المخدرات تعصف بالطفولة السورية

المخدرات تعصف بالطفولة السورية

في ذاكرة طفولتي البعيدة، كانت قصص الأطفال المحرومين تعرض بكثرة على القناة التلفزيونية الوحيدة، في زمنٍ، كنا فيه بالكاد نقتات ما يكفينا من المأكل والملبس. في ذلك الزمن كان علينا أن نرى قصة موت بائعة الكبريت، الذي بقدر ما آلمنا، أيضاً أسعدنا خلاصها من الجوع والبرد.

إذا كان كاتبٌ في القرن التاسع عشر قد رأى في موت طفلة الكبريت حلا نهائيا للبرد والجوع والحرمان؛ فمن الذي رأى وقرر أن طريق الموت هو الحل الوحيد لأطفال سوريا، ونحن في القرن الواحد والعشرين؟

أطفالٌ نجوا من الموت في زمن الحرب والدمار والتهجير، لنجدهم في الشوارع والحدائق، وعلى وجوههم كل سمات الحرمان من أفراح الطفولة. لا ندري كيف تعلموا الحصول على سعادة مزيفة لبعض الوقت، بإدمان استنشاق مادة الغراء اللاصق المعروفة محلياً بـ”الشعلة”، بوضعها في أكياس أو علب بلاستيكية!. حتى باتوا أشبه ببائعة الكبريت وهي تشعل أعوادها راسمة بخيالها على الحائط صوراً للدفء والعائلة وأفراح العيد.

أحمد طفل في الثانية عشرة من العمر، فقد أهله في الحرب، ويعيش مشرداً في شوارع العاصمة دمشق، بلا سقف يؤويه، يقول إنه يمارس هذا السلوك يومياً مرتين تقريبا، ويشعر بالسعادة كأنه انتقل إلى عالم آخر، ويضيف أن استهلاكه لهذه المادة يزداد أيام البرد، فينسى تجمّد أطرافه لبعض الوقت.

لن تبحث عن بقية زملاء أحمد كثيراً، إنهم في وضح النهار يضعون أفواههم على الأكياس الحاوية على مادة “الشعلة”. إنها ليست لعبة أطفال، هي لعبة للموت، هم عنها غافلون.

ومادة الشعلة هذه تحتوي على مواد كيميائية طيارة تنتمي إلى مجموعة المذيبات العضوية، التي تسبب تأثيرات عصبية مباشرة، كالشعور بالفرح والنشوة واللامبالاة، وتستمر من نصف ساعة لساعة، تدفع الطفل، أو البالغ، إلى تكرار عملية الشم بعد زوال شعوره بالنشوة، ما يعني أن إدمان مادة الغراء هو إدمان نفسي أكثر مما هو كيماوي، كما أن استمرار الطفل بشم مادة الشعلة لفترات طويلة قد يسبب أضراراً في الجهاز التنفسي كون المادة تحوي مواد مخرشة قد تؤدي إلى تخرش الأغطية المخاطية في الرئتين وقصبات الصدر، إضافة إلى احتوائها على مواد تسبب سرطان الرئة في حال طالت مدة الإدمان.*

هذا النوع من الإدمان يسبب التشوش البصري وعدم الاتزان إضافة الى ثقل اللسان وبطء الحركة والرغبة والنشوة، وقد يؤدي التعاطي لفترة طويلة إلى ضمور المخ. **

كشفت وزارة الصحة التابعة للنظام في مطلع آذار عن ضبط حالات تعاطٍ للمخدرات في مدارس بريف دمشق وبعض الجامعات السورية، وكشفت رئيسة دائرة المخدرات بالوزارة، ماجدة الحمصي، عن وجود شائعات عن بدء انتشار ظاهرة شم مادة “الشعلة ” في المدارس.

وفي إطار تقاذف المسؤوليات، كشف مدير مركز فاقدي الرعاية التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، محمد عودة، عن معالجة المركز لـ57 حالة من الأطفال الذين كانوا يشمون الشعلة منذ بداية عام 2016 وحتى الآن منهم مايقارب 35 حالة مازالت بحالة استقرار، وبيّن عودة أن بعض هذه الحالات تمت إعادتها لأسرتها، في حين أن حالات أخرى لازالت في المركز مشيرا لتعرض 12 حالة لانتكاسات.

شمّ الأطفال لمادة الشعلة بات بديلاً عن تعاطي الحبوب والمهدئات العصبية، بسبب انخفاض سعرها وتوفرها في معظم المكتبات والمحلات. وإذا كان هناك ثمة صعوبات في وضع ضوابط لشراء مادة الشعلة وإدمانها، ماذا عن المستحضرات الدوائية المصنعة محلياً، مثل الكبتاغون والأوبرفال والبالتون، والتي يحصل عليها المدمنون بطرق خاصة دون وصفات طبية. فيما تشير التقارير إلى استخدام أساليب جديدة في نقل المخدرات لاسيما حبوب الكبتاغون والزولام، حيث تتم تخبئتها في حليب الأطفال، أو اخفاؤها داخل مشدات الظهر الطبية، أو القيام بخلطها بأعشاب ونقلها بين المحافظات.

أُعلن في شباط الماضي عن ضبط مجموعة تقوم ببيع الحبوب المخدرة داخل جامعة تشرين  في اللاذقية، وقبلها بيومين قالت وزارة الداخلية إنها ألقت القبض على شخصين بتهمة بيع وترويج المخدرات بين طلاب الجامعة، وفي وقت سابق ذكرت مواقع موالية تفاصيل إلقاء القبض على شبكة تعمل في ترويج الحبوب المخدرة في حدائق دمشق، بهدف استغلال الفتيات وتشغيلهن بالدعارة، كما أعلن قسم الآداب في فرع الأمن الجنائي بدمشق عن القبض على بائع قهوة وشاي في الحديقة الممتدة إلى جانب جسر الرئيس، يقوم بترويج المخدرات بين الأطفال والمشردين والفتيات، بغرض استدراجهم للعمل معه، ويقوم بخلط مشروباته بالمواد المخدرة.

وفي حمص، يتكرر الإعلان عن القبض على مروجي مخدرات، وعن حالات وفيات وقعت بين تلاميذ المدارس بسبب تناول جرعات زائدة من الحبوب المخدرة، إضافة إلى انتشار ظاهرة تعاطي الأدوية المسكنة مثل الستاكودائين وحبوب البلتان والترامدول، إذ تباع المواد المهدئة في الأكشاك أمام المدارس وعلى البسطات المنتشرة على الأرصفة، ويتم توزيع المخدرات وحبوب الهلوسة بمغلفات شبيهة بمغلفات علب الماجي المعروفة، إذ يطلب المتعاطون علبة ماجي.

