراع الحاصل وتوعيتها بحقوقها ودورها في المجتمع، والعمل على تنمية قدراتها بشتى المجالات كي يكون لها دور فاعل ومؤثر في صناعة السلام بالمستقبل. وفي الشمال السوري، حيث تعمل معظم المنظمات المدنية المحلية في مجال التنمية، مارست النساء دوراً ريادياً في هذا المجال ووجدت المنظمات المدنية بيئة مناسبة لتنمية قدراتهن.
وعن دور النساء السوريات بعد الثورة، تقول الصيدلانية سوسن السعيد من إدلب (وهي إحدى المشاركات في تأسيس منظمة “بارقة أمل” النسائية): “لم يكن للمرأة السورية دور حقيقي يُذكر قبل الثورة، أما بعدها فنرى حركة جادة لتفعيل ودعم دورها في سبيل تحقيق التغيير الإيجابي في المجتمع، في ظل توفر مناخ مقبول من إتاحة الفرص، حيث نجحت بعض منظمات المجتمع المدني في تأهيل وتمكين النساء السوريات اقتصادياً واجتماعياً وحتى سياسياً.”
وعن دورها في إدارة منظمة “بارقة أمل” تضيف سوسن: “غيرت الثورة السورية مجرى حياتي، ونقلتني من العمل كصيدلانية إلى مساعدة النساء اللاتي خرجن من معتقلات النظام السوري للعمل على لملمة جراحهن وتقديم الدعم النفسي لهن، حيث عملت مع مجموعة من زوجات المعتقلين على تأسيس المنظمة لتخفيف المعاناة التي تعيشها مئات النساء السوريات.”
وأثبتت النساء السوريات جدارتهن في دول الجوار أيضاً، حيث تولين مناصب قيادية في منظمات المجتمع المدني من أجل بناء نواة لمساعدة الأهل في الداخل السوري. وعن ذلك، تقول
فاطمة غزال مديرة الموارد البشرية وحملة المناصرة في منظمة “بلسم”: “شاركت المرأة السورية في المجتمع المدني، حيث أسست الفرق التطوعية وقادتها وكانت جزءاً منها، وكانت لها اليد الطولى في تطور عمل المنظمات وباقي مؤسسات المجتمع المدني، ومشاركتها هذه أكسبتها الخبرة والاختصاص والجودة.” كما تشير غزال أنها بعد خروجها من سورية إلى تركيا لم تقف مكتوفة الأيدي، بل تغلبت على كافة الصعوبات، حيث توضح ذلك قائلة: “رغم أنني أم لثلاثة أطفال، لكنني أيضاً مسؤولة أمام مجتمعي ووطني، لذلك عملت جاهدة على تطوير مهاراتي واكتساب قدرات جديدة للحصول على فرصة عمل تساعدني على الحياة، وأستطيع من خلالها خدمة أبناء بلدي في الاهتمام بالمعاقين ومصابي الحرب.”
ودخلت النساء السوريات أيضاً مجالات عمل شاقة كانت فيما مضى حكراً على الرجال، ليثبتن جدارتهن فيها، حيث دفعت ظروف الحرب وتصاعد العمليات العسكرية بالعديد من النساء إلى تكثيف عملهن بالعمل الإنساني والإغاثي، وتقديم أي جهد يساعد على تخفيف ويلات الحرب، ومنها مشاركة النساء في مجال الدفاع المدني وأخذ أدوار قيادية فيه. ومن جهة أخرى، تشارك منى البكري مديرة “المركز النسائي للدفاع المدني في خان شيخون” تجربتها قائلة: “مع زيادة العمليات العسكرية في إدلب بدأت المراكز النسائية بالتشكل لتكون رديفة لمراكز الرجال في العمل على إنقاذ الأرواح وإسعاف النساء والأطفال في حالات القصف والمخاطر، إضافة إلى نشر التوعية والإرشاد من خلال الحملات والندوات في المنازل والمدارس ومراكز التأهيل حول مخاطر مخلفات الحرب ومبادئ السلامة العامة.” كما تبين البكري بأن جميع العاملات في المركز يمتلكن خبرة واسعة في مجال التمريض والإسعاف، كما تلقين تدريبات على أعمال البحث والإنقاذ. وعن الصعوبات التي تعرضت لها في بداية عملها تضيف: “واجهنا في البداية الكثير من الصعوبات من المجتمع المحلي الذي استهجن عملنا في قطاع هو برأيهم مخصص للرجال، ولكن جدارتنا في العمل ومساعدة المرضى ساعد في تقبل عملنا والثقة بقدراتنا.”
بالإضافة إلى الأدوار المدنية، أصبحت النساء في إدلب حاضرات أيضاً في الجانب الأمني من خلال الانضمام إلى مراكز الشرطة الحرة للمساهمة في نشر الأمن والأمان وحماية المواطنين، إضافة إلى كشف الجرائم الخاصة بالنساء والأطفال والمخدرات وتفتيش النساء عند الضرورة، والإشراف على النساء في دور التوقيف والرعاية. تتحدث أم جميل المسؤولة عن “الشرطة النسائية الحرة” في معرة النعمان عن عملها قائلة: “يُقاس تطور ورقي أي مجتمع بدرجة التطور الثقافي والاجتماعي للمرأة، والتعامل معها كإنسان له كامل الحقوق الإنسانية، وتحريرها من العادات والتقاليد البالية التي تسحق كرامتها، وتضعها في مكانة أقل من مكانتها الحقيقية، لذلك قررت مع زميلاتي الدخول في قطاع الشرطة الحرة لنكون مع الرجال في مواقف البطولة وتوفير الأمن واسترداد الحقوق.” وعن بداية نشأة مراكز الشرطة النسائية في إدلب تُضيف: “تم تأسيس أول مركز نسائي في إدلب في منتصف عام ٢٠١٧، وانتشرت المراكز على نطاق واسع ولاقت اهتماماً منذ بدايات ٢٠١٨، حيث وصل عدد الشرطيات في إدلب إلى ٨٠ شرطية توزعن على المراكز، ولكل منهن وظيفتها ومهامها التي تقوم بها على أكمل وجه.” وتُشير أم جميل بأنها قررت الانضمام إلى الشرطة كخطوة نحو تغيير حياتها، والدخول في تحد كبير لإثبات وجودها في معترك الحياة، ليكون للمرأة دور فعال وإيجابي في حل القضايا التي تخص المرأة والطفل.
