أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

مع سيطرة الجيش السوري على أغلب مساحة الغوطة الشرقية بعد خروج فصيلي ”أحرار الشام“ من حرستا، و“فيلق الرحمن“ من زملكا وجوبر وحزة وعربين، وهي المناطق التي بقيت تحت سيطرته في القطاع الأوسط، أصبح واضحاً بأن الوجود المسلح لفصائل المعارضة السورية أصبح محسوماً في تلك المنطقة، والتي شهدت أعنف حملة عسكرية عليها منذ بداية حصارها في نهاية عام ٢٠١٢.

لكن يبقى السؤال الأهم، ما هو مصير فصيل ”جيش الإسلام“ المحاصر في مثلث دوما، وبعهدته ما يقارب ١٤٠ ألف مدني؟

بدأت مفاوضات جيش الإسلام مع الجانب الروسي منذ بداية الحملة العسكرية على الغوطة في منتصف شباط ٢٠١٨، ومع استمرار تقدم الجيش السوري في مزارع الغوطة، من الناحية الشرقية، حيث الخاصرة الرخوة للمحاصرين، ثم محاصرة كل فصيل على حدة، بعد تراجعه إلى مركز سيطرته (جيش الاسلام في مدينة دوما مع امتداد حتى بلدة الريحان في الشمال الشرقي للغوطة، وأحرار الشام في مدينة حرستا، بينما تآكلت مناطق فيلق الرحمن وتصالحت مدنه مع ما فيها من مدنيين ومقاتلين مع النظام بشكل منفرد، وبالتالي أضحى محاصراً في مدن زملكا وجوبر وحزة وعربين) تقدَّم جيش الاسلام بعرض إلى الجانب الروسي، وكما رشح من بنود هذا العرض، والمحفوظة ضمن دائرة ضيقة في قيادته، أن يتحول جيش الإسلام إلى شرطة مدنية (بدل خدمة العلم الإلزامية في الجيش السوري) في مدينة دوما وما حولها، مع تسليم السلاح الثقيل، ودخول رمزي لمؤسسات الدولة، ورفع العلم السوري على الدوائر الحكومية، ودخول كتيبة شيشانية لتأمين المنطقة بدل دخول الجيش السوري وقوات النظام الرديفة.

ومع الحديث عن تواجد وساطة مصرية في دمشق تسعى للحفاظ على جيش الإسلام ومدينة دوما، كما تسرب من الصحافة، يبدو أن الجانب الروسي تعاطى بشكل ايجابي مع عرض جيش الإسلام في البداية، حيث دخلت المساعدات الإنسانية إلى مدينة دوما وحدها دون غيرها عدة مرات، وخرجت الكثير من الحالات المرضية والإصابات بالغة الخطورة من داخل مدينة دوما لتلقي العلاج في العاصمة دمشق، وأيضاً أعلن الجانب الروسي عن وقف إطلاق النار من جانب واحد على مدينة دوما فقط، وهذا أعطى جيش الإسلام قناعة بأنه يملك أوراق تفاوضية قوية ومختلفة عن فيلق الرحمن أو أحرار الشام، فهو لم يُخِل باتفاقية ”خفض التصعيد“ التي وقعها مع الجانب الروسي في ٢٢ تموز ٢٠١٧، على عكس فيلق الرحمن الذي ساند بشكل واضح أحرار الشام في معركة ”بأنهم ظلموا“ على إدارة المركبات في مدينة حرستا، ولم يقم أيضاً بقصف العاصمة دمشق كما كان يفعل سابقاً في مثل هذه الظروف، في حين أن فيلق الرحمن أمطرها بوابل من القذائف والصواريخ، مما أوقع العشرات من الإصابات والضحايا في صفوف المدنيين، وأيضاً يتباهى جيش الإسلام بأنه أول من حارب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”داعش“ وذلك بعد أشهر من إعلان التنظيم عن قيام دولة خلافته، حيث اقتلعه تماماً من الغوطة الشرقية وقضى على وجوده فيها، ثم قاتله في جنوب دمشق، وفي جبال القلمون بالتعاون مع قوات أحمد العبدو المحلية هناك، وكذلك حربه ضد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) حيث دخل مراكز قيادتها في ٢٨ نيسان ٢٠١٧ بعد أن قتل وأسر العديد من قادتها وعناصرها، ولولا تدخّل فيلق الرحمن المتأخّر لحماية من تبقى منهم، لكان أنهى وجودها بشكل كامل في الغوطة الشرقية.

لكن يبدو بأن الجانب الروسي كان يملك اليد العليا في إدارة المعركة على الأرض ومن خلال التفاوض أيضاً، فهو أعطى نوعاً من الاطمئنان لقادة جيش الإسلام في رده على مطالبهم، ومن ثم بعد أن دخل الجيش السوري إلى القطاع الأوسط وبدأت مدنه وبلداته تُصالح منفردة، ومع تحوّل صمود أحرار الشام في حرستا إلى تفاوض بفعل ضغط الأهالي، تغير موقف الجانب الروسي فجأة، وقيل بأنه انسحب من تعهداته التي قدمها لجيش الإسلام، وهذا ظهر واضحاً من خلال تصرفات جيش الإسلام الذي حاول التلويح بأوراق تفاوضية جديدة، فاستعمل منظومة صواريخ الأوسا (9K33 Osa منظومة قاذفة، تحمل ستة صواريخ دفاع جوي محمولة على سيارات نقل بستة عجلات، ومدمج بها رادار في سيارة واحدة، وكان جيش الإسلام قد استولى عليها من قاعدة دفاع جوي بالقرب من دمشق في نهاية ٢٠١٢) للمرة الأولى خلال هذه الحملة، وأطلق صاروخين اثنين في اتجاه مروحييتين للجيش السوري دون إصابة أي منهما، وذلك في ١٧ آذار الماضي، وأيضاً قام باستعراض لبعض دباباته في وسط دوما، ثم فتح معركتين في مساء اليوم التالي، واحدة باتجاه حرستا بالتعاون مع أحرار الشام فيها، حيث قيل بأنه تسلّم سلاحهم الثقيل قبل إبرام اتفاقهم النهائي مع النظام السوري، وأخرى أحرز من خلالها تقدماً في مزارع بلدة مسرابا، فعاد القصف من جديد على مدينة دوما موقعاً العديد من الضحايا، وكان أشدها في ٢٣ آذار حين تم قصف المدينة بالنابالم والفوسفور الحارق.

مع عودة الهدوء النسبي وتوقف القصف على مدينة دوما، عاد جيش الإسلام إلى التفاوض من جديد، ولكن هذه المرة كان من خلال لجنة مدنية (تم انتقاء معظم أفرادها من المقربين منه) وعبر خط تفاوض جديد موازٍ لخط العسكر التفاوضي، ومع ذلك لم يتم تحقيق أي شئ يُذكر، فالموقف الروسي ثابت، خروج من دوما إلى محافظة إدلب أو جبال القلمون الشرقي، مع تسليم السلاح الثقيل، وتسوية أوضاع الراغبين في البقاء، مع إعطاء مهلة سنة كاملة قبل الالتحاق بالجيش للمتخلفين أو الفارين من خدمة العلم، وأن تكون الخدمة الإلزامية في الفرقة الخامسة (وهي فرقة ميكانيكية، تتموضع في الجنوب السوري ومسؤولة عن الجبهة الجنوبية، شاركت في حرب تشرين في ٧٣ وكانت أكثر الفرق نجاحا حيث وصلت إلى مشارف بحيرة طبريا) وكذلك أبدى الجانب الروسي استعداده للتفكير في إرسال كتيبة شيشانية إلى دوما، بدلاً من الجيش السوري وقوات النظام الرديفة، وبالتالي بقي الوضع معلّقاً مع جولات من التفاوض شبه اليومية وبحضور ممثل عن الأمم المتحدة المتواجدة في دمشق.

يعلم الجميع بأن ”جيش الإسلام“ قد انتهى، وهو يعلم ذلك، فخروجه إلى محافظة إدلب، يعني بأنه سيكون في مواجهة غير متكافئة مع هيئة تحرير الشام، على الرغم من تأكيد قيادة أحرار الشام في الشمال بتأمين الحماية اللازمة والكاملة لجيش الإسلام إن رغب في التوجه إلى محافظة إدلب، والجانب الأمريكي يرفض تماماً فكرة  توجه جيش الإسلام نحو الجنوب إلى درعا، والجانب التركي كذلك يرفض بشكل قاطع دخول أي مدني أو مسلّح إلى مناطق سيطرة درع الفرات، حتى أنه ومن معه من فصائل المعارضة السورية وضعوا ”فيتو“ على دخول ”فيلق الرحمن“ للقتال إلى جانبهم سواء في قيادة الأركان أو في درع الفرات، ويبدو أن جيش الإسلام قد أغضب الأتراك حين قبل بالوساطة المصرية عند توقيع اتفاقية خفض التصعيد، وبالتالي لم يبقَ أمام جيش الإسلام إلا منطقة جبال القلمون الشرقي، وهي منطقة مُحاصَرة بشكل أكثر سوءاً من مدينة دوما الآن، ناهيك عن عدم أهليتها لاستقبال هذا العدد من المقاتلين وعائلاتهم.

مع كثرة الشائعات والأقاويل، يتحرك الشارع المدني – المُغيّب تماماً عن تقرير مصيره – في دوما بشكل تصاعدي يوماً بعد يوم، مقابل خطاب خشبي يدعو إلى الصمود والمبايعة على الموت من قادة جيش الإسلام وشرعييهم، واستخدام ظالم للغة التخوين مع استدعاءات الأجهزة الأمنية لمن يخالفهم الرأي. لقد خرج من دوما حتى الآن أكثر من ٢٠ ألف مدني عبر معبر مخيم الوافدين إلى مراكز الإيواء الجماعية التي أعدّها النظام السوري لاستقبالهم، مجازفين بأنفسهم ودون وجود أي اتفاق يضمن مصيرهم، لكن يبدو أن جيش الإسلام لا زال يكابر مُعوّلاً على حظوظه في نجاح المفاوضات، دون أن يشرح على ماذا يستند ويراهن، متحدياً بذلك المنطق الذي يقول بأنّه لا يملك في المفاوضات ما يُعطيه مقابل ما يطلبه لنفسه، ربما يكون تعليل ذلك بأنّه مُحاصر في خياراته، ولا يملك سوى الصمود بقدر ما يستطيع. لكن هذا الصمود المستند على الخطاب الحماسي، سوف يدفعه في النهاية إلى تكرار ما حدث مع ”فيلق الرحمن“ حين خرجت المظاهرات مندّدة به، ثم انشقت جماعات متفرقة من عناصره، وتحولت إلى ”قوات دفاع وطني“ من خلال مصالحات مباشرة مع النظام.

في المقابل، يبقى الجانب الروسي متعنتاً في موقفه، وهو يعلم بأن ”جيش الإسلام“ لا يملك خياراً سوى التمسك بأرضه والمواجهة لأجل البقاء، وبالتالي من المفيد تقديم نموذج حميد نحو تحوّل بعض من فصائل المعارضة السورية – الأكثر اعتدالاً – إلى شرطة محلية (مكان خدمة العلم)، بدل تركها لتكون تابعة لمصالح وغايات دولية وإقليمية، أو الدخول في معارك معها سوف تُخلّف الكثير من الضحايا في صفوف المدنيين، مع دمار أصبح سمة رئيسية للمدن والبلدات السورية. ربما يكون النظام السوري هو المعطل لذلك كما تناقلت بعض الصحف، وربما لذلك يسعى الروس لكسب تأييد الأتراك في قبول صفقة ما لترحيل جيش الإسلام إلى جرابلس أو منبج، ويبدو أن مساعي الروس قد نجحت في تحقيق ذلك خلال الساعات الماضية، وبالتالي نبقى في انتظار الرد من جيش الإسلام على هذا الخيار الأخير.

على جانب آخر، تغيب مؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة عن المشهد الحاصل في الغوطة الشرقية، وعندما تحضر تكون بطريقة ”رفع العتب“ دون تدخّل أو تأثير مباشر، فمجلس الأمن – وبعد تأجيل التصويت مرتين بسبب الاعتراض الروسي على صيغة القرار – يُخرج في ٢٤ شباط ٢٠١٨  القرار رقم ٢٤٠١ والقاضي بوقف الأعمال العدائية لمدة ٣٠ يوماً متتالية في جميع أنحاء سوريا، مستثنياً من ذلك تنظيم ”داعش“ و ”جبهة النصرة“ والكيانات الإرهابية كما حددها مجلس الأمن، مما أعطى روسيا والنظام السوري غطاءً دولياً ليفعلوا ما يشاؤون، بحجة وجود عناصر جبهة النصرة هناك، والذين لا يتجاوز عددهم الـ ٣٠٠ عنصر في القطاع الأوسط، وحين أعربت الفصائل الثلاث في رسالتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، وللرئیس الدوري لمجلس الأمن السفير الكويتي منصور العتيبي عن “التزامنا التام بإخراج مسلحي تنظيم هيئة تحرير الشام، وجبهة النصرة والقاعدة، وكل من ينتمي لهم وذويهم من الغوطة الشرقية لمدينة دمشق خلال ١٥ يوماً من بدء دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ الفعلي“ لم تتحرك الأمم المتحدة لايجاد آلية للتنفيذ، مما اضطر جيش الإسلام إلى الاتفاق بشكل مباشر مع وفد الأمم المتحدة الذي دخل مع القافلة الإغاثية في الخامس من آذار لأجل ترحيل الدفعة الأولى من عناصر هيئة تحرير الشام الموجودين في سجونه إلى محافظة إدلب، وأيضاً لم تُحرّك الأمم المتحدة ساكناً عندما قامت قوات أمن النظام السوري باستبعاد نحو ٧٠٪ من المساعدات الإنسانية ومن بينها المواد الطبية من قافلة المساعدات التي دخلت دوما يومها، ولا عندما اضطرت تلك القافلة للخروج مسرعة دون أن تفرغ تسع شاحنات من حمولتها، بسبب القصف المتواصل على المدينة أثناء عملية التفريغ، وأيضاً لم تتحرك مؤسسات الأمم المتحدة الإغاثية لتقديم المساعدة للمدنيين العالقين في مراكز الإيواء المؤقت في مناطق سيطرة النظام.

في النهاية، يبقى المدنيون هم المتضررون الأساسيون، فهم نقطة ضغط للمهاجمين، ودرع واق للمدافعين، حيث تسقط الإنسانية، ويُصادِر السلاح رغبة العاقل في الكلام، وتبقى معظم الاتفاقات والاعتبارات محصورة في السلاح ومن يحمله، وفي ذيل القائمة تجد بنداً يتحدث عن تأمين المدنيين، ومن سخرية الأحداث أن يُنقل بعض من عناصر ”هيئة تحرير الشام“ بأمان إلى محافظة إدلب، في حين يرفض الجانب الروسي أي اتفاقية تشمل خروج من يرغب من المدنيين نحو إدلب، إلا بعد الاتفاق مع فصيل جيش الإسلام.

*مصدر الصورة المرافقة للمقال: REUTERS/Omar Sanadiki

ناجية إيزيدية ترسم معاناتها مع داعش في لوحاتها

ناجية إيزيدية ترسم معاناتها مع داعش في لوحاتها

“ماتزال صورة والدي المختطف على يد تنظيم داعش متمترسة بجدار ذاكرتي، أحاول مراراً وتكراراً أن أرسمه في لوحاتي، وأتخيل أنه عاد مع شقيقتي وأشقائي وأولادهم وزوجاتهم إلى البيت.” بصدى أنة مقهورة تدخل “سهيلة دخيل تعلو” الناجية الإيزيدية في تفاصيل أسرها مع عائلتها من قبل مقاتلي تنظيم داعش في الثالث من شهر آب/أغسطس 2014، حيث مايزال بعضهم مجهولي المصير.

