بواسطة كمال شيخو | نوفمبر 6, 2018 | Cost of War, Roundtables, غير مصنف
في مدرسة عمر بن عبد العزيز بشارع النور غربي مدينة الرقة، يجلس تلاميذ تتراوح أعمارهم بين ٧ سنوات و١٥ سنة في الفصل الدراسي نفسه، بعد أن فتحت مدرستهم أبوابها أخيراً الشهر الجاري بجهود محلية من قبل متطوعي منظمة شباب أوكسجين. وأطلقت المنظمة مبادرة “التعليم لا يؤجل” بالمشاركة مع منظمات مدنية محلية، وبتنسيق مع لجنة التربية والتعليم في مجلس الرقة المدني لتحول بناءً مهجوراً تتكدس داخله أكوام من الأنقاض والركام خلال شهرين لمدرسة تستقبل طلاب المرحلة الأساسية.
وبعد تنظيفها وإصلاحها بمساعدة أهالي الحي، عاد التلاميذ إليها مجدداً يجلسون على مقاعد قديمة وصف دراسي لا باب فيه أو شباك إلا أن بناء المدرسة كان بحالة جيدة. والتحق ٥٠٠ طالب بدوامهم المدرسي في السادس عشر من الشهر الجاري، عند إعلان لجنة التربية والتعليم بداية العام الدراسي الجديد، وذلك بعد أن حُرم أطفال الرقة من إكمال تحصيلهم العلمي أثناء سيطرة مقاتلي تنظيم داعش على مدينتهم بين يناير/كانون الأول ٢٠١٤ وأكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٧حيث تم طردهم من قبل قوات سورية الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي.
تلاميذ يتحدون ظروف الحرب
يدخل الطفل سليمان – ١٠ أعوام- لأول مرة في حياته للفصل المدرسي ويجلس على المقعد الدراسي مبتسماً، ويقول سليمان المتحدر من مدينة الرقة “كنت أحلم بأن أجلس قرب تلميذ على مقعد، وأحمل كتبي المدرسية وأكتب اسمي عليها.”
أما الطفلة سعاد- ١٢ عاماً- والتي حُرمت من التعليم طوال السنوات الماضية، فجلست في المقعد الأمامي قرب طالبتين، ورغم ضيق المكان بدت علامات السعادة على وجهها لتقول: “هذا بيتي الثاني، فالحرب حرمتنا منه، وأنا أرغب بأن أصبح طبيبة في المستقبل لمعالجة المرضى.”
ولم يخفِ والد سليمان، محمود (٤٢ سنة)، خشيته على مستقبل ابنه بعدما دخلت الحرب عامها الثامن، ووصف حماسه للعودة للمدرسة قائلاً: “عادةً كان ابني يسهر معنا لوقت متأخر، لكن ما إن عرف بافتتاح المدرسة حتى نام الساعة ٩ مساء، واستيقظ مع بزوغ الفجر بنشاط وحماس.”
بينما أعربت والدة الطفلة سعاد وتدعى جواهر (٣٨ سنة) عن فرحتها بعودة ابنتها لإكمال تحصيلها العليمي قائلة: “أشعر بفرحة كبيرة كنت محرومة منها لسنوات، مشاهدة ابنتي تلبس زي المدرسة وتذهب برفقة صديقاتها إلى المدرسة لا تقدر بثمن.”
وحول داعش -خلال سيطرته على المدينة- المدارس والمجمعات التربوية الى مقرات عسكرية أو سجون سرية، من بينها مدرسة عمر بن عبد العزيز والتي تعرضت لشظايا غارة جوية أدت الى تدمير جزئي في بناء المدرسة بحسب ما يروي سكان الرقة.
ولإعادة المدارس لسابق عهدها قامت منظمة شباب أوكسجين بترميم المدرسة وتنظيفها بدعم مادي من برنامج “إنجاز” الممول من الولايات المتحدة الأميركية، ورغم أن المدارس ليست جاهزة تماماً فهي مازالت تعاني من نقص في اللوازم التعليمية، وغياب دورات المياه ونقص في المقاعد الدراسية، إلا أن الطلاب يتحدون هذه الصعوبات ويلتزمون بالذهاب للمدرسة يومياً.
وعن تعويض سنوات الدراسة الفائتة للطلاب المتأخرين عن المدرسة يقول مدير المدرسة عيد المحمد (٥٤ سنة) “إن لجنة التربية والتعليم المؤلفة من أخصائيين تربويين، تقوم بإجراء سبر معلومات للطالب، ويتم تحديد المستوى بحسب هذه الاختبارات، ليوضع في الصف المناسب لعمره، نظراً لتوقف العملية التربوية لأربع دورات متتالية”، منوهاً الى توافد الأهالي لتسجيل أبنائهم وسط فرحة وسعادة. ويضيف: “المدرسة افتتحت بعد انقطاع طويل، ولم يتمكن بعد عدد من الأهالي العائدين حديثاً من تسجيل أبنائهم.”
وتقع مدينة الرقة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، تبلغ مساحتها نحو ٢٧ ألف كيلومتر مربع، كان يسكنها قبل ٢٠١١ نحو ١٠٠ ألف نسمة، ومنذ بداية الشهر الجاري وبعد عودة ثلث سكان المدينة هناك ١٢٥ ألف طالب مسجلون في قيود لجنة التربية والتعليم في الرقة؛ ارتاد نحو ١٠٠ ألف طالب منهم الصفوف الدراسية وجلسوا على مقاعدهم في ثاني أسبوع من العام الدراسي الجديد.
وأعربت جواهر (٤٣ سنة) من سكان حي الرميلة، عن سعادتها لرؤية ابنها أحمد البالغ من العمر (١٣ سنة) وهو يحمل حقيبته الدراسية مرة ثانية، ويذهب مع أصدقائه الى مدرسة عمر البحتري كل صباح، وتقول: “أحمد وأصدقاؤه كانوا يمضون معظم الوقت في ألعاب الحرب وتشكيل مجموعات مسلحة ويصنعون الحواجز العسكرية من أعواد الخشب”، مضيفةً: “كانت هذه الألعاب شغلهم الشاغل سابقاً، أما اليوم فيواظب أحمد على المدرسة وعند المساء يقوم بمراجعة وظائفه وينام مبكراً.”
الدمار، أبرز التحديات
“وافتتحت اللجنة ٢٨١ مدرسة في الرقة وبلداتها، منها ١٨ داخل المدينة يداوم فيها اليوم حوالي ٣٠ ألف طالب في ثاني أسبوع من العام الدراسي” كما يقول التربوي علي الشنان رئيس لجنة التربية والتعليم بمجلس الرقة المدني. ومجلس الرقة المدني هو المجلس المحلي المعني بإدارة شؤون المدينة بالتنسيق مع قوات سورية الديمقراطية والتحالف الدولي.
وكانت مديرية التربية والتعليم في الحكومة السورية قد رفضت الاعتراف بالمدارس في الرقة بعد سيطرة قوات سورية الديمقراطية على مدينة الرقة في أكتوبر/تشرين الثاني العام الفائت، كما ترفض الاعتراف بالمدارس الخارجة عن سيطرة القوات النظامية الموالية للأسد وبذلك لم ترسل إليها أية لوازم تعليمية،
كما امتنعت عن إرسال الكتب والمناهج المقررة، إلا أن منظمة “اليونيسيف” التابعة للأمم المتحدة، ساعدت في فتح عدد من المدارس وقدمت الكتب والمقررات المدرسية، كما دعمت بعض المنظمات المدنية مالياً لتقوم بأعمال الصيانة والتنظيف.
وعن المنهاج المعتمد في مدارس الرقة، ذكر الشنان إنه المنهاج الحكومي الصادر عن مديرية التربية في دمشق، مشدداً: “قمنا بحذف كل الدروس التي تمجد الأشخاص والأحزاب، والتي تدعو إلى التطرف الديني”، في إشارة إلى دروس مادة القومية والتاريخ في المرحلتين الإعدادية والثانوية، التي تمجد الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وابنه بشار الأسد وحزب البعث الحاكم.
