بواسطة Jiwan Soz | مارس 1, 2019 | Cost of War, Reports, غير مصنف
“مع كل تغريدة للرئيس الأميركي، دونالد ترمب، نوضب أغراضنا الشخصية في حقائبنا، لكننا لا نعرف إلى أين سنمضي؟”. يقول أحد أكراد سوريا المقيمين شمال شرق سوريا، و التي تتمتع بشبه حكمٍ ذاتي منذ أكثر من ست سنوات، تعليقاً على تهديدات أنقرة المستمرة ومواقف واشنطن المحيرة التي ترد فيها على الأولى.
وتغير تغريدات الرئيس الأميركي المزاج العام للسكان الأكراد وغيرهم في تلك المناطق، فإذا كانت التغريدة لصالحهم، تعود الحقائب لأماكنها، وإن لم تكن كذلك، فالحقائب في متناول اليدّ دوماً، خشية من موجةِ نزوحٍ أو لجوءٍ مُحتمل قد يخلّفه الهجوم البرّي التركي المقرر شنّه في وقتٍ غير محدد.
ويرى العديد من سكان هذه المنطقة في وجود القواعد العسكرية الأمريكية، والتي يبلغ عددها 21 قاعدة في مناطق أكراد سوريا، عاملاً إضافياً لاستقرار المنطقة وحمايتها من التهديدات التركية المستمرة باجتياحها برّاً، ويربطون ذلك بمصالح واشنطن على الأرض في أغنى المناطق السورية التي تشكل نحو 52% من ثروات البلاد الطبيعية كالغاز والنفط والزراعة. ويعتقد العديد أن أمريكا لن تتخلى عن المنطقة بالرغم من إعلانها عن سحب قواتها العسكرية من المنطقة في الوقت الذي مازال فيه الأكراد وحلفاؤهم المحليون في قوات “سوريا الديمقراطية”، يحاربون تنظيم “داعش” في آخر جيوبه الصغيرة بالقرب من الحدود السورية ـ العراقية.
ولا يقتصر القلق من هذا الانسحاب على الأهالي فحسب، فالجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية الّذي يمثّله “مجلس سوريا الديمقراطية”، كثّف جهوده الدبلوماسية منذ اللحظات الأولى للإعلان، ووصل وفده العاصمة الفرنسية باريس بعد أيامٍ لكسبِ حليفٍ جديد، واستقبلتهم فرنسا في قصر الإليزيه مؤكدة دعمها لـ”سوريا الديمقراطية” في حربها ضد “داعش”.
وبالإضافة لكسب حليف جديد، هدفت هذه الزيارة الدبلوماسية لمجلس سوريا الديمقراطية لمنع تكرار تجربة مدينة عفرين الّتي سيطرت عليها أنقرة بالتعاون مع فصائل من المعارضة السورية المسلحة في آذار/مارس الماضي. إذ نجم عن سيطرة أنقرة ومواليها على عفرين فرار أكثر من نصف السكان لخارجها، بالإضافة لعملياتٍ تطهير عرقي وديموغرافي لا تزال مستمرة في هذه المنطقة.
ولهذا يخشى المسؤلون الأكراد من الاجتياح التركي لمناطق نفوذهم شرق نهر الفرات، وغربه بمدينة منبج التي ترفض أنقرة وجود مقاتلين أكرادٍ فيها. وبالإضافة لفرنسا ، وصلت وفود أخرى من “مجلس سوريا الديمقراطية” إلى قاعدة حميميم الروسية في الساحل السوري، ومن ثم مضوا نحو موسكو وواشنطن أيضاً.
ويحاول مجلس سوريا الديمقراطية من خلال جوالاته ومباحثاته الديبلوماسية هذه، المحافظة على حالة الاستقرار التي تتمتع بها مناطقه والتي يقطنها ملايين السكان وآلاف النازحين، ولهذا فاوضوا النظام السوري عبر “خارطة طريق كُردية” قدّمها المجلس لموسكو بغية إقناع النظام السوري بشروطه، والتي تتمثل بالاعتراف الدستوري بالإدارة الذاتية وضمان حقوق مختلف السكان وفي مقدمتهم الأكراد، مع إمكانية ضم مقاتلي “سوريا الديمقراطية” للجيش السوري في المستقبل.
لكن في الوقت ذاته، يؤكد مسؤولون أكراد أنه لا يمكن للنظام أن يعود إلى مناطقهم بالشكل الّذي كان عليه قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية في البلاد منتصف آذار/مارس من العام 2011.
وبالرغم من ترحيب وزارة الخارجية السورية بالمفاوضات مع الأكراد، إلا أن الملف مجمد ولم يشهد أي تقدم للآن، فالنظام يحاول تجريد مجلس سوريا الديمقراطية من صلاحياته وضمه إلى صفوفه على غرار عمليات المصالحة الوطنية التي عمل عليها في مناطق للمعارضة المسلّحة بالقرب من دمشق، الأمر الّذي يرفضه الأكراد، حتى لو كلفهم ذلك صراعاً طويلاً مع تنظيم “داعش” وأنقرة معاً بحسب تصريحات بعض مسؤوليهم.
وبالرغم من معارضة بعض الكيانات الكردية للتفاوض مع النظام فإن تفاوض سوريا الديمقراطية مع دمشق يعد “إنجازاً كُردياً” كما وصفه بعض المسؤولين، سيما وأن النظام حتى الأمس القريب، لم يكن يقرّ بوجود الأكراد على الأراضي السورية أبداً.
من جهة ثانية ، يبدو أن مختلف فصائل المعارضة السورية تقف مع أنقرة ضد أكراد سوريا، وهو ما يبدو واضحاً في بيانات الهيئة العليا للتفاوض وكذلك في بيانات الائتلاف السوري المعارض و”الجيش الوطني” الّذي تدعمه أنقرة. الأمر الّذي لا يترك خياراتٍ كثيرة أمام الأكراد، فإما سيناريو عفرين أو الوصول مع النظام لحلولٍ تجبنهم الدخول التركي، حتى لو كلّفهم ذلك خسارة سياسية معنوية وكذلك فعلية لمكتسباتهم.
ولا يمكن تصنيف المجلس أو الإدارة كمعارضة أو موالاة، فموقفهما من النظام واضح وعلني، وكان الرئيس المشترك الحالي لمجلس سوريا الديمقراطية، رياض درار، معتقلاً لسنوات نتيجة معارضته للنظام.
وبهذا يبدو أن أمام مناطق أكراد سوريا حلّان لا ثالث لهما، عودة النظام وأعلامه وراياته لمناطقهم بشكلٍ رمزي خاصة على الحدود مع تركيا، وذلك بالتنسيق مع الجانب الروسي، لحمايتها من تهديدات تركيا، أو بقاء الأمريكيين في هذه المنطقة إلى أجلٍ غير مُسمى.
