يوميات سورية: تدابير اقتصادية أم انصياعٌ كامل للفقر؟

يوميات سورية: تدابير اقتصادية أم انصياعٌ كامل للفقر؟

ثمة تدابير حياتية لا تحليل منطقي لها، يتم التسويق لها لتبدو حلولاً خارقة وتغلّف بغلاف العبقرية لكنها مجرّد  تدابيرٍ إجرائيةٍ لا خيار بالعودة عنها، تفرض نفسها كنمطٍ حياتيٍ يوميٍ وتتسع معها حدة التغيرات الطارئة على كافة تفاصيل الحياة. يثبت الأفراد يوماً بيوم طقوس عيشهم فتصبح أعرافاً غير قابلة للخدش أو النقض. في كل بيتٍ سوريٍ خزانةٌ للزجاج (فيترينا أو درسوار)، ويوم العطلة يوم لدعوات الأهل على الغداء أو العشاء، ويوم الجمعة للفول والحمص، وأيام الأعياد عامرة بالحلويات والفواكه ولو بالدَين.

كل يوم أحد يلي العطلة الأسبوعية (الجمعة والسبت)، تحمل أمل معها دزينة أطباقٍ صغيرةٍ أو كبيرةٍ أو فناجين قهوة، طقم دلات للقهوة أو إبريق شاي ستانلس لتبيعه لزملاء العمل بعد أن انهارت منظومة التقليد الراسخ المتمثل بتخزين الزجاج وأدوات المطبخ استعداداً لكافة المناسبات التي يجتمع فيها عددٌ كبيرٌ من البشر في بيتٍ واحد، كتأثيث بيوت الأبناء المقبلين على الزواج. ومع حالة الغلاء المنفلت من عقاله والذي أدى إلى حرمانٍ قطعي لمكوناتٍ أساسيةٍ من  كافة الاحتياجات الأساسية وصولاً للاحتياج الغذائي اليومي، هذا عدا عن التشييئ الذي غلّف كل المقتنيات، باتت كل المدخرات بلا قيمة في مواجهة الموت أو السرقة. تقول أمل: “أولادي سافروا، أنا بحاجة للمال، لمن سأترك غلالي للسارقين أم للغبار والعبث؟”

***

تطلب أم وسام لحمة بمائتي ليرة يُذهل اللحام، فماذا هو بفاعلٍ أمام هذه الطلبات، فأوقية لحم العجل بتسعمائة ليرة! كيف يقسم الأرباع والأخماس  ليحدد وزنا معادلاً للمائتي ليرة؟ تشعر بحيرته فتقول له “مجرد نكهة لتطعيم الطبخة أحسن من الماجي!” وتبدأ بسرد قصةٍ لا طائل منها فقط لتبرّر عجزها عن شراء أوقية لحم.

في مكانٍ آخر تطلب سيدة قفصاً من بائع الفروج، أتساءل عن معنى القفص ومبرر وجوده هنا؟ يصرخ البائع بالصانع: “هات الأقفاص!” لأكتشف أنه ثمة كائن مشفّى من اللحم، مجرد هيكل على العظم، يشتريه الناس ليطبخوا ولائم البرغل، تقول لي السيدة “ماء العظام مسامير للركب وله نكهة زاكية.” تطبخ  مقدار كيلوغرامين من البرغل فوق مرق الهيكل العظمي، فيصير للأقفاص مرق ونكهة وحضور غالٍ وعزيز.

***

في الولائم وما يسمى المناسبات العائلية بات الجميع يتقاسمون وجبات الطعام، كل عائلة تلتزم بإحضار تفصيل من تفصيلات الدعوة. بعد سنةٍ كاملةٍ قرّرت أم جميل تحضير الكبب. الكل دفع حصته، الكل شارك حتى في قيمة الملح وسائل الجلي، تبدو الحالة هنا مختلفة، فيها نوع من المشاركة كنا نفتقده وكان الجميع يتسابق لتقديم الأكثر والأعلى كلفة.

***

يتبادل السوريون الكتب المدرسية أو يبيعونها دونما تردد أو خجل كما كان سائداً فيما سبق. يبيعون قمصان الزي المدرسي والحقائب المدرسية المستعملة وما تبقى في الدفاتر كمسوداتٍ صالحةٍ للكتابة. يتبادلون محتويات سلة الإعانة وخاصة في ظل وجود حالات مرضية كالسكري أو في ظل وجود أعداد كبيرة من الأطفال تستهلك الأرز والمعكرونة بكميات كبيرة، في زيارات المرضى يأخذون ما يلزم، فاكهة، فروجاً، صابوناً، عبوة زيت، ولا مانع أيضا من مبلغٍ زهيدٍ يسند المريض وعائلته وقد تكون الهدية علبة دواء.

لدي رفيق يمتلك مكتبةً عظيمةً وكتبه نادرة ويمتلك أمهات الكتب، اليوم (12 نيسان) رأيته تحت جسر الرئيس وسط دمشق، يبيعُ أربع كتبٍ لعفيشة المكتبات وباعة الرصيف كي يأكل… ياحيف، ويالبؤسنا!

***

تنتظر النسوة ربّات البيوت وخاصةً غير العاملات منهن وقت الظهيرة ليذهبن إلى السوق لشراء طبخة اليوم. حينها تهبط الأسعار ولو خمس ليرات لكل كيلو غرام، ويمكن وقتها مفاوضة بائعٍ متعبٍ أو بردان أو يعاني من حرّ الشمس على بيعةٍ ناجحة: خمسة كيلو غرامات بندورة شبه ممعوسة بمائتي ليرة، كومة سبانخ بثلاثمائة ليرة، بطاطا مشقوقة ومقشرة ومكسورة بمائة ليرة للكيلو الواحد، تدور الصفقات وتدور الأمنيات علّها تخصب وتشبع البطون وتهدأ النفوس.

***

أصبح تقليد التكسي السرفيس معمماً لتخفيف عبء نفقات التنقل، توقّف السوريون بشكلٍ عام عن إبراز مظاهر الواجب المتعارف عليها قبل الحرب، كأن يدفع الرجل عن المرأة أو يدفع الأكبر سناً عن الأصغر، كلٌ يدفع عن نفسه وقد يلجأ ستة طلاب دفعة واحدة لاستئجار تكسي واحدة لتقلهم إلى الجامعة.

***

في الحرب تهتز العادات الثابتة، تنظم نفسها بتوافقٍ شبه غريزي موائمٍ لضغط الحاجة، ثمة من يقترض أسطوانة الغاز لأنه لا يملك ترف شراء واحدة، وثمة من يضع  قوالب للثلج في ثلاجة جاره لتبريد الماء لأنه لا يملك ثلاجة أصلاً. يشتري السوريون السجّاد المستعمل وإن كان مسروقاً لأنهم لا يملكون مالاً لشراء الجديد. طناجر الألمنيوم الكبيرة باتت حاجة ماسة تشترى من أي مكان، من جارةٍ تقلصت عائلتها وباتت لا تحتاج الطناجر الكبيرة، من محال بيع المسروق، من صديقةٍ حصلت عليها كهديةٍ  مجانيةٍ ولا تحتاجها فتبيعها لشراء ما تحتاجه.

ذات يوم بادلت سيدة أربع عبواتٍ من الزيت النباتي بتفريعة، قالت للبائع
“لم يتبقَ لنا أي شيء إلا الزوج وكثيراتٍ تنتظرن خطفه منا!”

ولدٌ بيده علبة أقلام ملونة دخل المكتبة وسأل صاحبتها: “هل تشتريها مني؟” رفضت في البداية فلديها الكثير والبيع قليل، لكنها حين عرفت حاجته أخذتها منه مقابل تفاحتين وسندويشتين من الجبنة الكريمية له ولأخته.

اللافت في تغير أنماط الاستهلاك هو تراجع حجم الكميات المشتراة والمباعة، الكيلو تحول لقطعة، أو لأوقية، والغالب هو بمائة، بمائتين، أي أنّ الحاجة تحدّدها الكتلة النقدية المعروضة للتداول وليس الحاجة الحقيقية. حتى الباعة باتوا يعرضون بضائعهم بأكياس موزونة سابقاً وبكمياتٍ قليلة جداً. ولابدّ من الإشارة هنا إلى تراجع النوعية وغياب الرقابة على كافة المنتجات وخاصة الشعبية منها والتي باتت الأكثر مبيعاً والأكثر طلباً، مثل المنظفات والتي تحضر بطرق بدائية تفتقد مكوناتٍ أساسيةٍ في تركيبتها مثل نسبة التعقيم المطلوبة كحدٍّ أدنى والمرطبات، خاصة إذا ما عرفنا بأنّ أكثر العائلات الفقيرة تستعمل سائل الجلي لغسل الملابس وكبديلٍ عن الصابون لغسل الوجه واليدين، مما يسبب آثاراً غير صحية تضيف للفقر وضيق ذات اليد بعداً جديداً وهوانخفاض مستويات الحماية لكل شيء. كما أنّ البضائع المعروضة بطريقة الفرط والمعبأة بأكياس شفافة لا تسمح للمشتري بالتعرف إلى حقيقة المكونات ولا إلى تاريخ الصنع أو تاريخ انتهاء الصلاحية.

***

إنّ كل ما سبق وإن بدا وكأنه ليس بذي قيمة مقابل شبح الموت والعنف المخيمين إلا أنه مرآةٌ لواقعٍ قاس ٍوشبه ميت، متناقضٍ في جوهره ومتناحر في سيرورته. تبدو الأشياء في عفوية العيش القسري وبساطة استعراضها وكأنها تسهيلات للعيش بخسائر أقل، لكنها شروخ عميقة في البنية المجتمعية، نقصٌ أصيلٌ ويحتاج الحلول فيما يخص مستقبل الأفراد صحة وتعليماً وعملاً. بداهة العيش في ظل القهر الذي تفرضه الحرب  ليس مدعاة للاحتفال بانتصار الحياة، بل هو توقف ضروري لبناء بدائلٍ أكثر عدلا ًواكتفاءً وإنسانيةً.

الاغتصاب الحلال

الاغتصاب الحلال

سلعٌ بشرية تباع وتشترى في أسواق الحرب. إنها عودةٌ إلى أسواق النخاسة، بفارق أن الضحية هذه المرة تستر فضيحتها ومأساتها تحت عباءة الزواج الحلال.

فتياتٌ لم يودّعن ملاعب الطفولة والأحلام بعد، يُزجّ بهن في سجن زواجٍ مرعب، يُشرِّع اغتصابهن تحت مسمياتٍ كثيرة، ويجعلهن أمهات وهنَّ مازلن يلعبن بالدمى ويملأن الشوارع صخباً ومرحاً. هكذا، يكبرن فجأةً بقرارٍ تعسفي، يشبه حكم الإعدام، لا رأي ولا علم لهن به… يربين أطفالاً وهن لايزلن طفلات بحاجةٍ للحب والتربية والتعليم وحضن أمهاتهن. يصبحن ربات منزل، يَغسلن ويحضِّرن الطعام ولم يزل مذاق الحليب والبوظة والبسكويت معششاً في أفواههن. يحملن مسؤولية العناية بالزوج وتلبية طلباته وتحقيق المتعة له، قبل أن يجرِّبن أبسط متع الطفولة. يطالَبن بواجباتٍ قبل أن يحصلن على حقوقهن في التعلم وتنمية المهارات واكتشاف الحياة، حياتهن التي قُتلت قبل أن تُكتَشف.

 زواج القاصرات، حدثٌ لم يكن غريباً عن المجتمع السوري، لكنه قبل الحرب كان يخضع، إلى حدٍ ما، للرقابة الأخلاقية والإنسانية في المجتمع، وينحصر في بعض المجتمعات التي يحكمها الجهل والتخلف. أما بعد الحرب، فقد تحول إلى ظاهرةٍ خطيرةٍ متفاقمة اجتاحت كل أصقاع البلاد، وألحقت الأذى بالسوريين أينما حلوا، حتى باتت وباءً يفتك بالمجتمع ويقوض دعائمه ويدمِّر إنسانيته وبديهياته الأخلاقية.

