ترتيبات “مابين النهرين” ؟

ترتيبات “مابين النهرين” ؟

مع زيادة الضغط العسكري التركي على منطقة ما بين نهري دجلة والفرات شمال سوريا، تسعى واشنطن إلى المواءمة بين أمرين: هزيمة «داعش» وتحقيق الاستقرار في هذه المنطقة التي تشكل ثلث مساحة سوريا من جهة، والحفاظ على العلاقة مع تركيا باعتبار أن البلدين عضوان في «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) من جبهة أخرى. وقال مسؤول في الإدارة الأميركية لـ«الشرق الأوسط»، أمس: «نحن من جانبنا ملتزمون بشكل كامل بأمن حدودها. وتستحق مخاوف تركيا المتعلقة بأمن شرق الفرات عقد مناقشة تفصيلية وجادة بيننا، مثلما يليق بحليفين مقربين».

كان الجيش التركي قصف مواقع لـ«وحدات حماية الشعب» التركية في عين العرب (كوباني) شمال سوريا. وتشكل «الوحدات» المكون الرئيسي لـ«قوات سوريا الديمقراطية» حليف التحالف الدولي بقيادة أميركا لقتال «داعش». وكان رد التحالف في أن سيّر دوريات شمال سوريا قرب حدود تركيا في محاولة لـ«ردع» أنقرة، وإرسال إشارات إلى احتمالات المرحلة المقبلة. وهذا بمثابة تكرار لما حصل بداية العام عندما سيّر التحالف، وخصوصاً القوات الفرنسية والأميركية، دوريات في منبج شمال حلب بعدما بدأ الجيش التركي بضوء أخضر روسي على عفرين ذات الغالبية الكردية.

ومع أن العلاقات بين واشنطن وأنقرة كانت متوترة وقتذاك، توصل الطرفان إلى «خريطة طريق» حول منبج في بداية يونيو (حزيران) الماضي، تضمنت تسيير دوريات مشتركة في خطوط التماس بين فصائل «درع الفرات» المدعومة من أنقرة و«قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من واشنطن، إضافة إلى إخراج «الوحدات» من منبج وتشكيل مجلس محلي مقبول من السكان المحليين والأميركيين والأتراك.
حالياً، تبدو العلاقات الأميركية – التركية أفضل من السابق، حيث جرت سلسلة خطوات في المسار الثنائي، لكن الجيش التركي بدأ في تصعيد الضغط العسكري على شمال شرقي سوريا، حيث ينتشر ألفا جندي أميركي مع مئات من قوات التحالف الدولي. كما بدأت أنقرة في حشد فصائل سورية لاحتمال القيام بعمل بري ضد «الوحدات».

المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري، الذي عمل سفيراً سابقاً في أنقرة وأحد المدافعين عن تحسين العلاقات مع تركيا، قال أول من أمس: إن لواشنطن موقفاً واضحاً من «حزب العمال الكردستاني» بزعامة عبد الله أوجلان وتعتبره تنظيماً إرهابياً وتتفهم موقف أنقرة منه، وتتفهم موقف أنقرة من «الروابط» بين «حزب العمال» و«وحدات الحماية»، لكنها لا تعتبر «وحدات حماية الشعب» الكردية تنظيماً إرهابياً.

بحسب المعلومات، فإن واشنطن قامت بسلسلة من الإجراءات لبناء الثقة تجاه أنقرة، بينها ضبط تسليم السلاح الثقيل إلى «الوحدات» وإدراج ثلاثة من قادة «حزب العمال» على قوائم الإرهاب، لكنها لم تصل إلى حد تلبية جميع المتطلبات بانتظار نتائج المفاوضات.
وأفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» أمس، بأن وفدين فرنسياً وأميركياً زارا منطقة عين عيسى في ريف الرقة واجتمعا بقادة «قوات سوريا الديمقراطية» لبحث مستقبل ومصير شرق الفرات. وقال: «من المرتقب أن يخرج الطرفان بتفاهمات جديدة، حول المنطقة الواقعة في الشريط الحدودي ما بين نهري دجلة والفرات».

وسألت «الشرق الأوسط» مسؤولاً أميركياً، ما إذا كانت واشنطن وأنقرة تبحثان في خريطة طريق في تل أبيض على غرار منبج، فأجاب: «تعد تركيا دولة حليفة داخل حلف ناتو وشريكاً محورياً في التحالف الدولي لهزيمة (داعش). ونحن من جانبنا ملتزمون بشكل كامل بأمن حدودها. وتعتبر خريطة طريق منبج مثالاً واحداً حول كيفية عقدنا مشاورات وتنسيقاً مع تركيا لتناول مخاوفها الأمنية. وتستحق مخاوف تركيا المتعلقة بأمن شرق الفرات عقد مناقشة تفصيلية وجادة بيننا، مثلما يليق بحليفين مقربين. وسنستمر في العمل مع تركيا لتناول مخاوفها في الوقت ذاته الذي نشدد على الحاجة إلى الاستقرار في شمال شرقي سوريا لضمان الهزيمة الكاملة لـ(داعش)».

وكانت «قوات سوريا الديمقراطية» علّقت الهجوم على الجيب الأخير لـ«داعش» في ريف دير الزور قرب العراق اعتراضاً على القصف التركي، وللضغط على واشنطن لحماية «وحدات الحماية» قرب الحدود، خصوصاً أن عائلات المقاتلين من هناك. وأوضح المسؤول الأميركي، أمس، رداً على أسئلة عبر البريد الإلكتروني: «الحملة ضد (داعش) لم تنته بعد، ولا يزال القتال صعباً للغاية. وتعمل قوات التحالف بصورة وثيقة مع (قوات سوريا الديمقراطية) التي تشنّ عمليات هجوم ضد (داعش) في قلب وادي نهر الفرات. ولا تزال (قوات سوريا الديمقراطية) شريكاً ملتزماً في مواجهة (داعش)، ولا نزال من جانبنا ملتزمين بالعمل ضد (داعش)، كما أننا ملتزمون بالعمل مع (قوات سوريا الديمقراطية) لضمان هزيمة كاملة لـ(داعش)».

