بواسطة Ward Maamar | مارس 3, 2018 | Cost of War, غير مصنف
إذا أردت أن تعرف ماذا يعني إعادة إعمار سوريا عليك أن تطّلع على حقيقة تجارب إعادة الإعمار في العراق وأفغانستان وغيرهما من الدول التي مازالت تعاني من الحروب والأزمات التي تسببت بتدمير البنى التحتية واستنزاف الطاقات البشرية تحت آلة الحرب والتهجير القسري.
منذ ثلاثة أعوام بدأت سيمفونية إعادة إعمار سوريا تُعزف في الكثير من المؤتمرات الاقتصادية والمعارض، حينها أطلقت الحكومة السورية برنامج عملية إعادة الإعمار لتكون من ضمن أولوياتها. وبالطبع كان للقطاع الخاص دوره أيضاَ بالمشاركة في جوقة عزف سيمفونية “إعادة إعمار سوريا” حتى أن البعض منهم لم يكتف بالكلام بل ذهب إلى أبعد من ذلك وأقام المعارض والندوات وورشات عمل لبحث ومناقشة آلية كيفية إعادة إعمار سوريا.
رغم أهمية عقد هذه المؤتمرات والمعارض، لكن يبدو أن الأمر ليس أكثر من فقاعات إعلانية وإعلامية، حيث أن بعض المحللين يجدون أن الوقت مازال مبكراً للحديث عن إعادة الإعمار خاصة في ظل استمرار الصراعات والاختلافات الإقليمية بين الدول الكبرى التي لم تُخف عدم رغبتها في المشاركة في عملية إعادة الإعمار دون الوصول إلى حل سياسي بموافقة جميع الأطراف المتنازعة في سوريا. بناءً على هذه النقطة فإنّ بعض المحللين الاقتصاديين يجدون أنّ كلّ مايتم تسويقه والترويج له حول بدء عملية إعادة إعمار سوريا ليس أكثر من موسيقى تصويرية رومانسية على وقع مشهد مأساوي تتخلله مناظر القتل والتشريد والدمار.
من هنا نجد أن عملية إعادة إعمار سوريا ليست بالأمر السهل، ولن تتم بعصا سحرية خاصةً إذا ما نظرنا إلى تجارب الدول المجاورة مثل العراق والتي مازالت حتى اليوم تدفع ثمن “أكذوبة إعادة الإعمار”، نتيجة الفساد وسوء الإدارة واستمرار الصراعات والنزاعات. وبالتالي فإن إقحام سوريا بهذه السيمفونية يحتاج إلى الجدية بالطرح ولا يكفي أن يتم عقد مؤتمر هنا وإقامة معرض هناك في حين أنه على أرض الواقع لا يوجد فعل حقيقي لكل ما يتم طرحه والإعلان عنه من نتائج لهذه المعارض. وكمثال على ذلك نأخذ مدينة حلب “عاصمة الاقتصاد السوري” والتي مضى على تحريرها قرابة عام كامل منذ تاريخ 22/12/2016 ومع ذلك لم نسمع عن أي عملية لإعادة إعمار المناطق التي هُدمت بفعل الحرب، ولم يطرح حتى اللحظة أي مشروع استثماري خارجي أو داخلي للمشاركة أو البدء في إعادة إعمار حلب. لقد اقتصر الأمر على عودة الأهالي إلى الأحياء التي هُجروا منها، ودعوة الصناعيين لإعادة افتتاح ورشاتهم، حتى أن غالبية الصناعيين ممن أعادوا تشغيل منشآتهم المتضررة تحملوا كلفة هذه العودة على حسابهم الخاص. وقد اقتصر دور الحكومة السورية على تأمين التغذية الكهربائية والفيول (الوقود) للمصانع ضمن الإمكانيات المتاحة، في حين أنّ الكلفة الأكبر وقعت على عاتق الصناعيين.
تُمثل حلب مثالاً هاماً يكشف عدم جدية الذين يدعون للمشاركة بعملية إعادة الإعمار، وعدم وجود رؤية وسياسات اقتصادية واضحة للبدء بهذه العملية، خاصة وأن الاقتصاد السوري مازال يعاني من غياب لقانون الاستثمار الجديد والذي مازال قيد الدراسة ولم يتم طرحه حتى تاريخ اليوم. إضافةً إلى ذلك هناك توجس لدى العديد من المستثمرين من الدخول إلى السوق السورية في ظل القرارات الاقتصادية المتعلقة بالقطاع النقدي والتي أحدثت فوضى في سوق سعر الصرف. فقد أثارت القرارات الاقتصادية التي طالت القطاع الصناعي، والذي يعتبر عصب الحياة الاقتصادي في حلب، ردّات فعل سلبية من الصناعيين الذين هدّدوا بإيقاف معاملهم عن العمل في حال الاستمرار بمثل هذه السياسات الاقتصادية.
ربما يعترض أحدهم بالقول إنّ مضي عام كامل على “تحرير” حلب ليس مقياساً لمصداقية عملية إعادة الإعمار وبأنّ الأمر يحتاج لسنوات. هذا الكلام صحيح لكن من جانب آخر كان من الأجدر والأهم أن تقوم الحكومة السورية من خلال اللجان الاقتصادية التي شكلتها لتنفيذ عملية إعادة الإعمار بوضع قوانين اقتصادية واضحة لآلية إعادة الإعمار. فقد أشار العديد من المشاركين في معرض دمشق الدولي الأخير “باستثناء المشاركين من إيران و روسيا” إلى عدم وجود برنامج سياسي اقتصادي يوضح كيفية المشاركة في عملية إعادة الإعمار. ووجد عدة مشاركين صعوبة في عقد اتفاقية تخص عملية إعادة الإعمار، وكأن الأمر مقتصر على الدول الصديقة “طهران وموسكو.” ولايمكن نكران هذا الأمر خاصةً وأن العديد من المسؤولين والاقتصاديين السوريين أكدوا أن الأولوية في عملية إعادة الإعمار ستكون للدول الصديقة “روسيا وإيران.”
من جانب آخر تظهر الحقائق الرقمية بأن تكلفة إعادة الإعمار في سوريا ستتراوح بين 200 مليار دولار و350 مليار دولار، وهي كلفة تتجاوز إمكانيات سوريا بكل ما تملكه، كما تتجاوز قدرات حلفائها الإيرانيين والروس. فمن جانب إيران، تُعاني هذه الدولة من أزمةٍ اقتصاديةٍ راهنة، ورغم أنها قد بدأت تخرج من العقوبات الأميركية إلا أنّ احتياجاتها اللازمة لتنفيذ متطلبات البلد من ناحية البناء وإعادة الإعمار تُقدّر بما يقارب 100 تريليون دولار في السنة خلال أعوام 2015 و2025. حالياً ليس لدى إيران خيارٌ آخر سوى أن تُنفق أموالها لحماية عملتها الوطنية وميزانها التجاري خاصةً وأنّ عملتها قد انخفضت بشكلٍ حاد بعد انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومازال حجم التضخم غير محدد من قبل محللين اقتصادية رغم اعتباره أحد المبادئ الاقتصادية العامة لبلد يسعى للتقدم اقتصادياً. كما أنّ حجم الإنفاق على الجيش بالغ الأهمية وكذلك الأمر بالنسبة لإعادة إعمار الاقتصاد والحفاظ على العملة والإنفاق والبطالة والاستثمار الذي يُعد من أولويات عمل الحكومة الايرانية.
كذلك الوضع الاقتصادي في روسيا ليس أفضل من غيره حيث تعتمد موسكو اقتصادياً على أسعار النفط والغاز بشكل كبير. وشكلت تدخلات روسيا العسكرية في سوريا وأوكرانيا عبئاً اقتصادياً على البلد. إضافةً لذلك مازالت الاتفاقات الاقتصادية بين موسكو وسوريا مقتصرة على التنقيب عن النفط، الأمر الذي يعكس بأن روسيا وإيران لا يمكن أن يكونا اللاعبين الوحيدين في عملية إعادة إعمار سوريا.
وبالتالي فإنه يتوجب طرح قوانين وخارطة اقتصادية استثمارية واضحة تتيح لبقية الدول إمكانية المشاركة في إعادة الإعمار خاصة وأن سوريا بلد متنوع يحتاج إعادة إعماره إلى وجود شركاء حقيقيين من دولٍ لديها إمكانيات اقتصادية كبيرة للمشاركة. أما اقتصار الأمر على الدول الحليفة “موسكو وطهران” فهو أمر أشبه بلجوء مريض إلى مريض، حتى أن دولاً مثل فنزويلا أو الإرجنتين لن تكون قادرة على المشاركة نتيجة ما تعانيه اقتصاداتها من أزمات وسوء إدارة.
في ذات السياق لا يمكن تجاهل العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا والتي تتطلب من الاقتصاديين في سوريا البحث عن بدائل اقتصادية للتغلب على هذه العقوبات، وإلا ستبقى عملية إعادة الاعمار سيمفونية يتم ترديدها في كل المحافل والمؤتمرات، مثلها مثل سيمفونية “أكذوبة إعادة إعمار العراق وأفغانستان.”
بواسطة Baraa Sabri | فبراير 28, 2018 | Cost of War, News, غير مصنف
لازالت محركات الحروب الخارجية في المنطقة الشرق الأوسطية الساخنة والأوراسية القلقة متمحورة على عامل الداخل، وبالتحديد عامل الثبات في السلطة أكثر مما هي متمحورة على عوامل لحماية الحدود الخارجية للبلد، وإن بنسب متفاوتة تحسب للدول الكبرى فيها رجحان نسبي للعامل الخارجي على الداخلي. الضجيج الذي يتبع العمليات العسكرية التركية في عفرين ضد مقاتلي قوات سورية الديمقراطية يزداد، والتحليل المتبع لذلك الضجيج يقفز على حقائق مهمة وقادمة من ما قبل العملية العسكرية التركية رجحت خيار الحرب لدى أنقرة على خيارات أخرى في منطقة “كانت حتى الآن مستقرة نسبياً من سوريا” بحسب وصف جيمس ماتيس. تلك الحقائق القادمة من مسارات الحكم والسلطة هي لب قضية الهجوم على عفرين والمحرك الرئيس لها، وتعتبر باقي التحليلات رتوشاً للحقائق ومكملات تجميلية لا أكثر.
لا تشكل صورة الديكتاتور العراقي صدام حسين المحمولة على يد المقاتلين السنة المنضوين تحت لواء درع الفرات التي تقاتل مع الجيش التركي في عفرين حدثاً عابراً. هي صورة عن الحنين الى سيادة عالم السنة والعروبة في المنطقة التي شهدت تغييرات هائلة ودموية منذ دخول الأمريكان الى بغداد في ٢٠٠٣. هؤلاء الحاملون للصورة هم في جزء من تصورهم للمعركة يقعون تحت تأثير العامل المذهبي الذي يعمل عليه بحرفية الرئيس التركي أردوغان.