في النزوح القاصرات قرابين للحرب  

هربوا من بطش الموت في مناطق الصراع نازحين نحو مناطق ظنوا أنها أكثر أماناً، لكن الحرب لحقت بهم، وداهمهم الموت عبر طرقٍ أخرى، ليجابهوا مصائب الواقع الجديد، حيث الذل والقهر، الفقر والخوف، يحدقون بهم من كل صوب، ويجبرونهم على تقديم أغلى ما لديهم كي يروضوا وحشية الحياة.        

لم تكن (أ) ابنة الثالثة عشر، تعرف معنى خاتم الزواج الذي وضع في إصبعها الغض، الخاتم الأشبه بقيدٍ يُدمي براءتها.

بعد نزوح عائلتها إلى ضواحي دمشق، اختفى والدها في ظروفٍ غامضة (اعتقال، خطف) تاركاً إياها مع أمها وأختيها يصارعن كوارث الحرب بواقعها الجديد. تحت وطأة العوز والخوف والعيش المرير، لم يكن أمام الأم من خيارٍ سوى الانصياع لصفقة الجار ذي الخامسة والأربعين عاماً، الذي اشترى ابنتها للزواج.

كان يلاحقها بنظراته ليل نهار ويقدم لها الألعاب والأطعمة ويرشي الأم المعدمة بالعطايا والمساعدات التي كان يغدقها على العائلة البائسة الغارقة في مستنقع الغربة والضياع والمهدَدة كل يوم بالتشرد في الشارع.

سكنت (أ) في بيتٍ واحد مع أبناء زوجها الذين كانوا بعمرها تقريباً، لتعيش حالة فصام، إذ تلعب معهم في غياب أبيهم كطفلة وفي حضوره تعود إلى دور الأم المزعوم، أما هم فكانوا يتساءلون عن أسباب نومها في غرفة أبيهم، ويندهشون حين يسمعون بكائها وصراخها في الليل، ويتألمون معها ببراءة على وجعٍ سيعرفون فيما بعد حجم كوارثه.

(ف) طفلة متسولة تبيع البسكويت، كنت أراها بشكلٍ شبه يومي تجلس وأخوها الصغير في إحدى شوارع دمشق ليستجديان من العابرين ما يسد رمق العائلة. مرت عدة أيامٍ لم أرها فيها، سألت أخاها الذي كان يتابع مهنته الشاقة، فأخبرني أنها تزوجت. اصطحبنا الطفل إلى بيتهم للقاء الأم. شقةً بائسة (على العظم) لا تصلح للعيش البشري، أُغلقت نوافذها بالقماش والنايلون وارتُجل لها باب. على أرضها، بين بقايا الرمل ومخلفات البناء، وضعت بعض الفرش والبطانيات. لا يوجد في هذا الخواء أي شي من متطلبات الحياة، فلا تصله أنابيب الماء أو خدمات الصرف الصحي وبالتالي لا يحتوي مطبخاً أو مرحاضاً.

تقول الأم ” فقدت زوجي قبل نزوحي مع أبنائي الأربعة ونتيجة لما عانيته، أصبحت ضحية أمراضٍ كثيرة، خاصة أمراض الظهر والمفاصل والأعصاب وبالكاد أستطيع السير على قدميّ.”

تتحدث بحزنٍ وألم عن زواج ابنتها: ” كان علي أن أنقذها من الذل والخوف وقسوة هذه الحياة، بيت زوجها أفضل ألف مرة من التشرد في الشوارع وسيسترها ويريحني من تحمل أعبائها، فجسدي المتهالك لا يسمح لي بالعمل لأنقذها من الجوع والمستقبل المرعب وأنا عاجزة حتى عن حماية نفسي.”

تزوجت الضحية (ف) من رجلٍ يكبرها بأكثر من خمسةٍ وعشرين عاماً وهي لم تتجاوز الرابعة عشرة، وما زالت دميتها المصنوعة من القماش البالي، معلّقة على الجدار المقفر بجانب أمها المنهكة في مشهدٍ درامي مؤلم.

المناطق الساخنة ، بين مطرقة الجحيم وسندان الشرع والدين  

ويلات الحصار، الأوضاع المعيشية القاهرة ،الموت المجاني وانعدام الأمان. ظروفٌ عانتها مناطق سيطرة المعارضة، أجبرت كثيراً من الأهالي على تزويج بناتهم ليرتاحوا من أعباء حمايتهن وإعالتهن وهمّ انتشالهن من جحيمٍ تلقي فيه الحرب أمراضها وكوارثها عليهن لتميتهن في اليوم آلاف المرات، لذا حاولوا تقديم  تسهيلاتٍ كثيرة لطالبي الزواج، كعدم المغالاة في المهر، ليقتصر على ما هو رمزي، والتغاضي عن أصولهم وأعمارهم وأوضاعهم المادية وسلوكياتهم الأخلاقية. كما أن تناقص أعداد الشباب، بسبب الموت والإعتقال والفقر والهجرة، قد دفع ببعض أهالي القاصرات لاغتنام أية فرصةٍ لتزويج بناتهم، قد لا يحظون بها مرة أخرى، بل حاول بعضهم عرض بناته للزواج خوفاً عليهن من مستقبلٍ مجهولٍ لا تحمد عواقبه.

إن غياب القانون والمحاكم المدنية عن تلك المناطق وانحلال بعض القيم الإنسانية والأخلاقية في المجتمع الممزق والمتداعي أمام وحشية الحياة اليومية هناك، قد فتحا الباب لانتشار حالات الزواج العرفي الذي ساهم بدوره في تفشي ظاهرة زواج الأطفال، فأمر الزواج الذي كان حلماً صعباً ويحتاج إلى شروط تعجيزية – وفقاً لبروتوكولات معظم شرائح المجتمع السوري – كالنظر إلى حَسَب ونسب الزوج وأملاكه، قد أصبح اليوم أمراً يسيراً في غاية السهولة وفي متناول يد من يريد، إذ لا يتعدى الأمر حضور رجل الدين وشاهدين وورقة ما يُكتب عليها بضع كلماتٍ تسمى “عقد زواج”. أمام واقع الحال هذا، اغتنم معظم الرجال الفرصة ليس لكي يتزوجوا فحسب، بل لكي ينعموا بتعدد الزوجات، اللواتي كن في أغلب الأحيان  قاصرات.

بعد انتشار ظاهرة المد الديني في معظم المناطق الساخنة، ارتفع صوت الزعامات والمرجعيات الدينية المنادية بضرورة تزويج الفتيات لكي “يكملن نصف دينهن”، لذا راحت تبحث عنهن في البيوت لتضع يدها عليهن وتصادرهن كما الغنائم، بغية تزوجيهن بقرارٍ منها لا يعبأ برأيهن أو رأي ذويهن، كما حاولت حث الفتيات والفتيان على الزواج لإنقاذهم ـ بحسب زعمها- من الوقوع في شرك الخطيئة والفتنة. من جهةٍ أخرى عَملت بعض الفصائل المسلحة على استقطاب الشباب القاصرين للقتال في صفوفها، عبر إغرائهم بعروض الزواج الكثيرة، كتسهيل إجراءاته وتقديم الدعم المادي لإتمامه وتأمين الفتاة المناسبة. أمام هذه المغريات انساق كثيرٌ من الشباب المغلوب على أمرهم خلف تلك العروض وتسابقوا للفوز بها واغتنام ملذاتها، دون أن يعلموا أنهم ضحايا مآرب حقيرة. لكن المأساة الأكبر كانت من نصيب  فتياتٍ قاصراتٍ تم الزج بهن في أتون حروب نفسية وجسدية جديدة واستخدمن كوسائل للمتعة والترغيب وإتمام الصفقات، حيث أُجبرن تحت الضغط والترهيب وبحجة تطبيق أصول الشرع والدين على الزواج من رجالٍ غرباء ومشبوهين لا يعرفن شيئاً عنهم وبالكاد تعرَّفن إلى أسمائهم.

إن الأمراض والأخطار التي نجمت عن تلك الزيجات كانت كارثية. عقود زواج كثيرة ثبت أنها مزوّرة، لم تضمن للقاصر شيئاً من حقوقها بل جعلتها بنظر البعض بحكم الزانية . قاصراتٌ أصبحن أرامل وأنجبن أطفالاً أيتاماُ قبل أن يتعرفن على طقوس الحياة الزوجية، فتضاعفت مأساتهن وازدادت عليهن قيود الدين والمجتمع. أُخريات افترقن عن أزواجهن بعد أيامٍ من الزواج، نتيجة نزوحهن أو مرابطة الأزواج على جبهات القتال، ولا يعلمن شيئاً عن مصيرهم منذ سنوات. أطفالٌ ولدوا في تلك المناطق، هاجر آباؤهم أو ماتوا قبل تثبيت الزواج في المحكمة، فأصبحوا مجهولي النسب أو مكتومي القيد يتهددهم مستقبلٌ مجهول. 

سبايا بغطاءٍ شرعي

في مخيمات اللجوء نشطت أسواق النخاسة بشكلٍ علني، قاصراتٌ نُقلن إلى دول الخليج وغيرها كما تُشحن البضائع أو تم بيعهن إلى التجار والأثرياء وطلاب المتعة الذين وجدوا بالزواج العرفي غطاء شرعياً للاستغلال الجنسي. يكفي أن يرسل المشتري نقوده (تحت مسمى المهر) إلى سماسرة الزواج لترسل سلعته البشرية إليه، والبائع غالباً مغلوبٌ على أمره. فهو إن استطاع إنقاذ ابنته من مآسي وأمراض حياتها اليومية فقد لا يفلح في إنقاذ شرفه الرفيع من الأذى، فالعار يحدق بابنته في كل لحظة، حيث المخيمات تعج بالوحوش الباحثة عن فريسة، وقد تكون ابنته وشرفها ضحايا للافتراس.

تحدثنا (أمل)، التي عملت في مجال الدعم النفسي، داخل مخيمات اللجوء في لبنان، عن واقع الحال هناك “كان هناك سماسرة أو ما يعرف بـ (الخطّابين)، وعلى يدهم تمَّت أغلب صفقات الزواج من أثرياء وتجار وغيرهم. يلعب السماسرة دور الوسيط بين الزوج وعائلة القاصر، يعرضون مواصفات الفتاة على طالب الزواج أو يرسلون صورها إليه، ويفاوضون ولي أمر الفتاة بشأن المهر وأمور الزواج الأخرى. كثير من الزيجات تمت كزواجٍ عرفي ودون حضور الزوج.

من زاوية أخرى، تضيف أمل “إن انخفاض تكاليف الزواج  من سوريات المخيمات الباحثات عن خلاص ما، وارتفاع تكاليف متطلباته ومراسمه في معظم البلدان العربية إلى مبالغ خيالية، قد دفع بعض الشباب مختلفي الجنسيات من الباحثين عن زواجٍ ميسور لطرق أبواب المخيمات حيث عروض الزواج المغرية،  فابتاعوا أجمل الفتيات السوريات القاصرات بأسعارٍ بخسة، وكأن الأمر سوقٌ للعرض والطلب.”

“خياران أحلاهما مرّ” تتابع أمل متحدثة عن أسباب تلك الزيجات ” كانت العائلات السورية المنكسرة تنتظر سلة الإغاثة وكأنها صدقة وتتسول الدعم الشحيح للمنظمات التي تتحكم بلقمة العيش. ظروفٌ معيشية معدمة لا تصلح لكائنٍ بشري، شحٌ في كل متطلبات الحياة، ناهيك عن الكرامة المهدورة والذل والإهانة اليومية. وإن حظي رب الأسرة بفرصة عمل خارج المخيم فسيكون عرضة للاستغلال والتضييق والأذى وتلقي سهام العنصرية.  لكن الأمر الأكثر خطورة تمثل بانتشار حالات الاغتصاب والتحرش الجنسي في معظم المخيمات، ذلك بسبب الظروف السكنية القاهرة والاكتظاظ البشري الهائل، إذ تعيش أعداد كبيرة من البشر في مساحاتٍ ضيقة لا يحظى القاطنون فيها بأية استقلالية، الأمر الذي يفتح الباب لكل الاحتمالات المؤلمة والمدمِّرة.