سكبت “سهيلة” في لوحاتها ألوان عذاباتها، وترجمت بريشتها رحلة ألم عاشتها خلال فترة اختطافها لسنتين من قبل التنظيم بعد سيطرة مقاتليه على بلدتها شنكال (120 كم غرب الموصل) في العراق قبل نحو أربع سنوات.

صورة رقم 1: تظهر “سهيلة” في مرسمها

لحظات موجعة لم تبرح مخيلة الشابة الصغيرة بعد تحريرها من الأسر، وعودتها لأحضان من تبقى من عائلتها، لتعيش في مخيم “شاريا” بدهوك في كردستان العراق مع أخيها “ساهر” وشقيتيها “سهار” و”شيماء” الناجية مع والدتها “عمشي” من براثن داعش.

نمّت سهيلة موهبتها في الرسم بعد عودتها لعائلتها والتحقت بدورة لتعلّم فنون إتقان الرسم على يد الرسام الكردي الشهير “بيار محمد عمر” من مدينة دهوك مع مجموعة مؤلفة من “12” ناجية إيزيدية تحررن وعشن في المخيم.

عرضت مؤخراً الرسامة الناجية لوحاتها في أول معرض للرسم في مجمع “شاريا” للنازحين الإيزيديين والذي لاقى حضوراً كبيراً فعشقها لفن الرسم كان اللبنة الأولى في طريق تغلبها على محنتها.

15 رهينة من العائلة

سُبيت “سهيلة” في عامها الثالث عشر مع 14 فرداً من عائلتها، الأب “دخيل”، والشقيقتين “ألماسة” و”شيماء” والأشقاء “سعد” و”آزاد” و”خلف” وزوجاتهم وأطفالهم مع العمة “ليلى” وطفليها.

واجهت “تعلو” كغيرها من المختطفين والمختطفات الإيزيديات حقبة سوداوية مقيتة عاشتها بعد نقلها مع المئات ممن أسرهم داعش في حافلات إلى دائرة نفوس “شنكال”، ومنها لقضاء “بعاج”، فسجن “بادوش” قرب مدينة الموصل، ومنها إلى قضاء “تل عفر” حيث فصلت عن عائلتها وانتهى بها المطاف في قاعة “كالاكسي” في الموصل برفقة شقيقتيها “ألماسة” و”شيماء”.

عدة مرات تعرضت الشقيقات الثلاث للاغتصاب اليومي، ولأشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي والبيع والجوع والضرب المبرح.

وقد تمّ فصل الأخوات عن بعضهن فـ”شيماء” الصغرى نُقلت إلى سورية، وبقيت “سهيلة” في الموصل، أما “ألماسة” فلم يتسن للعائلة الحصول على معلومات عنها حتى اليوم.

بُيعت “سهيلة” الشابة الصغيرة أكثر من ثماني مرات، ناهيك عن تبادلها من قبل عناصر داعش بين بعضهم كسلعة تباع وتشترى.

 أخذت عملية تحرير “تعلو” وقتاً طويلاً، فقد استغرقت أكثر من سنة كما حدثنا عمها الكاتب الإيزيدي “خالد تعلو”. حيث قال: “تتبعنا أخبار سهيلة عن طريق بعض الناجيات اللواتي استطعن الهرب من سجون داعش، وعلمنا أنها أقدمت على الانتحار قبل أن يغتصبها جنود الدولة الإسلامية، غير أن محاولتها في قطع شريانها باءت بالفشل، وبعدها تمكنا من شرائها عن طريق وسطاء بيننا وبين داعش بمبلغ 6800دولار.”

صورة رقم 2: “سهيلة” بالزي الايزيدي الشعبي

فوجئنا أننا عبيد!

سُيقت الشابة الإيزيدية “سهيلة” إلى أسواق الرق بين تلعفر والقيارة والبعاج وحمام العليل والحويجة والموصل لأكثر من ثماني مرات وتذكر “سهيلة”: ” فوجئنا أننا أصبحنا عبيداً، نُباع ونُشترى كسلع رخيصة لا حول لنا ولا قوة، ناهيك عن أن عناصر التنظيم كانوا يتبادلوننا فيما بينهم، بعد إجبارنا على اعتناق الإسلام وتهديدنا بالضرب والحرق والتشويه.” وتضيف: “بعد فصلنا عن عوائلنا كنا نتعرض للاغتصاب الجماعي أنا والعشرات من الفتيات مع شقيقتي “ألماسة” التي لا نعرف عنها حتى الآن شيئاً هي ووالدي وأشقائي الثلاثة مع زوجات وأولاد اثنين منهم. تم تحرري في الموصل وأما شقيقتي شيماء فقد تحررت في مدينة الرقة السورية قبل حوالي سبعة أشهر، فشيماء التي تم بيعها لأكثر من 10مرات وهي لم تبلغ الثماني سنوات حين أختطفت وبيعت لأحد أمراء التنظيم في الرقة وكان سعودي الجنسية واغتصبت بشكل يومي بعد ربطها بالسرير.”

صورة رقم 3: “شيماء” مع أسرتها بعد عملية التحرير

 تحرير الرهائن مغامرة:

تحرير الناجيات عملية معقدة جداً، حيث تتم حسبما يتحدث “خالد تعلو” بعيداً عن أنظار داعش وبسرية تامة جداً، ويضيف: “يتم عرض صور المختطفات الإيزيديات والأطفال على موقع النخاسة الإلكتروني الذي يديره داعش.” موضحاً: “بعض الوسطاء يدخلون المزاد في هيئة موالين لتنظيم داعش ويشترون بناتنا بعد اتفاقهم مع أهالي الأسيرات على قيمة المبلغ الباهظ، ويجب على أهالي المخطوفين تأمين المبلغ المحدد قبل تحريرهم.” ويتابع: “صفقات التحرير مغامرة تواجهها صعوبات جمة، أهمها أن العديد من أهالي الضحايا يعجزون عن تأمين المبلغ المطلوب في التوقيت المحدد فتفشل عملية التحرير.”

شراء الرهائن بمبالغ خيالية

يشتري الإيزيديون أسراهم لقاء مبالغ مالية كبيرة، تُنهك قدرة عوائلهم، فيدفعهم ذلك إلى بيع ممتلكاتهم والاستدانة لشراء حرية أحبتهم.

 أكد “شُكُرْ شَنكالي” مسؤول المجلس الإيزيدي في “شنكال” أنه لم يحرر أسير واحد دون مقابل مادي إلا مرة واحدة قبل حوالي عامين، حيث حرر53 إيزيدياً في عملية مقايضة مع امرأة داعشية كانت من مدينة “حلب السورية” تدعى “عزيزة” والتي تزوجت من أربعة أمراء للتنظيم واعتقلت من قبل وحدات حماية “شنكال” صيف 2016 في طريق عودتها إلى الموصل مع مجموعة من عناصر التنظيم”.

تحدث “خالد تعلو” عن تحرير “عمشي” والدة سهيلة من مدينة الرقة في الرابع من نيسان 2017 بمبلغ 11500دولار، وزوجة ابنها تحررت مع بناتها الثلاث في 24نيسان 2016 من مدينة طبقة السورية بميلغ 29ألف دولار.

ويضيف تعلو: “اشترينا حرية شقيقتي ليلى وطفلتيها ’سالار وسارة‘ بمبلغ 27ألف دولار من مدينة الرقة في نيسان2017.

صورة رقم 4:”سهيلة” مع عمها الكاتب “خالد تعلو”

ناجيات ورهائن

كشفت مديرية الشؤون الإيزيدية في إقليم كردستان الشهر الماضي عن آخر إحصائية لأعداد الفتيات والنساء والأطفال الرهائن لدى تنظيم داعش، فضلاً عن الناجين من سجونه.

ونقلت وسائل إعلامية في تصريح صحفي لمدير مديرية الشؤون الإيزيدية في دهوك، “عيدان الشيخ كالو” (في4 شباط 2018) قوله أن: “العدد الكلي للناجيات والناجين الإيزيديين الذين اقتادهم تنظيم داعش في مطلع آب 2014، بلغ (3259) شخصاً.” وأضاف: “وأما عدد الرهائن لدى التنظيم كان قد بلغ (6417) شخصاً، وهناك أكثر من 3158 مايزال أسيراً لدى داعش في الأراضي السورية والتركية، بينهم 1472 من الإناث.”

ووفقاً لإحصائيات غير رسمية، يقدرعدد الإيزيديين بنحو 600 ألف نسمة في العراق، يقطن غالبيتهم في محافظتي نينوى ودهوك، فضلاً عن وجود أعداد غير معروفة في سورية وتركيا وجورجيا وأرمينيا، وأعداد أخرى من المغتربين في دول أوربية أبرزها ألمانيا والسويد.

وتعرض الإيزيدون إلى 74 مجزرة وكان آخرها في 3 آب/ أغسطس 2014 في “شنكال” موطنهم الأصلي في العراق بعد اجتياح مقاتلي داعش، وسيطرتهم على محافظة نينوى شمال العراق، وقتلهم لمئات الإيزيديين في قضاء “شنكال” وقرى غرب الموصل وسبيهم آلاف النساء والأطفال، وارتكابهم أبشع جرائم ضد الإنسانية جمعاء.

حول الوضع في سوريا

حول الوضع في سوريا

مع دخول الانتفاضة السورية في هذا الشهر عامها الثامن قُتل أكثر من أربعمائة ألف سوري ودُمِّر أكثر من ثلث البنية التحتية للبلاد، وهُجِّر نصف السكان من منازلهم وعانت بلدان أخرى من الضغط الناجم عن لجوء ملايين السوريين الهاربين من القتال إليها كما يقول بسام حداد، مضيفاً أن ما بدأ كتمرد ضد الدكتاتورية في٢٠١١ صار مرجلاً للتدخل الإقليمي والدولي. فإلى جانب الولايات المتحدة، انخرطت روسيا وإيران والعراق وتركيا وقطر والمملكة العربية السعودية وحزب الله في دعم طرف أو آخر. وسيطر تنظيم الدولة الإسلامية على أكثر من ٤٠٪ من مساحة البلاد. وقد طُرِدَ تنظيم الدولة أخيراً من معظم معاقله على يد تحالفات عسكرية مختلفة بعد معارك شرسة  في خريف ٢٠١٧.

وفي العام الثامن من الصراع على سوريا، والذي يذكّر بأهداف مشابهة قبل عقود، ما تزال البلاد تعاني من الاضطراب السياسي الداخلي والتدخلات الخارجية والمعارك بين تركيا والأكراد وتقع على عاتقها مهمة هائلة لإعادة بناء ما دمرته الحرب.

أما الهجوم القائم والمتواصل على الغوطة، الذي يشنه النظام وروسيا، فينذر بمزيد من الأهوال القادمة على صعيد خطط النظام السوري حيال الأجزاء الأخرى من البلاد التي ليست تحت سيطرته.

يتحدث بسام حداد ل”سبيكترم” عن كلّ هذه المسائل، ويضع الصراع في سياقه التاريخي منذ بداية الانتفاضات، ويناقش التحديات الحالية التي تواجه سوريا والسوريين.

بسام حداد باحث وأستاذ جامعي ومؤلف ومخرج أفلام وثائقية. ويحمل كتابه الثاني العنوان المؤقت فهم المأساة السورية: النظام، المعارضة واللاعبون الخارجيون، والذي سيصدر عن مطبعة جامعة ستانفورد. كما كان بسام منتجاً مشتركاً ومخرجاً للفيلم الوثائقي الحاصل علي جوائز ويحمل عنوان عن بغداد، كما أخرج الفيلم المعروف والمشاد به، “العرب والإرهاب.”

توم هودسون: أهلاً بك في سبيكترم. تبث سبيكترم محادثات مع مجموعة مختارة من الأشخاص، بعضهم مشهور وبعضهم الآخر غير مشهور. واليوم نتحدث مع بسام حداد، مدير برنامج الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة جورج ميسون. وهو عضو أساسي في الهيئة التدريسية في هذه الجامعة في الفلسفة والسياسة والاقتصاد. ويعمل على كتابه الثاني عن سوريا وصراعاتها الداخلية.

يحدثنا الدكتور حداد عن الصراعات المسلحة في سوريا وخاصة منذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية والصراعات المتواصلة في البلاد التي مزقتها الحرب.

نص الحوار

توم هدسون: هل يمكن أن تشرح لنا لماذا الوضع في سوريا غامض ومحيّر لأي شخص من الخارج؟

بسام حداد: أولاً، شكراً لكم لاستضافتي. ويسرّني أن أتحدث عن هذا الموضوع، وأود أن أجيب عم سألتني عنه من خلال قول شيء مختلف قليلاً وهو أنه إذا كنت تتابع الأخبار عن سوريا، أو كلما تابعتها في الحقيقة، أَصْبَحْتَ أكثر تشوشاً. وهكذا إذا كنتَ مُشوَّشاً فلربما كان السبب هو أنك تتابع الأخبار. أما الذين لا يتابعون الأخبار فيمتلكون على الأرجح وجهة نظر كلاسيكية عن الوضع، أي أنهم يفهمون أن هناك انتفاضة في سوريا ضد الدكتاتورية، وهذا صحيحٌ من زاوية السرد الأساسي. لكن  الأمر تجاوز هذا في الحقيقة. ويمكن أن يتفاجأ الناس من أن مسار الانتفاضة السورية هو في الواقع أحد المسارات الأكثر تعقيداً بين الانتفاضات والثورات. لا أعني هنا أن الانتفاضة تفتقر للشرعية، فقد كانت شرعية بشكل كامل ومتأخرة نوعاً ما نظراً للأربعين عاماً أو أكثر من الدكتاتورية، لكنني أقول هذا بسبب ما حدث للانتفاضة نتيجة تدخل لاعبين إقليميين ودوليين مختلفين على الجانبين، وقد نجحت هذه التدخلات في خطف الانتفاضة وتحويلها إلى حرب بالوكالة تخدم مصالح جهات فاعلة حكومية وغير حكومية تدعم أحد الطرفين، أي النظام من ناحية والمعارضة أو المعارضات من ناحية أخرى. وبالطبع هناك اللاعب الثالث في حلبة الملاكمة، والذي جعل الأمور أكثر تعقيداً، وأعني تنظيم الدولة الإسلامية، وهو تنظيم لم تكن تهمه ثورة ضد الدكتاتورية أو أهداف الديمقراطية بل كسب الأراضي والتوسع الإقليمي في كلٍّ من العراق وسوريا كي يشيد نسخته من دولة الخلافة أو الدولة الإسلامية.

توم هودسون: إذاً دخل تنظيم الدولة في حوالى ٢٠١٣، هل كان هذا هو التاريخ؟

بسام حداد: كان للتنظيم حضور في العراق بشكل أساسي، وحدثت عدة تطورات أيضاً، فقد سمحت الحدود السورية (التي يسهل اختراقها) بدخول ما يُدعى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق إلى  سوريا، والذي عقد تحالفاً في البداية مع جبهة النصرة، والتي هي فرع للقاعدة في سوريا. لكن الأمر لم يسر جيداً. ثم نشأ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ضمن هذا السياق بين ٢٠١٣ و٢٠١٤.

توم هدسون: كان هدف تنظيم الدولة في سوريا إذاً هو الاستيلاء على الأراضي والتوسع الإقليمي، أي لم يكن فقط حركة إيديولوجية، بل حركة تهدف للاستيلاء على الأراضي.

