بواسطة سلوى زكزك | أغسطس 13, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
دمشق
يبدو تعبير “الأزمة” تبسيطاً ساذجاً للسمة العامة لأوضاع السوريين الذين عصفت بهم رياح الموت والتهجير والجوع. التبسيط هنا ليس تهمةً بالتحايل اللغوي وحسب، لكنه محاولة للإيحاء بأنّ كل شيء سيكون بخير، وأول الخير يكمن في تحسّن الحالة المعيشية عند توقف القوة النارية.
إنّ التداخل ما بين الهوية العملية للسوريين خلق توازناً اقتصادياً ردم نوعاً ما الهوة ما بين الاحتياج والضرورة، وما بين المتوفر وعملية تأمين الوفرة الغذائية بشكلٍ كاف، فغالبية الموظفين في المدن يملكون أراضٍ زراعية في قراهم، وفي الواقع لم ينقطع الموظفون يوماً عن العمل في أراضيهم، بل إنهم يلجؤون للاستفادة من إجازةٍ طويلةٍ خلال موسم قطاف الزيتون والتفاح مثلاً أو خلال موسم قطاف الجوز أو التوت الشامي أو البازلاء والفول.
إذاً هي هوية عملية مزدوجة: مزارع وموظف! وتعتبر المدينة مركز الإقامة بالنسبة للأغلبية لأنها مركز العمل الوظيفي ذي الدخل الثابت ومكان توفر التعليم الجامعي، وهي المكان الأوفر مادياً للعيش، خاصةً في الشتاء البارد جداً في المناطق الزراعية.
لكنّ حالة العنف الدموية وتهدّم البيوت والبنى التحتية والاحتراب الطائفي والمذهبي المعلن وغير المعلن جعلت القرية فجأةً ملاذاً آمناً للعودة وللسلامة الشخصية، إضافةً إلى تسهيلاتٍ استفاد منها الموظفون (البعض وليس الغالبية طبعاً) وهي إمكانية نقل مكان العمل مؤقتاً إلى مكانٍ جغرافيٍ قريبٍ من القرية.
سامية، سيدة أربعينية تعمل وزوجها في مدينة حمص ويملكون أرضاً واسعةً يزرعون التفاح فيها ويجنون مبالغ تكفيهم لتعويض النقص الناتج عن شح الأجور الشهرية للموظفين، لجأت وزوجها إلى القرية بعد شهرين فقط من اندلاع النزاع في حمص، لم يكن موسم قطاف التفاح قد بدأ وثمة أرض واسعة ملحقة ببيتهم، فكرت سامية فورا بزراعتها بالفول والبازلاء رغبة بتأمين المؤونة السنوية، لكن نجاح الموسم والمنتج الكبير دفعها لبيع ما يزيد عن حاجتها، وتوسع البيع حين زرعت الخضار الصيفية مثل الفاصولياء واللوبياء والباذنجان المخصص للمكدوس والفليفلة.
لا تفكر سامية بالعودة إلى حمص الآن! وتخطط لتطوير زراعتها بضمان مساحات صغيرة من الأرض تملكها قريباتها الرافضات لفكرة الزراعة، مقابل اتفاق استثماري تستأجر فيه الأرض بمبلغ مقطوع سنوي أو شهري أو بنسبة من المحصول.
تقول سامية إنها قد تطلب التقاعد بعد إتمامها السن اللازم لتأمين الراتب التقاعدي، أي قبل سن التقاعد الرسمي، وقد وجهت ابنتها الحاصلة على شهادة الثانوية العامة لهذا العام لدراسة الهندسة الزراعية ليتكامل مشروعها الزراعي ويزداد نجاحاً، عدا عن أنها تؤمل ابنتها بافتتاح صيدلية زراعية خاصة بها مع أفكار إبداعية تتعلق بمنتجات مميزة من الأعشاب العطرية والمطلوبة بكثرة للاستخدامات الطبية والتجميلية.
إن تبدل النظرة نحو الزراعة محدودة المساحة ولأنواع محددة مطلوبة يومياً وآمنة من حيث العناية والظروف المناسبة للنمو ومن حيث التسويق الذي يبدو في ظل انهيار ثوابت الأمن الغذائي وانهيار الأمن المالي الشخصي والعائلي بسبب الحرب وبسبب انزياح عوامل الأمان العامة والشخصية، يبدو ضرورة تفرض نفسها ومبادرة خلاقة سيكون لمن يستغلها أو يبادر تجاهها السبق والربح وقلب المعادلة نحو الاستقرار الذاتي على أقل تقدير…
اعتادت ليلى ومنذ أواخر عام ٢٠١١ على بيع الملوخية والباذنجان المعد للمكدوس وهو الطبق الشعبي الأهم في يوميات العائلة السورية، لكن عودة زوجها من مدينة حماة بعد حصوله على تسريح مرضي بسبب إصابته بالسرطان دفعتها لإضافة خيارات أخرى لعملها الدوري في بيع منتجاتها الزراعية، إذ باتت بعد هذا التاريخ تتعاقد مع سيدتين لسلق الباذنجان وكبسه وتحضير الفليفلة بشكلها الجاهز للمؤونة مقابل أجر يومي محدد وتقوم بعد ذلك ببيع هذه المنتجات المهيأة للتموين وبسعر أعلى طبعاً محققة أرباحاً أكبر، كما أنها تحولت إلى بيع الملوخية المجففة والموضبة الجاهزة للطبخ، وقد أفردت مساحة فارغة في قبو منزلها لتجفيف الملوخية وتخزينها وذلك أيضا بعد الاستعانة بسيدة مهمتها انتقاء أوراق الملوخية وتجفيفها وذلك مقابل أجر يومي محدد.
إن اتجاه النساء السوريات لتنويع مصادر دخلهن ومبادراتهن لإدخال أصناف جديدة في إنتاجهن الزراعي أو الغذائي على الأصح، إنما هو تطور إيجابي بالغ الأهمية، مع أنه لا يرصد أبدا إلا في النطاق الأضيق ولا يضاف إلى تفاصيل عملية الإنتاج ولا إلى الدخل الاقتصادي الوارد لمداخيل الأسرة السورية وبالتالي فهو مغيب عن دائرة مصادر ومداخل العملية الاقتصادية في سورية.
يبدو من الضروري الإشارة إلى رد الفعل الاجتماعي وخاصة في البيئة المحلية على هذه الخطوات الجريئة والجديدة، والتي قيّمت عاليا هذه المبادرات واعتبرتها خطوة مميزة نحو النجاح والوفرة، يقول أبو سامر: إن زوجة ابنه ولدت ونشأت في المدينة ولم تطأ قدمها أرضاً زراعية قبل عودتها مع زوجها إلى القرية بعد أن تهدم بيتهما في أحد ضواحي دمشق، لكنها الآن تزرع النعناع والبقدونس والبصل الأخضر والفجل والسبانخ في المساكب الصغيرة في حديقة المنزل وتبيعها تباعاً لزيادة الطلب على محصولها المميز، الذي يُسقى بالماء النظيف وهو خال من الحشرات، ويضيف أبو سامر “علاقتنا تمتنت مع عائلة ابني، لابل إن كنتي صاحبة المشروع تشاركني بغلة منتوجها عندما أقوم بإيصاله على دراجتي النارية إلى بعض البيوت وبعض المحال التجارية حسب توصية مسبقة.”
قد يقول قائل: إن عمل المرأة في الأرض قديم قدم الأرض ذاتها وهذا صحيح تماما، لكنه كان جزءا من أعمالها المنزلية، وقد رفض الكثير من الآباء تزويج بناتهم للحفاظ عليهن كقوة عمل ضمن العائلة، لكن الحالة هنا مختلفة لدرجة يقول الأهالي إنه مشروع فلانة! مع أن ملكية الأرض باسم زوجها.
طبعا لا مجال هنا لذكر كافة المصاعب والمعوقات التي تعيق اكتمال ونجاح هذه المشاريع المهمة والريادية، لكن الإشارة إليها مهمة جدا وضرورية، لتعميم هذا الخيار كأحد الحلول الممكنة للنهوض بالوضع المعيشي والاقتصادي، خاصة في ظل وجود ملكيات واسعة من الأرض متروكة لليباس أو للعبث.
تعمل روضة في زراعة الفليفلة الخضراء والحمراء وتحضّر منها المخللات ودبس الفليفلة بصورة منتظمة وحسب الطلب، وتسعى للحصول على دخل أكبر وزبائن أكثر. اقترحت عليها ابنتها إطلاق صفحة على الفيس بوك للإعلان عن منتجاتها الزراعية وعن سبل توصيلها والتاريخ المحدد لاستلامها، إثر ازدياد الطلب على المنتجات في أوقات محددة وخاصة في أيام العطل والإجازات وهي تتناسب مع قدوم الناس الى القرية مما يحول دون إمكانية التوزيع والبيع في الأوقات الأخرى حيث ينعدم الطلب فيها على تلك المنتجات. وقد لاقت تلك الفكرة رواجاً دفعت بروضة لتنظيم عمليتي السقاية والقطف بناء على الطلبات المحددة مسبقاً وأنقذت محصولها من فترة كساد محتملة في البيع والشراء والتحضير .
إن كان تعبير أزمة هو تعبير وقتي وآني وقابل للتغير أو الترحيل فإن سعي بعض السوريات إلى استقرار مالي وعملي وعائلي واقتصادي هو سعي مبارك ومميز وغير قابل للترحيل أو الإهمال أو التناسي، نتمنى له النجاح والتطور.
بواسطة Ward Maamar | أغسطس 9, 2018 | Cost of War, غير مصنف
منذ بداية الأزمة في سورية لم يلق التواجد الإيراني في سورية ترحيباً دولياً، بعكس التواجد الروسي والذي أخذ شرعية دولية مبطنة.
ومع تصاعد التوترات الدولية تجاه طهران نتيجة برنامجها النووي ومشاريعها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، يبقى لملف تواجدها العسكري في سورية شأنه الخاص من خلال طريقة معالجته الشائكة والصعبة حيث تتعرض طهران لاستهداف مواقعها العسكرية من قبل الكيان الصهيوني بهدف إخراجها من سورية.
خلال سنوات الحرب دفعت إيران ثمن تواجدها في سورية، حيث تعرضت مواقعها العسكرية للقصف من قبل الاحتلال الإسرائيلي عدا عن الخسائر البشرية لعدد من قادتها والمستشارين العسكريين الذين تواجدوا في سورية، ومع تغير الموازين في الحرب السورية واستعادة الدولة السورية قبضتها على العديد من المناطق بدأت ملامح التوترات الدولية تتصاعد وتنكشف وبدأت المطالبات الدولية بخروج القوات الأجنبية من سورية بمن فيها القوات الإيرانية وحزب الله اللبناني.