تعكس تجارب النساء المعروضة في هذا المقال كفاح المرأة السورية خلال سنوات الحرب لكسر الصور النمطية والقيود التي كرستها تقاليد المجتمع على عملها ودورها في المجتمع المدني. ونتيجة نجاح النساء السوريات في أدوارهن الجديدة، غدون أكثر قدرة على الاستقلالية والاعتماد على الذات وصنع القرار.
* يعاد نشر هذا المقال في صالون سوريا ضمن تعاون مع شبكة الصحفيات السوريات
بواسطة Mohammad Saleh | يونيو 14, 2019 | Cost of War, غير مصنف
*ينشر هذا الحوار ضمن الطاولة المستديرة ما الذي تبقى من اليسار السوري؟
هذا الجزء الثاني من حوار من جزئين أجراه عمر عباس، يمكن الإطلاع على الجزء الأول هنا.
يعد محمد صالح، المعروف بأبو علي صالح، أحد أهم شخصيات الحراك السلمي الأهلي والمصالحة في مدينة حمص، ومن الشاهدين على أحداثها من ثورة وحرب، وفي هذا اللقاء، يتابع أبو علي حوارهمع عمر عباس لصالح صالون سورية حول تطور الأحداث التي خبرها هناك، وتحديداً الوضع في حمص في أعقاب الحراك الشعبي الذي بدأ في درعا.
كيف كان الوضع في حمص عند بداية الحراك؟
لم أكن موجوداً عند بداية المظاهرات، إذ كنت في مدينة السلمية بسبب وفاة والدتي، لكن كما كل معتقل سابق، تولدّ لدي الأمل بكلمة الـ ”لا” التي لم نتوقع سماعها ونحن على قيد الحياة. كنت آمل أن يتحسن الوضع وأحذر من حمل السلاح، كان مطلبنا ديمقراطياً حقيقياً، لا لحلول ديكتاتور محل آخر. لم نكن نريد حدوث اقتتال، لأنّ الانقسام والدم يجلبان الكراهية وهي بدورها تسفك المزيد منه، لذا حاولنا أن نبعد فكرة التسلح قدر الإمكان. لم أقرأ قبلاً عن ديمقراطية أتت بالسلاح، نحن نريد ديمقراطية وليس مجرد استبدال سلطة مستبدة بأخرى، ولهذا كنت أختلف مع شعار إسقاط النظام الذي كنت أدعو لاستبداله.
بدأت ألتقي بمن تربطني معهم علاقة سابقة من اليساريين بشكل أساسي، وبعض الإسلاميين غير المتطرفين، التقيت بالشيوعيين والإسلاميين والقوميين ولم يكن لدي أية مشكلة مع الشخص الذي ألتقي به طالما أنه صادق، فهذا البلد أو الوطن أو سمه ما شئت لنا جميعاً وعلينا أن نعيش معاً سواءٌ أعجبنا ذلك أم لا، ويجب أن يقرر من يسكن على هذه الأرض كيف يحكمها. لا أقبل أن أميّز بسبب انتمائي، وكذلك لا يمكن أن أميز أحداً بسبب انتمائه. حاولنا في بعض المناطق أن ننسق بعض الشعارات، وكنا نوصل ما هي رؤيتنا لمن يمسك بالأمور، بعد الشهر السابع من العام ٢٠١١ لم يعد يحصل ما تمنياه. بدأت آنذاك تنتشر الجرائم من خطف متبادل، وتبادل أسرى، وقتل رهائن، إضافة لعمليات القتل على الهوية الطائفية. يوم العار كان في ١٦ من شهر تموز حيث قتل ٣٠ شخصاً مقابل ٢٤ شخصاً من الطرفين، وَجهتُ آنذاك مناشدات لأهلنا بالخالدية، “ماذا يعني لكم خطف الناس الذاهبين للكراجات أو إلى عملهم؟” فهي كانت طريق ممر للوصول لأعمالهم، وكانت تشهد العديد من عمليات الخطف، الأهالي رحبوا بالرسالة لكن لم يتغير شيء. هناك مناطق أخرى، لكن هذه المنطقة لا يمكن تفاديها وخاصة كراج الانطلاق. وبدأت تزداد حالات القتل على الهوية، فأحياناً تُكتشف ثلاثين جثة، وكان القتل لحسابات شخصية، كأن ينتقم شخصاً قُتل فرد من عائلته بقتل أعداد كبيرة من عائلة أخرى من الطرف الآخر. ساهم بزيادة انتشار هذا الجرائم معرفة القتلة بأنهم سيفلتون من العقاب ولو مرحلياً، كما كان الشحن الطائفي غير مسبوق. المجزرة الكبيرة التي شهدتها المدينة حصلت إثر قبول مبادرة الجامعة العربية في شهر نوفمبر ٢٠١١، حيث نزل بعض الحثالات ممن أسميتهم “شبيحة الثورة” إلى الشوارع، وقتلوا بضعة أشخاص يستقلّون سيارات عامة، وخطفوا أباً وابنه وقتلوهما، فكان الانتقام رهيباً وخارج القانون والأخلاق في ساحة الزهراء حيث تم قتل ٣٤ شخصاً من قبل عناصر من الشبيحة التابعين للأمن الجوي، بما بات يُعرف محلياً بمجزرة “الفندي”، نسبة للعقيد هيثم فندي، وكان القتل قد حدث على أساسٍ مذهبي، وأنا أروي هذه القصة تحديداً لأني أعرفها عن قرب وأعلم كيف حصلت.