وأكد الشنان عدم حصول لجنة التربية والتعليم ومجلس الرقة المدني على أي دعم من الحكومة السورية لإعادة افتتاح المدارس وعودة الطلاب إلى مقاعدهم الدراسية، قائلاً: “لا يوجد أي تنسيق بيننا وبين وزارة التربية في حكومة النظام، مجلس الرقة وبالتنسيق مع مجلس سورية الديمقراطية وبدعم من التحالف الدولي تولى مهمة إعادة طلاب الرقة لمقاعدهم الدراسية.”
وبحسب رئيس لجنة التربية والتعليم، تم تفعيل جميع صفوف مرحلة التعليم الأساسي من الأول للصف الخامس، إلى جانب تفعيل مرحلة التعليم الإعدادية والتي ستبدأ بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني . وانتهت اللجنة من ترميم وتنظيف ست مدارس ثانوية بالتعاون مع منظمات مدنية، لكن العمل مايزال جارياً لاستقبال الطلاب وتسجيلهم في المرحلة الثانوية.
وعن أبرز التحديات التي تواجه العملية التربوية في الرقة، ذكر الشنان بأنها تنحصر في حجم الدمار الذي تعرضت له المدارس جراء العمليات القتالية الدائرة في محيطها، وقال: “يضاف لها نقص تجهيزات المدارس وغياب دورات المياه، ونقص الأبواب والنوافذ كل هذه الأمور تشكل معوقات وتحديات نحاول جاهدين إصلاحها وتجاوزها.”
“التعليم لا يؤجل”
أطلقت منظمة “شباب أوكسجين” بالتعاون مع منظمات مدنية محلية، مبادرة “التعليم لا يؤجل”، للمساهمة في عمليات ترميم وتنظيف مدارس الرقة وريفها، وقال بشار الكراف مدير المنظمة: “بعد الإعلان عن العام الدراسي الجديد، وجدنا إقبالاً كبيراً من الأهالي لتسجيل أبنائهم، وبما أننا نعلم أن معظم المدارس نالها الخراب والدمار، قررنا المبادرة للمساهمة في عمليات التنظيف.” وقد تضررت معظم مدراس الرقة إما جزئياً أو تدمرت تدميراً كاملاً لتخرج من الخدمة نهائياً، كما انتشرت فيها الألغام ومخلفات الحرب التي لم تنفجر.
وأشار الكراف إلى تعاون إدارة المدرسة والكادر التدريسي والأهالي الذين شكلوا فرق تنظيف للمساعدة في أعمال النظافة والترميم، وقد بلغ عدد الطلاب المستفيدين من مبادرة “التعليم لا يؤجل” سبعة آلاف طالب بحسب الكراف، وتضع المنظمات المدنية العاملة في المبادرة خطة ليصل العدد إلى عشرة آلاف طالب.
وإلى جانب منظمة “شباب أوكسجين”؛ تلقت منظمة “وفاق” الدعم من برنامج “إنجاز”، وافتتحت مدرسة في مخيم عين عيسى للنازحين، و مدرسة مزرعة حطين والأسدية بريف الرقة، كما تولت منظمة “نما لتشجيع ودعم التطور الديمقراطي” مهمة تنظيف مدرستي السلام والكواكبي للتعليم الأساسي داخل الرقة بجهود فردية من قبل متطوعي المنظمة. وكذلك شاركت منظمة “رؤية” وجمعية “نساء للسلام،” ومنظمة “نداء”، ومنظمة “وقاية”، وجهات مدينة محلية أخرى من الرقة في المبادرة، في تنظيف ١٢ مدرسة موزعة في داخل أحياء الرقة وإزالة الأنقاض والركام منها.
وفي المناطق التي دُمّرت مدارسها بالكامل تم تحويل بعض المنازل لمدارس كما يروي سعدون (٤٥ سنة) الذي يسكن في حي الدرعية غربي مدينة الرقة، “لم يبق من مدرسة المنطقة سوى الأطلال، لذا قام مجلس الرقة ولجنة التربية باستئجار ثلاثة منازل، وحولوها لمدرسة أخذت تستقبل الطلاب في ثلاثة أفواج، دوام صباحي وثاني عند فترة الظهر وآخر مسائي نظراً لكثرة الأعداد.”
وتقول هند محمد مديرة جمعية نساء للسلام في حديث لـصالون سورية أن عدد المستفيدين “بلغ ١٢٠٠ تلميذ والحملة تتم بالتعاون والتنسيق مع منظمات مدنية من جهة، ولجنة التربية والتعليم بمجلس الرقة المدني من جهة ثانية.”
وبدأت حملة “التعليم لا يؤجل” مع بداية العام الدراسي الجديد، وأطلقت المنظمات المدنية هاشتاغ على مواقع التواصل الاجتماعي تحت اسم #بمشاركتنا-مدارسنا- أجمل .
مدارس بألوان الفرات
بدورها، أكدت ميادة الشيخ إبراهيم الرئيسة المشتركة للجنة التربية والتعليم في مجلس الرقة المحلي، أن اللجنة نجحت في افتتاح ١٨ مدرسة من أصل ٣٢ داخل أحياء الرقة، وقالت في حديثها لـ”صالون سورية” بأن: “أعمال النظافة تمت بالتنسيق مع فرق إزالة الألغام، نجحنا بافتتاح المدارس بعد تأمينها وترميمها وتنظيفها، وعادت للخدمة وتستقبل الطلاب من جديد.”
ولفتت الشيخ إبراهيم إلى أن لجنة التربية قامت بافتتاح ١٢ مركزاً تدريبياً لتأهيل الكادر التدريسي، “الكادر خضع لدورات تأهيل للتعرف على كيفية تدريس الوسائل والطرائق الحديثة في العملية التربوية، ومواجهة التحديات والعقبات بعد ٣ سنوات من حكم تنظيم داعش” كما تقول.
وتروي المدرسة وفاء (٣٧ سنة) كيف قام عناصر داعش بتغيير ألوان المدارس وكسوها بالسواد، وقالت: “أول خطوة يجب إعادة طلاء المدارس بألوان فاتحة وزاهية تعكس روح أهالي الرقّة الحقيقيّة.” و بقيت المعلمة وفاء المتحدرة من الرقة، تدرّس في مدارس المدينة قرابة ١٠ سنوات، قبل نزوحها صيف العام الماضي وعودتها بعد انتهاء العمليات القتالية.
واليوم بدأت وفاء دوامها في مدرسة البحتري في حي الرميلة، كما تعمل إلى جانب الكادر التدريسي على تهيئة نفسها لكيفية التعامل مع الطلاّب الذين عاشوا في ظلّ حكم (داعش)، وتقول “التوحّش والإجرام كانا سمتي حكم داعش وأثرا على جيل الأطفال، سأعمل بكلّ طاقاتي لاستيعاب هذا الجيل، وتغيير سلوكه نحو الأفضل، لأن أفكارهم هدامة.”
بواسطة الحسناء عدرا | أكتوبر 19, 2018 | Cost of War, غير مصنف
خرج محمد من مكتب دفن الموتى متأبطاً قبراً فارغاً لنفسه، “كخطوة استباقية يباغت فيها الموت في بلاد تقدم الموت مجاناً وبسخاء كبير” يقول ضاحكاً، ثم يضيف: “حجزت قبراً لي في نجها بمبلغ ٢٥٠٠ ليرة كرسم تخصيص، فأبواب الموت مفتوحة على مصراعيها في هذا البلد، وإن تأخر أجلي قد يسبقني إليه أحد أشقائي.” ويعتبر محمد نفسه “محظوظاً” لأنه حصل على قبره قبل إصدار محافظة دمشق قرار منع شراء قبور فارغة وبيعها إلا للأقارب، وجاء هذا القرار على خلفية ضبط بعض حراس المقابر يبيعون القبور بصورة غير شرعية.
إلا أن هذا “الحظ” لم يحالف أيهم، الذي يعبر عن سخطه من قرار منع الاستضافة بعد أن تفاجأ بعدم السماح له بدفن خالة والده في مدفن العائلة بتربة المزة.