في دمشق، الأكثر انتشاراً ومبيعاً بين الشباب وفي المدارس هي سيجارة الحشيش، والتي يصل سعرها حوالي 1000 ليرة، أي ما يعادل دولارين، وهي، كما يتم الترويج لها، من أجود أنواع الحشيشة البعلبكية، تتبعها حبوب الترامادول، حيث يصل سعر الحبة إلى 60  ليرة، يليه الكبتاغون وتصل العلبة إلى 3500 ليرة، أما مادة الهيروين فهي حكر على الأغنياء، يصل سعر الغرام إلى 20 ألف ليرة.

في آخر آذار الماضي، صرّح قاضي محكمة الجنايات بدمشق، ماجد الأيوبي لصحيفة الوطن السورية، أن نسبة دعاوى تعاطي وبيع المخدرات بلغت 60% من الدعاوي المنظورة أمام القضاء الإداري. وحسب إحصائيات صادرة عن وزارة الداخلية في حزيران 2018، تمت إحالة 3329 شخصاً إلى القضاء بتهم التعاطي والمتاجرة، في حين تم ضبط 679740 كغ من الحشيش المخدر، وأكثر من مليون و875 ألف حبة مخدر، و 21323 كغ من القنب الهندي، و18 كغ من مواد أولية لصناعة المخدرات.

ولا يقتصر الأمر على المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، فقد شهدت مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي، أثناء سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عليها، وعقب دخول فصائل الجيش الحر إليها في 2016، رواجاً لتجارة الحشيش والحبوب المخدرة، عبر تجارة عابرة للحواجز العسكرية المنتشرة على الأرض.

يقول القائد العام لـ”الشرطة الوطنية”، اللواء عبدالرزاق أصلان، أن قوات الشرطة في إعزاز وجدت بؤر توزيع مواد مخدرة، متهماً النظام وداعش وPkk، بالترويج لها. ومنذ مطلع 2017، حتى تشرين الثاني 2018، ازدادت ضبوطات التعاطي والاتجار بالمخدرات في ريف حلب. ونقلت وسائل إعلام تركية أنه تم ضبط سيارة إسعاف في ولاية كلس بداخلها 20كغ من الحشيش، قادمة من معبر cobanbey التركي المقابل لمعبر الراعي السوري.

في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، توسع تعاطي وتجارة الحشيش والمخدرات كظاهرة أساسية، خاصة في مدينة الرقة وريف دير الزور، وصولاً إلى مناطق سيطرة النظام في دير الزور. وتعتبر مدينتا منبج والحسكة المصدر الأساسي للحصول على الحبوب المخدرة؛ ففي تموز 2018، في ريف بلدة تل حميس، قبضت وحدات حماية الشعب “أسايش” على شخص بحوزته 300 حبة كبتاغون، وفي آب 2018، قبضت على تاجري حشيش في رأس العين.

هكذا تحاول قوى الأمر الواقع، المسيطرة في مختلف المناطق السورية، إلقاء تهم الترويج للمواد المخدرة على الأطراف الأخرى، في مشهد يبدو فيه أن معظم المليشيات العاملة على الأرض متورطة في هذه التجارة، في شبكة عابرة للحواجز التي تقيمها في حدود سيطرتها. ليقف المواطن السوري حائرا وخائفا من ظاهرة باتت أشبه بوباءٍ لا يعلم متى يقتحم بيته. وربما نصل لمرحلة تلك الأم في كبح غضبها، حين قالت لي، في محاولة لتقبّل تعاطي ابنها ذي الثلاثة عشر ربيعاً للتدخين: “الحمد لله ابني بيدخن ما بيحشش”.

المصادر

* حسب ماشرحه طبيب الأطفال كريم مأمون في لقاء مع جريدة عنب

** حسب ما أكدت كنانة الدبس المسؤولة عن محور الإدمان والتوعية في مشروع سيار الذي يعنى بالأطفال المشردين والمتسولين.

A New Ramadan, or New Values

A New Ramadan, or New Values

Ahmed (a false name) throws his load of tissue paper bags on the sidewalk, and disappears between two vehicles to get into his car, fleeing from the eyes of passersby and his manager at “Ramadan World” because if you smoke openly then some shoppers will stop buying from you, using your cigarette habit as an excuse, according to the store’s owner.

Ahmed’s partner comes close and says: “There’s no need to hide. I saw a woman drinking water openly and another woman eating candies, and another man smoking as well!”

There appears to have been a clear change in the daily behaviors of residents in Damascus with regards to fasting during Ramadan, which is not limited to the fast-breakers themselves—even most stores selling readymade food and juices have not closed their doors during the fasting month.

Unlike Ahmed, Umm Manar has three children who show their fast-breaking openly, but based on her beliefs, insists on paying for their iftars during the fasting month. In the past to expiate their fast breaking, Umm Manar has donating money to poor families through charities or a sheikh.

The legal authority in the Ministry of Religious Endowments sets this fee annually and this year it is between 800 and 1,000 Syrian pounds, which is the price of a meal for a hungry person. Therefore Umm Manar has decided this year to join with her friend in paying for a wheelchair for an amputee child who was a victim of the war—and directly, without an intermediary. Umm Manar’s decision reflects a change which blends humanitarianism with belief and interacts with the new, more urgent needs of wartime.

Her children are not in a unique situation in Damascus. Most employees in official and private departments continue to eat daily in the workplace. Samia says that her colleagues at work do not fast, but that she takes into account the feelings of those fasting by not preparing coffee at work, especially given that it has a strong and appetizing smell. Samia adds that, “the other colleagues don’t eat cucumbers, eggs or falafel in their morning meals during Ramadan because of their strong aroma.” Taking these feelings into account does not really go beyond the act of not eating foods that have strong smells that awakens the hunger of fasters.

With regards to this subject, Article 517 of the Penal Code sets a penalty for all those who openly break the fast in Ramadan at detention of a full month. The provision does explicitly mention displaying fast-breaking or not fasting, but rather not taking into account public morals in Ramadan. This article is essentially defunct now, and no ruling has been issued in accordance with it over the last eight years.

In the absence of any explicit legal items punishing the act of breaking the fast or displaying it, the real social provisions in circulation are more influential.