تعرّض العديد للخطف لساعات تعرضوا أثناءها للتعذيب والنعت بألقاب بذيئة، وسمعت هذا كله من أصحاب العلاقة وعائلاتهم. وفي بعض الأحيان كان الشخص الغريب عن الحارة يُقتل عند دخوله إليها لرعونة المسلحين من اللجان الشعبية وبسبب الخوف، وليس قتلاً طائفياً، قُتل مثلاً أشخاص من نفس الطائفة لكنهم غرباء عن الحي، كما ولو أنك في غابة تطلق النار على أي حركة غريبة من الخوف، وقد كان غياب الأمن في تلك الفترة مقصودا لدب الرعب. بعد الشهر السابع تصاعد القتل الطائفي كثيراً، ليشهد الشيعة تهجيراً ممنهجاً في حي البياضة، وأصبحت الأحياء أكثر تماثلاً طائفياً، إما سنية أو من بقية الطوائف بسبب الخوف المسبق والتهديد المباشر. قليلة فقط الأحياء التي حافظ على تنوعها المختلط طائفياً، منها الوعر وطريق الشام وعكرمة والجامعة وحي الادخار.
جاء مسلحون لمنازلنا وهددونا مباشرة، وقالوا لنا: “لا نريد إلا سُنة بين بابا عمرو وطريق الشام”، ونقل رفاقي لنا رسالة: “أنتم جيدون لكن لديكم عشرة أيام لتخلوا المنزل لأننا لا نريد غير السنة”. لاحقا جاءني شخص لا أعرفه وسألني: “من يزعجك؟” أبلغته عن اسم المجموعة التي هدّدتني، فحّل الإشكال وزال عنّا التهديد. بقي في حينا بيتان أو ثلاث من غير السنة، بعد أن كان موزعاً بالمناصفة تقريباً. في الحي نفسه قتلت مجموعة مسلحة معارضة مهندساً لأنه علوي ومن ثم مهندس آخر لأنه شيعي، كنت أعرفهم شخصياً، لكني لم أكن أعرف انتماءهم المذهبي قبل ذلك. ثم خطف مسلحو المعارضة شخصاً آخر مسيحياً، استطعنا إخراجه قبل أن يقتل، كما قتل جاري وصديقي الدكتور مصطفى سفر أمام مدخل عمارته في حي الشماس في ٣٠ كانون الثاني/ يناير ٢٠١٢، بالرغم من أنه سني. أعتقد أنّ عمليات الاستهداف الطائفي هذه لم تكن مجرّد مصادفة. أذكر في شباط ٢٠١٢ أني قد ذهبت لزيارة أقربائي في منطقة الساحل بعد مقتل جاري، وسمعت بعد وصولي أنه قد عُثر على جثتين بالقرب من المركز الثقافي، وعندما عدت لأتفقد بيتي وأخذ بعض الأغراض، استفسرت عن هوية الجثتين؟ فعرفت أنهما قتلة الدكتور مصطفى سفر، وهما أخوان من عشيرة تابعة لطراد الملحم التي تتبع لقبيلة عنزة وهذا كل ما أعرفه. لم يكن واضحاً ما هدفهم من القتل، سمعت العديد من الروايات المتناقضة حول هوية القتلة، شباب الجيش الحر في الخالدية قالوا إنهما تابعان لهم، وتمت تصفيتهما من قبل مجموعات مسلحة أخرى. في يوم ٣ شباط/فبراير حدثت مجزرة كبيرة في حي الخالدية عندما سقطت قذيفة هاون ليلاً، وعندما تجمع الناس لإسعاف الجرحى سقطت أخرى ليصل عدد الضحايا إلى المئة، كان قد سبق المجزرة هجوم من أبناء الحي على حاجز المستوصف. بعد ثلاثة أيام بدأ القصف على حي بابا عمرو، وكانت الحملة العسكرية الكبيرة التي استمرت لنحو عشرين يوم وانتهت بتهجير الأهالي والمقاتلين بشكل شبه كامل.
عندما رأينا الدمار الذي حصل في المناطق الأخرى، أصبحنا نقول أنّ حيّنا لم يتدّمر كثيراً رغم ما فيه من دمار، لكن بالمقارنة مع غيره كان بسيطاً. عدت لحيي إلا أن نسبة السكان الذي عادوا إليه لم تتجاوز خمسة بالمئة، سكان حي الجندلي أيضا خرجوا ولم يبق فيه أي أحد، وطبعاً تمت سرقة كل شيء يمكن حمله.
تم تطويق المسلحين في حمص القديمة، وفي حي الخالدية مع عائلاتهم، وشهد حركات نزوح إليه من حي النازحين ومن كرم الزيتون، وكان آخر يوم استطعت الدخول إليه في ٢٣/١/٢٠١٢، حيث حصلت مناوشات والشباب محاصرون بالداخل. سافرت من حمص الى دمشق مرتين كل يوم، سعياً مني لتأمين هدنة لحماية حمص من التهدّم على رؤوسنا، وبجهود كبيرة تم انقاذ مدنيي الوعر، وبقي الأهالي والمقاتلين في الداخل وحواجز الجيش، وأخبرني من بقي من الأهالي أن الجوع كان شديداً ولم يبق شيء في الشارع لم يتم أكله، بينما يأتي الطعام الساخن للمسلحين يومياً من الخارج بشكل منتظم، وأميل لتصديق ذلك لأن شخصاً محاصراً من عسكر المعارضة طلب مني دخان، فقلت له كيف سأوصلها لك، وليس لدي أية علاقات؟ فأجابني: ضعه عند حاجز الجيش السوري عند القلعة وقل لهم “أنه للشباب”. ليس بالضرورة أن تكون هذه العلاقة عمالة، فهناك عدّة احتمالات أخرى للعلاقات المشتركة منها القرب والمال والمصالح. التقيت بأكثر من عائلة وروت لي ذات القصص رغم أنهم لا يعرفون بعضهم، ومقاطعة هذه القصص جعلتني أصدق ما قيل لي.