يقول أيهم: “منذ وفاة عمي في الثمانينات لم يفتح قبره، وعندما أردنا دفن خالته في نفس القبر، أخبرني مكتب دفن الموتى بأنه لم يعد يسمح بذلك”، مبرراً السبب بسعي محافظة لجني الملايين من الأموال من بيع قبور جديدة في المزة والمعضمية وجديدة عرطوز، ويعقب الشاب بسخرية: “سعر القبر في تربة المزة يقارب ٣ ملايين ليرة، بهذا المبلغ استطيع قضاء إجازة في جزر المالديف بدل من صرفها على حفرة.”
أما الشابة رشا التي فُجعت بوفاة والدتها أمس إثر عملية قثطرة فاشلة فلم تكد تصحو من مصيبتها لتبدأ بالحسابات والتكاليف، تقول: “أودعت أمي في قبر جدي لكن يجب علي ترميمه مجدداً، لم أكن متأهبة لهذه المصيبة لا معنوياً ولامادياً، دفعت ٢٠ ألفاً كرسوم دفن في مكتب دفن الموتى و ٧٠ ألفاً أخرى للكفن والسيارة وغسل الميت و٢٠٠ ألف لشاهدة القبر وأجرة حفار، أما الرخام فلم أحسب حسابه بعد، ناهيك عن أجور الضيافة والعزاء.”
الموت المُكلف
قبل عام ٢٠١١ كانت الطقوس الدينية المتعلقة بدفن الموتى ومراسيم العزاء -للمسلمين والمسيحيين- تتم بأقل كلفة، وكانوا أكثر قدرة على تحمل نفقاتها الشاملة، إلا أنها غدت بعد هذا العام أكثر إيلاماً و “ترفاً” يصعب على الفقراء والطبقة الاجتماعية المتوسطة تحمل تكاليفه، في المقابل أصبحت تجارة الموت المربحة في دمشق في أيدي الأغنياء وحديثي النعمة.
وهذا ما جعل العديدين يطمحون للموت بصفة مجهول كما أسامة، ويبرر رغبته هذه بقوله: “أصبح الموت مكلفاً للغاية، والأسعار خيالية لا يقبلها العقل، فسعر حفرة في مقبرة الدحداح يصل إلى ٤ ملايين فيما كانت لا تتجاوز ربع هذا المبلغ قبل سنوات الحرب، لذلك يبدو من الأفضل أن تسجل وفاة السوري كمجهول حتى تضطر الحكومة لدفنه.”
ويكلف بناء طابق ثان مبالغ كبيرة أيضاً، فرسوم تعمير الطابق الثاني في الدحداح مثلاً مع كلفة تغيير الشاهدة يكلف ٢٤٩،٠٠٠ ألف ليرة عدا عن تكلفة الرخام التي تهبط وتصعد على إيقاع الدولار حسب بلد الصنع ومساحة القبر.
تشتكي كاميليا أيضاً من أن أسعار إجراءات إتمام مراسيم الجنازة في دمشق تضاعفت عشر مرات عما كانت عليه قبل نشوب الحرب، فتكلفة “الأخذ بالخاطر” وحجز صالة العزاء لمدة ساعتين لا تقل عن ٢٥ ألف ليرة سورية، إضافة لنفقة تقديم القهوة المرة التي تصل إلى ١٠ آلاف ليرة، بينما كانت تكلفة الاثنين معاً لا تتجاوز ١٠ آلاف قبل ثماني سنوات.
اضطر العديد من محدودي الدخل في دمشق للتقنين في نفقات الطعام التي تقدم على روح الفقيد واتباع سياسة “النخب الثاني” لناحية جودة الوجبات المقدمة، تعقب كاميليا على هذا بالقول: “ارتفاع أسعار اللحوم دفعنا إلى اختيار أقل الوجبات تكلفة، فأغلب العائلات هنا أصبحت تختار وجبة الصفيحة في لقمة الرحمة بمجالس العزاء للتقليل من المصاريف، فسعر كيلو لحم العجل ٨ آلاف ليرة سورية.” ارتفاع الأسعار أيضاً طال تكلفة أجرة سيارة دفن الموتى التي تصل لحوالي ٢٠٠ ألف ليرة في حال كانت الوجهة قريبة من العاصمة مثل بلودان ومعلولا وصيدنايا وترتفع بازدياد المسافة فيما كانت قبل سنوات الحرب بأسعار رمزية وأحياناً عملاً خيرياً بدون مقابل مادي.
حتى تكلفة حجز الكنسية للصلاة على روح الميت ارتفعت، تشرح كاميليا: “قبل عام ٢٠١١ كان حجز الكنيسة مجانا أما الآن فهو يكلف أكثر من ٥ آلاف ليرة لما تتطلب من إنارة ومايترتب عليها من فواتير كهرباء.”
يضاف لهذا أسعار القبور التي ارتفعت بارتفاع أسعار الأراضي وتجاوز سعر بعضها خمسة ملايين ليرة، عدا عن جشع بعض أصحاب العقارات واستغلالهم حاجة الناس في ظل تصاعد معدل الوفيات التي سببتها الحرب.
سماسرة القبور
حاول بعض حراس المقابر بيع القبور لتجارة مربحة تدر عليهم الأموال، إذ يرصدون القبر لفترة طويلة، يتأكدون من انقطاع الزيارات عنه وهجر أهل الفقيد له بفعل السفر خارج البلاد أو الوفاة، ليبيعوه مرة أخرى بعد طمس معالمه وإزاحة رفات الميت الأول، كما يعيدون تعميره ليشتريه ذوو الميت الثاني على أنه مدفن جديد ويتم تسوية الأمر بين الطرفين.
يشرح جمال حيلة أخرى يلجأ إليها السماسرة: “عندما يقدم بعض الأشخاص ممن يملكون قبراً واسعاً طلباً إلى مكتب دفن الموتى لبناء طابق ثان، يمكن لهم وبالتواطؤ مع حارس المقبرة-الذي توكل إليه مهمة الموافقة بعد معاينته صلاحية التربة ومدى توفر شروط البناء أن يبيعوا الطابق الثاني بالسعر النظامي التابع للمقبرة بمبلغ لا يقل عن مليوني ليرة.”
قبور خمس نجوم
أما بعض سكان دمشق الأغنياء فيسبغون على موتاهم سمة الثراء كامتداد لحياة الرفاهية التي عاشوها، فيبذخون على المظهر الخارجي للقبر مستخدمين رخاماً مستورداً تصل تكلفته مليون ليرة.
عامل الرخام أبو إبراهيم يروي كيف تتم العملية قائلاً: “أستلم القبر مغطى بالإسمنت ثم أباشر برسم الزخارف والنقوش عليه بإيعاز من أهل المتوفي بعد اختيارهم للرسوم المناسبة، يصل المتر الواحد للرخام -نخب ثاني- إلى ٢٣ ألفاً، بينما الإيطالي فحوالي ٤٠ ألفاً وكلما شغل القبر مساحة كبيرة ازدادت تكلفة الرخام.” ويضيف أبو إبراهيم: “جاءني في إحدى المرات رجل ثري فقد ابنه الوحيد في حادث سيارة، ودفع حوالي مليون ليرة لقبره الذي شغل مساحة ١٠ أمتار واستغرق عمله مني قرابة شهر.” كذلك يستغل بعض الأثرياء وحديثي النعمة حوادث الوفيات لاستعراض ترفهم وبذخهم للتباهي أمام العامة.
و تبدي التوابيت أيضاً الفروقات الاجتماعية، أحد أصحاب محل التوابيت في الدويلعة والذي فضل عدم ذكر اسمه يقول: ” تبدأ أسعار التوابيت من ٣٠ ألف لغاية ٤٠٠ ألف ليرة، يمكن أن تتم إضافة الزخرفات على حوافها وتختلف نوعية الخشب المستخدم، ففي الوقت الذي لايملك الناس ثمن النعش، أشاهد آخرين يدفعون مئات الألوف للصندوق الخشبي كبرستيج، فكلما كان النعش مشغولاً بعناية أكثر ومحفوراً بالرسومات ازداد سعره، علماً أن جميعها ستفنى بعد سنوات قليلة.”