مطلب خروج إيران والقوات العسكرية التابعة لها بدأ يأخذ حيز التنفيذ من قبل الدول غير الراغبة بتواجدها على الأرض السورية على قائمة هذه الدول “الكيان الصهيوني – إسرائيل” والتي مازالت تعقد الاجتماعات والمباحثات وتشن الهجمات الصاروخية لإخراج إيران من سورية، الأمر الذي يوضح بأن السياسة الغربية تجاه سورية لم تعد تهتم للوضع السياسي الداخلي بقدر اهتمامها بإخراج إيران من سورية، الأمر الذي يجعل مسار الحل السياسي وإنجاح أي مفاوضات مستقبلية رهن خروج إيران من سورية.
بالمقابل يدرك الجميع أن خروج إيران عسكرياً من سورية لن يكون مجانياً وإنما ستقابله مساعي إيرانية للحصول على مشاريع اقتصادية استثمارية في سورية لكن يبدو أن هذه المساعي الاقتصادية بحاجة لموافقة روسية – سورية كي تؤتي ثمارها بالنسبة لطهران.
فمنذ إعلان روسيا ضرورة إخراج القوات الإيرانية من سورية تغيرت طريقة التعاطي السورية مع طهران وقواتها المتواجدة في سورية الأمر الذي دفع بالنظام الإيراني للتصعيد إعلامياً من خلال تصريحات أطلقها علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي للشؤون الدولية في المحاضرةِ التي ألقاها خلالَ ملتقى “فالداي” للحوار في موسكو حيث قال: “حكومة (الرئيس) بشار الأسد كانت ستسقُط خلالَ أسابيع لولا مساعدة إيران، ولو لم تكن إيران موجودة لكانت سورية والعراق تحت سيطرة أبو بكر البغدادي.”
هذه التصريحات دفعت بالحكومة السورية للرد عليها عبر مقال نشر في جريدة الوطن السورية “الخاصة” المؤيدة للدولة السورية والتي هاجمت تصريحات ولايتي بالقول “عذراً علي أكبر ولايتي. كان ليَسقط العالم وسورية لن تسقط” بإشارة إلى أن هذه التصريحات لا تليق بالحلفاء الأصدقاء.
يؤكد هذا التصعيد بأن طريقة التعاطي مع إيران في الداخل السوري بدأت تأخذ منحى آخر وبدأ غالبية السوريين يتحدثون بلهجة الرافض للتواجد الإيراني وتفضيل التواجد الروسي عليه لعدة أسباب من ضمنها المشروع الديني الفارسي في المنطقة.
هذه المتغيرات تجعل من مسألة إعادة إعمار سورية مفصلاً هاماً وحرجاً للدولة السورية التي يتوجب عليها الحفاظ على حلفائها لمساعدتها في عملية إعادة الإعمار، خاصة وأن المجتمع الدولي ومعه المساهمين والمانحين والمؤسسات المالية والنقدية الدولية لن يشاركوا في إعادة الإعمار دون الوصول إلى حل سياسي يرضي جميع الأطراف.
وبين الإحجام الغربي، والرغبة السورية الحكومية بالبدء بإعادة الإعمار، متمثلة بدعوة الرئيس الأسد إيران للمشاركة الفاعلة، ورغبة المسؤولين السوريين في مساهمة إيران بمرحلة إعادة الإعمار، تجد إيران الفرصة مواتية للدخول والإعلان عن نيتها المشاركة في إعادة إعمار سورية، لكن يبدو أن هذه المشاركة ستواجه عوائق عديدة منها مسألة الموافقة الروسية على المشاريع الاقتصادية التي يمكن لإيران الاستثمار فيها، إضافة لذلك عدم وجود جدية واضحة من الدولة السورية لتنفيذ أي مشروع استثماري إيراني في سورية خاصة وأنه لغاية اليوم لم تبدأ طهران بتنفيذ أي مشروع اقتصادي لها في سورية وأهم تلك المشاريع التي مازالت عالقة:
مشروع المشغل الخليوي الثالث والذي حصلت عليه إيران قبل نحو ثلاث سنوات باعتباره من أهم المشاريع الضخمة ذات الجدوى الاقتصادية ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي وصولاً إلى إلغاء الحديث عنه بالكامل.
وكذلك قبل مدة قصيرة تداولت وسائل الإعلام خبراً يتحدث عن الاتفاق مع إيران لتنفيذ قطار الضواحي في دمشق، وهو مشروع يعلم الغالبية أنه لا يمكن تنفيذه، نظراً لأن المخطط التنظيمي لمدينة دمشق، لم يلحظ منذ البداية هذا المشروع.
ورغم محاولات طهران الاستفادة من القوانين والمشاريع التي تطرحها الدولة السورية ورغبتها لترسيخ أذرعها الاقتصادية في سورية إلا أن الوقائع مازالت غير واضحة حيث تحاول إيران الاستفادة من المرسوم رقم ١٠ لعام ٢٠١٨ الذي يجيز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، من خلال توظيف البيئة التشريعية والقانونية المتجددة، واستثمار رغبة الدولة السورية في إفساح المجال للإيرانيين للمشاركة في إعادة الإعمار، تحاول إيران مثل أي دولة أن يكون لها مناطق نفوذ، في سورية وموضوع إعادة الإعمار، هو أحد المداخل بالنسبة لها لكي تدخل وتضمن نفوذها لكن يبقى العائق الذي قد يمنع إيران من المشاركة بمشاريع التطوير العقاري العقوبات الأمريكية الأخيرة التي اضرت كثيراً بالاقتصاد الإيراني.
حتى الآن لم تشهد أي منطقة في سورية أخليت من المعارضة عمليات إعادة إعمار، سواء في المناطق الواقعة بريف دمشق، أو حمص، أو شرق مدينة حلب، وما يحدث الآن بعد سيطرة الدولة السورية عليها، هو مرحلة إعداد وتخطيط، وشراء بيوت مدمرة ومتضررة من قبل جمعيات محلية منها إيرانية بدأت تظهر على الساحة بهدف إعادة إعمارها.
فقد افتتحت منظمة “جهاد البناء” الإيرانية التي تقدم مساعدات في مجال إعادة الإعمار في المناطق المدمرة التي يعيد النظام سيطرته عليها، مكتباً في مدينة البوكمال شرق البلاد بعد سيطرة الدولة السورية على المدينة وتسعى المنظمة لشراء المنازل والبدء بمشاريع إعادة إعمارها والقيام بمشاريع أخرى.
على المقلب الآخر تبقى عملية إعادة إعمار سورية بالنسبة لروسيا والصين مختلفة عن آلية التعاطي مع إيران خاصة وأنّ الصين ربما تكون بالمرتبة الأولى كدولة تشارك في إعادة الإعمار، وتبقى روسيا اللاعب الأساسي في عملية إعادة إعمار سورية وتوزيع المشاريع على الدول الراغبة بمشاركتها وفق رغبتها السياسية والاقتصادية ما يجعل الحضور السياسي والعسكري والاقتصادي لطهران في سورية رهن الموافقة الدولية أولاً ومن ثم الموافقة الروسية-السورية ثانياً.
بواسطة Safwan Dawood | أغسطس 1, 2018 | Cost of War, غير مصنف
رغم الضغوطات غير المسبوقة التي تعرض لها الجيش السوري خلال الحرب السورية، على الأقل حتى التدخل الروسي في سبتمبر أيلول عام ٢٠١٥، لم يحدث أن حصل عصيان أو تمرد جماعي داخل صفوفه، ولم تتأثر سلسلة الرتب والقيادات فيه، لكن قابله تطور ظاهرة “التهرب” من أداء الخدمة العسكرية، وبدرجة أقل ظاهرة “الانشقاق” عنه. وتختلف ظاهرة “الانشقاق” التي تنطوي على قضية سياسية ترتبط بتخلّي المرء عن وحدته العسكرية ليقاتل في صفوف المعارضة (دوروثي اوهل، مركز كارينغي، 2015) عن ظاهرة “التهرب” التي تعني فقط عدم الالتحاق بخدمة العلم المفروضة وفق القانون السوري.
وقد قامت المؤسسة العسكرية السورية بتحفيزات اقتصادية في محاولة منها لضبط حالات التهرب من الخدمة، كزيادة رواتب العسكريين خمس مرات خلال سنوات الحرب السبع، لكن هذا الإجراء لم ينجح بسب تجاوز التضخم قيمة الزيادة. فعلى سبيل المثال حتى عام ٢٠١٨ تضاعف راتب المجند السوري أربع أو خمس مرات، في حين انخفضت قيمة الليرة السورية إلى عُشر قيمتها في نفس الفترة مقارنة بعام ٢٠١٠. سعت أيضاً المؤسسة العسكرية مُمثلة بإدارة التوجيه المعنوي في الجيش ردع حالات التهرب عبر خلق رأي عام طائفي يروج لفكرة مصير الأقليات، عززتها ممارسات فعلية للفصائل الإسلامية المعارضة على الأرض.
ساهم هذا الرأي الطائفي جزئياً في ظاهرة “التهرب” والتوجه الى ميليشيات أكثر تعبيراً عن الاصطفاف الطائفي المتزايد خلال الحرب. إن ظاهرة “التهرب” مؤشر لحقيقة جوهرية، وهي أن الشباب السوري ضمن البيئات الموالية) ورغم عدم قناعته بـالثورة (ضد النظام السوري) يحمل في فكره عدم إيمان عميق بالنظام السياسي القائم.
في الحقيقة هذه النقطة هي التي ستسقط النظام السوري مستقبلاً وليست القوة العسكرية التي لم ولن تسقطه. نُشير هنا إلى أن العناصر المتهربة من الخدمة الإلزامية هي متنوعة للغاية من حيث الجغرافيا والطائفة والوضع المادي والاجتماعي والأكاديمي. أما قول إن معظمهم من طائفة “السنّة” فهذا لأن النسبة الأكبر من سكان سوريا هي من هذه الطائفة، بالتالي تنتفي حصرية الصفة الطائفية كسبب للتهرب من الخدمة العسكرية.
بينت الأحداث اللاحقة لانطلاق الأزمة السورية أن آليات اتخاذ القرار كانت بشكل أو بآخر غير دقيقة في تقدير خطط انتشار الجيش السوري وأولويات تنفيذ عمله، وصوابية عدد من مهماته من منظور المصلحة الاستراتيجية العليا. في الواقع كان لدى النظام السوري قناعة شبه مطلقة بأن الوضع في سوريا لن يصل إلى ماوصلت إليه الدول العربية التي أصابها “الربيع العربي”.
