بواسطة Louay Salman | مارس 8, 2018 | Cost of War, Culture, غير مصنف
همّشتْ الحرب الدائرة المثقفين السوريين وأنواع الفنون الثقافية، وحُرم الكتاب والمثقفون المقيمون في الداخل، رغم ظروف الحرب، من المشاركة في المهرجانات والمعارض والأنشطة الثقافية العربية. كانت القطيعة داخلية وخارجية، وقد أدت إلى حرمان الجمهور من الاطلاع على كافة الإصدارات الجديدة من كتب ومجلات كانت تأتي إلى العاصمة السورية بشكل دوري قبل الحرب. واليوم نجد أنفسنا أسرى العالم الإلكتروني – في الأوقات التي تأتي فيها الكهرباء – باحثين عن كتاب أو مجلة أو صحيفة لنطلع من خلالها على ما يدور من أحداث ونتاج ثقافي لم يعد يصل إلينا كمنشورات ورقية.
المقاهي تعود جزئياً
عاد لبعض المقاهي الدمشقية ألقها وتحولت إلى مواقع للتواصل الاجتماعي بعد أن هجرها الكثير من المثقفين صوب العالم الافتراضي. تجد غالبية المهتمين من روائيين وكتاب يحرصون على تواجدهم في المقاهي الشعبية للمشاركة بحوارات وندوات ارتجالية للبحث في ظاهرة أو النقاش حول إصدار جديد رغم أن أبرز ما يسيطر على الجلسات هو الوضع الأمني والتطورات السياسية، لكن أغلب المثقفين يغيبون عن فعاليات ثقافية منظمة تطلقها المؤسسات الرسمية، وهي لم تخرج عن شكل الصالونات الثقافية التي كانت منتشرة في سورية قبل عقود، لكن من دون أن يكون هناك أي اتفاق مسبق على المواضيع التي ستطرح أو تناقش أثناء هذه الجلسات الودية والتي نادرا ما تصل إلى سبعة أفراد.
إعادة تدوير
المطالعة على ضوء الشموع في ساعات الليل هي ما يميز ليالي المثقفين السوريين، كثير منهم عاد لقراءة كتب كان قد قرأها سابقاً، أو قراءة كتب مركونة في مكتبته المنزلية ولم يسمح له الوقت للاطلاع عليها في زمن الكهرباء والتواصل الاجتماعي، حتى زمن الكتابة على الورق عاد وفرض نفسه بقوة. ولم يعد البعض يرزح تحت رحمة التيار الكهربائي، المهم أن لا يتوقف عن الفعل.
هناك قسم كبير من المثقفين بدأ يرتاد مكتبات الرصيف للبحث عن كتب قديمة أو كتب ترفض المكتبات وضعها على رفوفها ليطفئ عطشه الثقافي، إعادة تدوير ثقافية لصحف ومجلات صادرة في عشرينات وثلاثينيات القرن المنصرم.
ورغم الكثير من العراقيل هناك من يصر على إنشاء حركة ثقافية ولو على الصعيد المحلي، القاص خضر الماغوط قال: “ما زلنا نتابع الحياة الثقافية والأدبية، عن طريق الندوات والمحاضرات والملتقيات الخاصة التي أحدثتها الحرب في العديد من المناطق السورية، غير خاضعين للظروف القاهرة والصعبة التي تصادفنا،” مؤكدا على “أن المقاطعة الدولية والعربية المفروضة على سورية لم تكن مقاطعة اقتصادية فقط، بل هي مقاطعة لكل نواحي الحياة بما فيها الثقافية، فلم يعد يصل من دور النشر الخارجية إلى سورية كتب، مجلات، صحف، دوريات أو حتى تبادل للوفود الثقافية بين سوريا والعالم الخارجي. تُوجه إلينا دعوات لمهرجانات الرواية والقصة من قبل المنظمين في الدول العربية، لكن السياسة تحرمنا من المشاركة ولا تمنحنا سمة دخول.”
يضيف أن المكتبات وأكشاك بيع الصحف أصبحت خاوية تماماً من كل ما هو جديد. وبالطبع افتقدنا جميعاً إلى الكثير من الصحف والمجلات التي كنا نتابعها وفقدناها فجأة، وكان من الممكن أن يحدث تصحر ثقافي بالكامل لولا وجود الكتب والجرائد والمجلات الورقية بما يعادلها من النسخ الإلكترونية عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت في متناول الأغلبية من المهتمين رغم بعض الصعوبات أحياناً.
هناك دوريات ليس لها مواقع على الشبكة العنكبوتية، وأخرى لا تزود مواقعها إلا بعناوين الموضوعات، إضافة إلى قلة عدد الصحف والمجلات السورية، حتى الصحف التي تصدر غاب عنها زوايا الثقافة والفكر والأدب والإبداع لسببين، أولهما أن الجريدة الرسمية تخصص أغلب صفحاتها لمواضيع تخص الحرب والصراع في المنطقة، وغابت عنها الصفحات الثقافية، إلا في ما ندر، أما الصحف والمجلات الخاصة فنجدها جنحت إلى الاهتمام بالدعاية والإعلان التجاري، أضف إلى ذلك الشللية والعلاقات الخاصة، فلا يجد الكاتب مكاناً له طالما هو بعيد عن الشلل واللوبيات الثقافية، هذا ما يحدث أيضا في الجرائد والمجلات الحكومية، التصحر موجود في العلاقات بين المثقف والصحف المحلية، أكثر مما هو ناتج عن غياب الصحف والمجلات الخارجية، لكن رغم الإمكانيات البسيطة والثقافة والوعي، استطعنا تجاوز المعوقات التي تسعى إلى توقف حياتنا الاجتماعية والفنية والثقافية وما زال هناك وسائل لاستمرار الحياة الثقافية، رغم قساوة الظروف التي خلقتها الحرب وتخلقها في كل لحظة.
الشاعرة عبير سليمان تؤكد على استمرار علاقتها مع الكتاب رغم أنها فوضوية نوعا ما: “قبل الحرب كنت أحرص على اقتناء الإصدارات الجديدة وأثابر على القراءة، أثناء الحرب أقرأ مجموعة من الكتب وبشكل عشوائي من غير أن أنتهي من قراءتها أنهيت بعضها فقط، الكتب التي أحرص على قراءتها وأنتهي منها في يوم واحد كتب الشعر ربما لأنها الأقرب وجدانيا.”
أما فيما يخص دور النشر الخارجية لم يعد يصلنا الجديد، أحيانا نستطيع الاطلاع على النسخ الإلكترونية للأصدقاء خارج سورية، أما الكتب الأخرى فنعرف عنها من خلال ما تكتب عنه الصحافة. في سورية دور النشر مستمرة وثمة أزمة إعلانية، لا أحد يلقي الضوء على الأسماء والإصدارات الجديدة، ودور وزارة الثقافة خجول بالنسبة للكتاب كما النشاطات الأدبية شبه المعدومة، ولولا التواصل الافتراضي بين الكتاب والشعراء لاعتقدنا أن أنواع الأدب أصابتها قذيفة ولفظت أنفاسها الأخيرة.
الكاتب والفنان التشكيلي أيمن الدقر قال: “لا أعتقد أن التصحر الثقافي بسبب الحرب، التصحر قائم أصلا عند معظم الناس. لا أعتقد أن هناك عائلة سورية لا تمتلك مكتبة منزلية، وهناك مكتبات تزخر بكتب مهمة وعشرات الكتب التي تحمل توقيع مؤلفها وأجزم أن أحدا منهم لم يقرأ إلا صفحة الإهداء.” لكن بشكل خاص وإن كنا نريد الحديث عن النخبة أو القارئ الحقيقي، أعتقد أن أغلب ما كان يرد من مجلات لا يستحق القراءة أما الكتب فهناك ما يستحق المطالعة والاقتناء، غير أن غالبية الدوريات التي كانت تصل ورقية كالصحف حجزت لها مكانا على صفحات الانترنت، ومن يريد فعلا أن يقرأ ويتطلع إليها يستطيع ذلك بسهولة باستثناء القليل ممن لم يتصالحوا مع التطور التكنولوجي وما يزالون يستخدمون القرطاس والقلم جازماً أن أسباب التصحر الحقيقية بدأت قبل الحرب. يسأل: “أين كتب الطفل ومجلات الأطفال واليافعين؟.” الطفل استبدل الكتاب بجهاز خليوي وألعاب إلكترونية، مع تطور عالم الميديا والقنوات الفضائية التي تعمل على خلق ثقافة جديدة أرهقت الإنسان العربي وجعلته غير قادر على تنمية ميوله الثقافية وتركته رهينة القلق والخوف من المستقبل.