The change also appears in a new terrifying image that has entered the lives of Syrians. On a women’s group on WhatsApp—the most common form of communication in Syria—Roweida offers her blessings when Ramadan arrives, but her stereotypical blessing, which does not exceed basic social protocol, is met with violent reactions from some members of the group. One of them says: “Ramadan and fasting and hunger are devouring the bodies of Syrians!” Another connects the fasting blessing with celebrating the values of the Islamic State.

In light of the major deterioration in Syrians’ economic situations, a number of new initiatives have been launched in Ramadan, put forward on walls of the streets and on public centers, such as a call to forgive renters their rent during Ramadan, and insistence and repetition on Syrians abroad to send money to families in need during this month to fill the major gap between Syrians’ weak purchasing power and the volume of basic living need—especially medicine, housing and food.

Older phenomenon that are no longer acceptable include some women only wearing jalabiyehs and hijab during Ramadan, as this behavior has become seen as social hypocrisy, even if temporary. It reflects the deep fragility reflecting on a greater mercy inside, and giving more balanced deeds that allow refugees the internal satisfaction and peace they need.

If Ramadan has a special and popular definition, it comes from the rich and varied meals, which were promoted in the media for direct economic gains. However this has changed completely. The negative economic situation that Syrians are enduring and the decline of purchasing power is just one of the reasons. In addition to that is the changing view of basic priorities and the usefulness of drowning in life’s material, physical and morally exhausting details.

Now Ramadan tables have become limited to just one type of food, in addition to plates of salad or soup or another of foul or fatteh, with excessive diversity becoming undesirable.

Even the many invitations for collective iftar meals, which family members had been used to exchanging, have become hated, and are often limited to just one invitation to meet family obligations and confirming a state of disintegration of family traditions that has become acceptable.

While every month includes deepening changes in the lives of Syrians because of the war and its consequences and costs, Ramadan firmly establishes that in terms of the changes in community functions and in the functions of individuals. It seems that they are now defined by less narrow identities, and have become less compulsory, lowering the restriction on individuals in an expanding, albeit still narrow, way.

*This article was translated, edited, and posted by The Syrian Observer. The original version was published  in Arabic at Salon Syria here

خريجو جامعات باريس الاقتصادية يفشلون في امتحان سعر صرف الدولار

خريجو جامعات باريس الاقتصادية يفشلون في امتحان سعر صرف الدولار

لم تكن غالبية السوريين من ذوي الطبقة الوسطى والفقيرة مهتمة بالقطع الأجنبي قبل عام ٢٠١١، إذ كان الاهتمام بالعملات الأجنبية وخاصة الدولار، مقتصراً على الطبقة الغنية من رجال الأعمال وكبار التجار، إضافة للمسؤولين من أصحاب النفوذ والاستثمارات الضخمة، لكن اندلاع الاحتجاجات في بلد لم يمض على انفتاحه الاقتصادي عشر سنوات، أحدث تغيراً في مسار تفكير السوريين تجاه النقد الأجنبي، وأصبح الدولار قاسماً مشتركاً وحّد مصير السوريين ممن تعددت مواقفهم تجاه الاحتجاجات والصراع.

عشية الاحتجاجات بتاريخ ١٥ آذار/مارس عام ٢٠١١ كان سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار يقارب الـ ٥٠، وهو الرقم الذي حافظت عليه الليرة منذ عام 1990 ولغاية عام 2010.

عشرون عاماً من ثبات سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، تلاشوا خلال عام واحد من بدء الاحتجاجات، حيث سجل تدهورها رقماً قياسياً فسعر صرف الدولار في آذار/مارس عام 2012 بلغ مايقارب الـ 100 ليرة سورية، وبهذا خسر السوريون نصف مدخراتهم و ثرواتهم بعام واحد، إثر  فقدان الليرة لنصف قيمتها فيه.

حكاية الدولار مع السوريين

هكذا بدأت حكاية السوريين وأصبح الدولار حديث الشارع، متحولاً لعامل أساسي من عوامل منغصات عيشهم والمتحكم بأسلوب حياتهم، ولم يعد مستغرباً أن يحسب صاحب بقالية صغيرة في قرية متطرفة سعر باقة البقدونس بحسب تصريف الدولار.

وبينما كانت تحولات الدولار نقمة على السوريين، انتعشت بفضل تقلباته جيوب التجار والمستثمرين ورجال الأعمال وأمراء الحرب، ففي عام ٢٠١٦ بلغ سعر صرف الدولار حوالى 600 ليرة، ليتفاوت السعر خلال الأعوام الفائتة بين 400 ليرة عام 2014 و550 ليرة عام 2017.

مع بداية عام 2018 بدأت مشاهد الصراع العسكري تنحسر في العديد من المناطق السورية، وبدأت الحكومة بإطلاق الوعود والشعارات الاقتصادية البراقة، معلنة بدء تعافي الاقتصاد السوري، لكن تلك الوعود والشعارات لم تلبث أن تبخرت، بسبب وجود حلقة معيبة بالاقتصاد السوري تتعلق بسعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية وتحديداً “الدولار”، والذي بين عجز الفريق الاقتصادي عن ضبط سعر الصرف الذي يعتبر بوصلة الحركة التجارية في الأسواق السورية، وذلك نتيجة ارتفاعه الأخير في السوق السورية إلى 500 ليرة مقابل الدولار بعد أن استقر سعره لمدة قاربت العام تقريبا عند سعر الـ435 ليرة.

وبحسب البنك السوري فقد بلغ سعر الدولار مقابل الليرة بتاريخ 26/11/2017، 494 لينخفض باليوم التالي إلى حدود 435 ليرة، ولتاريخ اليوم لم يغير البنك المركزي السوري نشرة أسعار الصرف، رغم وصول الدولار لأسعار قياسية عند حدود الـ500 ليرة، التبرير الرسمي كان أن استقرار السعر جاء نتيجة التعافي الاقتصادي، لكن كيف يحدث هذا بفترة قصيرة نسبياً في بلد أنهكته الحرب وأضحى بلا اقتصاد ودون موارد بشكل شبه كامل، ودون أن تشهد الأسواق السورية حركة تجارية وصناعية على مستوى واسع.