يظن هؤلاء بأنهم يتحركون تحت ظلال صدام في الذود عن عالم السنة والعروبة، وإن كان القائد الحالي يتحدث بلغة مختلفة. لا ينسى هؤلاء بأن تركيا لم تسمح لواشنطن بالمرور في أراضيها لدخول العراق في عام ٢٠٠٣ وهم يعتبرونها جزءاً من التعاضد السني الخفي ضد المحتل، وضد تمدد إيران الشيعية. هؤلاء التائهون ينسون أن الرفض التركي حينها لم يكن سوى رفض للتغيير القادم في العراق المتداعي أصلاً، والذي من المتوقع أنه سيجلب للأكراد شيئاً من الحماية والحقوق الدستورية المقلقة لتركيا المريضة بمرض الأكراد في ديارها وفي ديار غيرها من الدول، ولا علاقة لها بالخلاف السياسي للشيعة والسنة الطافح حالياً.
علماً أن إيران الشيعية، ونظام البعث السوري، وتركيا، رفضوا مجتمعين الدخول الأمريكي حينها إلى العراق، ونسقوا فيما بينهم لإضعافه. صورة صدام لا رابط لها بالوقائع سوى بأنها تشترك مع القائد الجديد في التصرف بسلطات الدولة حسب المصلحة الخاصة له، ولعائلته، وتحت مصطلحات ثورية كبرى من نمط حماية الحدود الشرقية عراقياً حينها، والحدود الجنوبية تركياً حالياً. هكذا خطب تأتي من ذهنية واحدة تحاول أن تظهر بمظهر القائد التاريخي في المنطقة.
كان صدام مع كل انتكاسة وقلاقل داخلية يشعل حرباً تحت يافطات كبرى. وحالياً، ورغم أن الوقائع الدولية قد تغيرت يحاول أردوغان الهروب من كل خلخلة داخلية بحرب خارجية، ومعارك حدودية، وخطب رنانة عن الأمن القومي. كلاهما ظلا متمسكاً بقضية القدس وإسلاميتها. وكلاهما قمع الحريات داخل بلديهما. وكلاهما مدجج بالمتطوعين من العالم العربي المقتنعين بحرب الأنصار والأشرار تماماً كما هو الحال في المخيلة التي يعتاش منها المقاتلون الذين يحاربون مع تركيا في عفرين. هؤلاء المقاتلون نفسهم أو أشقاؤهم كانوا قد سموا كتيبة من الكتائب العسكرية للمعارضة في دير الزور قبل سنوات بكتيبة “صدام حسين” دون أي اعتبار لمشاعر الآلاف من ضحايا الرجل على الطرف الشرقي المجاور للحدود في توضيح مباشر عن الحنين المستمر إلى القائد الذي يرقص وهو يرفع البندقية بيده اليمنى.
في تركيا المنتفخة بالمشاكل السياسية والاجتماعية حراك حكومي من نوعية الهروب إلى الأمام. فبعد انتهاء المفاوضات بين حزب العمال الكردستاني والحكومة بعد تصريحات لرئيس حزب الشعب الديمقراطي الوسيط في العملية بُعيد الانتخابات البرلمانية الأولى، وعقب حصولهم على المرتبة الثالثة في البرلمان عن أنهم “لن يسمحوا لك بأن تصبح رئيساً” وكان يقصد به أردوغان الذي كان يبحث عن تعديل دستوري لتعزيز سلطات رئيس الدولة بعد نفاذ فرص ترشحه لرئاسة الوزراء مجدداً تغير المشهد.
تصريح ديمرتاش كان بمثابة الشرارة التي ألهبت البلاد بالمعارك. المفاوضات التي انتهت كانت عبارة عن وسيلة يبتغي منها حزب العدالة والتنمية المماطلة للحصول على الدعم الكردي في البرلمان، ولم يكن أبداً مشروع سلام كما ظهر فيما بعد من التطورات على الساحة التركية. البحث عن بديل عن رفاق ديمرتاش رسى على رجل من أشهر رجالات التطرف القومي في تركيا، وهو السيد دولت بخجلي الذي فتح ذراعه لأردوغان لينقذه من مشاكله الداخلية في الحزب، والتي كادت أن تطيح به لصالح منافسته اليمينية ميرال أكشنر، إذ سعت ومعها مجموعة من الحزب، إلى عقد مؤتمر عام استهدف الإطاحة بالسياسي “العجوز”، الذي بات يثير التساؤلات بتحوله المفاجئ إلى رجل التوافق والتماهي مع أردوغان وحزبه في جميع الاستحقاقات المؤثرة.
كان التعاضد بين أردوغان وبخجلي هو تعاضد يحمل في طياته تفاصيل محزنة على الأكراد على جانبي الحدود. قمعت الحركة المدنية والسياسية الكردية في تركيا، وزج برؤساء بلديات، واعضاء برلمان، وعلى رأسهم ديمرتاش نفسه في السجون. وظهرت المحاكمات الصورية، ودمرت مدن، وشرد الآلاف من سكان المناطق الكردية من مدنهم. وكانت التقارير الدولية واضحة الاتهام للجيش التركي بالمسؤولية. فتحت المعارك اللا متناهية مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، وقمع الطموح الكردستاني في إقليم كردستان العراق، وتغيرت خارطة التحالفات في سورية لردع زيادة قوة وظهور قوات سورية الديمقراطية على الساحة الشمالية والشرقية لسوريا. كل تلك المستجدات، والمتحالفان يبحثان عن انتصارات وهمية كما هو الحاصل في فتح جبهة عفرين حالياً لتجلب لهما الرسوخ في السلطة، واحد في رئاسة الحكم، والثاني في رئاسة الحزب، مع قرب الانتخابات البرلمانية والتي من المفترض أن يشكل الطرفان المذكوران تحالفا رصينا فيها، وذلك من خلال كسب قواعد الجماعات القومية التركية الحاقدة على الأكراد إلى طرفهم.
في حين أن حاملي الصورة يعتقدون بأن قائد المعركة في عفرين السيد أردوغان يقود معركتهم السنية والعروبية ضد الملاحدة، وعملاء الصهاينة والشيعة، تأتي الأخبار عن محاولات تواصل غير مباشر من أنقرة مع نظام دمشق المعادي لحاملي الصورة، وعمليات تسليم مناطق لرفاق اردوغان من الجماعات العسكرية السنية في محافظة إدلب لصالح نظام الأسد وحزب الله. ويرى العالم كيف أن إيران التي تتسيد عالم الشيعة سياسياً تشاهد المعارك بسعادة من بضعة كيلومترات قريبة. بالضبط كما يشاهدها الزعيم الروسي بوتين صاحب السطوة في سورية، وهو يدفع تركيا البطلة في مخيلة حاملي الصورة لتجلب له المعارضة ومسلحيها للقبول بشروطه الاستسلامية للسلم في سورية. موسكو التي كانت تحتاج الى معاقبة الأكراد وحلفائهم العرب الذين أصبحوا أقرب لواشنطن منهم إلى موسكو أعطت الضوء الأخضر لأنقرة للهجوم.
بوتين الذي يحاول أن يرسخ سلطته مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الروسية بانتصار سياسي له في سورية بعد تقدمه العسكري هناك جاء بكل هؤلاء الساسة الباحثين عن السلطة، والقامعين للحريات إلى “سفوح عفرين” ليظهر هو نفسه من خلالهم جميعاً ومن خلال ما يحضره لما بعد المعركة التي فيما يبدو لن تنتهي كما يحلو لأردوغان، وبخجلي، وحاملي صورة صدام بمظهر البطل الذي لا بد أن تظل السلطة في موسكو بين يديه حماية للبلاد ونفوذها في الخارج.
بواسطة Khalil Hamlo | فبراير 27, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
الرقة
“دخول مدينة الرقة يشبه لحظة الموت، لحظة الفاجعة تبدأ كبيرة ثم تتلاشى”، هكذا يصف الدكتور فواز الأحمد الذي عاد إلى مدينة الرقة بعد حوالي ٤ أشهر من سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) على المدينة.
يقول الأحمد: إنّ ” كل ما شاهدته على محطات التلفزة عن مدينة الرقة ، لم يكن سوى جزءاً صغيراً من لوحة تمتد عدة كيلومترات من الدمار والركام وأحياء خالية من سكانها تفوح منها رائحة الجثث المتفسخة، رائحة الموت والدمار. بكيت كما يبكي الطفل الذي كسر لعبته الجميلة، وأنا أتجول في أحياء المدينة. هنا بناء فلان وهنا بيت فلان أبنية سوي الكثير منها بالأرض.”
ويتحدث طبيب الأطفال الذي لم يغادر مدينة الرقة منذ ٢٠ عاماً إلا بعد سيطرة تنظيم داعش بداية عام 2014، عن عدم قدرته على النوم في اليوم الأول من وصوله إلى المدينة، قائلًا: “لم أستطع النوم في الليلة الأولى، تجوّلت في صباح اليوم الأول في شوارع المدينة المدمرة وقد أعياني الحزن وغالبتني الدموع على حالها، في اليوم التالي تمالكت نفسي ولم أبكِ، وتجولت في كل شوارعها ، وفي اليوم الثالث بدأت أبحث عن عمال لترميم منزلي وعيادتي؛ من أجل البقاء في مدينتي لأقدم خدماتي لأبنائها، الذين حرموا منها خلال وجود داعش وما بعده.”
الرقة التي حولها تنظيم داعش الى عاصمة له، ما أدى إلى تدمير المدينة وتحويل نحو ٧٠ بالمئة منها إلى أنقاض، من دون وجود أية نوايا جدية من أجل التحرك لإعادة إعمار المدينة رغم الوعود المتكررة في المؤتمرات والتي بقيت حبراً على ورق واقتصرت على إزالة الأنقاض من ثلاثة شوارع في المدينة التي تمتد آلاف الهكتارات تقوم بها منظمة التدخل المبكر الأميركية.
رغم الدمار الكبير الذي حوّل الكثير من أحياء المدينة الى ركام، عاد بعض الاهالي إلى أحيائهم، ورمموا ما استطاعوا من منازلهم المدمرّة على قدر استطاعتهم، وسط غياب الخدمات الأساسية، عودة شكلت صدمة عند الجهات المشرفة على المدينة التي راهن البعض منهم على عدم عودة أحد إلى المدينة.
مجلس محافظة الرقة المدني -الذي أسس من قبل قوات سورية الديمقراطية (قسد)- يشرف على عمليات ترحيل الأنقاض، ويقدّر أمين سر مجلس المدينة، ابراهيم الفرج حجم الدمار في وسط المدينة والأحياء الغربية منها بنحو ٨٠ بالمئة، ويقول: إنّ “وزن الركام والأنقاض في الشوارع يبلغ نحو ١٠ مليون طن، حيث نقوم بالتعاون مع منظمة التدخل المبكر بترحيل الأنقاض وفتح الشوارع الرئيسية؛ لتأمين فتح الطرقات وإزالة الألغام، من أجل ضمان عودة آمنة للأهالي، الذي يقدر عددهم بنحو ١٧٠ ألف شخص.”