بسام حداد: تماماً، وهذا ما ميز تنظيم الدولة الإسلامية عن القاعدة. كان هدف تنظيم الدولة بالفعل هو التوسع الإقليمي، وقد أراد أن يؤسس دولة من نوع ما بجماعات وتحتوي على متكآت الدولة من قضاء وبيروقراطية وجيش وهلمجرا. وهدفَ التنظيم إلى تأسيس دولته في كلّ من سوريا والعراق، والواقع أنه سيطر في نقطة ما على ٣٠٪ من العراق وعلى ما يقارب ٤٥٪ من مساحة سوريا. ونتحدث هنا بشكل رئيسي عن المدن غير الحضرية لأن تنظيم الدولة الإسلامية كان مجهزاً بشكل أفضل كي يستولي ويسيطر على المدن غير الحضرية نظراً أيضاً لوجود جيوش أكثر تجهيزاً في المدن الحضرية لكن البنية الاجتماعية في المناطق الأكثر ريفية كانت ملائمة أكثر كي تسيطر عليها مجموعة كتنظيم الدولة بإيديولوجيتها ونزعتها المحافظة اجتماعياً وغير ذلك.

توم هدسون: وصارت الموصل محوراً، بؤرة لتنظيم الدولة، أليس كذلك؟

بسام حداد: في الحقيقة كانت الموصل المدينة الحضرية الوحيدة في كلا البلدين التي تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من السيطرة عليها. وقد سيطر عليها بطريقة مريبة، لأنه لم تحدث  معركة في الموصل، بل دخل إليها عناصر التنظيم فحسب، وكان السبب هو السخط الشعبي في الموصل من الحكومة من ناحية والافتقار للجاهزية لدى القوات الحكومية أو للوجود الرسمي للحكومة العراقية في الموصل من ناحية أخرى. حدث هذا في ٢٠١٤، وكان هذا هو التوسع الإقليمي (كسب الأراضي) الأكثر أهمية لتنظيم الدولة في المناطق الحضرية، أضف إلى ذلك ولايتها أو دويلتها في الرقة في شمال سوريا الريفي.

توم هدسون: لنلخّص الأمور حتى هذه النقطة التي وصلنا إليها، ثم يمكنك أن تواصل. لدينا نظام الأسد الذي يحاول البقاء في السلطة ضد مجموعات مختلفة من المتمردين الذين لم يندمجوا في قوة واحدة. ثم لدينا دخول تنظيم الدولة الإسلامية، الذي قاطع المعركة بين الطرفين، ودخل طرف ثالث في هذا الصراع. والآن يُقال إن تنظيم الدولة طُردَ. هل أخرجه نوع من الهدنة أو كيف تم طرد تنظيم الدولة والطرفان الآخران ما يزالان يتقاتلان؟

بسام حداد: اسمح لي أن أعود إلى البداية، حين يتحدث المرء عن سوريا يواجه كثيراً من التفاصيل الغنية والمثيرة ثم بعد ذلك عليه أن يعود إلى البداية. إن السرد عن سوريا مثير للجدل دوماً، ولا يوجد سرديات عن سوريا لم تُجادَل. ما أريد قوله لك هو بعض السرديات الأساسية التي يصعب جداً مجادلتها، حتى من قِبل آراء مختلفة، لكنها ستبقى قيد الجدل إلى حد ما. أعتقد أن الأمر الأكثر أهمية الذي يجب أن نعرفه عن الوضع السوري هو أن سوريا حكمتها دكتاتورية منذ ١٩٧٠ أو ١٩٦٣ بحسب التاريخ الذي تريده، لكننا نستطيع القول من أربعة إلى خمسة عقود. لا يعني هذا أن الفترة السابقة للدكتاتورية كانت وردية، إنما يعني أنه كان لدينا فقط نوع خاص من الدكتاتورية في ظل حزب معين حكم منذ ١٩٦٣ ثم واصل حكمه في ١٩٧٠ حين استولى الأسد الأب على السلطة. إن هذه الخلفية من وجهة نظري هي السياق الذي يحدث فيه كل شيء. فبعد ٤٠ سنة من الدكتاتورية لا نستطيع توقع انتفاضة تقوم بها الملائكة، كما لا نستطيع توقع وقوف حلفاء الدكتاتورية مكتوفي الأيدي. ولا نستطيع توقع أن معارضة هذه الدكتاتورية ستدعمها جهات فاعلة حكومية أو غير حكومية ملائكية. وهكذا رُتِّب الموقف منذ البداية لجذب حلفاء وداعمين إشكاليين ومقاتلين أجانب كما هو الحال لدى تنظيم الدولة ومجموعات أخرى. وهكذا لدينا موقف حدثت فيه انتفاضة شرعية في سوريا في ٢٠١١، أثارتها الانتفاضات الأخرى وإلى حد ما النتائج السريعة في تونس ومصر، وكانت هذه الانتفاضة مدنية الطابع وسلمية، لكن تطورات مختلفة عرقلتْها. وكان التطور الأول الذي عرقل هذه الانتفاضة ضد الدكتاتورية، والتي تحولت كما قلتُ إلى حرب بالوكالة، هو تسليحها وعسْكرتها. وهذا غيَّر طبيعة الموقف وقدّم للنظام المتوحش الذي سحق حتى أصوات الاحتجاج المدني الذريعة كي يصبح أكثر تعمداً في فعله لهذا وصعّد من عنفه بحجة أن الانتفاضة ليست متمدنة أو مدنية، وبدأ هذا يغيّر طبيعة الانتفاضة وحوّل الصراع من انتفاضة ضد الدكتاتورية إلى نوع من الحرب، وقام عدد كبير من الأشخاص الداعمين للانتفاضة بتشكيل مجموعات مختلفة دُعمت بسرعة لا عسكرياً فحسب بل سياسياً أيضاً من الخارج. وأنشأ هذا موقفاً كالحرب منح ضوءاً أخضر، من منظور النظام، للهجوم بشكل أكثر وحشية على المحتجين وكذلك على جيوش المتمردين. وأدى هذا إلى تغيير السياق من انتفاضة ضد الدكتاتورية إلى حرب بالوكالة حاولتْ فيها مجموعات مختلفة تقوم بدعم الطرفين استخدام سياق الانتفاضة لتحويل المنطقة أو لإعادة رسم خريطتها بشكل يتناسب مع مصالحها، وافترض كلُّ طرف أنه سيكون المنتصر.

إن مأساة الوضع السوري هي أنه لا يوجد منتصرون ولعدة سنوات الآن. هناك ضحايا فقط، والمحزن أن الضحايا هم أغلبية السكان السوريين الذين استنفدهم كل ما يجري. وهم لا يدعمون بالضروروة المنطقة أو القيادة التي يعيشون في كنفها لأنهم على مستوى الأرض مُحْتَجزون في منطقة معينة. وأنتَ سترضخ للمكان الذي أنت فيه في معظم الأحيان إلا إذا كنت قادراً على الهرب، أو أصبحت لاجئاً كغالبية السوريين. وما أريد قوله هنا هو أن إعياء غالبية السوريين جعلهم ينسحبون من الصراع، لكن ليس بطريقة حيادية. وأعتقد أن غالبية السوريين، الغالبية الساحقة منهم، يريدون تغييراً في سوريا، ويريدون زوال هذا النظام. وما صار أكثر تعقيداً (وهذا ما لا يفهمه كثيرون) هو أن الرغبة بالبدائل ضعفت. ولا يعني هذا أن النظام صار أكثر جاذبية، بل أن البدائل، نظراً لما يحدث على الأرض، ولطبيعة قوة التمرد، تغيرت من قوة عسكرية مدنية أرادت بديلاً أكثر تقدمية إلى قوة تمردية تستند إلى صيغ لا تلبي بالضرورة تطلعات الثوريين، وأعني هنا الثوريين الأصليين في سوريا. وفي هذا السياق، حاولت جهات فاعلة مختلفة حكومية وغير حكومية ومحلية وإقليمية ودولية الاستفادة من هذا الخلل كي تصفّي حسابات وتخدم مصالحها الخاصة، سواء كانت هذه الجهات المعسكر المؤيد للمعارضة متمثلاً بدول كالسعودية وقطر وتركيا والولايات المتحدة، أو المعسكر المؤيد للنظام متمثلاً بإيران وروسيا وحزب الله، والصين حين يتعلق الأمر بالعلاقات الدبلوماسية. وهذا أدى في نهاية المطاف إلى تحرر من الوهم لدى معظم السوريين حيال من يدعمون، وأكرر أن هذا ليس بسبب الافتقار لإيمانهم بضرورة رحيل النظام، لكن بسبب افتقارهم لليقين بأن البديل الموجود على الأرض هو الأمثل.

توم هدسون: صارت الانتفاضة المدنية صراعاً دولياً، وجعل هذا التدخل العالمي الناس يتسآلون: أية مصالح ستسود وأية بلدان ستتدخل، صحيح؟

بسام حداد: صحيح، وهذه هي المأساة التي نصادفها بالفعل سنة بعد أخرى واليوم. وهكذا إذا كنت تريد النظر إلى السياق الأكبر، إذا أردت بناء نظرة شاملة ستجد أن الانتفاضة السورية التي بدأت في آذار ٢٠١١ مرت في طورين ينطوي كلٌّ منهما على مراحل مختلفة. كانت المرحلة الأولى، كما قلتُ، هي انتفاضة مدنية تحولت إلى انتفاضة عسكرية ثم إلى حرب بالوكالة. وهكذا فإنها مثلت مراحل داخل الطور الأول انتهت في كانون الأول\ديسمبر حين تمكّن النظام من إعادة السيطرة على مدينة حلب كلها مما أدّى إلى استيلاء النظام على كل المدن الحضرية أو إعادة الاستيلاء عليها، وهنا لا تهم اللغة التي يستخدمها المرء، لأن النظام سيطر عليها في الحقيقة سلفاً. والنقطة هنا هي أن هذا أنهى الحرب في سوريا من وجهة نظري. بتعبير آخر، إن الذين أرادوا إسقاط النظام، سواء كانت نواياهم جيدة أو سيئة، وسواء كانوا يكترثون بالشعب السوري أم لا، أو كانوا يريدون الإطاحة بالنظام لسبب أو آخر، فإن هذا الهدف انتهى، لأن النظام نجح في السيطرة على معظم ما يُدْعى بسوريا المفيدة في كانون الأول\ديسمبر ٢٠١٦. أما الطور الثاني فهو ما بدأ بعد هذه السيرورة، وأعني الانتقال من حرب على سوريا إلى عدد من الحروب الصغيرة داخل سوريا جسّدت على الأقل هدفين: إما تحقيق أهداف بلدان معينة كتركيا في حربها ضد الكرد، أو الاستيلاء على ما تبقى من سوريا من قبل النظام، وهاتان هما الديناميتان الرئيسيتان في سوريا اليوم، بصرف النظر عن ديناميات أخرى تعمل. وما جعل هاتين الديناميتين مهيمنتين خاصة اليوم في ٢٠١٨هو التراجع الدرامي لتنظيم الدولة الإسلامية في العام الماضي، والذي أعتق معظم اللاعبين الذين تعاونوا بالفعل معاً، بالرغم من أنهم كانوا يعارضون بعضهم في كل شيء آخر لكنهم في الحقيقة عملوا معاً وربما يحب ألا أقول إنهم عملوا معاً بل كان لهم هدف مشترك هو إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية.

توم هدسون: كان هذا هو العدو المشترك.

بسام حداد: كان تنظيم الدولة الإسلامية عدواً مشتركاً وكانت له معارضة متشابهة سواء أكانت الولايات المتحدة، النظام السوري، الإيرانيون والروس أو المعارضة، وعلى الأقل  في بعض الحالات، هناك نوع من الفائدة في إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة لكن دون القضاء عليه نهائياً لأن هذا يمكن أن يُسْتخدم كورقة في مواقف مختلفة في المستقبل. وهذا نوع من التخمين لكن هناك ما يكفي من الأسباب للاعتقاد أنه لا توجد نية للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية بشكل كامل في الأجزاء الصغيرة المتبقية في سوريا. وهنا ندخل في الطور الثاني من الانتفاضة السورية،  حيث لم يعد لدينا حرب للاستيلاء على الحكومة المركزية في سوريا، على الأقل لا يوجد شيء من هذا القبيل، وصار لدينا حروب أكثر صغراً وتبعثراً تمثل مصالح بلدان مختلفة تستخدم سوريا لتصفية حسابات أو لمنع تطور صراع أو تهديد كما في حالة تركيا والأكراد.

إن الغزو التركي داخل سوريا، والذي يحدث اليوم في مدينة عفرين السورية، يهدف إلى هزيمة وتفكيك وحدات حماية الشعب، وهي تنظيم كردي متهم بامتلاك صلات مع حزب العمال الكردستاني، الحزب الانفصالي الذي حاربه الأتراك لسنوات. وتتهم تركيا الحزبين بأنهما إرهابيان. وتحاول تركيا القيام بهذا لأنها تريد تأمين حدودها الجنوبية وهي في صراع الآن مع مجموعات وجهات فاعلة أخرى تنظر إلى هذا كانتهاك للسيادة، بما فيه النظام السوري، الذي تشارك ميلشياته، أو الميلشيات المؤيدة له، في القتال. وهكذا لدينا موقف معقد جداً في هذا الخصوص، وتتكشف الأحداث في الحقيقة عن خسائر كبيرة جداً مني بها الأكراد في عفرين، ومني بها الأتراك أيضاً الذين لم يتمكنوا من التقدم بسرعة كما أرادوا. ومن ناحية أخرى يحاول النظام إعادة السيطرة على أجزاء مختلفة من سوريا استولى عليها المتمردون في السنوات السبع الماضية. ونرى المأساة تتكشّف اليوم في شرق دمشق، في منطقة الغوطة، حيث يهاجم النظام والروس منطقة فيها ٣٨٠٠٠٠ نسمة حُوصروا لسنوات بذريعة مهاجمة دمشق بالصواريخ ومزاعم انتشار الجماعات الإرهابية في الداخل. وبالطبع تُسمى كل الجماعات إرهابية لأنها عدو، أو يصبح العدو إرهابياً بصرف النظر عن دقة التسمية. وهذه المحاولة الأولى الآن بعد حلب لاستعادة إحدى المناطق الاستراتيجية الرئيسية. وقُتل في الغوطة حتى الآن من ٦٠٠٧٠٠ مدني، رغم أن النظام يزعم أن معظمهم عسكريون أو مقاتلو ميليشيات، ويبدو أن الخطوة التالية في هذه الحملة ستكون مرتع المعارضة المتمردة الذي تسيطر عليه هيئة تحرير الشام في الشمال، وأعني محافظة إدلب. ويُشاع أن الغوطة هي إما أرض التدريب أو الخطوة الأولى للدخول إلى تلك المنطقة، ولأن هذا هو المعقل الرئيسي الوحيد للمعارضة المجهزة جيداً بالمعنى العسكري. وبالطبع يضع النظام نصب عينيه أجزاء أخرى من البلاد بما فيه الجنوب، والذي هو مستقر كثيراً بسبب عدم وجود سلطة عسكرية واحدة تسيطر على ذلك الإقليم، رغم أنه تحالف محصور أو مقيد باتفاقيات عديدة وقعتها سوريا والأردن وإسرائيل ويحدد هذا أي نوع من التحركات التي يمكن أن تحدث هناك. وبالطبع لدينا مسألة مهمة وهي الصراع السياسي الكامن المحتمل بين النظام السوري والأكراد، وقد تدرجت علاقة الطرفين بين الصداقة والعداوة. كان الطرفان صديقين في نقطة معينة وقاتلا نفس الأعداء رغم أنهما في الحقيقة متعارضان بنيوياً وإيديولوجياً. لكن الطرفين لم يدخلا في حرب كاملة. وأحد الأسباب يتعلق بالاقتصاديات، بما أن الأكراد يسيطرون على أكثر من ٦٠٪ من حقول النفط في سوريا.