بواسطة ختام غبش | فبراير 25, 2019 | Cost of War, غير مصنف
حواجزٌ اسمنتية وأخرى حديدية تبتلع ثلاثة أرباع الشارع فيما يشغل عسكري جزءاً من الربع الأخير وهو يؤدي واجب التفييش وعرقلة حركة السير، على مد النظر تنتشر باصاتٌ ضخمة تحمّل أتلالاً من الأفراد، وبأعدادٍ كبيرة تثير تعليقاً متذمراً بين منتظري وسائل النقل العامة: ” من أين تخرج هذه الجموع وأغلب الشعب بين المهجر والشهيد؟”
يمكن لزاوية منعطف تحت جسر الرئيس أو جسر الثورة أن تُجسد مشهد المأساة اليومية، كما لو أنّها لوحة تحمل وجوهاً معلّقة في الفراغ، بملامح ونظرات واحدة، وحركات جسد متأهبة للتدافع والركل عند قدوم وسيلة النقل.
وفي ظل سنوات الحرب المحقونة بضجيجها طفت في الطرقات سُلطة جديدة، تضاف إلى قائمة السُلطات الكثيرة في البلد، مثلتها سُلطة السرفيس والتكسي.
فالكثيرون اليوم لجؤوا إلى مهنة سائقي التكسي، بعد أن قضمت أنياب الحرب العديد من المهن، وأفرزت نسباً كبيرة من العاطلين عن العمل، مما دفع خليطاً هائلاً من كافة شرائح المجتمع للالتفاف حول هذا المقود.
وتكفي القفزات التي شهدتها عدادات التكسي لأن تقتني تكسي جديدة، بسبب الزيادات التي تراكمت خلال السنوات الثمانية الماضية، ففيما كنت تستطيع الذهاب إلى سوق الحميدية أو منطقة الحريقة وتوابعها بـ (35) ل.س قبل الحرب، اليوم يترتب عليك أن تدفع مبلغاً يتراوح بين (600-700) ل.س للمشوار الواحد، إن سوّلت لك نفسك اتخاذ قرارٍ بركوب التكسي، فعملة اليوم لم تعد لها قيمة في هذه البقاع.
في إحدى دوائر الدولة حيث الشعور باللاقيمة واللاعتبارية التي تقابل المراجعين هناك، قال لي أحدهم:” لقد خدمت في الدولة 20 عاماً كمهندس زراعي، وفي اللحظة التي طُلب مني فيها أن أخالف القانون بحفر آبار ارتوازية في دمشق، وذلك من قبل الأكبر مني نفوذاً، تخليت عن وظيفتي، واقتنيت سيارة أعيش فيها مرتاح البال، وأعود لبيتي لأنام نظيفاً” مضيفاً “صدقيني يا ابنتي، غيري سيفعلها، لقد عُرض علي مليونا ليرة سورية، الشام الآن في أحلك أيامها عطشاً والموافقة على هذه الآبار فيه ضرر كبير لها.” منهياً حديثنا بـقوله: “اتركي كل شيء خلفك، ولا تنتظري اصلاح الكون، نحن هنا محكومون، ولا خيار لنا إلا بيع أنفسنا اذا أردنا أن نبقى في هذه المؤسسات، وهذا ما دفعني لإدارة هذه المؤسسة (السيارة) كي أريح نفسي من كل قرفهم”.
ولكن في دمشق لا يمكن الاعتياد على هذه الوسيلة في تنقلاتك، وإن أجبرت على هذا الخيار فهناك خطوات عليك ترتيبها قبل رحلتك، أولها وجهة السائق، حيث تحددها لتتوافق مع وجهة السائق ثم أجرة الطريق والخلاف بينكما من حيث التسعيرة، حيث تعد المفاصلة أحد أهم الشروط المسبقة لعملية الركوب، إذ يمكن لبعض السائقين أن يرمي أسعاراً خيالية بين منطقتين تفصل بينهما بضعة أمتار لا أكثر. غالبية السائقين يتحكمون بالرُكاب في أوقات الذروة والازدحام المروري، حيث يجري ضمنياً اتفاق فيما بينهم على تسعيرة واحدة، ويجري تطبيق هذه المعاهدة دون أن يخل أحداً بشروطها. أكثر شواهدها حضوراً، اختزلته السنوات الأخيرة بمسمى “التكسي سرفيس” والتي أخذت على عاتقها تخفيف أزمة المواصلات ولكن بشروط السائقين، فجميعهم يمسكون بالخيط وإبرته، ويحيكون أسعار الطرقات وفقاً لمشيئتهم.
يصطف سرب من السيارات المتوجهة إلى جرمانا عند حافة جسر الرئيس، في البداية جرى الاتفاق على 300 ليرة، أصبحت لاحقاً 400 لتنتهي بـ 500، يلحق هذه التسعيرات العديد من المبررات المتعلقة بارتفاع سعر مادة البنزين، وغلاء القطع، حتى أنّ البعض قد يضاعف التسعيرة إلى عشرة أضعاف. وباتت هذه الديباجة مكررة حتى حفظها معظم أفراد الشعب عن ظهر قلب وبات يرددها على مسمع السائقين، إلى أن حلت أزمة الوقود وتمت إزالة بعض الحواجز من الطرقات، عندها واجه بعض الركاب سائقيهم بأنه لم يعد مبرراً لهم إبقاء السعر المرتفع على حاله، إلا أنهم وجدوا تبريرات جديدة كرشوة شرطي المرور حيث يتطلب حفاظ التكسي على مهنته استخدام رشاويٍ يُسكت بها شرطة المرور، إلى جانب الكثير من الأمور التي تجعل الراكب المُحتاج للتوصيلة يصمت ويصعد معه وهو ممتن. و تستطيع هذه “التكسي سرفيس” أن تخبرك عن الكثير من أحوال من يصعد بقربك، فهي كمساحة أصغر من السرفيس أو الباص وقلة عدد الركاب تخلق جواً من الألفة، ورغبة بالشكوى والتحدث مطولاً.
يبدو الجميع محتاجين لمن يتحدثون إليه بعد أن فقدوا قدرتهم على كبت كل هذه المآسي التي لم تعد محتملة، الشعور بالوحدة يترافق مع إدارك بأن كل من حولك يعيش الحال ذاته، مما يساعد على تحطيم الكثير من الحواجز بين الناس، فالكارثة وحدّت الآمهم، وبات الجميع يشعرون بأن الحزن والغضب حالة معممة، لهذا لم يعد مهماً ما يتم التفوه به اتجاه كل هذه الخسائر.