ويضيف: “على الرغم من أنّ المدينة، لاتزال تفتقر إلى أبسط الخدمات، إلا أن العيش في المخيمات يدفعهم للعودة إلى مدينتهم”، وأشار إلى أنّ “الكثير من الصعوبات تعترض عودة الأهالي، لكننا نحاول تأمين الخدمات لهم، حيث نقوم بتأمين الكهرباء عبر محطة الفروسية وتأمين مولدات في الأحياء التي عاد الأهالي للسكن فيها، إضافة إلى افتتاح مركز طبي بالتعاون مع منظمة أطباء بلا حدود.”
ضد التحالف و”قسد”
رئيس مجلس مدينة الرقة التابع للحكومة السورية المهندس طلال الشيخ حمّل التحالف الدولي وقوات سورية الديمقراطية (قسد) وتنظيم داعش مسؤولية دمار المدنية، ويقول: إنّ “ما حصل في مدينة الرقة لم يكن طرد تنظيم داعش، بل هو تدمير المدينة وطرد سكانها وتشريدهم في المخيمات، من كان موجوداً في المدينة كان شاهداً على تدمير متعمد للمدينة.”
وكشف الشيخ عن “إعداد ملف حول ما تعرضت له المدينة من تدمير وأضرار لإقامة دعوى قضائية على كل من ساهم بتدمير المدينة وتعريض ما دمر من ممتلكات عامة وخاصة.”
أبرز الأحياء التي تشهد عودة كبيرة لسكان المدينة (حي المشلب)-الواقع شرق المدينة- أول الأحياء التي سيطرت عليها قوات سورية الديمقراطية بداية شهر حزيران/يونيو الماضي، عاد إليه أغلب سكانه إلى جانب بعض سكان الأحياء الأخرى من المدينة، حيث تعود الحياة إلى الحي بشكل متسارع من خلال حركة الإعمار أو ترميم المنازل التي تضررت بالقصف والمعارك.”
صالح الحسن، من سكان حي المشلب، عاد إلى الحي بعد سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) على المدينة، يقول: إنّ “قوات قسد منعت منذ نهاية شهر تشرين أول/اكتوبر الماضي من دخول الحي بعد نحو ثلاثة أشهر على السيطرة عليه وأطلقت الرصاص على أهالي الحي، وأصابت عدداً منهم ، رامية إلى منع الأهالي من العودة إلى الحي، حتّى تتمكن من السطو على منازل السكان، ولكن تحت إصرار سكان الحي، سمح لنا بالعودة إلى بعض المنازل بعد تعرضها للدمار والسرقة، فيما تعرضت منازل أخرى لأضرار بسيطة.”
ويؤكد الحسن الذي يعمل تاجراً على رهان الجميع على عدم عودة أهالي المدينة؛ بسبب الدمار الكبير الذي لحق بها، لكنه يشير إلى “تكاتف الأهالي فيما بينهم من أجل التغلب على الصعوبات التي تمنع الكثيرين من العودة، من خلال تقديم الأثاث المنزلي. نحن أبناء مجتمع عشائري، ومن الواجب أن نساعد بعضنا في هذه الظروف الصعبة”، ويضيف “العودة إلى منزل مدمر، أهون بكثير من العيش في خيمة بالعراء.”
ويضف الحسن: “مع تزايد أعداد القاطنين في الحي تبقى الخدمات محدودة وخاصة مياه الشرب التي تنقل وهي ملوثة بشكل كبير رغم محاولة تعقيمها ولكن كل ذلك يتم بشكل جزئي”، كاشفًا عن “تعرض الأحياء المدمرة لعملية سرقة في وضح النهار من قبل بعض عناصر قوات سورية الديمقراطية (قسد) -الذين قدموا إلى المدينة قبل عودة سكانها- حيث سرقت منازل المدينة في وضح النهار.”
ألغام “داعش”
“بعد السيطرة على المدينة سقط المئات من أبنائها قتلى وجرحى؛ بسبب الألغام، التي زرعها تنظيم (داعش) قبل انسحابه من المدينة- حيث لا يمر يوم إلا وهناك ضحايا جدد. الألغام تنتشر في كل مكان من المدينة، ولاتزال عمليات تفكيكها محدودة.” بحسب عدد من أهالي المدينة.
محمد راضي، فقد ساقة جراء انفجار لغم زرعه عناصر تنظيم داعش، يقول: إنّ “ما تم إزالته من الألغام محدود جدًا، حيث يقوم الأهالي بالاعتماد على أشخاص لا يمتلكون الخبرة والمعدات؛ من أجل تفكيك الألغام في منازلهم والساحات المحيطة بها، حيث تعرض البعض منهم لأضرار؛ نتيجة انفجار الألغام ، وبقيت وعود إزالتها من قبل (قسد) مجرد كلام في الهواء، وفي مدينة حلب التي تتجاوز مساحتها مساحة الرقة عدة مرات تمت إزالة الألغام بعد أيام من قبل الجيش السوري والروسي ونحن لا نعلم متى سيتم ذلك ، وكل يوم هناك ضحايا.”
منسق المشاريع بفريق (التدخل المبكر) حسام الجاسم يقول: إنّ “أعمال إزالة الأنقاض من شوارع المدينة تأتي ضمن جهود إعادة الإعمار، كل الأعمال التي نقوم بها لا يمكن وصفها بأنها تدخل تحت إطار إعادة الإعمار بل لدعم استقرار الاهالي وعودتهم إلى أحيائهم وهو هدف المشروع، ومن خلال عملنا في المدينة وتعاون الأهالي أدى لسرعة الإنجاز من خلال إزالة الأنقاض من المنازل وبذلك تسير عملية ترحيل الأنقاض بشكل سريع.”
ويصف حجم الدمار في المدينة بـ “الهائل”، ويضيف: “قدم فريق (التدخل المبكر) مجموعة آليات بكافة مستلزماتها بالإضافة لسائقيها وورشات تنظيف عدد من الشوارع التي تعتبر مركز المدينة ونقل تلك الأنقاض إلى خارج المدينة.”
التدخل المبكر
بدأت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بتنفيذ مشروع إزالة وترحيل الأنقاض في مدينة الرقة، بعد ثلاثة أشهر من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على المحافظة من يد تنظيم الدولة الإسلامية/داعش، في تشرين الأول الماضي.
ويتولى إدارة المشروع فريق التدخل المبكر الذي بدأ العمل في المدينة في ١٤ كانون الثاني الجاري، بعد الحصول على منحة مالية من الوكالة الأمريكية، لينفذ المشروع على مراحل، في سعي لتأهيل المدينة وليستفيد الأهالي من الخدمات والمشاريع، وفق ما قال منسق المشاريع في الفريق، حسام الجاسم، لعنب بلدي.
تأسس الفريق، الذي يصف نفسه بأنه نتاج مبادرة مجتمعية، مطلع حزيران ٢٠١٧ ويقول إنه يسعى لإيجاد الحلول لمشاكل الأهالي، من خلال رصد معاناتهم عبر جلسات مع الأهالي في إطار إعادة الاستقرار للرقة.
ويتكون من قسمين:CRG الذي يعقد اجتماعات دورية مع الأهالي لرصد احتياجاتهم، وERT المؤلف من فريق هندسي يدرس الحلول الممكنة لتلك المشاكل، ويسعى لتطبيقها على أرض الواقع، بمساعدة إداريين من محافظة الرقة.
بواسطة Abdullah Al Hassan | فبراير 27, 2018 | Cost of War, News, Reports, غير مصنف
[fusion_builder_container hundred_percent=”no” equal_height_columns=”no” menu_anchor=”” hide_on_mobile=”small-visibility,medium-visibility,large-visibility” class=”” id=”” background_color=”” background_image=”” background_position=”center center” background_repeat=”no-repeat” fade=”no” background_parallax=”none” parallax_speed=”0.3″ video_mp4=”” video_webm=”” video_ogv=”” video_url=”” video_aspect_ratio=”16:9″ video_loop=”yes” video_mute=”yes” overlay_color=”” video_preview_image=”” border_size=”” border_color=”” border_style=”solid” padding_top=”” padding_bottom=”” padding_left=”” padding_right=””][fusion_builder_row][fusion_builder_column type=”1_1″ layout=”1_1″ background_position=”left top” background_color=”” border_size=”” border_color=”” border_style=”solid” border_position=”all” spacing=”yes” background_image=”” background_repeat=”no-repeat” padding=”” margin_top=”0px” margin_bottom=”0px” class=”” id=”” animation_type=”” animation_speed=”0.3″ animation_direction=”left” hide_on_mobile=”small-visibility,medium-visibility,large-visibility” center_content=”no” last=”no” min_height=”” hover_type=”none” link=””][fusion_text]
مع اشتداد الحملة العسكرية التي يقودها الجيش السوري وحليفه الروسي على الغوطة الشرقية وأهلها المحاصرين، تعود إلى الواجهة فكرة “مناطق خفض التصعيد” واتفاقياته الموقّعة بين الجانب الروسي وفصائل المعارضة المتمركزة هناك، فما معنى ”خفض التصعيد“ مع كل هذه الوحشية في القصف، والذي يطال المدنيين في منطقة محاصرة تماماً منذ أكثر من خمس سنوات.
لا يملك المدنيون في الغوطة الشرقية – يبلغ تعدادهم حوالي ٣٥٠ ألف – ملاجئ سوى بعض أقبية الأبنية، يحاولون الابتعاد قدر المستطاع عن الإصابة المباشرة بالشظايا والصواريخ المتعددة أسماؤُها وراجماتها، وتلك الأقبية – إن وُجِدت – ليست بآمنة كليّاً، فكثير من الأبنية تهاوت فوق رؤوس قاطنيها ودفنت من كان في الأقبية وهم أحياء.
ممنوعٌ عليهم الخروج من مناطق حصارهم، وممنوعٌ عليهم دخول الغذاء والدواء، ينزحون من بلدةٍ لأخرى، في محاولة منهم لتجنب القذائف والصواريخ، رغم أن القصف يطال جميع المدن والبلدات بلا استثناء، لم يعد أهالي الغوطة يراهنون على أحد، فوسائل الإعلام ملّت من شكواهم، والمنظمات الإنسانية الدولية أغمضت أعينها واقتصرت على إصدار بعض الكلمات، ومواقف الدول المتبجّحة بـ ”حقوق الإنسان“ أصبحت باهتة، حتى أنها أسقطت التنديد والقلق من خطابها.
لِمَ يُكلّف أحدهم نفسه في الكلام والدفاع عن المدنيين في منطقة محاصرة في وسط سوريا؟ ما الفائدة المرجوّة من رفع الصوت بالتنديد والشجب وإقلاق مجلس الأمن؟ هي منطقة أصبحت خارج حسابات الدول المتصارعة في سوريا، فهي ليست كالشمال حيث تتصادم مصالح تركيا وأمريكا، وليست كالجنوب حيث تتصادم مصالح إيران وإسرائيل.