كذلك لم يسهم افتتاح معبر نصيب الحدودي بتحسين واقع سعر الصرف، بل على العكس زاد الطلب على الدولار الذي يقوم بتأمينه البنك المركزي عبر شركات التحويل المالية، وبهذا كشف الارتفاع الأخير لسعر صرف الدولار في السوق السورية أن الاستقرار الذي دام لمدة عام كان مصطنعاً وغير حقيقي، ومن أهم الأدلة التي تكشف زيف ذلك الاستقرار استمرار ارتفاع أسعار السلع الغذائية والأدوات الالكترونية والكهربائية، والتي تجاوزت أسعارها الحد الذي سجلته حين كان سعر صرف الدولار يعادل 600 ليرة عام 2016 فمثلاً، بلغ سعر كيلو غرام الشاي عام 2016 مايقارب 2300 ليرة في حين سجل سعره عام 2018 3300 ليرة.

التفسير الوحيد لذلك “الاستقرار” هو أن ما حصل كان مجرد عملية مضاربة، لعبت الحكومة الطرف الأساسي فيها، وذلك لدفع المواطنين لبيع مدخراتهم بالقطع الأجنبي واستبدالها بالعملة المحلية، إضافة لاستغلال هذا الانخفاض غير المنطقي في الخطاب السياسي، واعتباره منجزاً من منجزات الحرب في سوريا.  

ولم تكن تقلبات أسعار الصرف مسؤولية الصراع العسكري الذي تعيشه سوريا والعقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها فقط، وإنما تأثرت بشكل واضح بالحلول الارتجالية التي اتبعها مصرف سوريا المركزي خلال سنوات الأزمة، فمنذ اليوم الأول لانخفاض سعر الليرة السورية مقابل الدولار انتهج البنك المركزي سياسة نقدية تقليدية، من ضمنها إجبار شركات الصرافة على  تسليم الحوالات الواردة للمواطن السوري بالليرة السورية، كذلك اعتمد البنك المركزي سياسة التدخل، والتي تهدف لضخ كمية من القطع الأجنبي عبر شركات الصرافة.

وابتدع المركزي السوري نظاماً نقدياً فريداً من نوعه حيث بدأ بطرح عدة نشرات لأسعار صرف القطع الأجنبي وهي: نشرة أسعار خاصة بالحوالات، ونشرة خاصة لتمويل المستوردات، ونشرة خاصة بالمصارف، ونشرة خاصة بشركات الصرافة ونشرة لأسعار تذاكر الطيران، ونشرة أسعار تفضيلية، يضاف إليها نشرة البنك المركزي لأسعار الصرف المحلية.

هذه الآلية فتحت الأبواب على مصراعيها لتنشيط السوق غير النظامية، “السوق السوداء”، والتي كانت ومازالت أسعارها أقرب للسعر الحقيقي للدولار الذي وصفه جميع من أداروا سدة الحكم في البنك المركزي السوري بأنه “سعر وهمي وغير حقيقي” من  د.أديب ميالة و د.دريد ضرغام و د.حازم قرفول”، لكن ذلك الأمر لم ينطل على صاغة الذهب، الذين أكدوا طوال سنوات الحرب أنهم يسعرون الذهب وفق سعر صرف الدولار القريب من سعر السوق السوداء وبعلم البنك المركزي، وهذا السعر يعتمده غالبية التجار في صفقاتهم ويعرف تجاريا بدولار الذهب.  

المركزي ودوره في تقلبات أسعار الصرف

تعتبر استقلالية البنك المركزي في أنحاء العالم من أهم المزايا التي تضمن له صحة عمله كمتحكم بالسياسة النقدية، خاصة وأن السياسة النقدية تختلف عن السياسة المالية، لكن يبدو أن الأمر في سوريا مختلف عن هذا المفهوم، إذ كان من الواضح تدخل جهات غير اقتصادية في تخفيض سعر صرف الدولار في أوقات معينة، ومن ثم إعادة رفع سعر الصرف لعدة أسباب منها تبرير أي قرار اقتصادي لرفع أسعار السلع الأساسية والمشتقات النفطية، كما ساهم رفع سعر صرف الدولار في تمويل كتلة رواتب الموظفين، أما المكسب الثالث فكان يصب بمصلحة المصارف الخاصة التي جنت أرباحها نتيجة فروقات السعر بين الليرة والدولار، وكان من عوامل استمرارها في سوريا خلال الحرب.

ومن قرارات البنك المركزي التي ساهمت في انفجار أزمة سعر الصرف قرار السماح بمنح المواطن السوري ١٠ آلاف دولار شهرياً أو ما يعادله من العملات العربية والأجنبية الأخرى شهرياً للأغراض غير تجارية، وقد تسبب هذا القرار -قبل أن يتم الغاؤه- باستنزاف القطع الأجنبي في سوريا، حيث أعاد البنك المركزي ملاحقته للأشخاص الذين تجاوزت نسبة شرائهم للدولار الحد المسموح ، وهذا خطأ يقع على عاتق البنك المركزي الذي لم يضع سياسة مصرفية دقيقة تتابع مسار عملية البيع، التي اعتبرها البعض مكسباً للعيش.

إذ كان بعض التجار يستأجرون الأفراد العاديين لشراء حصتهم من القطع الأجنبي مقابل 200 دولار في ذلك الوقت، مما تسبب بإحداث فوضى واستنزاف للقطع الأجنبي، بعدها تم إلغاء هذا القرار، ومطالبة من تجاوز الحد المسموح بشراء الدولار بالإرجاع تحت طائلة المسؤولية القانونية، وهو ما أدى إلى رفع سعر القطع تدريجياً عن طريق شركات الصرافة والمصارف ،إضافة لقرار السماح للمصارف الخاصة ببيع وشراء القطع خارج نشرة أسعار المركزي.  

جميع تلك القرارات التي ترافقت مع قرارات اقتصادية منها ترشيد الاستيراد، وإيقاف تمويل المستوردات، دفعت بالتجار للبحث عن أقنية غير نظامية لتأمين احتياجاتهم من القطع الأجنبي، وبهذا زاد الطلب على الدولار مما ساهم أيضاً برفع سعر صرفه مقابل الليرة السورية التي فشل حكام البنك المركزي في إعادة الثقة إليها كوسيلة نقدية حافظة للقيمة وقابلة للتبادل التجاري.

تغيير الحكام لم يؤثر بالدولار

خلال سنوات الصراع تعاقب على رئاسة البنك المركزي السوري ثلاثة حكام، أولهم أديب ميالة والذي يحمل الجنسية الفرنسية، الحاصل على دكتوراه بالاقتصاد من فرنسا، حيث شغل منصب حاكم بنك سوريا المركزي منذ عام 2005 ولغاية عام 2016، و تعرض مياله لانتقادات شديدة بسبب سياسته النقدية غير الناجعة، والتي اشتهرت بما يعرف “بجلسات التدخل”، التي قيل عنها بشكل ساخر بأنها “جلسات تدخل لتحسين سعر الدولار مقابل الليرة السورية وليس العكس”.