للفقراء مرقد نجها
تعد مقبرة نجها قبلة الفقراء لدفن موتاهم، فهي الأكثر رأفة بجيوبهم مقارنة بمقابر العاصمة، فسعر القبر الجديد فيها حوالي ٧٥ ألف، إضافة لرسم تثبيت القبر ويصل إلى ٥ آلاف ليرة.
يقول سائق تكسي في دمشق إن “دفع ٧٥ ألف خير من ٤ ملايين ثمناً لقبر، إلا أن هذا المبلغ نفسه كبير بالنسبة لدخلي المتوسط كسائق تاكسي والذي لايتجاوز ١٠٠ ألف ليرة شهرياً، خاصة إن وقعت محنة الوفاة في توقيت أكون غير مستعد لهذه النفقات.”
ولهذا تحولت مقبرة نجها في ريف دمشق –والتي يطلق عليها البعض تسمية الغرباء- إلى مرقد لآلاف الموتى ممن لم ينعموا بملكية قبر لهم في ظل ازدحام مقابر العاصمة وانخفاض قدرتها الاستيعابية.
يعقب رجل ستيني فضل عدم ذكر اسمه: “يحق لكل مواطن أن يودع في مرقده الأخير وينبغي على الحكومة أن تكفل له هذا الحق، وكنتيجة للحرب وازدياد الوفيات والتزاحم الكبير للحصول على القبور أصبحت مقبرة نجها مرقداً للسوريين القادمين من المحافظات السورية كحمص وحماه والحسكة واللاذقية وحلب وإدلب والذين استقروا في العاصمة منذ عقدين وأكثر ووافتهم المنية هنا.” كذلك يمكن للفقير المُعدم أن يحظى بقبر مجاني في مقبرة نجها شريطة حيازة ورقة إثبات فقر حال من مختار المنطقة التي يقطنها.
بواسطة سلوى زكزك | أكتوبر 15, 2018 | Cost of War, غير مصنف
في أواخر الألفية الثانية قايضت السوريات مصاغهن مقابل فرص عمل ورزق لأزواجهن وأبنائهن ولهن في حالات محدودة، فانتشرت في الشوارع أسراب من الحافلات الصغيرة الضيقة المعدة لنقل الركاب، دفعت ثمن العديد منها النساء من مصاغهن حتى انتشرت مقولة “أصبح ذهب السوريات كله في محلات الصاغة.”
ويعتبر المصاغ وخاصة الذهبي منه موضوعاً حياتياً عند العديد من السوريات، يعشن على أمل الظفر به، فهو كنزٌ من المال مخبأ في أيديهن وأعناقهن، وشرط لإتمام الزواج، وعلامة غنى وبحبوحة، و إشارات تترجم إلى: كل هذا لي، أو كل هذا كان مهري، أو أنني لم أخرج من الدنيا إلا بما يلمع في يدي من ذهب.
أتذكر ذاك الصباح، يوم سقطت قذيفة في بيت جارتي العازبة الستينية، كانت مدماة الوجه وشبه غائبة عن الوعي وهي تصرخ بي :الأساور!! تأمرني بأن أنزع أساورها الأربعة من يدها اليمنى وأخبئهم خوفاً من سرقتهم في المشفى أو موتهم معها.
فالحرب نشرت هستيريا تخبئة كل المصاغ حتى المحابس الزوجية، ونتج عن هذه الهستيريا فقدان المزيد من المصاغ بدلاً من حمايتها من اللصوص، فمن خبأت مصاغها في المدفأة أو في قماش الكنبة أو في الفرن أو الغسالة فقدته مع فقدان هذه الأدوات، وكأنها تهدي اللصوص أثاث بيتها مع جنى العمر، فلم يتخيل أحد أن عمليات “التعفيش” أي السرقة ستطال حتى محابس الزواج وملاعق الطعام وعكازات العجزة وأغطية كراسي التواليت.
في الحرب أيضاً تخلت النساء طوعاً عن المصاغ، لتغطية تكاليف رحلات الأبناء والرجال لترتيب حياة جديدة بعد فقدان البيت والعمل وموارد الدخل. كذلك وافقت العرائس الجديدات على اقتناء أنواع أرخص سعراً من الذهب كالبرازيلي أو الروسي، واضطرت العديدات منهن حتى للقبول بإسوارة “زردة” من حديد مصبوغ بالأصفر ومنقوشة بنقوش جميلة كي لا تشعر بالنقص.
وازدهرت على هامش الحرب تجارة الذهب “الفالصو” كما يسمونه في اللغة الشعبية، ونما سوق آخر لشراء المصاغ الذهبية الحقيقية من المحتاجين بأبخس الأثمان، لأن الصاغة توقفوا حتى عن الشراء لنقص السيولة ولتذبذب الأسعار بصورة دراماتيكية ما بين صعود مفاجئ وكبير وما بين هبوط مدمر.
تسببت هذه التغيرات بخلق حالة من الكساد في سوق الذهب، وأجبرت المضطرات على بيع ذهبهن لسيدات مقتنصات للفرص، يملكن أموالاً يرغبن بمقايضتها بالذهب خوفاً من هبوط قيمة أموالهن أو أن أموال “التعفيش” وتجارة الحرب صبت بين أيديهن وأردن تبديلها بسلعة أبقى وأكثر سهولة في الاقتناء.
في محل مشهور للصاغة في ساحة جورج خوري، الذي يسكنه ميسورو الحال، وتمتلك النساء القاطنات سياراتهن الخاصة ومصاغهن المشترى للزينة – لا لتوفير الأموال وادخارها- توافدت خلال خمس دقائق ثلاث سيدات، لبيع محابس الزواج، تذرعت الأولى والخجل يغمرها بأنها زوجة صائغ سابق خسر كل مالديه و المحبس لوالدتها المتوفاة وهي تريد بيعه لإكساء قبرها بالرخام المكلف، أما الثانية فقدمته للصائغ دونما مقدمات، وزنه، أعلن لها عن قيمته، هزت رأسها بالإيجاب، قبضت المبلغ الضئيل ومضت وعيناها متسمرتان في الفراغ، أما الثالثة فقالت إنه ضاق على إصبعها والموضة الآن هي الذهب الأبيض وبالتالي ستضع في إصبعها محبسها الماسي حسب ادعائها.
ورغم تردي سوق الذهب، إلا أن حركة البيع جعلته يحافظ على قوته، وخاصة لمن استطاع البقاء على قيد العمل من الصاغة، لكن البيع انحرف انحرافاً عميقاً من وفرة بيع المصاغ والطلب على الأحدث والأجمل وتبديله، إلى اقتصاره على الأونصات أو الليرات الذهبية لأنها أضمن اقتصادياً ولا تكلّف مقتنيها بدفع قيمة الشغل ( أي كلفة الصياغة) كمبلغ إضافي.
ويتركز هدف الأونصات أو الليرات على الادخار وتحويل الفائض من تجارة الحرب والتعفيش أو بيع العقارات إلى قوة رأس مال صافي وقابل للتدوير دونما خسارات تذكر خاصة بعد حالة الثبات النسبي لسعر الذهب.
ويُلاحظ الآن تغير ملفت، وهو الحضور الكثيف عند محال بيع الذهب في بعض المناطق، وأصبحت العديد من النساء يشترين ويرتدين الذهب ليبان علناً ويلفت الأنظار، لا ليحفظ فقط. وفي المقابل أيضا هناك حضور كثيف وإقبال أكثر كثافة على المجوهرات التقليدية التي شهد سوقها كساداً في السنوات الماضية، وأعلن بعض الصاغة عن عروض توفيرية ورخص على تلك المجوهرات، كعرض ثلاثة قطع بألف ليرة مثلاً، أو القطعة بخمسمائة ذهب روسي ومكتوب عليه مكفول!
يبرر أحد باعة الذهب هذه الظاهرة إلى أن عائلات مهاجرة ترسل لذويها مبالغ بالعملة الأجنبية لتشتري لها ذهباً، مضيفاً “الذهب عنا أحلى وأرخص.” كما أن بعض النساء يتلقين أموالاً محددة من أبنائهن لشراء الهدايا للزوجات الأجنبيات أو للأطفال حديثي الولادة وخاصة المصاحف وآية الكرسي والصلبان وصور القديسين. بالمُحصلة لا انتعاش يذكر في سوق الذهب، ولا اكتفاء يلحظ أو يشي بوفرة طارئة أو استقرار، هو تكيف مع الوضع الحالي.
