بواسطة دعد ديب | مارس 14, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
بعد أربعة أيام دامية في مناطق الساحل السوري وبعد صرخات الموت التي بلغت الآفاق والتي طغت على المشهد العام، أكد كثيرون أن ما يجري نوع من الإبادة الجماعية، حيث لم يتح للناجين دفن موتاهم ومازال أغلبهم لغاية اللحظة يهيم على وجهه في الأحراش والغابات والتلال. وعلى وقع أصوات العويل والندب والصراخ وفي جو تنتشر فيه رائحة الموت الفاغر أشداقه، يأتي توقيع اتفاق تعثر طويلًا في توقيت حرج ومقلق.
ماذا يعني أن يأتي توقيع الاتفاق بين الأكراد والحكومة السورية في هذا التوقيت؟ ما الذي طرأ وما الجديد الآن؟ من منهما يحتاج الآخر ومن منهما قدم تنازلات للآخر وأين موقع العصا الأميركية في هذا الأمر؟
تساؤلات كثيرة تحوم حول هذا الاتفاق: هل جاء ليحول الأنظار عن المجزرة التي لم تتوقف حتى تاريخ إعلانه أم هو مناورة كي ينشغل الرأي العام بقصة جديدة تتعلق بقضية حساسة تهم كافة أطياف ومكونات الشعب السوري؟ هل ثمة ما يعوض هذا بذاك، فالمذبحة المفتوحة التي تمت وتتم على المكون العلوي السوري وسرقة بيوت العلويين وأرزاقهم وحرق أملاكهم والرعب الذي لاحقهم من جراء التنكيل بهم ضجت أخبارها وعمت حدود الكون رغم محاولات إنكارها. هل هي محاولة لتغييب المشهد النازف، لذا كان لابد من استعجال الاتفاق للتغطية على تداعياته السلبية التي تشير بعصا الإدانة لمن استجلب شذاذ الآفاق ليرتكبوا المجزرة.
الكل يستثمر في دماء السوريين فمن خلال النفير العام الذي أعلن في سوريا لكل جهاديي المنطقة، تمت معرفة العدد الكبير للمتشددين الموجودين ومآلات استثمارهم في منطقة أخرى أو التخلص منهم بعد أن أدوا أدوارهم المرسومة لهم ونفذوا المطلوب منهم. ويُشاع أنه حتى الدول الأوربية لاحقت وحصرت أعداد المؤيدين للمقتلة والزاعقين عبر وسائل التواصل الاجتماعي تمهيدا لطردهم واستخدام ذلك كذريعة للتخلص من أعداد اللاجئين المتنامية.
لا أحد باعتقادي إلا ويرغب بسورية موحدة من أقصاها إلى أقصاها رغم واقع التجزئة في الجغرافية السورية ودعوات التقسيم التي تخيم في الأفق وتركة النظام البائد المجرم والخراب الذي أمست البلاد عليه بعد رحيله، لذا من الطبيعي التساؤل عن تفاصيل الاتفاق، وهل سيكون بوابة للتخلي عن سياسة التهميش الذي رافق السياسة السابقة للحكومة الانتقالية على صعيد المشاركة والتشاركية بالفعل لا بالقول، وهل ثمة متغيرات تلوح في الأفق؟
طلب أحد القتلة من زميله أن يتوخى الحذر في القتل كي لا يخلط بين المستهدفين لأن كثيراً من العلويين يشبهون السنة في لهجتهم ولباسهم وسلوكهم وعاداتهم، هذا الكلام وإن كان لا يقصده قائله يؤكد أن الشعب السوري واحد ويعيش مع بعضه ويشبه بعضه على مدار عقود من التواجد المشترك قبل أن تلوثه سياسة الأجندات الحاقدة إلا أن هناك تساؤلات حول ما لم يرد في ما هو معلن من الاتفاق: هل ستسلم إدارة الساحل السوري للأكراد كنوع من التشاركية وبديلاً عن الأمن العام الذي صار بينه وبين سكان المنطقة ما صنع الحداد وانقطع حبل الثقة رغم ما يتردد من أن المقصود فلول النظام المجرم ولكن كثافة الضحايا المتعلمين من أطباء وصيادلة وخريجي جامعات ومعارضين أكل السجن من زهرة شبابهم تكذب تلك الرواية.
السيناريو قد يبدو مقبولًا وخاصة إذا تم السعي كي تكون الديمقراطية والقبول بالآخر هدفاً، وإذا جنحوا صوب السلم الأهلي ورأب الشرخ الاجتماعي الحاصل بتأثير الواقع المتفجر، وخاصة أن الواقع الاجتماعي المنفتح متقارب بين الأكراد والعلويين. من ناحية أخرى قد يمنع هذا إمكانية مواجهة عسكرية بين السوريين ويحول دون المزيد من الاقتتال وحقن دماء بشر تعبت من الموت، بالإضافة لحل مشاكل اقتصادية باتت تثقل كاهل الحكومة السورية.
ثمة من يقول أن الاتفاق سيتمخض عن إعادة انتشار لقوات قسد بالساحل السوري وهذا ما نتلمسه في الأقوال الشفوية التي تنتشر هنا وهناك والتي تهيأ لذلك تحت تسمية الجيش السوري، وسيتم استبعاد المجاهدين المتشددين بفصائلهم المتعددة بكل الوسائل الممكنة. ولا أستبعد هنا الصدام المسلح مع من يرفض منهم وبالمقابل قطع طريق التدخل على تركيا في سوريا بحجة الملف الكردي لأن الكرد وفق الاتفاق صاروا ضمن الدولة السورية ما لم يحدث طارئ يقوض هذه الإمكانية.