بدأت معاناة المدنيين في الغوطة الشرقية عندما حاصرها الجيش السوري في ٢٠١٢م بعد أن أصبحت معقلاً للمعارضة المسلحة، مما تسبب في أزمة إنسانية شديدة، زادت من حدّتها بعد سيطرة الجيش السوري على أحياء برزة والقابون في منتصف أيار٢٠١٧ والذي أدى إلى كشف أنفاق التهريب وإنهاء عملها تماماً، وبالتالي لم يتبق للمحاصرين في الغوطة الشرقية سوى ”معبر الوافدين“ الذي يشرِف عليه النظام السوري ويديره ضباطه بالتعاون مع تجار مقرّبين، طبعاً لم يُسمح للدواء بالعبور نهائياً، بينما المواد الغذائية تدخل بالقطارة ولأصناف محدّدة وقليلة جداً، ما رفع الأسعار في المنطقة إلى أرقام قياسية.
أما بالنسبة للفصائل المتواجدة داخل أسوار الحصار، فلقد عملت على بسط نفوذها وتحديد مناطق سيطرتها، مرّة عبر ابتلاع الفصائل الأصغر وتصفيتها عسكرياً (كما فعل جيش الإسلام بجيش الأمة)، وأخرى بالتحالف بغاية الحماية (كما في تحالف خلايا جبهة النصرة مع أحرار الشام وتشكيل جيش الفسطاط، ثم انضمام فجر الأمة إليه لاحقاً)، ونتيجة لاختلافها الايديولوجي، معزَّزاً بخلاف الدول الداعمة كان اقتتال ”جيش الاسلام“ مع ”فيلق الرحمن“ و“جيش الفسطاط“ في منتصف أيار ٢٠١٦، والذي أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى بينهم مدنيون، وما مكّن أيضاً الجيش السوري لأول مرة منذ خمس سنوات من اختراق القطاع الجنوبي للغوطة والسيطرة على ١٠ بلدات، ونزوح مئات العائلات من سكانها، وهي دير العصافير وزبدين وحوش الدوير والبياض والركابية ونولة وحوش بزينة وحوش الحمصي وحرستا القنطرة وبالا. لكن كان من أهم نتائج هذا الإقتتال الداخلي تقسيم الغوطة إدارياً على أساس السيطرة العسكرية، قطّاع أوسط تحت سيطرة “فيلق الرحمن“ وقطّاع دوما وما حولها تحت سيطرة “جيش الإسلام“.
وفي ٢٨ نيسان ٢٠١٧ تجددت الاشتباكات من جديد بين الفصائل بعد محاولة ”جيش الإسلام“ القضاء على عناصر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وفعلاً سيطر جيش الإسلام خلال الاشتباكات التي جرت طوال اليوم على أهم معاقل “هيئة تحرير الشام” في منطقتي عربين والأشعري، بالإضافة إلى مراكز القيادة الرئيسية والمكاتب الإدارية، لكن فيلق الرحمن الذي بقي متفرجاً منذ الصباح، تدخل مساءً لنصرة حلفائه في هيئة تحرير الشام بعد ان استشعر نوايا مُبيّتة لدى جيش الإسلام بغرض الهيمنة على بعض مناطق نفوذه وسيطرته، في حين بقي أحرار الشام على الحياد، وكانت حصيلة المناوشات أكثر من ٤٥ شخصاً بينهم العديد من المدنيين.
بعد ذلك بشهرين، في ٢٢ تموز ٢٠١٧ وقّع جيش الاسلام مع الجانب الروسي اتفاقية ”خفض تصعيد“، وتلاها فيلق الرحمن بعد أقل من شهر في ١٨ ٢٠١٧ باتفاقية أخرى وبرعاية مصرية كما حدث مع جيش الإسلام، وبذلك ضمن كلا الفصيلين – المشاركين في لقاء أستانة – بأنهما خارج الفصائل المصنّفة إرهابية بحسب التصنيف الروسي للفصائل المعارضة، كون الاتفاق والتوقيع كان بشكل مباشر مع كلا الفصيلين وليس مع الدول الراعية.
من الواضح بأن فكرة روسيا من اتفاقية خفض التصعيد في الغوطة، تأمين محيط العاصمة دمشق من قذائف الفصائل، وتأمين خاصرة العاصمة من أكبر فصيلين في المعارضة لتتفرّغ بعدها لقتال داعش في البادية السورية ودير الزور، والأهم عزل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) ونقل كامل عناصرها إلى محافظة إدلب، رغم أن الأخيرة حاولت عدة مرات كسر المخطط الروسي لعزلها، وكان آخرها تخريب فكرة ”مناطق خفض التصعيد“ الناتجة عن لقاء أستانة في معركتي ”يا عباد الله أثبتوا“، جرت الأولى في محيط دمشق بالقرب من كراج العباسيين بالتعاون مع فيلق الرحمن وأحرار الشام في ١٩ آذار ٢٠١٧، والثانية في ريف حماه الشمالي الشرقي بالتعاون مع ”الحزب الإسلامي التركستاني“ ومجموعات أخرى كجيش العزة وجيش النصر في ١٩ أيلول ٢٠١٧، لكن يبدو أن المخطط الروسي أدى في النهاية فعلاً إلى عزل ”هيئة تحرير الشام“ ونقل عناصرها إلى محافظة إدلب من مناطق جنوب العاصمة دمشق، ومن عرسال لبنان وجبال القلمون غربي دمشق، وأخيراً من درعا، ولكن فشلت كل المساعي لإخراج عناصر الهيئة – لا يتجاوز عددهم الـ ١٢٠٠ مقاتل – من الغوطة الشرقية بعد رفض قادتها تماماً لفكرة الترحيل التي دعا وسهّل إليها كلّ من جيش الإسلام وفيلق الرحمن بموجب اتفاقهما الأخير مع الروس.
ومؤخراً، في ١٤ تشرين الثاني ٢٠١٧، قامت ” حركة أحرار الشام الإسلامية“ بالتعاون مع عناصر ”هيئة تحرير الشام“ بفتح معركة ”بأنّهم ظُلِموا“ إنطلاقاً من الغوطة الشرقية، وشنّت هجوماً مباغتاً على إدارة المُركّبات التابعة للجيش السوري في حرستا، صحيح بأن الغاية المُعلنة من المعركة جاءت على خلفية تفاقم الوضع الإنساني في الغوطة الشرقية إثر الحصار الشديد المطبق عليها، بالإضافة إلى تكرار استهداف قوات النظام لمدن وبلدات الغوطة الشرقية من داخل إدارة الُمركّبات، رغم اتفاقية خفض التصعيد الموقعة، لكن يبدو أن الغاية الحقيقية أبعد من ذلك، فالقصف العشوائي على الغوطة لا يأتي فقط من داخل إدارة المُركّبات، وكسر الحصار لن يتحقق بالسيطرة على إدارة المركبات وما خلفها، لكن كما يبدو أن حركة أحرار الشام تُعيد السيناريو نفسه الذي اتّبعه فصيل ”فيلق الرحمن“ قبل أن يُوقّع معهم الروس اتفاقية التهدئة، وأحرار الشام – وهم المشاركون المتأخرون في اتفاق أستانة – يرون بأنهم يملكون مواصفات الفصيل المعتدل، وخاصة بعد تخلّص الحركة من المتشدّدين داخلها إثر انقسامها وانضمام المتشدد منها إلى هيئة تحرير الشام، ثم قتالها المتكرر ضد ”هيئة تحرير الشام“ في كثير من مناطق الريف الإدلبي الواسع. وبالتالي، يبدو أن الحركة تحاول لفت أنظار الجانب الروسي إليها، بغية توقيع اتفاقية مباشرة معها تؤهلها للعبور إلى المرحلة القادمة في التسوية السورية، وما يزيد من ترجيح هذا الرأي أنها – أي الحركة – لم تُحرّك ساكناً إثر دخول الجيش السوري في ريف إدلب وتصعيده ضد المدنيين هناك، بل اكتفت بموقف المتفرج والمتابع.
من غير الواضح ما ستؤول إليه أوضاع الغوطة الشرقية وفصائلها، فمغامرة أحرار الشام في حرستا، ثم مساندة فيلق الرحمن الخلفية لها، ورفض خروج عناصر هيئة تحرير الشام من الغوطة، أعطت الروس والنظام السوري مُسوِّغاً – وهم الذين لا ينتظرون ذلك – لحشد القوات بشكل كبير على تخوم الغوطة، مع قصف هو الأشد والأعنف عليها منذ بداية حصارها.
يبدو أن الغوطة الشرقية وفصائلها أمام خيارين لا ثالث لهما، إما استمرار العملية العسكرية حتى دخول الجيش السوري إلى حرستا أو غيرها مثل منطقة حزرما الاستراتيجية في منطقة المرج، مما يعني تهديداً مباشراً لجيش الإسلام في دوما، ولفيلق الرحمن في زملكا، أو نجاح المساعي التي يعمل عليها جيش الإسلام بوساطة مصرية لإقناع الجانب الروسي بوقف المعارك مقابل إخراج عناصر هيئة تحرير الشام من الغوطة الشرقية. وكما رَشَح إعلامياً على لسان الوزير سيرغي لافروف بأن هناك رفض من قِبَل الفصائل للتسوية بإخراج مقاتلي هيئة تحرير الشام من الغوطة على غرار ما حدث في حلب، في حين وجود تأكيدات من داخل جيش الإسلام بأن الفيلق بدأ يستشعر خطر مواقفه، وبالتالي أصبح هناك إجماع لدى الفصائل على خروج عناصر الهيئة من الغوطة، وفعلاً تم تسليم قوائم الأسماء إلى تركيا منذ عدة أيام.
وهكذا تجري المفاوضات، بينما لا زالت تتهاوي القذائف بوحشية على مناطق الغوطة الشرقية، مقابل تساقطها بحماقة على أحياء ومساكن دمشق، في لحظة لا يمكن أن تفهم فيها عقلية السلاح وكيف يحسب القائمون عليه انتصاراتهم، لكن كما هو واضح، لقد أصبحت أرواح المدنيين سلعة رخيصة ووسيلة للضغط على الطرف الآخر.
من جانبٍ آخر، استطاع مجلس الأمن تمرير هدنة انسانية لمدة ٣٠ يوماً على كامل الأراضي السورية، ولكن كما أوضح الجانب الروسي فإن هذا القرار لا يشمل تنظيم داعش ولا هيئة تحرير الشام، مما يُعيدنا من جديد إلى عيوب اتفاقيات ”خفض التصعيد“ التي لم ترحم المدنيين في مناطقها بحجّة محاربة التنظيمات الإرهابية فيها. وفعلاً مع صبيحة تطبيق قرار مجلس الأمن عادت الاشتباكات في محيط الغوطة الشرقية إثر محاولات اقتحامها من جانب النظام السوري في مناطق حرستا وجسرين وحزرما، مترافقاً ذلك مع القصف وتحليق الطيران الذي لم يتوقف حتى الآن.