و سوق المجوهرات التقليدية مبهر، يحتال باستنساخ كافة نقوش الحلي الذهبية، يخفف البائع من سطوة الخسارات في حال التلف السريع للحلية التقليدية قائلاً “ادهنيها بطلاء الأظافر كي لا يتغير لونها! البسيها فوق كنزة بقبة عالية كي لا تسبب لك التحسس، لا تقربيها من البارفان أو الصابون، لتحافظ على لمعانها!”
كل شيء يبان بنقيضه، والحياة تؤكد خساراتها -على حضور النساء -وحيواتهن بحلي قصيرة العمر، مثلها تماماً، وما كان زوادة للأفراح أو للأحزان الطارئة، التهمته الحرب بشراهة، وما تفتقده الأيدي والأصابع والأعناق ظل باهتاً ومخففاً لما تفتقده المشاعر والأحاسيس والأجساد وخاصة العيون والقلوب.
بواسطة Hadia Al Mansour | أكتوبر 12, 2018 | Cost of War, غير مصنف
نجا أحمد الشعراوي وهو في الـ٢٦ من عمره بأعجوبة من محاولة سرقة وقتل على الطريق الواصل بين سرمدا وريف إدلب الجنوبي. إذ هاجتمه عصابة من الملثمين محاولين إيقافه وسرقة سيارته، إلا أنهم لاذوا بالفرار عندما فاجأهم بإطلاق النار نحوهم.
يروي أحمد تفاصيل الحادثة قائلاً “أتوجه كل فترة إلى مدينة سرمدا للحصول على بعض البضائع لمحلي التجاري الواقع في مدينة كفرنبل، ولحرصي على سلامة بضائعي الثمينة والمكلفة مالياً، وتحسباً لأي طارئ، أحمل معي سلاحي أينما ذهبت وخاصة في ظل الانفلات الأمني الحاصل”، ويصف الشعراوي كيف أوقفته مجموعة من المسلحين في أحد الطرق الفرعية وطلبوا منه مغادرة سيارته (فان) ويتراوح سعرها بين ٧ و ١٠ آلاف دولار أمريكي ، فتظاهر بأنه على وشك الخروج حين باغتهم بإطلاق النار عليهم ما دفعهم للفرار بعد إصابة أحدهم .
يحمد أحمد الله أنه نجا من تلك المحاولة وإلا “لا شك سيكون مصيري مجهولاً كالكثيرين الذين تعرضوا لذات الحادثة” بحسب تعبيره.
قصص عديدة كقصة أحمد أصبحت تُسمع في ريف إدلب، إذ ازدادت جرائم القتل والخطف والسرقة تزامناً مع انتشار ظاهرة اللثام والملثمين بين الناس، مما يسمح لهم بارتكاب التجاوزات دون أن يتسنى لأحد رؤية وجوههم أو التعرف على شخصيتهم.
وإن كان أحمد قد نجا من محاولة السرقة غير أن الحاج حسين العمر (٥٠عاماً) لم يفلح في ذلك، فقد قامت عصابة مجهولة في منتصف شهر أبريل/نيسان ٢٠١٨ بسلب سيارته و بداخلها ٦ كيلو غرام من الذهب. عن تفاصيل الحادثة أوضح العمر بأن العصابة الملثمة أوقفته على الطريق الواصل بين بلدة معر تمصرين وقرية حر بنوش الواقعة في ريف إدلب الشمالي، وقامت بسرقة سيارته تحت تهديد السلاح، “كمية الذهب المسروقة كلها مصاغة ومخصصة للعرض في واجهة محلي التجاري، وبهذه السرقة خسرت كل ما أملك وأصبحت على هاوية الإفلاس” يقول الحاج حسين .
ولا تقتصر جرائم الملثمين على السرقة فحسب، وإنما يقومون أيضاً بالخطف بغرض طلب الفدية، وتكررت تلك الحوادث وازدادت بشكل كبير في الآونة الأخيرة حتى وصلت للخطف من المنزل.
فقد قام ملثمون بخطف الشاب عمران الحسنى وهو طالب جامعي من بيته ومن بين أهله، اعتقد الأهل حينها بأن الخاطفين يتبعون لتنظيم هيئة تحرير الشام (المعروف سابقاً بالنصرة) والذي غالبا ما يعتقل المدنيين بتلك الطريقة، لكن ذوي الشاب تفاجؤوا فيما بعد بأنهم مخطئون حين بدأ الخاطفون بالتفاوض مع الأهل، حيث طلبوا فدية قدرها ٢٥ ألف دولار، وأمام عجز أهله عن تأمين الفدية، قامت العصابة بقتل الشاب ورمي جثته على حافة أحد الطرق المؤدية إلى قريته.
ولم ينج حتى مسلحو المعارضة من جرائم العصابات، كما حدث في قرية تلمنس بريف إدلب الشرقي، ففي تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً بداية عام ٢٠١٨ قام سبعة عناصر ملثمين بمداهمة مكتب قائد اللواء الخامس في جيش إدلب الحر، ولم يكن في المكتب آنذاك سوى قائد اللواء وابنه. ترجل الملثمون من سيارتهم وهي طراز هونداي، وداهموا المكتب وقاموا بتكبيل الطفل وجره للسيارة، في حين كان والد الطفل يحاول إنقاذه، وعندما أثار الصراخ انتباه ساكني الحي وتوجهوا نحو المكتب هرب المهاجمون تاركين أحد عناصرهم الذي أصيب بعد أن أطلق والد الطفل عليه النار. وأشارات التحقيقات مع العنصر المصاب إلى أنه وعصابته ينتمون إلى تنظيم ما يسمى “حراس الدين” معترفاً بأن العملية كان هدفها الخطف وطلب الفدية.
لم يتوان الملثمون أيضاً عن تنفيذ عمليات تصفية طالت قياديين في الجيش الحر بل ومدنيين عزلاً وأطفالاً ونساءً، حيث تعرضت إدلب المدينة لعشرات التفجيرات التي راح ضحيتها عوائل بأكملها.
الشاب صبحي الراشد راح ضحية أحد تلك التفجيرات قبل حلول عيد الفطر بأيام قليلة، وذلك بعد انفجار عبوة ناسفة أمام المكان الذي كان يجتمع فيه مع أصدقائه من الشبان. يقول صديقه حسام متأثراً بما حدث لصبحي: “صبحي شاب طيب وخلوق، وليس له انتماء لأي فصيل أو حركة أو تنظيم، ومع ذلك فهو لم يسلم من غدر المجرمين وخفافيش الليل الذين همهم زرع الفتنة والرعب والإرهاب في كل مكان.”
الحاجة أم سامر (٥٥عاماً) شهدت إحدى جرائم الاغتيال هذه حيث تم إطلاق النار على شابين من قبل مجموعة ملثمين مسلحين، يستقلون سيارة بيك آب على الطريق المؤدي لمدينة جسر الشغور. تروي أم سامر التي كانت تقف على شرفة منزلها كيف كان الشابان على دراجة نارية حين باغتهما المسلحون بإطلاق النار عليهما واللوذ بالفرار، مما أدى لمقتل أحد الشبان فيما نقل الآخر إلى المشفى.
تقول الحاجة أم سامر “لم نعد نأمن على أنفسنا، فقد أصبح المجرمون في كل مكان وهم لا يتوانون عن قتل أي شخص لأهداف دنيئة متعددة”، وتتساءل ” إلى متى سيستمر هذا الانفلات الأمني؟”
الحقوقي نزير العوض (٣٢عاما ) يرى أن ما وصلت إليه الأوضاع الأمنية في المناطق المحررة يستدعي “التحرك السريع لفرض الأمن، والقضاء على المجرمين الذين راحوا يصولون ويجولون متخفين بلثامهم” متسائلا عن سبب وضع عناصر بعض الفصائل اللثام وكأنهم يشجعون على كل تلك الانتهاكات، “فلو أن ظاهرة اللثام انتهت لدى الفصائل المتشددة كالنصرة، ربما كان من الصعب على الملثمين المجرمين الاستمرار بأفعالهم تلك فأمرهم سيكون مكشوفاً لدى الجميع فيما سيشل تحركاتهم ، ويردعهم عن ممارسة أفعالهم” ويختم العوض بانتقاده للفصائل التي تتجاهل ما يجري “وكأن الأمر لا يعنيهم.”