لقد شهدنا حالات اغتصابٍ كثيرة تم التكتم عليها من قبل أهالي الضحية بذريعة الشرف واتقاء الفضيحة، وهناك ما هو أخطر، فأحياناً قد تجد مراهقاً يتحرش بأخته وذلك بعد ضياع الدور التربوي الرقابي من قبل الأهل الغارقين في جحيم معاناتهم اليومية. حيال ذلك الواقع، أصبح تزويج الفتيات بنظر أغلب الأهالي هو طوق نجاة لهن، فبرأيهم : “الرمد خيرٌ من العمى”.  

تختتم أمل “كل يومٍ كنت أرى قاصراتٍ جدداً يخرجن من جحيم المخيمات إلى جحيم زواجٍ مجهول. من بين ستين فتاةٍ عرفتهن خلال عملي بتقديم أنشطة الدعم النفسي، تزوج منهن حوالى ثماني عشرة فتاة، وما يؤلم في الأمر أكثر هو أن معظم تلك الزيجات كانت بغرض المتعة فقط. كثيرُ من المتزوجات عُدن مطلقاتٍ إلى المخيم بُعيد أسابيع من الزواج، بعد أن أشبع مغتصبهن غرائزه الجنسية تحت غطاء زواجه المزعوم. وبالرغم من وعود معظم الأزواج بتثبيت الزواج في المحكمة وضمان حقوق الزوجة، تبين أن بعض تلك الوعود كانت زائفة، تضمر خلفها مآرب كثيرة كان أسوأها الاتجار بالقاصرات وتشغيلهن في بيوت الدعارة بعد تمزيق عقد الزواج الكاذب.”  

أخطار جسدية ونفسية

وفقاً للدراسات الطبية، لا يكتمل نمو جسد الفتاة قبل سن العشرين، وبالتالي فإن الحمل قبل هذا السن يعتبر أمراً بالغ الخطورة، وإن حصل فالحامل معرضة لفقر الدم وهشاشة العظام والتعب ومهددة بالإجهاض بأي لحظة، أما الجنين، فهو عرضة للتشوهات الخلقية والشلل الدماغي والإعاقة الحركية، وإن وُلِد معافىً فقد لا ينجو من سوء التغذية وانعدام العناية الطبية والنفسية، ليصبح مهدداً بتأخر النمو الجسدي والعقلي، فالقاصر ليست مهيئة أو متمرِّسة لكي تعتني بطفل، وعواطفها ومشاعرها لم تنضج بعد لتمنح الحب والعاطفة والتربية الصحية لطفلها، سُرقت من حضن أبويها قبل أن ترتوي من حنانهم وعاطفتهم، لذا غالباً ما تصاب بأمراضٍ نفسية وحالات فصامٍ واكتئابِ واضطراباتٍ في الشخصية، إذ كيف يمكن لطفلٍ أن يربي طفلا؟

الطفلة ” غ” ١٥ عاماً، أجهضت بعد حمل دام أربعة أشهر، التقينا بأمها التي شرحت لنا معاناة ابنتها: “خلال أشهر الحمل كانت تعاني من دوارٍ شديد وتعبٍ وكسلٍ دائمين، ولم تتمكن من الراحة لأنها تقوم بأعباء المنزل وخدمة زوجها. أصيبت بفقر الدم وأصبح لونها شاحباً، كانت تتقيأ كثيراً وتعاني من آلام في البطن والمفاصل والعظام وأصبح جسدها نحيلاً لا يقوى على الحمل فأجهضت.” ثم أخبرتنا عن ابنة أحد أقربائها وهي بعمر ابنتها، حبلى بشهرها السادس، تعاني من الأعباء ذاتها وتزور المستشفى كل حين لتحافظ على حياة جنينها. حالها حال الكثيرات ممن يقاوم جسدهن الطفل مشقة حمل طفلٍ آخر.   

القانون لا يردع الجريمة       

حدد قانون الأحوال الشخصية في سوريا في المادة السادسة عشرة منه أهلية الزواج للفتاة بتمام السابعة عشرة من عمرها، لكنه أجاز للقاضي إمكانية تزويج الفتاة في عمر الثالثة عشرة إذا تبين له صدق رغبتها وقدرة جسدها على تحمل أعباء الزواج. من جهةٍ أخرى، القانون غالباً لا يكون رقيباً على حالات الزواج التي تهرب من سلطته لتتم برعاية ومباركة الدين والشرع. فأغلب زيجات القاصرات تمت كزواجٍ عرفي بتشريعٍ ديني لم يعبأ بسلطة القانون لأن الأخير لم يحاول ردعه.

في السنوات الماضية ازدادت معاملات زواج القاصرات بشكل مضطرد، وبعضها جاء بعد سنوات من الزواج العرفي، إذ يحضر الزوجان إلى المحكمة لتثبيت الزواج بعد حمل الزوجة أو انجابها، فتضطر المحكمة لتثبيت الزواج دون النظر إلى أسبابه أو التحقيق بشأنه.

يقول المحامي أحمد “حتى اليوم لا يوجد قانون يُجرِّم زواج القاصرات، فهو ينهل معظم مواده من أصول التشريع الديني، إذن، هو يعترف ضمناً بالزواج العرفي و يبقي لسلطة الدين والمجتمع نفوذها في غياب من يحمي القاصرات ويتركهن عرضة للإجرام والإنتهاك.  لو حاول القانون معاقبة من يتزوج قاصراً أو يرغمها على الزواج فربما حينها سيردع حالات كثيرة، لكنه بدلاً من معاقبة الجاني يبرئه ويقر بزواجه. هذا القانون لا يردع جريمة الاغتصاب حتى، فهو يعفي المغتصب من العقاب إذا تزوج من اغتصبها، أو يخرجه من السجن بعد تثبيت زواجه منها.”   

من جهة أخرى يضيف المحامي “القانون لا يأخذ بيد القاصر، فلقد حصر سلطة الولاية عليها بالأب أو الجد، إذ لهما الحق الوحيد في الموافقة على الزواج،  لقد استثنى الأم من أن تكون وليةً على ابنتها أو شريكة في الولاية، فهي خارج الولاية حتى في حال وفاة الأب. لو تسنى للقاصر أن تقرر مصيرها بيدها أو سُمح لأمها بأن تكون شريكةً في قرار الزواج لكان يمكن لتلك الظاهرة أن تنحسر بشكلٍ كبير.”   

يختتم المحامي أحمد “في السنوات الماضية لم ينظر القانون إلى موضوع زواج القاصرات وفقاً لمعطيات الحرب، فكثير من حالات الزواج تمت تحت سطوة التهديد والإكراه والسلاح في بعض الأحيان، تلك السطوة لم تطل القاصر فحسب، بل طالت ذويها وأرغمتهم على الإذعان لرغبات طلاب المتعة وعصابات الاتجار بالنساء الذين احتموا بالزواج العرفي لكي يحققوا غاياتهم. كان بمقدور القانون أن يحد من تلك الحالات لو أنه منع الزواج خارج نطاق المحاكم ونظر إليه بعين الرقيب متحققاً من أسبابه وغاياته.”       

لا عدالة ولا منظمات إنسانية تحمي الضحية

 لو كان ثمة جهات أو منظمات إنسانية حقوقية اجتماعية تستطيع حماية القاصرات ومنع تزويجهن تعسفياً، فلربما أُنقذت الكثير منهن. بمعنى آخر، لو رفضت القاصر أن تتزوج فلن تجد من يأخذ بيدها أو يتصدى لمرغميها وإن هربت منهم فلن تجد ملجأً يأويها، فحتى منظمات حقوق الإنسان والطفل وقفت عاجزةً حتى اليوم عن منع تلك الجريمة، خاصةً في ظل الحرب المهيمنة على البلاد.

(م) طفلة بعمر الخامسة عشرة، كانت تعمل مع أمها في تنظيف المنازل وشطف الأدراج لتكسبا بعض النقود كي تعينهما على انتشال العائلة من الفقر والمرارة. أحد البيوت التي كانتا تعملان بها بشكلٍ أسبوعيّ، كان لرجلٍ متنفّذٍ يعمل لصالح إحدى الميليشيات المسلّحة.

ما إن رأى الرجلُ الأربعينيّ ُ(م) حتّى أُثيرت غرائزه الحيوانيّة، وراح يفترس طفولتها بنظراته الشبقة ويتحرش بها حين تسهو الأم عنه أثناء العمل. حين علمت الأخيرة بمآربه توقفت عن الذهاب إلى بيته، لكنها لم تنجُ وابنتها من مخالبه. ذهب إلى بيتهما وأرغمهما على العودة لعملهما الأسبوعي، وبكل فظاظة ورعونة، طلب الزواج من (م). لم تستطع الأم أن ترفض رغبته، فهي النازحة المكسورة والوحيدة في مكانٍ غريبٍ عنها، وهو صاحب النفوذ والسطوة فيه، أما زوجها فقد كان عاجزاً عن إبداء أي مقاومة لأن قذيفة حربٍ نالت من جسده فأضحى مشلولاً يقبع في السرير ولا يقوى على الحركة.    

تقول الأم  ” لقد نعتني ذلك الرجل بـ “الإرهابية” وهددني بسَجني مع أولادي إن رفضت رغبته أو حاولت الابلاغ عنه، وفوق هذا، كان يستطيع خطف الفتاة واغتصابها دون أي رادع، وأنا لا أستطيع الاستعانة بأحد أو الهروب إلى أي مكان. توجهتُ إلى إحدى المنظمات الإنسانية العاملة بالقرب من حينا فلم ألق معيناً، كان جوابهم أن الأمر خارج قدراتهم ويخشون من عواقب التدخل فيه.”

تحت سطوة الخوف والتهديد تزوجت (م) زواجاً عرفياً، لتدخل قفص مفترسها ليمزق جسدها كل يوم ويتمتع بطعم لحمها الطري.  

حتى اليوم لا يوجد في سوريا أية منظمات تعنى بشؤون القاصرات وحقوقهن، فكل ما يعنى بهن يندرج فقط ضمن منظمات حقوق المرأة ودعمها وتمكينها، ويقتصر دور تلك المنظمات، بما يخص القاصرات، على الدور التثقيفي التوعوي بخطورة وأضرار الزواج المبكر، دون الدخول إلى عمق المشكلة لحلها من جذورها. وبالرغم من حملات التوعية والمحاضرات التي قامت بها تلك المنظمات في الأماكن التي تنشط بها حالات زواج القاصرات للحد من تلك الظاهرة، ظلت عاجزة عن منع أيٍ من تلك الحالات لأن القانون والمجتمع لا يجيزان لها التدخل، لذا هي لا تستطيع دعم القاصر إلا بعد زواجها، حين تصاب الأخيرة بالأمراض النفسية والجسدية التي يخلفها ذلك الزواج.

تقول (نجاح)، التي تعمل كمرشدة نفسية اجتماعية في إحدى المنظمات: ” لا يمكننا الحد من تلك الظاهرة طالما أننا لا نملك غطاء قانونياً ولا نحظى بدعم مؤسسات الدولة وليس بمقدورنا مجابهة العادات والتقاليد وسلطة رجال الدين الذين يدعمون ذلك الزواج. ببساطة، نحن لا نستطيع الوقوف في وجه ولي أمر القاصر، إذ يمكن له، وفق القانون، أن يتقدم بدعوى قضائية ضدنا إن حاولنا التدخل لحماية الفتاة أو منع الزواج.”