عندما خرج جميع المسلحين من المدينة القديمة، دخلنا ورأينا الدمار ومن بقي لآخر لحظة بالمدينة القديمة، وفي تلك الأثناء جرت محاولات كثيرة ممن يهمه وقف المذابح من كل الأحياء بغض النظر عن التوجه السياسي والانتماء الطائفي، دخلت أنا بتشكيل ما سمي “بلجنة التضامن الأهلي” وكان مؤلفاً من حوالي ثلاثين شخصية من حمص من مختلف التوجهات الموجودة لكن الأغلب يساريين. لم تكن للجنة فاعلية كبيرة وكان أغلب رموزها مؤيدين للحراك الشعبي، لم يكن معنا أحداً موالياً للنظام بالحقيقة، فحتى غير المؤيد للحراك الشعبي كان أقرب للحياد، وهذه نقطة ليست جيدة برأيي، فالمجموعة الأهلية يجب أن تتضمن مؤيدين لتحقيق سلم أهلي بين أطراف متعددة. لم نستطع أن نجلب مواليا ً لصفّنا وفي الوقت نفسه لم نكن نستطيع أن نقول لمن يطلق الرصاص من المعارضة أن يفعل شيئاً، فكيف كنا سننجح في تحقيقٍ سلمٍ أهليٍ في الوقت الذي يرفض فيه من يحمل السلاح الاستماع إليك؟
إن دعيتَ لحوارٍ وحلٍ عبر محاكم الجمهورية العربية السورية طالباً وقف القتال، في الوقت الذي يواصل فيه خصومك عمليات القتل فإن تأثيرك سيكون شبه معدوم، ورغم ذلك استطعنا إطلاق سراح العديد من المخطوفين وحققنا إنجازاً في هذا المجال، وإن كان محدوداً. لكن توفير نقطة دم واحدة كانت بمثابة إنجاز، وقد تمكّنا من الإفراج عن بعض المخطوفين دون مقابل كبير، معتمدين على جهودنا وإمكانياتنا المالية المحدودة، فاعتمادنا كان ذاتياً، وولم يكن بمقدور أحدٍ منا دفع مبالغ كبيرة. كانت تأتي مطالبات بفدية تصل إلى ملايين الليرات سورية (قبل انهيار الليرة) لإطلاق سراح مختطفين، لكن سقف قدرتنا كان بحدود العشرة والعشرين ألف ليرة، وفي إحدى المرات عبئت برميل مازوت لشخص مقابل الإفراج عن مخطوف، وقد كلفني ذلك خمسة عشر ألف ليرة. كل أعضاء اللجنة وضعهم المادي مثل وضعي أو أقل قليلاً، وهذا كان في البدايات عندما كانت لدينا المقدرة المادية، لكن الآن أصبحنا ننتظر العشرة ليرات لنشتري رغيف الخبز، فالوضع أصبح أكثر سوءاً، ولم يعد هناك إنتاج أو عمل، والتقصير كبير.
لست قادراً على تجاوز النقص بالمعلومات التي أرويها، لأننا لم نصل للمرحلة التي أستطيع فيها أن أتكلم بحرية بعد، وهذه إحدى المشاكل الهائلة، ألا تكون قادراً على إيصال ما تحب أن توصله. في عام الـ٢٠١١ حضرت بالصدفة اشتباكاً بين الجيش والمسلحين فتكلمت عن هذا بمداخلة شاركت بها في قناة البي بي سي البريطانية، فضُربت سيارتي برصاصة واحدة بعد ذلك. احتجوا جماعة التسليح من المعارضة، وسألوني لم أتكلم عن المسلحين وهم لم يقرروا الإعلان عن تسلحهم بعد؟ أجبت أنني لست ملزماً بهم، فنحن لم نتفق ولا يوجد بيننا توافق ولا أنتمي لجماعتهم، وأنا لن أقول إلا ما رأيت، فأنا لست بالسياسي الذي يخفي أو يكذب أو ينكر القتل الحاصل، دوري توصيل ما يحدث من كل الحقائق. في البدايات كان من حمل السلاح وقتل وخطف من حثالات المجتمع السوري، ومن قاموا بالاغتيالات بحينها هم من مروجي المخدرات والقوادين، ممن لهم تاريخ طويل في السجون وهم من حمل السلاح. هناك من هو مستعد أن يفعل أي شيء من أجل المال وضمن ذلك القتل. هذا ليس من طرف واحد بل طرفي الصراع، وعندما قلت للمحافظ، لماذا تسمحون لهم أن يحملوا السلاح؟ قال لي “كلب يعوي معك أفضل من أن يعوي عليك”، وعندما سألتهم نفس السؤال بحي بابا عمرو، أجابوني بالجواب ذاته، نفس الثقافة والنهج من الطرفين. وهذا يدل على الافتقار لأي هدف سام بمعنى دولة ديمقراطية أو عدالة، بل البحث عن سلطة وأنا لست معنياً بذلك، أنا أنشد إدارة تدير هذه الدولة ببعض العدالة، لا يهمني الأسماء لكن يهمني ألا يكون لديه سوابق إجرامية.
في كرم الزيتون، حدثت مجازر مرعبة خلال ٤٨ ساعة أثناء طرد المقاتلين منها، وكل نقطة دم كانت تفرقنا عن بعضنا أكثر فأكثر، لم تحدث الأمور بسرعة فكان من الواضح أن المطلوب هو سفك الدماء، وإلا لماذا يحدث الحسم السريع عندما يريدون حسم الأمور؟ فيما بأماكن أخرى يبقى القنص والقتل والقصف مستمراً؟ هناك أسئلة يجب أن يسألوها أحفادنا كي لا يتكرر ما حدث، إعلاميا كان يتم غرس الكراهية بطريقة غير مسبوقة، ولا نعلم إلى متى ستبقى آثارها، على الرغم من تعالي الكثيرين عن الكراهية والمحافظة على تعاملهم الإيجابي، إلا أن الأشياء السيئة تبرز عن الجيدة. في السنوات الأخيرة، أثناء مفاوضات خروج مقاتلي المعارضة من حمص القديمة(٢٠١٤) حصلت دعوات من قبل أهالي المخطوفين لعرقلة الاتفاق حتى يتم الإعلان عن مصير أولادهم لكن لم يتم ذلك، وقد أخبرني أحد المقاتلين أنه قد تمت تصفية جميع المخطوفين قبل الاتفاق، لكن لا أعرف إن كان الكلام صحيحاً، كما تمت تصفية الكثيرين من الطرف الآخر، للأسف التنافس بين الأطراف المتنازعة بات حول من يقتل أكثر ومن لديه الإمكانيات ليثبت أنه الأسوأ.