[/fusion_text][/fusion_builder_column][/fusion_builder_row][/fusion_builder_container]
بواسطة سلوى زكزك | فبراير 27, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
دمشق، سوريا
يمكن وبكل بساطة وشفافية اعتبار مشكلة النقل والمواصلات في مدينة دمشق مشكلة عميقة تُطيح بالقوة النقدية لسكان المدينة. بات لهذه المشكلة ظل ثقيل يُقيد الحركة والتنقل بدءاً من ارتفاع تكاليفها وطول مدة الوقت المهدور بانتظار وسائل النقل إلى سوئها البالغ وتردي نوعية الخدمات التي تصل إلى شروط التنفس داخلها. إنها أزمة خانقة بكل ما في الكلمة من معنى.
أم عبدو سيدة خمسينية تسكن في منطقة الديابية، جنوب شرقي دمشق، والتي تبعد عن منطقة الست زينب حوالي سبعة كيلومترات، وتعمل كمستخدمة في ضاحية مشروع دمر. لا سرافيس (باصات صغيرة) تنقل أم عبدو من مكان سكنها بعد الساعة السادسة صباحاً لأن عدد السرافيس قليلٌ جداً والمنطقة مزدحمة بالسكان الذين لا يملكون سيارة خاصة.
تستفيق أم عبدو في الرابعة صباحاً لتفوز بسرفيس ينقلها من مكان بيتها وحتى كراجات الست زينب وبعدها تستقل سرفيساً آخر حتى جسر الرئيس، ومن هناك تستقل ُسرفيساً ثالثاً نحو مشروع دمر. الراتب الشهري الذي تتقاضاه أم عبدو يبلغ نحو سبع وعشرين ألف ليرة سورية (مايعادل ٥٧ دولاراً)، أما أيام الدوام الفعلية فهي واحدٌ وعشرون يوماً في حين تبلغ الكلفة اليومية للنقل ما بين ٥٠٠-٦٠٠ ليرة سورية يومياً. لذلك بالنسبة لحياة أي شخصٍ ذي إمكانيات مادية محدودة كأم عبدو فإنّ أي يوم غيابٍ وخاصة بإجازةٍ مرضيةٍ يعتبر بمثابة توفيٍر لمواردها الشحيحة قبل أن يكون يوم راحةٍ طبيعياً تستحقه وتحتاجه بشدة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض المناطق مثل الحسينية والديابية والغزلانية والبحدلية وغيرها، تعتمد بشكلٍ أساسي على الهوندايات كواسطة النقل الوحيدة. والهوندايات مكلفة جداً حيث يتقاضى السائقون مبلغ مائتي ليرة سورية عن الراكب الواحد عدا عن أنها مجهزة بمقاعد حديدية ضيقة ارتجلت على عجل لتعويض النقص الحاد في عدد الحافلات (السرافيس) على خطوط تللك المناطق. والمضحك المبكي أنّ أصحاب الهوندايات قد ارتجلوا أيضا أغلاقاً بلاستيكية وباباً للدخول منه درءاً للغبار والمطر والشمس. ولابدّ من ذكر أنّ الحواجز أجبرت السائقين على تركيب لِدات (نوع من الإضاءة التوفيرية) لإنارة صندوق الهونداي كي يتمكنوا من التعرف على وجوه الركاب وهوياتهم. صندوقٌ تحوّل الى حافلةٍ رغماً عنه، وبات يشبه غرفةً أو خيمةً وكأنه ينقص السوريين خيمة وشادر وغلق جديد مضاف إلى عتمة حياتهم التي لا تشبه الحياة.
جاد طالبٌ في كلية الهندسة المدنية ويسكن في ضاحية قدسيا التي نزح إليها مع أهله من مخيم اليرموك، ويضطر عند عودته إلى بيته مساءً إلى ركوب سرفيس من ساحة الأمويين وحتى جسر الرئيس لا لكسلٍ منه فالمسافة بين الساحة والجسر قريبة والمشي الطويل بات سلوكاً يومياً قسريًا وبالغ القبول، ولكنّ جاد مضطرٌ لحجز مكانٍ له في السرفيس المتجه نحو الضاحية مما يجبره على دفع أجرةٍ إضافية. وبالتالي يصبح ما يدفعه جاد يومياً في طبيعة الحال مائتي ليرة سورية، فكيف يتدبر أهله مصروف أبنائهم في ظل كل هذا السعير عدا عن أجرة البيت المرهقة وغير المنطقية أبداً!
ولابد من الإشارة هنا إلى أن غالبية السائقين يرفعون من أجور النقل وقد يضاعفونها بعد الساعة السادسة مساء. مثلاً تصبح أجرة سرافيس مساكن الحرس مائة ليرة بدلا من خمس وخمسين ليرة، وتصبح أجرة سرفيس ضاحية قدسيا مائة وخمسين ليرة بدلاً من خمسٍ وسبعين ليرة. أما سائقو سرافيس مهاجرين صناعة فيرفعون الأجرة إلى مائة ليرةٍ بدلاً من خمسين ليرة وهلمّ جراً، وطبعاً لكل سائقٍ تبريره والكلمة المتعارف عليها: “ إذا موعاجبك نزول!”
ثمة من يقول بأن نصف عدد السرافيس المرخصة قد خرج عن الخدمة بسبب بقائها في المناطق المهجورة كالريف الدمشقي والخاوية من سكانها الذين تركوها بملابسهم وحسب سيرًا على الأقدام. كما أنّ الكثير من الحافلات توقفت عن العمل بفعل الإصابة بالقذائف أو المصادرة أو بفعل غياب أو موت أصحابها. كما نشأت ظاهرة جديدة لسد الفراغ وهي ذات هدفٍ ربحيٍ وحسب، ألا هي ظاهرة التكسي-سرفيس.
غالبًا ما تكون التكسي-سرفيس عبارة عن سياراتٍ خاصةٍ لكنها مرتفعة الكلفة، فمثلاً تبلغ الأجرة من جسر الرئيس وحتى ساحة الرئيس في جرمانا خمسمائة ليرة للراكب، أما التكسي-سرفيس باتجاه الضاحية ومساكن الحرس ومهاجرين صناعة يتقاضى أجراً مقداره ثلاثمائة ليرة للراكب. رغم أنّ هذه الظاهرة قد عوّضت بعض الشيء عن النقص الحاد في المواصلات إلا أنها وسيلة نقل لا قدرة للجميع على الاعتماد عليها، فعدا عن الاختناق المروري الذي يحدث نتيجة توقف عددٍ كبيرٍ منها في أمكنة تضيق على المشاة فكيف بكل هؤلاء الراغبين بربحٍ سريعٍ على حساب جيوب السكان الغارقين في شظف العيش وقلة الخدمات؟
وإن بدا من اللافت إدراج عددٍ لابأس به من الباصات الكبيرة على خطوط النقل العام إلا أنّ عددها لا يكفي ومقاعدها قليلة العدد وحركتها بطيئة عدا عن أن نظام تشغيلها يخضع لأسلوب التعهيد بحسب النسبة، أي نسبة عدد البطاقات المباعة وليس وفق أجرٍ يومي أو شهري محدّد، الأمر الذي يحفّز السائقين على تكديس الركاب فوق بعضهم لتحقيق نسبة أعلى من المدخول العام، وغالبا ما تسمع عباراتٍ آمرة كـ “خود عليك وفوت عالصدر،” أو “ بَعِّد عن الباب،” أو “بَعِّد عن المراية،” أو “إنتو يللي بالنص فوتوا لجوا خلوا هالنسوان تطلع.” أصبحت هذه العبارات طقساً عاماً تسمعها في السرفيس وفي التكسي-سرفيس وعلى المواقف حتى داخل الهونداية حيث يُرتب السائق النساء على جهة والرجال على جهة ليتمكن من زيادة أعدادهم منعاً لاحتكاك جسدي ممنوع شرعاً ومرغوب به تجاريًا كمصدرٍ لربحٍ أكبر.
أما سيارات الأجرة أي التكسي النظامية فهي مشكلة موغلة في تعقيدها لارتفاع كلفتها وتملّصها من أي شكل من أشكال الرقابة، فرغم توقف عدّاداتها عن العمل بإرادة السائق، لا وجود لأية جهة رسمية تُسائل أو تُحاسب المخالفين. ونظرا ً لبعد المسافات وشدة الازدحام يضطر البعض كالنساءٍ والرجالٍ الوحيدين والمسنينّ وأولئك الذين يعانون من ظروفٍ صحية صعبة لاستعمال التكسي حصراً. أما عن أحوال السرافيس والباصات وحتى التكسي من الداخل فهي إهانة يومية بالغة مسكوتٌ عنها في مواجهة الأهم وهو الركوب بهدف الوصول وحسب. فمعظم المقاعد تبرز نوابضها الحديدية لتخز اللحم وتمزق الملابس، النوافذ مغلقة أو من النايلون السميك، بطارية السيارة ملاصقة للأقدام والدواليب ملاصقة لجذع الركاب، مقاعد حديدية ضيقة لمزيد من الركاب، بطانيات الإعانة الرمادية بدلاً من تنجيد المقاعد وتجديدها لدرجةٍ تشعر وكأنك في قبرٍ رمادي لا شيء يميزه سوى شعار المنظمة الدولية للهجرة، هجرة ترافقنا حتى النخاع داخل البلاد وخارجها.
غلاء أسعار المازوت وقلة الكمية الممنوحة للسائقين بالسعر النظامي، الأغاني الهابطة والشتائم، القذارة والروائح القاتلة نتيجة الازدحام وتراجع شروط النظافة الشخصية، توهان الركاب وأسئلتهم المتكررة عن وجهتهم وطلبهم للمساعدة في الهبوط والصعود، أطفال مكدّسون مع أمهم لتوفير ما يمكن من أجرة مقعدٍ بات الجلوس عليه بطراً وامتيازاً لا قدرة للبشر على ممارسته. إنها أزمة يومية خانقة حتى حدود المهانة، ولا شيء يشي بانفراجٍ نسبي يُزيح عن السكان مرارة الانتقال. معاركٌ يومية بأدوات غير عسكرية، لكنها مهينة وقاتلة.
مصدر صورة الهونداي: صفحة هوندايات ركن الدين والصالحية على الفايسوك
بواسطة ختام غبش | فبراير 26, 2018 | Cost of War, Culture, News, Reports, غير مصنف
ضمن ثقافة الحرب وعرفها، لم تكن سياسات إخضاع المناطق وغزوها، وجرائم التطهير العرقي يوماً بالكافية. الحرب لا ترض بما هو أقل من تدمير الهوية التاريخية، شرعنة الأفعال الشنيعة وهدم المجتمعات على رؤوس أبنائها مختزلةً كل ذاك بعاملٍ واحدٍ يقوم على اجتثاث الجذر الأساسي للشعوب وفصلها عن النسيج الأصلي الذي قامت ونبتت فيه.