وتضيف نجاح “في ظل الحرب بات الأمر أكثر تعقيداً، فاليوم يستطيع أي صاحب سلطة ونفوذ أو حامل سلاح أن يتزوج الفتاة التي يريد رغماً عن أهلها، ونحن ليس بمقدورنا التصدي لهؤلاء الوحوش الذين يحتالون على القانون ويهربون منه بطرقهم الملتوية، فهم يستطيعون إلحاق الأذى بنا وعرقلة عملنا إن حاولنا الوقوف بوجههم أو فضح قصص زيجاتهم. فقط بمقدورنا دعم ضحايا ذلك الزواج نفسياً ومعنوياً وعلاجياً وترميم جراحهن لإعادة تأهيلهن من جديد.”

وتختتم نجاح: ” حيال عجزنا عن منع وقوع تلك الجريمة، نحاول مساعدة الضحية بتعليمها وتثقيفها لتستطيع تربية أطفالها بشكل جيد، أو مساعدتها قانونياً في حال تعرضت للعنف والانتهاك من قبل الزوج أو رغبت بالطلاق، وهذا حال الكثيرات. معظم القاصرات اللواتي التقيتهن يرغبن بالطلاق، وهذه نتيجة طبيعية لزواجٍ قسري تعسفي، لذا بتنا نرى من ينتظرن بلوغ سن الثامنة عشرة، حيث يصبحن بالغاتٍ وفقاً للقانون، حتى يتسنى لهن رفع دعاوى الطلاق ضد أزواجهن.”

هي آلة قتلٍ جديدة، وإن كانت لا تسفك الدماء، لكنها إحدى طرق الموت المتعددة التي أحدقت بالسوريين في كل مكان. زواجٌ يفعلُ فعل سلاح الحرب، ويزرع أخطاراً وأمراضاً مدمِّرة يحصدها جيلٌ ضحية، سينتج بعد حينٍ جيلاً أشد تدميراَ وتمزقاً وأمراضاً.

!خط أحمر

!خط أحمر

في أزمة مدينة دوما الأخيرة، وفي مساء السابع من نيسان، قامت قوات النظام بقصف المدينة بمادة كيميائية سامة، لم تُحدّد هويتها حتى اللحظة، لكن بحسب التقييم الطبي الأولي، كانت مادة الكلور السامة مع احتمالية أكيدة لإضافات كيميائية سُمّية معها (يُظن بأنها غاز السارين)، في لحظتها لم أُلقِ بالاً لموضوع القصف الكيميائي، فلقد كان القصف على المدنيين المحاصرين شديداً، وبكل أنواع الأسلحة، طيران حربي، وراجمات صواريخ، وبراميل متفجرة، ومحاولات اقتحام من أطراف المدينة، فما يعني موضوع القصف الكيماوي بالنسبة لي إلا موتاً مختلفاً عن باقي الموت الآخر.

على إثر انهيار المفاوضات الأخيرة بين الجانب الروسي وجيش الإسلام، المُحاصرَ تماماً في حدود ضيّقة من مدينة دوما، ومعه حوالي مائة ألف من المدنيين، قامت قوات النظام بشن حملة قصف شديدة علي مدينة دوما، بدأت من الساعة الرابعة عصراً في السادس من نيسان، واستمرت حتى الساعة الواحدة ظهراً في التاسع من نيسان، أي حوالي ٦٩ ساعة مستمرة، راح خلالها حوالي ١٩٠ ضحية من المدنيين، ٥٩ منهم بسبب القصف الكيميائي.

طوال فترة القصف  تلك على مدينة دوما، لم تُصدِر المنظمات الإنسانية السورية أي بيان إدانة، ولم يخرج تصريح من الدول الغربية للتنديد باستهداف المدنيين، ولم تضج وسائل التواصل الإجتماعي بمقتلة المدنيين في المدينة المحاصرة، ولكن بعد ضربة الكيماوي بساعات بدأ سيل البيانات من المنظمات السورية، وبدأت الميديا المعارضة تنقل الأخبار بسرعة وفاعلية شديدة، واشتعلت وسائل التواصل الإجتماعي بنقل الخبر والتنديد به، وبدأت الدول الغربية وإعلامها أكثر اهتماماً وتسليطاً للضوء على الواقعة.

هالني هذا الاهتمام الكبير بالضربة الكيميائية دون غيره من القصف واستهداف المدنيين، لم أستطع استيعاب الأمر في لحظتها، كنا منشغلين جداً بمتابعة ما يحدث بين قادة ”جيش الإسلام“ والمُفاوِض الروسي، الكولونيل ألكسندر زورين، والذي كان قد أمهل جيش الإسلام حتى الساعة الثامنة من مساء السابع من نيسان ٢٠١٨ عبر رسالة مباشرة لهم ”خطتكم تقود إلى الحرب، لأن الأسلحة تبقى لدى الجميع، خطتي تقود إلى السلام، عليكم أن تخبروني قراركم حول خطتي بسرعة، أنتظر ردكم حتى الثامنة مساءً. خطتكم في الأساس غير مقبولة، بدون نزع السلاح لن يكون هناك سلام، أنتظر اليوم حتى الثامنة مساءً، بعدها أُوقِف التفاوض“ كان قادة جيش الإسلام متمسّكين بقرار الصمود، فهم يرون في الحملة العسكرية الأخيرة عملية ضغط لأجل التفاوض لا أكثر، لكن يبدو أن الضربة الكيماوية حسمت موقفهم بشكل نهائي، فبعد أقل من ساعتين من الضربة الكيماوية، كان قائد جيش الإسلام على اتصال مع الكولونيل زورين يخبره فيها استعدادهم للعودة إلى التفاوض وفق الشروط الروسية.

لا أعرف، عندها، لِمَ استعدت في مخيّلتي مشهد من الفيلم الوثائقي الشهير ”أبوكاليبس الحرب العالمية الثانية“ عندما استسلمت اليابان وقررت قبول قرارات ”إعلان بوتسدام“ (عُقد المؤتمر في مدينة بوتسدام قرب برلين، بين قادة أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي) والتي حدّدت شروط استسلامها، بعد أن هدّد الرئيس الأمريكي هاري ترومان بتدميرها ما لم تتوقف عن حربها مع دول الحلفاء، وذلك بعد ستة أيام من الهجوم النووي الأمريكي على مدينتي هيروشيما وناكازاكي.

لم يتوقف قصف المدينة أبداً، رغم إعلان استسلام قادة جيش الإسلام، وإن أصبح بوتيرة أخف، واستمر حتى ظهر اليوم التالي، في محاولة لتلقين جيش الإسلام درساً لن ينساه من دولة عظمى، امتلكت محطة فضائية منذ ٤٠ عاماً، وعشرات الأقمار الصناعية، كما وصفها سابقاً الكولونيل زورين أمام مفاوضيه، لكن كان من الواضح بأن اهتمام فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بالضربة الكيميائية، وعملهم الحثيث للتحقق من تفاصيل الهجوم، ثم الكلام عن التحضير لدعوة مجلس الأمن للانعقاد يوم الاثنين في التاسع من نيسان، سرّع من عملية استسلام المدينة، وأصبح واضحاً إلحاح الجانب الروسي على إخراج ”جيش الإسلام“ وتنفيذ بنود الاتفاق بأقصى سرعة ممكنة، وهذا ما حدث فعلاً، فالعشرات من الحافلات وصلت مدينة دوما، بينما حبر التوقيع على الاتفاقية لم يجف بعد.

وفي صباح التاسع من شهر نيسان دخل الجنرال زورين مدينة دوما، وقام بمعاينة البناء الذي استهدفته الضربة الكيماوية، وكان برفقته عنصر من الشرطة العسكرية الروسية يقوم بتصوير المكان بكاميرة فيديو، وخرج بعد دقائق معدودة دون أن يأخذ عينات من المكان، كما أظهره تصوير بعض النشطاء في المدينة.

وفي المساء، عقد مجلس الأمن جلسته بشأن استخدام الكيماوي في سوريا، بدعوة من تسع دول أعضاء، واستخدمت روسيا ”الفيتو“ ضد مشروع قرار أمريكي يطالب بتشكيل آلية خاصة للتحقيق في مزاعم استخدام الأسلحة الكيميائية في مدينة دوما، وخلال الجلسة ظهر واضحاً تهديد المندوبة الأمريكية نيكي هايلي بالرد خارج مجلس الأمن ”لقد وصلنا إلى اللحظة، عندما يجب أن يرى العالم أن العدالة انتهت، في هذه اللحظة من تاريخ مجلس الأمن الدولي إما أن يوفي بالتزاماته، أو يثبت فشله الكامل في حماية الناس في سوريا، وعلى أية حال، فإن الولايات المتحدة سترد“ في حين عرضت كل من روسيا وسوريا، استقبال محققي منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية في دوما، وقالت المنظمة رداً على هذه الدعوة، إنها طلبت من الحكومة السورية “اتخاذ الترتيبات الضرورية للزيارة“ والتي كانت مقررة يوم السبت في ١٤ نيسان الجاري.

لكن في حوالي الساعة الرابعة صباحاً من يوم السبت في ١٤ من نيسان، شنّ التحالف الثلاثي، الأمريكي، البريطاني والفرنسي، هجوماً منسّقاً لمدة ٥٠ دقيقة على مواقع محددة في مدينتي دمشق وحمص، مرتبطة بإنتاج وتخزين واستخدام السلاح الكيميائي، كما وصفتها وزارة الدفاع الأمريكية ”الهدف الأول استهدف مركزاً علمياً في منطقة برزة في دمشق، يعتبر مؤسسة أبحاث لتطوير واختبار الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، بالإضافة إلى مخزن للسلاح الكيميائي غربي حمص، هو المكان الأساسي لإنتاج غاز السارين، أما الهدف الثالث فكان منشأة تضم السلاح الكيميائي“كما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية أن قصف التحالف الغربي استهدف مراكز البحوث العلمية وقواعد عسكرية عدة، ومقرات للحرس الجمهوري والفرقة الرابعة في دمشق ومحيطها، وكذلك أشارت وزارة الدفاع البريطانية إن ضرباتها ركّزت على موقع عسكري على بعد ٢٤ كيلومتراً غربي حمص، مؤكدة أنها قصفت أيضاً موقعاً يعتقد بأن النظام السوري يخزن فيه مركبات أولية لأسلحة كيميائية.

في حين تضاربت الأنباء بين وزارة الدفاع الروسية وقوات التحالف الثلاثي، حول استهداف مطارات عسكرية في محيط العاصمة دمشق، وتصدي الدفاعات الجوية السورية لـ ٧١ صاروخ كروز مما قلل الخسائر المادية كثيراً بحسب الرواية الروسية، لكن نبقى على تأكيد كلا الجانبين بعدم دخول أي صاروخ منطقة مسؤولية منظومات الدفاع الجوي الروسية في سوريا، والتي لم يتم استخدامها خلال الهجوم.

ما يهمنا، بأن الغارة نُفّذت، واستبقت دخول بعثة محققي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى موقع الضربة الكيميائية في مدينة دوما، وتباينت الآراء حولها، فالبريطانيون ربطوا بين الضربة على سوريا وواقعة تسميم الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته، في مدينة سالزبوري البريطانية بغاز الأعصاب، والتي تقول فيها بريطانيا بأن موسكو تقف وراء الاعتداء، بينما أشار لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنها “تقتصر على قدرات النظام السوري في إنتاج واستخدام الأسلحة الكيمياوية“ وأكدت كلامه وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي “الهدف بسيط، منع النظام من استخدام الأسلحة الكيميائية من جديد“ في حين حرص الجانب الأمريكي على التأكيد بأن أمريكا جادة إزاء ”الخط الأحمر“ حول استخدام السلاح الكيماوي السوري.