شهدت مناطق وأحياء الوعر والريف الشمالي والقرى التي كانت متعايشة تهديداتٍ لا طائفية فحسب وإنما عرقية أيضاً إذ تم استهداف الشركس المتواجدين من قبل البدو، الذين قالو لهم “سنعيدكم إلى القوقاز حفاة كما أتيتم، فهذه أرضنا وسنسترجعها”، ولم يكن هذا الموضوع سياسياً بل عبارة عن أخذ غنائم وسرقات وهذا مجرد جزء مما حصل. حتى بين من يريدون إسقاط النظام، كان لكل طرفٍ هدف مختلف عن الآخر، وهذه إشكالية في فهم السلطة والحق، فالسلطة تبدو وكأنها أداة لنهب المنطقة المسيطر عليها وليست معنية بإدارتها أو تحقيق رفاهية السكان، وهنا لا أستثني أحداً، فالجميع نهب ولدينا تجارب مباشرة مع كافة الأطراف. أعتقد أنه ليس لدينا وعي حقيقي للدولة، وقد سعت النخب السياسية للحافظ على مصالحها ومنع المنافسة.
هل كنت موجوداً باعتصام ساحة الساعة؟
وضعي الصحي لم يكن يسمح لي بالمشاركة، لكنّ أعداداً كبيرة من أصدقائي وأقربائي شاركوا في اعتصام ساحة الساعة. جاء العديد من المعتصمين من الدفن بعد مقتل العديد من الشباب الناشطين في وقتٍ سابق، وأقاموا الخيم والاعتصامات، يومها زحفت حمص للساحة لتعيش ساعات جميلة، وكان هناك إرباك حقيقي وغير مسبوق للسلطة في حمص.
كان في الاعتصام مشاركين من جميع الطوائف وجميع الاتجاهات السياسية، ولكن حدثت بعض الإشكاليات التي أزعجتني، فمثلاً تمّ تقديم أحد الشبان الذين أعرفهم ليخاطب المعتصمين بصفته ” ضيفنا العلوي بساحة الساعة.” وهذا برأيي من أسوء التعبيرات، لا أعلم لم غير السني هو “الضيف”؟ علماً أنّ المقدم علماني له تاريخ سياسي طويل وممن أعتبرهم جيدين فتخيل ما يدور برأس غير الجيدين، كان سلوكه جيداً ومحترماً، لكن هذه العبارة تخفي وراءها الكثير. بقي الكثير من الناشطين يعتبرون الناشطين العلويين ضيوفاً على الثورة، ومنهم من غادر وانتقل لمواقع أخرى من السلوكيات الطائفية.
لم يحسن منظمو الاعتصام إدارة المكان ولم يُقدّروا حجم الخطر أو يُعدوا أي خطة للطوارئ، إذ بدأوا بإخلاء المكان حوالي الساعة ١٢ ليلاً، وعندما انخفض عدد المعتصمين بدأ هجوم قوات النظام، وتسبب صوت الرصاص بهروب بقية المعتصمين. لو بقي الجميع لما استطاع النظام اقتحام المكان بسبب كثافة أعداد المعتصمين. للأسف، لا توجد أخبار مؤكدة عن أعداد الضحايا، لدي تأكيدات بمقتل سبعة أشخاص تلك الليلة، إلا أنه مازال هناك ١٩٠ مفقوداً من الاعتصام، لا نعرف مصيرهم حتى اللحظة. حوالي الساحة السادسة صباحاً، مررتُ بالساحة ورأيت الدم على الأرض وهو يغسل وشاهدت أعمال التنظيف وإزالة البقايا والخيم، وحوالي الثامنة والنصف صباحاً مررت مجدداً وكانت أعمال التنظيف مستمرة. لم أتجرأ على التصوير رغم عدم وجود أية عناصر أمنية أو شرطة في كل المدينة أثناء ذلك اليوم، كان يوماً خاصاً جداً. لم يكن هناك حتى شرطة مرور في الطرقات، فاستغل بعض المراهقين (١٥-١٦ عاماً) الوضع لنصب حواجز وبدأوا يطلبون هويات المارّة.
بعد الاعتصام خرج قانون التظاهر، وقدمت طلباً من أجل السماح بتظاهرة تخرج من حي باب السباع وتصل لحمص القديمة، رفض طلبي مدعيّن أن المظاهرة تخرج من المسجد، وذلك غير مسموح، رغم أننا لم نقل أنها ستخرج من المسجد أبداً، أيضاً تحججوا بأننا لم نستطع حماية الأماكن العامة، رغم أن ذلك ليس من مسؤوليتنا. بحثنا عن ممثلين من طوائف متعددة ليشاركوا معنا، لكن أنا من تقدمت بها وأنا من تلقيت الرفض، وقد عرفت أصلاً أن الجواب سيأتي بعدم الموافقة.
كان الخوف كبيراً، وجاءتنا تهديدات مباشرة وتهديدات للناشطين، أنا تلقيت تهديدات من السلطة ومن المسلحين، وجاءني تهديد مرتين يطلب مني أن أترك حارتي، كي تخلو المنطقة من غير السنة، لكني ما زلت في بيتي و لم أتركه أبداً، ورغم رحيل المسلحين لكن الحي أصبح سنياً بعد أن كان فيه من جميع الطوائف، بقيت أنا وأحد أقربائي فقط، حتى ابني خرج مع عائلته من الحي خوفاً من أرعن، وقد شكل هذا عبئاً اقتصادياً هائلاً، فأجار بيت ابني خمسين ألف ليرة سورية وراتبه خمسة وثلاثين ألف، وكان لدي العديد من الرفاق الذين قضوا معي سنوات السجن، إلا أنهم خرجوا جميعاً، ولم يبق منهم أحد، بقيت وحدي.