وربما يكون أحد الاحتمالات المتوقعة إقامة شريط أمني على طول الحدود يتم فيه إبعاد «الوحدات» وتسيير دوريات بين عرب من «قوات سوريا الديمقراطية» والتحالف الدولي لتلبية متطلبات تركيا وسط جهود غربية لردم الفجوة بين المكون العربي والأكراد في الجزيرة بعد تحريرها من «داعش»، خصوصاً بعدما ظهر توتر هناك بعد اغتيال لبشير فيصل الهويدي، شيخ عشيرة العفادلة، كبرى عشائر الرقة الجمعة الماضي.

وقال مسؤول دولي: إن حلفاء واشنطن شرق الفرات في المرحلة المقبلة تحت ضغط من اتجاهين: تركيا عبر قصف مناطق «الوحدات» من جهة والعشائر العربية التي ستتحرك ضد حلفاء واشنطن من جهة أخرى. لكن واشنطن تضع السيطرة على هذه المنطقة ضمن استراتيجيتها للشرق الأوسط، التي تتضمن مواجهة إيران لقطع طريق الإمداد بين طهران – بغداد ودمشق – بيروت. وسئل المسؤول الأميركي، أمس، عن أن السفير جيفري، قال أول من أمس: إن «إيران جزء من المشكلة، وليست جزءاً من الحل»، وإن واشنطن ستواجه «نشاطات إيرانية» وما إذا يعتقد وجود 2000 جندي في شمال شرقي سوريا كافياً لتحقيق ذلك، وإلى أي مدى يمكن للجيش الأميركي المضي في الاستجابة لأي اختبار إيراني في مواجهة قوات أميركية في شمال شرقي سوريا؟

أجاب المسؤول: «تتمثل مهمة القوات العسكرية الأميركية في سوريا في ضمان إنزال هزيمة كاملة بتنظيم داعش. كما تعتمد الولايات المتحدة أيضاً على استغلال الكثير من عناصر القوة الوطنية لتحقيق هدفين استراتيجيين إضافيين على الدرجة ذاتها من الأهمية في سوريا: ضمان انسحاب القوات العاملة تحت قيادة إيران من كامل الأراضي السورية، وتعزيز جهود التوصل لحل سياسي سلمي للصراع القائم بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254. ويعتبر التخلص من جميع القوات الإيرانية من داخل سوريا أولوية استراتيجية تتطلب مجموعة واسعة من الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها». وتابع: «ينصبّ جل تركيزنا على إقرار حل سياسي تصيغه وتقوده سوريا، بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي يجب أن يتضمن التمثيل الكامل لجميع السوريين من أجل بناء سوريا أكثر سلماً ووحدة».

بوابة الحل السياسي حالياً، هي اللجنة الدستورية وتشكيلها قبل نهاية العام. وأوضح المسؤول، أن قادة تركيا، وروسيا، وفرنسا، وألمانيا أصدروا بعد قمة إسطنبول «بياناً دعوا خلاله إلى تشكيل لجنة دستورية قبل نهاية العام. ونشعر بالتفاؤل إزاء هذا الإعلان».

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

شروط دمشق لتشكيل لجنة الدستور

شروط دمشق لتشكيل لجنة الدستور

أظهرت رسالتان بعث بهما وزير الخارجية السوري وليد المعلم ومندوب الحكومة السورية في نيويورك بشار الجعفري إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ومجلس الأمن الدولي، حصلت «الشرق الأوسط» على نصهما، اتهام دمشق المبعوث الدولي المستقيل ستيفان دي ميستورا بـ«حرق المراحل» و«الوصاية» على السوريين خلال السعي إلى «تشكيل» اللجنة الدستورية وخصوصاً القائمة الثالثة، إضافة إلى تمسك دمشق بأربعة شروط لتشكيل اللجنة بينها «عدم فرض أي جدول زمني» أو نتائج عمل اللجنة.

وكان دي ميستورا اجتمع مع ممثلي الدول «الضامنة» الثلاث (روسيا، إيران، تركيا) وممثلي دول «المجموعة الصغيرة» وتضم أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية ومصر والأردن في جنيف، حيث جرى الاتفاق على قائمة ممثلي الحكومة السورية (50 مرشحا) والمعارضة (50 مرشحا) للجنة الدستورية بموجب قرار مجلس الأمن 2254. لكن لم يتم التفاهم على القائمة الثالثة التي وضعها دي ميستورا من المستقلين وممثلي المجتمع المدني (50 مرشحا).

ورفضت دمشق لفترة طويلة لقاء دي ميستورا. لكن لقاء المعلم – غوتيريش على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر (أيلول) الماضي وبجهود روسية أدت إلى ترتيب زيارة للمبعوث الدولي إلى دمشق ولقاء المعلم في 24 الشهر الماضي.

اذ أعلن البيان الرسمي السوري على تمسك المعلم خلال لقائه دي ميستورا بـ«مبدأ السيادة الوطنية» في تشكيل اللجنة الدستورية، قدم المبعوث الدولي بيانا إلى أعضاء مجلس الأمن في 26 الشهر الماضي. وقال: «وزير الخارجية السوري أكد بقوة على مبدأي سیادة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وعدم التدخل في شؤونها. وأكد على أن الدستور السوري یعتبر مسألة سیادة وطنیة بالغة الحساسیة». وأضاف أنه فيما يتعلق بنتائج مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي بداية العام الذي أطلق عملية تشكيل اللجنة الدستورية «أشار الوزیر المعلم إلى نتائج أخرى غیر تلك التي عممها الاتحاد الروسي على هذا المجلس. وقال إنه من الممكن لحكومة سوریة أن تأخذ «بعض عناصر» النتائج التي عممتها روسیا وأن «توفق» بینها وبین «النتائج» الأخرى التي تفضلها الحكومة وأن الاختلافات الرئیسیة في هذا الخصوص تتعلق، بشكل أساسي، بدور الأمم المتحدة».