وفقاً لهذه القناعة لم تحصل أية مراجعة حقيقية لمكامن الخطأ في بنية ومفاصل الدولة السورية، خاصة الفضاء الاقتصادي ومنظومة البنية المدنية التي تعرضت لأكبر ضرر يمكن أن يتصوره أحد. ورغم أن جنودها أُهمِلوا، ورُمي بهم في بعض الأحيان لقمةً سائغة إلى الموت بقيت المؤسسة العسكرية السورية على مستوى عالي من التماسك. لكن مع نهاية العام الأول من الحرب فُرِض واقع جديد؛ بدأ الشباب السوري يعزف عن الالتحاق بالجيش السوري، قسم منه التحق بـ”الثورة السورية”، وقسم هرب خارج سوريا كلاجئ أو مهاجر، والقسم المتبقي ممن كانوا تحديداً من المناطق الجغرافية التي يسيطر عليها النظام تهربوا بشكل شبه مطلق عن الالتحاق بالخدمة العسكرية. هذا الوضع أدى إلى انخفاض عدد الجيش السوري إلى نحو مئة وعشرين ألف عنصر عام ٢٠١٤، بعدما كان إجمالي عدده يقارب ٣٠٠ ألف قبل الحرب (تشارلز ليستر، مركز بروكينغ الدوحة، 2014). من الناحية النظرية، يمكن القول أنه كان بإمكان الدولة السورية وقتها استدعاء مايقارب ١.٧ مليون مقاتل (جوزف هوليداي، معهد الحرب الاميركي، 2013). لقد احتاج النظام نتيجة نقص العدد في قواته إلى وسائل جديدة لحث الشباب أو من يقدر على حمل السلاح للتطوع، وبما أن الساحل السوري مثل الخزان البشري للنظام بحكم الطائفة وهواجس الأقلية، ابتكر النظام طريقة لحث المتطوعين للانضمام إليه، وهي سحق الاقتصاد الزراعي في ريف هذا الساحل، وتجويع القاعدة الشعبية الريفية الداعمة له، لدفع الشباب الى التطوع في الميليشيات المحلية أو الالتحاق بالخدمة العسكرية مقابل عائد مادي يسد رمق أسرهم. ومن نتائج هذه السياسة أنه قد تم تدمير الدورة الاقتصادية لإنتاج الحمضيات في محافظتي اللاذقية وطرطوس.
ديناميات القوة: نحو الميليشيا المحلية الموالية
لقد أدت عوامل كـ(ضعف الاهتمام بالمقاتل السوري، والتخلي عنه في جبهات القتال، وسرقة مخصصاته الغذائية، وإعطاء ضباط الجيش إجازات له مقابل تخليه عن جزء من راتبه أو راتبه كله) إلى تهرب المجندين من الالتحاق بالجيش السوري النظامي نحو الالتحاق بالميليشيات المحلية، مثل ميليشيات “الدفاع الوطني”، “الألوية الطوعية”، “صقور الصحراء”، “لواء القدس” وغيرها من تلك المحلية، أو من تلك المدعومة من إيران كـ”لواء ذو الفقار”، “لواء أسد الله”، “سرايا الزهراء”، و”حركة حزب الله النجباء”.
نشأت هذه الميليشيات من حيث المبدأ لدعم الجهود العسكرية للجيش السوري، عبر مجموعات محلية خفيفة التسليح، تشكل نوعاً من الدعم الذاتي، مالبثت أن بدأت تتوسع وتقاتل على مساحات شاسعة من سوريا. لكن في العمق، ظهرت هذه الميليشيات بفعل ديناميات اقتصادية واجتماعية خضعت لها شريحة واسعة من المجتمع بسبب الحرب. وقد وجدت العناصر المتطوعة عبر هذه الميليشيات ملاذاً من أي ارتباطات قانونية وسبيلاً للهروب من أداء الخدمة الإلزامية في الجيش النظامي، حيث يُعاني المجند من الإهمال والجوع والاحتفاظ طويل الأمد.
لقد خَلقت هذه الميليشيات بيئة آمنة قائمة على مبدأ التخصص، بمعنى التمييز الحمائي من القانون واكتساب درجة من النفوذ السلطوي، مع العطاءات المادية التي يمكن أن تأتي، إما عن طريق وسائل مشروعة على شكل رواتب نظامية، أو عن طريق وسائل غير مشروعة أصبحت معروفة محلياً في سوريا بظاهرة “التعفيش.” ومن المعروف في الأوساط الشعبية في مناطق عديدة من سوريا أنه تمّ تحديد عشرات الآلاف من عمليات التعفيش الممنهج التي قامت بها عناصر من الميليشيات المحلية، بشكل فردي أو جماعي على خلفيات طائفية كما في حلب الشرقية وريف حماه الشمالي، أو على خلفيات قومية كما في عين العرب وتلّ أبيض وتل تمر، أو على خلفيات عشائرية كما في ريف الميادين وريف البوكمال. وشوهدت علامات فارقة على البيوت المنهوبة تُشير إلى ديانة أو قومية ساكنيها. و تمّت في حالات أخرى سرقة المحاصيل الزراعية كمحاصيل اللوزيات في ريف حمص، والقمح في الشمال السوري، بتنسيق ممنهج لمنظومة عسكرية كاملة.
وخلال الحرب السورية ولحظة سقوط أي بلدة أو قرية بيد الميليشيات المحلية تتم سرقة البيوت والمحال من كل ما يمكن حمله، ثم يتم تفكيك المواد مثل أسلاك الكهرباء، نوافذ الألمنيوم، أبواب الحديد وغيرها من المواد التي يمكن إعادة استخدامها. لاحقاً يتم تحميلها علانية بآليات قد تكون لأشخاص مدنيين لم يشاركوا بالتعفيش، وتباع علانية في أسواق خاصة دون أي محاسبة.
رغم عدم إنكار أن العديد ممن تطوعوا في هذه الميليشيات هم من الشرفاء ومنهم من قدم حياته في المعركة إلا أن هذه الميليشيات ساهمت إلى حد كبير في تضرر الصورة المعنوية للجيش السوري، وأصبح بعض قيادييها أقوى من سلطة الدولة نفسها، وحصلت بعض الحوادث التي ظهر فيها قادة هذه الميليشيات أكثر نفوذاً من قادة الجيش السوري أنفسهم، مُعززةً بذلك التمايز وردود الفعل بين مجندي الجيش النظامي وبين مجندي هذه الميليشيات من حيث العائد المادي والنفوذ السلطوي. كما أدت هذه الميليشيات الى ارتفاع نسبة الجريمة والفوضى في البلاد. باختصار إن السرديات المافيوية لهذه الميليشيات في محافظتي اللاذقية وحلب يندى لها الجبين، لكن من المهم الإشارة إلى أن هذه الميليشيات ممولة من رجال أعمال وشخصيات اعتبارية عشائرية أو حزبية سورية ومرتبطة بشكل او بآخر بالأجهزة الأمنية.
أفول المليشيات المحلية الموالية
بدأت في مايو\أيار ٢٠١٨ ملامح تغييرات تحصل على الأرض فيما يتعلق بالميليشيات المحلية، إذ توقف صرف رواتب عناصر ميليشيا “الدفاع الوطني” في أغلب قطاعات الغوطة الغربية من دمشق، ورافق ذلك حملة تنقلات وإعفاءات لقادة بعض هذه القطاعات. وتمت أيضاً إزالة حواجز تابعة للجان الشعبية والميليشيات الأخرى غير الرسمية في كل من دمشق وحمص وبقية المدن الرئيسية الأخرى. كما صدر قرار بحلّ بعض هذه الميليشيات وأهمها: ميليشيا أحمد الدرويش وعلي الشلّة في حماه، وسيمون الوكيل وأيمن صيادي في ريف حلب الجنوبي، وسُحبت البطاقات الأمنية من عناصرهم، كذلك ميليشيا “صقور الصحراء” التي كان يتزعمها أيمن جابر الذي سُحبِت منه رخص استيراد وتوزيع الدخان المستورد، وتسود حالياً حالة من القلق عند عناصر هذه الميليشيات حول مصيرهم مستقبلاً.
بالتأكيد حلّ هذه الميليشيات جاء نتيجة جملة من المتغيرات السياسية والعسكرية. فبعد سقوط الغوطة الشرقية تمكن النظام من استلام زمام الأمور ميدانياً، وأصبح له عدد عسكري متوافر، بالتالي لم يعد بحاجة ماسة إلى هذه الميليشيات في ضبط بعض الجغرافيات، أو ضبط الأمن في قطاعات سكنية ومدنية معينة. سياسياً، يبدو أن روسيا قد ضغطت أيضاً على النظام في إطار جملة من الشروط الدولية التي تدعو إلى حل ومحاربة جميع الكيانات العسكرية غير المعترف بها والتي تشمل أيضاً وفق المنظور الغربي الميليشيات المحلية وتلك “الإيرانية” الخارجية الداعمة للنظام.
وترى موسكو وحتى واشنطن أن تحييد الجيش السوري على حساب الميليشيات لن يحقق أي حل سياسي دولي للأزمة السورية، لأن أي قوات دولية سواء كانت بقيادة روسية أم لا، لن تجد جيشاً وطنياً تعتمد عليه لحفظ النظام واستتباب الأمن في أي عملية تهدف لحل سلمي مستقبلاً لسوريا، بل ستجد أمامها كيانات عسكرية غير منضبطة في حالة مشابهة للحالة الليبية.
إن حل الميليشيات يحمل بُعداً اقتصادياً أيضاً يرتبط بإعادة الإعمار، فمن سيمول سيفرض شروطه في أي استثمار، وأهم هذه الشروط حماية هذا التمويل وإلزام الدولة السورية على إصلاح إداري وقانوني شامل يحمي الاستثمارات الخارجية من تعديات محتملة لكيانات عسكرية أو أمنية غير قانونية، في مقدمتها الميليشيات المحلية والمقربة من عائلة النظام السوري المعروفة تاريخياً بوسائلها غير الشرعية في نهب الاقتصاد السوري والتعدي على القوانين، ونفوذها التسلطي على مؤسسات الدولة السورية. وفي بلد تُوصف دولته بالفساد الممنهج والأسطوري، لا عجب أن يلعب قادة الميليشيات العسكرية دوراً مافيوياً رئيسياً في اقتصاد ما بعد الحرب. وتتخوف القيادة الروسية من سيناريو شبيه بنموذج “الحشد الشعبي” في العراق الذي نشأ لأسباب أمنية-عسكرية وتحول لاحقاً الى مؤثر في العملية السياسية. إن سير عملية الإصلاح سيكون مسؤولية الطرف الذي سيتولى قيادة إعادة إعمار سوريا وهو غالباً روسيا لأنها دفعت الكثير لضمان مصالحها في سوريا، ولا تستطيع الميليشيات المحلية الموالية للنظام أن تقف في طريق هذه المصالح الروسية ولاحتى النظام نفسه.
بواسطة Hamad Al-Mahameed | يوليو 26, 2018 | Cost of War, غير مصنف
بعدما كانت مسألة امتلاك بيت في مدينة دمشق وريفها بالنسبة لذوي الدخل المحدود والمتوسط، قبل سنوات الحرب أشبه بحلم يمكن تحقيقه بعد سنوات من العناء، بات الأمر حاليا مستحيلا وصعب المنال، مع الارتفاع الجنوني لأسعار العقارات، بعد دمار ملايين المنازل خلال سنوات الحرب، ونزوح أكثر من ربع سكان البلاد.