توم هدسون: ما قلته يساعدنا في فهم ما يجري في المنطقة هناك والديناميات التاريخية. لكن يبدو لشخص من الخارج أن السياسة الأميركية الخارجية إزاء سوريا كانت في حال تغير دائم، ومشوشة وغير متناسقة. هل هذا تشخيص صحيح؟

بسام حداد: من وجهة نظر أشخاص يعيشون في الولايات المتحدة مثلك ومثلي، يمكن أن يبدو كأن هناك تردداً. وقد يبدو أن هناك نوعاً من التشوش فيما يتعلق بما يمكن أن يُفْعل في سوريا. لكن في الحقيقة، ليس التشوش كبيراً. إن مظهر التشوش واضح وملموس لكن الولايات المتحدة شهدت في ظل إدارة أوباما، وعلى نحو مثير للفضول في ظل إدارة ترمب، تغيراً درامياً في السياسة إزاء سوريا.  وسُمع كلام عن خلاف لكن في الحقيقة إن الولايات المتحدة تعمل على أساس مصالحها القومية عادة، التي هي بالأحرى مستقرة. وكانت النقطة الوحيدة الأكثر أهمية للإدارة الأميركية دوماً هي أن الجائزة في سوريا ليست عالية. بالتالي نحن لسنا أمام صراعٍ عائداتُه وجوائزه واضحةٌ ويمكن الحدّ من تكاليفه. وكان هذا عنصراً محورياً في الموقف الأميركي حيال سوريا. ويتعلق العنصر الآخر بمدى رغبة الجمهور الأميركي والجيش الأميركي والحكومة الأميركية بالدخول في حرب شاملة في سوريا بشكل عام. وهذا يرشح بالطبع بالمشكلات التي حدثت في العراق. وحين نتحدث عن مشكلاتنا لا نعترف بالكارثة التي حلت بالعراقيين، لكن ما مرّت به الولايات المتحدة في العراق خفّف من رغبتنا بالحرب، سواء في سوريا في ٢٠٠٥ حين كان البعض يدعون لضربها أو الرغبة القائمة للحرب مع إيران حيث يوجد وسيكون هنا دوماً دعوات، لكن أنت تعرف الإدارة، حتى هذه الإدارة رغم لغتها المتشددة فإنها تقارب مسألة الحرب بحذر شديد. وهكذا فإن الرغبة بالحرب في المنطقة أو الحرب الشاملة ليست مرتفعة. إن العامل الثالث الذي يسمح لنا بفهم السياسة الخارجية الأميركية بعيداً عن الحركة اللولبية أو البلاغة هو المزج بين الاثنتين لمعرفة السياق في سوريا. إن أحد أسباب عدم نجاح الانتفاضة، هو أن جميع الداعمين للانتفاضة السورية، انتفاضة الديمقراطية، إن لم يكن معظمهم، ليسوا داعمين حقيقيين لانتفاضة من أجل الديمقراطية، وإنما كانوا يراهنون على إسقاط النظام من أجل مآرب تخدم مصالحهم. وأنشأ تزامن الرغبة بالإطاحة بالدكتاتورية مع تطلعات الغالبية الساحقة للسوريين تحالفاً كان هشاً جداً بين الانتفاضة، إن شئت، والقوى الخارجية. وعلى أي حال، ما عرفته الإدارة الأميركية السابقة هو أن هذا القتال، أو الصراع، بالنسبة للنظام وحلفائه، هو صراع وجود، بينما هو بالنسبة لداعمي المعارضة صراع استراتيجي يستطيعون الانسحاب منه في أية لحظة حين يصبح التهديد أو الخطر أعلى من عتبة معينة، وهذا ما حدث في حالة قطر والسعودية اللتين كانتا مؤخراً تتجادلان بين بعضهما حول من أخطأ في التعامل مع سوريا والمتمردين السوريين ومن سلّح أية جماعات ورَدْكل الوضع في سوريا أو الانتفاضة.

توم هدسون: صارت هذه نقطة خلاف بين الطرفين.

بسام حداد: صحيح. وسحب البلدان الدعم الوفير إلى حد كبير لكن ليس بشكل كامل. ولم تعد تركيا ترغب بجعل حدودها مفتوحة وسهلة الاختراق للمقاتلين والمتسللين بعد أن دخل عبرها آلاف المقاتلين كي يخوضوا حرب الخير، وتورطت في مشاكل مع الإسلاميين أو تنظيم الدولة الإسلامية الذين بدأوا بالتفجيرات في تركيا. وبالتالي ضغطت تركيا على المكابح في لغتها ضد النظام السوري وتسهيلاتها لقوى مختلفة تقاتل النظام وللجهات الحكومية واللاحكومية الفاعلة وكذلك للمقاتلين الأفراد الأجانب. وصارت تركيا أكثر انخراطاً في المسألة الكردية. أما الولايات المتحدة فلا مصلحة لها بالمقارنة مع إيران وحزب الله والروس الذين دخلوا بقوتهم الكاملة وفعلوا ما لم تكن الولايات المتحدة بالضرورة راغبة بفعله وأعني وضع كل طاقتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية، بالرغم من أن الروس فعلوا هذا أيضاً كغطاء لمساعدة النظام في استئصال المتمردين المتبقين باسم محاربة الإرهابيين دون التمييز بين المجموعات الإرهابية المعارضة للنظام والمجموعات التي لا تحب تنظيم الدولة الإسلامية.

توم هدسون: سواء كنت من تنظيم الدولة أو متمرداً فأنت عدو للدولة وهكذا لا فرق بينكما

بسام حداد: وحدث نوع من التلاعب من قبل الروس بحيث أنهم صنّفوا هذه الحركات في خانة واحدة مثل جبهة النصرة والتي هي في معظمها سورية وتقاتل النظام، بخلاف تنظيم الدولة الإسلامية والذي هو غير سوري وغير مهتم بالثورة في سوريا، بل أكثر اهتماماً بالتوسع الإقليمي وكسب الأراضي في العراق وسوريا وإنشاء دولة خاصة به تعارض كل ما يريده المتمردون، بما فيه الذين يقاتلون. وبطريقة ما، كان استعداد الولايات المتحدة للقيام بفعل ما كإنشاء منطقة حظر طيران والالتزام بإرسال قوات برية (هناك بعض القوات على الأرض) منخفضاً جداً لدى إدارة أوباما، لتلك الأسباب الثلاثة التي ذكرتها وواصلت انخفاضها في إدارة ترامب باستثناء واحد وهو: هل سيحدث حدث يدفع الأمور للخروج من السيطرة في سوريا؟من المرجح أكثر أن ترد إدارة ترامب بطرق لن ترد بها إدارة أوباما.

توم هدسون: إذا نظرنا إلى البلاد، على الأقل في الصور التي ترافق نشرات الأخبار سنرى أن سوريا مدمرة، فقد دُمرت البنى التحتية والأبنية والخراب واسع الانتشار، على الأقل في بعض المدن والمناطق التي يقاتلون فيها. كيف سيُبْنى هذا؟ ومن سيساعد في دفع فاتورة إعادة الإعمار؟

بسام حداد: ألقيتُ مؤخراً محاضرة في جامعة كاليفورينا بلوس أنجلوس وفي جامعة جورج تاون تناولت هذا الموضوع بالتحديد، وأعني مسألة إعادة الإعمار والمصالحة واحتمال السلام. إن الحقيقة المؤسفة والمخيفة هي أن المشكلة في سوريا، على عكس ما يظنه كثيرون، خاصة في المجموعة الدولية التي تبحث عن نقاط دخول مربحة إلى سوريا، هي أن المشكلة في سوريا ليست مشكلة الدمار. بالطبع الدمار عنصر في المشكلة، لكن الأمور مغلفة بخصومات سياسية عميقة وعقود من القمع وعوامل أخرى متعددة بالتالي فإن الحل ليس مجرد إعادة بناء.

إن الدمار جلي، وفضلاً عن الأربعمائة ألف سوري الذين قُتلوا، لدينا بالطبع مليون شخص أصيبوا بإصابات خطيرة، ولدينا مئات الآلاف من العاجزين، ودُمر على الأقل ثلث البنية التحتية، ودُمرت المدارس المختلفة، والمراكز صحية والمستشفيات، وذلك بسبب القصف الذي قام به النظام والروس إلى حد كبير وفي مناطق المتمردين. وهُجِّر أكثر من نصف السكان السوريين الذين يبلغ عددهم ٢٤ مليوناً. وهُجِّر حوالى النصف أو أقل من النصف بقليل من سوريا إلى بلدان أخرى كلبنان وتركيا والأردن وبلدان مختلفة كمصر وأوربا، وهلمجرا. ثم هُجِّر البقية في الداخل. ولدينا أيضاً كمية معتبرة من الأذى الذي ليس مرئياً، والذي يتحدث كثير من الناس عنه، وهذا تطور خطير جداً في سوريا، وأعني المسائل السيكولوجية، وكما تعرف نحن نتحدث هنا عن مآسينا الخاصة، مآسينا الصغيرة كمثل إطلاق النار في المدارس. ويمكن أن تتخيل الصدمة التي تصيب بعض الأشخاص الذين لم يشهدوا مباشرة ما حدث. لكننا نقلق عليهم ونضع صورهم على شاشة السي إن إن، ونتحدث مع الأشخاص الذين صُدموا لمجرد وجودهم على أرض المدرسة حين حدثت الجريمة. وهكذا تستطيع أن تتخيل بعد سبع سنوات من الموت والدمار مدى الصدمة في سوريا. ثم هناك عواقب تنموية. لم يحصل الناس طيلة سبع سنوات على التعليم الملائم  في بلاد معتادة على وجود تعليم كامل. وهكذا لدينا سبع سنوات معتمة في حياة كثير من الناس، ليس الكل، لأن التعليم تواصل في أمكنة متفرقة. أما بالنسبة للقوة العاملة فقد فقدت سوريا قوة عمل هائلة تمتع بمهارات وتقوم بأعمال جيدة الآن في ألمانيا وأمكنة أخرى بما أنها قادرة على استخدام مهاراتها. وقد جُردت سوريا من جميع أنواع الكرامة والموارد. وحصل أذى عميق.

إن إعادة الإعمار لا يمكن أن تتواصل أو أن تبدأ بشكل ملائم دون صيغة ما لتحقيق لا السلام فحسب، بل وحدة الأراضي. فهناك على الأقل أربعة أقسام رئيسية مستقلة أو شبه مستقلة في سوريا: النظام الذي يملك القسم الأكبر الآن، والأكراد الذين يملكون ثاني أكبر قسم في معظم شمال وشمال شرق سوريا، ثم بالطبع المعارضة التي تمتلك بعض المعاقل في الشمال في إدلب وحول دمشق وبعضها في الجنوب، وتنظيم الدولة الإسلامية الذي يتركز في شرق سوريا في بقع أصغر من الأرض ويحاول الآن إنهاء أعماله وتهريب الأسلحة والأشخاص والنقود. إن إعادة البناء دون وحدة أراضي ستكون إعادة بناء مبعثرة ولن تخدم الإنسان السوري العادي. وقد بدأت إعادة البناء في الحقيقة في سوريا، في المناطق التي يسيطر عليها النظام، حيث باشروا بالفعل في إعادة بناء معتبرة. لكن إعادة البناء هذه لا تهدف كما يرى أفضل المحللين والباحثين الميدانيين إلى خدمة السوريين الذين فقدا حيواتهم ومنازلهم، بل تهدف أكثر إلى تدعيم الدولة وتقدم السكن للناس الذين يستطيعون الدفع مقابله. وإنه لمأساوي أن معظم الناس الذين فقدوا منازلهم وهُجروا داخل وخارج  سوريا لن يكونوا قادرين على العودة إلى تلك المناطق. وإذا كانت هناك خطة لإعادة بناء سوريا، سواء بدعم من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو من الصينيين أو الإيرانيين أو الروس أو الولايات المتحدة أو المؤسسات الدولية المختلفة كمثل الأمم المتحدة أو برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهلمجرا، فإن السؤال هو: مع من سيعقدون هذه الصفقات؟ إذا كانوا سيعقدونها مع النظام فإن إعادة البناء ستحدث إذاً بحسب مصلحة النظام وشركائه المباشرين، وليس لمصلحة معظم السوريين الذين فقدوا حيواتهم ومنازلهم. وإذا كانوا سيعقدونها مع آخرين فإن المرء لا يعرف كم سيبقى هؤلاء في مواقعهم. إن متمردين مثل هيئة تحرير الشام في شمال سوريا، التنظيم الذي لا يحبه معظم السوريين غير قابلين للدعم. أما الأكراد فمستقبلهم متزعزع، وبالطبع تنظيم الدولة الإسلامية ليس منافساً، وهكذا فإن أفضل سيناريو هو: يقدم النظام نتائج غير مرغوبة وتنطلق من هنا.

توم هدسون:سيصدر لك كتاب جديد قريباً، الكتاب الثاني عن هذه المنطقة.

بسام حداد: لا أستطيع القول إنني أنهيتُ الكتاب، كلما حاولتُ أن أنهي جزءاً تطورت الأمور وحدثت أشياء ليست قليلة أيضاً. وحين حاولت في ٢٠١٣ أن أنهيه بزغ تنظيم الدولة الإسلامية. وقد كنتُ مشغولاً بما يكفي ومحظوظاً بما يكفي أنني لم أنهه.  والآن أنا أعمل عليه. كان كتابي الأول حول التواطؤ بين النظام وأقطاب الأعمال الكبار في سوريا، هذا التواطؤ الذي قاد بالفعل إلى تدهور الاقتصاد السوري وإلى الاستقطاب الاجتماعي الدرامي في سوريا والذي شكل خلفية الانتفاضة. يواصل كتابي الثاني القصة التي بدأت في الأعوام العشرة الأولى من حكم بشار الأسد الذي بدأ في عام ٢٠٠٠ ويبين إلى أي مدى فاقمَ حكمهُ السخط الشعبي ونصب خشبة المسرح لانتفاضة تأخرت كثيراً. ويعالج الكتاب ديناميات الانتفاضة السورية من خلال دراسة تعقيدها الشديد، ولماذا هي أكثر تعقيداً من الانتفاضات الأخرى في المنطقة نفسها، في مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين. ويدرس الكتاب الدور الإقليمي المحوري لسوريا وكيف هو في محور صراعات مختلفة متزامنة: محلية وإقليمية ودولية. ثم يعالج تحول الانتفاضة إلى شيء لم يعد يشبه العواطف الأصلية للانتفاضة و محاولات تطويل الانتفاضة بما فيه ما دُعي بالحرب الاقتصاديةالتي استفاد منها جميع المتمردين والمقاتلين والدول. ويفسر الكتاب نوعاً ما وإلى حد ما لماذا هناك اهتمام قليل إقليمياً ودولياً بإنهاء الحرب، لأن هذا الاقتصاد أفاد لاعبين مختلفين غير مهتمين في الحقيقة بالثورة من كل الأطراف. ويعالج الكتاب ديناميات الانتفاضة بمعنى أنه يساعدنا في فهم تشكل وإعادة تشكل وتقوّض تحالفات ومجموعات مختلفة في المعارضة. وبدلاً من فعل ما تفعله الكثير من أبحاث مؤسسات الأبحاث أو التحليل أحياناً أو الأنباء التي تتبع هذه المجموعة أو تلك وكيف بزغت وكيف تحالفت وكيف تقوضت، حاولتُ أن أضع إطاراً لفهم ما يحكم هذه السيرورات، بحيث نستطيع أن نربط سوريا ما قبل ٢٠١١ مع ديناميات الانتفاضة محلياً، لمصلحة لاعبين إقليميين ودوليين عملوا معاً وقدموا البنية التحفيزية لتقوض هذه المجموعات المتحالفة المختلفة بعد تشكلها. ثم أختتم الكتاب بمناقشة إعادة الإعمار التي أعتبرها مهزلة. وفي الوقت نفسه لا تستطيع ألا تعيد الإعمار، أليس كذلك؟ وهكذا أنا لا أنقد إعادة البناء الهادفة إلى إعادة إعمار مستشفيات ومدارس ومنازل. ما أريد قوله هو أن هذا صار فرصة لكسب رأس المال، فرصة لزيادة أرباح فاعلين مختلفين ولإغناء خزائن الدولة بطرق ما ودعم حلفاء وأعداء دوليين مختلفين من خلال تقديم قطعة من الكعكة لهم.