من جسر فكتوريا إلى جسر جورج واشنطن
عمار شاهين صاحب بسطة لبيع الكتب، قال لنا: “بالطبع هناك مشكلة بالنسبة للإصدارات الجديدة التي لم يعد يصل أغلبها، لكن ذلك لم يؤثر بشكل كبير، هناك آلاف الكتب المهمة التي تستحق القراءة ولم تطلع عليها الأجيال الجديدة، وهي موجودة لدينا بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي تصدر وغير مهمة.” ويرى شاهين أن الكتب القديمة والمجلات مضامينها أهم بكثير مما فقدناه من الكتب والمجلات الحديثة التي لم تعد تصل أثناء الحرب، مضيفا: “هل يمكن مقارنة مجلة شعر أو الآداب بالمجلات الثقافية التي كانت تأتي من الخليج وكتب التنفيعات. كنا دائما نرفض شراءها ووضعها ضمن مجموعتنا، حتى الإصدارات القديمة من المجلات السورية – مجلة المعرفة – أهم بكثير من الأعداد الجديدة التي تصدر اليوم من المجلة ذاتها، لدينا الكثير الكثير من أمهات الكتب القيمة التي لا يمكنك أن تجدها أصلا في أشهر المكتبات السورية، لكن ما زال البعض يتعامل مع مكتبة الرصيف بتعالٍ خاصة، ولم تهتم الحكومات بمكتبات الرصيف وتمنحها أكشاكاً خاصة بها كما منحت بعض المهن اليدوية وبائعي السجائر.
عادل صاحب بسطة صغيرة في مدخل بناء يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والمجلات، لكنه اليوم يضع كتباً قديمة ومجلات قديمة نادرا ما يجد راغبا لها. يقول: “اليوم يعرض علينا كتب ومجموعات أكثر مما يطلب منا، أكثر من شخص طلب مني أن أبيع له مجموعات أدبية، وموسوعات كان اقتناها في زمن الرخاء، اليوم رغم ارتفاع سعر الورق والتجليد الفني سعر تلك المجموعات أقل لكن لا أحد يقبل أن يقتنيها، المهتمون بالكتاب والثقافة لا يملكون المال، وأصحاب الأموال لا يعنيهم إلا المجلات الفنية وأخبار الموضة،” نعم هناك جفاف وتصحر و”تقحل” حسب تعبيره.
أبو مهيار الميداني لديه عروض للكتب المستعملة، لكن الكتب القيمة مغلفة يضعها جانبا في صناديق كرتونية، مجلات مسرحية وسينمائية تعود إلى أيام الوحدة بين سورية ومصر، مجلدات ضخمة، أعداد قديمة جدا لمجلات مصرية ولبنانية، جهة مخصصة للكتب الصادرة عن دور نشر عراقية، للوهلة الأولى تعتقد أنه مجرد بائع “كومسيون” يشتري ويبيع الكتب المستعملة، لكن ما إن تبدأ الحديث معه حتى تجده يكبر ويكبر حتى يملأ الفراغ تحت جسر فكتوريا. يكاد رأسه يوازي الجسر، تكتشف أنه ليس مجرد بائع أو مطلع يرشدك إلى الكتب المهمة، يقدم شرحا وافياً عن كل كتاب، حتى الكتب غير الموجودة لديه يقدم لمحة عن المؤلف وأهم ما صدر له بما فيها الكتب المترجمة، تكتشف لا حقا أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. يقول: “ما تشاهده عندي مجرد جزء مما كنت أملكه من الكتب، المكتبة التي فقدتها مع منزلي وابني المخطوف في حي “عين ترما” كانت تضم خمسة عشرة ألف كتاب وكلها كتب مهمة، سأبيع ما بقي لدي من كتب وأهاجر إلى أمريكا، لدي موافقة من قبل الحرب لكن لم أسافر، اليوم لم أعد أملك إلا القليل من الكتب.
دور النشر والمكتبات
بعض الدور لا تصدر عنواناً واحداً في العام، وبعضها تعيد طباعة ما نشرته سابقاً. الدور العلمانية وبعض الدور الدينية ما زالت تحافظ على نشر كتب جديدة، الكل يحاول الحفاظ على وجوده رغم المتغيرات السياسية، وكثيرة هي العناوين التي يعاد نشرها، أو تقوم بعض الدور بطباعتها على نفقتها الخاصة إكمالا لمشروعها غير المعلن. بالمقابل هناك الكثير من دور النشر توقفت عن العمل بسبب الظروف الاقتصادية التي فرضتها الحرب، ودور عمرها بعمر الحرب لم تطبع كتابا واحدا، وأخرى قديمة تعيد طباعة عنوان واحد فقط. كلفة طباعة الكتاب الواحد اليوم توازي طباعة ستة كتب في العام الأول من الحرب وذلك بسبب غلاء الورق والأحبار والمواد التي تخضع لانخفاض سعر الليرة، وهذا برأي الكثيرين سبب إحجام البعض عن اقتناء الكتاب اليوم، والذي لا يتناسب سعره مع دخل الفرد. كما يلجأ بعض الكتاب لطباعة مؤلفه على نفقة المؤسسات الرسمية من غير أن يدفع ليرة واحدة لكنه يقع في مشكلة الحذف والرقابة التي ترفض غالبا ما لا يتوافق مع مزاج الرقيب.
العناوين الجديدة
العناوين الجديدة قليلة نسبياً في أي مكتبة مختصة. يتصدر الواجهة كتب الصراعات السياسية والحروب، وكتب تروي سيرة بعض الحكام الذين أثروا في العالم أثناء فترة حكمهم. الرواية تحتل المكتبات لكن أغلبها إصدارات قديمة ومحلية، الكتب والروايات التي تطبع في دول مجاورة لكتاب سوريين من غير الممكن أن تجدها على رفوف مكتبة بسبب غلاء ثمنها والاحتكار الذي تمارسه الدور الخارجية على المؤلف حين تكون الطباعة على كلفتها.
يرجع صاحب مكتبة نوبل المشكلة إلى غياب الكثير من العناوين الجديدة بسبب فرق الأسعار ودخل الفرد يقول: “إن دخل الفرد في الحرب لم يعد يسمح له باقتناء كتابين، جميع أنواع الكتب السورية تضاعفت أسعارها ثلاث أو أربعة أضعاف بما فيها الكتب القديمة كونه لم تعد تتكرر طباعتها، غير أننا لم نعد نستطيع تلبية رغبة القارئ بأنواع الكتب التي تصدر في دور نشر خارج سورية لعدة أسباب أولها فرق السعر وانخفاض سعر الصرف، وأجور الشحن الغالية نسبياً، الأمر الذي يضاعف سعر أي كتاب إلى عشرة أضعاف سعره في السابق، حتى أننا لم نعد قادرين على شراء عناوين جديدة لوضعها في الواجهة ولا أحد يسأل عنها، الكثير من المهتمين يسألون عن أسماء وعناوين لكنهم يحجمون عن شرائها، وللأسف لم يعد يوجد نهم للقراءة بسبب ظروف الحرب، للأسف الثقافة لم تعد أولوية عند المواطن السوري. وبعد بدء الحرب الكثير من المكتبات أغلقت أبوابها ومنها ما تحول إلى مطاعم للوجبات السريعة ولبيع إكسسوارات الهاتف الخليوي.”