خلال التحضير لمؤتمر سوتشي، أسفرت اتصالات مكثفة بين غوتيريش ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن موافقة الأخير على إيفاد دي ميستورا لحضور المؤتمر بعد التفاهم على نقاط ملزمة، شملت أن يقتصر المؤتمر على اجتماع واحد ولا يسفر عن تشكيل لجان محددة، ولا خطوات تتعدى إقرار بيان اتفق عليه غوتيريش ولافروف وإقرار المبادئ السياسية الـ12 التي سبق أن صاغها دي ميستورا في جنيف. وبالفعل التزم لافروف مسودة البيان، ونصت على: «تشكيل لجنة دستورية من حكومة الجمهورية العربية السورية ووفد واسع من المعارضة السورية لصوغ إصلاحات دستورية كمساهمة في العملية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة، انسجاماً مع قرار مجلس الأمن الدولي 2254. ستضم اللجنة الدستورية على الأقل ممثلي الحكومة والمعارضة وممثلي الحوار السوري – السوري في جنيف وخبراء سوريين وممثلي المجتمع المدني والمستقلين وقادة العشائر والنساء. وهناك اهتمام خاص لضمان تمثيل للمكونات الطائفية والدينية. وأن الاتفاق النهائي (على اللجنة) يجب أن يتم عبر عملية جنيف برعاية الأمم المتحدة، بما يشمل المهمات والمرجعيات والصلاحيات وقواعد العمل ومعايير اختيار أعضاء اللجنة».

لكن دي ميستورا أبلغ مجلس الأمن في رسالة خطية في 26 الشهر الماضي: «فیما یتعلق بالتفاهم الذي تم التوصل إليه بین روسیا والأمم المتحدة قبل مؤتمر سوتشي – وهو الذي تطرقت إليه بالتحدید عندما قدمت إحاطتي لكم في 17 أكتوبر (تشرين الأول)– فإن الوزیر المعلم لم یر أنه متسق مع مبدأي السیادة وعدم التدخل. ولم یقبل المعلم أساساً بدور للأمم المتحدة بشكل عام فیما یتعلق بتحدید أو اختیار قائمة الثلث الأوسط». وتابع: «أشار المعلم إلى نتائج أخرى غیر تلك التي عممها الاتحاد الروسي على هذا المجلس. وقال إنه من الممكن لحكومة سوریا أن تأخذ «بعض عناصر» النتائج التي عممتها روسیا وأن «توفق» بینها وبین «النتائج» الأخرى التي تفضلها الحكومة- وأن الاختلافات الرئیسیة في هذا الخصوص تتعلق، بشكل أساسي، بدور الأمم المتحدة». وتابع: «بل إن المعلم أشار إلى أن حكومتي سوریا وروسیا قد اتفقتا مؤخرا على أن ضامني آستانة الثلاثة والحكومة السوریة سیعدون مقترحاً بشأن قائمة الثلث الأوسط من خلال مشاورات فیما بینهم وسیقدمونها للأمم المتحدة لتیسیره».

أربعة شروط

ردت دمشق بإرسال رسالتين واحدة من الجعفري إلى مجلس الأمن والثانية من المعلم إلى غوتيريش تضمنت ذات المضمون التنفيذي عدا أن الثانية تضمنت الإشارة الشخصية إلى لقاء المعلم – غوتيريش في نيويورك الذي كان «مفيدا ويمكن البناء عليه لتحقيق تقدم في تشكيل اللجنة الدستورية» ما مهد لزيارة دي ميستورا إلى دمشق لـ«تبادل الآراء في هذا الخصوص».

وجاء في الرسالة الخطية: «للأسف بينما كنا نسعى إلى معالجة الأمور في شكل رسمي ومدروس من دون القفز على الواقع أو حرق للمراحل، كان المبعوث الدولي في عجلة من أمره واعتبر أن اللقاء (المعلم – دي ميستورا) هو لقاء الفرصة الأخيرة… الأمر الذي أكده باستعجاله بإحاطة مجلس الأمن».

وتابع: «الاقتراح الذي قدمناه للمبعوث الخاص أن يتم العمل مع ضامني آستانة في شأن إعداد القائمة الثالثة بالتنسيق معنا ومع الأمم المتحدة هو اقتراح عملي ونابع من حقيقة أن فكرة تشكيل لجنة لمناقشة الدستور جاءت بعد اتفاق السوريين في مؤتمر سوتشي ضمن سياق تفاهمات مسار آستانة الذي كنا وما زلنا جزءا منه. بالتالي لا يمكن تقليل أو تجاهل دور الدول الضامنة»، إضافة إلى قولها إنه بالنسبة إلى دور مبعوث الأمم المتحدة «نرحب بدور كميسر لأعمال اللجنة، لكن لا يمكن أن يكون طرفا ثالثا على قدم المساواة مع الحكومة والمعارضة… ونعتقد أن يمكن أن يلعب دورا في تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطراف وتسيير وضع هذه القائمة بالتنسيق مع الدول الضامنة والأطراف السورية المعنية».

وأكدت الرسالة على مبادئ أربعة يجب التمسك بها خلال تشكيل اللجنة الدستورية، وهي: «أولا، ضرورة الالتزام القوي بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها أرضا وشعبا وأن لا مكان للإرهاب على الأراضي السورية. ثانيا، يجب أن تتم العملية كلها بقيادة سورية وملكية سورية وعلى أساس أن الشعب السوري صاحب الحق الحصري في تقرير مستقبله من دون تدخل خارجي ذلك انطلاقا من أن الدستور وما يتصل به شأن سيادة بحت يقرره السوريون بأنفسهم. بالتالي لا يمكن القبول بأي فكرة تشكل تدخلا في الشؤون الداخلية السورية أو قد تؤدي إلى ذلك. ثالثا، يجب عدم فرض أي شروط مسبقة أو استنتاجات مسبقة في شأن عمل اللجنة والتوصيات التي تقررها. اللجنة هي سيدة نفسها التي تقرر ما يصدر عنها وليس أي دولة وليس أي طرف مثل المجموعة الصغيرة التي حددت في شكل مسبق نتائج عملها (لجنة الدستور). رابعا، يجب عدم فرض جداول زمنية أو مهل مصطنعة فيما يخص اللجنة… بل يجب أن تكون خطواتنا مدروسة وأن تشبع نقاشا لأن الدستور سيحدد مستقبل سوريا لأجيال قادمة. لذلك يجب عدم الاستعجال».