من الملاحظ من التصريحات الكثيرة لدول التحالف الثلاثي، بأن الضربة تحمل رسائل متعددة، بعضها موجه إلى روسيا، بعد موجة طرد عشرات الدبلوماسيين الروس من أمريكا وأوروبا تضامناً مع بريطانيا التي تتهم موسكو بالوقوف وراء تسميم سكريبال وابنته، وأخرى تتعلق بالحل السياسي في سوريا كما أشارت بوضوح وزيرة الجيوش الفرنسية لودريان “يجب التوصل الى خطة لإنهاء الأزمة بحل سياسي، ونحن مستعدون للعمل عليها الآن مع كل الدول التي يمكنها المساهمة فيها“، وثالثة معنية باستخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي حين يقتل شعبه، وهذا ما أشار إليه وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس بأن ”استمرار العمليات مرتبط باستخدام الأسد للكيماوي مجدداً.“

وبالتالي، ضاع تهليل البعض للضربة العسكرية الأمريكية – الغربية، وخابت ظنون الكثيرين، مرة أخرى، فهي لم تكن انتصاراً لضحايا القصف الكيماوي، ولا لتغيير النظام السوري أو حتى إضعاف لقدراته، بل رسائل متعددة لمصالح ليست سورية، لم يفهمها كثيرون رغم أنها تكرّرت مرات ومرات خلال السنوات السبع العجاف من عمر الأزمة السورية.

لقد نزعت الدول الغربية الترسانة الكيميائية للنظام السوري بموجب اتفاق ٢٠١٣ بعد استخدام غاز السارين على الغوطة الشرقية، وأيضاً في نيسان ٢٠١٧، قصفت مدمرات أميركية بحوالي ٥٩ صاروخاً من طراز توماهوك، قاعدة الشعيرات السورية حيث يعتقد أنها مكان انطلاق الطائرات السورية التي قصفت بالأسلحة الكيماوية مدينة خان شيخون، وتكرر الأمر في هذه المرة من خلال التحالف الثلاثي، وبالتالي، نستطيع أن نفهم بأنه مسموح أن نموت بالبراميل المتفجرة، وبقصف الطيران الحربي، وبراجمات الصواريخ المتعددة الأسماء والأشكال، ولكن هناك ”خطاً أحمر“ أمريكياً – غربياً، يمنع أن نموت بالغازات الكيميائية، ليس غاز الكلور، بل غاز السارين وما فوقه، ما أنذلكم!

سورية: الجغرافيا والأطراف المبتورة

سورية: الجغرافيا والأطراف المبتورة

في دمشق المدينة ناجون مضوا إليها تاركين خلفهم ترسانة الحرب وهمجيتها بحكم الغريزة البشرية التي تقود الإنسان حيث البقاع الأقل فتكاً ودموية. دمشق العاصمة المساحة الأقل مواجهةً واحتداماً ولكنها الأكثر رعباً وانهزاماً من حيث التفاصيل المحشوة بها ستثقل كاهل كل الضعفاء الفاقدين لأدوات النجاة والبقاء وتصنفهم ليبقوا خارجها ويرتادوا الأرصفة والشوارع الملوثة بالبلادة واللامبالاة.

لجأوا إليها نجاةً من مناجم الذبح والموت الرخيص فحاوطتهم بالأسلاك وبالأسياخ المعدنية التي لم تعد حكراً على بطانة جدرانها وأعمدتها وسقف سمائها أيضاً. أقدام أبنائها الذين يعرفونها جيداً مجنزرة بأسلاكٍ خفيةٍ تحصي أعداد الخطوات والوجهات التي باتت لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وها هي اليوم تنقل عدوى أسلاكها وقيودها إلى الأجساد التي ستؤسس قواعدها وتحصّنها بالمعدن والخوف استكمالاً لوظيفة العيش. فكثرة الأحمال التي كبّلت أرواح أصحابها لن يعيقها المشي الآن وهي مربوطة بالعكاكيز والأسلاك المتداخلة مع اللحم والعظم المتفتت.

شارع الثورة (في وسط المدينة) بأرصفته البشرية يلخص المأساة كاملة، حيث يمكن للعابر أن يصطدم بمرآبٍ كاملٍ تصطف داخله كراسٍ متحركة يقودها شبانٌ قد فقدوا أطرافهم بمختلف مسمياتها، يبسطون رقعة ًمهترئة على أرض محشوة بالقمامة والروائح الكريهة. تحتل الرقعة في واحدةٍ من زواياها جلدات لأسطوانة الغاز، علب كبريتٍ، أقلام الريم الزرقاء، مطاط أبيض، إبر خيوط متسخة، جرابات قديمة جداً… الجميع هنا في انسجامٍ تام. الصورة مكتملة فالبسطة بكافة محتوياتها فاقدةٌ للزمن حيث لا يمكن للحاضر الآن أن يعيد استخدام كل ما نبت فيها، وكذلك الأمر أيضاً لمن يدير عجلاتها فالحياة بالنسبة له قد توقفت هناك عند عتبات ذاك الزمن.

نساءٌ ورجالٌ في نهاية أعمارهم يضعون عند عتبات أقدامهم أطفالاً فجرت الحرب أطرافهم الصغيرة يجلسونهم بجانبهم ليس كمتكأ لهم، بل كمصدر رزقٍ يلبي حاجة الجوع التي جعلتهم يتناسون خطوط الزمن المحفورة في وجوههم ويركضون نحو لقمةٍ واحدةٍ أو مبلغٍ وضيع ٍيجلب لهم حبة الضغط أو مميعاً للدم. والبعض الآخر يجلس متكئاً على حائط ٍبالٍ يحتاج من يسنده، بينما يفترش آخرٌ الليل مأواه ببطانيةٍ ورصيف ليستيقظ عقبها متابعاً حيثيات يومياته بين جدار وسياج معدني تعددت استعمالاتهما بين مصدر للحياة ومبولة.  في هذه البقعة الصغيرة تستطيع الحرب أن تلخص كل بنودها وتفتك بكل الاتفاقيات والحقوق الإنسانية الخاصة بضحايا الحرب.

سوقٌ كامل ممثلٌ  بأجسادٍ تمضي إلى حياتها بعكاكيز فضية ملبسة بالبلاستيك، النسبة الأكبر منها تنهشها الأسياخ المعدنية في كل من الأقدام واليدين. العيون باتت تألف مشهد الأرجل المبتورة، بنطلونات مموهة ولكنها فارغة لا يحشوها شيء من مخصصات الجسد، يغطى منتصفها إلى الأسفل قليلاً لتنتهي بعكفة عند الركبة كي لا تعيق حركة العكاكيز، أرجل المرحلة الحالية لكل السوريين. أيادٍ مختزلة ممدودة تجمع ما أمكنها من نقود كي تعوض بعضاً من مفقوداتها.

الحدائق هنا باتت مزروعة بأجساد اعتادت حرارة الصيف وبرودة الشتاء القاسي، بعضنا يحمد السماء على انقطاع نعمة المطر ويرجو الهواء أن يبق محافظاً على دفئه كي لا يزيد من برودة هذه الأجساد التي باتت منافذها مشرّعة أبوابها للطبيعة والقهر.

وإذا ما لجأنا إلى تعداد الإحصائيات، المنظور الكمي الذي يرانا العالم من خلال عدسته، نقرأ مثلاً في تقريرٍ لمنظمة الصحة العالمية والمنظمة الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة،  صدر في 13 كانون الأول (ديسمبر) 2017، أنّ: “هناك ثلاثين ألف مصاب كل شهر بسبب الحرب في سوريا، وأن الحرب خلّفت مليوناً ونصف المليون مصاب بإعاقة دائمة من أصل ثلاثة ملايين شخص أصيبوا منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من ست سنوات.” وأوضح التقرير أنّ  1.5مليون شخص يعيشون مع إعاقات مستديمة، منهم 86 ألف شخص أفضت إصابتهم إلى بتر أطرافهم، مشيرة إلى أن الصراع الدائر هناك يحتدم باستخدام أسلحة متفجرة في المناطق المأهولة بالسكان، واستمرار المخاطر المرتبطة بارتفاع مستوى التلوث بالمتفجرات ارتفاعاً كبيراً في جميع أنحاء البلاد.

تبقى منزلة هذه الإحصائيات قيد المرحلة، فعدّاد استنزاف الأرواح لا زال في تصاعد، وفي وقتٍ لازلنا نشهد فيه قيامةً لم تتوقف حتى اللحظة عن ابتلاع الإنسان السوري وعلى مدار سبع سنوات كاملة. ومع الإشارة إلى أن معدلات هذه الأرقام خاضعة للتصنيف بين منطقة وأخرى، فلا يمكن المقارنة بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام وتلك الخاضعة لسيطرة المعارضة حيث يعتبر تحديد إحصائية دقيقة للإصابات فيها مهمة شاقة، فآلة الحرب لا تخمد هنا. ولابد من الأخذ بعين الاعتبار بأنه كان من الممكن الوقاية من تلك الاعتلالات لو حصل هؤلاء الأشخاص على الرعاية الملائمة في الوقت المناسب، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ شح المستلزمات الطبية في هذه المناطق تجعل المسارعة إلى اتخاذ القرار الحاسم ببتر الطرف المصاب هو الطريق الأقصر للنجاة والظفر بحياة لا تشبه تلك الحياة الأولى.

سعاد (اسم مستعار)، إحدى النساء اللواتي عايشتهن في دمشق، تعمل الآن في إحدى الدوائر الحكومية وتقوم بأعمالٍ مهلكةٍ من التنظيف وإعداد القهوة والشاي، تعاني من أمراض في المفاصل والعمود الفقري. اضطرت للعمل بعد تعرّض زوجها لإصابة في نخاعه الشوكي. زوجها الآن حبيس الفراش منذ ما يقارب الخمس سنوات تعمل بحبٍ ولا تمل، فلديها ابنة وشابان  كنت اسمع أصوات ضحكاتهم عندما تخبرهم بأنها ستجلب لهم سندويش البطاطا في بداية أول كل شهر. استطاعت ابنتها دخول كلية الهندسة الزراعية وهذا ضمن الطبيعي حسب توقعاتها، أما المفاجأة بالنسبة لها كانت لدى نجاح أكبر ابنائها ليحالفه الحظ ويدخل كلية الآداب. كان خبر تخرجه لعنةً زجّت به إلى الجيش ليعود بعد مضي فترة قصيرة ويتمدد أمام والده، فلقد بتروا له قدمه نتيجة تعرضه لإصابة حادة بها.

في واحدةٍ من الحواجز المنصوبة في مركز المدينة (في منطقة الفحامة) تمتلأ العينين في كل صباح بأجسادٍ منكوبةٍ تحمل ما أمكنها من كراتين بسكويت وعلكة تتسلل عبر ممرات السيارات العمياء. عند واحدة منها رجلٌ خمسيني بيدٍ واحدة يمسح زجاجها، وعندما تمشي السيارة قليلاً بفعل الزحام يتبعها بخطوة فتتحرك إلى الأمام؛ تمسح يداه ما تسعفه من أجزاءٍ، تغلق السيارة زجاجها، تفتحه لتغلقه مرة أخرى ممعنةً في إذلاله وهو يتابع النظر إليهم مستجدياً إياهم ولكن دون جدوى.