لم تتوقف الجهات المعنية بالثقافة والكتاب عن العمل طيلة فترة الحرب سواء في طباعة المؤلفات السورية، أو ترجمة المؤلفات من لغات أخرى، محاولة أن يكون سعر الكتاب متماشياً مع دخل الفرد رغم الزيادة التي طرأت عليه خلال الخمس سنوات الماضية، حتى أنه بإمكان المهتم ترقب المعارض الصغيرة الدائمة والتي تقدم حسومات للقارئ تصل إلى خمسين بالمائة أحيانا، لكن أغلب الإصدارات تتعلق بالحرب وآثارها وأسبابها وتداعياتها وثقافة المقاومة، العروبة وأسئلة النهضة، الأزمة السورية وثقافة التكفير الإرهابي، الحرب القذرة …الخ. أما الكتب الثقافية فنجدها مكررة كأن تصدر المجموعة الكاملة لشاعر أو قاص، أو دراسات نقدية عن الشاعر وشعره وغالبا ما تكون بتكليف من الشاعر ذاته لبعض أصدقائه، أو تكون من أجل المال فنجدها خالية من النقد الحقيقي وتتجه نحو الإطناب والتصفيق والتأليه الأدبي، وللأسف أغلب الإصدارات الثقافية ضعيفة من حيث المضمون والكتب التي تحمل قيمة قليلة نسبيا بالنسبة لما يتم طباعته ونشره كل عام. وهو أحد أسباب عزوف ونفور الفرد عن قراءتها والاطلاع على محتوياتها.
دمرت الحرب الكتاب كما دمرت رموزاً من التراث الإنساني، وهو ليس مجرد كلام استهلاكي فهناك الكثير من الجرائم الفنية ارتكبت بحق المكتبات الخاصة، ومستودعات كثيرة للكتب خاصة وعامة لا أحد يعرف شيئاً عن مصيرها، وثمة كتب نُهبت وكتب أُحرقت وكتب كان مصيرها حاويات القمامة، مكتبات شخصية تركها أصحابها وأغلب تجار الكتب المستعملة فقدوا مستودعات مليئة بكتب قديمة، وكل هذا انعكس على الجو العام وعلى حياة الفرد والمثقف فلم تنج الثقافة هي الأخرى من اللصوص والحدث اليومي والقذائف والحرب.
بواسطة Mohammad Saleh | مارس 8, 2018 | Cost of War, غير مصنف
أحاول قراءة الواقع من كل الزوايا التي أستطيع الرؤية منها ومستنداً إلى التاريخ (المدوّن والشفهي) ووقائعه من وجهات نظرٍ متعددة. قرأت الكثير عن حوادث تاريخية ومجازر شهدتها بلادنا وقد استُخدِمت بعض السرديات حول هذه المجازر بغرض التحريض الطائفي لاحقاً رغم أن جذر المجزرة الأصلية لم يكن يمتّ للطائفية بصلة. ورغم ذلك يتداول البعض هذه السرديات دون نقد بغرض التحريض الذي قد يُفضي إلى القتل ويتم إضافة تفاصيل مختلقة قد تطغى على جوهر وجذور الحدث نفسه.
فعلى سبيل المثال كنت أسمع عن مجزرةٍ ارتكبها الإسماعيليون بحق العلويين في بلدة القدموس (التابعة لمحافظة طرطوس) منذ بضع مئات من السنين، وبحسب المرويات فقد قتلوا خمسين من رجال الدين العلويين الذين تم رميهم في بئرٍ في قلعة القدموس. كانت الروايات أحياناً تزيد من قسوة المشهد عبر رواية تفاصيلٍ عن التمثيل بالقتلى وكأّنّ الرواة شهود عيانٍ لكنّ الصور المكثفة التي ينسجها الخيال تجعلك، إن كنت علوياً، متحفزاً لقتل كل اسماعيليٍ. أما واقع الحال فإنّ القصة وإن حدثت فعلاً إلا أنّ أسبابها ليست طائفية كما يتداول البعض مساهماً في بناء مظلومياته الخاصة. ربما كان الضحايا جميعاً من خارج المذهب العلوي أو ربما قتل بضعة أفراد والبقية كلهم من المذهب الإسماعيلي من أنصار ولي عهد قلعة القدموس الذي تم تهريبه وقتل أنصاره ليستتب المُلك (الإمارة ) لابن أمير القلعة، الذي أصدر أمراً بتعيين ابنه ولياً للعهد بدلاً من أخيه الذي هرب بعد قتل أنصاره في القلعة وكوّن أسرةً جديدةً من مذهبٍ آخر وأصبح علوياً.
كان “صالح” ولي عهد القلعة والجد الأكبر لعائلتي وأصبح أعرجاً جرّاء القفز من القلعة وبقيت ذكرى هذه الحادثة متداولة في عائلتنا. قد يقول قائل إنّ ولي العهد الفار كان علوياً قبل مغادرة القلعة، يبقَى ذلك مجرّد تكهناتٍ لا يمكن التحقق منها. والمغزى من هذه القصة، وغيرها من قصص المظلوميات المتداولة بين من يحسبون أنفسهم أبناء طوائف ومذاهب، أن أساس المجزرة كان صراعاً بين الأخوة على السلطة وليس على المذهب.
بدأت بهذه المقدمة الطويلة لأشير إلى توظيفٍ مشابه لحوادث، لا أساس أو دافع طائفي وراءها، وقعت في عدة مناطق بعد اندلاع الانتفاضة السورية وخلال الحرب الدائرة ويتم تداولها بغرض التحريض الطائفي ولحرف الأنظار بعيداً عن جذر الحدث، وقد عايشتُ بعض هذه الحوادث عن قرب.
في 8 شباط/فبراير من العام 2014، وأثناء المفاوضات على خروج المدنيين من حمص القديمة وإدخال المعونات لمن سيبقى تحت الحصار كانت هناك مطالبات بالكشف عن مصير المختطفين بالمناطق المحاصرة والذين تم اختطافهم على خلفية طائفية. انتهت المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة بعد مخاض عسير وتم الاتفاق بموجبها على خروج المدنيين ممن يريدون الخروج وإدخال مساعدات غذائية لمن رفض الخروج. وبالفعل خرج الكثير من المدنيين وغالبيتهم من النساء والأطفال والعجزة وتم إدخال المساعدات تحت إشراف الأمم المتحدة، في هذه الأثناء تداعى الكثير من أهالي المخطوفين من أحياء الزهراء وعكرمة والنزهة للاعتصام ضد تنفيذ الاتفاق حتى يتم الكشف عن مصير أبنائهم المخطوفين.
أخذت هذه الدعوة أشكالاً تحريضية على صفحات التواصل الاجتماعي بشكل مريب، فقد تداول بعض الناشطين (المعارضين) الخبر تحت عنوان “أهالي الأحياء الموالية يعتصمون ضد إدخال الغذاء إلى المحاصرين بحمص القديمة” في حين دعا بعض المؤيدين صراحةً بالموت للمحاصرين بناءً على دوافع طائفية، بينما انتفى العنوان الحقيقي لسبب الاعتصام وهو الكشف عن مصير المختطفين الذين تمت تصفيتهم وحرمانهم من الحياة وبنفس الوقت وُجد من يتهم الآخرين بأنهم يريدون منع الغذاء عن المحاصرين. هذا لا يعني أبدا عدم وجود مثل هؤلاء الذين يريدون منع دخول المساعدات إلى المحاصرين لاعتبارات شتى ولكن الجميع خرج تحت عنوان نريد معرفة مصير المفقودين وقد تم تغييب ذلك العنوان تماماً عن كل الصفحات والأخبار. كنتُ قد كتبت حول هذا التحريض والتشويه لحقيقة ما يحدث على صفحتي الشخصية السابقة على الفايسبوك (قبل إغلاقها إثر اعتقالي) بعد اتصالي مع بعض الناشطين الذين دعوا إلى الاعتصام. وقد سألت شابة اختُطف شقيقها واسمه حسن ادريس وأخبرتني عن أسباب تنظيم هذا الاعتصام وأكدت لي أنه “يوجد بعض من يستغل الاعتصام لهدفٍ آخر ولكننا سنخرج من أجل هدفٍ واحد ألا وهو معرفة مصير مخطوفينا.”
كنت قد حذرت وقتها وأنا أرى التهافت على التحريض الطائفي: “تريثوا وتبينوا ولا تهجموا كالمجانين حتى لا يصيبكم الندم. ما حدث مخجل أن يفعله كائن بشري، ولكن ردة الفعل كانت من نفس البضاعة وكلي أسف وأنا مكتئب لدرجة أنني فكرت بتسكير كل أنواع الاتصالات وقنوات التلفزيون. لن ننتصر إلا بالحب ومن يصدر الحقد سيرتد إليه.” لكنّ التشويه والكذب لم يتوقف.