من جهته أفاد القيادي في الجيش الحر أبو البراء (٤٢عاماً) بأنه تم العثور على عدة ألغام مزروعة على أطراف بلدة الهبيط الواقعة في ريف إدلب الجنوبي مهيئة للانفجار حيث تم تفكيك وتفجير بعضها، وأشار إلى حالات الاغتيالات التي كثرت في الآونة الأخيرة في إدلب وريفها ومنها العثور على جثتين مجهولتي الهوية بين بلدتي معصران بابيلا وذلك بقتلهما ورميهما في الأراضي الزراعية، بالإضافة للعثور على جثة أخرى في قرية الزعلانة وأخرى على طريق البارة كفرنبل وغيرها من الجرائم.
ويقول أبو البراء إنهم لا يزالوا يجهلون من يقوم بتلك التصفيات والجرائم “فمعظم الجرائم تتم في المناطق الحراجية أو الطرق الفرعية التي تخلو من وجود حواجز أمنية، وهو ما يجعل الكشف عن طبيعة تلك الجرائم أمراً بالغ الصعوبة، وخاصة في ظل ما تمر بها البلاد من فوضى” بحسب قوله.
من جهة أخرى قامت القوة الأمنية التابعة لهيئة تحرير الشام بإعدام أربعة أشخاص في مدينة إدلب علناً بعد أن قالت عنهم بأنهم متورطون بعمليات التفجير والاغتيالات بحق عسكريين ومدنيين، كما استطاعت جبهة ثوار سراقب التابعة للجيش الحر إلقاء القبض على عصابة سرقة في مدينة سراقب جنوبي شرقي محافظة إدلب بتاريخ ٢٠ إبريل/نيسان ٢٠١٨. علما أن معظم الفصائل الثورية المسلحة تمتنع عن توجيه الاتهام إلى أي جهة معينة خشية إثارة بلبلة في المنطقة، قد تتطور إلى اشتباكات بين الفصائل.
وفي محاولة مدنية لمحاربة ظاهرة اللثام والحد منها أطلق ناشطون حملة “اللثام ليس منا” بغية الإشارة إلى وجود هذه الظاهرة الخطيرة وتحذير الأهالي من عواقبها.
المنسق العام للحملة ملهم سمير (٣٠عاماً) يقول لصالون سوريا “انطلقت الحملة في كل من محافظتي حلب وإدلب نتيجة تكرار حالات الخطف والقتل والسرقة التي يمارسها الملثمون مستغلين ضعف العامل الأمني وفوضى الحرب القائمة” ويبين سمير بأن هدف الحملة هو القضاء على ظاهرة اللثام والتي تساعد أصحابها على ارتكاب الجرائم والانتهاكات بكل سهولة.
وقد تضمنت الحملة ندوات توعوية وتوزيع بروشورات وملصقات في الأماكن الحيوية والعامة.
ورغم التفاعل الكبير مع الحملة من قبل الأهالي والمدنيين إلا أنها غير كافية للقضاء على هذه الظاهرة التي تستوجب سلطة وقوة تعمل على الحد منها، غير أن هذه السلطة غائبة حالياً في ظل ازدياد عدد الفصائل وتعدد قياداتها وتناحرها في المنطقة.
بواسطة Mohammad Saleh | أكتوبر 5, 2018 | Cost of War, غير مصنف
السوق السورية مليئة بالمنتجات السورية الزراعية والتي تتنوع في جودتها ونوعيتها واسمها حسب مناطق إنتاجها، أتناول هنا أربعة منتجات أساسية وهي (البطاطا، التفاح، والحمضيات، والبندورة) مع المرور على منتجات أخرى حيث يعيش الكثير من الفلاحين بالاعتماد عليها ولكن المشكلة تكمن في التكلفة الكبيرة للإنتاج مقابل سعر المبيع الزهيد.
يشتري المواطن السوري المنتجات الزراعية بأسعارٍ رخيصةٍ وهو سعيد بسبب دخله المتدني ولايعلم أنه سيدفع أثماناً مضاعفة في العام التالي مقابل نفس السلعة بسبب عدم قدرة الفلاحين على إعادة الإنتاج نظراً للخسارات الهائلة في الموسم الحالي وخضوع الزراعات لتقلبات المواسم المطرية، والجفاف، وأسعار البذور والأسمدة والمواد الزراعية التي باتت مكلفة جداً بفعل الحرب.
دفعت الظروف الصعبة شريحة كبيرة من الفلاحين للانكفاء عن إنتاج نفس الموسم بسبب انعدام القدرة المادية وكلما خفّ العرض ارتفعت الأسعار إلى حدودٍ جنونية. فقد وصل سعر الكيلوغرام الواحد من البطاطا مثلاً إلى ٣٠٠ ليرة سورية، في حين أنّ الوزن نفسه كان يُباع في الموسم الماضي بأقل من نصف الكلفة من قبل الفلاحين. وتصل الكلفة إلى ١٢٠ ليرة سورية كما أخبرني أكثر من مزارع في ريف حمص وريف حماة، حتى أنّ السعر وصل الى خمس عشرة ليرة في منطقة الغاب وخمس وستين ليرة سورية في قرية سكرة بريف حمص. سألت المزارع (أبو محمد) من قرية سكرة عن تفاصيل التكلفة، فأخبرني أنّ “سعر البطاطا التي يتم استيرادها من أجل الزراعة باهظ جداً، إضافةً الى أسعار الأسمدة التي تضاعفت مراتٍ عديدةٍ وتجاوزت كثيراً فرق سعر الصرف حيث تجاوز سعر الكيس (٥٠ كغ) عشرين ألف ليرة سورية، بينما لم يتجاوز سعر الكيس (نفس الوزن) الخمسمائة ليرة قبل العام ٢٠١١ (أي قبل الأزمة)، يُضاف الى ذلك كلفة الري حيث كان سعر الليتر من المازوت (الديزل)٧ ليرات سورية واليوم تصل هذه الكلفة إلى ١٨٥ ليرة سورية، في حين سعر المتوفر بدون دعم إلى ثلاثمائة ليرة سورية، ويُضاف إلى كله أجور النقل الى الأسواق.”
قطاف التفاح في أحد بساتين ضهر القصي
أما التفاح فينمو في المناطق الباردة وبالتالي ينتظر المزارع غضب الطبيعة أو رحمتها، فقد يقضي البَرَد على موسم التفاح إذا كانت حباته كبيرة، وإذا كانت الطبيعة رحيمة يخضع الفلاحون ومواسمهم لرحمة التجار. يُباع التفاح حالياً بسعر ٨٥ ليرة سورية للكيلو غرام الواحد في حال كان النوع جيداً ويصل إلى المستهلك بسعر ٢٥٠ ليرة سورية. زرت (أبو الجود) في بستانه وسألته عن التكلفة فأخبرني عن ثمن المبيدات الحشرية وأجور الرش والفلاحة حيث كان إنتاجه هذا العام ما يقارب سبعة أطنان ولكن الحصيلة النهائية لفرق السعر بين الإنتاج وكلفته لا يكفيه سوى لمصروف شهرٍ واحدٍ وهو ما يعادل أربعمائة دولار أمريكي، آخذين بعين الاعتبار أنّ ثمن الأشجار مدفوع سابقاً ولم يُحسب حساب الأشجار التي تموت ويحتاج الى بديل لها.