فالتاريخ الآن عبارة عن كتالوغ مرصوف بتصنيفات تُبنى تبعاً لاندلاع الحروب وسطوتها. قاموسٌ ضخمٌ تتوسع صفحاته باستمرار، يمكن لنا أن نزخرفه وأن نخفف من بشاعته بتنويط الأحرف داخله بموسيقا الطائرات والمجنزرات التي فتكت بأعداد من الضحايا كافية لأن توجد بشرية تبني كوكباً جديداً، هذا القاموس علينا فتحه بين الآونة والأخرى كي نقطع دابر طريقها إلينا.
الحالة السورية لوحدها وخلال السنوات السبع الأخيرة فقط يمكنها أن تُخرج مؤلفاً ضخماً، يحوي أحداثاً يمكن معايرتها وقياس زمن حدوثها بالنانو متر، فليس هناك زمنٌ فاصل بين الحدث والآخر.
بالنسبة لهذا البحث ليس من وظيفته تحليل الأسباب التي جعلت منا شعوباً تصنع أحداثها المفجعة على مدار الساعة. إلا أنني أومن وبشكل مطلق بأن الشعوب لا تتحمل عبء كل ما يجري. “تضييع الهوية التاريخية وتشتيتها جنباً إلى جنب مع تغييب المنهجية العلمية في التعامل مع الحياة والقضايا المصيرية قاد البشر نحو العودة والاستناد إلى الميثولوجيا،”(1) كعامل أساسي يستطيع أن يجيب عن أسئلتها تجاه كل هذه الاستباحة والتهميش الحاصل بحقها. وهذا بدوره سيقودنا إلى نتائج كارثية على كافة المستويات، والتي من شأنها أن تفتك بمقدرات البلد وبتاريخه وارثه الحضاري. اليوم نحن لسنا على تخوم المجزرة، نحن الآن في جوفها، القتل والتدمير هما رواد المرحلة وسياسات التخوين والطعن بالآخر كل ما لدينا. غير آبهين بكل هذه الخسائر والجرائم الحاصلة بحقنا وبحق هويتنا البشرية بكافة تصنيفاتها. لم تنجُ الرقعة الأثرية من فصول الدمار وأعمال السرقة والنهب أيضاً، فبات لها أرشيفها الخاص الذي تطول قائمة التدنيس والتخريب المرتكب بحقها. ويبدو بأننا على موعد مع توسيع لهذه الرقعة حتى تغدو ممسدة المساحة لا يشخص منها حجر واحد.
لم يكن تدمير معبد عين دارة أول خساراتنا وللأسف لن تكون الأخيرة. فبحسب التقرير(2) الذي صدر عن (ASOR) حُدد تاريخ استهداف المعبد بتاريخ 22 كانون الثاني/ يناير (الصورة رقم(1. إلا إن الصور والفيديوهات التي شاهدناها وظهرت للعلن انتشرت بعد هذا التاريخ وبشكل أدق بعد التقرير الذي أعدّته وسيلة الاعلام الكردية (ANHA) التي نقلت الحدث من قلب الموقع المدمر في يوم 27 كانون الثاني/ يناير بعد تعرّض المعبد لغارة من قبل الطيران التركي في خضم عملية أطلق عليها “غصن الزيتون” التي بدأت في تاريخ 20 كانون الثاني/ يناير.
الصورة رقم 1: صور جوية للموقع قبل وبعد الاستهداف حيث يحدد المربع الأحمر المنطقة التي تعرضت للضرر (مصدر الصور: ASOR)
تُذكرنا هذه العملية والترويج لها بالحملات العسكرية في العصور التاريخية القديمة، حيث العمل الدؤوب لإضفاء صفة الشرعية على الحملة التي سيقوم الملك بشنها على الممالك أو المدن الأخرى. فقد لبى (90) ألف مسجدٍ طلب الدعاء لأردوغان في حملته الاخيرة في عفرين وكأننا نرى كهنة معبد إله الحرب (ننجرسو) تبارك المقتلة القادمة وتقدسها. الأهم من ذلك خاصية تأليه الملك التي لا زالت متفشية وجذورها الأولى لازالت متفرّعة وبتوسع كبير. فالتاريخ يجلب لنا الكثير من التفاصيل التي نراها اليوم وكأنها شريط يُعاد ولكن بأدوات جديدة وبنسبٍ تتناسب طرداً مع تطور وسائل القمع والقتل، وعكسياً مع الإرادة الحرة للشعوب.
بالعودة إلى عين دارة فهو موقعٌ جديد يضاف إلى قائمة المواقع التي شهدت الأيام الأخيرة مجزرة بحق الحجارة والقدسية التي وسمت المكان. أحاول في هذا المقال توثيق آثار المعبد ووصف أهميتها التي لن يتسنى للأجيال القادمة للأسف رؤية بعض أجزائه الفريدة التي دُمرت إثر الحملة العسكرية التركية على عفرين والحرب السورية التي أتت على عددٍ كبير من آثار هذه البلاد المنكوبة. كما سأحاول تسليط الضوء على الأجزاء التي تعرّضت للتدمير إثر الضربة الجوية مع التأكيد على عدم كفاية هذا التحليل دون المعاينة المباشرة من قبل آثاريين لتقييم الضرر وتوثيقه ودراسة إمكانيات الصيانة والترميم. وأختتم المقال بالتحدث قليلاً عن زيارة قصيرة للمعبد، لكنها مكثفة في الذاكرة.
موقع عين دارة
يقع في وادي عفرين، الوادي الذي ينحدر في مجراه العلوي من الشمال إلى الجنوب قادماً من دوليشا (عينتاب) ليجتاز موقع تل عين دارة ثم ينحرف نحو الغرب نحو بحيرة أنطاكية. يعتبر هذا الوادي ممراً هاماً يصل سهل أنطاكية بمنطقة عينتاب وبمنطقة حرّان عبر الفرات في البرجيك. وعلى مقربة من عين دارة تقع ممرات متعددة تتجه نحو الغرب وتؤدي إلى ممر بيلان، منفذ سوريا من جهة وإلى الإصلاحية وسنجرلي على سفوح الأمانوس من جهة أخرى، وتعتبر ذات أهمية استراتيجية كبرى حيث كانت تسمح للقادمين من أنطاكية الوصول إلى تل رفعت Arpad)) قديماً وإلى حلب دون المرور من الطريق الجنوبية التي كانت أكثر تعرضأ للهجمات. لذلك فقد جهز هذا الممر بما يحتاج إليه من منشآت دفاعية فنجد أنّ موقع الباسوطة القريب مثلاً كانت محمياً بقلعة محصنة ترجع إلى القرون الوسطى. من المرجح بأن تل عين دارة المرتفع كان محاطاً بسورٍ يرجع إلى العهود البيزنطية أو ربما الهلنستية، وأنّ سوراً كبيراً آخر كان يحميه في العهود القديمة التي سبقت ذينك العهدين(3). و يقع هذا التل على بعد (40)كم شمال-غرب حلب و(7)كم جنوب مدينة عفرين.(1) على الضفة الشرقية لنهر عفرين، أحد روافد نهر العاصي، نبعُ عفرين الذي أعطى اسمه للمكان ويبعد عنه مسافة (800) م شرقاً. تتميز هذه المنطقة الهضبيّة بوفرة مياهها وبأراضيها الخصبة التي شكلت المقومات الأساسية للبنة الاستيطان البشرية الأولى. يحتل موقع عين دارة موقعاً استراتيجياً هاماً حيث يبعد عن موقع عزازا (A-za-za) الأثري (عزاز حديثاً) مسافة (25) كم شمال شرق، وعلى مسافة (30)كم شرقاً من موقع أرفاد (Arpad)(تل رفعت حديثاً)، عاصمة مملكة “بيت أغوشي” الآرامية (4).
لم يكن الموقع معروفاً حتى اكتشاف تمثال ” الأسد البازلتي الكبير” في العام 1955، حيث تم العثور عليه مرتمياً على جانبه المنقوش في الجزء الغربي من التل (الصورة رقم 2). أسطحه تخلو من الكتابات على خلاف الأسد الذي تم اكتشافه في موقع تل أحمر (تل بارسيب قديماً). الذي كُشف لاحقاً عن تل عين دارة الأثري والذي عُدّ من التلال الكبيرة في المنطقة (5).
الصورة رقم 2 : الوضعية التي وجد عليها الأسد
(مصدر الصورة: الحوليات الاثرية السورية، علي أبو عساف).
تبلغ أبعاد التل (125) م باتجاه (شمال- جنوب) و(60) م باتجاه (شرق- غرب) وهو يقع بالقرب من النهر. بينما حددت مساحة المنطقة المنخفضة بـ (270) و(170) م وهي متاخمة للقلعة من جهتي الشمال والشرق. حُدد تاريخ استيطان المنطقة المنخفضة بدءاً من عصر البرونز المتأخر حتى عصر الحديد (II) ( 1200-740)ق.م, أما بالنسبة للتل فلقد حددت سوياته بسبع سويات أثرية بدءاً من عصر البرونز المتأخر حتى الفترة السلوقية (6).
بدأت أعمال التنقيب في الموقع بإدارة المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق خلال الأعوام (1964-1962-1956) بإشراف فيصل الصيرفي والباحث الفرنسي موريس دونان (Maurice Dunand) (الصورة رقم 3). وبعد فترة انقطاعٍ طويلة عادت التنقيبات خلال الأعوام ( 1981- 1980-1978-1976) تحت اشراف علي أبو عساف، في حين جرى مسح المنطقة المنخفضة بين عامي 1984-1982)) من قبل فريقٍ امريكي بإشراف اليزابيث ستون وبول زيمانسكي.
تمثلت أهم الاكتشافات التي قدمها الموقع باكتشاف المعبد الذي ظهر للعلن خلال سلسة التنقيبات التي قام بها علي أبو عساف خلال الأعوام ( 1985-1980).
المعبد
يشغل المعبد الربع الشمالي من التل ممتداً باتجاه جنوب شرق – شمال غرب. دلّت الدراسات الأثرية بأن المعبد قد بني على ثلاث مراحل استمرت على مدار (550) سنة (الصورة رقم 3 ).
الصورة 3: مخطط معبد عين دارة مع مراحل بنائه الثلاث
(مصدر الصورة: Mirko Novak –2010 ).
في المرحلة الأولى تم تشيد المعبد فوق المصطبة الأكثر قدماً، وشهدت المرحلة الثانية إنشاء مصطبة المعبد الحديثة ومجسم المعبد. أما الرواق (Gallery)الذي وجد خلال أعمال التوسعة الخاصة بالمصطبة فقد أُضيف خلال المرحلة المعمارية الثالثة والأخيرة. وتشير الدلائل بأن المعبد بُني في بادئ الأمر مفتوحاً على الخارج، وهذا الطراز من العمارة يشترك بهذه الخاصية مع عمارة المعابد الإغريقية المعروفة بالبِريبتِروس((Peripteros ذات الأعمدة، لكن في المرحلة الأخيرة تم احاطة المعبد وجرى تسيجه بسورٍ خارجي.