بعد اتفاق الوعر (آذار/مارس 2017) تمت الدعوة مجدداً للاعتصام على طريق طرابلس من أجل الموضوع نفسه والمطالبة فقط بمصير المخطوفين، ولكن لم يتم الأمر ولم يعرف أحد من ذوي المخطوفين أية معلومة عن أبنائهم. ربما كانت السلطة راضية عن ذلك حتى لا يكون هناك مطلب من الطرف الآخر بالكشف عن المختفين في سجون النظام أيضاً. الذي يهمني من المثال الذي أوردته هنا، ومثله كثير، هو الآلية التي يتم من خلالها استغلال العنف والغضب من أجل التحريض الطائفي وفرض قراءة للحدث من زاوية واحدة وهي نفس الزاوية التي يتم من خلالها توصيف الصراع في سوريا كصراعٍ بين طوائف عبر إخفاء الأسباب الرئيسية لبعض الحوادث لأنها لا تخدم أجندته وهذه جريمة بحق المجتمع وأهالي الضحايا، ولكن يوجد دائماً من يلوي عنق الحقيقة ويعزو الحدث لشيء آخر.
عند انعدام الأمانة والتعتيم على حقيقة حدثٍ ما، فإنّ الناقل يُخفي شيئاً من القصة ويضيف ما يناسبه ليقدمه لهذا الطرف أو ذاك حتى لو تسبب الخبر في تشويه التاريخ وهدم الوطن والتحريض على القتل. يجري الآن توثيق الكثير من الحوادث التي حدثت بالسنين السبع الأخيرة ويمكن أن تجد وثائق لا تتعدى مصداقيتها أكثر من ذكر الواقعة، في حين تضلل تلك الوثائق الباحث عن حقيقة ما حدث فعلاً ويضيع السبب والفاعلين والشهود، وبرأيي هذه جريمة يرتكبها هؤلاء بحق السوريين. أن تخفي الكثير أو القليل من الوقائع لأنها لا تتفق مع قضيتك أو تعريفك للضحية والمجرم فأنت تسهم في استمرار الجريمة.
بواسطة سلوى زكزك | مارس 5, 2018 | Cost of War, غير مصنف
يومٌ ربيعي مشمس، عمالُ الترحيل ينقلون أكياس البحص والاسمنت من بيتٍ يُرمم في الطابق التاسع والحقيقة أنهما بيتان في الطابقين التاسع والعاشر اشتراهما شابٌ في مقتبل العمر ليحولهما إلى بيت واحد وفق نظام الدوبلكس. بحسبةٍ بسيطةٍ نعرف أنّ الثمن المدفوع لشراء المنزلين فقط تتجاوز المائة والخمسين مليون ليرة سورية!
يصيبنا الحكاك والقنوط ويغمرنا سؤال “من أين له هذا؟” وخاصةً في ظلّ هذه الحرب! فكيف إنّ تعرفنا إلى كلفة الهدم والربط والإكساء التي تجاوزت أسعار موادها العشرين ضعفاً. إنه مثال على انتهاكٍ صارخٍ لا للوضع المعيشي الصعب لعامة السوريين فحسب بل انتهاكٌ للقيم و للمنطق الأساسي للحرب القائم على التوفير والتقتير تحسباً للحظة رحيل ٍمفاجئ ٍأو خوفاً من إصابةٍ قد تلحق بالبيت جراء ظروف الحرب الدائرة.
عائلاتٌ سورية تسكن في الحدائق، تسوّر سياجها بالكرتون منعاً لوصول أيدي الزعران الذين يمدّون أصابعهم القذرة لقرص النساء والأطفال أو لسرقة ما تطوله أيديهم العابثة، وناطور الحديقة يُخفي مسكة الصنبور بين يديه ليمنع النساء والفتيات من الاستحمام، استحمامٌ يشبه لعبةً طفولية سرّها هو إغماض العينيين والدوران حول الذات والصابونة الكاوية سيئة الصنع تدور على الجسد من تحت الكنزة درئاً للعيون الكاشفة، تتوه اليدان الغضتان في الوصول إلى كافة تفاصيل الجسد المغمور بالقذارة والرطوبة والإهمال، ويتحول غسل الشعر إلى مهمة صعبة تتوقف في لحظة عدوانيةٍ عندما يقطع ناطور الحديقة المياه فيبقى الشعر غارقا بالصابون الجاف، قاسياً وباهتاً وأقرب للبياض بفعل الترسبات القلوية على شعرٍ لم يدفأ يوماً ولم يغمره ترفُ التغلغل لمشطٍ نظيفٍ ومريح.
***
براءة طفلةٍ صغيرةٍ لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات، يمنحها أحدهم قطعة شوكولا وفي اللحظة الفاصلة ما بين منحٍ وإمساكٍ تسقط قطعة الشوكولا على الرصيف الساخن فما كان من براءة إلا الاستلقاء ولعق الشوكولا الذائبة من على الرصيف مباشرة.
أعرف أن أسئلةً مثل “ما جدوى الحمل والولادة وجلب أطفالٍ جددٍ ينضمون للشقاء” والاسم الساخر “براءة” في زحمة الحرب هي أسئلةٌ وجودية ذات معنى لكنها بلا فائدة، فارغة مثل طبول الحرب الجاعرة.
***
أمام أحد مطاعم الشاورما ذاتِ الاسم العريق والأسعار المرتفعة جداً، يُقدم أحد الزبائن بقايا وجبتين طلبهما ولم يكملهما لقطةٍ تموءُ جائعةً. في المكان طفلان مشرّدان والجوع ينتهك أحشاءهما، يحاول أحدهما سحب الوجبة من بين مخالب القطة التي لا تبدي أية مقاومة، لكنّ الرجل الشهم الحريص على صحة القطط والحيوانات الغارق في سفالته يصرخُ بالطفل ويطردهُ ويعيد تثبيت الوجبة بين مخالب القطة في حالة عطف إنساني تنتمي لهمجية محدثي النعمة وزارعي الحقد تفاضل بين طفلين جائعين وقطة، لحظة تنمُّر همجية تماثل شتائم الرجل نفسه وهو يصرخ بعامل النظافة الذي تجرأ وأوقف عربته خلف سيارة ذاك المتوحش، سيارة دفع رباعي حديثة جداً تُوقظ سؤال “من أين لك هذا؟” فكيف الحال إذاً بسيارةٍ موديل 2017 في بلدٍ يكتوي بنار الحصار وتوقف الاستيراد اللذين طالا حتى الأدوية.
***
في حافلةٍ صغيرةٍ للنقل تجتمع نساءٌ مختلفاتٍ في تفاصيلٍ ظاهرية لا أكثر، تقول سيدةٌ لصديقتها وبصوت عالٍ: “هدول مو من عنا.” اختلافٌ في نوع المعاطف، حداثتها، اختلافٌ ما بين لونٍ ناصعٍ ولامعٍ وما بين لونٍ باهتٍ وحائلٍ للسترات، عرواتُ الأزرار متسعة تضم أزراراً مختلفة اللون والشكل. الحجابات شبه ذائبة من شدة رقتها ومنكشة الخيوط بمواجهة أزرارٍ لامعةٍ، متناسقةٍ ومشدودةٍ، بمواجهة حجاباتٍ مماثلةٍ للملابس في ألوانها، جديدة وسميكة ولامعة.
بالفعل لم يكذب إحساس تلك المرأة ولاخبرتها، فأهل الحي “الراقي” يعرفون بعضهم من وجوههم، من ملابسهم، من صدى كلماتهم ومن جوالاتهم الباذخة. النسوة “المختلفات” واللواتي تجرّأن على مشاركة الغنيات المنكِرات لقسوة الحرب وآثارها المدمرة هنّ بالفعل لسن من ذات الحي! هنّ من اللواتي يسكنّ مراكز الإيواء الثلاثة التي امتلأت بالمهجرّين قسرياً ذات ساعة رحيلٍ أو تهجيرٍ أو هربٍ، لا فرق.
ذات يوم وحين قرروا إغلاق تلك المراكز وزّع سكانها أرقام هواتفهم/نّ على كافة الركاب علّهم/نّ يحظون ببيت للآجار تتشاركه أكثر من عائلة، ولم يكن أمام البعض سوى اللجوء إلى الحدائق وعبثها وهمجيتها، أما البعض الآخرون فقد استأجروا بعيداً بيوتاً على الهيكل من دون إكساء أو نوافذ أو أبواب، والمطبخ والحمام مجرّد برميلٍ أزرقٍ بلاستيكي كبير موصول في أسفله صنبور ضخم ومتوحش.