نادراً ما كنت أصمت عند المشاركة بحديث يشمل الحال العام، ولكن في واحدة من المرات التي كانت فيها وجهتي جديدة عرطوز، تشاركت عندها التكسي مع ثلاثة اشخاص، أحدهم يجلس في المقعد الأمامي يحمل موبايله منهاراً وهو يصرخ: “كيف حصل ذلك؟ لقد قلتم لي بأنه قد تجاوز مرحلة الخطر” قبل أن ترتجف أصابعه ويسقط الموبايل من يده، يتفوه ببضعة كلمات:” لقد كنت في حماة لم يعطوني إجازة منذ سنتين، هربت من هناك لأزور ولدي المريض بالسرطان، يالله طفل لا يتجاوز عمره الخامسة يأكله السرطان؟ لقد استدنت من صديقي أجرة القدوم إلى دمشق وعبرت كل هذه المسافة فقط لأراه”.
يسمع سائق التكسي العديد من الحكايات كهذي التي شهدتها، ويُعيد العديد منها على مسامع ركاب سيارته ببعض المبالغة أيضاً، وبإحساس ودقة تبدو جلية في مرآة عينيه أحياناً أخرى.
سائق أنيق تملأ رائحة عطره السيارة، يشيح بوجهه بعيداً ويشارك قصصه الخاصة عن زوجته التي تركته مع ثلاثة أولاد. “لقد تزوجتْ قريبة أحد أصدقائي الذين تطوعوا في الدفاع الوطني، وكانت أكبر منه سناً، لا أعلم لما فعلت ذلك، كنت زوجاً صالحاً، ولتعلمي أنا أعمل في مديرية الشؤون الاجتماعية صباحاً وسائق تكسي بعد الظهر، ولكني رزقت بزوجة ثانية بعد سنة من هجرها لي الحمد لله، هي حنونة تعتني بأولادي، أكبرهم سنة أولى جامعة”.
وفي تكسي أخرى كان ردُّ السائق عند مفاصلتي له أبلغ من أية نقود كنت سأدفعها: “نحن تركنا بيوتنا وأراضينا وقدمنا إلى دمشق لا نحمل شيئاً إلا رائحة دورنا وأهالينا، كان لي معمل في عربين وفيه عمال كثيرون لا علم لي اليوم أين أراضيهم يا ابنتي، فلتهدأي أرجوك لأني لن أتقاضى منك إلا المبلغ الذي تأتين به عادة”.
بين كل القصص اليومية التي أسمعها والأحاديث التي أخوضها في تكاسي البلد، لن أنسى ذاك الحوار مع أحد السائقين الذي كان الأكثر أهمية بالنسبة لي لما يحمله من تناقضات الواقع وبشاعته.
صعدت التكسي بتوتر فشكل السائق بذقنه الطويلة وشعره الحليق أثار قلقي، وعند وصولنا إلى أول حاجز بدأ بالسرد: “البارحة عدتُ من دير الزور، عدت من ساحات المعركة إلى ساحات مشابهة لها، فنحن في معسكراتنا نواجه حرب البقاء، عندما يصمت صوت المدفعية يعلو صوتٌ من الداخل يخبرك كيف كتب لك البقاء وهناك من قاتل وناطح التلال والصحاري إلا أن الموت قد كان سباقاً إليهم، لماذا هم ولست أنا؟ ومن له الأحقية في البقاء؟ بالرغم من أنّ الغد سيكون شبيهاً باليوم، وستذهبين لتخوضين المعركة من جديد ويمكن للوقت أن يلحقك بهم بعد ساعات قليلة. هذه الساعات المسالمة هنا كانت أثقل من كل ساعات القتال الذي انتهت بسرعة قياسية مقارنة بالزمن الذي ستجلسين به لتعددين كل خسائرك التي رحلت قبل دقائق من الآن، خسائرك الماضية”. مضيفاً “المرة الأخيرة التي سمعت فيها صوت الفتاة التي كنت أرتاح لها كانت قبل اتصال العقيد المسؤول عني ليخبرني بأمر الالتحاق بقطعتي التي ستقاتل في دير الزور، كانت تتصل بي لتتلمس تعلقي بها، تطلب مني أن أطمأنها بكلمة عن مصير علاقتنا وعن تمسكي بها، عن طلبي منها بأن تنتظرني حتى الأبد… إلا أنها الآن متزوجة. فلقد أنهيت المحادثة بطلبي منها أن تكمل حياتها بشكل طبيعي وألا توقف حياتها عند شخص مجهول الطريق والإحداثيات، إن جاء أحدهم إليك راغباً فتزوجيه قلت لها وفعلت.”
في ساعات الذروة يفاصل أحد الركاب كالعادة السائق الصعود في سيارته فيرد عليه: “الطريق هو الحاكم”. يتشاركان حديثاً طويلاً يبدأ بأنّ هذه المهنة صعبة وخطرة لننتهي بأنه من دير الزور، وعندما يتلمس السائق حنيناً من الراكب يسأل “زرتها؟” ويدور الحديث التالي
نعم أثناء مواسم التنقيب الأثري هناك
الله يرحم، لم يعد هناك تنقيب ولا صخام
الكون بجله اشترك بهذه الجريمة ولكن المهربين الحقيرين هم الأسوأ
يغضب ويدير رأسه نحوي قائلاً: “من هم الحقيرين؟ أتعلمين لو أنه يقع بين يدي تحفة لما توانيت ثانية عن بيعها.” أجيبه فوراً: “إنه تاريخ البلد وفيه هويتنا وتراثنا”. يردف قائلاً “عندك ولاد؟” أجبته “لا،” فتابع قائلاً “عندما يطلب ابنك منك جاكيت أو حذاء ولا تملكين سعره ستلعنين أبو التاريخ وأبو البلد، أنا أمّي لكني أعي تماماً ما تقولينه ولكن أولادنا أهم من كل هذا، فكي عني (أي حلّي عني.)!”
في الأيام القليلة الماضية والتي عانينا فيها من موجة الصقيع والبرد صعدت فيها مع شابٍ في مقتبل العمر، يدور حديث بيننا عن المازوت والكهرباء والاتفاقات التي بقيت قائمة حتى مع الدول الأعداء في خصوصهما، يقول بحسرة: ” إني نادم أشد الندم كوني رفضت مرافقة أخي في الوقت الذي سافر فيه، الآن لا أفعل شيئاً سوى إيجاد طريقة هرب وبأسرع وقت ممكن، لو يمكنهم سرقة الهواء الذي نتنفسه لما قصروا ولكنه هواء ملوث طافح بالبشاعة لا يمكن لأحد شراءه.”
إضافة لحكايات الألفة ينعكس غياب الأمان والحوادث على علاقة السائقين بركابهم أيضاً، حيث شهدت السنوات الأخيرة تعرّض الكثير من سائقي التكسي للقتل والنهب، كما اختطف العديد من السائقين مع سياراتهم وتم قتلهم أو اعتقالهم،في الوقت نفسه ملأ الرعب قلوب الراكبين بسبب جهلهم بمن يقود سيارتهم وقلقهم من خطورة الطرقات التي بات يسكنها الرعب والخوف، خوفٌ بات يسكن طرفي العلاقة شأنها شأن بلد كامل بات فيه الجميع يخشى من الجميع.