في نيسان 2009 وضع تقرير “نيوأوفس سبيس ريبوربت” الدولي الذي يحدد المدن العشر الأكثر غلاء في أسعار المحال التجارية والمكاتب مدينة دمشق في مصاف أكثر ١٠ مدن غلاء في أسعار العقارات التجارية عالميا.
التقرير ذكر حينها، أن “مدينة دمشق احتلت المرتبة الثامنة في أسعار العقارات التجارية عالميا”، مشيرا إلى أن “سعر المتر المربع في دمشق يصل إلى ٩٧٩ يورو وسطيا” بما يعادل ٦٥ ألف ليرة سورية (اليورو كان حينها يساوي نحو ٦٥ ليرة) .
هونغ كونغ وفق التقرير، احتلت المرتبة الأولى بين المدن الأكثر غلاء بأسعار العقارات التجارية بسعر ١٧٤٣ يورو للمتر المربع تلاها طوكيو بـ ١٦٤٩ للمتر المربع ومن ثم لندن بـ ١٤٠٣ يورو، وأتت موسكو بالمرتبة الرابعة، ثم مدينة دبي، وبعدها بومباي، بينما شغلت باريس المرتبة السابعة لتحتل دمشق المرتبة الثامنة وسنغافورة التاسعة بعدها، ثم نيويورك المرتبة العاشرة.
خلال تلك الفترة كان سعر منزل مساحته ١٠٠ متر مربع في مدينة دمشق ما بين أربعة إلى خمسة ملايين ليرة (الدولار حينها كان يساوي نحو ٥٠ ليرة)، بينما في مناطق العشوئيات المحيطة بالمدينة كان ما بين مليون ونصف ومليونين، أي ما يوازي أجر الموظف السوري ( ٣٠ ألف ليرة مرتب الموظف شهريا) مدة ستة أعوام.
العديد من ذوي الدخل المحدود في تلك الفترة كانوا يقضون ١٥ إلى ٢٠ عاما من التقشف والعيش على الكفاف حتى يتمكنوا في النهاية من شراء منزل في عشوائيات محيط العاصمة والتي توصف بأحزمة الفقر السرطانية.
الأغلى عالميا
بيد أن الحرب وما دمرته من منازل وما أفرزته من مناطق آمنة أو شبه آمنة، زاد من ارتفاع الأسعار، لتغدو أسعار المساكن في سورية، قياساً بين العرض والدخول، هي الأغلى عالمياً وربما دونما منازع.
في إحصائية أصدرتها “الاسكوا” مؤخرا، يتبين أن عدد المنازل المهدمة في سورية بلغ ٢.٥ مليون منزل، منها ٣١٥ ألف منزل تعرض للدمار الكامل، مع دمار البنية التحتية كالمياه والكهرباء والصرف الصحي، و ٣٠٠ ألف منزل تعرض للتدمير الجزئي.
الدراسة تذكر، أن محافظة حلب تصدرت المحافظات الأكثر تضرراً من جهة دمار المنازل بتدمير حوالي نصف منازلها، ويُقدر عددها بـ ٤٢٤ ألف منزل مدمر كلياً أو جزئياً، تلتها ريف دمشق بتدمير نصف منازلها أيضا وتُقدر بـ ٣٠٣ آلاف منزل، ثم حمص بتدمير حوالي ٢٠٠ ألف منزل، فإدلب بتدمير حوالي ١٥٦ ألف منزل، فدرعا بتدمير حوالي ١٠٥ آلاف منزل، من ثم دير الزور بتدمير حوالي ٨٢ ألف منزل، تلتها حماة بتدمير حوالي ٧٨ ألف منزل، ومن ثم الرقة بتدمير حوالي ٥٩ ألف منزل، فاللاذقية بتدمير حوالي ٥٧ ألف منزل، فالحسكة بتدمير حوالي ٥٦ ألف منزل، من ثم دمشق بتدمير حوالي ٣٧ ألف منزل، وتلتها طرطوس بتدمير حوالي ١٢ ألف منزل، ومن ثم السويداء بتدمير حوالي ٥ آلاف منزل، وأخيراً القنيطرة بتدمير حوالي ٩٠٠ منزل.
مع تهدم تلك المنازل شهدت سورية حركة نزوح كبيرة، وأشارت الدراسة نفسها إلى أن ما يقرب من ٧ مليون شخص تأثروا بالدمار، وأنّ ٣ ملايين شخص اضطروا للنزوح، وفقد مليون مواطن ممتلكاتهم بشكل كامل وسط توقعات بارتفاع هذه الأرقام مع استمرار المعارك.
اندفاع النازحين إلى مناطق سيطرة النظام بسبب تمتعها بالأمان مقارنة بالمناطق التي تسيطر عليها المعارضة، أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات فيها بشكل تدريجي خصوصا مدينة دمشق، التي وصل عدد السكان فيها إلى ما يقارب ثمانية ملايين شخص بعد أن كان نحو أربعة ملايين قبل الحرب.
شقة المليار
يصل سعر منزل مساحته ١٠٠ متر مربع في أحياء وسط دمشق المنظمة مثل “أبو رمانة” و”المالكي” اليوم نحو ٤٠٠ إلى ٥٠٠ مليون ليرة، بعد أن كان قبل الحرب نحو ٥٠ مليون، وفي المزة غرب العاصمة إلى أكثر من ١٥٠ مليون بعد أن كان ما بين ٢٠ إلى ٢٥ مليون، بينما في منطقة “الزاهرة” جنوب العاصمة نحو ٥٠ مليون بعد أن كان خمسة ملايين.
صفحات العقارات المحلية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تعرض إعلانات عن شقق يريد أصحابها بيعها في مناطق مختلفة من العاصمة، تعتبر اليوم المؤشر الأبرز على أسعار العقارات في العاصمة دمشق ومحيطها.
بعض الإعلانات على تلك الصفحات تثير جنون السوريين، إذ بلغ سعر شقة معروضة للبيع ٩٩٠ مليون ليرة سورية في منطقة المالكي، وأخرى في مشروع دمر ٥٠٠ مليون ليرة.
خبراء في مجال العقارات يعزون لـ “صالون سورية” أسباب القفزات الخيالية في أسعار العقارات إلى “العجز الحاد في المعروض” و”التراجع الكبير في سعر العملة السورية أمام العملات الأجنبية”، فالدولار اليوم يبلغ سعره نحو ٤٥٠ ليرة بعد أن كان أقل من ٥٠ ليرة قبل الحرب.
هؤلاء الخبراء، يوضحون أن الغلاء الذي طال كافة مستلزمات الحياة، ومنها مواد البناء أدى إلى ارتفاع تكاليف إكساء المنازل إلى أرقام فلكية، ويبينون أن تكلفة إكساء شقة من ١٠٠ متر مربع كسوة عادية تقارب ما يزيد على ٧ ملايين ليرة.
يصل سعر طن الإسمنت حاليا من مصدره نحو ٥٠ ألف ليرة بعد أن كان لا يتجاوز أربعة آلاف، وطن الحديد المسلح ٣٠٠ ألف ليرة بعد أن كان لا يتجاوز ٢٥ ألف، بينما تبلغ تكلفة سيارة الرمل سعة ١٠ أمتار نحو ٨٠ ألف ليرة سورية بعد أن كانت ٥ ألاف ، على حين وصل سعر بلوك البناء إلى ١٥٠ ليرة للقطعة الواحدة.
وبينما وصل سعر السيراميك المصنع محلياً والمنخفض الجودة إلى ٣٠٠٠ ليرة، والمستورد ٨٠٠٠ ليرة كالمصري والإيراني، وما يقارب ١٥،٠٠٠ ليرة للسيراميك الإماراتي، يبلغ سعر متر الرخام المحلي ٢٠،٠٠٠ ليرة، والمستورد ٥٠،٠٠٠ ليرة، على حين يصل سعر الباب الخشبي إلى مايقارب الـ ٢٠٠ ألف ليرة بشكل وسطي. كما أن تركيب المطابخ الخشبية الحديثة أصبح يكلف أكثر من ٦٠٠ ألف ليرة وتزداد التكلفة تبعاً لنوع الخشب والمساحة المطلوبة، بينما يبلغ وسطي سعر الباب الألمنيوم ٥٠،٠٠٠ ليرة دون أجور التركيب، وسعر النوافذ الألمنيوم نحو ٦٠،٠٠٠ ليرة للنافذة الواحدة.
التملك للحرامية
أب لثلاثة أولاد في العقد الخامس من عمره يعمل موظفاً في إحدى الشركات الخاصة، بعد أن دمر القصف منزله في ريف العاصمة الغربي، نزح إلى مدينة دمشق، ويسكن حالياعند أحد أقاربه، يعتبر أن حيازة منزل في سنوات ما قبل الحرب كان بمثابة حلم لكن يمكن تحقيقه بعد سنوات من العمل. ويتابع، “أما الآن فالأمر بات حلماً لا يمكن تحقيقه في ظل الأسعار الرائجة. مرتب الموظف مدى الحياة لا يمكن أن يكفي لثمن بيت بأسعار اليوم. التملك لم يعد لنا وإنما لهم”، في إشارة إلى الكثير من الأشخاص ممن استغلوا الحرب الدائرة في البلاد لتكوين ثروات ضخمة بطرق غير مشروعة (السرقة، التعفيش، الخطف…).
ورغم التراجع الكبير الذي حصل في سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، إلا أن مرتبات الموظفين الشهرية بقيت على حالها، لا تتجاوز ٤٠ ألف ليرة للدرجة الأولى (أقل من ١٠٠ دولار اميركي).
الارتفاع غير المسبوق في أسعار العقارات بأحياء وسط العاصمة المنظمة، أدى إلى توجه النازحين إلى مناطق السكن العشوائي المحيطة بالعاصمة مثل “نهر عيشة” و”الدحاديل” و”دف الشوك” و”التضامن” والقزاز” التي تضاعفت الأسعار فيها أضعافاً مضاعفة، ذلك أن سعر منزل فيها مساحته ١٠٠ متر مربع يصل إلى أكثر من 20 مليون ليرة بعد أن كان لا يتجاوز مليون قبل الحرب.
ازدهار العشوائيات
هذه الحال كان لها أثر كبير في ازدهار عدد من هذه المناطق العشوائية لتشهد حركة عمرانية متزايدة باطراد خلال السنوات الأخيرة رغم أنه لا يتوفر فيها كثير من شروط الحياة الصحية والطبيعية والمرافق الأساسية.
في عام ٢٠٠٧ قدرت أرقام المكتب المركزي للإحصاء في سوريا نسبة السكن العشوائي في البلاد بـ٥٠%، مع إقامة ما يقارب ٤٥% من سكان دمشق في منازل عشوائية ومناطق مخالفات، بينما أشارت إحصائيات برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية إلى توسع هذه المناطق بنسبة ٢٢٠% بين العامين ١٩٩٤ و٢٠١٠.