توم هدسون: وأعتقد أن الغش والفساد متفشيان.

بسام حداد: هذا متواصل لسوء الحظ. والمحصلة النهائية هي أنه بعد هذه المأساة التي تواصلت أكثر من سبع سنوات لن تحدث الأمور من أجل خدمة الشعب السوري، بعد كل هذا الخراب. إن إعادة البناء يمكن ألا تخدم غالبية السوريين، بل ستطيل حياة وأمن المنتصرين المفترضين.

توم هدسون: شكراً لك على مساعدتنا في فهم هذه المنطقة المعقدة جداً من العالم.

بسام حداد: شكراً لك لاستضافتي وتقديري لكم ولأسئلتكم.

مقابلة أجرتها شركة WOUB Public Media التابعة لـ NPR، وترجمها إلى العربية أسامة إسبر.

يوميات سورية: تغيراتٌ بنيوية، أم مجرّد تكيّف؟

يوميات سورية: تغيراتٌ بنيوية، أم مجرّد تكيّف؟

خلال الأزمات الكبرى تبدو التغيرات الطارئة على سوق العمل معياراً حقيقياً وذات مغزى وتترافق مع مؤشراتٍ دلالية تُحوّل التغيرات من مجرد حالات طارئة إلى تاريخ للعمل والعمال والإنتاج والسوق والميزان الاقتصادي لتبلغ درجة التأريخ لدورة اقتصادية مؤثرة تبدأ بالسبب أو الفعل وتنتهي برد الفعل وهو جملة المتغيرات الظاهرة والخفية، ومن يرسم ملامح الدورة الاقتصادية ويؤرخ  لآلية عجلة الإنتاج إنما يؤرخ أحوال المجتمع وحيويته الفعلية ،المعطّل منها والفعّال.

في حي المزة العريق والمزدحم بسكانه وبالوافدين الجدد الطارئين على المكان نزوحاً من مناطق أصبحت خارج دائرة الحياة، يُرتب أبو أحمد مستحضرات التجميل والأمشاط والعطور وملاقط الشعر وعدة الحلاقة وإزالة الشعر بعناية بالغة. يحمل بيده اليمنى نفاضة غبارٍ من الريش الأسود ليحافظ على لمعان بضاعته، وعيناه تراقبان السيدات خوفا من السرقة أو من أن تجرّب سيدة قلم حمرة شفاه وتعيده فتعطّل بهذه الحركة بيعه بعد أن تركت شفاهها علامةً بارزة عليه.

بعد خروج المنطقة التي كان يسكنها أبو أحمد من دائرة الحياة والتي فقد على إثرها منزله ودكانه الصغير المحتوي على بضاعة بالملايين، لم يعد له القدرة على استئجار دكان ٍبديل بعد أن أصبح بدل الإيجار الشهري يفوق قدرة الأغلبية على دفعه، حيث تتراوح الأجرة (حسب المساحة والموقع) الشهرية وسطياً بين ١٠٠-٢٠٠ ألف ليرة سورية، مع دفعة لمدة ستة أشهر سلفاً.

باع أبو أحمد حلي زوجته حتى خاتم الزواج  واشترى شاحنة صغيرة من نوع السوزوكي وجعل لها باباً حديدياً وجدراناً مغلقة، يفتحها خلال النهار ويغلقها ليلاً ويبقى هو في الشارع ملاصقاً لرزقه في حرّ الصيف وبرودة الشتاء، يردّد أبو أحمد عبارة “الحمد لله مستورة” لكنه يئنّ من وجع قدميه ومن غلاء أجار بيته ومن صعوبة الحياة القاهرة المستجدة.

***

كان أبو أيمن مالكا لأحد مخازن الخشب الكبيرة في ريف دمشق. خرج من بلدته وخسر المخزن والخشب وغلّة عمره وسنين شقائه، واضطر لأن يعمل كنادلٍ في أحد المقاهي الشعبية وتراه يحدث نفسه كمن فقد عقله. فالخشب يحتاج لمبالغ طائلة لتعويضه ولا يمكن تخزينه في شاحنة سوزوكي صغيرة، وتبديل التجارة صعب لأن المهنة تصير وطناً خاصاً لصيقاً بالروح والجسد.

***

في الحافلة المهترئة أحاول إيقاظ سيدة غافية تبدو على أصابعها بقايا حروق صغيرة بندبات حمراء اللون. تستفيق بصعوبة، أسألها  عن سرّ غفوتها وعن أصابعها. تقول “التعب”، حيث تعمل بالشمع الساخن الحارق لإزالة الشعر الزائد، وتزور البيوت وهي التي لم تعتد قطع كل هذه المسافات لتصل إلى زبوناتها اللواتي كنّ  يتسابقن لحجز مواعيدهن لزيارتها في محلها المشهور بالقرب من دمشق.

***

أما نظيرة فقد وزعت أيام الأسبوع ما بين صاحبات بيوتٍ يرغبن  بتحضير الكبّة أو لف ورق العنب وغيرها من الوجبات المتعبة. لا تملك نظيرة ترف يوم العطلة ولا تحديداً لساعات العمل، أجرها حسب كيلو البرغل أو الرز وعدد الساعات الضائعة في وسائط النقل وشروط الانتقال الصعبة غير مدرج في قوائم الحساب، وقد تعمل في بيتين في ذات اليوم كي لا تخسر زبائنها علّها تستطيع دفع بدل الإيجار وإعاشة وإطعام أحفادها وأمهاتهم بعد غياب الرجال كلٌ في متاهة موته أو تغييبه أو هجرته.

كانت نظيرة تملك ورشة خياطة مميزة ومشهورة وخاصة خياطة فساتين السهرة وشك الفساتين بالخرز والسيلان، لكن ثمة عملٍ لا يعوّض. لا تكفي قوة العمل والرغبة بإنجازه لتحقيقه، فمهنة كهذه تحتاج لماكيناتٍ ضخمة ودقيقة وباهظة الثمن ولتوافر مكانٍ واسع وعاملاتٍ متميزاتٍ وخبيراتٍ تتفاوت أجورهن حسب الخبرة.

يبدو التساؤل الأهم هنا هو الفارق ما بين امتلاك عملٍ خاصٍ بكافة تفاصيله وما بين العمل في البيوت. كافة أشكال العمل في البيوت حتى وإن كان عالي الجودة والمستوى والاختصاص هو عمل خدمي دوني يطيح بالهرم الاجتماعي من أعاليه وحتى أدنى درجة فيه، ويتحول المنخرط فيه من صاحب عملٍ ومالكٍ إلى عامل خدمة يحدد الزبون وقت حاجته له، أجره، والحيز الجغرافي الذي سيشغله، وقد تتشعب طلبات الخدمة المطلوبة لتصل إلى حدّ الإرهاق أو الإذلال.

***

سياراتٌ معطلةٌ على الأرصفة، في أزقة فرعية، أو في ساحاتٍ باتت مواقف للسيارات المعطلة وورشاتٍ متنقلةٍ للصيانة بعدما تبخرت محال التصليح ومعداتها كالبخار إثر تضررها بفعل القذائف أو احترقها أو تهدمها، أو بعدما صارت بعيدة مع أنها مرأية، بعيدة وهي ملاصقة للروح والجسد وغير بعيدة بالجغرافيا لكنها موصدة الأبواب وعصية على الوصول إليها.

في الحرب تنكسر النفوس وتضيق رحابة المساحات الممنوحة للكرامة كي تختار بين ذل الفقر وجدلية البقاء، يقول أبو سامر: “أنا مستعد أن أعمل في تعزيل المجارير لتأمين ربطة الخبز لأبنائي. أمسى أبو سامر رقماً إضافياً في قائمة الواقفين في طوابير عمال الفاعل المياومين، الذين تآخوا مع حجارة الرصيف الذي يجلسون عليه بانتظار الفرج. تهرب منهم الأحلام وتجفّ الابتسامات والقلق هو سيد الزمان والمكان، تتبدل قيمهم وأخلاقهم، يتخاطفون أي زبون عمل، يقبلون بأي نوع من الأعمال، يكسرون سعر الخدمة المتفق على تسعيرها، يتشاجرون ويتشاتمون، يسخرون من بعض والكدمات والجروح الظاهرة على الجسد تقهرهم أكثر. يجلسون بعيداً عن بعضهم بعد أن يفقدوا جميعا فرصة العمل المؤقت لأنّ الزبون يريد منحهم الأقل دوماً. تخيّل أن تتشاجر مع أخيك من أجل ليرات ولقيمات ثم يدير الزبون لك ظهره ليأكلك الندم والحزن وشبح الجوع وخسارة الأخ والصديق والشريك.

في المقلب الآخر دكاكين ضخمة تفتح أبوابها، فروع تصل للرقم تسعة أو عشرة لمحلٍ مختص ببيع الفروج مثلاً، وهيصة وعراضة وورود ووموالد وأغاني ودبكة. مكتبة لبيع القرطاسية تحوّلت لمركز فخم لبيع التنباك والمعسل، الأراجيل تستهلك الأرصفة وباتت خدمة أركيلتك واصلة عالباب تصنف كخدمة جليلة وعظيمة يُدفع لقائها بسخاءٍ مريب. سيارات فخمة تنقل ركاباً غرباء أو مقربين تنكروا بزي رجال الأعمال وأصحاب البيزنس وباتوا أشخاصاً مفتاحيين يحلون العقد ويعرفون آلية الوصول لكل المفاصل الصلدة والمغلقة بشيفرات الوساطة والرشوة.

نساءٌ يبعن أجسادهنّ بخفة القبلة الأولى، أو يقمن بشطف الأدراج في الأبنية العالية، يأخذن كل شيء قابل للتدوير، زوج جوارب، خبز يابس، خضار زائدة وذابلة، طبخة على وشك التلف مغمورة بالحموضة والجفاف، وشبابٌ يبيعون الممنوعات أو يهددوا الصيادلة بالمديات للحصول على حبوب وعقاقير مهدئة إدمانية التأثير.

أطفال تركوا مقاعد الدراسة لتوصيل طلبات البقاليات إلى البيوت، أو للعمل عتالين على عربات معدنية برائحة  كريهة نفاذة، محنيي الظهور، بعيون ميتة وبطون جائعة. وباعة المسروقات يتاجرون بكل شيئ، بأطباقٍ مازالت حبة الأرز الأخيرة يابسة في منتصفها، عربة طفل صار في حكم الغياب، فنجان قهوة بكامل بهاء بقايا الرشفة الأخيرة لامرأةٍ كانت تتبادل الحياة والقهوة مع زوجها على شرفة بيتهما الموغل في الغياب والفقدان.

مولات ضخمة ومطاعم بديكورات حديثة وملاهي عامرة بالشابات الفتيات المهدورات في قاعاتٍ مسمومة وأثرياء جدد بلا عمل وبلا شهادة علمية أو خبرة وبلا اسم، لهم لقب واحد واسم واحد حيتان الزمن الصعب، الزمن الضائع، “تجار الحرب” وأصحاب الخطوات الواثقة الجديدة.

في الحرب تتوه التعاريف وتهرم اللغة والتوصيفات، ثمة موتٌ معلن لا من راد له، من يتكيف قد ينجو للحظات ومن يسعفه الحظ ليستبدل تعباً بآخر ووجعاً بآخر قد يشبع لمدة أطول. في الحرب يتغير كل شيء وصاحب العمل يصير عاملاً أو بلا عمل، العاطل عن العمل قد يصير رجل أعمالٍ فاقع الثراء.

في الحرب أي عملٍ مهما كان شائناً هو عملٌ ويكتسب قيمته العليا من كمية المورد المادي وليس من نوع العمل ولا من جهد العامل وتميزه.

قالوا الحرب مضيعة الأصايل، وأقول الحرب مرآة  لانقلاباتٍ عميقة لا تبقي ولا تذر، تعمم فرضية أن البقاء للأقوى وفي صراع الأقوياء نتلاشى  حتى حدود العدم.

تنقلب البنى وتتصارع، والتكيّف مجرّد وهم ٍأو حيلةٍ للبقاء، وأي بقاء؟

هنا دمشق. ونحن مازلنا هنا.

الجامعة السورية

الجامعة السورية

 قد يظن بعضهم أن الأفكار الجديدة تولد في عقل المفكر بصورة مفاجئة وعلى نحو تلقائي. وليس من شأن ظن كهذا إلا حرمان القارئ المشاركة في المتعة الناجمة عن ملاحظة حركة الذهن -وهو يبني المفهوم أو الفكرة- ابتداءً من لحظة الاهتمام الأولى وحتى لحظة الولادة، معبرًا فيها عن المفهوم أو الفكرة في إطار لغوي قابل للفهم والنقد.

ولم يكن لمفهوم (الجامعة السورية) إلا أن يكون ثمرة لمسار طويل من انخراط الذهن في تأمل عميق ومؤلم لمجريات الثورة السورية، إخفاقًا ونجاحًا. وبما أنه من المتعذر على الخبرة الحية أن تصبح قابلة للفهم والتمثل إلا بالتعبير عنها من خلال (إطار منطقي)، فإن مفهوم (الجامعة السورية) قد مر في أربع مراحل مترابطة ومتكاملة، قد ضمها حدس واحد أو رؤية أيديولوجية شاملة. ومن شأن العرض الآتي أن يكشفها خطوة خطوة.

أولًا: الخصائص النوعية للثورة السورية

الثورة السورية، التي اندلعت في الخامس عشر من آذار/ مارس عام  2011، ثورة أصيلة توافرت لها جملة الشروط التي جعلتها تتخذ صورة انتفاضة شعبية على النظام السياسي السوري المستبد والفاقد لصور الشرعية كلها؛ السياسية والاجتماعية والأخلاقية. وما كان لها أن تكون كذلك إلا تكيفًا مع نجاح هذا النظام في تحويل ملايين السوريين إلى جزر منفردة، يعْسر على الجميع التواصل مع الجميع بسبب السطوة الوحشية لأجهزة الأمن، فتحول كل فرد سوري نتيجة ذلك إلى حبيس ذاته. يضاف إلى ذلك تلك الحروب الضارية التي شنها النظام السوري على الأذكياء والمبدعين والموهوبين، إلى أن وضعوا إبداعاتهم ومواهبهم في خدمة استبداد النظام وقمعه الطائفي والعشائري. وهكذا تعذر على السوريين إنتاج فعل سياسي يتجاوز مفهوم الانتفاضة الشعبية.

ومع ذلك، للثورة السورية بعد حضاري إنساني يتمثل في التطلع إلى تحقيق الانعتاق الذاتي للذوات البشرية، وإطلاق طاقاتها الحرة في ميادين شتى من الحياة، تلك الطاقات التي عطلها النظام حتى كاد البشر يتحولون إلى بقايا إنسانية قد ضخ فيها الاستبداد مضمونًا مناقضًا لكل ما هو إنساني، ومجافيًا لكل ما تقضيه الكرامة الإنسانية من حرية وعقلانية وقدرة على اختيار المعنى والماهية اللذين من حق كل فرد أن يعين انطلاقًا منهما ذاته بصورة حرة، ومن دون أي قيد أو أي صورة من صور الإجبار والإكراه والتعسف.