قطاف التفاح في أحد بساتين ضهر القصير
أما الحمضيات فتتركز زراعتها في مناطق الساحل السوري فقط. ورغم عدم توفر الليمون بشكلٍ كافٍ في المناطق السورية الأخرى الأمر الذي يجعل أسعار مبيعه باهظة جداً، إلا أنّ العديد من المزارعين قاموا باقتلاع أشجارهم واستبدالها بزراعات أخرى لأنّ سعر المبيع أقل من التكلفة. فمثلاً أثناء قطافي لثمار الليمون من مزرعة (أبو الغيث) لإحضاره إلى حمص سألته (لماذا لايبيع هذه الكمية الكبيرة من الليمون؟)، فبدأ بتعداد التكاليف من سعر الصناديق، إلى أجور العمال، إلى النقل الى الأسواق، فوصلت كلفة الكيلوغرام من هذه العملية الى أكثر من سعر المبيع، هذا بدون حساب العمل طيلة عامٍ كاملٍ. ويبلغ سعر الصندوق ٣٠٠ ليرة سورية ويتسع لعشرة كيلو غرامات أي أنّ سعر كل كيلو غرام ٣٠ ليرة، وتبلغ أجور القطاف ١٠ ليرات، وأجور النقل من البستان إلى تاجر الجملة ٥ ليرات، يصبح المجموع ٤٥ ليرة سورية، لكنّ سعر المبيع للمستهلك يتراوح بين ٤٢-٤٠ ل.س، طبعاً هذا السعر ليس ثابتا وقد يرتفع السعر أو ينخفض، لكنه يعطي فكرة عن الخسائر التي يعاني منها الفلاح الذي بات يُفضل سقوط الثمار في مكانها أفضل من الخسائر التي سيجنيها هذا في حال تم تسويق المحصول.
وأخيراً البندورة التي تعد من المحاصيل المهمة جداً والضرورية بالنسبة لكلٍ بيتٍ وهي تُزرع في كافة أنحاء سورية ولكن في الصيف تزرع في المناطق الداخلية وفي الشتاء على السهول الساحلية، وهي من الزراعات المحمية شتاء، لكن سعر المبيع في الموسمين الماضيين انخفض إلى ما دون سعر التكلفة سواءً بالنسبة للزراعة المحمية في الساحل أو الزراعة الصيفية في المناطق الأخرى، وهي تصل إلى المستهلك بأرقامٍ صعبةٍ على مدخوله، ويشتري المستهلك كيلو البندورة الواردة من ريف حلب بمبلغ مئة وخمسين ليرة في حين يبيعها الفلاح هناك بخمس عشرة ليرة سورية.
إذاً أين تكمن المشكلة؟ بالإضافة إلى العوامل الجوية التي لايمكن دائماً التحكم بآثارها، مايفاقم من هول التحديات التي يواجهها الفلاحون والمستهلكون على حدٍّ سواء هو سوء إدارة الأزمة الزراعية وغياب الدعم والرقابة، فمن هي الإدارة المسؤولة عن هذا البلد وحماية القطاع الزراعي الذي أثبت أنه عصب الحياة الاقتصادية بعد أن عصفت الحرب بالقطاعات الصناعية والتجارية والسياحة؟
هناك الكثير من المشاكل السابقة لسنة ٢٠١١، لكنّ العديد من المشاكل الجديدة نجمت عن العقوبات الاقتصادية وتفشي اقتصاد الحرب كفرض الجباية والأتاوات من قبل الحواجز على السيارات العابرة والبضائع، وهذه ضرائب مُقنّعة يدفعها السوريون علانيةً ولكن ليس لها مكان في جدول حسابات الإنتاج ولا مكان لها بالنسبة لواردات الدولة. كما باتت توجد هوة كبيرة ما بين الدخل المتدني للسوريين وأسعار السوق، وتؤرق هذه المشكلة معظم السوريين. ورغم أنّ أسعار المنتجات الزراعية السورية أرخص من مثيلاتها بالمقارنة مع الدول المجاورة، إلا أنّ القدرة الشرائية المنخفضة لاتسمح للسوريين بالشراء، وهذه مشكلة من مشاكل كثيرة يعاني منها السوريون ولايمكن طرحها بشكل منفصل عن مشكلتهم الأساسية مع مفهوم الدولة، ولكن تبقى المشكلة مطروحة ببعدها الاجتماعي والاقتصادي وعلى أي حكومة سورية مستقبلية العمل على إيجاد توازن بين سعر السوق والدخل بالإضافة للتركيز على أن يكون سعر المنتج مدعوماً من الحكومة بحيث يكون أعلى من الكلفة وتتحمل الحكومة ردم الهوة بينهما مهما كانت حتى يستطيع المزارع متابعة إنتاجه في مواسم لاحقة ولتحقيق الأمن الغذائي بالنسبة للجميع.
ورغم الاقتصار هنا في تناول المحاصيل المنتجة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري إلا أن هناك منتجين رئيسيين في المناطق التي تسيطر عليهما قوات سوريا الديمقراطية وهما القمح والقطن وتلك مشكلة أخرى حيث أن القطن من الزراعات الصناعية الأساسية في سورية، وانعكست آثار الحرب تلك على قطاعات واسعة من السوريين العاملين في محالج القطن وشركات الغزل وشركات صنع الزيوت من بذر القطن، وكل ذلك بسبب الإنتاج الضعيف والذي يعود سببه الى عدم وجود سعر يشجع الإنتاج، بالإضافة إلى تردي الوضع الأمني الذي انعكس على الطرقات التجارية والترانزيت وخضوع المناطق السورية المختلفة لسيطرة قوى مسلحة متصارعة ومختلفة.
بواسطة Motaz al-Hinawy | أكتوبر 3, 2018 | Cost of War, غير مصنف
رغم كل ما طرح في تحليل وتفسير مجريات المجزرة التي ارتكبها تنظيم داعش في مدينة السويداء في ٢٥ تموز ٢٠١٨ والتي أدت إلى مقتل ما لا يقل عن ٢٠٠ شخص وجرح المئات من المدنيين، ورغم تعدد الروايات المتضاربة حول تفاصيل ما جرى والمتورطين تسهيلاً أو تنفيذاً، إلا أنه لا يمكن الاستناد اليوم بعد مرور ما يقارب الشهرين على المذبحة على أي رأيٍ حول ما ستؤول إليه الأيام القادمة. فبينما يرى كثيرون أنّ ما قبل مجزرة تموز ليس كما بعدها، وأنّ ضخامة الحدث بالنسبة لمدينة عاشت شبه هدوءٍ نسبيٍ خلال سنوات الحرب السورية سيكون مفصلياً بالنسبة لمجريات الأحداث القادمة؛ إلا أنّ آخرين يرون أنّ ما جرى ليس سوى مجرّد تفصيلٍ من يوميات الحرب السورية. الأهم من الاتهامات المتبادلة والاختلافات في وجهات النظر والمواقف بين مختلف الأطراف في السويداء حول حقيقة ما حدث ومن يتحمل المسؤولية هي حالة القلق والتوتر الشديد والخوف الحقيقي الذي طرأت على حياة الناس وأصابت حركتهم بشلل شبه مطلق.
درهم سلاح يحتاج الى قنطار عقل
في أعقاب الهجوم وما رافقه من حالة توتر واستنفار لدى أهالي مدينة السويداء وقراها تشكلت لجان حماية محلية من ابناء المدينة والبلدات ونُصبت حواجز في كافة الطرق والحارات وفي مداخل القرى تحسباً لأي تسللٍ أو أي حدث طارئ، أما في القرى الشرقية التي تعرضت للهجوم فقد تم تشكيل خط دفاع كبير من المتطوعين والأهالي واللجان الشعبية بالإضافة إلى التعزيزات العسكرية التي بدأت بالتجمع والتحشيد استعداداً لعملية عسكرية في بادية السويداء.
كان لهذه الحواجز دورٌ كبيرٌ في طمأنة الناس وتهدئة مخاوفهم خاصةً وأنّ القائمين بأعمال الحراسة والدوريات هم من أبناء المنطقة، ولكن على الرغم من ذلك حدثت مواقف وأخطاء كثيرة ناجمة عن حالة الشك والتوتر كادت أن تؤدي الى حالة من الفوضى لولا تداركها واحتواؤها في اللحظات الأخيرة . ومن هذه المواقف مقتل شابين بالخطأ على أحد الحواجز في المدينة بعد أيامٍ قليلة من المجزرة، حيث كانا يستقلان دراجة نارية في وقت ٍمتأخرٍ من الليل ليتفاجآ بمجموعةٍ من الشباب المسلحين كانت قد أقامت حاجزاً مؤقتاً في أحد الطرقات فهرب الشابان ظناً منهما أنّ عناصر الحاجز من الدواعش، الأمر الذي أثار ارتياب العناصر ففتحوا نيران بنادقهم باتجاه الشابين الأمر الذي أدى إلى مصرعهما.