بواسطة Sawsan Zakzak | فبراير 18, 2019 | Cost of War, غير مصنف
تؤكد السنة الثامنة للصراع في سوريا مع نهايتها أن لا حلاً عسكرياً لهذا الصراع، فرغم التحولات الميدانية الكبيرة بين المساحات التي تسيطر عليها قوات النظام والقوى المناهضة له، إلا أن الواقع الفعلي ما زال حافلاً بالكثير من القنابل الموقوتة، التي لا يستطيع أي طرف التحكم بها فهي مرهونة فقط بالتطورات السياسية والعسكرية.
فعلى سبيل المثال، راهنت تركيا والدول الضامنة على إمكانية قضاء القوى العسكرية غير المصنفة إرهابية على “النصرة” وحلفائها، وذلك من خلال الاقتتال الداخلي في إدلب ومحيطها، لكن تطورات المعارك الأخيرة فاجأتهم بأن الغلبة كانت للنصرة، واستناداً لتجارب التعامل السابقة مع “القاعدة” ومن يشبهها يبدو واضحاً أن من يخلق الغول أو يرعاه غير قادر على التحكم به.
أما “داعش” فما تزال تحتفظ بالكثير من “الخلايا النائمة” مع بقاء مقومات وجودها، وما تزال المعركة مع “بقاياها” تخلط الأوراق السياسية وتقلب التحالفات الدولية، فها هي تركيا تبحث عن تنسيق روسي-تركي-إيراني أكبر على حساب تحالفاتها السابقة مع أمريكا.
ومن جهة أخرى لا يستطيع النظام (كمنظومة حوكمية متكاملة) الآن، لأسباب ذاتية وموضوعية، استعادة جميع الأراضي السورية، وفي الوقت نفسه ينتظر مؤيدوه منه أن يقوم باستحقاقات كبيرة بأسرع وقت، وذلك بعد أن انتشر “وهم الانتصار” الذي روج له النظام نفسه. فمن تلبية الاحتياجات الأساسية للمعيشة (كالكهرباء، والغاز، والصحة، والتعليم ..) إلى محاربة الفساد وصولا إلى إعادة الإعمار، كلها قضايا لا تحتمل التأجيل، خاصة مع حالة الاحتقان الموجودة في الشارع السوري بسبب التجاذبات السياسية والاجتماعية المتداخلة، والتي دللت عليها المواقف المتشنجة التي ظهرت خلال مناقشات قضية مرسوم وزارة الأوقاف، وقضية الأطفال فاقدي الآباء.
إذا، ماتزال الأزمة السورية قائمة وإن بأشكال مختلفة عن السابق، وبميزان قوى جديد غير قادر على الحسم، ولكنه من المحتمل أن يسمح بانطلاق عملية تفاوضية جديدة، تقوم على اقتناع وطني وإقليمي ودولي بأن استمرار الحال على ما هو عليه أمر مستحيل، خاصة أن الواقع الجيوسياسي لسوريا يفرض تحركا دائما للمرجل السوري، وغالبا ما يكون بأيد غير سورية. فماذا لو تابع الإسرائيليون الحديث عن مصير الجولان السوري المحتل، مستفيدين من الضعف السوري، ومن وجود إدارة أمريكية بعيدة عن المنطق السياسي وقادرة على أن تلحق ملف الجولان بما تسميه بـ”صفقة القرن”؟!
وربما يبدو للبعض أن هذا المستوى من الاقتناع الوطني والإقليمي غير موجود حتى الآن، إلا أن هندسة العملية التفاوضية يمكن أن تقوم على فرضية أن الجميع سيكونون رابحين فيما لو بدأت هذه العملية الآن، وأن هذه العملية لن تكون زلزالا على أحد، بل يمكن البدء بها بإجراءات بسيطة من كل طرف، ستشكل تراكماً نوعياً يمكنه أن يحدث فرقاً في الصورة الكلية لهذا النزاع القاتل، مع مراعاة تنوع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في سوريا.
على سبيل المثال، هل يمكن استغلال هذه اللحظات التراجيدية من حياة عشرات آلاف اللاجئات واللاجئين السوريين الرازحين تحت رحمة العواصف الثلجية للتوجه إلى كل المعنيين بمجموعة طلبات؟
من النظام السوري:
- إصدار مرسوم عفو عام عن جميع من هم خارج البلد، مع البدء باللاجئين/ات في لبنان.
- إصدار مرسوم بتأجيل إداري لمدة عام واحد لجميع الشباب المطلوبين للخدمة الإجبارية.
- افتتاح مراكز إيواء داخل سوريا بأقصى سرعة حتى يعود اللاجئون واللاجئات الذين يعيشون في ظروف قاسية وهم مطمئنون/ات.
- تهيئة المراكز الحدودية باللوجستيات المطلوبة لتسهيل عودة اللاجئين واللاجئات.
- منح أبناء السوريات المتزوجات من غير سوريين إقامة دائمة ريثما يصدر تعديل لقانون الجنسية السوري بما يمنح المرأة السورية الحق في منح جنسيتها لأطفالها.
- البدء بطرح قوانين جديدة لحرية التجمع وفقا للشروط الحداثية.
من جامعة الدول العربية:
- تحويل أجندة اجتماع القمة الاقتصادية الاجتماعية إلى أجندة عملية لإعادة إعمار سوريا.
- الدعوة إلى مؤتمر وطني سوري في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة يشارك فيه ممثلون/ات عن جميع السوريات والسوريين، بمن فيهم ممثلون/ات عن مجلس سوريا الديمقراطي، وممثلون/ات عن الدول المعنية بالقضية السورية، والمبعوث الخاص إلى سوريا وبعثته وممثلون/ات عن الاتحاد الأوروبي؛
- الإعلان في هذا المؤتمر عن تشكيل اللجنة الدستورية وفق تصور الأمم المتحدة (50 نظام و50 معارضة و50 مستقلون وممثلو وممثلات المجتمع المدني).
- إنشاء صندوق مالي لإعادة إعمار سوريا تتشارك في إدارته جامعة الدول العربية والحكومة السورية وممثلون/ات عن المعارضة وممثلون/ات عن المجتمع المدني.
من الاتحاد الأوروبي:
- الإعلان بشكل واضح عن ان أهداف الاتحاد الأوروبي تتمثل بدعم الشعب السوري حيثما كان بدلا من دعم المعارضة أو دعم النظام.
- البدء بحوار، كاتحاد أوروبي وليس كدول مختلفة، مع النظام السوري من أجل “انفراج ديمقراطي” في سوريا، بحيث يتضمن البرنامج خطوات مطلوبة من النظام السوري (مثلا الكشف عن مصير المعتقلات والمعتقلين والمختفين/ات قسرا) مقابل خطوات تشجيعية من الاتحاد الأوروبي.