وأما التشوهات التي لحقت بالثورة -وهي الصور المختلفة للأسلمة وما اقترن بها من صور الاستتباع السياسي والعسكري للأطراف الإقليمية والدولية- فترجع في حقيقتها إلى الجهد المنظم للقيادة العشائرية والطائفية في دمشق، وإلى السلطة الشيعية التي نصبها الإيرانيون في بغداد، وإلى الجهد الجبار الذي بذلته طهران في باكستان وأفغانستان وغيرهما من البلدان الإسلامية، وتمخض في جملته عن إغراق الوطن السوري بميليشيات شيعية متخلفة، الأمر الذي واجهته أطراف أُخَر بتكوين ميليشيات سنية لا تقل تخلفًا عن نظيرتها الشيعية. ويعلم الجميع كيف أطلق النظام السوري ألوف المعتقلين من إرهابيي القاعدة بعفو رئاسي رسمي، بينما أقدم العراقيون على فعل الشيء نفسه متذرعين بهرب المسجونين الإسلاميين. ذلك كله يعني أن (الأسلمة) مهما كانت صورتها لا تزيد على كونها قشرة أريد لها أن تكون بديلًا  من المضمون الإنساني والحضاري للثورة السورية.

وعلى الرغم من المحاولات كلها لتلطيخ سمعة الثورة السورية ودمغها بوصمة الإرهاب من جانب النظام وحلفائه، فإن الإنجاز الأهم في الثورة السورية يبقى متمثلًا  في كشفها أن (الفكرة الجامعة) التي فرضها النظام على الشعب السوري بالحديد والنار -ما يقرب نصف قرن- قد أصبحت فكرة ميتة، ويتعذر على أي عاقل أن يدعو إلى أن تحكم سورية والسوريين بها من جديد. وفي هذا الإطار، لا تشير المناقشات المتعثرة حول (الانتقال السياسي) في مراحل التفاوض كلها في جنيف، إلا إلى شيء واحد هو موت الأفكار التي حكم النظام بها سورية من جهة، وإلى تجاوز وعي السوريين جميعًا هذه الأفكار من جهة أخرى.

إن تركيز المناقشات في مفهوم (الانتقال السياسي) و(الدستور الجديد) يشير إلى أن المجتمع الدولي مجمع على أن النظام السياسي وطريقته في الحكم قد أصبحت مناقضة ومتناقضة مع الوقائع الجديدة التي خلقتها الثورة السورية. وليس ثمة ما يعوق اليوم تحقيق (الانتقال السياسي وصوغ الدستور الجديد) إلا المزاد العلني الذي جعل النظام بموجبه (سورية) رهينة لمصالح القوى الإقليمية والدولية، برجاء إبقائه في السلطة نظير ما يتنازل عنه من سيادة وطنية.

إن رعاية (المجتمع الدولي) على الرغم من الصعوبات التي تواجهها كلها، فكرة (الانتقال السياسي)، تعني أن الجميع يعترفون بالحاجة الملحة إلى استحداث (فكرة جامعة) جديدة تسمح للسوريين أن يحكموا أنفسهم وفقًا لمثل مستمدة من المبادئ الديمقراطية والحرية السياسية والعدالة الاجتماعية المتوافقة مع القانون الدولي، والمراعية لمواثيق (حقوق الإنسان). وهذه الرعاية تشير أيضًا إلى أن الجهاز النظري والمقولات الرئيسة التي يتكون منها أسلوب الحكم السابق متناقضة مع القيم الحضارية والإنسانية التي حركت السوريين في دعوتهم إلى إسقاط النظام.

والخلاصة، إن التطلع إلى فكرة جامعة جديدة يبرهن ببساطة على أن الشعب السوري يأبى إلا أن يتخطى أفكار البعث التي أسس عليها استبداد النظام السوري. وبعبارة أخرى، من حق السوريين، بل من واجبهم، أن ينصب فكرهم على إبداع (فكرة جامعة جديدة) أو بالأحرى (أيديولوجيا)، أو نظام سياسي جديد أكثر انسجامًا وتوافقًا مع الحقائق والوقائع التي خلقتها الثورة السورية عبر سنواتها الست السابقات. وفي ضوء ذلك أصبحت مهمة الإنتلجنسيا السورية -فلاسفة ومفكرين وساسة ورجال قانون واقتصاد وعلماء اجتماع ودين وغيرهم- أن يعملوا متضافرين على صوغ (منظومة أيديولوجية) يكون من شأنها عقلنة الحياة ضمن أنماطها الجديدة. وما هذه (المنظومة) إلا ما نطلق عليه في هذا السياق مصطلح الفكرة الجامعة. وليس بوسعنا الشروع في التحدث عنها إلا بعد أن نعرض الطريق، أو بالأحرى المنهج الذي لا بد من اتباعه في تكوين هذه (المنظومة الأيديولوجية) أو ما نفضل أن ندعوه بـ (فكرة جامعة).

ثانيًا: الأيديولوجيا ومعيار المطابقة

قُضِيَ على الإنسان -بحكم طبيعته ذاتها- ألا يكون قادرًا على الوصول إلى العالم الذي يعيش فيه -بل إلى المعطيات كلها التي لا انفكاك له عنها- إلا عبر أفكاره، أو بالأحرى عبر (الكليات الذهنية) أو الفكرية التي لا يستطيع من دونها تنظيم عالمه والسيطرة عليه وتفسيره أو تغييره إلا من خلال هذه الكليات. ومن الواضح هنا أن مصطلح (العالم) يحيل على صور التجربة الممكنة جميعها، سواء أكانت خبرات فردية أم اجتماعية أم تاريخية أم نفسية أم غير ذلك مما لا حصر له من الصور المحتملة للخبرة الإنسانية.  إذ لا يمكن لهذه الخبرات -من حيث هي جزئيات- أن تكون منطوية على أي دلالة أو معنى مالم تصبح على علاقة تفاعلية مع الكليات المشار إليها سابقًا.

وما لا ينبغي التورط فيه الوهم الذي يمضي إلى القول عن هذه الكليات: إنها تدل على موجودات عقلية مفارقة، وجودها سابق على التجربة، أو هو سابق على انخراط العقل الإنساني في معاينة العالم بثرائه وغناه. ولو كان الأمر بخلاف ذلك لم يكن من الممكن للذهن أن يُركِّب معطيات الخبرة الإنسانية من خلال التفاعل بينها وبين تلك الكليات، أو لنقل المقولات المنظمة للتجربة الإنسانية والخبرة البشرية في ميادينها المحتملة شتى.

والطبيعة الحقيقية لهذه (الكليات) أو (العموميات الذهنية) التي تنظم الخبرة وتخلع عليها كل ما فيها من دلالات، لا تزيد على كونها مجموعة من الاستعدادات أو القابليات التي لا تستطيع أن تمارس وظائفها إلا إذا احتكت بالمعطيات التي تقوم بتنظيمها وإعادة تركيبها، وتواصلت وتفاعلت معها على نحو يمنح الخبرة الإنسانية ما فيها من دلالة من ناحية، ويجعلها، من ناحية أخرى، جزءًا من المحرز الإنساني في المجال التطبيقي والتجريبي.

غير أن (الكليات الذهنية) لا تستطيع ممارسة تأثيرها القيمي والتفسيري إلا بعد أن تصاغ في أطر قيمية وأبنية عقلية يمكنها أن تستخدم في الحوار بين البشر وفي الدفاع عن المصالح المتباينة للشرائح الاجتماعية داخل هذا المجتمع أو ذاك. إذ لما لم تكن حياة الناس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتعقلن إلا من خلال الأفكار والكليات، وجد الناس أنفسهم مضطرين إلى التعبير عن مصالحهم -المتناقضة أو المتماثلة- من خلال أطر ذهنية تفسر هذه المصالح، وتسوغها، وتخلع عليها نوعًا من العقلانية والشرعية في أطر فكرية مناقضة في تبنيها لمصالح شرائح اجتماعية أخرى منافسة ومعارضة للشرائح الأولى.

هذه الأطر الذهنية التي تسوغ الصيغ المتباينة للمصالح المتناقضة، وتفسرها، وتدافع عنها، هو ما درج الفلاسفة على تسميته (بالأيديولوجيا). وهذا يعني أن المصلحة أو جملة المصالح لاتقدم فجة وصريحة. ذلك لأن للأيديولوجيا وظيفة أخرى تتمثل في قدرتها على تقنيع المصالح، وتسويغها وعرضها على أنها تمثل المصلحة العليا لأفراد المجتمع جميعهم. والحقيقة مختلفة عن ذلك الاختلاف كله. فكل أيديولوجيا تدافع عن مصالح شريحة اجتماعية محددة في إطار مقنَّع يدعي أنه يمثل القيم الإنسانية التي يجدر بالبشر كلهم تبنيها.

وهذا يعني أن (الأيديولوجيا) -على نحو ما- هي صورة من صور (الوعي الزائف)، وذلك راجع إلى ماتنطوي عليه من مقدرة على (التقنيع) ومن ميل إلى الانحياز. ولكن هذا لا يعني أن الأيديولوجيا لا بد أن تكون زائفة جملة وتفصيلًا. بل يعني أن كل أيديولوجيا إنما تنطوي على قدر من الانحياز بسبب إعلائها لمصلحة فئة اجتماعية على مصالح الفئات الأخريات كلها.

وهنا لا بد من التمييز في صميم كل أيديولوجيا، بين ما يمكن تسميته (بالوعي المطابق) وبين ما يمكن تسميته أيضًا (بالوعي الزائف). ومن ثَمَّ يمكن الإشارة إلى بعض المعايير التي قد يكون من شأنها إرشادنا إلى التمييز بين تجليات الوعي الزائف والوعي المطابق. فكلما كانت الإيديولوجيا أقرب إلى (روح العصر) كلما كان من المحتمل أن تكون متسمة أو محققة لقدر أكبر من المطابقة أو التطابق مع الوقائع المعاشة التي تلقى القبول بصفة عامة في هذا العصر أو ذاك. وكلما كانت الأيديولوجيا تدافع عن مصلحة عدد أكبر من البشر أو شرائح اجتماعية واسعة كان وصفها بالمطابقة محتملًا بدرجة أكبر، شرط ألا تكون الأكثرية تفكر على نحو مناقض (لروح العصر) وهو المعيار الأول. وحسبنا أن تتصف الأيديولوجيا أو (الفكرة الجامعة) بالمقدرة على الوفاء بمتطلبات هذين الشرطين أو المعيارين حتى تكون أقرب إلى تحقيق شروط الوعي (المطابق).

وترجع أهمية مفهوم (الوعي المطابق) إلى كونه يمثل نوعًا من الضمان أو الثقة النسبية بالأيديولوجية المطروحة أو لنقل (بالفكرة الجامعة) التي قد تكون مطروحة على بساط البحث في حقبة من حقب الصراع التي يمر بها مجتمع ما كما هو الحال اليوم بالنسبة إلى المجتمع السوري.

وبما أن الأيديولوجيا تتعلق بالصراعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهذا يعني أنها لا تنفك -بحال من الأحوال- عن مفهوم (المصلحة)، ولذا فإنها الوسيلة التي لا بد منها في الدفاع عن مصلحة الفئات الاجتماعية. ويتخذ هذا الدفاع صورة تسويغ أخلاقي وسياسي لمنظومة المصالح التي تتبناها وتدافع عنها الفئات الاجتماعية المختلفة.

وهكذا تتحول الأيديولوجيا –ببساطة- من الوصف والتفسير إلى التقويم الأخلاقي والسياسي الذي ينتهي بالأيديولوجيا إلى أن تصبح إطارًا قيميًا معقدًا يخلع على المصالح المتباينة قيمة أخلاقية تسمح بقبولها والارتقاء بها إلى مستوى (الحق) من الناحية القانونية. ولم يكن ذلك ممكنًا إلا بفضل فكرة (الوعي المطابق) الذي يعني أنه ليس من الضروري أن تكون الأيديولوجيا -على الأقل في نظر المدافعين عنها- إلا على قدر محدود من الزيف. ومع ذلك فإن الأيديولوجيا، بسبب اقترانها بالمصالح، لا بد أن تكون منطوية على قدر من الزيف قائم في صميم كل أيديولوجيا. ولكن لا بد من الانتباه إلى الحقيقة التي نبهنا إليها سابقًا، وهي أنه كلما كانت الأيديولوجيا أقرب إلى الوعي المطابق -ولا يكون ذلك إلا باحترامها للمعايير التي تحدثنا عنها سابقًا- شكل هذا العنصر قدرًا من التحصين للأيديولوجيا من الانزلاق إلى (الوعي الزائف).

هذا الحديث عن الأيديولوجيا، وكيفية تكوينها، ومراحل تركيبها، وعناصر هذا التركيب الذي أفضى بنا إلى التحدث عن بعض المعايير التي تمكننا من الحكم على درجة الصدق أو الزيف في الأيديولوجية، من خلال مفهومي (الوعي المطابق والوعي الزائف)، هو ما سنقوم بتطبيقه على تصورنا عن (الجامعة السورية) في محاولة نقدية تستهدف الدفاع عن هذه الفكرة باستخدام المفهومات ذاتها التي نتمكن بوساطتها من التعرف إلى درجة الزيف أو الصدق المتضمنة في فكرتنا. وفي هذا السياق سيكون سؤالنا المطروح هو : إلى أي حد تمثل (الجامعة السورية) وعيًا مطابقًا بالعصر وبالأوضاع التي يحياها السوريون في سورية وفي بلدان اللجوء والمنافي البعيدة في أوروبا والأميركتين، أو هل كان تصورنا عن هذه الفكرة الجامعة أقرب إلى الوعي الزائف بالوقائع التي دفعت بنا إلى إنتاج مثل هذا التصور؟

غير أننا لم نصل بعد إلى هذه المرحلة من البحث. إذ يجب علينا قبل ذلك أن ندلي ببعض الإشارات السريعة حول فكرتين جامعتين وجهتا الحياة في منطقتنا منذ عصر النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن.

ثالثًا: نقد الأيديولوجيات السائدة

لو ألقينا نظرة على الأيديولوجيات التي طرحت في عصر النهضة العربية الحديثة وما بعدها الذي يؤرخ لانطلاقه في منتصف القرن التاسع عشر، لوجدنا أنفسنا في مواجهة أيديولوجيتين تمحور حولهما النشاط السياسي والثقافي. وهما: (فكرة الجامعة الإسلامية) التي تنطوي ضمنًا على مشروع خلافة إسلامية والثانية (فكرة القومية العربية) أو (الجامعة العربية) التي  جرى تبنيها -لاحقًا- من بلدان المشرق العربي: مصر وسورية والعراق.

وفي ما يتصل بمفهوم (الجامعة الإسلامية) لا يخفى على أحد أن هذا المفهوم يعود بجذوره إلى الإمبراطورية التي أسسها العرب بعد انتصار الإسلام في الجزيرة العربية، وتأسيس الدولة الأموية التي امتد نفوذها من إسبانيا غربًا إلى حدود الصين شرقًا. ومن الواضح أننا هنا في مواجهة مشروع إمبراطوري يستهدف -بصورة أو بأخرى- إعادة إنتاج التاريخ القديم أو الذاكرة العربية في واقع جديد هو الحاضر العربي. وقد ارتبط هذا الحلم بفكرة مقارعة الاستعمار وتحرير بلدان العالم الإسلامي من سلطان الغزاة الأوروبيين.

وعلى الرغم من الحماس الذي أبداه جمال الدين الأفغاني لهذه الفكرة ومن بعده (عبد الرحمن الكواكبي) في كتابه (أم القرى) وغيرهما، فإن الشخص الوحيد الذي حاول تجيير هذه الفكرة لمصلحته هو السلطان (عبد الحميد الثاني). لقد حاول هذا السلطان (عثمنة) الفكرة لعله يقضي على الإصلاحات العصرية التي سبق (لمدحت باشا) أن أدخلها في أساليب الحكم في السلطنة في منتصف القرن التاسع عشر. ولكن الفكرة لم تنتج شيئًا يذكر، لأنه كان قد سبق للسلطنة أن أصبحت رجلًا  مريضًا تتربص به القوى الأوروبية الصاعدة آنذاك وتتحين الفرصة لتقاسم ممتلكاته.

ولم يكن حظ الملك (فؤاد الأول) في عام 1920 في مصر بأفضل من حظ سابقه، فسرعان ما أخفق في إعلان نفسه خليفة على مصر والعالم الإسلامي، ولهذا الأمر حيثياته وتفصيلاته.