***
نسوةٌ رباتُ أسرٍ ومعيلاتٍ يوقفن سيارة للأجرة لتقلّهن إلى بيوتهنّ مع صناديق مواد الإعانة الممنوحة لهن. يشترط السائق عليهن عبوة زيتٍ ذات الليتر من كلّ سيدةٍ لمسافةٍ لا تكلفه أكثر من خمسمائة ليرة، لكنه يسطو على رزقهن ويكسب ألفين وثمانمائة ليرة، هي أسعار عبوات الزيت حسب سعر السوق. تمتثل النسوة لابتزاز السائق ويدفعن بصمت مستكين.
في البيت يتبادلن المحتويات، أولاد فلانة لا يأكلن البرغل، وفلانة وأمها وأم زوجها مصاباتٍ بالسكري فيمنحن الأرز مقابل البرغل. تقول آية: “أحلم بأن أطلب طبخة محدّدة وأن تلبي أمي، نحن نأكل على هوى كرتونة الإعانة وعندما تنتهي موادها نقترض من بعضنا. لا جديد يؤكل. وحبة الفواكه حلم وحبة البندورة للطبخ فقط لأنها تُشترى مهترئة لأنها الأرخص والأقل سعراً.”
***
على الطريق المهندم والأنيق تتبادل سيدتان أطراف الحديث عن حميةٍ ناجعةٍ لجسدٍ رشيقٍ، وعن مدرّب الجِم (أو نادي اللياقة). يصرف شباب مقتدرون أو محدثو النعمة أموالاً طائلة على مكملاتٍ غذائية وفيتامينات تنفخ العضلات وتجعل قيمتهم أعلى في سوقٍ لا قيمة للرجال ولا للحيوات فيه، سوق الحرب .
النساء يتمشين ببيجاماتٍ رياضية باهظة الثمن وأحذيةٍ رياضية ٍمريحة، يُنشطن الأجساد الرخوة والمرفهة. على الرصيف المقابل نسوةٌ خرجنَ منذ الفجر لتعملن في منازل المتريضات اللواتي لايقبلن أي تأخير أو تجاهل لتفاصيل العمل المنزلي الذي يجب أن يكون متقناً ولامعاً/ تقول المشغّلة للشغالة: “أعطيك دم قلبي وأنت تراوغين!”
***
تعجّ مراكز التعليم المرممة بالطلاب الذين هجروا المدرسة بسبب الحرب، أو بسبب غياب الوثائق الشخصية، أو بحكم أنهم صاروا معيلين لذويهم. يتعلمون فكّ الخط ويطمحون لمجرد إغفاءة مطمئنة على مقعد دافئ.
هي المدينة تحيا على فوارق تأصلت بحكم الحرب. إن كان بوسع المتعبين وثقيلي الأحمال الحلم، فالعودة إلى بيوتهم هي الأساس وهي المشتهى والمنتهى. تحلم سيدة برعاية أصص أزهارها واحتساء فنجان قهوة بفناجينها التي أبقتها هناك على رجاء العودة سريعاً إلى شرفتها وبيتها.
ظلال الرحيل والنزوح أوضح وأعمق من مجرد ظل مرادف للحرب، هي وجه المدينة الآخر، هي تفاصيل الحرب على أجساد البشر وعقولهم، على أسمائهم وأسماء عائلاتهم والراحلين والمسافرين والمجانين منهم والعقلاء رغماً عنهم كي يلوذ بهم من يحتاجهم.
كل شيء ممتزج بنقيضه، يتنافران ويعتركان وإن بصمت، لكنه صمت الجمر الذي سيحرق الأخضر واليابس كل صباح في ليل الحرب الطويل… هنا دمشق.
بواسطة Ward Maamar | مارس 3, 2018 | Cost of War, غير مصنف
إذا أردت أن تعرف ماذا يعني إعادة إعمار سوريا عليك أن تطّلع على حقيقة تجارب إعادة الإعمار في العراق وأفغانستان وغيرهما من الدول التي مازالت تعاني من الحروب والأزمات التي تسببت بتدمير البنى التحتية واستنزاف الطاقات البشرية تحت آلة الحرب والتهجير القسري.
منذ ثلاثة أعوام بدأت سيمفونية إعادة إعمار سوريا تُعزف في الكثير من المؤتمرات الاقتصادية والمعارض، حينها أطلقت الحكومة السورية برنامج عملية إعادة الإعمار لتكون من ضمن أولوياتها. وبالطبع كان للقطاع الخاص دوره أيضاَ بالمشاركة في جوقة عزف سيمفونية “إعادة إعمار سوريا” حتى أن البعض منهم لم يكتف بالكلام بل ذهب إلى أبعد من ذلك وأقام المعارض والندوات وورشات عمل لبحث ومناقشة آلية كيفية إعادة إعمار سوريا.
رغم أهمية عقد هذه المؤتمرات والمعارض، لكن يبدو أن الأمر ليس أكثر من فقاعات إعلانية وإعلامية، حيث أن بعض المحللين يجدون أن الوقت مازال مبكراً للحديث عن إعادة الإعمار خاصة في ظل استمرار الصراعات والاختلافات الإقليمية بين الدول الكبرى التي لم تُخف عدم رغبتها في المشاركة في عملية إعادة الإعمار دون الوصول إلى حل سياسي بموافقة جميع الأطراف المتنازعة في سوريا. بناءً على هذه النقطة فإنّ بعض المحللين الاقتصاديين يجدون أنّ كلّ مايتم تسويقه والترويج له حول بدء عملية إعادة إعمار سوريا ليس أكثر من موسيقى تصويرية رومانسية على وقع مشهد مأساوي تتخلله مناظر القتل والتشريد والدمار.
من هنا نجد أن عملية إعادة إعمار سوريا ليست بالأمر السهل، ولن تتم بعصا سحرية خاصةً إذا ما نظرنا إلى تجارب الدول المجاورة مثل العراق والتي مازالت حتى اليوم تدفع ثمن “أكذوبة إعادة الإعمار”، نتيجة الفساد وسوء الإدارة واستمرار الصراعات والنزاعات. وبالتالي فإن إقحام سوريا بهذه السيمفونية يحتاج إلى الجدية بالطرح ولا يكفي أن يتم عقد مؤتمر هنا وإقامة معرض هناك في حين أنه على أرض الواقع لا يوجد فعل حقيقي لكل ما يتم طرحه والإعلان عنه من نتائج لهذه المعارض. وكمثال على ذلك نأخذ مدينة حلب “عاصمة الاقتصاد السوري” والتي مضى على تحريرها قرابة عام كامل منذ تاريخ 22/12/2016 ومع ذلك لم نسمع عن أي عملية لإعادة إعمار المناطق التي هُدمت بفعل الحرب، ولم يطرح حتى اللحظة أي مشروع استثماري خارجي أو داخلي للمشاركة أو البدء في إعادة إعمار حلب. لقد اقتصر الأمر على عودة الأهالي إلى الأحياء التي هُجروا منها، ودعوة الصناعيين لإعادة افتتاح ورشاتهم، حتى أن غالبية الصناعيين ممن أعادوا تشغيل منشآتهم المتضررة تحملوا كلفة هذه العودة على حسابهم الخاص. وقد اقتصر دور الحكومة السورية على تأمين التغذية الكهربائية والفيول (الوقود) للمصانع ضمن الإمكانيات المتاحة، في حين أنّ الكلفة الأكبر وقعت على عاتق الصناعيين.
تُمثل حلب مثالاً هاماً يكشف عدم جدية الذين يدعون للمشاركة بعملية إعادة الإعمار، وعدم وجود رؤية وسياسات اقتصادية واضحة للبدء بهذه العملية، خاصة وأن الاقتصاد السوري مازال يعاني من غياب لقانون الاستثمار الجديد والذي مازال قيد الدراسة ولم يتم طرحه حتى تاريخ اليوم. إضافةً إلى ذلك هناك توجس لدى العديد من المستثمرين من الدخول إلى السوق السورية في ظل القرارات الاقتصادية المتعلقة بالقطاع النقدي والتي أحدثت فوضى في سوق سعر الصرف. فقد أثارت القرارات الاقتصادية التي طالت القطاع الصناعي، والذي يعتبر عصب الحياة الاقتصادي في حلب، ردّات فعل سلبية من الصناعيين الذين هدّدوا بإيقاف معاملهم عن العمل في حال الاستمرار بمثل هذه السياسات الاقتصادية.