وفي حادثةٍ مشابهة ونتيجةً لانعدام التنسيق بين اللجان الشعبية وحالة التوتر السائدة حدث اشتباكٌ مسلح في منطقة بساتين الجبل أدى الى سقوط قتلى وجرحى. وقعت الحادثة عندما كانت إحدى السيارات التابعة للجان في دورية حراسة اعتيادية، وأثناء مرورها في أحد الطرقات وجد السائق الطريق مقطوعاً بحجارة، الأمر الذي دفعه للالتفاف والعودة خوفاً من أن تكون السيارة قد وقعت في كمينٍ، وعندما رأى عناصر الحاجز القريب السيارة قادمة باتجاههم مسرعة ظنوا أنها محاولة تسلل من الدواعش فاشتبكوا مع عناصر السيارة بالأسلحة.
لم تقتصر الأخطاء على ذلك، فقد استغلت عصابات الخطف والسرقة الأوضاع الأمنية المتوترة وغياب المحاسبة لإقامة حواجز بحجة الحماية، ويقوم عناصر هذه الحواجز بتوقيف ضحاياهم وابتزازهم وسرقة أموالهم وجوالاتهم وحتى سياراتهم وتهديدهم بتصفيتهم بحجة التعاون مع داعش، أو يقومون بخطفهم وطلب فدية ٍماليةٍ من ذويهم لإطلاق سراحهم. وبالطبع فإن أغلب المستهدفين كانوا من النازحين إلى السويداء من خارجها أو من عشائر البدو المتواجدة في المنطقة.
كما تجلت الخلافات الشخصية والحساسيات العائلية الموجودة في بعض المناطق بشكلٍ واضح بعد المجزرة، فكل طرفٍ يريد أن ينسب البطولات له ويتهم الطرف الآخر بالتخاذل والتقصير، ووصلت المزاودات إلى حدٍّ هزلي تجلى في تفاصيل سطحية، فعلى سبيل المثال تنافست بعض العائلات حول عدد أفرادها الذين يقفون على الحواجز، فيما قام بعض الأشخاص بتوزيع حلويات على السيارات المارة على الحاجز بحجة إعطاء صورةٍ حضارية عن المكان، بينما كان القصد من ورائها إغاظة الجهة المنافسة والمزاودة عليها في مشاهد تذكرنا بمسلسل الخربة الذي تدور أحداثه في المنطقة. وفي سياق ذلك كان أبناء إحدى القرى قد أقاموا دوريات حراسة على الحواجز في أوقات النهار والليل في حركةٍ تعد الوحيدة بين كافة قرى السويداء، وتكمن المفارقة أنّ موقع القرية يتوسط المحافظة والخطر عليها شبه معدوم، كما أن غالبية من كانوا يقفون في النهار هم تجار المازوت المهرب سابقاً والفاسدون المعروفون للجميع .ومن التفاصيل اليومية على الحواجز أيضاً، قيام بعض الشباب باستعراضاتٍ ذكورية برفقة أسلحتهم على الملأ وتصوير أنفسهم في “سلفيات” ونشر صورهم أثناء دوريات الحراسة على صفحاتهم على الفيس بوك.
وكان الكثير من الشباب قد رفضوا الوقوف على الحواجز والقيام بالحراسة معتبرين أنّ الموضوع مجرّد تزلف واستعراض مظاهر، وقد يكونوا محقين في ذلك، إلا أنّ بعض من رفضوا المشاركة هم بالأساس من الحزبيين وممن كانوا يوزعون شعارات الوطنية والبطولة من بيوتهم ومكاتبهم.
ارتياب من الحياة الطبيعية
أدت المجزرة إلى تغير الحياة اليومية للناس حيث يسود جوٌ من الخوف والترقب والتوتر في المنطقة، الأمر الذي جعل الناس تُمضي أوقاتها في تصفح صفحات الأخبار المحلية كـ”السويداء 24” ومتابعة أي حدثٍ مستفسرين عن مصدر أصوات الرصاص التي تخرج هنا وهناك بين الحين والآخر. كما شكلت القطط والكلاب في جولاتها الليلية مصدر هلعٍ بالنسبة للكثير من الناس الذين باتوا متوجسين من أية حركة أو صوت غير مألوف، فمثلاً في إحدى الليالي اشتبه حارس إحدى المنشآت بحركةٍ وأصواتٍ بالقرب من المكان، فما كان منه إلا أن اتصل بصاحب المنشأة ليأتي الأخير مع مجموعة من أقاربه ليفتحوا نيران أسلحتهم بشكلٍ هستيريٍ وعشوائي باتجاه المنطقة المحيط بالمنشأة. ونتيجة لسماع أصوات الرصاص هبّ شباب القرية والقرى المجاورة لمؤازرة المجموعة في ظاهرة تسمى في السويداء بالـ “الفزعة” وقاموا بتمشيط المكان ليتبين أنّ مصدر الحركة المريبة كان كلباً حاول مهاجمة دجاجات الناطور الأمر الذي تسبب في كل تلك الاستنفارات وإطلاق الرصاص.
وفي حادثةٍ أخرى، انقطع التيار الكهربائي نتيجةً لعطلٍ فنيٍ في منتصف الليل تقريباً، ليلتها لم ينم أهالي السويداء، فليلة هجوم داعش انقطع التيار الكهرباء أيضاً، الأمر الذي جعل الناس تمضي ليلتها في الشوارع وعلى أسطح البيوت والحواجز.
وفي تفصيلٍ لا يخلو من الطرافة أيضاً احتار الشبان في أمر ذقونهم التي كان إطلاقها بكثافة أمراً عادياً قبل الأحداث الأخيرة، ولكن بعد المجزرة بات منظر الذقون الطويلة يثير الشك والخوف والريبة، الأمر الذي دفع العديد من الشبان الى حلاقة ذقونهم احترازياً. ولكن مع سريان إشاعات جديدة تقول إنّ عناصر الجيش السوري وخلال مداهمتهم لبعض المغائر التي كان يختبئ فيها عناصر التنظيم وجدوا معدات حلاقة وآثاراً لشعرٍ محلوقٍ لإخفاء هويتهم، هنا انقلبت الآية رأساً على عقب وبخاصة لدى الأشخاص الذين لهم ملامح قد يخالها المرتاب أنها مغايرة لسحنة أهل المنطقة، الأمر الذي دفع الكثيرين لتخفيف ذقونهن وتحديدها وإضفاء موديلات عليها، أو ارتداء رموز وقلادات دينية في أعناقهم، أو التحدث بلكنة المنطقة المميزة وبصوت ٍعالٍ مستبقين سؤال العناصر على الحواجز فتسمع عبارات مثل: (الله محي الشباب، أنا فلان ابن فلان، درزي ابن درزي،)، وأحياناً يعقب الشخص مازحاً ولكسر التوتر: حقكم والله تدققوا شكلي طالع مثل الدواعش!
وعلى الرغم من الأخطاء والتفاصيل اليومية المقيتة التي تحدث على الحواجز التي يحرسها المتطوعون من أبناء المدينة، يبقى الرضى عنها محط إجماع معظم الناس وبخاصة عند مقارنتها بالحواجز الأمنية ذات السمعة السيئة، فالجميع بات يدرك أنّ من واجبه ومسؤوليته حماية منطقته وأهله في وقت لاتزال المعارك على أشدها في البادية، ومازال خطر التنظيم الذي أسر العشرات من المدنيين أثناء ارتكابه للمجزرة قائماً في كل لحظة ويقوم بين الحين والآخر بإرسال رسائل مرعبة عبر إعدام الأسرى تدريجياً للضغط وإجبار الحكومة السورية والأهالي للتفاوض مع التنظيم.