وما كان لهذه الفكرة أن تثمر شيئًا لأنها قد كانت بمنزلة صورة فارغة من كل مضمون. ذلك أن العنصر الأساس المكون لها هو الأفكار والذكريات والعواطف مع غياب لكل عنصر واقعي يمكن له أن يندمج بالصور الذهنية والنفسية. فبلدان العالم الإسلامي معظمها في ذلك الحين كانت مستعمرة وغارقة في جهلها. ثم إن الأمية كانت سائدة ومنتشرة، وهي الأسر الأكبر للعقل الذي قيد الرجال والنساء في ذلك العصر. ذلك كله وغيره حرم هذه الفكرة حتى الاقتراب من مفهوم (الوعي المطابق).  

ولو نظرنا اليوم إلى (فكرة الجامعة الإسلامية)، لوجدناها أشد افتقارًا إلى عناصر الوعي المطابق. وحسبنا أن ننظر إلى الرموز المحتملة لهذه الفكرة حتى نتبين أن (الوهابية) لا تزيد على كونها إسلامًا صحراويًا بدويًا معرقلًا  لكل تقدم. أما الإخوان المسلمون، فإنهم يرفضون الديمقراطية من دون تردد، ولا يؤمنون بمبدأ المواطنة بوصفه أساسًا للمساواة في الدولة الحديثة.

والمرء في حل من الحديث عن (القاعدة) و(تنظيم الدولة الإسلامية) في ما أرى. إذ يكفي أن نتذكر أن أهم شرط (للوعي المطابق) أن تكون الأيديولوجيا متوافقة مع روح العصر. ولا أظن أن أيًا من الاتجاهات المذكورة سابقًا تربطه رابطة جدية بما تعيشه الإنسانية اليوم من تقدم في ظل شرعة حقوق الإنسان والحياة الديمقراطية.

وما قلناه عن الصور المتخلفة للوعي السني ينطبق على (الوعي الشيعي) المتعين في إسلام (ولاية الفقيه) الذي لا يقل تخلفًا عن نظيراته السنية. وهو مفروض عنوة على الشعب الإيراني صاحب الحضارة العريقة.

ومع ذلك يمكن القول: تنفرد ولاية الفقيه الراهنة بميولها الإمبراطورية العدوانية العنيفة المتمثلة في العمل على تشييع العالم الإسلامي تمهيدًا لإخضاعه لسلطتها وسيادتها. وما تخريب سورية والعراق وتدمير مواطن أهل السنة وممتلكاتهم فيهما إلا الخطوة الأولى الممهدة لفرض التشيّع حتى على الطوائف الإسلامية من غير أهل  السنة.

وفي أي حال، فإن فكرة (الجامعة الإسلامية) -سواء أكانت سنية أم شيعية- هي فكرة إمبراطورية لأن الغزو أحد مكوناتها الرئيسة. إنها لا تستهدف المحافظة على العالم الإسلامي والمسلمين الذين يعيشون في كنفها -على سبيل الافتراض- بل هي تتطلع إلى غزو العالم بجملته وأسلمته أيضًا، لا فرق في ذلك بين أن تكون هذه الجامعة سنية أو شيعية. ولو افترضنا أنهما سيطرتا على العالم مناصفة، فلن يكون إلا الجهاد المتبادل بينهما إلى أن تفني إحداهما الأخرى.

وليس هذا بالأمر المستغرب، فهو من طبيعة كل جامعة دينية. ولقد سبق لمثل هذا الصراع أن خبرته المسيحية في العصور الوسطى عندما انقسمت الكنيسة على نفسها إلى كنيسة شرقية وأخرى غربية. وقد خبرت المسيحية هذا الصراع مرة أخرى بين الكنيستين في مرحلة الحروب الصليبية. ذلكم هو الشأن بالنسبة إلى كل فكرة جامعة تتخذ من الدين -أي دين- أساسًا لها.

أما الأيديولوجية الثانية، فهي فكرة (القومية العربية)، أو ما ندعوه بـ (الجامعة العربية)، فقد بدأت في الظهور في منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، وقد تبلورت تمامًا في مطلع القرن العشرين. ومن المعروف أن هذه الفكرة قد عبرت في بادئ أمرها عن رفض التتريك والعثمنة. وقد ترافق مع ذلك بزوغ (وعي قومي عربي بالذات) كشف إحساس العرب بالتمايز عن الأتراك المقترن بضرب من الاعتزاز بالماضي الإمبراطوري للعرب استنبطوا منه -خطًا- إمكان بعث أمجاد هذا الماضي بما فيه من سطوة وهيمنة.

ومن هنا نشأت فكرة (البعث) بكل تأكيد. فكما أن الموتى لا يبعثون من قبورهم، فكذلك هو الأمر لبعث الأمم وما أبدعته من حضارات وثقافات.

فإبان عصر النهضة في أوروبا لم يخطر لأي مثقف أوروبي أن يكون بعث بعض التقاليد اليونانية والرومانية في الفن والأدب وبعض صور الحياة أن يعني عودة (أثينا) أو (روما) إلى الحياة من جديد. كل ما حدث هو أن ما جرت استعادته أو بعثه سرعان ما جرى تجاوزه في فن جديد، وفي أدب مستحدث، وفي علم غير مسبوق أسس لظهور (عقلانية جديدة) سمحت بإنتاج رؤية جديدة للكون والطبيعة والإنسان مستقلة الاستقلال كله عن الرؤية اللاهوتية للعصور الوسطى.

وبعكس ما حدث في عصر النهضة الأوروبي ظل العصب الحي في أيديولوجيا القومية العربية متمركزًا في فكرة البعث والإحياء: بعث الماضي، وإحياء ما اقترن به من أمجاد. وهذا ما يفسر اهتمام فلاسفة القومية العربية بفكرة المقومات، وهي جملة العناصر المستمدة من الماضي من مثل اللغة والتاريخ المشترك. بل إن أحد هؤلاء الفلاسفة قد مضى إلى تصور الأمة العربية بوصفها (كيانًا رحمانيًا روحيًا) تخبو جذوته، ولكنها لا تنطفئ أبدًا. وذلك لأنها قابلة للاشتعال والانبعاث في أي وقت تتوافر فيه العناصر الروحية الدافعة لإيقاد هذه الجذوة من جديد.

وما يدعو إلى العجب أن تغيب فكرة (المصلحة) -الفردية والجماعية- في أيديولوجيا سياسية تريد أن تغير الواقع ببعث أفضل ما استطاع العرب إنجازه في يوم من الأيام. وافتقرت هذه الأيديولوجية إلى مفهوم حداثي عن الإنسان لحساب رؤية تقليدية عنه. زد على ذلك غياب أي تصور عن التنمية البشرية، وحل محلها محض تصور مادي عن الاقتصاد. والأعجب من ذلك كله أن تكون الوصفة الوحيدة التي يمكن للعرب استخدامها في حل مشكلاتهم، وعلى رأسها تحرير فلسطين هي فكرة الوحدة. وبذلك أصبح كل شيء معلقًا على توحيد العالم العربي، ما أدى إلى غياب مفهوم (الدولة) وبروز مفهوم (القطر) عوضًا عن ذلك. وهكذا تحولت الكيانات العربية إلى أقطار تنتظر التوحيد بدلًا  من أن يتحول كل منها إلى دولة. وبذلك شعر الجميع براحة الضمير تجاه التمزق والهزائم التي تسبب بها جنرالات الأقطار العربية الذين وضعوا أيديهم على أهم ثلاثة مراكز أو أقطار عربية. وباسم الوحدة العربية دمروا الشروط الضرورية كلها لقيام الديمقراطية، ومجتمع العدالة، وحقوق الإنسان. ومن ثم كانت الكوارث التي دفعوا بنا إليها حروبًا أهلية وصراعات طائفية وعشائرية في الداخل، وهزائم لا حصر لها في الخارج.

والسؤال الذي لا بد من طرحه هو: هل ثمة سبيل اليوم إلى وصف (الفكرة العربية) بالقدرة على توفير الشروط التي تسمح لنا أن نصفها بأنها (وعي مطابق)؟ وهل تستطيع هذه الفكرة الإجابة عن الأسئلة المطروحة على الشعوب التي تحيا في هذه المنطقة من العالم على سبل الخروج مما تعانيه من تمزقات وطنية، وحروب أهلية، ودكتاتوريات عسكرية، وإخفاقات تنموية واقتصادية، ومن تعددية إثنية ودينية، ومن تنوع طائفي حتى داخل الدين الواحد؟ هل يمكن لنا بالاعتماد عليها أن نرسي قواعد جديدة للحياة تضمن وحدة البلد الواحد، وترسي الأمن فيه، وتعيد اللحمة بين مكوناته البشرية والثقافية والدينية، وأن تنسج علاقات مع القوى الإقليمية والدولية تتسم بشيء من الاستقرار يغني المكونات المتعددة عن التحالفات مع هذه القوة الإقليمية أو الدولية؟ هل تستطيع هذه الفكرة أن تقدم مشروعًا لا يتجاهل المكونات غير العربية والديانات غير الإسلامية والطوائف غير السنية في سورية على سبيل المثال؟.

يبدو أن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لا بد أن تكون بالنفي، وهذا ما يفتح الباب للقول: إنها لم تعد تقدم (وعيًا مطابقًا) للوقائع. فهي تفترض أن الماضي يتكرر، وهذا تصور زائف. ثم إنها -في الحقيقة- صورة من صور (الجامعة الإسلامية) ما دامت الفكرة العربية لا تتطلع إلى شيء، في نهاية المطاف، إلا إلى تحقيق (الرسالة الخالدة) للأمة العربية. وهذا هو الجوهر المشترك بين الجامعتين الإسلامية والعربية.

رابعًا: الجامعة السورية: الوظيفة والماهية

في ضوء ما تقدم، ألا ينبغي البحث عن (فكرة جامعة) جديدة على الأقل بالنسبة (إلى الوطن السوري) الذي يمتد جغرافيًا بين درعا جنوبًا والقامشلي شمالًا، وبين البحر الأبيض المتوسط غربًا والحدود العراقية شرقًا!

وما يسوّغ هذا المسعى هو أن ثمة ضروبًا من العناصر الأيديولوجية الجديدة آخذة في التكون والتبلور استجابة للتحديات الجديدة الناجمة عما يعصف بالإقليم كله من دمار وخراب وحروب همجية تغذيها المصالح الإقليمية، وتحاول القوى الدولية أن تحتفظ بالهيمنة على المشهد بأكمله.

وبناءً على ذلك كله، ألا يحق لنا -نحن السوريين- أن ننخرط في إنتاج أفكار من شأنها أن ترسم سبل العيش المشترك المفضي إلى مستقبل يتسم بالاستقرار السياسي والاقتصادي والتنمية المستدامة في الصعد كلها؟

ليس هذا من حقنا فحسب، بل إن فعله يرقى إلى درجة الواجب. والشروع في ذلك مشروط بقدر كبير من الشجاعة، لنتمكن من التفكير النظري والفلسفي الذي يستبعد -موقتًا- دور الفاعلين الإقليميين والدوليين في مجرى ما يحدث اليوم في سورية. على أن هذا الاستبعاد (الفرضي والموقت) لدور الفاعلين الإقليميين والدوليين لا بد من العودة إليه، ومناقشته بكل تأكيد في الوقت الملائم.

وفي الإجابة عن السؤال: ما (الجامعة السورية) التي سيدور الحديث عنها ههنا؟ نقول: الجامعة السورية محاولة لاكتشاف صورة من صور (الوعي المطابق) مصوغ في إطار أيديولوجي، ما يزال محتاجًا إلى التطوير والتوسيع والتطبيق، وإلى أن يجري التوافق حوله من المكونات السورية شتى، وذلك بقصد الانتقال من (الأيديولوجيات الإمبراطورية) -سواء اتخذت صورة الجامعة الإسلامية أم الجامعة العربية- إلى (أيديولوجيا وطنية)، أو إلى ما نفضل التعبير عنه (بالجامعة السورية) التي نحاول من خلالها -بوصفنا سوريين- أن نبني بلدًا، وأن ننتج وطنًا موحدًا قويًا وعادلًا ومنصفًا، وفي إمكانه توحيد أبنائه جميعهم، بإثنياتهم المختلفة، ودياناتهم المتنوعة، وطوائفهم المتباينة.

هذه هي الماهية العامة لفكرتنا عن (الجامعة السورية). إنها مشروع أيديولوجي يستهدف تنمية (الوعي السوري) بذاته بوصفه (وعيًا وطنيًا) يجمع بين العرب والكرد والسريان والأشوريين والتركمان والأرمن والشركس وغيرهم. ثم إنه لا يستهدف التقريب بين الإثنيات واحترامها فحسب، بصرف النظر عن حجمها -كبرًا وصغرًا- بل التقريب أيضًا بين المنتسبين إلى الديانات والطوائف السورية جميعها، من دون أن تكون (الجامعة السورية) معنية بمناقشة أي من الجوانب العقائدية والإيمانية التي تخص أي دين أو طائفة. كل ما تستهدفه الجامعة السورية هو تسهيل الحوار، وجعله ممكنًا بين المنتسبين إليها، مع الأخذ بالحسبان أن مصلحة أي سوري اليوم -مهما كانت الإثنية التي ينتسب إليها أو الديانة التي يتبعها- العثور على وسائل الحوار والتواصل التي تمكن من بناء وطن واحد وجامع والعيش في كنفه بسلام. ومن شأن ذلك أن يمكن الجميع من العمل على خلق أفضل الأحوال المنتجة للتنمية البشرية المستدامة، التي تتخذ من الإنسان الفرد، بحد ذاته، هدفًا لها. وجلي أنه لا سبيل إلى تحقق هذا الهدف إلا بتوفير الشروط الضرورية لاحترام الشخصية البشرية والكرامة الإنسانية لكل فرد بوصفه شخصية حرة، حقه في النقد والانتقاد لا يحده حد، على افتراض أن الحرية ذاتها لاحد لها إلا الحرية، ولا شيء غير الحرية.

ومن ذلك يستبين أن مهمة الجامعة السورية التصدي لمجموعة من المهمات هي ذاتها التي تؤلف مضمون هذه الجامعة. وقبل أن نجمل هذه المهمات من واجبنا أن نبين أنه ليس ثمة علاقة أو رابطة من أي نوع بين تصورات (أنطون سعادة) لسورية الكبرى أو الهلال الخصيب وما تتطلع إلى إنجازه الجامعة السورية من أهداف سياسية واجتماعية وثقافية وحضارية وروحية وقانونية وإنسانية، وهي العناصر التي يتطلع إليها هذا المشروع. ولذا ننبه إلى أن من شروط استقبال الذهن لهذا المفهوم -أولًا  وقبل كل شيء- الانصراف تمامًا عن الأفكار التي يروج لها (الحزب السوري القومي الاجتماعي). فتفكيرنا هنا مركز تمامًا على سورية (الوطن الصغير) الذي تركه لنا سايكس – بيكو. ومشروعنا هذا يتطلع إلى الانخراط في محاولة جديدة لبناء هذا الوطن بعد أن دمره الاستبداد السياسي بحكمه المديد مرات ومرات. وليس الدمار الذي ألحقه نظام الأسد الابن بالوطن السوري في رد فعله على ثورة الكرامة والحرية، إلا الصورة الأخيرة من صور تدمير الإنسان وتحطيم الأوطان.

ولعرض مضمون ما نعنيه بالجامعة السورية، علينا بادئ ذي بدء أن نبين أن المفهومات الرئيسة المكونة لتصورنا عنها تنطوي على ازدواج واضح يجمع بين المفهوم أو الماهية المكونة لهذا التصور والإجراءات والعمليات التي لا تتحقق هذه الماهية إلا بها. بعبارة أخرى، نحن في مواجهة مفهومات عامة تنطوي على تعريفاتها الإجرائية ولو بصورة إجمالية. والخلاصة هي أن المفهومات المستخدمة في بناء مفهوم الجامعة السورية هي نفسها ما ينبغي فضه بالتعينات التاريخية لهذه المفهومات.