لماذا اعتقلت عدّة مرات بعد الحراك؟
اعتقلت للمرة الأولى يوم ٢١/٩/٢٠١١، وقبل هذا التاريخ بأربعة أيام كنا نتحضر لعقد مؤتمر لهيئة التنسيق، حضرت المؤتمر وغادرت لأن الجو لم يناسبني، ولم يكن الحاضرين قادرين على أخذ قرارات صحيحة، وأنا في طريق عودتي للمنزل اتصل بي من تبين أنهم أعضاء الوفد الروسي الذي زار محافظة حمص، كانوا يريدون لقاء أحد المعارضين في بيت المحافظ، وعندما نقلت للوفد ما تطالب به المعارضة أمام وسائل الإعلام، اعتقلت. كان الزائر نائب رئيس مجلس الدوما الروسي وسألني ما هو برأيك الحل؟ قلت له: إن الحل هو حسب الدستور السوري المادة ١٣، الرئيس السوري يدعو لتأسيس جمعية عمومية من ٢٠٠ شخص على الأقل، ويوقف العمل بالدستور للعمل على صياغة دستور جديد مع قوانين انتخابية جديدة وانتخابات رئاسية تحت إشراف أممي، وانتهى اللقاء هنا، وبعد يومين تم الاعتقال لكنه دام يوماً واحداً، حيث أفرج عني بسبب تدخلات روسية، بعدما عرفوا أنني اعتقلت بسبب لقائي معهم.
في عام الـ٢٠١٥ اعتقلت بحجة تمويل الإرهاب، لأنني أعطيت مئة ألف ليرة لشخص بالوعر، حولها لليورو ليوصلها لشخص من العائلة يعيش في باريس، المنطقة كانت محاصرة، فقالوا إن الأموال قد تصل للإرهابيين، وتقديري أنها حجة كي يحققوا معي بموضوع النشاط الإعلامي، فليس هناك حكم قانوني يجرم إجراء لقاء مع الإعلام، ولذا اضطروا لإيجاد ذريعة أخرى، وتمويل الإرهاب عقوبتها كبيرة.
اعتقلت أيضاً في الشهر العاشر عام الـ٢٠١٧ لستة عشر يوماً من جهتين أمنيتين لإغلاق ملف من ٢٠١٢، وكانت المذكرة صادرة من قبل، لكنها كانت حجة، وما أزال قيد المحاكمة حتى هذه اللحظة.أما الاعتقال الأول فكان من ١٢ شباط/فبراير ١٩٨٨ حتى ١ آذار/مارس ٢٠٠٠.
أثناء اعتقالي كنت أتعرض للتحقيق حول عن المكالمات العديدة التي تأتيني من خارج سوريا، وقد كنت أتواصل مع قنوات من اليابان حتى السي إن إنباسمي الشخصي وليس باسم حركي، وموقفي واضح، أنا ضد استخدام أي سلاح سواء من قبل السلطة أو المعارضة، وضد سفك أي دم سوري، وعندما أحمل طرفاً المسؤولية هذا لا يعني أنني موافق على الطرف الآخر.
فإن أدنت المعارضة كُنتُ أسأل “وهل يعجبك الجيش؟” فأجيب “لا، فأنا أدين جميع الجرائم وأتكلم عن الجميع”. وقد قلت من البداية لا أتمنى أن يحرز أحداً نصراً عسكريا على الإطلاق، لا أرغب بالحسم العسكري، فالمصلحة ألا ينتصر أحد وتكون التسوية والدستور، إذ أنّ انتصار أحد يعني أن الكارثة آتية، والنصر العسكري ضمن حرب أهلية هو الكارثة.
بالنسبة للمعتقلين، كان نشاطي تأمين المحامين وأشياء بسيطة فلم يكن لدي تأثير أكبر من ذلك، الأمن لا يقبل بي أن أمثل الثورة على خلفية طائفية، وكوني لا أقبل أن أعمل ببعض الأشياء، ركزت على السلم الأهلي والعلاقات الأهلية، سواء معنوية أو مادية، ليس لي أية علاقة بالائتلاف ولا بهيئة التنسيق، إلا أنني أتواصل معهم دون أن يكون لي أي دور فيهما.
هل تستطيع التكلم عن دورك بالأعمال الخيرية؟
عندما بدأ الخطف على الهوية تدخلت من خلال علاقاتي الاجتماعية والسياسية، نجحت في بعض المرات بتنسيق عمليات لتبادل المختطفين وفشلت في مناسبات أخرى، وكنت أنجح بالتبادل بدون أي مقابل مادي، فما عملت عليه لم يدفع مقابله أي شيء من الأهالي، أنا دفعت، لكن ليس عندي قدرة كبيرة.
كنت أشحن رصيد الموبايل أو أملأ خزان مازوت أو أقدم خدمات طاقة شمسية، وكل ما دفعته لم يتجاوز الأربعة آلاف دولار، ولم يعرف أهل المخطوفين بهذا، كنت أداوم عند الخاطفين لأيام. في إحدى المرات في العام ٢٠١١ مشيت ٢٠٠ متر وأنا مغطى العينين لأوصل دواء لشخص مخطوف، تواصلت مع المخطوفين وتمكنت من خلالهم إيصال الدواء للشخص المريض، كنت أحاول التواصل دوماً وفي جميع أوقات الصبح والليل حتى أحصل على مطالب الخاطفين. كانت أصعب اللحظات عندما يقولون أنهم قتلوا المخطوف، وكان علي إخبار الأهل، هذه لحظة قاسية ومؤلمة، والأفرع الأمنية لا تتخذ أي إجراء، وهناك أشياء لا تحكى كي لا تستغل لتأجيج المشاكل.
الحدث الطائفي في حمص دفع أشخاصاً للتحول إلى مؤيدين كي لا يذبحوا، هناك أمور تحتاج لوعي غير متاح للأمور السياسية. النظام بالتأكيد لن يسمح بتواجد بديل ككل أنظمة الطغيان، لكن كان على المعارضة أن تبتكر شكلاً للقاء، والوعي والقيادات تبقى فاشلة حتى الآن، لا لسوئهم بالضرورة لكن لعجزهم.