استطاع العالم أن يقدّم هديةً للبشرية تتيح للمتضرر دمج اللحم بأطراف غريبة عن الجسد، المقصود هنا الإشارة إلى عمليات تركيب الأطراف الصناعية. فالبشرية عبر تاريخها عودتنا أن تقدم حلولاً مبتورة لكل القضايا الخاصة بالإنسان، استطاعت أن تستعيض عن إنهاء كارثة الحروب وهمجيتها بزرعٍ جديد للإنسان لكي تلزمه بذاكرة الحدث، الذي سيصبح جزءاً منه وشيئاً ملموساً طيلة حياته القادمة. وكما عبّر الفنان النمساوي راؤول هاوسمان Raoul” Hausmann” فإنّ الأطراف الصناعية الجديدة لا يمكن اعتبارها كرمزٍ للتقدم العلمي، ولكن يجب القول إنها علامة واضحة على نزع الإنسانية من البشر.  فقد أجبرت أعداد مبتوري الأطراف خلال الحرب الأهلية الأمريكية وضحايا الحرب العالمية الأولى العالم إلى ابتكار الطرف الصناعي كبديل عن الجزء المفقود، الحقيقي. (1)

وبالعودة إلى مأساتنا السورية فلا بد من الاشارة بأنّ “تكاليف تركيب طرف صناعي بدائي يتجاوز 1500 دولار، في حين يبلغ تركيب طرف صناعي ذكي ستين ألف دولار إلى جانب تكاليف العلاج الفيزيائي الطويل الأمد لكي  يتعرف الجسد على العضو الجديد. وهي أرقام مرتفعة جداً قياساً إلى عدد المحتاجين إليها وأوضاعهم المعيشية”. وبحسب رئيس رابطة الأطباء الدوليين، الدكتور “مولود يورت سَفَن”: إن نسب إصابات الساق وبتر الأذرع بسوريا هي الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.”

ولهذه الأسباب كان من الضروري افتتاح مراكز للأطراف الصناعية والتي توزعت داخل سوريا في مركزين رئيسين في كل من (حمص- دمشق)،  لكن “هناك شروطاً معينة يجب توافرها هنا في المرشح لنيل الطرف،” وفي دول الجوار لبنان وتركيا والأردن. ففي تركيا افتتح مركز “خطوات الإرادة  WSO”  للأطراف الصناعية في مدينة غازي عينتاب، وبحسب القائمين عليه فإن المركز يسعى للوصول إلى جميع من أصيبوا بإعاقات من السوريين.  وحسب الدكتور “حمزة دياب” رئيس قسم العظمية ومدير المركز بأن المركز متعاقد مع شركة “أوتوبوك الألمانية ” العالمية التي تنتج الأطراف الصناعية منذ أكثر من مئة عام، ولها فروع في أكثر من 110 دول حول العالم.(2)

مكّنت الأطراف الصناعية الذين فقدوا أحد أطرافهم من متابعة حياتهم، وهذا ما يشعر به العديد من الذين خضعوا لعملية تركيبه. فهناك بعض الأعمال التي يستطيع الشخص القيام بها دون تعرضه للخطر. ففي إحدى المرات خضت حديثاً مع سائق تكسي عرّف عن نفسه بأنه عنصرٌ في الجيش تمت عملية تسريحه من قطعته نتيجة تعرضه لبتر قدمه اليسرى مستعيضاً عنها بطرف صناعي. لم أميز لحظتها وجود هذا الطرف لولا نقاشنا عن النسب التي تحدّد بها إجازة التسريح المستندة إلى إصابةٍ فادحة للشخص يخرج منها بنصف جسدٍ أو يفقد جزءاً منه.

وهذا الطرح يجعلنا أمام أرقام مضاعفة للأشخاص الذين نراهم أمامنا مجردين على حقيقتهم، غير قادرين على الأقل على إخفاء عجزهم المعنوي تجاه كل هذا الخراب النفسي بداخلهم والمادي الذي لا يخول لهم أن يبنوا جسدهم من جديد. فنحن نعيش مع أرقامٍ مرعبةٍ من هذه الحالات والتي لا يمكننا معاينتها كونها وجدت من يعينها على اقتناء طرف استطاعت به مقاومة مصاعب الحياة. فالإحساس بأنك تقوم بالقليل يعطيك الكثير من الدوافع والقوة، دون إعطاء فرصةٍ للآخرين لاستغلالك وإلزامك بأعمالٍ تفاقم من شعورك بالعجز والقهر. فهناك العشرات من الذين أصيبوا بإصابات بالغة وهم الآن عرضة للاستغلال من قبل كافة الأطراف. لكنهم يبررون استمرارهم بالقيام بهذه الأعمال بأنها وسيلة بقاء وحيدة وهي حقيقة لا مفر منها بأنها “وحيدة،” فطالما أنهم منفيون ويعيشون في شوارع بلادٍ لا تأبه بهم ولا تنظر إليهم إلا من منظورها الفقير الذي يبخسهم حقهم، لا يحق لأي منا أن يقيّم ما يقومون به من طرق تجلب لهم قوت يومهم، بلاد لا مكان حتى للعقول في جنباتها.

الفكرة الأخيرة والأهم بالنسبة للسوريين ولكل المناطق التي عششت فيها الحروب تعنونه “مخلفات الحرب غير المنفجرة والألغام”. بالنسبة للألغام يأتي دورها في نهاية الحروب، حيث بات بروتوكول الحرب يحفز الأطراف على زرعها عقب خروجها من كل منطقة، وكالعادة المدنيين هم النسبة الأكبر بين الضحايا.

فمثلاً نقلت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عن إحصائيات للأمم المتحدة ومنظمات دولية، أن عدد ضحايا القنابل والأجسام غير المنفجرة من مخلفات الحروب، والتي تعرف بـ”يو إكس إوز UXOs” يتجاوز 20 ألف شخص سنويًا. حيث تصبح مخلفات الحروب أقل استقراراً مع مرور الزمن عليها بسبب التفاعلات الميكانيكية والكيميائية التي تجري عليها. بيد أن تخوفاتٍ دوليةٍ وأمميةٍ من مخلفات الحروب باتت أكثر فيما يخص سوريا وتحديداً منطقة الرقة التي سيطر عليها تنظيم داعش، “الدولة الإسلامية”، وبعد خروجه منها أنبت مساحاتها بالألغام والمواد المميتة.

هذا وقد حذرت منظمة الأمم المتحدة سكان الرقة من العودة إليها بسبب مخلفات الحرب مشيرة إلى أن ما بين 50 إلى 70 شخص يموتون أسبوعياً إثر ذلك وهو بنحو العدد الذى تشهده أفغانستان في العام. وفي مؤتمر صحفي عقده مساعد الأمين العام للأمم المتحدة والمنسق الإقليمي للشؤون الإنسانية في سوريا “بانوس مومتريس”  الأربعاء 7 شباط 2017: صرّح أنّ البيانات تشير إلى أنّ كماً هائلاً من الألغام لم تنفجر بعد، وتابع “لم نرَ مطلقاً كمية ذخائر لم تنفجر مثلما يوجد في الرقة، كمياتٍ هائلة مزروعة في كل منزل وكل غرفةٍ وكل شبرٍ بالمدينة”.

وفي مدينة نصيبين المدينة الحدودية بين سوريا وتركيا ما يشبه واقع الرقة المأساوي، حيث يذهب الأطفال في أوقات حظر التجول إلى المنطقة المهدمة كي يجمعوا قطع الخردة ثم يقومون ببيعها. وفي أحد الأيام استطاع بعض الأطفال العثور على قطعٍ بيضوية الشكل، صفراء اللون، من بقايا الاشتباكات التي جرت في هذه المنطقة. لم يعلموا أنّ هذه القطع ما هي إلا قنابل لم تنفجر عند إلقائها. كان هؤلاء الأطفال يمسكون بها، ويقلبونها بين أيديهم، ثم يلقون بها بعيدًا عندما يدركون أنها ليست مصنوعة من الحديد. لم يدركوا في هذه المرة أن هذه القطع ستخلف هذا القدر من الانفجار الضخم بمجرد ملامستها الأرض. رأوا أمام أعينهم الأطفال الآخرين وقد مزقتهم هذه القنبلة إرباً إربّاً. هناك العشرات بل المئات من النماذج المشابهة التي استمرت طيلة الأعوام الخمسة عشر الأخيرة حيث مات من مات جراء ما يشبه هذه الانفجارات.

الغالبية العظمى في المناطق الريفية ممن يسوقون الحيوانات للرعي في تلك الأماكن، ولم يكن أحدٌ يعلم بأمر وفاتهم في تلك الأثناء. لقد أُضيفت مشكلة الألغام ومخلفات الصدامات والحروب إلى مشكلة حظر التجوال المفروضة منذ العام 2015 حيث يتضمن اتفاق حقوق الإنسان الذي وَقَّعَتْ عليه تركيا بنودًا واضحة لا غموض فيها بهذا الشأن والتي بمقتضاها: تلتزم الأطراف المتنازعة بإزالة مخلفات الحرب أو الصدامات المسلحة التي تركتها. وينص الاتفاق كذلك على المسؤوليات الخاصة بالألغام بشكلٍ لا لبس فيه. نعلم أن تركيا وَقَّعَتْ في عام 2003 على اتفاقية أوتاوا وتعهدت بمقتضاها بإزالة الألغام حتى عام 2014 وأنها ستتخذ كل ما يلزم تجاه ضحايا مخلفات هذه الصدامات، وعلى الرغم من هذا لم تتخذ تركيا أية خطوات جدية باستثناء بعض المحاولات الضعيفة، من أجل إزالة الألغام الموجودة على الحدود مع سوريا.

وبحسب منظمة (الهانديكاب) التي تعنى بشؤون ذوي الاعاقة والتوعية بمخاطر الألغام ومخلفات الحروب، فقد لقي أكثر من (350) شخصاً، أكثر من ثلثهم من الأطفال، مصرعهم جراء استخدام القنابل العنقودية المحرمة دولياً في الحربين الدائرتين في كل من سوريا واليمن خلال 2015 ونهاية 2016. وشكل المدنيون 97% من ضحايا هذه القنابل 36% منهم أطفال وحسب التقرير عدد الضحايا الأكبر كان في سوريا.

ختاماً،  لابدّ من التنويه بأنّ الأشخاص ممن يعانون من فقدان أطرافهم أو من أشكالٍ أخرى من الإصابات لهم ميثاق خاص في الأمم المتحدة يتألف من 50 مادة، لكن يبدو بأنّ مناطقنا لم تكن يوماً مشمولة به.

بالنسبة للسوريين لا يزال الحديث مبكراً عن  الدخول في دهاليز الاتفاقيات والمواثيق الدولية، فنحن لا زلنا نتنفس الحرب ونعيش تأثير أسلحتها الحيّة التي لازالت مستيقظة. جلّ أمنياتنا الحالية أن تُعقر أرحام هذه الآلات عن ولادة الملايين من الكتل المميتة أو المخلفة للعطب عندها يحق لنا الدخول والتوقيع على الاتفاقيات الخاصة بنزع الألغام وتفكيك القنابل غير المتفجرة. المكان الآن تحكمه الترسانات المتنوعة الجنسيات التي لازالت تحصد وتعطب ملايين الأرواح التي بات مشهد نهايتها بمختلف الطرق يمرق كلسعة نحلة تحقن أجساد العالم.

الهوامش:

1- وفيما يخص مسيرة تركيب الطرف الصناعي عبر التاريخ هناك كتيب أعده الكاتب Douglas C.” McMurtrie” معنون بـ ”  Reconstructing the Crippled Soldier” والذي كتبه سنة 1918 وكان متفائلاً بعملية الزرع وعبر عن ذلك بقوله ” لا يوجد المزيد من المقعدين”.

2- تأسست جمعية “خطوات الإرادة” في غازي عينتاب ضمن بنية جمعية إعانة المرضى الدولية، وتعرف الجمعية نفسها بأنها خيرية تسعى للوصول إلى جميع من فقدوا أحد أطرافهم من الشعب السوري لتقدم لهم خدمة تركيب طرف صناعي عالي الجودة ومتابعتهم نفسياً وفيزيائياً حتى عودتهم إلى حياتهم دون أي عوائق. 
يتم قبول الطلبات عبر الانترنيت على الرابط التالي.