وكان المعلم شرح لدى ميستورا بالتفصيل تاريخ الدستور السوري الموجود من 70 سنة ووجود إطار دستوري في البلاد، إضافة إلى رفض دمشق أن يقوم المبعوث الدولي بـ«الوصاية» على السوريين مقابل قبول دوره «ميسرا» لتشكيل اللجنة وعملها. وخرج دي مستورا، الذي كان قدم استقالته قبل ذلك، محبطاً وسط اعتقاده أنه ليس هناك أي أفق لتشكيل اللجنة برعاية الأمم المتحدة وأن المسار الأقرب للتنفيذ هو تشكيل لجنة عبر مسار آستانة – سوتشي.

وفي نهاية الشهر الماضي، عقدت القمة الروسية – التركية – الألمانية – الفرنسية في إسطنبول. وحاولت فرنسا وألمانيا عبر التزامهما مع «المجموعة الصغيرة» وضع جدول زمني اللجنة الدستورية برعاية الأمم المتحدة في جنيف قبل نهاية الشهر، في حين أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى صعوبة الضغط على دمشق «بموضوع سيادي». الحل الوسط كان الاتفاق على تشكيل اللجنة الدستورية «قبل نهاية العام إذا سمحت الظروف». لم يكن لافروف مرتاحا لهذا الالتزام، الذي قد يصبح «فخاً». لكنه سمح لفرنسا وألمانيا في مواجهة ضغوط واشنطن خلال اجتماع «المجموعة الصغيرة» في لندن الاثنين الماضي وعدم السعي إلى وضع جدول زمني.
عليه، قام ألكسندر لافرينيف مبعوث الرئيس الروسي بجولة إلى دمشق وطهران في اليومين الماضيين على أمل وفاء بوتين بتعهداته أمام القمة الرباعية لتشكيل القائمة الثالثة واللجنة الدستورية قبل نهاية العام.

ونقلت صحيفة «الوطن» المقربة من دمشق عن نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد أن دمشق «وكما تعاونت مع المبعوثين الخاصين السابقين، ستتعاون مع المبعوث الأممي الجديد غير بيدرسون، شرط أن يبتعد عن أساليب من سبقه وأن يعلن ولاءه لوحدة أرض وشعب سوريا، وألا يقف إلى جانب الإرهابيين كما وقف سلفه».

كان غوتيريش أبلغ مجلس الأمن تعيين بيدرسون خلفا لدي ميستورا الذي يقدم في 17 الشهر الجاري إحاطته الأخيرة إلى مجلس الأمن قبل تنحيه نهاية الشهر.

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

الصحافي الياباني يخرج من ‘الجحيم’ السوري

الصحافي الياباني يخرج من ‘الجحيم’ السوري

وصف الصحافي الياباني جومباي ياسودا الذي خطف في سوريا قبل أكثر من ثلاث سنوات وأفرج عنه هذا الأسبوع سنوات أسره ب”الجحيم”، ذلك قبل أن يستقل الطائرة التي ستقله الى اليابان.

وقال ياسودا “كان ذلك جحيما” في لقاء أجرته معه قناة تلفزيونية يابانية، مشيرا الى أن معاناته “لم تكن فقط على الصعيد الجسدي ولكن الذهني. كنا اقول لنفسي كل يوم (لن يتم الافراج عني اليوم) واصبحت أفقد السيطرة على نفسي يوما بعد يوم”. وبدت ملامح هذا الصحافي المستقل (44 عام) متعبة لكنه كانت مرتاحا ومتوترا في آن. وقال: “لم اتحدث اليابانية منذ 40 شهرا واجد صعوبة في استحضار كلماتي”.

وأضاف ياسودا “أنا سعيد بعودتي إلى اليابان ولكنني في نفس الوقت، ليس لدي أدنى فكرة عما سيحدث الآن وكيف يجب أن أتصرف، لا أعلم بماذا أفكر” قبل أن يعتذر عن “المتاعب” التي تسبب بها. وتعرض رهائن يابانيون سابقون للإهانة لدى عودتهم الى بلادهم من قبل مواطنيهم الذين اتهموهم بعدم اتخاذ الحيطة.

وكشف في لقاء تلفزيوني آخر عن ظروف احتجازه، موضحا بأنه لم يتمكن من الاستحمام لمدة ثمانية أشهر كما أجبر على البقاء بلا حراك لساعات طويلة.

خطف جومباي ياسودا في يونيو (حزيران) 2015، وظهر في تسجيل فيديو بثته جماعة جهادية مسلحة الصيف الماضي يحذّر من أنّه في وضع سيء. وفي أغسطس (اب) الفائت، نشرت جماعة جهادية شريطَي فيديو يتشابهان في طريقة التصوير لرجُلَين محتجزين في سوريا أحدهما الياباني ياسودا والآخر الإيطالي أليساندرو ساندريني. وكان المحتجزان راكعين ويرتديان لباسًا برتقاليًا، ويقف وراء كلّ منهما رجلان مسلّحان.

وفُقد أثر الرهينة الياباني في سوريا منتصف العام 2015. وفي مارس (آذار) 2016، أعلنت الحكومة اليابانية أنها تدقق في شريط فيديو منشور على الإنترنت، بينما ذكرت وسائل إعلام يابانية أن هذا الصحافي محتجز لدى جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة. لكن هيئة تحرير الشام، التي تقودها جبهة النصرة السابقة نفت في بيان الثلاثاء أي تورط في الأمر. وفي 2015 قام متشددون من تنظيم “داعش” بقطع رأس المراسل الحربي الياباني كينجي غوتو وصديقه هارونا يوكاوا في سوريا.

وكالات

سورية ‘ساحة اختبار’ بين روسيا واليابان

سورية ‘ساحة اختبار’ بين روسيا واليابان

رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي يريد خلال سنواته الثلاث في الحكم أن ينفض آثار «الحرب الباردة». الإبقاء على العلاقة الاستراتيجية مع أميركا. حل مشكلة العالقين مع كوريا الشمالية. «تطبيع» العلاقة مع الصين.