ومن الممكن عرض المفهومات التي أشرنا إليها على النحو الآتي:

  1. إرادة العيش المشترك: وهنا يجب الانطلاق من المصالح المتبادلة والمتكاملة بين مكونات الشعب السوري جميعها. هي القاعدة التي تضمن وحدة هذه المكونات وتفاعلها المفضي إلى إنتاج كيان سياسي واجتماعي وأخلاقي وروحي متجاوز لما يتصف به كل مكون بصورة منفردة. وهذا الكيان هو (الجمهورية السورية). والجولان جزء لا يتجزأ من هذه الجمهورية.
  2. الجامعة السورية مفهموم جيوستراتيجي: وظيفة هذا المفهوم حفظ وحدة الأراضي السورية الواقعة بين درعا جنوبًا والقامشلي شمالًا، ومن البحر الأبيض المتوسط غربًا حتى آخر نقطة جغرافية واقعة على الحدود السورية العراقية شرقًا. والجولان أرض سورية يجب العمل بالوسائل كلها ليكون تحت السيادة السورية من جديد.

  3. وحدة الأراضي السورية: ينص مفهوم (الجامعة السورية) صراحة، على أن كل شبر من الأرض السورية هو ملك للسوريين جميعهم، ومن ثمة فإنه ليس من حق أي مكون من المكونات السورية الانفراد بالادعاء بأن هذا الجزء أو ذاك من الأراضي السورية تعود ملكيته إليه وحده من دون بقية السوريين. فدمشق للسوريين كلهم وليست للعرب أو لسكانها مهما كانت المكونات التي ينتمون إليها. وكذا الأمر بالنسبة إلى اللاذقية وحلب والقاملشي والأراضي السورية كلها. فهذه الأراضي تشكل وحدة واحدة غير قابلة للتقسيم أو التجزئة تحت أي سبب أو مسمى.

  4. الجامعة السورية رؤية أيديولوجية: من مهماتها الاضطلاع بوظيفة تقديم الأسس والمسوغات التي تسمح للمكونات السورية جميعها بالتعرف إلى أنفسها بوصفها مكونات ذات خصائص معينة من الناحية الثقافية من جهة، ولكنها من جهة أخرى تهيئ الشروط الضرورية لخلق الوحدة السياسية  في ما بين هذه العناصر البشرية المكونة للجمهورية السورية.

  5. المواطنة: مبدأ المواطنة المتساوية الذي ستقوم عليه الجمهورية السورية الجديدة، هو الضامن لتمتع السوريين كافة بحقوق متساوية، سياسيًّا وقانونيًّا واجتماعيًا وثقافيًا.

  6. العلمانية: والعلمانية التي تعني فصل الدين عن الدولة مبدأ مكمل وضامن وموجه للحياة السياسية والعلاقات المدنية بين الأفراد في حياتهم الشخصية ومعاملاتهم القانونية.

  7. حرية العمل السياسي: الجامعة السورية مفهوم يضمن حرية العمل السياسي للأفراد والأحزاب المرخصة قانونيًا في أراضي الجمهورية السورية كلها. وهذا يعني أن من حق أي حزب سياسي أن تكون الجغرافيا السورية بأكملها ميدانًا لنشاطه، شرط ألا تتخذ الأحزاب طابعًا إثنيًا أو دينيًا.

  8. مسألة الأقليات: من شأن المبادئ السابقة أن تجعل مفهوم (الجامعة السورية) مفهومًا قادرًا على التعامل مع مسألة الأقليات السورية الدينية والإثنية. فبمقتضى هذا المفهوم يصبح السوريون جميعهم أكثرية أو أكثريات. فالفكرة الموجهة لهذه الجامعة هي التوازن في ما بين المصالح، مصالح الأفراد ومصالح المكونات. وبمقتضى ذلك لا يتخذ أي قرار إلا بالاستناد إلى صورة من صور إجماع ممثلي المكونات السورية جميعها في المجالس التمثيلية والتشريعية.

  9. الحرية الشخصية: الحرية الشخصية وحرية الضمير والاعتقاد أحد المبادئ الجوهرية للجامعة السورية. والسوريون  بوصفهم أفرادًا متساوون في امتلاك هذا الحق وممارسته. ومن ثم لا يحق لأحد أن يفرض أفكاره أو معتقداته على الغير مستخدمًا أي صورة من صور الإكراه أو الضغط أو العنف، حتى إن بدت بعض الأفكار سامية ومقدسة في نظر أولئك الذين يسعون لفرضها بطرائق لا تنسجم مع القوانين الضامنة لحرية الاعتقاد والضمير.

  10.  حرية التعبير: ومن المبادئ الرئيسة التي تعلي الجامعة السورية من شأنها حرية التعبير السياسي، من خلال الحياة الحزبية والكتابة الصحافية في وسائل الإعلام والاتصال شتى. يضاف إلى ذلك حرية التعبير الثقافي واستخدام اللغة التي تخص هذا المكون السوري أو ذاك. وفي هذا الإطار يحق لكل مكون سوري استخدام لغته في التعليم والإعلام فوق أرض الجمهورية السورية بأكملها في حدود القانون.

    تلكم هي أهم الأفكار والمبادئ والمفهومات الناظمة لتصورنا عن الجامعة السورية. ونعتقد بإخلاص وصدق أن هذا المفهوم ينطوي على قدر كبير من الاتساق مع روح العصر والانسجام مع متطلبات الحياة الديمقراطية ومراعاة المبادئ الأساس لحقوق الإنسان. ولهذه الأسباب مجتمعة فهو مفهوم من الممكن وصفه بأنه (وعي متطابق) -أو على الأقل أقرب ما يمكن إلى المطابقة- مع جملة الوقائع التي تعصف اليوم بالوطن السوري. نعني بذلك أن هذا المفهوم يستجيب -بصورة بناءة- للمقتضيات الرئيسة التي تسمح للسوريين، إن حققوا نوعًا من الإجماع عليها، الشروع في مناقشة أهم هذه المشكلات والعمل بدأب وصبر على إيجاد الحلول الملائمة لما ألمّ بالوطن السوري. سيظل بناء أي نوع من الإجماع شرطًا ضروريًا لمواجهة مقتضيات المراحل المقبلة من أزمات الوطن السوري وما أكثرها.

يوميات سورية: النساء والعيد، ذات حربٍ طويلة

يوميات سورية: النساء والعيد، ذات حربٍ طويلة

ربما هي مصادفة سعيدة بتزامن يوم المرأة العالمي مع عيد الأم في شهرٍ واحد هو شهر آذار (مارس). لكن بسبب تفاصيل الحرب اليومية يغدو معنى كلمة عيد أو يومٍ خاصٍ للنساء ترفاً ممجوجاً ومدعاةً للكوميديا السوداء، ويصير سؤال النساء عن رغباتهن أو انطباعاتهن في هاتين المناسبتين مجرّد كلامٍ فارغٍ دون أي مضمون، ،وهذراً كلامياً لا مبرر له ولا من مستعدٍ حتى لخوض غمار التفاعل معه والإجابة عن تلك الأسئلة. إن كان البعض يحيل هذين اليومين لمناسبة تذكيرية بالهموم والنواقص والانفعالات العاطفية إلا أنّ الطابع العام هو مجرد اجترار لهمومٍ تئن دونما سعي لتدبيرها واستهلاكٍ للدموع لا راد له وزهورٍ وورودٍ على الشاشة الزرقاء أو شاشة الجوال وهدايا ترهق الجيوب ولا تُفرح القلوب.

“أم نشأت” سيدة خمسينية تعيش في الحديقة. قد توحي كلمة حديقة بوجود مساحة خضراء وارفة الظلال وفيرة المياه والمقاعد، لكنها هنا مجرد أرض جرداء بلا شجر أو عشب طري، مقاعدها مجرد بقايا مفصلاتٍ معدنية مغروزة في الأرض الجرداء. سألتها عن أمنياتها فقالت: “لا أمنيات، مجرد حاجات، أن أعود لبيتي، أن أستحم بماءٍ نظيف وحمامٍ مغلقٍ، أن أنعم بملابس نظيفة ودافئة بعد الاستحمام، أن أشرب قهوتي على شرفتي الصغيرة وأن ألقي تحية الصباح على جيراني وأهل حارتي.”

كانت “أم نشأت” قد قالت لي سابقاً في أول يومِ في السنة الجديدة وفور معايدتي وأمنياتي لها بسنة أفضل: “ليش قديش اليوم بالشهر نحنا وبأي سنة ؟” قالت لي يومها: “لو كان لدي مجرد حائطٍ صغيرٍ أعلق عليه تقويماً للأيام وساعةً جداريةً لكنتُ  فهمتُ عليك ورددت المعايدة بأحسن منها!”

في اللامكان الذي يصير بيتك واللازمان الذي يصير عالمك  نحن لا شيء أيضاً.

***

في مراكز الإيواء والحدائق والبيوت المشتركة التي تضم عائلاتٍ عديدةٍ يتحول الجنس إلى كابوس وتصبح العلاقات الزوجية مسرحاً للانتقام. “غالية” سيدة متزوجة تزوج زوجها الشهم بامرأة ثانية، ويعيشون في أحد مراكز الإيواء. بترتيب ٍغريزيٍ وبقرارٍ تحت إلحاح الحاجة تقرر النسوة تخصيص أحد الحمامات للعلاقات الجنسية، يبدو الأمر هنا تحايلاً عبقرياً على التشرد والحرمان، لكنه يترتب على غالية أن تكون الحارس الأمين لزوجها وضرّتها أثناء ممارستهما للعلاقة الزوجية. تخيلوا غالية تقف على باب الحمام والاضطهاد العاطفي يصفعها بعدد اللحظات خاصة بعد أن تخلى زوجها عن معاشرتها لصالح الزوجة الأصغر سناً والأجمل والأحدث. وكأن الزوجتين مجرد طنجرة يُفضل استخدام الأحدث حرصاً على جودة الطعام ومنظره، تشييئٌ دونيٌ تتآمر فيه الحرب وظروفها والقوانين التمييزية وهمجيتها والعادات ووحشيتها وذلها.

***

تحاول سمر جاهدةً تأمين موافقة على وصايتها على طفلتيها لأن زوجها مفقودٌ ووالد الزوج بعيدٌ جغرافياً وأشقاء الزوج في ألمانيا. تريد سمر التصرف في بيت الزوجية وتأجيره لتأمين دخلٍ يعيلها مع ابنتيها الصغيرتين.

أمّا غادة فقد استلمت قرار زوجها بتطليقها عبر وكيلٍ قانوني هو زوج أخته، وزوج غادة في هولندا وقد تزوج بسيدة سورية من حلب تعيش هناك. يبدو قرار الزوج تطليق زوجته إيجابياً فهو يمنح غادة هنا حريتها ويفك وثاقها من ارتباط ٍعلى الورق، لكنه يُجبر غادة باعتبارها مطلّقة ترك منزل الزوجية هي وأطفالها الثلاثة ولتذهب إلى الجحيم، خاصةُ أنها لا تعمل وأهلها  يعيشون في بيتٍ مستأجر يقطنه سبعة عشر شخصاً، والنفقة في أحسن الأحوال لا تتجاوز العشرة آلاف عدا عن الإجراءات المعقدة لرفع الدعوى ووجود الزوج في الخارج وغيرها من التعقيدات البيروقراطية.

***

تحولت شذا ما بين ليلة وضحاها إلى معيلةٍ لأسرتها، لوالدتها المصابة بالسكري ولأبيها الضرير ولشقيقاتها اليافعات وأبناء أختها الكبرى التي أصبحت أرملة فجأة. مقابل بنطال جينز لأختها التي لم يتبق لديها ما يستر جسدها، وافقت شذا على ممارسة الجنس مع صاحب محل بيع الألبسة الجاهزة الذي تعمل لديه. وكرّت سبحة بناطلين الجينز والبيجامات والأحذية وأسطوانة الغاز وتكاليف الدواء وأجرة البيت وملابس المدرسة والكتب والدفاتر، وهكذا تحولت شذا لإحدى ممتلكات صاحب المحل الذي خصص مكانا ضيقا في المستودع لمعاشرتها كما يشاء مقابل الإنفاق دونما حماية أو أدنى اعتراف، بل إن  تسميعات الجوار من أصحاب المحال والزبائن جعلت من شذا عاهرة يحاول الجميع النيل منها بذريعة أنها رخيصة ولا مانع لديها من معاشرة أي كان مقابل منفعة مادية.

***

سميرة سيدة خمسينية سافر زوجها وولداها إلى النمسا فباتت وحيدة ومهجورة مصابة بمرض ارتفاع الضغط.  تقطن سميرة في شقة في الطابق الثاني عشر من برجٍ سكني، وذات يوم اكتشفت نفاذ أدويتها بينما كانت الكهرباء مقطوعة والصيدليات في عطلتها الأسبوعية فماتت من الخوف إثر نوبة قلبية نفسية المنشأ من شدة الذعر. كان بوسعها البقاء حيةً أياماً دونما دواء خفض الضغط لكن توترها ووحدتها وغياب من يرعاها أو يتطوع لمتابعة أدويتها مرةً بالأسبوع أودوا بحياتها في لحظةٍ موجعةٍ، ولو توفر لها أي مقوّم من المتابعة أو المسؤولية أو الشراكة، لكانت قد بقيت على قيد الحياة تنتظر ورقة لم الشمل لتلتحق بعائلتها. ولابدّ من  الإشارة هنا إلى أن عدة سيدات أعرفهن قد قمن بخطوةٍ غريبةٍ وحديثة العهد على المجتمع السوري، خطوةٌ صفق لها الكثيرون والكثيرات واعتبروها حلا مثالياً لتوابع وحدتهم/ن، وهي قيامهن ببيع البيوت التي يسكنونها ويملكونها ووضع قيمتها في المصرف والإقامة في أحد المآوي المأجورة التي تتبع للكنيسة مقابل الإقامة والمتابعة الصحية والتنظيف، أي عناية كاملة مع حق استقبال الضيوف وحرية الحركة خارج وداخل المأوى المذكور.

وتبدو الشكوى الأكثر إيلاماً هي حياة الأبناء، موتهم غير المعلن إلا باتصال هاتفي، تغيبهم الطويل دونما خبر أو زيارة أو معلومة، استقبالهم بكفن أو من دونه والتكتم على أمراضهم النفسية جراء الاختباء  الطويل أو الشدات النفسية جراء التهديد أو الفصل من العمل أو ضياع مصادر الرزق أو تضرر أجسادهم بقذائف أو رصاص طائش لا يوجد من يردعه أو يحاسب أو يعوض عن نتائجه المرة.

***

في الحرب اسأل النساء وحدهن عنها، على وجوههن تمر شظايا الخيبات والفقد والرحيل وعلى أجسادهن تسجل علامات الانتقام والانكسارات والعقوبات والانهزامات، هن مرآة الحرب وهن خلاصة القول وبلاغة الخسارات. في قلوبهن أسئلة بلا أجوبة وانتظارٌ يطول يميت جذوة الحياة قبل ترنح أجسادهن في مهاوي الترمل والطلاق والفقدان والجوع والمذلة والتنميط والتهميش والاغتصاب والمتاجرة بعواطفهن وأمومتهن وأجسادهن وحقوقهن الأساسية. في الحرب تصبح الأعياد مجرد نهشٍ للروح وضرباتٍ صارخة للتذكير بفداحة الجروح والنواقص وبسطوة الغياب والتغييب.

للسوريات القابضات على الجمر، المنتظرات ظلال الأمل وقرارا بوقف الحرب، كنّ بخير يا غاليات. لنكون وسورية  بخير.

هنا دمشق

الثامن من آذار 2018