ربما يعترض أحدهم بالقول إنّ مضي عام كامل على “تحرير” حلب ليس مقياساً لمصداقية عملية إعادة الإعمار وبأنّ الأمر يحتاج لسنوات. هذا الكلام صحيح لكن من جانب آخر كان من الأجدر والأهم أن تقوم الحكومة السورية من خلال اللجان الاقتصادية التي شكلتها لتنفيذ عملية إعادة الإعمار بوضع قوانين اقتصادية واضحة لآلية إعادة الإعمار. فقد أشار العديد من المشاركين في معرض دمشق الدولي الأخير “باستثناء المشاركين من إيران و روسيا” إلى عدم وجود برنامج سياسي اقتصادي يوضح كيفية المشاركة في عملية إعادة الإعمار. ووجد عدة مشاركين صعوبة في عقد اتفاقية تخص عملية إعادة الإعمار، وكأن الأمر مقتصر على الدول الصديقة “طهران وموسكو.” ولايمكن نكران هذا الأمر خاصةً وأن العديد من المسؤولين والاقتصاديين السوريين أكدوا أن الأولوية في عملية إعادة الإعمار ستكون للدول الصديقة “روسيا وإيران.”
من جانب آخر تظهر الحقائق الرقمية بأن تكلفة إعادة الإعمار في سوريا ستتراوح بين 200 مليار دولار و350 مليار دولار، وهي كلفة تتجاوز إمكانيات سوريا بكل ما تملكه، كما تتجاوز قدرات حلفائها الإيرانيين والروس. فمن جانب إيران، تُعاني هذه الدولة من أزمةٍ اقتصاديةٍ راهنة، ورغم أنها قد بدأت تخرج من العقوبات الأميركية إلا أنّ احتياجاتها اللازمة لتنفيذ متطلبات البلد من ناحية البناء وإعادة الإعمار تُقدّر بما يقارب 100 تريليون دولار في السنة خلال أعوام 2015 و2025. حالياً ليس لدى إيران خيارٌ آخر سوى أن تُنفق أموالها لحماية عملتها الوطنية وميزانها التجاري خاصةً وأنّ عملتها قد انخفضت بشكلٍ حاد بعد انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومازال حجم التضخم غير محدد من قبل محللين اقتصادية رغم اعتباره أحد المبادئ الاقتصادية العامة لبلد يسعى للتقدم اقتصادياً. كما أنّ حجم الإنفاق على الجيش بالغ الأهمية وكذلك الأمر بالنسبة لإعادة إعمار الاقتصاد والحفاظ على العملة والإنفاق والبطالة والاستثمار الذي يُعد من أولويات عمل الحكومة الايرانية.
كذلك الوضع الاقتصادي في روسيا ليس أفضل من غيره حيث تعتمد موسكو اقتصادياً على أسعار النفط والغاز بشكل كبير. وشكلت تدخلات روسيا العسكرية في سوريا وأوكرانيا عبئاً اقتصادياً على البلد. إضافةً لذلك مازالت الاتفاقات الاقتصادية بين موسكو وسوريا مقتصرة على التنقيب عن النفط، الأمر الذي يعكس بأن روسيا وإيران لا يمكن أن يكونا اللاعبين الوحيدين في عملية إعادة إعمار سوريا.
وبالتالي فإنه يتوجب طرح قوانين وخارطة اقتصادية استثمارية واضحة تتيح لبقية الدول إمكانية المشاركة في إعادة الإعمار خاصة وأن سوريا بلد متنوع يحتاج إعادة إعماره إلى وجود شركاء حقيقيين من دولٍ لديها إمكانيات اقتصادية كبيرة للمشاركة. أما اقتصار الأمر على الدول الحليفة “موسكو وطهران” فهو أمر أشبه بلجوء مريض إلى مريض، حتى أن دولاً مثل فنزويلا أو الإرجنتين لن تكون قادرة على المشاركة نتيجة ما تعانيه اقتصاداتها من أزمات وسوء إدارة.
في ذات السياق لا يمكن تجاهل العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا والتي تتطلب من الاقتصاديين في سوريا البحث عن بدائل اقتصادية للتغلب على هذه العقوبات، وإلا ستبقى عملية إعادة الاعمار سيمفونية يتم ترديدها في كل المحافل والمؤتمرات، مثلها مثل سيمفونية “أكذوبة إعادة إعمار العراق وأفغانستان.”
بواسطة Baraa Sabri | فبراير 28, 2018 | Cost of War, News, غير مصنف
لازالت محركات الحروب الخارجية في المنطقة الشرق الأوسطية الساخنة والأوراسية القلقة متمحورة على عامل الداخل، وبالتحديد عامل الثبات في السلطة أكثر مما هي متمحورة على عوامل لحماية الحدود الخارجية للبلد، وإن بنسب متفاوتة تحسب للدول الكبرى فيها رجحان نسبي للعامل الخارجي على الداخلي. الضجيج الذي يتبع العمليات العسكرية التركية في عفرين ضد مقاتلي قوات سورية الديمقراطية يزداد، والتحليل المتبع لذلك الضجيج يقفز على حقائق مهمة وقادمة من ما قبل العملية العسكرية التركية رجحت خيار الحرب لدى أنقرة على خيارات أخرى في منطقة “كانت حتى الآن مستقرة نسبياً من سوريا” بحسب وصف جيمس ماتيس. تلك الحقائق القادمة من مسارات الحكم والسلطة هي لب قضية الهجوم على عفرين والمحرك الرئيس لها، وتعتبر باقي التحليلات رتوشاً للحقائق ومكملات تجميلية لا أكثر.
لا تشكل صورة الديكتاتور العراقي صدام حسين المحمولة على يد المقاتلين السنة المنضوين تحت لواء درع الفرات التي تقاتل مع الجيش التركي في عفرين حدثاً عابراً. هي صورة عن الحنين الى سيادة عالم السنة والعروبة في المنطقة التي شهدت تغييرات هائلة ودموية منذ دخول الأمريكان الى بغداد في ٢٠٠٣. هؤلاء الحاملون للصورة هم في جزء من تصورهم للمعركة يقعون تحت تأثير العامل المذهبي الذي يعمل عليه بحرفية الرئيس التركي أردوغان.
يظن هؤلاء بأنهم يتحركون تحت ظلال صدام في الذود عن عالم السنة والعروبة، وإن كان القائد الحالي يتحدث بلغة مختلفة. لا ينسى هؤلاء بأن تركيا لم تسمح لواشنطن بالمرور في أراضيها لدخول العراق في عام ٢٠٠٣ وهم يعتبرونها جزءاً من التعاضد السني الخفي ضد المحتل، وضد تمدد إيران الشيعية. هؤلاء التائهون ينسون أن الرفض التركي حينها لم يكن سوى رفض للتغيير القادم في العراق المتداعي أصلاً، والذي من المتوقع أنه سيجلب للأكراد شيئاً من الحماية والحقوق الدستورية المقلقة لتركيا المريضة بمرض الأكراد في ديارها وفي ديار غيرها من الدول، ولا علاقة لها بالخلاف السياسي للشيعة والسنة الطافح حالياً.
علماً أن إيران الشيعية، ونظام البعث السوري، وتركيا، رفضوا مجتمعين الدخول الأمريكي حينها إلى العراق، ونسقوا فيما بينهم لإضعافه. صورة صدام لا رابط لها بالوقائع سوى بأنها تشترك مع القائد الجديد في التصرف بسلطات الدولة حسب المصلحة الخاصة له، ولعائلته، وتحت مصطلحات ثورية كبرى من نمط حماية الحدود الشرقية عراقياً حينها، والحدود الجنوبية تركياً حالياً. هكذا خطب تأتي من ذهنية واحدة تحاول أن تظهر بمظهر القائد التاريخي في المنطقة.