لكن الأهم، بالنسبة إلى آبي، هي التركيز على حل «النزاع التاريخي»، أي تطوير العلاقة مع روسيا للوصول إلى «بيئة آمنة ومستقرة» بين طوكيو وموسكو، قوامها الاقتصاد والاستثمار.

في سبتمبر (أيلول)، بادر آبي خلال مشاركته في منتدى روسي إلى دعوته الرئيس فلاديمير بوتين لـ«حل القضايا العالقة». بوتين، كتب بخط يده على ورقه جانبية، ثم قال أمام الحاضرين بأنه مستعد لتوقيع اتفاق سلام قبل نهاية العام لحل مشكلة الجزر الأربع المتنازع عليها منذ سبعين سنة.

منذ ذاك، عكف مسؤولون في البلدين للوصول إلى صيغة لاتفاق السلام، في وقت تجري خطوات بناء ثقة بين البلدين. يسعى دبلوماسيون روس ويابانيون للوصول إلى اتفاق. لن يكون قبل نهاية العام. توقعات طوكيو أن يكون منتصف العام المقبل «لكن النيات الطيبة لا تكفي. لا بد من حل مشكلة الأراضي وقبول السيادة اليابانية ثم توقيع اتفاق سلام».

سوريا، إحدى الساحات: كيف يمكن لطوكيو أن ترضي موسكو في سوريا من دون إغضاب واشنطن؟

وكان وزيرا الخارجية والدفاع في روسيا ونظيراهما اليابانيان عقدوا اجتماعات في موسكو في يوليو (تموز) الماضي، وجرى الاتفاق على مواصلة حوار الجانبين حول مختلف المواضيع ومنها ملف المساعدات الإنسانية الموجهة إلى سوريا في إطار التعاون الروسي – الياباني في المجتمع الدولي.

زائر اليابان يشعر أنها في محيط متغير في الكثير من التحديات في الجوار: روسيا والصين وكوريا الشمالية وأميركا. الرئيس الأميركي دونالد ترمب وجد مع رئيس الوزراء الياباني علاقة خاصة معه. كما أن آبي وجد علاقة خاصة مع بوتين. ترمب يريد تطبيع العلاقة مع بوينغ يانغ. دخل في «حرب تجارية» مع الصين.

تدرك اليابان أن الصين في صعود. هذا الصعود الاقتصادي على المسرح العالمي يفتح شهيتها في البحر الصيني الجنوبي. هي تواصل استعراض قوتها العسكرية. يلاحظ زيادة موازنة الدفاع. بدأت بتعزيز مواقع عسكرية وغيرها من وصول عدد كبير من السفن الصينية حول جزر سينكاكو اليابانية في بحر الصين الشرقي، وأيضاً قامت بتوسيع سيطرتها في مجال مياهها الإقليمية ومجالها الجوي وقواعد الاشتباك البحري في بحر الصين الجنوبي.

منشور رسمي في طوكيو «يحشد» ضد موقف بكين من جزر سينكاكو في بحر الصين الشرقي. ينتهي: «بصرف النظر عن التحديات التي تفرض نفسها، فإن اليابان ستستمر في تطوير العلاقات مع الصين والدول المجاورة عموماً باعتبارها دولة تقوم بدور مهم في صون السلام والاستقرار في آسيا والمجتمع الدولي».

كان الرئيس باراك أوباما سبق ووضع «خطا أحمر» لمنع الصين من تغيير الوقائع في بحرَي الصين، لكن لم يواجه بكين عندما فعلت. إدارة ترمب تريد بحر الصين الجنوبي «ثنائي القطبية» على أمل إعطاء بكين «دوراً مسؤولاً وبنّاء» في العلاقات الدولية وفي الإقليم. الصين هي «هدف لإدارة ترمب». لذلك، فإن الصين بالنسبة إلى اليابان فرصة وتحدٍ.

هناك الكثير من التاريخ الاستعماري بين البلدين، لكن اليابان تريد أن تنتقل العلاقة من بكين من سيئة إلى «طبيعية». الرهان على «التطبيع». لطوكيو الكثير من الشكوك إزاء نيات كوريا الشمالية ومدى تحويل «كلماتها إلى أفعال». ويقول دبلوماسيون: «من تجربتنا لا بد من التسلح بالكثير من الحذر مع كوريا الشمالية. ونقترح اتباع أسلوب خطوة – خطوة، لأن الطريق المرن لم ينجح في التوصل إلى اختراقات خلال عشرين سنة».

بين هذا وذاك، يسعى آبي لفتح ثغرة من البوابة الروسية. طوكيو تريد أن تتسلح بحل النزاع مع موسكو حول الجزر الأربع المستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 والبناء على البيان المشترك في 1956.

لا تبخل الخارجية اليابانية في توزيع منشورات تشرح الموقف الرسمي من الجزر المتنازع عليها. تشرح الموقف القانوني والتاريخي والسياسي وينتهي كل منها بتمسُّك الحكومة اليابانية بالحوار والحلول السلمية والعلاقات الاقتصادية.

الرئيس بوتين زار طوكيو وآبي زار موسكو. يعمل بوتين على استغلال التغير في الميزان الدولي لفرض وقائع جديدة في المحيط الاستراتيجي. تغيير المسار مع موسكو يستند إلى القراءة الواقعية لحكومة «الحزب الليبرالي الديمقراطي» الحاكم التي جعلت رئيس الوزراء يحشد مبكراً لإجراء بعض التغييرات، قد تعتبر «ثورية». قوات الحماية الذاتية اليابانية كانت مقيدة بموجب الدستور بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية، بعمليات حفظ السلام فقط وترك الأمور الجدية إلى الأميركيين أمراء القواعد العسكرية، لكن مشت خطوة أبعد في قواعد «الاشتباك العسكري». وفي 17 يناير (كانون الأول) 2013. جرى إقرار أول وثيقة لـ«استراتيجية الأمن القومي» بحيث توفر نقاطاً استرشادية لقضايا الأمن القومي وتطبيق مبدأ «المساهمة الفعالة في تحقيق السلام» ورصدت متطلبات ذلك في موازنة وزارة الدفاع.