ينتمي مخطط المعبد إلى نماذج المعابد المعروفة بـ (( Ante-temple وهي معابد ذات قاعة أمامية سابقة للمصلى، وتُعرف أيضاً بالمعبد البيت. تنتشر أمثلة مشابهة لهذا النموذج في مواقع المشرق الشمالية و بلاد الرافدين الشمالية أيضاً كتل خويرة وتل حلاوة، وإيبلا (تل مرديخ) من عصر برونز وسيط ، و إيمار، وإيكلتا (ممباقة) من عصر البرونز الحديث، وكركميش من عصر الحديد. استمر هذا الطراز المعماري كأسلوب مميز في العمارة “اللوفية ـ الآرامية” خلال عصر الحديد. يختلف نموذج معابد (Ante-temple) بشكل كبير عن نماذج المعابد الآشورية والبابلية من جهة، وعن نماذج المعابد الحثية من جهة ثانية، فهذه المعابد تتميز ببناء داخلي معقد ذو باحة مركزية وعدة غرف إضافية بجانب المصلى.
بني المعبد فوق مصطبة ذات ارتفاع (1.80) م غطيت واجهاتها بلوحات بازلتية حفرت بزخارف لأبي الهول والسباع الرابضة. يبدو بأن هذه المصطبة كانت في الأصل جزء من ساحة مقدسة واسعة تمتد باتجاه الجنوب والجنوب الشرقي. رُصفت هذه الباحة بشكل متناوب بألواح البازلت والحجر الكلسي، وُجد فيها حوض حجري محفوظ بشكل جيد على بعد (14)م جنوباً من زاوية المعبد الشرقية، يُعتقد بأنه قد استُخدم للتقدمات الخاصة بالسوائل. يتم الدخول إلى مصطبة المعبد عبر مدرج حجري عرضه (11)م مؤلف من أربع إلى خمس درجات من الحجر البازلتي المزنرة بالضفائر. تُظهر الصور الحديثة للموقع والملتقطة بين 27 و 29 من شهر كانون الثاني 2018 بعد استهدافه بغارة جوية تركية، بأنّ الدرجات لاتزال قائمة في مكانها ويبدو بأنها تحتفظ بملامحها الأساسية التي وجدت عليها مع بعض التخريب والانكسارات التي لا يمكن تحديدها بشكلٍ دقيق دون معاينة مباشرة من قبل أخصائيين. بينما بيّن تحليل الصور الفضائية للموقع تعرّض الجزء الجنوبي والجنوبي الشرقي من الواجهة للدمار، ونتج عن الاستهداف تهشم وتحطم التماثيل التي كانت تشكل واجهة المعبد في الجهات الخارجية المذكورة.
بالنسبة لمدخل المعبد فيتألف من كوة واسعة في الجهة الجنوبية الشرقية ذات دعامتين، يدل وجود قاعدتين دائرتين بازلتيتين على احتمالية وجود أعمدة خشبية بين الكوة والسقف مغطيةً بذلك الكوة. ومن هذه الكوة ننتقل إلى أجزاء المعبد الداخلية حيث القاعة السابقة لقدس الأقداس (غرفة ماقبل المصلى أو Antecella) مستطيلة الشكل وبعمق ((6.55 م. ننتقل منها إلى القاعة الرئيسة قاعة قدس الأقداس “المصلى” ( (Cella مربعة الشكل بأبعاد ( (16.70 x16.80 م (الصورة رقم 4).
الصورة رقم 4: مشهد للمعبد من الجهة الجنوبية
(مصدر الصورة: Mirko Novak –2010 ).
لقاعتان مرصوفتان بألواحٍ من الحجر الكلسي. يُشير التقرير الذي نشره مؤخراً مرقاب التراث الثقافي الصادر عن المدرسة الأمريكية للبحوث الشرقية (ASOR)إلى تعرض كل من القاعة الأمامية والقاعة الرئيسة للدمار (الصورة رقم 5).
الصورة رقم 5: المعبد محدد بمربع أحمر يحدد المساحة التي تأثرت جراء الاستهداف
(مصدر الصورة تقرير ASOR – 2018).
أما العتبات فقد شكلت من كتلٍ من الحجر الكلسي، اثنتان منها غطت مدخل قاعة ما قبل قدس الأقداس، وعتبة واحدة غطت مدخل القاعة الرئيسة. حملت الأولى طبعات قدمين كبيرتين متوازيتين وأبعادها ((97×35 سم، في حين غطت الثانية طبعة لقدم اليسار وبنفس القياس تقريباً، العتبة الثالثة حملت طبعة للقدم اليمنى. تعتبر طبعات الأقدام من التصاوير الفنية النادرة في منطقة الشرق الأدنى القديم. بالنسبة لهذه الطبعات في الوقت الحالي تشير المعلومات والمعاينة النظرية للصور الملتقطة للموقع إلى تعرّض هذه الأرضيات للتخريب بشكلٍ شبه كامل، يبقى ذلك غير مؤكد قبل إجراء عمليات التقييم المباشرة من قبل الاختصاصين (الصورة رقم 6).
الصورة رقم 6: درجات المعبد قبل وبعد الاستهداف بغارة جوية تركية.
(مصدر الصورة: Hawar News; January 27, 2018 وتقرير ASOR – 2018).
طبعات الأقدام
شغلت طبعات الأقدام (7) المحفورة في معبد عين دارة الباحثين كونها من التصاوير الفنية النادرة في منطقة الشرق الأدنى القديم والأمثلة عليها نادرة جداً (الصورة رقم 7). إلا أنه تم العثور على ما يأتي على ذكرها ويعود تاريخ أقدم هذه الشواهد إلى عصر البرونز حيث تم العثور في موقع تل براك الأثري* على أختام اسطوانية يعود تاريخها إلى (3300-3050) ق.م. تصور هذه الأختام “زوجاً من الأقدام العارية تلتف عليهما أفعى”. قدمت الباحثة إديث بورادا (Edith Porada) تفسيراً بأنّ دلالة التصوير تهدف إلى التنويه والتحذير من ترك القدمين من دون حذاء. في حين رجح بعض الباحثين على أنّ سلوك انتعال القدم أو خلوها من الحذاء مرتبط بالمكانة الاقتصادية والاجتماعية، ووفقاً لهذا التفسير فإن الحذاء يرمز للفروقات الطبقية وقد عثر على ما يشبه ذلك في النصوص المقدسة. وفي روايةٍ أخرى عندما واجه موسى العليقة المشتعلة ناداه صوتٌ عند محاولته الاقتراب منها “لا تدنُ إلى هنا، اخلع نعليك من رجليك، فإن المكان الذي أنت قائم فيه هو أرض مقدسة” (سفر الخروج: 5:3) ويستمر الرب ويعيد طلبه. فُسر هذا الطلب من قبل رجال الدين بأن الأرض ملكٌ للرب، مكرسةٌ له، حيث أنّ ارتداء النعل على أرض معينة يعني في التقاليد العبرية الامتلاك. الضيف عندما يدخل يخلع من قدميه كرمز إلى أنه ضيف سلام. وعلى ما يبدو فإن هذه الروايات مستقاة من نصوص مدينة نوزي (يورغان تيه الواقعة جنوب شرق مدينة كركوك) حيث جاءت بعض النصوص على ذكر ظاهرة الانتعال أو عدمه وربطها بخاصية الاستحواذ والامتلاك أو التنازل.
وإذا ما وسعنا دائرة البحث خارج نطاق منطقة الشرق الأدنى القديم باتجاه ثقافات أخرى، فسنجد بأنّ معبد عين دارة لم يكن المكان الوحيد الذي احتوى هذا النوع من التصاوير. فلقد جسدت طبعات أقدام بوذا في الأحجار تاريخاً طويلاً في حياة الهند ومنطقة جنوب شرق أسيا، وظهرت بأشكال ودرجات متفاوتة في التعقيد. أكثر الأدلة قدماً تلك التي تعود إلى ( القرن الأول ق.م) القادمة من “” Tirat والمحفوظة في متحف ” Swat “. حيث تمثل طبعات نحتت بطريقة قريبة من الطبعات الواقعية التي قُدست بتقديم ممارسات السجود إليها. وفوق قمة آدم في (Samanala) في سيرلانكا طبعة قدم نادرة وهامة وذلك لدلالتها الرمزية والمشتركة ما بين أربع ديانات. فالهندوسية قدستها باعتبارها طبعة قدم شيفا (shiva) آلهة الخلق، في حين نسبها البوذيين إلى بوذا. أما مسيحيو سيرلانكا فنسبوها يجدون بها طبعة قدم القديس توما (St. Thomas) المبشر الذي أدخل المسيحية إلى سيرلانكا، بينما ينسب المسلمون طبعة القدم إلى آدم أثناء وقوفه على قمة الجبل بزمن قدره ألف سنة (كتكفير عن الذنوب).
الصورة رقم 7: العتبات الحجرية في مدخل المعبد وتظهر عليها طبعات أقدام محفورة.
(مصدر الصورة: مايكل دانتي، حزيران 2010)
المنحوتات:
كان عدد منحوتات الواجهة ست منحوتات وهي عبارة عن زوج من أشكال أبي الهول على جانبي الدرج أحدهما ملتفت نحو اليمين والآخر نحو اليسار وخلف كل واحد زوج من السباع متقابلان يلتفان كذلك يمنة ويسرى (الصورة رقم (8-9. لأبي الهول رأس فتاة وجسد أسد ذي جناحين، الشعر طويل ومرفوع نحو الخلف تبدو منه عقيصتان على جانبي العنق، المفاصل بيضوية ليس لها الشكل الحقيقي (الصورة رقم 10). تبرز هنا خاصية الايجاز الشديد في تفصيل العناصر التشريحية. يختلف أبي الهول عن الأسد في كون الأول مجنح بينما الأسد غير مجنح، ومُثل الأسد وهو يزأر. كوّنت هذه المجسمات لوحات الواجهتين الجانبيتين والواجهة الخلفية والمصطبة ومدخل الرواق وعددها (72) منحوتة. يكمن الاختلاف بأنّ منحوتات الواجهة صُورت بحجم أكبر وزيادة بأعداد المخالب لأسبابٍ ربما تتعلق بتكثيف الاحساس بالرهبة والخشوع قبل الدخول إلى المعبد (8).
الصورة رقم 8: تمثل الأسود الرابضة في واجهة المعبد وواجهة المصلى.
(مصدر الصورة: علي أبو عساف- 1990).
الصورة رقم 9: تمثل الأسود الرابضة وأبو الهول في واجهة المعبد
(مصدر الصورة: موقع Archaeology in Syria ).
الصورة رقم 10: نحت لأبي الهول.