يوميات سورية: الضربة المحتملة، ماذا نحن فاعلون؟

يوميات سورية: الضربة المحتملة، ماذا نحن فاعلون؟

على شاشة شام FM  السورية الرسمية أغاني فيروز الصباحية اللطيفة وأخبار تكريم الممثلة الكوميدية شكران مرتجى من قبل منظمة اليونسكو، لا مارشات عسكرية ولا محللون سياسيون، وبعد قليل سيأتي موعد فقرة الأبراج والتوقعات والشريط الدعائي في أسفل الشاشة يتنقل بخفة ما بين تحيات وتعازي للشهداء وذويهم وما بين نشاطات إعلانية لعيادات ومراكز لشفط الدهون وتلميع الأسنان  والدورات التعليمية لطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية ومشاهد طبيعية خلابة من مناطق سورية الجميلة.

هي الحرب في وجهها الآخر حيث يستنفر العالم على شاشات الفضائيات راصداً تحرك القطع العسكرية للأسطول الأمريكي براً وبحراً، محللون سياسيون وعسكريون بوجوهٍ هزليةٍ وكلماتٍ رخوةٍ وضحكاتٍ لا مبرر لوجودها تستثير حنقنا وسخريتنا المرة، محللون يرطنون بعربية ثقيلة يتباهون بخبرتهم القتالية وبأرقامهم المتحصلة من عدد الضحايا والقوة التدميرية للأسلحة  الفتاكة. أحد المحللين العسكريين اللبنانيين على شاشة العربية الحدث وفي مسار استعراضه لاحتمالية أن يلحق ببلده لبنان بعض الأذى أو أن تتضرر بعض المواقع محددة الأهداف يسمح لنفسه بالقول “أتمنى من كل قلبي ألا يحصل للبنان أي واقع عسكري جديد يتسبب بخسائر للبنان ،” ويؤكد بعبارة “لا سمح الله.” وكأنه من بداهة العيش أن تعاني سورية خطراً جديداً، وكأنه بات من طبيعة الأشياء اليومية الاعتداء على سورية ولكن بوجهٍ مختلف، بعنوانٍ مختلف لكنه مقبول! هنا تبدو بداهة المقتلة السورية مفزعة وخانقة ومرفوضة حتى النخاع. الأهم هو قلق الأمم المتحدة المستمر عبر تصريحات السيد غوتيريس الأمين العام للمنظمة الأممية والذي يناشد مجلس الأمن بألا يكون الاعتداء هذه المرة مدمراً للشعب السوري. قلقٌ بات علامةً تجاريةً حصرية ًللترويج وتسويق المواقف الرخوة والمتأرجحة ما بين شجبٍ وتوقعٍ واستنكارٍ.

***

على الجهة الأخرى، الجهة المقابلة تماماً للمنظمات الدولية ومراكز التحليل السياسي ودعاة تصعيد الحرب واستمرارها تحت ذرائع متنوعة، يشهر السوريون سكان العراء والحدائق والبيوت التي مازالت على الهيكل ملابسهم الرطبة وأغطيتهم الصوفية التي غمرها مطر سريع لكنه سخي بالأمس ،علّها تجف سريعاً فيلتجئون إليها لبث الدفء واستجلاب بضعة أحلام بأن تكون الضربة مجرد هراء، أو أن تكون بعيدة جداً في الصحراء كي لا ينوب طمأنينتهم الراسخة أي طارئ مقلق. فيتورطون في دورٍ أكبر منهم بكثير وليس من اختصاصهم أبداً.

على بوابة أحد الأفران ازدحامٌ كبيرٌ، حيث يعود رغيف الخبز دوماً للمربع الأول في أهميته، ربطة الخبز تعني أماناً خاصاً، تتوفر بغزارة في زوايا الثلاجات والغرف وفي علب بلاستيكية قاسية كي لا تصل إليها الفئران الجائعة والمعتدية، هو الرغيف عامل الأمان الأول ومصدر كل القوة، في الحضن موجود ومستقر وأنت جالس في بيتك وعلى الأقدام موجود وأنت تحمله بسعادة جالسا في الحافلة المهترئة، يكاد أن يكون شعار المرحلة والتميمة الحافظة من الحسد والعيون الطامعة .

تقول فريال “لن أنتظر، ربما ستكون الضربة فرصةً لننهي المونة المتبقية في الثلاجة، سأذهب للف ورق العنب. سألف كيلو رز كامل وطبعا دون لحمة مجرد نكهة الماجي وبهارات. سأقول لأولادي غداً كُلوا بدون خبز وعمره ما حدا يرث. ميتين ميتين.” و بالفعل تخلت فريال عن دورها وذهبت دون أن تنتظر الخبز.

***

على شاشة الفيس بوك الزرقاء تكتب سيدة ساخرة “اليوم جابوا المي قبل موعدها بخمس ساعات، ربما كي نغتسل ونموت بكامل نظافتنا.” وتكتب سيدة أخرى التالي أنّ ترامب ألغى زيارة رسمية له لبلد آخر وتتساءل “لماذا؟ بإمكانك متابعة الضربة من أي مكان”. وآخر يكتب ساخراً: “يا ترامب ويا جبان ويا عميل الأمريكان.” السخرية المرة تبدو وسيلةً للتخفيف من وطأة المجهول، فبعد انتشار الأخبار أنّ فرنسا تنوي المشاركة في الضربة، انتشرت نكتة مفادها أنّ فرنسا تنوي قصف حارة الضبع من مسلسل باب الحارة لكترة ما قتلوا من الجنود الفرنسيين.

في الشوارع اليوم حيوية بشرية فائقة، أمٌ تقول لابنها “شايف الطقس شو حلو؟” يضحكان بلهفة المشتاق للاسترخاء. لكنّ سيدةً تتدخل وتقول لها “وهذا الأخوت ترامب سيجعل الطقس خانقاً سنرى جهنم بشكل شخصي”. تتدخل ثالثة وبيقينية  شبه مطلقة تقول: “لهذا خرجنا من بيوتنا اليوم لأن أمريكا تضرب في الليل وحينها سنكون في بيوتنا نياماً وإن متنا سنموت بكرامةٍ في بيوتنا وبين ناسنا وليس هنا في الشارع حيث يرعبنا بوق سيارة الإسعاف.”

***

تبدو مخاوف السوريين المتبقين في الداخل بلا أدنى قيمة، فلا أحد يكترث بهم وبمخاوفهم وبينما تتفاوت درجات الخوف ما بين غنيٍ يتابع أخبار الدولار وقيمته التصاعدية ويتردد في الاقتناء أم التصريف! أو في من غادر إلى بيروت أو حضّر جوازات السفر وترتيبات المغادرة مستفيداً من إقامته أو جنسيته الأجنبية غير المعلنة ومن حسابه المصرفي في الخارج، وآخرون عادوا إلى قراهم وخاصة الزوجات والأبناء تلمساً لأمانٍ خاصٍ، أمانٍ مرتبطٍ بالحاضنة الطبيعية وبالانتقال الفوري من مكانٍ مشكوكٍ بإمكانية تعرضه للخطر وما بين مكانٍ هو في الوجدان وفي الهوية ما قبل الوطنية والمواطنية  مساحة أمان متحقق فعلاً بفعل عامل البيئة الخاصة أولاً وتوفر مقومات الحماية الذاتية ثانياً.

سمعت البعض يُعبّر عن ندمه على عدم مغادرة البلاد يوم غادر كثيرون، لكنّ السفر ليس متاحاً للجميع والبعض لايملك شيئاً لبيعه أصلاً.  ثمة تخوف ممزوج بالسخرية، حيث أنّ الحرب الطويلة فرضت على السوريين العيش في أماكن لاتشبه البيوت: جحور، غرف تحت الدرج، ومداخل الأبنية، كلها تبدلاتٌ أطاحت بمفهوم الحماية العامة كحضورٍ مادي او معنوي. لم يُفكر أحد بالملاجئ من أصله لأن الحماية الواجبة باتت نكتة سمجة بحكم التخلي العام والمتعدد الواسع والممعن في قسوته.

أجل هنا يظهر الفرق الشاسع ما بين خوف الفقراء وخوف الأغنياء والمسؤولين المهمين أو أصحاب النفوذ والمال، تبدو الحرب في حسابات الفقراء مجرّد تغير في شكل الميتة وتفاصيلها ليس إلا، بينما تبدو للمتنفذين وتجار الحروب فرصة للاغتناء أو لخسارات مؤقتة يجب تعويضها وبسرعة ومهما كانت الأساليب والمبررات.

على المقلب الآخر ثمة وجود واضح  للمهللين والداعين للإسراع بتوجيه الضربة وجعلها قوية ونافذة  وكأنهم مقتنعون بأنها ستكون خشبة الخلاص لسورية وشعبها! لكلٍ تبريراته ورؤيته التي لا يمكن الركون إليها ولا اعتبارها صورة للرأي العام، أمريكا في وجدان العديد من السوريين عدوة دائمة ومزمنة لذلك تظهر علامات التهديد والوعيد عند البعض الذي يخوّن كل مرحب محتمل بالضربة الأمريكية والتي قد تكون مشتركة من قبل دول أخرى، دعوات مثل “على كل مرحب  بالضربة الأمريكية مغادرة صفحتي فوراً”، وكأنّ الفيس بوك بات هو مساحة العمل الوطني الأبرز!

بياناتٌ قليلة صدرت ترفض الضربة المحتملة وتصفها بالعدوان، لا أحد يستنهض الروح القوية للشعب في مواجهة الغزاة، مجرد بيانات تطهرية توضح موقفاً شبه غائم وشبه مائع لأنه كلامٌ بلا فعلٍ أو استعدادتٌ ميدانية حقيقية لمثقفين تخندقوا بتشكيلاتٍ غير سياسية وغير حزبية لها ماهية توضيح الصورة أو وضع النقاط على الحروف حسب ما يقولون، أي تلميع الكلام والمواقف وحسب. ثمة تحذيرات خفية وتوجس من الترحيب العلني في مساحات الحضور العامة خوفاً من تدابير أمنية حيال أصحابها، انشقاقاتٌ ضمن الأسر ذاتها وخاصة بين من بقي في سورية لأن القبول والتصريح هو خط أحمر وما بين من صاروا خارج سورية وتتوفر لهم حرية الإعلان والتعبير بصورة مطلقة. لكن السمة العامة تكاد أن تكون هي المماطلة، خفة المواقف شبه الساخرة وشبه المتيقنة من كلامها بلا معنى وبلا أدنى قيمة، بداهة الدور الملغي أو المؤجل أو المغيب لعامة  الأفراد مما خلّف استنكافاً طوعياً تحول إلى سلوك مزمن اكتسب صفة الطبيعي والمعمم.

في الحروب الطويلة ومتعددة الأوجه وفي ظل غياب التشاركية وفقدان أولويات الحماية والعيش الكريم تكون السمة العامة للحالة الوطنية هي إصابتها برضٍ قاس ومشوش. أجل باتت الوطنية مهزوزة ومشوشة ومؤجلة إلى وقت ترحيل كل المشاكل الوضعية اليومية وإعادة الاعتبار للكائن كمواطن أو شريك في الوطن. يقول الفقراء وبماذا ستؤثر مواقفنا الرافضة والشاجبة؟  ويتساءلون عن حقيقة وجودهم وجدواه أصلا ويقولون “أكلينها أكلينها هي موتة وبالله المستعان!”

الأكثر ألماً أننا لا نملك حق الرفض، وإن ملكناه فهو مجرد ابتهالات لا تنجي من غرقٍ بمستنقعٍ جديدٍ وموتٍ أكثر.

كوني بخير سورية! كوني بخير! وليكن كل الفقراء بخير.