أنا أدخلت أول شحنة مساعدات على مدينة تلبيسة يوم ٤/٦/٢٠١١ أثناء أول حصار، نقلت حمولة سيارتين أرجعوني على الحواجز ولم يدخلوها، فوزعت الشحنة على المفرج عنهم في العفو الصادر آنذاك، كانت مجموعة كبيرة من الأساسيات كلفتني فقط ثلاثين دولار. قدمت أكثر من مئة مقعد للمعقدين بالإضافة لفرشات طبية للمقعدين وعكازات وأدوية حليب حتى هذه اللحظة، لست أنا من يشتري الأدوية لكني أوصلها من خلال أصدقاء وصديقات، وهناك من تبرع بثمن الكراسي، أنا اشتريت اثنين فقط، لكني أوزعهم على مدنيين تأثروا من القصف العشوائي بغض النظر عن المصدر. أحاول تأسيس جمعية لتركيب الأطراف الصناعية الذكية، يجب أن تكون مرخصة والعمل شفافاً، لكنها تتعرقل حتى الآن بسبب اعتقالي أولاً ثم للمشاكل المالية الكبيرة التي أعاني منها، فدخلي لا يكفيني، العمل لا يكفيني أكثر من عشرة إلى خمسة عشر يوم، ولا تستطيع أن تؤسس لشيء دون موارد، ولا أستطيع استلام مساعدات دون أن يكون لي ترخيص، هناك العديد ممن عرض علي المال لأوصل المساعدات لكنني أرفض إن لم أعرف الشخص، إلا إن كانت تبرعات عينية.
بواسطة Safi Khattar | يونيو 11, 2019 | Cost of War, Culture, غير مصنف
“الست بتلة” هو اللقب الذي اختارته “سلطانة عامر” لنفسها منذ عشرات السنين لتشتهر به السيدة التي تحظى باحترام وتقدير واسع في أوساط المتدينين، وتشير بعض الشائعات المحلية إلى أن للست نفوذاً كبيراً لدرجة أنها باتت الآمرة الناهية في مجتمع السويداء.
ومُحرّك هذه الإشاعات الأساسي هو قلة المعلومات الموثّقة حول سلطانة، إضافة للغموض والسرية التي يتسّم بها المجتمع الديني عموماً لدى الدروز، إضافة إلى غرابة وندرة وصول امرأة لهذه المكانة الدينية المرموقة.
يروي أحد الشيوخ المقربين من الست والمقيم في مدينة السويداء، أن قصة “الست بتلة” بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت طالبة جامعية في قسم الفلسفة، إلا أنها تركت دراستها وحياتها المدنية وتوجهت نحو الدين. وحفظت سلطانة “كتب الحكمة” كاملة، وهي الكتب المقدسة عند الدروز وعددها ستّة، وهي الحالة التي تعد قليلة عموماً وخاصة لدى النساء، وقامت بتغيير اسمها إلى “بتلة” كنوع من الزهد معتبرة اسم “سلطانة” لا يناسبها، ونتيجة لذلك ولكونها من أسرة عامر المعروفة والتي تتمع بمكانة كبيرة في السويداء، حظيت “بتلة “بدعم واهتمام شيوخ الدين المعروفين وقتها، وهم من أطلقوا عليها لقب “الست”، وعمدت لتحويل منزلها في أحد أحياء المدينة لمدرسة دينية تعلم أصول الدين وطقوسه للنساء، بحسب الشيخ.
وازداد خلال سنوات الحرب الماضية انتشار الظواهر الدينية في السويداء بشكلٍ ملحوظ، لأسباب عديدة منها تشكيل الميليشيات المسلحة والتي أخذت غالباً الطابع الديني سواء الموالية منها أو المعارضة، كما شكل الدين رابطاً قوياً للحفاظ على وحدة المجتمع بعد أن غدت المؤسسة الدينية المرجعية الوحيدة في ظل غياب أية حركة مدنية أو سياسية.
وأثارت الست إشكاليات عديدة في المجتمع المحلي في السويداء أبرزها يتعلق بانتشار تأثيرها الواسع والتعصّب والتشدّد في التعاليم والطقوس الدينية التي تدعو إليها، وهو أمرٌ مستهجن وغريب عن مدينة تتسم بمدنيتها وعدم تطرّفها، وقد أدت هذه التعاليم إلى خلق مشكلاتٍ كبيرة بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين بعض العائلات، حتى أن فئة كبيرة من الأهالي أصبحت تسميها بـ “خرّابة البيوت”؛ إذ ظهرت العديد من حالات الطلاق بين المريدات والأزواج غير المتدنين أو ممن يرفضون التشدد في الدين، بالإضافة لرفض التعليم للفتيات والنتائج الخطيرة من جرّاء منعهن من إكمال دراستهن الجامعية ورفض الاختلاط في المدارس، وفي بعض الأحيان يتم إخراجهن من المدارس بسن مبكرة والاكتفاء بتعليمهن أصول الدين.
لا تنشر “بتلة” تعاليم خاصة بها ولا بدعاً هي اخترعتها، فكل ما تقوم به هو تطبيق التعاليم الدينية في المذهب الدرزي بحذافيرها، وفق قاعدة التصوف في الدين والشروط المعاشة اليوم، رغم أنها قد تجتهد ببعض المسائل بالقياس أو الإفتاء حسب ما تراه مناسباً، ولعل المغالاة الشديدة والتطرف الذي أثار نقمة وانتقاد البعض في مجتمع السويداء مرده إلى مريديها أنفسهم، حيث تصبح المغالاة هنا طريقة لإبراز الولاء والتقرّب من الست أكثر، بالإضافة إلى تحوله لنوع من التعويض النفسي والاجتماعي عن حالة الفشل والإحباط العامة التي خلفتها الحرب.
ولا تكتفي مدرسة “الست بتلة” بتعليم أصول الدين وتلقينه لمريداتها فقط، بل تفرض عليهنّ مجموعة من السلوكيات والطقوس الأخرى المتعلقة بكل جوانب الحياة تقريباً، من مبدأ أنّ الدين هو محور الحياة، لذا كان على المنتسبات أن يصدقن النية في التقرب لله، وأن يلتزمن بتطبيق التعاليم الدينية، والتي لا تختلف في أغلب جوانبها عن أي عقيدة أو مذهب ديني مختلف، وإن كانت أقرب إلى الطريقة الصوفية، والأساس فيها تطبيق مبدأ الحلال والحرام في كل شيء. وعند هذه القاعدة تحديداً يبدأ الاختلاف في تفسير الأشياء، فتعريف الحلال والحرام في العقيدة الدرزية ينطلق من قاعدة البحث عن أفضل الخيارات والطرق، أي الأكثر حلالاً من غيرها، وكنتيجة طبيعية لتطور المجتمع وتغيّر عاداته وثقافته، انحسر تطبيق التعاليم الدينية ليقتصر على الضرورات فقط، بما يحفظ النزاهة والكرامة والأخلاق، أو كشكل فقط وكنوع من إثبات المكانة الاجتماعية.