كان صدام مع كل انتكاسة وقلاقل داخلية يشعل حرباً تحت يافطات كبرى. وحالياً، ورغم أن الوقائع الدولية قد تغيرت يحاول أردوغان الهروب من كل خلخلة داخلية بحرب خارجية، ومعارك حدودية، وخطب رنانة عن الأمن القومي. كلاهما ظلا متمسكاً بقضية القدس وإسلاميتها. وكلاهما قمع الحريات داخل بلديهما. وكلاهما مدجج بالمتطوعين من العالم العربي المقتنعين بحرب الأنصار والأشرار تماماً كما هو الحال في المخيلة التي يعتاش منها المقاتلون الذين يحاربون مع تركيا في عفرين. هؤلاء المقاتلون نفسهم أو أشقاؤهم كانوا قد سموا كتيبة من الكتائب العسكرية للمعارضة في دير الزور قبل سنوات بكتيبة “صدام حسين” دون أي اعتبار لمشاعر الآلاف من ضحايا الرجل على الطرف الشرقي المجاور للحدود في توضيح مباشر عن الحنين المستمر إلى القائد الذي يرقص وهو يرفع البندقية بيده اليمنى.
في تركيا المنتفخة بالمشاكل السياسية والاجتماعية حراك حكومي من نوعية الهروب إلى الأمام. فبعد انتهاء المفاوضات بين حزب العمال الكردستاني والحكومة بعد تصريحات لرئيس حزب الشعب الديمقراطي الوسيط في العملية بُعيد الانتخابات البرلمانية الأولى، وعقب حصولهم على المرتبة الثالثة في البرلمان عن أنهم “لن يسمحوا لك بأن تصبح رئيساً” وكان يقصد به أردوغان الذي كان يبحث عن تعديل دستوري لتعزيز سلطات رئيس الدولة بعد نفاذ فرص ترشحه لرئاسة الوزراء مجدداً تغير المشهد.
تصريح ديمرتاش كان بمثابة الشرارة التي ألهبت البلاد بالمعارك. المفاوضات التي انتهت كانت عبارة عن وسيلة يبتغي منها حزب العدالة والتنمية المماطلة للحصول على الدعم الكردي في البرلمان، ولم يكن أبداً مشروع سلام كما ظهر فيما بعد من التطورات على الساحة التركية. البحث عن بديل عن رفاق ديمرتاش رسى على رجل من أشهر رجالات التطرف القومي في تركيا، وهو السيد دولت بخجلي الذي فتح ذراعه لأردوغان لينقذه من مشاكله الداخلية في الحزب، والتي كادت أن تطيح به لصالح منافسته اليمينية ميرال أكشنر، إذ سعت ومعها مجموعة من الحزب، إلى عقد مؤتمر عام استهدف الإطاحة بالسياسي “العجوز”، الذي بات يثير التساؤلات بتحوله المفاجئ إلى رجل التوافق والتماهي مع أردوغان وحزبه في جميع الاستحقاقات المؤثرة.
كان التعاضد بين أردوغان وبخجلي هو تعاضد يحمل في طياته تفاصيل محزنة على الأكراد على جانبي الحدود. قمعت الحركة المدنية والسياسية الكردية في تركيا، وزج برؤساء بلديات، واعضاء برلمان، وعلى رأسهم ديمرتاش نفسه في السجون. وظهرت المحاكمات الصورية، ودمرت مدن، وشرد الآلاف من سكان المناطق الكردية من مدنهم. وكانت التقارير الدولية واضحة الاتهام للجيش التركي بالمسؤولية. فتحت المعارك اللا متناهية مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، وقمع الطموح الكردستاني في إقليم كردستان العراق، وتغيرت خارطة التحالفات في سورية لردع زيادة قوة وظهور قوات سورية الديمقراطية على الساحة الشمالية والشرقية لسوريا. كل تلك المستجدات، والمتحالفان يبحثان عن انتصارات وهمية كما هو الحاصل في فتح جبهة عفرين حالياً لتجلب لهما الرسوخ في السلطة، واحد في رئاسة الحكم، والثاني في رئاسة الحزب، مع قرب الانتخابات البرلمانية والتي من المفترض أن يشكل الطرفان المذكوران تحالفا رصينا فيها، وذلك من خلال كسب قواعد الجماعات القومية التركية الحاقدة على الأكراد إلى طرفهم.
في حين أن حاملي الصورة يعتقدون بأن قائد المعركة في عفرين السيد أردوغان يقود معركتهم السنية والعروبية ضد الملاحدة، وعملاء الصهاينة والشيعة، تأتي الأخبار عن محاولات تواصل غير مباشر من أنقرة مع نظام دمشق المعادي لحاملي الصورة، وعمليات تسليم مناطق لرفاق اردوغان من الجماعات العسكرية السنية في محافظة إدلب لصالح نظام الأسد وحزب الله. ويرى العالم كيف أن إيران التي تتسيد عالم الشيعة سياسياً تشاهد المعارك بسعادة من بضعة كيلومترات قريبة. بالضبط كما يشاهدها الزعيم الروسي بوتين صاحب السطوة في سورية، وهو يدفع تركيا البطلة في مخيلة حاملي الصورة لتجلب له المعارضة ومسلحيها للقبول بشروطه الاستسلامية للسلم في سورية. موسكو التي كانت تحتاج الى معاقبة الأكراد وحلفائهم العرب الذين أصبحوا أقرب لواشنطن منهم إلى موسكو أعطت الضوء الأخضر لأنقرة للهجوم.
بوتين الذي يحاول أن يرسخ سلطته مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الروسية بانتصار سياسي له في سورية بعد تقدمه العسكري هناك جاء بكل هؤلاء الساسة الباحثين عن السلطة، والقامعين للحريات إلى “سفوح عفرين” ليظهر هو نفسه من خلالهم جميعاً ومن خلال ما يحضره لما بعد المعركة التي فيما يبدو لن تنتهي كما يحلو لأردوغان، وبخجلي، وحاملي صورة صدام بمظهر البطل الذي لا بد أن تظل السلطة في موسكو بين يديه حماية للبلاد ونفوذها في الخارج.
بواسطة Khalil Hamlo | فبراير 27, 2018 | Cost of War, Reports, غير مصنف
الرقة
“دخول مدينة الرقة يشبه لحظة الموت، لحظة الفاجعة تبدأ كبيرة ثم تتلاشى”، هكذا يصف الدكتور فواز الأحمد الذي عاد إلى مدينة الرقة بعد حوالي ٤ أشهر من سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) على المدينة.
يقول الأحمد: إنّ ” كل ما شاهدته على محطات التلفزة عن مدينة الرقة ، لم يكن سوى جزءاً صغيراً من لوحة تمتد عدة كيلومترات من الدمار والركام وأحياء خالية من سكانها تفوح منها رائحة الجثث المتفسخة، رائحة الموت والدمار. بكيت كما يبكي الطفل الذي كسر لعبته الجميلة، وأنا أتجول في أحياء المدينة. هنا بناء فلان وهنا بيت فلان أبنية سوي الكثير منها بالأرض.”
ويتحدث طبيب الأطفال الذي لم يغادر مدينة الرقة منذ ٢٠ عاماً إلا بعد سيطرة تنظيم داعش بداية عام 2014، عن عدم قدرته على النوم في اليوم الأول من وصوله إلى المدينة، قائلًا: “لم أستطع النوم في الليلة الأولى، تجوّلت في صباح اليوم الأول في شوارع المدينة المدمرة وقد أعياني الحزن وغالبتني الدموع على حالها، في اليوم التالي تمالكت نفسي ولم أبكِ، وتجولت في كل شوارعها ، وفي اليوم الثالث بدأت أبحث عن عمال لترميم منزلي وعيادتي؛ من أجل البقاء في مدينتي لأقدم خدماتي لأبنائها، الذين حرموا منها خلال وجود داعش وما بعده.”
الرقة التي حولها تنظيم داعش الى عاصمة له، ما أدى إلى تدمير المدينة وتحويل نحو ٧٠ بالمئة منها إلى أنقاض، من دون وجود أية نوايا جدية من أجل التحرك لإعادة إعمار المدينة رغم الوعود المتكررة في المؤتمرات والتي بقيت حبراً على ورق واقتصرت على إزالة الأنقاض من ثلاثة شوارع في المدينة التي تمتد آلاف الهكتارات تقوم بها منظمة التدخل المبكر الأميركية.
رغم الدمار الكبير الذي حوّل الكثير من أحياء المدينة الى ركام، عاد بعض الاهالي إلى أحيائهم، ورمموا ما استطاعوا من منازلهم المدمرّة على قدر استطاعتهم، وسط غياب الخدمات الأساسية، عودة شكلت صدمة عند الجهات المشرفة على المدينة التي راهن البعض منهم على عدم عودة أحد إلى المدينة.