أما خلال الأعوام السبعة الماضية، ومع استمرار نيران الحرب في محيط العاصمة، فتتحدث تقارير سورية رسمية، كان آخرها الشهر الماضي، عن “ازدياد حالات مخالفات البناء في كافة مناطق العشوائيات بدمشق، وذلك يعود لارتفاع أسعار العقارات النظامية والإيجارات التي تضاعفت عشرات المرات.
ولم يمنع صدور مرسوم تشريعي عام ٢٠١٢ يقضي “بإزالة الأبنية المخالفة مهما كان موقعها ونوعها، وفرض غرامة مالية وعقوبة بالسجن تصل إلى سنة على كل من تثبت مسؤوليته عن المخالفة” من الاستمرار بتشييد المنازل العشوائية وبناء طوابق إضافية فوق المنازل الموجودة، في دليل على غياب سلطة القانون وسيادة الرشوة والمحسوبيات، مع عجز السلطات عن قمعها أو ملاحقتها.
مصادر في “هيئة التخطيط والتعاون الدولي” التابعة للحكومة قدرت الشهر الجاري بحسب وسائل إعلام محلية، أن عدد الوحدات السكنية المخالفة، التي بنيت خلال سنوات السبع الماضية بسوريا، قاربت المليون وحدة سكنية، أي بمعدل ١٠٥ آلاف وحدة سنوياً.
وتفتقر هذه الوحدات السكنية لأدنى معايير السلامة والأمان، كونها بنيت على عجالة بقصد التجارة والربح وسط حالة من الفوضى والانفلات الأمني الذي تشهده العاصمة دمشق مع غياب سلطة القانون، مما سمح لمالكي الأراضي ببناء منازل أو إضافة طوابق جديدة.
ولا يبدو أن الحكومة السورية تمتلك أي خطة لاستيعاب مئات آلاف النازحين الوافدين للعاصمة من المناطق المنكوبة في أنحاء البلاد، أو تخفيف وطأة ارتفاع الأسعار، تبقى مناطق السكن العشوائي التي لا تتوفر فيها كثير من شروط الحياة الصحية والطبيعية والمرافق الأساسية الملاذ الوحيد لمن ضاقت بهم سبل العيش وعجزوا عن تأمين مساكن لائقة في أحياء العاصمة النظامية.
منازل أشبه بقبور
وسيم أب لثلاثة أولاد يتحدث عن معاناته المريرة في البحث عن منزل بعد نزوحه من محافظة درعا إلى العاصمة دمشق وتنقله في السكن عند أقاربه إلى أن استقر به الأمر بشراء منزل لا تتجاوز مساحته ٣٥ مترا (غرفة ومطبخ وحمام وموزع صغير) بسعر ستة ملايين ليرة في منطقة القزاز العشوائية شرق العاصمة. ويوضح أن كامل المبلغ استدانه من عدد من أقاربه الذين يعملون في بلدان أوروبية ودول الخليج كون مرتبه الشهري حاليا يكاد لا يكفيه ثمن الخبر والطعام، ويقول: هو “أشبه بقبر ولكن هكذا أفضل”، ويضيف: “تجار العقارات خلال الازمة أظهروا كل جشعهم. تعاملوا معنا على مبدأ أحسنوا الذبح!”
جشع المؤجرين
وفي ظل الركود الحاصل في عمليات البيع والشراء للمنازل بسبب ارتفاع أسعارها، ازدهرت عمليات تأجير المنازل بشكل غير مسبوق، وتضاعفت الأسعار في الكثير من المناطق إلى أكثر من ٢٠ ضعفا، لدرجة أنه يتعذر وجود منازل للإستئجار في عدد من المناطق.استئجار منزل في العاصمة دمشق بات مهمة صعبة للغاية، وكثيرة التكاليف على المواطن السوري، فعملية استئجار شقة ليست بالأمر السهل مادياً ولناحية الإجراءات الإدارية، حيث تحتاج عند رغبتك في استئجار شقة معينة، أن تحصل على موافقة أمنية، وهي غالباً ما يتم دفع رشى للحصول عليها، وتتدرج بحسب المنطقة من ٢٥ الى ١٠٠ الف ليرة.
في الأحياء النظامية مثل “أبو رمانة” يصل بدل إيجار الشقة الشهري نحو ٣٠٠ ألف ليرة سورية بعد أن كان يقارب ٢٥ ألفاً قبل الحرب، على حين يطلب أصحاب شقق في “المالكي” بدل إيجار شهر يصل إلى حوالي نصف مليون ليرة، بينما تكون الأسعار أقل نوعاً ما في منطقة الميدان حيث يصل بدل الاستئجار الشهري للشقة إلى ما بين ١٥٠ إلى ٢٠٠ ألف ليرة بعد أن كان نحو ٥ آلاف، على حين يبلغ أجار الشقة في مناطق المخالفات ما بين ٧٥ الى ١٠٠ ألف ليرة بعد أن كان لا يتجاوز ٣ آلاف.
العديد من أصحاب المنازل في مناطق سيطرة النظام، وفي ظل انعدام فرص العمل واستفحال البطالة توجه إلى الاستثمار في تأجير المنازل خصوصاً وأن المردود المادي للإيجار مرتفع، مقارنة مع باقي المهن الأخرى، وباتوا يشترطون ألا تتجاوز المدة الزمنية للعقد ثلاثة أشهر، من أجل رفع قيمة بدل الإيجار الشهرية كلما تم تنظيم عقد جديد، كما باتوا يشترطون دفع أبدال الإيجار عن الأشهر الثلاثة دفعة واحدة سلفاً بمجرد تنظيم العقد.
وبما أن العقد يعتبر منتهياً بمجرد انقضاء مدته الزمنية، يعمد الكثير من أصحاب الشقق السكنية إلى الطلب من المستأجر الإخلاء إذا لم يتوفر معه مبلغ بدل الإيجار عن ثلاثة أشهر جديدة.
ويقول أحدهم ممن يمتلكون ثلاث شقق في حي نهر عيشة غرب العاصمة لـ”صالون سورية”: “هي موردنا الوحيد ونريد أن نعيش نحن وأبناؤنا.”
في المقابل، يعتبر أحد النازحين ويعمل بائع خضار في أحد أسواق جنوب العاصمة، أن الرحمة فقدت من قلوب الناس، “ولم يعد هؤلاء (أصحاب الشقق السكنية) يراعون حتى آباءهم فالطمع والاستغلال والجشع عشعش في قلوبهم وعقولهم.”
تبخر أمل العودة
الكثير من النازحين توسم خيرا لناحية انخفاض أسعار العقارات وأبدال إيجارات المنازل مع استعادة جيش النظام وحلفائه السيطرة على العديد من المناطق والسماح بعودة بعض الأهالي إلى أحيائهم، لكن سرعان ما خاب أملهم بذلك نتيجة الدمار الكبير الذي طال منازلهم وعدم إمكانية السكن فيها إلا بعد عمليات ترميم تحتاج إلى مبالغ كبيرة جدا غير متوفرة لديهم.
وفي المناطق التي سمح النظام للأهالي بالعودة إلى منازلهم فيها بعد أن استعاد السيطرة عليها، فوجئ هؤلاء الأهالي بخلو المنازل والمحال التجارية من أي أثاث ومقتنيات، حتى إن بعض المنازل بدت كأنها قيد الإنشاء وتحتاج إلى عملية إكساء شاملة، إثر سرقة الأبواب والنوافذ وخلاطات المياه والمفاتيح والأسلاك الكهربائية، وحتى”المراحيض الإفرنجية.”
ومنذ بدء الحرب في البلاد قبل نحو سبع سنوات شهدت أسعار المواد الغذائية والخضراوات ومختلف السلع المنزلية في عموم البلاد، ارتفاعاً تدريجياً، ووصلت إلى حد غير مسبوق، بسبب انخفاض مستوى سعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية، وتضاعفت غالبية الأسعار عشر مرات عما كانت عليه قبل الحرب.
وانعكس ذلك سلباً على الحالة المعيشية للمواطنين، مع بقاء سقف المعاشات الشهرية للموظفين على ما هو عليه، على حين يقدر اقتصاديون حاجة الأسرة المؤلفة من خمسة أفراد حالياً إلى ٨٠٠ دولار شهرياً لتستطيع مواصلة حياتها بشكل وسطي.
وكشفت دراسة أعدها في أيار ٢٠١٦ “مركز الرأي السوري للاستطلاع والدراسات”، وهو مركز موال للحكومة، عن أن نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر تصل إلى ٨٧ في المائة، وفقاً لمعيار البنك الدولي.
ويقدر أخصائيون، أن عمليات ترميم بسيطة لمنزل مساحتها نحو ١٠٠ متر مربع وتقتصر على إعادة تركيب أبواب ونوافذ وتمديدات كهربائية وصحية تصل تكلفتها إلى أكثر من خمسة آلاف دولار أميركي.
أم لأربع فتيات نزحت من الغوطة الشرقية وتسكن حاليا في أحد أحياء جنوب العاصمة قالت لـ”صالون سورية” بعد أن ذهبت وشاهدت منزلها الذي طاله دمار شبه كامل: “لا مجال للعودة ولا بخمس سنوات فالمنزل يحتاج الى إعادة بناء ولا يتوفر لدينا المال اللازم لذلك. يبدو أنهم لا يريدون لنا أن نرتاح وأن نبقى تحت وطأة استغلال المؤجرين وتهديداتهم.”
أحد السماسرة العقاريين يعتبر في حديث لـ”صالون سوريا”، أن استعادة السيطرة على العديد من المناطق من قبل جيش النظام لن تؤثر على أسعار العقارات كون ارتفاع أسعارها مرتبطاً بسعر الدولار وهذا الأخير “ما زال سعره على حاله”، لكنه رأى أن الأمر قد يؤدي إلى تراجع بسيط مع مرور الوقت في أسعار إيجارات المنازل خصوصا أن هناك مناطق تمت استعادتها باتفاقات تسوية ولم يحصل فيها دمار كبير.
بواسطة عامر فياض | يوليو 17, 2018 | Cost of War, غير مصنف
لمونديال كأس العالم ذاكرة خصبة عند أغلب الشعوب، تكتظ بذكريات أحداثٍ فريدةٍ وحكاياتٍ شاسعةٍ وتفاصيل قصصٍ ملوَّنة ومفرحة واكبت مشاهدة تلك الشعوب للمونديالات التي عايشتها. قد تتشابه ذاكرة السوريين مع سواها ولكنها تختلف بعض الشيء، فكثيرٌ ما تقتحمها ذكريات أخرى تعيدهم إلى وقائع وأحداث مؤلمة ومريرة عاشوها في مراحل مختلفة من حياتهم، إذ قلما تخلو ذكريات مونديالٍ من استحضار بعض المنغصات والمصاعب والمتاعب التي واكبت أحداث الاحتفال به.