وبهذا ركزت الحركات الدينية المتشددة على محاولة العودة إلى تطبيق الجزئيات الصغيرة وأحكام الدين في كل جوانب الحياة، كرد فعل على ظاهرة انحسار الدين في المجتمع. ولذا يُلاحظ أن المتشددين ومنهم أتباع “بتلة” يرفضون العمل ضمن وظائف الدولة، كما يرفضون أي تعامل معها، معتبرين أموالها محرمة لاعتمادها على الضريبة والفساد، وبلغ الأمر بهم للاكتفاء بالضرورات القصوى المقدمة منها كالكهرباء مثلاً، وإن أمكن الاستغناء عنها يعتبر أفضل. كذلك الأمر بالنسبة لمياه الشرب، فهم لا يشربون مياهاً من الشبكة العامة وإنما من مياه الأمطار المُجًمعة أو من آبار خاصة موثوقة المصدر؛ وحتى لباسهن يحاولن حياكته بأنفسهن، وإن تعذّر الأمر، يشترون قماشاً من محلات خاصة أيضاً؛ و بالنسبة للمحروقات، يعتمدون على الحطب بشكل أساسي في الطبخ والتدفئة، ويمنع عنهم كافة أشكال التكنولوجيا الحديثة من تلفاز وموبايل وانترنت وغيرها لاعتبارها مفسدة بالمطلق ولا نفع منها. نتج عن هذا، تشكيل المتدينين بما فيهم “الست بتلة” لنظامهم الاقتصادي الخاص، الأشبه بالأخوية المتكاملة والمعتمد بالدرجة الأولى على الزراعة وتربية الحيوانات والأعمال اليدوية والمنزلية، إضافة لبعض المحلات التجارية التي تعود ملكيتها لرجال دين، حيث يفضلون شراء حاجاتهم الأساسية منها.
وبما يخص نفوذها الداخلي، فقد حظيت “بتلة” باهتمام وتقدير كبيرين في الأوساط الدينية المحلية، وعُوملت من قبل أتباعها بشيء من التقديس والتبجيل، إذ تعتبر سلطتها الدينية مطلقة بحكم منزلتها وتأثيرها في وسطها، فالدين في المذهب الدرزي يمر عبر وسطاء حصريين لهم الحق عندما يصلون إلى مرتبة معينة من التقوى بإدخال أو إخراج الأشخاص من الدين حسب أعمالهم ومواقفهم، ويعتبر البعد أو الحُرم الديني من أهم أدوات العقاب والثواب في المذهب، ويعتبر المُبعد من الدين كافراً حتى يعود إليه دينه من جديد، فكثيراً ما تتردد عبارة (بتبعدك الست) كنوع من الدلالة على سلطتها المطلقة.
ولا يُفرض “التديّن” في العقيدة الدرزية على الأفراد أبداً، فعلى العكس توضع شروط قاسية لمن يراد الانتساب إلى مجتمع المتدينين، وسعى العديد لإيجاد طرق لتوسيع دائرة الدين وزيادة الملتزمين به، ومن هنا لعبت حركة “الست بتلة” الأثر الأكبر بنشره، من خلال ضمان وصوله للنساء وبالتالي انتقاله لأسرهن.
لو أن التعاليم الدينية التي تنتهجها “الست بتلة ” بقيت ضمن إطار الخيار الفردي أو كحالة من التصوف والروحانية، لكانت أشبه بثورة على نمط الحياة اللاإنساني الموجود اليوم؛ كما أن تبني أي جهة مدنية لتعاليمها ورفضها العلني لبعض مؤسسات الدولة، كاد أن يؤدي بها للقمع الفوري من قبل السلطة، ولكن تغطية المسألة بالصبغة الدينية فقط سمح لها بأن تمارس نشاطها وبغطاء ودعم من الأجهزة الأمنية، ما جعل البعض يظن بأن “حركة الست” ليست إلا حركة أمنية بالمطلق، ويعتقد البعض أنها استنساج لتجربة “قبيسيات دمشق”.
لكن للحقيقة وجهين متناقضين، فمن ناحية، إنّ أي تيار ديني هو صديق السلطة بالضرورة ويمكن للسلطة أن تستثمر فيه في أي وقتٍ ضمن تحالفات معلنة أو سرية لتثبيت وجودها كما حصل مراراً في المشهد السوري؛ ولكن من ناحيةٍ أخرى، فإنّ هذا الاستثمار في الحركات الدينية قد لا يتحقق في مجتمع الدروز وضمن عقيدتهم، بل قد يرتدّ عكساً على السلطة إذا ما اعتبرت حركة ما بأنها تُشكل خطراً يُهدد الدروز كمجتمع أو كطائفة.
يُدرك المتدينون معادلة محاباة السلطة التي تساوي النفوذ والتمدد، ويستثمرونها سراً، والأخطر في الموضوع هو اعتقادهم بأنهم يستغلون السلطة لزيادة نفوذهم، وبالتالي توسيع مشروعهم الديني، والذي سيحقق للطائفة مزيداً من التماسك والقوة برأيهم، إضافة لعودة دور الدين في صياغة وقيادة المجتمع وحفظ وجوده.
من ناحيتها ترحب السلطة بأية حركة من هذا النوع، فتمدّد وانتشار الدين هو حتماً على حساب الحركات المدنية والفكرية في المجتمع، وهي الغاية الأهم لبقاء معادلة السلطة والدين كوجهين لعملة واحدة.
ومن هنا نجد أن حركة “الست بتلة “لم تعد وحيدة في مجتمع السويداء، فهناك اليوم أسماء جديدة ظهرت على الساحة “كالست شامية” و”الست سميّة” وغيرها، هذا عدا عن المعلمات في حلقات تدريس صغيرة في بعض القرى أو ضمن جلسات خاصة، وإن كان أغلبهم قد خرج من مدرسة “بتلة” إلا أن التنافس بينهن موجود وإن كان غير معلن.