السلل الغذائيّة’… إذلال للمستحقين ومورد لغيرهم’

السلل الغذائيّة’… إذلال للمستحقين ومورد لغيرهم’

دمشق

في ساعات الصباح الأولى، كان العشرات متجمهرين أمام إحدى الجمعيات الخيرية في مناطق سيطرة الحكومة بريف العاصمة دمشق، ينتظرون على أحر من الجمر تسلم «السلة الغذائيّة» (الإعانة). لكن نبأ إطالة فترة تسليمها لشهر إضافي وقع كالصاعقة على الكثير منهم، لأن ذلك سيزيد من طين معاناتهم المعيشية “بلة” في ظل الفقر المدقع الذي باتت أغلب الأسر تعاني منه بسبب الحرب المستمرة في البلاد. ردود فعل المتجمعين على ما أفادهم به أحد موظفي الجمعية، بأن تسليم “السلة الغذائية” بات مرة واحدة كل ثلاثة أشهر بسبب العجز المالي لدى “برنامج الغذاء العالمي”، تنوعت وعسكت مدى التأثيرات السلبية التي ستترتب على كل عائلة من جراء ذلك القرار.

عوز ولطم

امراة بدت في العقد الخامس من العمر وترتدي ثوباً رثاً وحذاء ممزقاً، وبينما لم يكد الموظف إنهاء كلامه، لطمت بكفيها على خديها، وصاحت بصوت عال  مع محاولات لحبس دموعها: “منين بدنا نوكل (نأكل)”، على حين بادرت أخرى تقف إلى جانبها للتخفيف عنها، وأوضحت أنها “نازحة من جنوب البلاد ولديها خمسة أطفال ولا معيل لهم بعد أن قضى زوجها خلال الحرب.”

أكثر تماسكا، كان عجوز يجلس على الرصيف بمحاذاة باب الجميعة بسبب عدم قدرته على الوقوف واكتفى بالتعليق على الأمر بترديد عبارة: “حسبي الله ونعم الوكيل… إلنا الله” لعدة مرات.

ومنذ بدء الحرب في البلاد قبل نحو سبع سنوات شهدت أسعار المواد الغذائية والخضروات ومختلف الحاجات المنزلية في عموم البلاد، ارتفاعاً تدريجيا ، ووصلت الى حد غير مسبوق، بسبب انخفاض مستوى سعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية (الدولار الأميركي يساوي حاليا نحو ٤٥٠ ليرة)، وتضاعفت غالبية الأسعار عشر مرات عما كانت عليه قبل الحرب عندما كان سعر صرف الدولار لا يتجاوز ٥٠ ليرة.

وانعكس ذلك سلباً على الحالة المعيشية للمواطنين، مع بقاء سقف المعاشات الشهرية للموظفين على ما هو عليه، فالموظف الذي كان مرتبه ٣٠ ألف ليرة قبل الأزمة، أي ما يعادل ٦٠٠ دولار، أصبح مرتبه اليوم يساوي أقل من ٧٥ دولاراً، على حين يقدر اقتصاديون حاجة الأسرة المؤلفة من خمسة أفراد حاليا إلى 800 دولار شهريا لتستطيع مواصلة حياتها بشكل وسطي.

وكشفت دراسة أعدها في مايو (أيار) ٢٠١٦ “مركز الرأي السوري للاستطلاع والدراسات”، وهو مركز موال للحكومة، أن نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر تصل إلى ٨٧.٤ في المئة، وفقا لمعيار البنك الدولي.

ووفق مكتب التنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشوا)، في سورية ٧.٥ مليون شخص نزحوا من مناطق إقامتهم إلى مناطق افترضوها أكثر أمناً، إضافة الى أكثر من خمسة ملايين لاجئ خارج البلاد.

من جانبه، أكد “برنامج الغذاء العالمي” مؤخرا، أن ١٣.١ مليون سوري في حاجة للمساعدات الإنسانية، وأن  ٦.٥ مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي وتوقع ارتفاع هذا الرقم مع استمرار الصراع لـ١٠ ملايين شخص وهو تقريباً ضعف عدد الأشخاص المحتاجين للغذاء في العام الماضي.

ومع تردي الوضع المعيشي للسوريين، أطلقت جمعيات خيرية في السنة الثانية للحرب مشروعاً لتوزيع “سلل غذائية”، وغالباً يكون مصدر تلك السلل”برنامج الأغذية العالمي” التابع للأمم المتحدة، والمنظمة الدولية للصليب الأحمر، وجمعيات خيرية. كما تقوم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التابعة أيضاً للأمم المتحدة، بتوزيع سلل غذائية على اللاجئين الفلسطينيين.

وبعد أن كان يتم توزيع السلال الغذائية مرة واحدة كل شهرين على كل عائلة،  بات توزيعها منذ مطلع العام الجاري مرة واحدة كل ثلاثة أشهر.

وتحتوي السلة الواحدة على مواد أساسية قابلة للتخزين ولا تحتاج إلى التبريد لضمان إمكان حفظها لأطول فترة ممكنة. وفي كل سلة، فول (٦ – ١٢ علبة) وعدس حب (٣ – ٥ كلغ) وبرغل (٢ – ٤ كلغ) وأرز (١٠ كلغ) ومعكرونة (١ – ٥ كلغ) وزيت نباتي (٥ – ٦ ليتر) وسكر (٢ – ٥ كلغ) وملح (١ كلغ) وحمص حب (٢ – ٤ كلغ) وطحين ( ٥/٧ كلغ). كما يتم أحياناً، توزيع أدوات مطبخ ومنظفات وفرش وأغطية إضافة الى السلة الغذائية.

مصدر رئيسي للعيش

في ظل تراجع الوضع المعيشي  بشكل عام، باتت أغلب الأسر السورية في داخل البلاد وخصوصا النازحة تعتمد بشكل رئيس على محتويات السلة الغذائية، التي “تكاد لا تكفي لسد رمق أفردها”، بحسب ما يقول أب لأربعة أطفال، ويوضح أن مرتبه يكفي فقط لدفع بدل إيجار الشقة الشهري وثمن الخبر، ويعتبر أن إطالة فترة تسليم هذه السلة سيتسبب بمشكلة له في كيفية “تأمين معيشة” أفراد عائلته و”لو على الكفاف” في الشهر الإضافي.

وأعلنت الأمم المتحدة في ابريل (نيسان) الجاري، أنه وبحلول يناير (كانون الثاني) الماضي، بلغ عدد من يتلقون مساعدات “برنامج الأغذية العالمي” ثلاثة ملايين سوري، بعد أن كان أربعة ملايين في أغسطس (أب) الماضي، وذلك بسبب نقص التمويل، من دون أن توضح إن كان هذا الرقم يشمل اللاجئين السوريين في دول الجوار أم لا.

وبحسب المنظمة يحتاج البرنامج إلى ١٥٩ مليون دولار للحفاظ على تشغيل عملياته، حتى بنسب منخفضة، إلى شهر يوليه (تموز) المقبل.

محسوبيات

تشترط الحكومة السورية على المنظمات الدولية، أن تتم عملية الإغاثة بالتنسيق معها، وتمنع أي منظمة دولية تُعنى بالإغاثة من العمل على الأراضي السورية من دون موافقتها. كما تحصر عملية تمويل المساعدات وتسليمها في جمعيات خيرية سورية مرخصة بقائمة أشرفت على وضعها وزارة الخارجية. كما تشترط أن تتم عملية توزيع المساعدات من المنظمات الدولية بالتنسيق معها، عبر “منظمة الهلال الأحمر العربي السوري.”

ويتم تسجيل أسماء العائلات المحتاجة لدى مخاتير الأحياء أو مراكز التوزيع، التي غالباً ما تقوم عليها شخصيات من الأحياء ذاتها بموجب البطاقات العائلية.

وبحسب النشرات المرفقة مع “السلة الغذائية” والإعلانات الملصقة في مراكز التوزيع، فإن من يحق لهم التسجيل للحصول على “السلة الغذائية” هم العائلات النازحة، والعائلات الفقيرة جدا، والعائلات التي فقدت المعيل على أن تقدم تلك العائلات أوراق تثبت ذلك.

وتقول ربة منزل، وهي أم لثلاث فتيات، ونزحت من منزلها في ريف دمشق إلى إحدى ضواحي دمشق الآمنة: أنه “رغم أن شروط الاستحقاق تنطبق على عائلتي، فإنني لم أتمكن من التسجيل، إلا بشق النفس، بسبب المماطلة وحجج القائمين على مراكز التوزي”، في حين يؤكد أب لطفلين وعاطل عن العمل بسبب قلة فرص العمل في البلاد، أنه “لم يتمكن حتى الآن من التسجيل بسبب المحسوبيات المتبعة من المسؤولين” في المراكز ويضيف: “العملية إذلال بإذلال.”

مكافأة للموالين

والمفارقة بحسب تأكيد العديد من الأهالي، أن من يأخذون “المعونة” معظهم من أهالي الأحياء الأصليين على رغم أنهم يسكنون في بيوتهم، كما يحصل في أحياء  معينة في العاصمة.

كما تشاهد سيارات فارهة أمام مراكز التوزيع يترجل منها أصحابها ويستلمون سلالاً غذائية من دون أدنى وجل أو حياء، لا بل تبدو عليهم ملامح الابتهاج بعد عملية الاستلام، على حين يمنع النظام المواد الإغاثية في شكل كامل أو جزئي عن مناطق سيطرة المعارضة.

ووفق الكثير من الأهالي، فإن مرد ذلك إلى عمليات تلاعب تحصل في عمليات التسجيل، والتي غالبا  ما تجري بالتواطؤ مع المخاتير والقائمين على مراكز التوزيع، عبر تقديم الكثير من الأسر أوراقاً تثبت أن لها بيتاً في إحدى المناطق المتوتّرة وبيتاً آخر في الحي الآمن الذي تعيش فيه.

ويلاحظ أن كثيراً ممن يقفون أمام المراكز للاستلام هم من عناصر جيش النظام والأمن ومليشيا “قوات الدفاع الوطني” الموالية له رغم أنهم قاطنون في بيوتهم، وغالبا ما يعمد هؤلاء إلى عدم الوقوف على الدور لاستلام “السلة الغذائية” بل يتجاوزونه، وعلى رغم ذلك يلقون كل الترحيب من القائمين على عملية التوزيع، بينما عندما يأتي دور شخص محتاج ملتزم بدوره يتأففون ويمنون عليه وكأنهم يعطونه من مالهم الخاص.

 تجارة وإقرار

وبينما تشهد مراكز التوزيع خلال أيام العمل، تجمهر العديد من التجار لشراء “السلة الغذائية” أو جزء مما تحتويه ممن يرغب، باتت شوارع الأحياء الرئيسية في العاصمة تشهد الكثير من البسطات التي تتضمن محتويات السلة الغذائية لبيعها.

وبينما يقوم الكثير من المستلمين ببيعها فورا للتجار في مؤشر على أنهم غير محتاجين، يعمد بعض المحتاجين إلى بيع جزء منها لا يرغبون به، ويشترون بثمنه مواد يرغبون بها، بينما تقوم بعض الأسر الفقيرة النازحة ممن يعمل أرباب أسرها ببيعها كاملة لتأمين بدل إيجار المنازل.    

وغالباً ما تباع محتويات السلة الغذائية بأسعار أقل مما هي عليه المادة في الأسواق والمحلات التجارية. وبينما يباع سعر الليتر من الزيت النباتي الموجود ضمن السلة على بسطات الرصيف بـ٦٥٠ ليرة سورية، يباع في المحلات بـ٨٠٠ على رغم أن الاثنين من النوعية ذاتها.

وفيما يباع كيلوغرام البرغل الموجود في السلة على البسطات بمئة ليرة، يباع النوع ذاته في الأسواق بـ ٢٠٠ ليرة. ويصل سعر مجمل ما تحتويه السلة الغذائية الى ما بين ١٢ الى ١٥ آلاف ليرة سورية.

وبات الغالبية العظمى من سكان مناطق سيطرة الحكومة بدمشق يقرون باستلامهم سللاً غذائية ومواد تنظيف وأدوات مطبخ وفرشات وبطانيات، ويبررون ذلك بأن “الغالبية العظمى من السوريين باتت في حاجة إلى المساعدات في ظل الارتفاع الكبير للأسعار لعموم المواد الغذائية والخضار والفاكهة والأدوات المنزلية.”