2002 مونديال الفقر والتسكع
كنا طلبة جامعيين، وكمعظم الشباب في سورية يحاصرنا شبح البطالة وانعدام فرص العمل، نحصل على قوت يومنا بشق الأنفس وبالكاد نتدبر أجور المواصلات، أن تملك عملاً في ذلك الوقت هو أمرٌ نادرٌ يجعلك من المحظوظين. كنت حينها أسكن غرفةً متواضعةً تحولت إلى فندقٍ للأصدقاء الغارقين في مستنقع العوز والحاجة، الضياع والخوف من الغد المجهول، في رحلة بحثهم عن فرَجٍ ومأوىً ما.
أطلَّ مونديال كأس العالم في ظروفٍ ماديةٍ ومعنويةٍ يرثى لها، طالت جميع الأصدقاء، إنه العرس العالمي الذي نعشقه وننتظره، ولكن كيف سنشارك فيه، أينَ سنحضره وكيف؟ لم تعد حقوق البث آنذاك متاحة للجميع كحال ما سبق مونديال 2002، فقد احتكرتها المحطات الرياضية المأجورة، ما الحل إذاً؟ إما أن نرتاد المقاهي التي اشترت خدمة قناة الجزيرة الرياضية أو أن نشترك بخدمة تلك القناة وهما خياران بعيدا المنال، يحتاج كلٌّ منهما إلى مبالغ كبيرة لا يمكننا جمعها مهما تعاونّا.
تنبعث أصوات المباريات من المقاهي والمنتزهات والشوارع، تستنفر آذاننا، تمتلئ أعيننا بالشغف لرؤية شاشات العرض، تتقافز أرواحنا نحو الأصوات، ولكن فقر الحال كان يلجم رغباتنا، فأمثالنا يحتاجون معجزةً ماليةً للاحتفال برياضةٍ عُرفت تاريخياً بأنها “رياضة الفقراء”، إذ أن حضور مباراةٍ في أرخصِ مقهى يكلِّف آنذاك ما بين مائة وخمسين ومئتين ليرة( ٣ أو ٤ دولارات) وهو مبلغ كان يؤمن لنا طعام يومين أو ثلاثة. احتال بعض الأصدقاء على الأمر وعملوا كندلاءَ وعمال مطبخٍ في بعض المقاهي لتتسنى لهم فرصة متابعة المونديال.
أسمينا ذلك المونديال “مونديال التسكع”، قاومنا الواقع وتحدينا الفقر والظروف القاهرة لنقتنص أي فرصةٍ لمتابعة أحداث المباريات، فنجحنا في مشاهدة معظمها وقوفاً على الأقدام، بالنّظر خلسةً من الشوارع الى شاشات المقاهي، أو باستراق النظر من بعيدٍ إلى شاشات العرض الكبيرة في بعض المنتزهات.
لقد كان مونديالاً درامياً مؤثراً مع مشاهد تجمهُر مئات الفقراء خلف أسوار المقاهي والمنتزهات ليحظوا بشيءٍ من المتعة الممزوجة بطعم الألم. إنه شعبٌ يستحق الحياة لكنه لا يعيشها إلا بدفع أثمانٍ باهظة وبتقديم تضحياتٍ كبيرة. أذكر أن بعض الأصدقاء تابعوا معظم المباريات من خلف سور حديقة معرض دمشق الدولي القديم، وكان لي نصيبٌ من تلك المشاهدات التي ستحفر في الذاكرة مع رائحة التبغ الرخيص وطعم الشاي البارد.
ولعل النور الحقيقي الوحيد في ذلك المونديال قد انبلج في مباريات الدوري النهائي، بعد أن تمكنتُ وصديقي من استدانة بعض نقودٍ أدخلتنا إلى المقهى كفاتحين مختالين بالانتصار. كان عرساً حقيقياً، أن تحتفل بعد تعبٍ ومشقة، وأنت مسترخٍ على كرسيك، تشرب قهوتك بنشوة، وتسترق لحظات من فرحٍ عالمي، في بلادٍ الفرح فيها مدفوع الثمن والثمن في الغالب معدوم.
2010 مونديال الاحتفال الأخير
لم يتغير وضعنا الاقتصادي كثيراً عن السنوات الماضية، وظروف العمل والسكن والاستقرار على حالها. لكن القدر ابتسم لنا في ذلك المونديال، نعم، إنها نعمة الأصدقاء، زاد حياتنا وبلسم جراحنا. وهبتنا السماء هديةً ثمينة، فصديقنا الذي استثمر مقهىً، بعد جمع المال من أقاربه وأخوته المغتربين، قدم لنا دعوةً مفتوحةً وشبه مجانية لمتابعة المونديال، فبرأيه الرّبح هو لمّة الأصدقاء على الفرح والمودة، وهكذا جعل من مقهاه بيتاً حميمياً دافئاً وحضناً للمحبة وملتقى للتواصل والبهجة.
كنا ثلّةً من عشرين شخصاً، نرتاد المكان بشكلٍ شبه يومي، وسط أجواء من الألفة والمرح والفكاهة وبعض المناكفات. تتوزع الأعلام على الطاولات، تتزيَّن الوجوه بالرسوم، تلتف الرؤوس والمعاصم بأعلام الفرق المفضلة، تعلو الهتافات والضحكات الرنانة، وتدور الرهانات على الفرق التي ستفوز، هكذا تُعاش أجواء المونديال حقاً وهكذا يكون تفاعل الجمهور. إنه عرسٌ للفرح والجمال في مكانٍ يُشعرك بالاطمئنان والدفء، ويذكرك بالوجه الجميل لدمشق الحنونة العطوفة ويكشف الضوء الناصع للسوريين الذين يتقنون الحياة ويخلقون لها كرنفالات ساحرة.
لم تكن أحداث المونديال هي مصدر فرحنا الوحيد، الفرح الحقيقي كان يأتي من روح المكان العابق بالحياة ومن نبض الأصدقاء ومهرجان الحب الذي نصنعه معاً. لقد كنا عائلة واحدة، نتقاسم ما نملك من نقود وسجائر، نتنقل بين طاولاتنا ليتواصل الكل مع الكل. أطباق طعام شهية، حضرت من المنازل إلى المقهى ليتناولها الجميع، زجاجات خمرٍ فاخرة، كانت مخبئة لمناسباتٍ خاصةٍ، فحضرت إلى طاولاتنا لنشرب نخب تناغمنا الفريد.
تفاصيلٌ وذكرياتٌ لا يمكن حصرها من مونديالٍ بقي حتى اليوم المونديال الأجمل في حياتي، وربما كانت الحياة كريمة معنا في ذلك الحين، بل يبدو أنها أهدتنا حصصنا من الفرح سلفاً، لأنها كانت تعلم أن مونديال 2010 سيكون الأخير لنا معاً، لذا كان كرمها ذاك ومحبتها تلك نوعاً من الشفقة، إذ ستبخل علينا فيما بعد بكل شيء وستعاقبنا في قادم الأيام فتفرق شملنا وتلقي بكل منا إلى مصيرٍ تراجيدي مؤلمٍ، بين معتقل ومفقود، مهاجر ولاجئ، نازح ومحاصر. فقد أصبحت البلاد ملعباً تخاض فيه مباريات كثيرة في مونديالٍ سياسيٍ دموي، ويتحول الجمهور إلى كراتٍ تتقاذفها الأقدام المتصارعة كلٌ حسب مرمى مصالحه.
2014 مونديال الكهرباء
أصوات الحرب تدوي وخارطة المعارك تتسع لتلتهم مساحاتٍ جديدة من حياتنا، معظم أصدقاء المونديال السابق تفرقوا في أصقاع الأرض هرباً من الرعب والموت، أملأ فراغ غيابهم بحضور قِلّةٍ من الأصدقاء الجدد، نقاوم معاً قبح الحرب وسطوتها. حسناً، سأتابع هذا المونديال بصحبة ثلاثة منهم، جمعنا عشق الكرة وحب الحياة.
قبل أيامٍ من انطلاقة المونديال، بدأ الشغف والحماس يدخلان قلوبَنا لينسيانا مرارة الواقع وجحيم الحرب والقذائف. قرّرنا أن ندير ظهورنا للقذائف ونحتفل بالحدث الرياضي العالمي رغم أنف الموت. وكأنَّ قانون الجذب الذي يتحدّثون عنه في علوم الطّاقة أضحى حقيقة، فها هو القدر يقدّم لنا مفاجأةً مدهشة (قناة”هوا” الأرضية التي تنقل المونديال مجاناً)، بإمكاننا الآن متابعته باسترخاءٍ في بيوتنا ضمن أجوائنا الاحتفالية، ولا حاجة لارتياد المقاهي وتحمل أعباء تكاليفها التي تضاعفت عن السنوات الماضية.
خرجنا من نفق الحرب قليلاً وحلَّقنا مع أفراح شعوب العالم لنتذكر أننا بشر على قيد الحياة، دخلنا أجواء المونديال بكل ما أوتينا من لهفةٍ وإشراق، ولكن مزاج الحرب المتقلب أزعجه ذلك، فما إن بدأت أحداث المباريات الأولى حتى قتل أفراحنا وأجهض حماسنا، وهذه المرة عبر سلاح الكهرباء، التي عادت إلى الانقطاع شبه المستمر بحجة التقنين، لتحضر ساعتين وتغيب أربعاً.
ولأن سقف أحلامنا منخفضٌ جداً، واسينا أنفسنا بأننا محظوظون لأن خطة التقنين تختلف من حيٍ لآخر؛ فبدأنا نتتبَّع ساعتي حضور الكهرباء من مكان إلى آخر، لنحضر الشوط الأول في حيٍ والشوط الثاني في حيٍ آخر، وأحياناً نضطر إلى نقل التلفاز معنا إلى بعض البيوت. لكن سياسة التقنين صارت تتغير على نحوٍ مفاجئٍ لتعرقل خطتنا وتُضيِّع وجهتنا، فنركض كالعدائين لنبدل أماكننا لاهثين خلف الفرح المسروق. وفي حالاتٍ كثيرة كنا لا نوفق في متابعة مبارياتٍ كاملة حين لا يلتقي موعد نقلها مع موعد الكهرباء فنتمكن من حضور شوطٍ واحدٍ، وأحياناً يخذلنا مزاج الكهرباء في الربع الأخير من المباراة فنهرع الى أقرب مقهى أو نتطفل على الشاشات التي يمكن استراق النظر اليها من الشارع لمتابعة اللحظات الأخيرة من مباراةٍ حاسمة.