اليابان التي كانت مكتفية لسبعة عقود بالتحالف الاستراتيجي مع أميركا، بات عليها توسيع خياراتها في البيئة الآسيوية المعقدة. مبادئ آبي ثلاثة: «على الدول أن تعلن مطالبها بموجب معايير القانون الدولي، وعدم استخدام القوة أو التلويح بها لتحقيق مكاسب، بل استخدام وسائل سلمية لفض النزاعات».

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

خدمة العلم تحول السويداء إلى سجن لرجالها

خدمة العلم تحول السويداء إلى سجن لرجالها

يشغل هاجس الخدمة الإلزامية الشباب السوري ويأخذ حيزاً كبيراً من همومهم وحياتهم منذ سنوات، إلا أن القصة اتخذت بعد الحرب أبعاداً أخرى كثيرة، لتتحول لمشكلة حقيقية يعاني منها الآلاف في عموم سوريا وفي السويداء بشكل خاص.

تشير أرقام تقديرية غير رسمية إلى أن عدد المتخلفين عن الخدمة العسكرية في السويداء تجاوز ٣٠ ألفاً بين فار من الخدمة و متخلف عنها، بنسبة قد تصل الى ٥٠ بالمئة من عدد شبان المحافظة الذين تتراوح أعمارهم بين ١٩ و٤٢ عاماً وهو سن التكليف والخدمة.

يقول نايف الذي يعمل شرطياً في إحدى القرى وهو على أبواب التقاعد: “باتوا يلقبونني بالقرية بالبومة أو وجه النحس، فمنذ خمس سنوات، اقتصر عملي على تبليغ المطلوبين للخدمة العسكرية، وبت ألحظ توجس الناس مني ونفورهم عند رؤيتي، لكن هذا عملي وعليّ القيام به.”

لم يتوقف الشبان عن الالتحاق بالخدمة أو البقاء فيها في الأشهر الأولى من الاحتجاجات، لكن الوضع تغير مع تصاعد العنف والتحول نحو المواجهات المسلحة، إضافة لإيقاف الحكومة لقرارات التسريح وطلب جنود للاحتياط، وبهذا أصبحت الخدمة العسكرية أشبه بالدخول إلى نفق مجهول النهاية.

وخلافاً لباقي المناطق السورية، لم يؤثر الموقف الشعبي من الحرب في هذه المسألة (معارضة وموالاة)، حتى أنه يمكن القول أن التخلف عن الخدمة في السويداء جعل موقفها مما يجري محايداً وبدت خارج الاصطفافات التي فرضتها جغرافية الحرب وطوائفها.

رفض عدد من الشبان الالتحاق بالجيش نتيجة لموقفهم السياسي أو الفكري، لكن للنسبة الأكبر من الرافضين أسباباً أخرى مختلفة شخصية أو عامة، مادية أو نفسية.

عن أسبابه الخاصة يقول عبد السلام وهو جندي فار من الخدمة “لم أستطع تحمل مشاهد الحرب اليومية، فما عانيناه لا يوصف أبداً، كنت على حافة الانتحار، وقررت الفرار من الحرب.” يضاف إلى الأسباب النفسية أيضاً التمييز والفساد داخل الجيش بالإضافة إلى المعاملة السيئة والإهانات المتكررة التي يتلقاها المجندون، وعن هذا يروي رواد، وهو أحد الجنود الذين شاركوا في جبهات الغوطة، “حتى في أشد اللحظات قسوة وأكثرها خطراً كان التمييز على الأساس الطائفي أو المناطقي موجوداً في طريقة التعامل وفي طبيعة المهمات الموكلة إلينا.”

كذلك لم تعد للخدمة العسكرية في زمن الحرب فترة محدودة يقضيها الشاب ويمضي في حياته بعدها، بل أصبحت حياة كاملة لا يُعرف متى تبدأ ولا متى تنتهي، فقرار التسريح بيد السلطات العليا فقط.

الموت على الجبهات أو الموت جوعاً

جاءت طلبات الجيش لتجنيد قوات احتياطية من الشبان، كارثية مع تردي الوضع المعيشي والأزمات الاقتصادية الحادة التي مرت في السنوات الماضية، فمعظم من طُلبوا معيلون لأسرهم، والذهاب للخدمة يعني موت باقي أفراد أسرتهم جوعاً، فراتب العسكري لا يكفيه شيئاَ في ظل الظروف الحالية، وإن حدث ومات في الحرب فلا تعويضات لأسرته تحميها من العوز وتأمن حياتها بعده.

يشرح أكرم الذي رفض الذهاب للخدمة ظروفه قائلاً: “ما هذه السخرية والاستخفاف بحياة الناس، يعوضون قتلى الحرب بساعة حائط أو درع شرف وبأحسن الحالات برأس من الماعز! أبي وأمي عاجزون تقريباً وأنا لدي ثلاثة أطفال وزوجة، ومسؤول عن إعالتهم جميعاً، فإن مت في الحرب هل ستكفيهم العنزة؟”

أما عن نتائج التخلف عن الخدمة العسكرية، فهي تعميم الاسم على الحواجز والحدود وكافة الدوائر الرسمية والأمنية، ليصبح الشاب مطلوباً لها، وتتجمد حياته بالكامل فلا يستطيع استصدار أي ورقة رسمية مهما كانت، من جواز السفر وصكوك الملكية وعمليات البيع أو الشراء، حتى تسجيل الزواج أو المواليد الجدد وتجديد أوراق ثبوته. إضافة إلى ذلك يصبح التنقل بين المدن مستحيلاً أيضاً نتيجة انتشار الحواجز في كل مكان.

من تداعيات المشكلة أيضاً الملاحقة القضائية والقانونية وبالأخص لموظفي القطاع العام أو المشترك؛ فبمجرد التخلف عن الخدمة، يُفصل الموظف من عمله، ويحرم من تعويضاته كاملة، ويصدر بحقه حكم قضائي أيضاً وغرامات مالية، وأدى هذا إلى حدوث أزمة في أعداد الموظفين بالمنطقة إذ بات من النادر أن تجد مدرساً أو موظفاً شاباً في تلك الدوائر.