في عام 2016 استلم البنك المركزي د. دريد درغام، وهو أيضاً حاصل على دكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة باريس، وكان قد عمل سابقا مديراً عاماً لمصرف سوريا التجاري قبل أن تتم إقالته نتيجة قضايا فساد تتعلق بمنح قروض بمبالغ طائلة، وخضع لقرار من وزير المالية بالحجز على أمواله المنقولة وغير المنقولة في عام 2011 ليعود إلى الواجهة عام 2016 ويشغل منصب أهم مركز اقتصادي خلفاً لميالة لغاية شهر أيلول 2018، وعرف بتصريحه الشهير الذي أعلن فيه قدرته على تخفيض سعر الدولار إلى 200 ليرة، لكنه لا يريد ذلك، إضافة لقراره الأخير الذي طالب من خلاله التجار مراجعة البنك المركزي لإثبات بيانات ما اشتروه من قطع أجنبي عام 2012 تبين أين تم إنفاقها، واستقر سعر صرف الدولار خلال ولايته عند حدود 430 ليرة وفق السعر النظامي للبنك و 450 ليرة في السوق السوداء، لتنتقل الخلافة بعد ذلك لنائبه الأول الدكتور حازم قرفول الذي تولى القيادة بتاريخ 24 أيلول العام الحالي وهو أيضاَ حاصل على دكتوراه من جامعة بوردو في فرنسا، وكان قد عمل نائباً لحاكم البنك المركزي منذ عام 2014، وتعليقاً على ارتفاع سعر صرف الدولار الذي وصل إلى حدود 503 ليرات في الأسواق، اعتبر قرفول الارتفاع وهمياً وغير حقيقي وكل من اشترى دولاراً بذلك السعر معرضاً للخسارة.

يبدو أن خريجي جامعات فرنسا الاقتصادية الثلاثة لم يمتلكوا الخبرة الاقتصادية الكافية لمواجهة قوة الدولار الأمريكي أمام الليرة السورية التي تآكلت قدرتها الشرائية بنسبة 90%، وبهذا فقدت الليرة الخصائص الأساسية التي تتمتع بها جميع عملات العالم في  أن تكون قابلة للتداول بين الأفراد مقابل الحصول على أية سلعة أو خدمة، حيث استبدل العديد من التجارة الليرة بالدولار في صفقتهم. الميزة الثانية تتضمن سهولة نقلها إذ يقضي حسن سير المبادلات أن تكون الأداة المستخدمة كوسيط في المبادلات سهلة الحمل وهو ما يساعد على سهولة نقلها من مكان إلى آخر، كذلك سهولة تخزينها، وهذه الخاصية فقدتها الليرة نتيجة العقوبات الاقتصادية التي فرضت على القطاع المصرفي وأصبح من غير الممكن تداولها عبر الأقنية المصرفية.

أما الميزة الأهم فهي قابلية الدوام وحفظ للقيمة بمعنى أبسط أن تتحمل كثرة تداولها من يد إلى أخرى، وهذا فقدته الليرة السورية خاصة الفئات الورقية الصغيرة “50- 100-200ليرة” حيث أصبحت تالفة بشكل كبير وإعادة طباعتها يكلف الحكومة مبالغ كبيرة، أما المقصود بأن تكون حافظة للقيمة فهي أن تثبت قيمتها كوسيلة إدخار، وعليه ينبغي أن تكون قيمة النقود بعيدة عن تعرضها للتدهور الشديد أو فقدان القيمة مع مرور الوقت، وهذا ما حدث لليرة السورية.

وإذا كان حكام مصرف سوريا المركزي (خريجو باريس) قد عجزوا عن تحسين مرآة الوضع الاقتصادي “العملة الوطنية” فهل لدى الحكومة السورية مرآة غير الليرة قادرة على أن تعكس حقيقة المستقبل الاقتصادي الذي ينتظره السوريون؟!.

إكرام المعارضة دفنها

إكرام المعارضة دفنها

لم يكن الانفجار الشعبي عام 2011 في سوريا بعيداً عن تنبؤات المعارضة الرسمية ومثقفيها حينها، وإن كان الحراك الشعبي قد دفع برموزها إلى المشهد السياسي من جديد؛ لكنه سرعان ما تجاوزهم وابتعدوا عن المشهد، إما نتيجة بروز صراع بعضهم مع النظام على السلطة لا على تحقيق مطالب الشارع فسارعوا في تشكيل مجالسهم لتكون بديلة عن السلطة الحاكمة، أو نتيجة تأني البعض في مقارعة النظام والدعوة نحو الحوار، وهو ما رآه الشارع موقفاً متأخراً عنه.

في المقابل رفع النظام ومنذ اليوم الأول شعار محاربة الإرهابيين ومثيري الفتنة وعملاء الخارج، ليُشيطن بذلك جزءاً كبيراً من المعارضة والشارع المنتفض، ويُبعد عن المشهد من يدعو للحوار، بحجة وجود إرهاب يتربص بالبلاد ويحتاج إلى التكاتف لمواجهته، وبذلك يسهل على السلطة إغفال أي ملفات مطلبية أخرى.

أي أن تاريخ خروج المطالب إلى الشارع قبل ثماني سنوات هو نفسه تاريخ إهمالها وتنحيتها من قبل النظام، والالتفات إلى محاربة المنادين بها بقمعهم أو جرهم إلى ضفة الإرهاب والتكفير لشرعنة محاربتهم، والتهديد باحتساب أي مُطالِب للتغيير على الضفة المترصِّدة للدولة وأمن الوطن، أي “الخيانة العظمى”.

بات ذلك الخطاب هو الخطاب السائد طيلة السنوات الماضية، وكلَّف السوريين الكثير من العناء والدمار دون القدرة على التحكم في إيقافه، ليتفرقوا لاحقاً بين تجنب الصدام المباشر في الداخل أو الابتعاد عنه كلياً إلى الخارج.