لقد خضنا مباراة طويلة وشاقة مع الكهرباء التي أتقنت فن المراوغة وتعمدت قهرنا واستفزازنا واللعب بأعصابنا، فحتى خلال ساعتي حضورها، كانت غالباً وبشكلٍ متكرر تنقطع لدقائق ثم تعود، لتضيع علينا مشاهدة هجمةٍ كرويةٍ حاسمة أو هدفٍ جميل، فتعلو صيحات الشتائم والتذمر بدل صيحات الفرح والتفاعل، ليبقى السؤال المؤلم والمعذِّب يلح كل يوم، لماذا لم يرتب موعد الكهرباء مع موعد المباريات؟
ربما لفتح الباب أمام تجار الحرب الذين وجدوا خلال المونديال سوقاً مربحة لتسويق مولدات الكهرباء، التي كان شراؤها حكراً على الأثرياء وميسوري الحال، بينما وقف الفقراء خارج المعادلة، إذ لا يحق لهم أن يفرحوا ويحتفلوا، وربما نسي بعضهم المونديال أصلاً بعد أن غرقوا في زحمة حياتهم اليومية المضنية، فلا وقت لديهم لتشغيل التلفازات التي توقفت عن العمل في تلك المرحلة لأن ساعات الكهرباء الشحيحة لا يمكن إضاعتها في أمورٍ صارت من الترف والكماليات، ثمة أمور كهربائية أساسية أهم وألح من تشغيل التلفاز، كتشغيل الغسالة والمكنسة والمكواة والفرن وغيرهم. كما أن بعض أرباب الأسر قد نسوا شكل التلفاز وهم يركضون خلف تأمين لقمة العيش، وخاصة أصحاب الحرف والمهن التي تحتاج إلى وجود الكهرباء، إذ باتوا يرتبون أعمالهم وفقاً لأهوائها التي تتحكم في مواعيد نومهم وزياراتهم وأفراحهم.
لقد خاض السوريون في ذلك العام مونديالاً خاصاً كان خصمهم فيه هو الحرب وأبناؤها: الموت والخوف، الكهرباء ومأساة الواقع اليومي وما شابه. ولو أن العالم كان عادلاً وإنسانياً لمنحهم لقب الفوز على الواقع وقدم لهم كأس الحياة.
2018 مونديال الفقد والوحدة
الكهرباء متوفرة إلى حدٍ ما والمونديال منقول على بعض القنوات الأرضية. لكن بريقه قد خفت في عيون الكثيرين، الحماس بردَ والفرح تعب في قلوب أغلب متابعيه، لقد أرهقتنا سنوات الحرب، وقتلت أشياء جميلة في أرواحنا، فلا يكاد بيت في سورية يخلو من جرح أوغصة أو مأساة. تابع معظم السوريين المونديال في بيوتهم، شلَّت الحرب والظروف الاقتصادية المتردية شغفهم ورغبتهم بالتنزه والاحتفال وانطفأ وهج الاحتفال الكروي في المقاهي والمنتزهات التي كانت فيما مضى وجها للتفاعل ومهرجاناً للفرح.
بالنّسبة للشباب المدمنين على متابعة الفعاليات الكروية في المقاهي، فقد انكفأ معظمهم عن إدمانهم هذا وصاروا يرونه بعين الخوف والريبة، فالمقاهي المكتظة، عادةً، بالشبان، تحوّلت في المرحلة الأخيرة إلى مصيدةٍ للإيقاع بالمطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية، وتسليمهم كصيدٍ سهلٍ للدوريات الأمنية ليتم سحبهم الى المعارك من أماكن جلوسهم أو أثناء خروجهم من الأبواب. فضّل أغلب أولئك الشّباب ملازمةَ بيوتهم مرغمين ليشاهدوا المباريات دون شغفٍ أو حماس.
تابعتُ أغلب مباريات هذا المونديال وحيداً في منزلي. لم أزر أي مقهى، فجميع المقاهي ستغدو كئيبة وموحشة بدون أصدقاء المونديالات السابقة الذين لم يبق أحد منهم في دمشق. ومن تبقى من أصدقاء في الداخل يجمعني بهم عشق الكرة كانوا مبعثرين في البلاد، سجناء مدنهم وقراهم أو حتى حاراتهم وبيوتهم، تقطعت سبل اللقاء بيننا لأسبابٍ شتى من بينها الانشغال في هموم الحياة اليومية والخوف من القادم وصعوبة التنقل بسبب رهاب عبور الحواجز وأيضاً بسبب انعدام آفاق الفرح وتعطل طاقات الحياة.
لقد كانت متعة مشاهدة هذا المونديال منقوصة بل ومؤلمة، تكشف حجم الفراغ الذي خلَّفه الأصدقاء. كل مشاهدة تفتح لي جرحاً وتستنهض ذكرى أصدقاء غائبين. أصوات المعلقين، أداء اللاعبين، كل تفصيل يُذكرني بهم، وبطقوسٍ ومواقف كانت تجمعنا في سابق الأيام. فِرَقٌ تذكرني بمن غادروا البلاد مرغمين وبآخرين مفقودين أو معتقلين منذ سنوات، مبارياتٌ تذكرني بأصدقاء اقتيدوا من الحواجز إلى الخدمة العسكرية ليخوضوا مونديال المعارك على الجبهات وبآخرين ماتوا جراء القذائف وبطش الحرب. أسمع أصواتهم بقربي وهتافاتهم وضحكاتهم. أشاهد التلفاز وأتصفح الفيسبوك في ذات الوقت لأتمكن من التفاعل مع الأحياء منهم، اللعنة على القدر والمسافة، لقد أصبح التفاعل الكترونياً والفرح مصطنعاً ومعلَّباً، وتحولت مهرجاناتنا واحتفالاتنا الواقعية النابضة بالروح والحياة إلى مجرد كلماتٍ وتعابير متكلفة ومقتضبة، ننثرها عبر منصات التواصل الاجتماعي، تحمل عبارات الشوق والتمني وأدعية اللقاء والابتهال لمونديال 2022 علّه يكون مونديال اللقاء والاحتفال بالفرج.
بواسطة Samer Ismail | يوليو 16, 2018 | Cost of War, غير مصنف
لقطة عامة على مقاهي دمشق، تخبرنا ماذا فعلت الحرب بأبرز مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية في العاصمة السورية، فما إن انقضت السنة السابعة من الحرب؛ حتى تدفقت أموال أمرائها لتمارس سياسة القضم والهضم لقطاعات واسعة من مرافق المدينة، والتي يبدو أنها ذاهبة في تغييرات أساسية على طابعها العمراني العام.
ليست المقاهي هي المظهر الوحيد في قياس نبض المدينة التي تصعد اليوم الدرجة الثامنة من سلّم الحرب، بل هي المرافق العامة التي تنقرض شيئاً فشيئاً لتتحول بين ليلةٍ وضحاها إلى مطاعم يرتادها أثرياء الحرب وصبيتها. جولة قصيرة بين الأحياء الرئيسية لدمشق، سوف تُظهر حجم السطو على أرصفة بكاملها لحساب مطاعم الخمس نجوم التي باتت تعبيراً عن تبييض الأموال وهدرها على ملذات أبناء وبنات النفوذ وسواهم ممن موّلتهم الحرب بنفسها، معممةً ثقافة المطعم، ثقافة الآكل والمأكول كصياغة مباشرة لشكل الحياة العامة.
شيئاً فشيئاً تكتظ طاولات وكراسي وسيارات فارهة إلى جانبها على أرصفة حي (أبي رمانة) و(أتوستراد المزة) و(المالكي) حيث تنتشر هنا أكثر مقاهي ومطاعم لا نحتاج القول إلى أنها حكر على أصحاب الثروات الذين تصل فاتورة أقل حساب فيها إلى ما يقارب (50 ألف ليرة سورية- ما يعادل 100 دولار أمريكي).
لقد كشرت الحرب عن مطاعمها ومقاهيها مبدلةً من شكل المقهى القديم، ومطعم العائلة المنحدرة من الطبقة الوسطى، لتمسي هذه الأماكن ذات الواجهات البلورية الفاخرة عنواناً لفروق طبقية حادة داخل المجتمع السوري الذي يتراوح متوسط دخل الفرد فيه بين (70 إلى 85 دولاراً أمريكياً) راتب موظف من الفئة الأولى والذي لا يكفي لتناول وجبة غذاء لمرة واحدة في مقاهي ومطاعم الحرب.
معادلة زادت الأغنياء غنى والفقراء فقراً، ليتم نفي العديد من أصحاب الدخل المحدود إلى مقاهي ومطاعم الفقراء التي ما يزال البعض منها يقاوم للبقاء على خارطة الخدمات التي يقدمها لزواره، فمن مقهى الروضة في شارع العابد نحو مقهى الكمال الصيفي والهافانا، وصولاً إلى مقهى الحجاز في شارع النصر، يجلس ما تبقى من جمهور المثقفين الذين بالكاد يدفعون ثمن فنجان قهوة وعبوة ماء صغيرة لقاء ارتيادهم لهذه الأماكن التي على الأقل ما زال بعضها يحتفظ بشكل المقهى القديم، بعيداً عن شاشات البلازما الضخمة المنصوبة في جهات المقهى الأربع، إما لنقل مباريات الدوري الأوروبي أو كأس العالم، أو لمشاهدة مسلسلات البيئة الشامية ذات الطرح الرجعي والمتخلف، حيث تعلو أصوات سحب الخناجر هنا أو يرتفع صوت المعلق الرياضي التونسي عصام الشوالي هناك، ليعلن هزيمة الأرجنتين والبرازيل واللطم على حظوظ الفرق العربية في كأس العالم بروسيا 2018.
لا رأفة بزوار المقهى الذين وجدوا أنفسهم خارج أجواء المقهى الجديد، والذي طرد من جنته جميع من لا ينتمون إلى التشكيلة الكروية الجديدة، فالمقهى في دمشق لم يعد مكاناً للقاء أو تبادل الأحاديث، أو لعب الشطرنج، بل تحول إلى حلبة جديدة من حلبات التصفيق والزعيق الممزوج بأغانٍ هابطة مفتوحة شاشاتها المنصوبة في كل الأرجاء على قنوات الفيديو كليب العربي، ومسلسلات الهيبة والخيانة الزوجية.
في هذا الجحيم المطبق يبدو من الصعب العثور على مكان محايد، وبعيد عن لوثة الكرة ونجوم المسلسلات وراقصات الفيديو كليب، بعيد عن فسحة لفنجان قهوة هادئ وحديث نميمة بين أصدقاء الكتب والثقافة والمسرح، خلا عن وجود مساحات لا بأس بها في هذه المقاهي لعرض القنوات الدينية الراديكالية، أو بث نشرات الأخبار الدموية على مدار الساعة، لتصبح الموسيقى –إن وجدت- نوعاً من الضجيج العام، ولتصبح كراسي المقهى منصات للتعذيب وتصديع الرؤوس بكل ما هو سطحي وتافه ومبتذل.