ممنوع من السفر ومن العودة

تعتمد السويداء في اقتصادها بشكل أساسي على الموارد التي تأتيها من عمل أبنائها في الخارج سواء في المدن السورية الأخرى أو في دول الجوار وأميركا الجنوبية، إلا أن تفاقم مشكلة الخدمة العسكرية حرم الكثيرين من السفر، ومنع الكثيرين أيضاً من الزيارة، حتى أن بعض الشبان  الذين جاؤوا لقضاء إجازتهم في البلد تفاجؤوا بطلبات الاحتياط تنتظرهم ليُمنعوا من السفر ويخسروا عملهم وأرزاقهم في الخارج، وبهذا أصبحت الكثير من العائلات منقسمة ومشتتة بين الداخل والخارج.

توضح قصة مهند هذه التداعيات، فهو مدرس تاريخ متزوج ولديه طفل، اعتاد في كل صيف الذهاب إلى لبنان للعمل في محلات أقربائه ثم العودة مع بداية العام الدراسي ليتابع عمله في سوريا. إلا أن حياته انقلبت إلى كارثة خلال إحدى سفراته الحديثة، عندما أخبرته زوجته بأنه طُلب للخدمة العسكرية، يقول مهند: “لا أستطيع التحمل أكثر، أشتاق إلى زوجتي وابني، هم وحيدون في السويداء وأنا هنا، والتكاليف المادية مرهقة لا أقوى على تحملها، زوجتي موظفة أيضاً ولم يُقبل طلب استقالتها لتنتقل للعيش معي، تضطر لزيارتي كل ستة أشهر، ولا حل يلوح في الأفق.”

ومن الأشخاص الذين تأثروا أيضاً بتداعيات الخدمة العسكرية، سليم الذي اعتاد العمل كسائق على خط دمشق—السويداء، حيث كان يذهب كل يوم بسيارته لسوق الهال في العاصمة ويأتي محملاً بالخضار والمواد الغذائية ليبيعها في السويداء. “منذ طلبت للخدمة، تغيرت حياتي بالكامل لا أستطيع الالتحاق لأسباب كثيرة، ولم يعد بمقدوري العمل على السيارة، فأصبحت عاطلاً عن العمل وخسرت كل شيء” يقول سليم.

إضافة لتشتت العائلات وقطع الأرزاق والسجن داخل المحافظة، يعاني الفارون من الخدمة من صعوبات صحية، إذ لا تتوفر الكثير من الخدمات الطبية الاختصاصية بالسويداء، ويضطر العديد من السكان أن يذهبوا لدمشق لقربها الجغرافي، إلا أن الحواجز على الطرقات الآن تمنع المطلوبين من فعل هذا.

يروي أحمد وهو شاب في الـ٣٧ من عمره ومطلوب للخدمة العسكرية: “تعرضت لأزمة قلبية وأحتاج لإجراء عملية قثطرة في دمشق، ولأن السويداء لا يتوفر فيها جهاز طبي لوضعي الصحي، بات خطر المرض يهدد حياتي”، وليس لدى أحمد أي حل فإما يعتقل لفراره من الخدمة أو ينتظر مصيره في السويداء.

تزداد مشكلة المتخلفين عن الخدمة اليوم تعقيداً في ظل الأوضاع الأمنية والاقتصادية الصعبة التي تمر بها السويداء، ومع غياب الحلول وازدياد أعداد المطلوبين سقطت المدينة فيما يشبه الغيبوبة، وهي أمام خيارين إما أن تقدم صك براءتها أمام الحرب والاصطفافات و تدفع بأبنائها إلى الموت أو تتحول إلى سجن كبير لهم.

ما الذي حدث للثورة السورية؟

ما الذي حدث للثورة السورية؟

لم تكن مؤتمرات السلام السورية يوماً مشروعاً لصياغة عملية سلام تنهي الاقتتال، وإنما جزءاً من مشروع عسكري تتخلله بعض الوقفات السياسية، فبعد نهاية كل مؤتمر يتم التصعيد عسكريا في منطقة ما من البلاد، ويبدو هذا واضحاً عند مراجعة ما تخللته مؤتمرات جنيف وأستانة ومؤخراً سوتشي وانسحاب وفد المعارضة.

تكشف مراجعة هذه المؤتمرات أيضاً أن المجتمع الدولي مزيف وخائف وفقير إنسانيا مثلما لم يكن من قبل، كما تكشف تراجع الرؤية المبدئية للمعارضة الرسمية -وأعني هنا الائتلاف السوري المعارض- بوصفه كان الواجهة الجامعة لكل السوريين.

فالمعارضة فقدت مبدئيتها بالطرح  وتراجعت عن منطق الثورة النقية لاحقاً وتدريجيّاً لدرجة تقبل العسكرة بكافة إيديولوجياتها ومن ثم الاقتناع بفصيل كجبهة النصرة إلى التحالفات الإقليمية غير البريئة، كذلك المساهمة باصطفافات مناطقية ذاتوية لا تفيد إلا النظام وحلفاءه.

ولذا على كافة القنوات والشخصيات الفكرية الثقافية أن تتبنى المسؤولية التاريخية في رفض هذا الظلم بحق سوريا المُتجسد عام٢٠١١ والتخلي عن الشكل السياسي العسكري القائم حاليا، وعليهم السعي لتصدير أفكار وقيم تمرّد ٢٠١١ للعالم دفاعاً عن مبدئية الثورة السورية وإنسانية قضيتها، بوصفها تمرداً شجاعاً بالمقام الأول –يهدف لمقارعة الظلم استنادا لاعتبار لا يقبل المقايضة مفاده: أن مُحيط الثورة السورية هو محيٌطٌ لكل إنسانٍ رافضٍ للظلم وعاشق للحرية في العالم أجمع.