- الربط بين مجتمعات اللجوء في أوروبا، خاصة من ذوي وذوات الكفاءات، وبين عملية إعادة الإعمار في سوريا
من الدول صاحبة العلاقة:
- عقد مؤتمر برئاسة الأمين العام للأمم المتحدة وبدور فاعل للمبعوث الخاص إلى سورية لكل الدول التي لها قوى عسكرية على الأرض السورية.
- رسم خريطة لتقاطع المصالح بين هذه الدول من جهة ومصالح الشعب السوري من جهة ثانية.
- الاتفاق على جدول زمني لوقف النزاع المسلح وتحقيق الانتقال الديمقراطي في سوريا.
قد يعتقد الكثيرون أن الوقت ما زال مبكراً على مثل هذه الأفكار، إلا أن الوقت سيبقى مناسباً دائما لطرح أفكار ترمي إلى الوقوف بوجه موت ما يزال يهدد حيوات الكثير من السوريات والسوريين، خاصة أن المستقبل ما زال مفتوحا على الكثير من المفاجآت، العديد منها قد يخيب ظن الكثيرين.
بواسطة Ward Maamar | فبراير 13, 2019 | Cost of War, غير مصنف
لم يوفر المسؤولون في الحكومة السورية جهداً لتمرير مشاريع وقوانين تساعدهم بالاتجار بقوت المواطنين، رغم ما يعيشونه من آثار الحرب ودمار للبنى التحتية ووضعاً اقتصادياً متردياً.
أما أحدث تلك المشاريع المبتكرة فهو “البطاقة الذكية”، التي تنفذها شركة “تكامل” الخاصة، وعبرها تستطيع الأسرة السورية الحصول على حاجاتها من المشتقات النفطية “مازوت- بنزين وقريبا الغاز”، إلا أن هذه البطاقة تحتاج لإثبات بطاقة شخصية للإصدار في الوقت الذي فقد فيه آلاف السوريين أوراقهم الثبوتية بسبب الحرب والنزوح، الأمر الذي جعلهم يواجهون صعوبة كبيرة في إصدار هذه “البطاقة الذكية”.
ومنذ الأيام الأولى لتطبيق هذا المشروع بدا أنه يسير نحو الفشل، البعض وصف المشروع على وسائل التواصل الاجتماعي بأنه “ميت قبل ولادته”، خاصة في ظل افتقار سوريا للتجهيزات التي تسهل عمليات إطلاق مشروع البطاقة الذكية.
في الأيام الأولى لاستصدار البطاقة الذكية في دمشق توجه أهالي المدينة إلى مراكز شركة “تكامل” للتسجيل على البطاقة ليتمكنوا من الحصول على الخدمات بالسعر المدعوم حكومياً وعليه شهدت المراكز المستحدثة لأجل هذا الغرض ازدحاماً كبيراً.
يقول وسيم الذي حاول التقديم عليها “قطعت مسافة طويلة من جرمانا إلى مركز المدينة لإصدار بطاقة ذكية، لكن اكتشفت حجم الغباء حينما وجهتني المسؤولة هناك لانتظار ساعات طويلة حتى تأخذ بياناتي، لكنني لم أتمكن من الانتظار لارتباطي بعمل خاص، وعندما توجهت لإحدى محطات الوقود لتعبئة سيارتي بالبنزين، أخبرني العامل بالمحطة بأن عدم امتلاكي للبطاقة سيضطرني لشراء البنزين بسعر أعلى من السعر المحدد من قبل الدولة”، ويتابع وسيم قائلاً “هنا أيقنت أن مخصصات البطاقة الذكية لن تكون كافية لحجم استهلاكي الشهري من البنزين، وبالتالي فإن هذه الآلية هي تشريع لرفع سعر لتر البنزين بمعرفة الحكومة، بحجة أن البطاقة الذكية محددة بسقف مخصصات يتناسب مع نوع الآلية التي يستخدمها كل فرد”.
وفي أحد مراكز الانتظار كان أسامة ينتظر دوره ليسجل على البطاقة بعد أن فشل سابقاً بالحصول عليها نتيجة الازدحام الكبير من المتقدمين، إلا أن لم يستطع أن ينتظر أكثر لتقل أعدادهم فالبحث عن المازوت والبنزين والغاز بالسوق السوداء أصبح هماً إضافياً، يقول أسامة: “في ظل وجود تجار الأزمات لن تنفع البطاقة الذكية في تأمين مستلزمات المواطن، لأن من صممها لم يضع في حسبانه آلية الحصول عليها بطريقة تحفظ كرامة المواطن وحقه بالحصول على أدنى متطلبات العيش”.
ولا يختلف حال أهالي العاصمة ومعاناتهم في الحصول على البطاقة الذكية عن حال أهالي بقية المدن، تقول ميادة المقيمة في مدينة حمص “من غير المنطقي تطبيق هذا المشروع في ظل عدم توفر المواد من بنزين ومازوت وغاز، فموارد البلد أصبحت شحيحة جداً” متسائلة “ما الفائدة من امتلاك بطاقة، رصيدها صفر؟!”.
وترى ميادة بأنه من الصعب الوثوق بمشاريع الحكومة وخططها المستقبلية، مازال العديد من السوريين ينتظرون حافلة تقلهم إلى أعمالهم أو تعيدهم إلى منازلهم، ويقف آخرون أمام الأفران بانتظار الحصول على ربطة خبز، وأمام مستودعات الغاز للحصول على جرة غاز وصل سعرها إلى حوالي 8000 ليرة سورية بالسوق السوداء.
المشهد ذاته يتكرر الآن أمام محطات الوقود، حيث يتجمع المئات لتعبئة خزاناتهم بالمازوت، وبلغ سعر لتر المازوت الحر 350 ليرة سورية.
من جهته يقول فداء “اعتدنا خلال سنوات الحرب على أزمات الغاز والبنزين والمازوت، وكنا على يقين أننا نعيش حرباً قاسية، لكننا تفاءلنا في مطلع العام الماضي 2018 بتصريحات المسؤولين الذين منحونا وعوداً كاذبة ووهمية بأن الوضع المعيشي سيتحسن، وكان مشروع البطاقة الذكية بارقة أمل على هذا التحسن، لكن اكتشفت من خلال تجربتي بأن هذه البطاقة تساعد على السرقة أكثر وبطريقة علنية”، ويروي فداء تجربته الشخصية عندما ذهب لملئ خزان سيارته بالوقود قائلاً “أكتشف تلاعب الكازية بالكمية التي حصلت عليها دون رقيب أو حسيب وبطريقة ذكية، حيث طلبت تعبئة (8)ليتر بنزين من محطة وقود بطرطوس بموجب البطاقة الذكية فوصلت رسالة بأن الكمية المعبأة هي (50)ليتراً”.