وبدل أن تسعى فرق المعارضة للخروج من ذلك المأزق كانت وكأنها ترمي بنفسها فيه، فتتبنى تفجيرات ليست من صنعها أحياناً كتفجير خلية الأزمة مثلاً، وتتبنى سياسياً جبهة النصرة وغيرها من الفصائل الإسلامية المتشددة وتمدح انتصاراتها وترفض التبرؤ منها كما جاء على لسان رئيس الائتلاف معاذ الخطيب حين شدد على تبني جبهة النصرة كجزء من المعارضة عام 2012، كذلك مجَّدت المعارضة احتلال داعش أو جبهة النصرة للمدن السورية على اعتبار أن لا شر فوق النظام ووقف مع جبهة النصرة الكثير من ممثلي المعارضة، وهاجم الكثيرون منهم لاحقاً من يقوم بمجرد تشجيع فريق كرة القدم السوري، لتظهر المعارضة بذلك وكأنها تعادي الشعب وتقطع معه، وتساعد السلطة في ترسيخ شيطنة صورتها أمام الداخل والخارج على السواء.

وفوق ذلك كان واضحاً تشتت فرق المعارضة الرسمية ورموزها وتبعيتها، وارتباطها بسياسات الدول المحركة لها والتزامها بتوجيهاتها بدل التزامها بتوجُّهات الشارع السوري، بل سارت نحو الانخراط في صراعات فيما بين فرقها أحياناً تماشياً مع صراعات الممولين والمتحكمين فيما بينهم، فشاهدنا صراعاتٍ بين من تدعمهم قطر وبين من تدعمهم السعودية، ليفقدوا بذلك أية استقلالية في قرارهم، في الوقت الذي خرج فيه السوريون إلى الشارع لامتلاك قرارهم، بالإضافة إلى وضع حدٍ للفساد الذي ينخر بلادهم وينهب ثرواتها، وكذلك وضع حدٍ للمنظومة الأمنية التي تقمع حريتهم.

وعليه بات من الضروري تجاوز تلك الثنائية التي تحيل كل مطالبة بأي حق من الحقوق إلى الهجمة الإرهابية المتربصة بالبلاد، وتشيطن أي مطلب باعتباره يهدد تماسك البلاد في معركتها.

تلك الثنائية استغلها النظام أيضاً في تعليق كل فشل لديه على المعارضة، فيغدو قطع الكهرباء مبرراً بهجمات المعارضة المسلحة لخطوط الكهرباء، وندرة المحروقات والمواد الغذائية مبررة بحجة وجود المعارك وقطع الطرق، ليصبح التقصير الحكومي مستوراً بغطاء المعارك والإرهابيين.

وعليه فإن انحسار المعارك مؤخراً، أعاد كشف التقصير الحكومي وتردي مؤسسات الدولة، لتعود معه الإشارة إلى مكامن الفساد ومصادر فشل إدارة الدولة، أي لتعود الكرة إلى ملعب السلطة الحاكمة، والتي وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام فشلها وأمام عدم قدرتها على تبرير نهبها لثروات البلاد من جديد.

بقاء النظام وحيداً في ساحة المعركة بمواجهة لقمة عيش المواطنين أدى إلى ارتفاع الصوت المطلبي مجدداً، وهو ما طرحنا السعي باتجاهه سابقاً لسحب الحجج منه. لكن المعارضة الرسمية لا زالت إلى يومنا هذا على خطابها ذاته، بل وتنظر بعين متعالية إلى مطالب الناس، وبنظرة المتشفية بوضعهم، بدل العمل على إعادة تقييم أدائها.

بالتالي فإن المعارضة لا تنفك تقدم نفسها للنظام كحجة لا زالت سارية المفعول، وبدوره يتمسك بوجودها لكبت الخروج العفوي لمطالبة الناس بالتغيير، مثلما تتمسك النفس بالمظلومية لمقاومة مواجهة الواقع وتغييره في التحليل النفسي.

وإن كان الحراك الشعبي قد كشف الكثير من قمع النظام وفساده، ونفا عنه صواب الخطاب والإدارة وشرعية الحكم والقرار السيادي الوطني، فقد بات من الضروري نفي المعارضة التي أفرزها الحراك لما تخلله عملها من تبعية قرارها أيضاً وغياب الخطاب الاقتصادي الاجتماعي المحاكي لواقع الشعب السوري. ولما غيبته من وضوح التناقض الرئيسي بين السلطة والشعب، وجرِّه نحو تناقضٍ ثانويٍّ بين النظام ومعارضيه الإرهابيين الذين لم تقدم المعارضة نفسها منفصلةً عنهم ولا منفصلة عن برامج النظام الاقتصادية والاجتماعية. أي أن تراجع المعارضة عن المشهد سيعيد التناقض إلى موقعه ووضوحه وهو ما بدأ يظهر جلياً في عودة أصوات الناس.

بذلك أصبحت المعارضة الرسمية من وجهة نظر النظام وكأنها قضية خارجية تحيق بالبلاد مما يستدعي النظام والشعب إلى التماسك والتكاتف بوجهها، وعليه ومع عدم قدرتها على تقديم أية نتيجة إيجابية للشعب السوري خلال ثماني سنوات، وكذلك عدم تجديدها لخطابها، بات من الضروري ترك الصوت المطلبي يعود إلى الساحة وتنحية عقبة المعارضة لما تشكله من عثرة أمام صوت الشارع. فالصوت المطلبي اليوم أقدر على صياغة خطابه السياسي، وأجدر بنقل مطالب التغيير بوضوح وبعيداً عن خطر الانحراف لما تشكله من واقعٍ يرضخ تحت نيره كافة السوريين في الداخل، وبابتعادها عن التبعية وإعادتها لوضوح الانقسام الأفقي بين الشعب والسلطة، ذلك الانقسام الذي غاب طويلاً عن الساحة السياسية ولن ينتهي قبل دفن المعارضة، ولا يعني ذلك دعوة للعفوية من جديد بل دعوة لاستعادة منبر المطالبة من جديد لأصحابه ولجذريته.

A New Ramadan, or New Values

رمضان جديد أم قيم جديدة

يلقي أحمد (اسم مستعار) بحمولته من أكياس المحارم الورقية على الرصيف، ويختبئ بين سيارتين ليدخن سيجارته، هرباً من أعين المارة ومديره، فـ”الدنيا رمضان ، وإذا دخّنت علناً قد يتراجع بعض المتسوقين عن الشراء منك تحت ذريعة تدخينك” بحسب قول صاحب المحل.

يقترب شريك أحمد منه ويقول له: “لا داعي للاختباء، لقد رأيت فتاة تشرب الماء علناً، وسيدة تضع حبة سكاكر في فمها، ورجل غيرك يدخن أيضا!”.