البداية

لا يمكن اختزال الوضع السوري الراهن في نطاق مصطلحات مرحلية أو اجتماعية تقليدية سياسية تُعرّف تشابكات ذاك الوضع من الناحية السياسية الدولية من جهة، ومن زاوية التعقيد المحلي المغرق في الخصوصية والتكتل من جهة أخرى. لذلك من الوارد واقعياً أن يُنظر لفكرة إنهاء الثورة السورية من خلال زاوية التحالفات والتفاهمات الإقليمية والدولية ومن ثم المحلية، إلا أن الكلام عن وحشية النظام بات كلاسيكياً ينطق به كل من يدعّي التعاطف أو الولاء للثورة السورية بشكلٍ صادق أو بشكلٍ وسطي دون تصميم لاحق لتحقيق ما تصبو إليه تلك الثورة، وهنا السؤال إذاً، ما هو معيار الولاء الحقيقي الذي يمنح الدافع لبقاء فكرة التمرد؟

الغَاية من الاحتجاج الثوري

يقود السؤال الأول لمجموعة من التساؤلات: ما هي الغاية من الاحتجاج الثوري في ظل التعبئة التي تقوم بها الدول الراعية للحرب السورية على المستوى الشعبي الاجتماعي؟

فمثلاً تركيا الحليف “الظاهري” للثورة السورية تستضيف قرابة ثلاثة ملايين لاجئ سوري على أرضها بشرط طبيعي، وهو ألا يعارضوا أي خطوة تركية داخل الأراضي السورية كأن يساندوا نَظريا العمليات العسكرية في الشمال السوري. فهل الولاء هو لسوريا الدولة كبقعة جغرافية؟

تعدد اليوم الولاءات بين السوريين عموماً لروسيا وإيران وتركيا، وللنقطة الأضعف حاليا – وهو تيار الثورة النقية أو إن جاز التعبير جيل  ٢٠١١ في الحراك السوري العام الذي لا يملك إلا أفكاره المتجذرة وإيمانه الراسخ بالقضية، وعكس الولاءات الأخرى ليس لديه تحالفات تعبث بالواقع السوري لمصلحتها.

و الولاء لفكرة الثورة بنقائها وغايتها هو مصلحة محلية جامعة تغري الجيل الحالي أو القادم بتقليدها أو على الأقل على التمسك بفكرتها كقيمة تغييرية تنضوي تحتها النزعة الوطنية.

هو يعني ألا تصبح الغاية الوطنية بطبيعتها الفطرية شرعية للحد الذي يجعلنا كمعارضين نقبل بأي تحالف أو سلوك ميلشيوي يحقق غايتنا الثورية وينسينا من حيث المبدأ ما هو هدفنا من حقيقة  الثورة السورية التي بدأت في ٢٠١١. ولاءات كولاء الائتلاف المعارض وفصائل الجيش الحر لتركيا مثلا، وولاء الأكراد لأمريكا وبطبيعة الحال ولاء النظام لروسيا وإيران.

تمّثل هذه الولاءات -باستثناء علاقة النظام بروسيا وإيران- شراكات مصلحية مؤقتة محكومة بظروف المرحلة، لكنها بالمحصلة تعبّر عن نية واضحة لدى تلك الأطراف بما يتعلق بالمستقبل السوري “المتشبع بالفكر التقسيمي.”

الفكرة النقية ليست وهماً

يتقاطع النقد اللاذع لتركيا أو للدول الخليجية الداعمة مع موقف عداء النظام لهذه الدول، لكن تشابهنا بالصدفة مع نقطة يتحدث بها إعلام النظام بشكل مزرٍ ومبتذل، لا يعني أبدا بأننا قريبون من عقليته، وإنما يعني بأننا ننظر للأمور بطريقة أعمق وأكثر شمولية تساعدنا على فهم إجرامه كي نستطيع أن نهزمه لاحقاً. بالصدفة أيضا سنجد أنفسنا كمعارضين نشترك مع النظام بأننا نتاج البيئة السورية، وهذا لا يعني بأننا نجابه كل ما هو سوري بشخصية النظام، وإنما نجابه ونكره كل ما هو مجرم وعدواني ومدمر بشخصيته.

الإعلام الكاذب والحقيقة الثورية

يعمل النظام في الداخل السوري على تعبئة الأجيال لصالحه، يجعلهم يصدقون أن كل معارض في الخارج هو إرهابي خارج عن القانون، وعلينا نحن المعارضين أن نصدّر لهم أفكاراً تجعلهم يلمسون الفارق بين الإعلام الكاذب والحقيقة الثورية، يجب أن يفهموا الفارق بين الثورة والإرهاب.

عندما يرى اليافعون بالداخل السوري مثلا أداء معارضة سياسية هشة لا ثقل لها، ولا تستطيع حتى أن تصدر بيان شجب يستهدف المدنيين في المناطق الساخنة، و يرون فصائل المعارضة المسلحة تقاتل لحساب دول معينة، إضافة لتلك المتشددة التي لا تمت لعقلية أي ثورة بالعالم بأي صلة، لن يصدقوا أن ثمة أنقياء وأوفياء بين ذلك الحشد، وهذا ما يجب تصديره لهم.

تغيير جذري ورؤية جديدة

يجب أن تتعلم الأجيال من ١٣ حتى ٢٠ سنة في الداخل معنى التمرد على الظلم، لا أن نجعل من تجربتنا الثورية التي لن تتكرر ركيزة لتقبّل الظلم.

ففي هذه المرحلة بالذات يجب ألا تتكرس لدى أي مثقف أو شاعر أو مفكر أو كاتب هاو فكرة أن مايكتبه في هذا الشأن دون قيمة، مامن شك بأن الشعور باللاجدوى يسود، لكن كتابة أي شيء جديد يهدف لنسف الولاءات الحالية السياسية والعسكرية، سيترك أثراً لاحقاً.

إذا صدقنا أن النظام انتصر يوماً ما فهو انتصر على فئات لم نعد نعتبر أنها تمثلنا، النظام لم ينتصر على إرادتنا. هو انتصر على محاكاة إرادتنا التي تمثلها تلك الفئات الغريبة عن جسم الثورة. فالثورة بمعناها الواقعي الذي لا يقبل اللبس، هي ليست الحدث السياسي ضد السلطة المستبدة، بل هي الموقف الرافض للظلم بكافة أشكاله.