التكنلوجيا السورية
تأخر دخول الإنترنت إلى سوريا قياساً بغيرها من الدول، وحتى عام 1999 لم يكن يسمح للسوريين بالاشتراك بالإنترنت، غير أن بعض مؤسسات الدولة كان لها اتصال بالإنترنت منذ عام 1997، وكان من أهم أعمالها على الإنترنت تدريب الكوادر التقنية على مراقبة واكتشاف وحجب المواقع غير المرغوبة والتي تتعارض مع سياسة الحكومة، واستمر استخدام الإنترنت لغاية مطلع عام 2000 مقتصراً على بعض المؤسسات.
ورغم تأخر سوريا عالمياً عن دخول عصر التقنية والتكنولوجيا، إلا أن ذلك لم يمنعها من السعي لإدخال وسائل تقنية تواكب تطورات العصر الراهن، لكن التوجه الأخير للدولة لإنشاء حكومة الكترونية واستخدام التقنيات الحديثة، جعل السوريين يتذمرون من سوء تنفيذ كل ما أدخلته من تقنيات عصرية هدفها خدمة السوريين.
البداية كانت عبر إدخال فكرة الصرافات الآلية لتسليم الرواتب للمواطنين عوضاً عما كان يعرف بالمحاسب أو ” المعتمد المالي”، ومنذ ذلك الحين والمواطن السوري يعيش معاناة دائمة نهاية كل شهر لاستلام راتبه الذي لا يتجاوز الـ 60 دولاراً، والسبب لايتعلق بقيمة الراتب، وإنما بالأعطال الدائمة والمتكررة للصرافات الآلية، ورغم الانتقادات الدائمة لعمل هذه الصرافات، إلا أن معضلة إصلاح أعطالها لم تحل ـوالحجة “العقوبات الاقتصادية تمنع استيراد قطع لإعادة تأهيل وصيانة الصرافات”.
إلا أن فشل الحكومة في حل هذه المعضلة، لم يمنعها من ابتكار وسائل رفاهية لخدمة المواطن، حيث بدأت الحكومة خلال السنوات الماضية فكرة “مركز خدمة المواطن” وهدفه توفير الجهد والوقت على المواطن في حال رغب بإصدار أوراق ثبوتية للالتحاق بعمل أو خدمة عسكرية أو سفر وغير ذلك، ورغم أهمية هذا المركز إلا أن انقطاع الشبكة العنكبوتية الدائم جعل الانتظار “سيد الموقف” في غالبية الأحيان، عدا عن مظاهر الفساد التي وجدت طريقها في الشبكة العنكبوتية من خلال إصدار أوراق ثبوتية بشكل مخالف للقانون أو تبعاً للمحسوبيات والواسطة، وتلقي الرشاوى لتعجيل إصدار الأوراق.
ورغم هذا الفشل، ما تزال الحكومة مصرة على الاستمرار بتجربة التقنيات الحديثة والمعاصرة متجاهلة جميع الشكاوى والانتقادات التي تواجهها عقب كل اختراع تدخله إلى حياة المواطنين.
بواسطة سلوى زكزك | فبراير 6, 2019 | Cost of War, Reports, غير مصنف
يسهب السوريون في وصف حالات الانتحار لا في ذكرها فحسب، شنق نفسه، تناولت علبة حبوب كاملة ، توقف قلبها بعدما شربت سم الفئران، قطع أوردة يده، أطلق رصاصة على حبيبته ثم أطلق الطلقة الثانية على رأسه في توصيف لحالة قتل متبوعة بعملية انتحار لحبيب تركته حبيبته فقتلها وانتحر!
وأثارت حادثة انتحار امرأة سورية في مخيم الركبان على الحدود الأردنية، ضجة كبيرة في الأوساط السورية الشعبية وفي الإعلام وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي.
وكانت الأم ذات الثمانية والعشرين عاما أضرمت النار في خيمتها بسبب الجوع، وعجزها عن تأمين لقمة طعام لأبنائها الثلاثة لثلاثة أيام متتالية، حيث احترقت خيمتها بالكامل وتم نقلها إلى المشفى مع ابنها الرضيع وهما بحالة حرجة، كما أصيب ولداها الآخران بحروق أيضا لكن وضعهما الصحي مستقر.
العديد من الحوادث الأخرى عرفت طريقها لأحاديث السوريين اليومية، مصورة وغير معلنة، كفيديو من حماة يظهر فيه رجل في حوالي العقد السادس من عمره وقد تناول عددا غير معروف من الحبوب الدوائية، وهو يحاول رمي نفسه في نهر العاصي، وفيديو لشابين من السويداء يودعان رفاقهما وأصدقاءهما قبل أن يتوجها إلى حديقة “الفيحاء” ليفجرا نفسيهما بقنبلة يدوية.
وفي فيديو آخر تظهر امرأة متزوجة تهرب من تهديد زوجا بقتلها، وتعمد لرمي نفسها من نافذة الطابق الثالث في أحد أحياء مدينة حلب، لتقضي على الفور فيما بقي زوجها طليقا، أما ما يقال في حق الزوجة فهما روايتان: هي تستحق القتل فعلا وإلا لما قامت بالهرب منه أصلا أو لما تجرأ زوجها على تهديدها بالقتل علنا، أو سيقولون إنها غبية، هدرت حياتها مجانا بسقطتها تلك و بالتالي خسارة حياتها مسؤوليتها وحدها.
وعادة يرافق محاولات الانتحار حالة من التكتم الشديد تصل للإنكار من قبل ذوي المنتحر، لكن الآن تغير الأمر، فلم يعد العدد الكبير هو وجه التميز الوحيد، بل الاستعداد الطوعي -وأحيانا دون تردد- بعرض تجربة الانتحار من قبل الشخص نفسه، تقول س وهي طبيبة مشهورة، بأنها فكرت بالانتحار بصورة جدية لأربع مرات متتالية، لكنها لم تقدم عليه حفاظاً على مشاعر عائلتها وخاصة أبنائها، لكن لماذا؟ خاصة كطبيبة ناجحة ومعروفة.
يُرجع عدد من الأطباء النفسانيين والأخصائيين الاجتماعين انتشار حالات الانتحار إلى تردي الثقة بالنفس وبالغد، وإلى نتائج الصدمات المتتالية على البنية النفسية للسوريين الذين عانوا من أهوال النزاع المسلح ومن الفقر والتشرد والتهجير من بيوتهم ومناطقهم وفقدان الممتلكات و العمل، إضافة لإنفاق كافة المدخرات -إن توفرت- وتضاؤل القيمة الشرائية لليرة في مواجهة ارتفاع حاد في سعر الدولار، وبالتالي في سعر المواد الأساسية واللازمة لتأمين الحد الأدنى من البقاء وخاصة الأدوية والمواد الغذائية وبدل إيجارات المساكن البديلة. هذا عدا عن الصدمات المتتالية الناجمة عن فقد الأحبة وخاصة أفراد العائلة وخسارة المعيلين اقتصاديا أو تغييبهم، وجهل حقيقة أوضاع المفقودين وإن كانوا أحياء أو ميتين.