ويظهر تبدل جلي في السلوك اليومي للمقيمين في دمشق تجاه الصيام في شهر رمضان، لا يقتصر على إشهار المفطرين لأنفسهم فقط، فحتى غالبية محال بيع الطعام الجاهز والعصائر لم تغلق أبوابها في شهر الصيام.

على عكس أحمد، لدى أم منار ثلاثة أبناء يشهرون إفطارهم علناً، لكنها ومن منطلقها الإيماني، تصر على دفع دية إفطارهم طيلة شهر الصوم، في السابق كانت أم منار تدفع كفّارة إفطارهم نقداً للعائلات الفقيرة عبر الجمعيات الخيرية أو أحد الشيوخ.

ويحدد المرجع الشرعي في وزارة الأوقاف هذا البدل سنوياً، وهذا العام قدّره بمبلغ مقداره ما بين ثمانمائة وألف ليرة، وهو قيمة وجبة لجائع على من أفطر دفعها. لذلك قررت أم منار هذا العام بمشاركة صديقتها لشراء كرسي متحرك لطفل فقد ساقه في الحرب، وبصورة مباشرة دون اللجوء إلى أية وساطة. ويعكس قرار أم منار هذا التغيير الذي يختلط فيه الإنساني مع الإيماني والتفاعل مع الحاجات الجديدة الأكثر إلحاحاً في زمن الأزمات.

وليس أولاد منار حالة فريدة في دمشق، فأغلب الموظفين في الدوائر الرسمية والخاصة يواظبون على تناول إفطارهم اليومي في أماكن العمل. تقول سامية إن زميلتها في العمل لا تصوم، لكنها تراعي مشاعر الصائمين بالتوقف عن إعداد القهوة في مكان العمل وخاصة لما لها من رائحة نفاذة تبعث الشهوة القوية لها، وتضيف سامية “حتى أن بقية الزملاء لا يأكلون الخيار أو البيض أو الفلافل في وجباتهم الصباحية خلال شهر رمضان، لرائحتهم الشهيّة والقويّة أيضاً”، أي أن المراعاة لا تتجاوز فعل التوقف عن أكل ما تطغى رائحته لتجنّب إيقاظ جوع أو شهوة الصائمين.

وحول هذا الموضوع، ينص القانون السوري في المادة 517 من قانون العقوبات، على معاقبة كل من يشهر إفطاره علنا في شهر رمضان بالحبس لمدة شهر كامل! مع الإشارة إلى أن نص الحكم لا يتضمن عبارة إشهار الإفطار أو عدم الصيام، وإنما التعرض للآداب العامة وعدم مراعاتها في شهر رمضان، وهي مادة شبه معطلة حاليا، ولم يصدر أي حكم بموجبها طيلة فترة السنوات الثماني الماضية.

وفي حال غياب أية مواد قانونية صريحة وواضحة تعاقب على فعل الإفطار أو إعلانه، فإن الأحكام الحقيقية المجتمعية المتداولة هي الأكثر تأثيرا.

التبدل أيضاً يبدو في صورة جديدة مرعبة دخلت حياة السوريين، فعلى إحدى مجموعات “الواتس آب” النسوية، وهو وسيلة التواصل الأكثر رواجا في سورية، تبارك رويدة بقدوم رمضان، لكن مباركتها النمطية التي لا تتجاوز كونها بروتوكولاً اجتماعياً، تصطدم بردود عنيفة من قبل بعض عضوات المجموعة، إذ تقول إحداهن “رمضان وصيام والجوع ينهش في جسد السوريين!”، فيما تنهرها أخرى وتربط بين المباركة بالصوم والاحتفاء بقيم داعش!

من جهة ثانية، وفي ظل التردي الكبير لأحوال السوريين الاقتصادية، انطلقت في رمضان عدّة مبادرات جديدة في طرحها، بدت على جدران الشوارع ومراكز التجمعات العامة، كالدعوة إلى إعفاء المستأجرين من إيجار بيوتهم في شهر رمضان، والإصرار والتكرار على السوريين في الخارج لإرسال ما تيسر للأسر المحتاجة في هذا الشهر لردم الفجوة الكبيرة بين القدرة الشرائية الضعيفة عند السوريين وبين حقيقة وحجم المتطلبات الأساسية للعيش، وخاصة الدواء والسكن والطعام.

ومن الظواهر القديمة التي لم تعد مقبولة، هي ارتداء بعض السيدات للحجاب أو الجلباب في شهر رمضان حصرياً، إذ بات يشار لهذا التصرف على أنه نفاق اجتماعي، وإن كان مؤقتا، لكنه يعكس هشاشة عميقة تتأمل في دواخلها رحمة أكبر، وسلم حسنات أكثر توازنا يمنح اللاجئات إليه سلاما داخليا ورضاً يحتجنه.

وإن كان لرمضان تعريف خاص ورائج، فهو ما يأتي به من وجبات الطعام الغنية والمنوعة، حيث تجهد الوسائل الإعلانية لترويجها رغبة في مكاسب اقتصادية مباشرة. لكن هذا تغيّر كلياً،  الحالة الاقتصادية السيئة التي يعيشها السوريون وانخفاض القوة الشرائية هي أحد الأسباب فقط، يُضاف إليها تغيير النظرة نحو الأولويات الأساسية، وحول جدوى نمط العيش الغارق في تفاصيل مرهقة ماديا وجسديا ومعنويا .

إذ باتت موائد الإفطار تقتصر على نوع واحد من الطبخ، إضافة لصحن من السلطة أو الحساء وآخر من الفول أو الفتة، فيما بات التنوع المبالغ به إسرافاً غير مرغوب به.

وحتى الدعوات العديدة التي اعتاد أفراد العائلة على تبادلها على موائد الإفطار الجماعية، باتت أمراً مكروهاً، وغالبا ما يتم اختصارها بدعوة واحدة، تلبية للشرط العائلي وتثبيتا لحالة انفكاك باتت مقبولة عن التقاليد العائلية.

وكما تحمل كل الشهور تبدلات تتعمق في حياة السوريين بفعل الحرب وشروخها العميقة وتكلفتها الباهظة، يأتي شهر رمضان ليثبَت هذا، من التغيّر في الوظيفة المجتمعية، أو في وظائف الأفراد، حيث يبدو أنها تتعرّف من جديد وفق هويات أقل ضيقا أو تشنجاً، لتصبح ظائف أقل إلزامية، تخفف الخناق المقيّد على الأفراد وإن بفسحة ضيقة، لكنها تتسع.