مجلس محافظة الرقة المدني -الذي أسس من قبل قوات سورية الديمقراطية (قسد)- يشرف على عمليات ترحيل الأنقاض، ويقدّر أمين سر مجلس المدينة، ابراهيم الفرج حجم الدمار في وسط المدينة والأحياء الغربية منها بنحو ٨٠ بالمئة، ويقول: إنّ “وزن الركام والأنقاض في الشوارع يبلغ نحو ١٠ مليون طن، حيث نقوم بالتعاون مع منظمة التدخل المبكر بترحيل الأنقاض وفتح الشوارع الرئيسية؛ لتأمين فتح الطرقات وإزالة الألغام، من أجل ضمان عودة آمنة للأهالي، الذي يقدر عددهم بنحو ١٧٠ ألف شخص.”
ويضيف: “على الرغم من أنّ المدينة، لاتزال تفتقر إلى أبسط الخدمات، إلا أن العيش في المخيمات يدفعهم للعودة إلى مدينتهم”، وأشار إلى أنّ “الكثير من الصعوبات تعترض عودة الأهالي، لكننا نحاول تأمين الخدمات لهم، حيث نقوم بتأمين الكهرباء عبر محطة الفروسية وتأمين مولدات في الأحياء التي عاد الأهالي للسكن فيها، إضافة إلى افتتاح مركز طبي بالتعاون مع منظمة أطباء بلا حدود.”
ضد التحالف و”قسد”
رئيس مجلس مدينة الرقة التابع للحكومة السورية المهندس طلال الشيخ حمّل التحالف الدولي وقوات سورية الديمقراطية (قسد) وتنظيم داعش مسؤولية دمار المدنية، ويقول: إنّ “ما حصل في مدينة الرقة لم يكن طرد تنظيم داعش، بل هو تدمير المدينة وطرد سكانها وتشريدهم في المخيمات، من كان موجوداً في المدينة كان شاهداً على تدمير متعمد للمدينة.”
وكشف الشيخ عن “إعداد ملف حول ما تعرضت له المدينة من تدمير وأضرار لإقامة دعوى قضائية على كل من ساهم بتدمير المدينة وتعريض ما دمر من ممتلكات عامة وخاصة.”
أبرز الأحياء التي تشهد عودة كبيرة لسكان المدينة (حي المشلب)-الواقع شرق المدينة- أول الأحياء التي سيطرت عليها قوات سورية الديمقراطية بداية شهر حزيران/يونيو الماضي، عاد إليه أغلب سكانه إلى جانب بعض سكان الأحياء الأخرى من المدينة، حيث تعود الحياة إلى الحي بشكل متسارع من خلال حركة الإعمار أو ترميم المنازل التي تضررت بالقصف والمعارك.”
صالح الحسن، من سكان حي المشلب، عاد إلى الحي بعد سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) على المدينة، يقول: إنّ “قوات قسد منعت منذ نهاية شهر تشرين أول/اكتوبر الماضي من دخول الحي بعد نحو ثلاثة أشهر على السيطرة عليه وأطلقت الرصاص على أهالي الحي، وأصابت عدداً منهم ، رامية إلى منع الأهالي من العودة إلى الحي، حتّى تتمكن من السطو على منازل السكان، ولكن تحت إصرار سكان الحي، سمح لنا بالعودة إلى بعض المنازل بعد تعرضها للدمار والسرقة، فيما تعرضت منازل أخرى لأضرار بسيطة.”
ويؤكد الحسن الذي يعمل تاجراً على رهان الجميع على عدم عودة أهالي المدينة؛ بسبب الدمار الكبير الذي لحق بها، لكنه يشير إلى “تكاتف الأهالي فيما بينهم من أجل التغلب على الصعوبات التي تمنع الكثيرين من العودة، من خلال تقديم الأثاث المنزلي. نحن أبناء مجتمع عشائري، ومن الواجب أن نساعد بعضنا في هذه الظروف الصعبة”، ويضيف “العودة إلى منزل مدمر، أهون بكثير من العيش في خيمة بالعراء.”
ويضف الحسن: “مع تزايد أعداد القاطنين في الحي تبقى الخدمات محدودة وخاصة مياه الشرب التي تنقل وهي ملوثة بشكل كبير رغم محاولة تعقيمها ولكن كل ذلك يتم بشكل جزئي”، كاشفًا عن “تعرض الأحياء المدمرة لعملية سرقة في وضح النهار من قبل بعض عناصر قوات سورية الديمقراطية (قسد) -الذين قدموا إلى المدينة قبل عودة سكانها- حيث سرقت منازل المدينة في وضح النهار.”
ألغام “داعش”
“بعد السيطرة على المدينة سقط المئات من أبنائها قتلى وجرحى؛ بسبب الألغام، التي زرعها تنظيم (داعش) قبل انسحابه من المدينة- حيث لا يمر يوم إلا وهناك ضحايا جدد. الألغام تنتشر في كل مكان من المدينة، ولاتزال عمليات تفكيكها محدودة.” بحسب عدد من أهالي المدينة.
محمد راضي، فقد ساقة جراء انفجار لغم زرعه عناصر تنظيم داعش، يقول: إنّ “ما تم إزالته من الألغام محدود جدًا، حيث يقوم الأهالي بالاعتماد على أشخاص لا يمتلكون الخبرة والمعدات؛ من أجل تفكيك الألغام في منازلهم والساحات المحيطة بها، حيث تعرض البعض منهم لأضرار؛ نتيجة انفجار الألغام ، وبقيت وعود إزالتها من قبل (قسد) مجرد كلام في الهواء، وفي مدينة حلب التي تتجاوز مساحتها مساحة الرقة عدة مرات تمت إزالة الألغام بعد أيام من قبل الجيش السوري والروسي ونحن لا نعلم متى سيتم ذلك ، وكل يوم هناك ضحايا.”
منسق المشاريع بفريق (التدخل المبكر) حسام الجاسم يقول: إنّ “أعمال إزالة الأنقاض من شوارع المدينة تأتي ضمن جهود إعادة الإعمار، كل الأعمال التي نقوم بها لا يمكن وصفها بأنها تدخل تحت إطار إعادة الإعمار بل لدعم استقرار الاهالي وعودتهم إلى أحيائهم وهو هدف المشروع، ومن خلال عملنا في المدينة وتعاون الأهالي أدى لسرعة الإنجاز من خلال إزالة الأنقاض من المنازل وبذلك تسير عملية ترحيل الأنقاض بشكل سريع.”
ويصف حجم الدمار في المدينة بـ “الهائل”، ويضيف: “قدم فريق (التدخل المبكر) مجموعة آليات بكافة مستلزماتها بالإضافة لسائقيها وورشات تنظيف عدد من الشوارع التي تعتبر مركز المدينة ونقل تلك الأنقاض إلى خارج المدينة.”
التدخل المبكر
بدأت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بتنفيذ مشروع إزالة وترحيل الأنقاض في مدينة الرقة، بعد ثلاثة أشهر من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على المحافظة من يد تنظيم الدولة الإسلامية/داعش، في تشرين الأول الماضي.
ويتولى إدارة المشروع فريق التدخل المبكر الذي بدأ العمل في المدينة في ١٤ كانون الثاني الجاري، بعد الحصول على منحة مالية من الوكالة الأمريكية، لينفذ المشروع على مراحل، في سعي لتأهيل المدينة وليستفيد الأهالي من الخدمات والمشاريع، وفق ما قال منسق المشاريع في الفريق، حسام الجاسم، لعنب بلدي.
تأسس الفريق، الذي يصف نفسه بأنه نتاج مبادرة مجتمعية، مطلع حزيران ٢٠١٧ ويقول إنه يسعى لإيجاد الحلول لمشاكل الأهالي، من خلال رصد معاناتهم عبر جلسات مع الأهالي في إطار إعادة الاستقرار للرقة.
ويتكون من قسمين:CRG الذي يعقد اجتماعات دورية مع الأهالي لرصد احتياجاتهم، وERT المؤلف من فريق هندسي يدرس الحلول الممكنة لتلك المشاكل، ويسعى لتطبيقها على أرض الواقع، بمساعدة إداريين من محافظة الرقة.