كما يربط العديد من الاختصاصيين في الطب النفسي والعلاج السلوكي بين ارتفاع حالات الانتحار وتناول الأدوية المهدئة والأدوية المضادة للاكتئاب وحبوب المنومات، والتي يشهد استعمالها تزايدا غير مسبوق وغير منضبط.
وتشهد العديد من المناطق السورية حالات بيع لهذه الأدوية دونما وصفة طبية مبنية على تشخيص طبي مختص، وبهذا يعاني متعاطوها من آثارها الجانبية بالغة الخطورة أهمها التعود والتسبب بهشاشة الجهاز العصبي وبالتالي عدم القدرة على ضبط النفس والسيطرة على ردود الفعل والانفعالات العصبية والنفسية التي تتأزم جراء ضغط ما، أو لغياب المادة الدوائية تلك لأسباب عديدة قد يكون الفقر أهمها، هذا عدا عن الأعراض الجانبية التي تنشأ كرد فعل كيميائي في الجسم جراء استخدام الأدوية المضادة للاكتئاب، خاصة ما قد تتسبب بتعزيز الميل للانتحار الذي يكاد أن يكون بنيويا في حالات بعض المرضى. وجراء تزايد تعاطي كل هذه الأنواع من الأدوية، بات من الطبيعي أن تجد شابا مرميا على طرف الطريق وهو شبه مشلول الحركة، ساكن وخامد ، لا يتفاعل مع المحيط الخارجي، يحدق في المارة بحدقة جامدة في محجر العين أو متوسعة بشدة ، أو أن تجد مريضا يكلم نفسه أو يثور غضبا ولا يهدأ إلا بعد ضرب أحدهم أو كسر شيء ما، لينخرط بعدها في نوبة بكاء مريرة تحرق القلوب وتضاعف حجم الخسارات.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن عدد الأطباء النفسانيين الباقين في سوريا قليل جدا، ويقدر البعض أن النسبة قد تصل لتكون طبيباً واحداً لكل مائة ألف شخص، وهو ما يصعب التحقق منه.
ويمكن ملاحظة أن السمة العامة لحالات الانتحار هو تأكيدها من قبل الكثيرين، وإن لم تذكر رسميا، أو تسجل في إحصائيات منهجية لزوم الدراسة التحليلية والكمية للوصول للعدد الحقيقي والأسباب المباشرة وغير المباشرة.
ولا يتردد السوريون في رواية سرديات الانتحار السوري، الأخطر أنهم يعتبرونها نتاجاً طبيعياً للحرب، وماذا لو كانت فعلا كذلك؟ أين الرقم الحقيقي ؟ وأين وسائل الحماية ؟ ومن ينصف الضحايا؟ من ينصف ذويهم من تهمة الجنون أو العقوق أو الخروج عن الأعراف، أو الضعف البشري أو العجز؟ ويمنع توسع قوائم السرد بأسماء جديدة تتحول لمجرد أرقام وقصص مكررة بشفهية غير مجدية، تُتبع أحيانا بعبارة “يا حرام” ! أو “عجهنم فورا” ، كونه خالف أمر الله وهدر حياة لا يملكها هو أساسا.
بواسطة Safi Khattar | يناير 31, 2019 | Cost of War, Reports, غير مصنف
أدى إعلان الحكومة السورية عن مرسوم العفو رقم ١٨ والمتعلق بالمتخلفين عن خدمة العلم الصادر بتاريخ 9/10/2018، لانتشار شائعات في الشارع السوري حول تضمنه لبند شطب أسماء كل من استدعي للاحتياط ولم يلتحق، إضافة لإلغاء كافة قوائم الاحتياط الصادرة سابقاً. وبقيت هذه الإشاعات بين نفيٍ وتأكيد، إلى أن صدر تعميم يُنهي الجدل، ويؤكد شطب كافة دعوات الاحتياط السابقة وإيقاف الدعوات الجديدة.
وتقدر أعداد المطلوبين للخدمة الاحتياطية فقط بنحو 800 ألف مطلوب، إلا أن جهات غير حكومية تقول أنّ الأعداد تفوق ذلك بكثير.

صورة (١) عن التعميم الصادر لشطب كافة الاحتياطيين نقلاً عن صفحة الإعلامي رضا الباشا
أثار هذا التصريح الرسمي ارتياحاً بين العديد من السوريين المتأثرين بخدمة العلم، وبدا لهم وكأنه إذعانٌ ببداية مرحلة ما بعد الحرب، إلا أنّ الشكوك بقيت تساور الكثيرين حول مصداقية العفو، وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصات للأخبار المتضاربة، ولتداول تجارب الأشخاص المتأثرين بالقرار، فمنهم من كان يؤكد أنه تنقل بحرية دون أن توفقه الحواجز بعد أن كان يخشى الاقتراب منها، ونقل تأكيدات من شعبة التجنيد بصحة العفو وشطب الأسماء. في حين وردت في المقابل العديد من التعليقات من أشخاص نفوا كل ذلك، مؤكدين أن لا شيء تغير على أرض الواقع، ومازالت الحواجز الأمنية توقف الشباب وتسوقهم للخدمة الإلزامية.
في الفترة نفسها، انتقلت معركة التصريحات والتحليلات إلى القنوات الإعلامية، سواءٌ المحسوبة على النظام أو المعارضة، فبُثّت تقارير وندوات على قنوات معارضة كالأورينت وتلفزيون سوريا حول الموضوع مشيرة إلى أنه عبارة عن فخ تستخدمه السلطة للإيقاع بالشباب وخداعهم بغية أخذهم للجيش، وبأنّ النظام لا يمكن أن يؤتمن، ولا يمكن الوثوق بما يصدر عنه، مستشهدين بما يجري في مناطق المصالحات، والتي كان بند التجنيد وخدمة الشباب من الملفات التي تم الاتفاق والتفاوض عليها مسبقا، إلا أن الاعتقالات والمداهمات استمرت، وذهبت الوعود السابقة أدراج الريح.
في الطرف الآخر، أجرت القنوات الرسمية وشبه الرسمية ندواتٍ حول الموضوع، كالحوار الذي أجرته قناة دمشق الآن مع مدير شعبة التجنيد العامة وقاضي الفرد لتوضيح شطب الاحتياط، حيث أوضح المشاركون بنود العفو وأكدوا “إلغاء الدعوات السابقة”، دون إسقاط “واجب أداء الخدمة الاحتياطية”، مشيرين إلى أنّ البلد اليوم تعيش “آخر انتصاراتها”.