مركز لتعليم الأطفال الصم والبكم بريف حلب

مركز لتعليم الأطفال الصم والبكم بريف حلب

تسببت الحرب السورية وعمليات القصف بمختلف أنواع الأسلحة بوقوع عدد من آلاف المصابين بإعاقات مختلفة. يعيش هؤلاء المصابين ظروفاً قاسية، ويعانون من التهميش إضافة لغياب الرعاية الطبية والنفسية والتعليمية، في وقت هم بأمس الحاجة لمن يهتم بهم ويساعدهم في التخفيف من أثقال الإعاقة التي تحد قدراتهم، مما دفع مجموعة من المتطوعين إلى افتتاح مركز للأطفال الصم والبكم في مدينة أورم الكبرى بريف حلب الغربي.

ويهدف هذا المركز لتعليم الأطفال لغة الإشارة والنطق التحضيري، ومبادئ القراءة والكتابة، إضافة لدعمهم نفسياً من خلال الحفلات الترفيهية والنشاطات التفاعلية.
يشرح محمود شامي مدير مركز ذوي الإعاقة في أورم الكبرى عمل المركز قائلاً: “لم تمنعنا الحرب والظروف الأمنية المعقدة من إنشاء مركز متخصص بذوي الإعاقة دون أي دعم حقيقي توفره منظمات محلية أو دولية، حيث بلغ عدد المستفيدين الكلي داخل المركز حوالي ٢٠٠ مستفيد من مختلف الإعاقات، منها الحركية ومتلازمة داون والبتر وغيرها.”

ويقدم المركز الترفيه والدعم النفسي للبعض، فيما يقدم العلاج والتعليم للبعض الآخر بحسب تنوع الحالات الموجودة فيه. 
وعن افتتاح مركز الصم والبكم يضيف الشامي: “بعد حالات النزوح المتكررة إلى بلدة أورم الكبرى وما حولها لاحظنا وجود عدد لا بأس به من حالات الصم والبكم في ظل عدم وجود مركز يهتم بهم وبحالاتهم، لذلك قمنا في نهاية عام ٢٠١٨ بافتتاح قسم خاص بهم يستقبل الأطفال من عمر ٦-١٢عاماً. ويهدف المركز لتعليمهم لغة التواصل مع الآخرين لتطوير العلاقات الاجتماعية والمعرفية فيما بينهم، ومساعدتهم في التعبير عن حاجاتهم المختلفة”.

ويساعد المركز بالحد من الضغوط الداخلية والنفسية التي تصيب الأطفال الذين يعانون من صعوبة الكلام والسمع، والتخفيف من إمكانية إصابتهم بالخوف والاكتئاب والإحباط.
ووصل عدد الأطفال في المركز إلى ٢٥ طفلاً، ولايزال باب التسجيل مفتوحاً فيه، كما يحتاج المركز لتطوع معلم ومعلمة لتدريس الأطفال.

المعلمة فاطمة التي تطوعت لتعليم الأطفال في المركز تقول: “يحتاج الأطفال ذوو الإعاقة للتعليم والرعاية أكثر من الأطفال الأصحاء، لكنهم في ظل الحرب السورية وقلة وعي الأهالي يظلون دون تعليم، لذلك تطوعت في المركز لتقديم العون لهذه الفئة المهمشة من الأطفال، والعمل على تأهيلهم ودمجهم في المجتمع، ومساعدتهم في ترتيب أفكارهم وتطوير لغتهم، والتواصل مع محيطهم، والولوج إلى عالم المعرفة.”
كما تلفت فاطمة إلى أن الصم هم أشخاص يعانون من فقدان حاسة السمع بشكل كلي أو جزئي، لذلك يحتاج تعليمهم إلى كثير من الصبر والقدرة على استيعاب وتوجيه احتياجاتهم عبر التعامل معهم بلغة الإشارة ثم النطق فقراءة الشفاه وصولاً إلى القراءة والكتابة، وتدريب الأطفال الذين يملكون بقايا سمعية على الحروف التي يصعب عليهم نطقها، ومساعدتهم نطق بعض الكلمات اللازمة في حياتهم اليومية .
ريم (٩سنوات) من مدينة الأتارب بريف حلب الغربي تعاني من صمم وراثي المنشأ، وقد اضطرت والدتها لإلحاقها بمدرسة عامة خوفاً من أن تبقى دون تعلم، وتقول والدة ريم عن تجربة ابنتها: “كانت ريم تعاني من صعوبات كثيرة في المدرسة لأنها غير قادرة على فهم المواد كبقية الأطفال، ومعلمها لا يمتلك خبرة كافية في التعامل معها، ولكن بعد التحاقها بمركز الصم والبكم تغيرت حالها كثيراً وتحسنت نفسيتها، حيث أصبحت مرحة ومحبة لمدرستها وللعب مع أقرانها.”

أما الطفل محمد (٦سنوات) فقد أصيب بالصمم نتيجة سقوط قذيفة بجانب منزلهم منذ ثلاث سنوات، وعن تجربته تروي والدته: “كان محمد يعاني من اضطرابات سلوكية ونفسية، حيث يتصرف بعدوانية لأنه لا يستطيع التعبير عما يجول في خاطره، كما يلجأ إلى البكاء في بعض الأحيان، وبعد دخول المركز أصبح ينطق بعض الكلمات، كما يتعامل بلغة الإشارة للتعبير عن رغباته ومشاعره بشكل أفضل، كما بدأ يتعلم مبادئ القراءة والكتابة.”

وعن الصعوبات التي تواجه عمل المركز يقول الشامي: “نعاني من ضعف الإمكانات المادية اللازمة لتأمين أهم احتياجات المركز من أدوية وتدفئة في فصل الشتاء، إضافة إلى انعدام المواصلات اللازمة لنقل المستفيدين، مما يمنع أطفال كثر من الالتحاق بالمركز، إضافة إلى عدم القدرة على تأمين المعينات السمعية (السماعات) لمن يحتاجها” .

وأدى تضاعف معاناة ذوي الإعاقة وخاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة وغياب التعليم الفعال الذي يناسب احتياجاتهم، لجعل هذه المبادرات الفردية أو المنظمة بارقة أمل وحيدة بالنسبة لهذه الفئة لتحقيق اندماجهم في المجتمع، وتعزيز قدراتهم.