(مصدر الصورة: علي أبو عساف- 1990).
حددت منحوتات الرواق فقط في كل من جانبيه ب( (30منحوتة لم يبق منها غير كسرٍ جاثمة فوق قواعدها أو متناثرة فوق الرواق، ويبدو أن هذا التشابه يقصد به عدم اظهار الاختلاف بشكل جلي. زين محراب المنصة بمجموعة من القطع البازلتية سماكتها أكبر من سماكة الألواح الأخرى عددها سبعة، احتوت خمس منها على عنصرٍ نقشي مشترك ُيصور إله الجبل بلحيةٍ طويلة ويرتدي تاجاً ذي قرون، في حين تنوّع مرافقيه بين مخلوقات مركبة وتجسيد الثور (الصورة رقم 11).
الصورة رقم 11: منحوتات تصور إله الجبل ومرافقيه
( مصدر الصور: علي أبو عساف، 1990)
تمثلت درّة المنحوتات بلوحةٍ من البازلت مشوهة في بعض أجزائها، عُثر عليها في الحافة الجنوبية الغربية للجدار الواقع بين القاعة الرئيسة والقاعة الأمامية السابقة لها. يجسد النحت صورة لامرأة (تمثل عشتار) ملتفتة باتجاه اليمين، ترتدي معطفاً طويلاً ذي حزام وفتحة في جزئه السفلي. الساق اليمنى جرى تغطيتها بينما اليسرى صُورت دون غطاء إلى جانب تجسيد العضو الأنثوي الذي صور فوق الغطاء. رأسها وكتفيها (الكتف الأيمن) غير محفوظين بشكل جيد. تبرز السهام من كتفها الأيسر، الجعبة خلف ظهرها وهي تمسك سلاحاً بيدها اليمنى في حين تمسك باليسرى عصىً ظاهرها مزوق بصفوف من الدوائر والخطوط المنكسرة وداخلها مقسم إلى حقول (الصورة رقم 12). ومن المنحوتات الهامة ايضاً منحوتة تجسد رأس امرأة ترتدي تاجاً يطغى على الوجه له قرنان وعروة خماسية يزينه شريط من الورود (الصورة رقم 14).
الصورة رقم 12: منحوتة عشتار
مصدر الصورة: دراسة ميركو نوفاك نقلاً عن اورتمان، (1993)
الصورة رقم 13: نحت لرأس امرأة
( مصدر الصور: علي أبو عساف، 1990)
تُظهر الصور الواردة من الموقع بعد استهدافه أنّ قاعدة مسلة عشتار الموجودة في صدر المعبد (في الجهة الشمالية منه) قد نجت من التدمير. لكنّ السطح الخارجي للمسلة متضرر بفعل العوامل الجوية عبر الزمن.
المواضيع الأخرى المنقوشة
بالإضافة إلى النقوش السابقة تضمنت المنحوتات النافرة تمثيلاتٍ متنوعة كضفائر زخرفية، الشجرة المقدسة، الانسان الجالس على كرسي وهو يمثل بلا ريب إلهاً يستعد لاستقبال القرابين والهبات، عملاقاً وهو يروض ثوراً إلى جانب الكثير من المواضيع. ويبدو بأنّ المعبد كان يجمع في مواضيعه النحتية والتشكيلية بين أمرين: أولهما يكمن في تكريس صفة الالوهية ورمزيتها المشتركة بين أغلب مناطق الشرق الأدنى القديم من تصوير الأسود التي رأيناها مسبقاً في ملاحم بلاد الرافدين والأناضول إلى جانب وادي النيل، وبين استنباط العديد من المواضيع الزخرفية من البيئة المحلية التي وجدت ورسخت من الطابع القدسي للمنطقة. من الأمثلة على هذه المواضيع: الإله الموجود في أنصاب عين دارة حيث جُسد كإله الشمس الذي يظهر من وراء الجبل أو على الأرجح بأنه إله الجبال. ويؤيد ذلك ما نجده في أختام بلاد الرافدين حيث نرى قرص الشمس يظهر خلف الجبال بعد أن يفتح له تابعوه باب الليل على مصراعيه الكبيرين. ويوجد ما يشبه هؤلاء الجن الذين يساعدون إله الشمس في اللوحتين المكتشفتين في تل حلف مثلاً، حيث مُثل عليهما جنيان ملتحيان بجسد ثور ويحملان قرص الشمس المجنح كما في اللوح الجميل المحفوظ في متحف حلب. أما الجنيين المجنحين هنا فلهما شكل انسان وغير ثابتين بل يتحركان ويركضان ليرافقا الشمس في حركتها. سواء تم الأخذ بتحديد الإله بأنه إله الجبال (تيشوب) الذي يقوم هو وتابعوه بمساعدة إله الشمس وهو غير ظاهر فإنه يمكننا ربط فكرة التابعين في أنصاب عين دارة وفي نصبي تل حلف جميعها بفكرة دينية .
كما تميزت هذه المنحوتات أيضاً بتشاركها مع منحوتات بوغازكوي (حاتوشا) عاصمة الإمبراطورية الحثية الواقعة في شمالي وسط الأناضول التي لا تبعد عنها كثيراً، وتمثالها من حيث أسلوب دمجها كعنصر معماري وفني بالإضافة إلى طريقة النحت بشكل نافر وهذا ما أدى إلى سهولة تفتتها وانفصال أجزائها عبر الزمن. ويُعبتر هذ الأسلوب النحتي والمعماري من الأساليب الشائعة ومن المميزات الأساسية للفن الحثي إلى جانب استدارة المخالب الذي سمح بالتأريخ رغم عدم العثور على أية كتابات في مواقع عين دارة. فقد جرى تقريب تأريخ هذه المجموعات بالمقارنة مع مكتشفات المواقع المجاورة في تل طعنات، سنجرلي، كركميش، والباب الكبير في ملاطية. ولا بد من الإشارة بأنّ اكتشاف معبد إله الطقس حدد في قلعة حلب على يد البعثة السورية -الألمانية المشتركة بين عامي (1996 -2004) قد لعب دوراً كبيراً في تحديد الفترة التي تم خلالها تشييد المعبد نظراً للتشابه الكبير من حيث المواضيع وأساليب النحت، إضافة إلى التشابه الكبير بين قاعة قدس الأقداس في عين دارة ومعبد حدد في قلعة حلب.
نهايةً لا بد من التذكير بأنّ خاصية وجود حرم كبير يقوم على مصطبة تحيط به وتتجاوز أطرافه كان نمطاً معمارياً شائعاً في معابد بلاد الرافدين وشمالي سوريا في فترة الألف الرابع والثالث قبل الميلاد، وفي هذا الخصوص يمكننا العودة لدراسات عالم الآثار العراقي نائل حنون ((9. كان لهذه المصطبة في معبد عين دارة وظيفتان الأولى معمارية والثانية مبنية لتحمي الحرم وتزوده بالحراسة اللازمة عن طريق الأسود والسباع.
أخيراً أود أن أشير بأنّ أعمال التنقيب في موقع جنديرس القريب من معبد عين دارة التي كان لها الفضل بتعريفي على المعبد. كان ذاك في صيف العام 2008 خلال رحلة التنقيب بإدارة الدكتور عمار عبد الرحمن.
زيارة معبد عين دارة
مجرد زيارةٍ قصيرة للمكان كانت كفيلةَ باستباحة التفكير والسيطرة عليه من قبل تلك المجسمات والتماثيل الشاخصة التي كانت تتشبث به وتحمي ما تبقى منه. للوهلة الأولى شعرت أن وظيفة هذه المنحوتات مازالت تعطي نتائجها حتى ولو بعد ثلاثة آلاف عام.
لأول مرة أجد في نفسي رغبةّ عميقة للصلاة، فلهالة الأنصاب الضخمة وروعة المنحوتات ما يوحي بالقداسة، وذلك على الرغم من تلاشي العديد من تفاصيلها وزخارفها التي غاب أغلبها، إلى جانب أن بعض المنحوتات كانت مهشمة الرؤوس والأطراف السفلية.
بالنسبة لنا خسارة اليوم لم تكن وليدة اللحظة وإن كانت أفدحها. فعند الدخول والمرور في حرم المعبد والتمعن بالوضع الذي آل إليه آنذاك جرّاء الإهمال أدركتُ حجم الانكسار والفاجعة التي حلت بمنحوتاتٍ لا تقل شأناً عن أهالي هذه البلاد. أما كانت هذه الآثار الفريدة لتستحق أن تُحفظ وتقوم في متاحف تُقدر قيمتها؟ للأسف باتت ذاكرة هذه البلاد عرضة للاستباحة والتدمير والتجارة من كل حدبٍ وصوب. إلا أنّ هذه البلاد لا تنسى ولا تُمحى ملامحها قطعاً فمازالت تحتضن في سوياتها ما يشهد ويفوق كل هذه الأدوات البشعة والوحشية التي تسعى لاجتثاثها وسلخها عن نسيجها الأصلي.
الهوامش:
1 – اندرسن، بندكت. الجماعات المتخيلة ( تأملات في أصل القومية وانتشارها)- ترجمة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.
2 – توثيق الأضرار تم بالاعتماد على الدراسات الحديثة التي قام بها المعهد الأمريكي للدراسات الشرقية (ASOR) : UPDATE: Ain Dara
والتقرير الذي أعدته وكالة أنباء هوار: طائرات الاحتلال التركي دمر تل عين دارة الأثري
والتقرير الذي أعدته شبكة كوردستان 24:
WATCH: Turkish shelling destroys iconic Iron Age temple in Syrian Kurdistan
3 – الصيرفي، فيصل؛ كيريشيان، آغوب؛ ودونان، موريس: الحوليات الأثرية السورية (حفريات أثرية في عين دارة) العدد الخامس عشر 1965.
Novak, Mirko. The Temple of Ain Dara in the Context of Imperial –4
And Neo-Hittite Architecture and Art. “Temple Building and Temple cult.” Proceedings of a Conference on the Occasion of the 50th Anniversary of the Institute of Biblical Archaeology at the University of Tübingen (28 – 30 May 2010), Band 41, (41-50).
5 – الصيرفي، فيصل: الحوليات الأثرية السورية (الموسم الأول في عين دارة) العدد العاشر 1960.
6 – Oxford Encyclopedia of ancient Near East, (Ain Dara) Oxford university 1997-7 Volume 1, (38-37)
7 – لمعرفة أكبر عن الموضوع يمكن الرجوع للمقالة: The Riddle of Ishtar’s Shoes: The Religious Significance of the Footprints at ‘Ain Dara from Comparative Perspective ” THOMAS, Paul brain”.
8 – أبو عساف،علي: فنون الممالك القديمة، دار شمأل، 1993.صـ 185-181-180
9 – حنون، نائل: مهد الحضارة ” خصائص عمارة المعابد في عصر اوروك الأخير وجمدة نصر” المديرية العامة للآثار والمتاحف- العدد (9-8) صـ 26