ولم تفلح كل التأكيدات المعلنة والرسمية في تبديد حالة الشك والخوف وعدم الثقة بالقرارات والتعميمات الحكومية، فبعد أن تصاعدت الآمال والأحلام بحياة جديدة، وملأت التهاني صفحات وبيوت الشباب الذين سيشملهم العفو، والذين قضت الحرب على أهم سنوات عمرهم في ظل واقع معيشي كارثي على الجميع، عاد كابوس الخدمة ليطاردهم من جديد. فما هي إلا أيام قليلة لا تتجاوز العشرة حتى تفاجأ الجميع بعودة طلبات الاحتياط جميعها، لتقوَض القرارات السابقة الصادرة، دون أن يكون هناك أي تصريح رسمي من الحكومة حول ذلك.
عمار شاب في الخامسة والثلاثين من عمره، اضطر في السنوات السابقة للعمل في الورشات وأعمال البناء رغم توفر فرص للعمل له في البرازيل حيث يقيم أقاربه، إلا انه لم يستطع السفر بحكم كونه متخلفاً عن الخدمة الاحتياطية، وما أن صدر قرار العفو حتى ذهب عمار لتجديد جواز سفره والمباشرة بإجراءات السفر، يروي عمار ما حدث معه: “كنت من أكثر المشككين بالعفو وبقيت حتى اللحظة الأخيرة وأنا غير مصدق، وأكثر ما أثار قلقي وخوفي أن تتعرقل أوراقي وأفقد حماسي ولهفتي للسفر، ذهبت لدائرة الهجرة و كان الازدحام غير مسبوق، وكأنّ الجميع يرغب بمغادرة البلد على وجه السرعة، أعطوني موعداً لاستلام جواز السفر بعد أسبوع بعد أن أنهيت تقديم جميع الأوراق المطلوبة. ومن ضمنها كفالة مالية لإذن السفر تقدر بخمسين ألف ليرة، عدا عن باقي التكاليف بحيث يقدر مجموعها بسبعين ألف ليرة. وأخيراً تواصلت مع أقاربي وأخبرتهم أنني قادم، وبدأنا نتصور كيف ستكون الأمور في البرازيل، عشت ما يشبه الأحلام وأحسست بنفسي وكأنني أودع المكان هنا وبأنني قد أصبحت هناك فعلاً”.
إلا أن فرحة عمار لم تطل، فبعد أسبوع فقط سمع خبر عودة طلبات الإحتياط، وعن هذا يقول “في البداية لم أصدق أو بالأحرى لم أود أن أصدق، استلمت الجواز ولكن موظف الهجرة أخبرني بأنه لم يعد ينفعني بشيء. وبأنني لن أستطيع مغادرة البلد وحتى الكفالة المالية لا يمكنني استرجاعها، وقال لي ساخراً بنبرة لا تخلو من شماتة: عندما تنتهي من الخدمة تعود إليك الكفالة، الدولة لا يضيع عندها شيء.” يعاني عمار اليوم من اضطرابات نفسية عنيفة، أدت به إلى الانعزال عن محيطه بعد أن خسر “ترف الحلم بغد أفضل وسدّت كل الطرق في وجهه” بحسب تعبيره.
العديد من الشبان يعانون يومياً كما عمار من التحديات التي تفرضها قرارات كهذه، سواءٌ من ناحية حرية التنقل والحركة والعمل أو من ناحية الإحباطات الكبيرة، والانكسارات النفسية التي أصابتهم بعدما تأملوا بتغيير واقعهم وحياتهم.
ولم يصدر أي تصريح أو توضيح من أي جهة حكومية لما جرى بل بالعكس قوبلت كل الأصوات المطالبة بالتفسير بتجاهلٍ كامل، وزاد عليها توسيع طلبات الاحتياط إلى فئات عمرية تعتبر خارج نطاق السن القانوني المحدد للخدمة.
خرجت العديد من التفسيرات لما جرى، إلا أنها بقيت في دائرة التحليل والتكهن، يعتبر مثلاً محمود (40عاماً) وهو صاحب محل لبيع الملابس “بأن المرسوم ثم القرار، فخ نصبته الحكومة للإيقاع بالمطلوبين، وخصوصاً أن قسماً ليس بالقليل منهم كانوا خارج البلد في دول الجوار (لبنان بالأخص)”، ويتوقع محمود ” بأنّ قرار العفو صدر لإعفاء فئة محددة من أبناء المسؤولين والأغنياء، وتسهيل خروجهم بشكل رسمي وقانوني من البلد. “
بينما يرى أيمن (55سنة) مدرس لغة عربية بأنّ ما جرى “عبارة عن تصارع تيارين نقيضين داخل الحكومة نفسها، فصدور العفو وشطب أسماء الاحتياط جاء نتيجة الضغوطات الخارجية الكبيرة على الحكومة السورية لسنّ قوانين جديدة بخصوص أكثر من ملف، وعلى رأسها ملف الخدمة والمتخلفين عنها، إلا أنّ ما يحدث على أرض الواقع نقيض لذلك تماماً، ويتم وفقاً لتعليمات غير رسمية بحيث يبقى العفو حبراً على ورق، فمسألة الخدمة بالجيش لا يمكن أن تفرّط بها الحكومة بهذه السهولة، وخصوصا أن الحرب في سوريا لا تزال قائمة رغم اختلافها عما مضى.”
ليوسف وهو صحفي (45 سنة ) رأيٌ آخر، حيث يرى بأنّ القرار كان خاطئاً منذ البداية وأنّ الحكومة تراجعت عنه وإن لم يكن بشكل رسمي، ويوضح يوسف “الانتقادات الشديدة وحالة الاستياء التي عمت داخل المؤسسة العسكرية كانت غير مسبوقة، وكادت أن تشكل أزمة حقيقية في صفوف الجيش، الأمر الذي دفع الحكومة للتراجع الفوري عن القرار، فإعفاء المتخلفين عن الاحتياط ليس عادلاً في ظل بقاء الجنود في الجيش دون تسريح، وأغلبهم لديه خدمة طويلة قد تتجاوز سبع سنوات، فكيف يكون العفو عمن لم يلتحق ونسيان الموجودين داخل الجيش، وهم الأولى بالتسريح أولاً!”.
وبالفعل فقد انتشرت كثير من الدعوات، وأنشئت أيضا صفحات على الفيس بوك للمطالبة بالتسريح الفوري للمجندين أو بإلغاء القرار، كونه غير عادل ومجحقفاً بحق من لايزال في الخدمة.
و بين مرحبٍ ورافضٍ للقرار، يبقى موضوع الخدمة والقرارات المتناقضة حوله قضية مربكة تؤرق حياة السوريين وتتحكم بمصائرهم.