الشكل المعمم اليوم للمقهى الحداثي هو وجود ( Wi- Fi) أو (WIRELESS) خدمة الشبكة التي يطلبها (الزبون) ما إن يدخل المقهى كي يشبك مع شبكة الإنترنت، وهكذا يقضى الأمر، وما عليكَ سوى الدخول إلى أي مقهى من هذا النوع في دمشق، وهي النوعية الطاغية في المدينة، حتى تتأكد من أن الجميع رؤوسهم منحنية فوق هواتفهم النقالة، ينشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، دون حتى أن ينظروا ولو لمرة بمن يقابلونه على طاولة المقهى التي يجلسون إليها.
النرجيلة والهواتف المحمولة قطعتها (كلمة المرور)- (PASSWORD) لتحيل زوار هذه المقاهي إلى ما يشبه تماثيل صامتة لا تتكلم مع بعضها البعض إلا شذراً. نوعية جديدة من مرتادي المقاهي حيث (التواصل الاجتماعي) هنا هو اللا تواصل، فلا أحاديث يمكن إثارتها ولا نقاشات ثقافية أو اجتماعية أو سواها.
الجميع هنا مشغول بقطاف شجر (اللايكات) و(الكومنتات)- الإعجابات والتعليقات في سديم الموقع الأزرق- (فايس بوك) ليتحول المقهى إلى مجرد نقطة لقاء عابرة بين أشخاص بالكاد ينظرون إلى وجوه بعضهم البعض. وحتى ولو نظروا فهم منومون مغناطيسياً تحت سطوة هواتفهم التي أحالتهم وفق الدراسات الجديدة في عالم الميديا إلى (قبيلة منحنيي الرؤوس) أكبر قبيلة في العالم اليوم تنحني رؤوسها على شاشات هواتفها المحمولة.
مفارقات بالجملة يمكن رصدها اليوم في مقاهي ومطاعم دمشق التي أمست المكان الأكثر تميزاً لالتقاط الصور، كي يقوم أصحابها بنشرها مباشرةً على الفيس بوك، حيث يستغرق وقت التقاط الصور ونشرها على موقع (زكربرغ) ثلاثة أرباع الوقت في مقهى من مقاهي حي (المالكي) المنتشرة بكثرة بالقرب من حديقة الجاحظ، أو ما يصطلح عليه بــ (دوار المطاعم). هكذا يمكن النظر إلى فريقين من مرتادي المطاعم والمقاهي في عاصمة البلاد: الفريق الأول ما يزال يعتصم بأماكن نادرة من طقوس التواصل الاجتماعي، وهم يتوزعون عادةً على مقاهي من مثل:(البرازيل)- تحول ثلثا المقهى إلى بنك بيمو السعودي الفرنسي- و(الروضة) و(الكمال) و(الهافانا) و(قهوة مزبوطة) و(الشرق الأوسط) و (قهوة المتحف الوطني) و(العجمي) بينما يتوزع الفريق الثاني على مقاهي (آب تاون) و(الجميني) و(الكوخ) و(البوليفار) إضافةً لمقاهي ومطاعم (أتوستراد المزة) على سبيل المثال لا الحصر.
انقراض القراءة
طبعاً لا نستطيع القول أن مقاهي الفريق الأول صافية من لوثة التصفح الإلكتروني لمواقع التواصل الاجتماعي، فهذه المقاهي أيضاً حاولت الجمع بين ميزات المقهى القديم بطاولات النرد وخلوات بعض المثقفين والفنانين، فيما اختفت الجرائد الورقية من أيدي زوار الفريقين، إلا ما ندر. يقول فاضل الكواكبي الناقد السينمائي معلقاً على ذلك: ” يكاد الناس يستغربون مظهري الخارجي وأنا أتأبط جرائد (تشرين) و(الثورة) و(الأيام) و(البناء) و(البعث) أو مجلات (الحياة السينمائية) و(الموسيقية) و(المسرحية)، مصطحباً إياها معي إلى طاولات المقاهي التي أرتادها، فلقد آثرتُ أن أبقى على عاداتي القديمة في قراءة الجريدة وقهوتي السادة على طاولة المقهى، عادات ورثتها عن مقاهي حلب الرائعة، والتي اليوم لا أجدها عند مرتادي المقاهي بدمشق، إلا ما ندر.”
كلام (الكواكبي) يحيل إلى انقراض عادات القراءة التقليدية، كما يشير إلى قطيعة شبه كاملة مع أشكال التلقي القديمة. ظاهرة عززها منع الحكومة السورية لدخول جرائد (السفير) -قبل أن تحتجب- و(الأخبار) و(الحياة) إلى البلاد. المنع الذي ترك الجرائد الرسمية الملاذ الأخير لقراء الصحافة الورقية؛ ساهم هو الآخر في عزوف العديد من هذا الجمهور عن اقتناء الجريدة، ليذكرنا ذلك بما كتبه يوماً المفكر السوري الراحل (بوعلي ياسين-1942- 2000) في كتابه (شمسات شباطية) عندما قال: “أجمل شيء في الجرائد السورية أن قراءتها لا تستغرق أكثر من خمس دقائق!”
عبارة صاحب (عين الزهور- سيرة ضاحكة) تكشف بعضاً من التغييرات الدراماتيكية على شكل المقهى في دمشق، والذي على بؤسه الحالي، وتغير زواره، إلا أنه يشي بالكثير من العلامات التي تجدر قراءتها وفق الواقع المتفاقم في طرد الزوار القدماء، أو القلة القليلة منهم الذين آثروا البقاء داخل البلاد، متمسكين بآخر كراسي الخيزران وطاولات الرخام في مقاهيهم المعتادة، فعلى مدى سنوات طويلة تمكن تجار حي الصالحية من إقفال العديد من حانات ومطاعم المثقفين والفنانين التي تحولت في معظمها إلى مستودعات أحذية ومطاعم شاورما وبنوك.
هكذا على التوالي اختفى مطعم (الريس) واختفت معه طاولة برهان بخاري كنديم مزمن على طاولات عامرة في حانات (فريدي) و (القنديل) و( العمال) عامرةً بأغنيات ومواويل كل من ناظم الغزالي وإياس خضر وحسين نعمة ورياض أحمد.
يسرد الشاعر خليل درويش قصته مع رفاق العمر في مقاهي وحانات دمشق التي اختفت اليوم: “هناك عند ساحة المحافظة وعلى طاولة في مطعم (الريس) كنا نجتمع طوال عشرين عاماً، أنا وبرهان بخاري، ولؤي عيادة، وطارق حريب، ومحمد جومر، وأبو عدنان داغستاني، ومحمد بخاري الموريتاني وعاشق الشام الأول، و طبعاً حبيب قلبي الراحل عادل حديدي. ظرفاء كانت لا تستوي الجلسة بدونهم. هؤلاء اللماحون أنقياء القلوب، ماتوا جميعهم مكتئبين أو حزانى من حربٍ منعتهم من مغادرة منازلهم نحو طاولاتهم في حانات باب توما و(بارات) باب شرقي.”
كنا قد أرسينا تقليداً لتلك الطاولة- يوضح: ” كان كلما مات واحدٌ من ركاب قارب الأحزان هذا، نأتي في اليوم التالي لنشعل شمعةً ونصبُّ كأساً له قبالة كرسيه الفارغ، ثم نشرب بصحته حتى الصباح! اليوم لم يتبقَ سواي على متن مركب الأحزان هذا.”
حيّ الكفار
إقصاء المثقفين والفنانين والظرفاء عن وسط العاصمة ليس أمراً طارئاً على الحياة الاجتماعية في دمشق، فالحكاية تأخذ مديات واسعة من التهميش القسري، وتحت ضغط من بعض الغلاة الذين يعتبرون (شرب الكحول حرام في الشرع) مما أدى إلى نزوح العديد منهم إلى أماكن مهجورة وفرتها الحرب مرةً، وطاردتهم فيها مرات.
على الأقل هذا ما دفع العديد من هؤلاء للجوء إلى بارات باب شرقي وباب توما، ساخرين من هذه الطائفية في تحديد مواقع سهراتهم: “ثمة من يريد أن يقول لنا إذا أردتم أن تشربوا وتسكروا عليكم بالذهاب إلى (حي الكفار)”- يقول فنان تشكيلي رفض ذكر اسمه ويضيف: “المدينة لا يمكن أن تكون مقتصرة فقط على أسياخ الشاورما ومرقة الفول، لا يمكن أن تعيش بلا مكتبات وحانات ومسارح وصالات سينما، لا أراها اليوم إلا تذبل وتضمحل تحت وقع ما تريده وزارة الأوقاف ودار الإفتاء، ليتدخل أحد ويوقف هذا الخواء المرعب.”
آخر حكواتي في دمشق
الكرسي العالي الذي يتوسط مقهى النوفرة الدمشقي بات شاغراً اليوم بعد موت (أبو شادي) آخر حكواتي في دمشق؛ فمنذ رحيله قبل أربع سنوات، أصبح أعرق مقاهي العاصمة السورية يستقبل زواره دون سماعهم سيَر عنترة وعبلة وأبي زيد الهلالي، إلا أن ذلك لم يمنع المخرج المسرحي سامر عمران في عرضه (نبوءة) من اختيار (مقهى الشام القديمة) المواجه مباشرةً لمقهى (النوفرة) ليكون مكاناً بديلاً لعرضه المسرحي، في تحدٍ فني لافت لرجال احتكروا مهمة السرد لقرون طويلة؛ متناولاً سنوات الحرب في بلاده عبر توريةٍ ذكية، كان أسند فيها (عمران) دور الحكواتي الغائب للممثلة ربا الحلبي؛ لتسرد الفنانة الشابة هذه المرة حكاية من نوعٍ آخر؛ مبتعدةً عن قرقرة ماء النراجيل، وجمر أدخنتها، وصيحات أنصار الزير ودياب الغانم. الحكواتية الشابة تلت نبوءاتها المتعددة دامجةً بين التمثيل والترتيل والغناء، مفتتحةً بمقطعٍ مؤثر من نص (ملحمة السراب) لسعد الله ونوس، ليكون هذا العرض بمثابة تغيير لوظائف وطبيعة المقهى الشعبي، ومحاولة لخلق فضاء ثقافي منه، كما حدث عام 2008 مع فعالية (مقهى الذاكرة) الذي أطلقته احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008.
كان ذلك قبل اندلاع الأحداث الدامية في سورية، حيث استضاف هذا النادي في (مقهى الروضة) العديد من الشخصيات والرواة الشعبيين، في تواصل اجتماعي دأب إلى تغيير شكل المقهى القديم، من مجرد ملتقى يومي لتزجية الوقت، إلى ما يشبه منتدى ثقافي وسياسي.
ظاهرة لم تستمر طويلاً، فما لبثت أن اختفت مع انقضاء عام الاحتفالية، ليعود المكان إلى صيحات شلل (الشدّة) وتطاير أوراق اللعب، لاسيما من شريحة ممثلي التلفزيون الذين ما يزال من بقي منهم يحافظ على بطولات (التريكس) و(الطرنيب) و(الشتائم) قريباً من سجادات الصلاة المفروشة بين طاولات المقهى الذي يجاور مبنى البرلمان السوري!