يقال إن مظلوم عبدي مع حفظ الألقاب جاء إلى دمشق على متن طائرة أميركية لذا من نافلة القول إن أميركا هي الراعي الرسمي للاتفاق، هذا إن لم يكن قبول إذعان، إذ صرنا نستغرب وللأسف أن يكون للسوري فعل حقيقي وأن يكون فاعلًا بقضايا تخصه وتخص حاضره ومستقبله، وهل بالإمكان يوماً أن نتخلى أن يكون دورنا كدمى في مسرح عرائس تدار أفعالنا بخيوط خفية تحاك عن بعد؟
في الحقيقة إن كل ما يوحد السوريين هو أمر إيجابي، وهذا كلام لا غبار عليه ولكن في زحمة الدم يحق لنا أن نتساءل عن التوقيت والجدية، وـما وراء الاستعجال فيه بعد التعثر الكبير، كما يحق لنا أن نتساءل عن حرمة الموت في ضجيج الفرح الإعلامي والرقص في الساحات العامة وإطلاق الأعيرة النارية والرصاص وتضخيم المشهد لصرف الأنظار عن رائحة الدم الطازج.
هل هذا الفرح طبيعي وهل هو مناسب؟ يجب أن يكون هنالك إعلان ليوم حداد وطني شامل كما يجري في كل دول العالم، حداد على أرواح الأبرياء الذين قضوا سواء من الأمن العام أو المدنيين ومعالجة الحقد والسعار الطائفي الذي انفلت من عقاله.
ما زلنا نترقب القطبة المخفية فيما يدور حولنا وننتظر ما تحت الطاولة أن يخرج للعلن وخاصة في ظلال الموت الذي لم يبتعد عن واقع السوريين على اختلاف أطيافهم وتوجهاتهم. وما زالت أعيننا شاخصة إلى الحل الديمقراطي والحرية والعدالة التي خرج آلاف السوريين والسوريات من أجلها وتضحياتهم شاهدة ملء العين والبصر وستظل هذه المطالب متجددة ومستمرة مهما طال الزمن لأنها محقة.
بواسطة طارق علي | مارس 3, 2025 | News, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
عندما أعلن الرئيس السوري، أحمد الشرع، حاجة بلاده لثلاث سنوات لكتابة الدستور الجديد، أثيرت عاصفة من التساؤلات الشعبية والقانونية حول المدد الزمنية المطلوبة فعلياً لكتابة دستور، خاصة أن الشرع عطّل العمل بدستوري عام 1950 و2012. يعتقد البعض أن كتابة دستور ناجح لسوريا هو عملية تتطلب الكثير من الوقت والجهد خاصةً إذا تم من خلال عملية شاملة تشارك فيها جميع فئات الشعب السوري. ويُثير البعض الآخر مخاوف حول الانقسامات المجتمعية العميقة في البلد ما قد يجعل عملية التوافق حول الدستور الجديد أكثر صعوبة. هذا المقال يُسلط الضوء على آراء بعض الخبراء حول صياغة دستور توافقي جديد في سوريا.
تجارب دستورية
إن كتابة الدستور هي عملية توافقية تنظم علاقة الأفراد ببعضهم وبالمجتمع وبالدولة وهي مرحلة ضرورية بعد قيام أي ثورة، أو إنهاء نزاع، أو صراع، أو حرب أهلية مسلحة.
وفي هذا الصدد يستذكر الخبير والاستشاري القانوني معتز الفاضل أنّ تونس استغرقت ثلاث سنوات ما بين 2011 و2014 لكتابة دستورها والمصادقة عليه إثر سقوط بن علي وانتخاب لجنة دستورية، وفي مصر جرى نفس الأمر باستصدار تعديل عسكري على الدستور مع سقوط حسني مبارك ريثما جرى اعتماد آخر في عام 2014، أما ليبيا فتدفع حتى اليوم ثمن عدم وجود دستور منذ سقوط القذافي عام 2011 والتوجه لدستور بديل مؤقت أوقد فتيل الحرب في البلاد رغم محاولات وضع دستور جديد وشامل عام 2017 لكنّ ذلك الدستور لم يكتب له النور نتيجة استمرار الصراع المسلح.
لن نبدأ من الصفر
يضيف الفاضل في معرض كلامه لـ “صالون سوريا”: ” ثمّة دول احتاجت الكثير من الوقت لصياغة الدستور لتعقيد ملفات الانتقال السلطوي كجنوب إفريقيا حيث كان الانتقال الديمقراطي من الفصل العنصري الى الحرية الشاملة عملية طويلة ومعقدة، واستغرقت صياغة الدستور عدة سنوات من المفاوضات والتوافق. لذلك يبدو من الطبيعي أن تأخذ سوريا فترتها الزمنية الملائمة، رغم أني أرى مع الكثير من الزملاء القانونيين والفقهيين أن ثلاث سنوات رقم مبالغ به جداً، فنحن لدينا دستور جامع لعام 1950، إذاً، لن نبدأ من الصفر، فهناك فصول جاهزة بأكملها، ووفق تقديراتي يمكننا خلال نصف عام إلى عام أن نضع على الأقل مسودة دستور”.
وبحسب الخبير فإن اجتماعات جنيف ما بعد القرار 2254 وعام 2015 يمكن البناء عليها لأن جزءاً كبيراً منها كان مرتبطاً بمناقشة آلية وضع دستور جديد للبلاد. وأضاف الفاضل “لذا لا زلت لا أفهم الغرض من المماطلة والبلد تمرّ في أحلك أوقاتها وأكثرها حاجة لعقد اجتماعي ناظم ودستور جديد!”
“دستور بعين واحدة”
يرى الباحث في الشؤون الدبلوماسية أسعد عرفة أنّه لا يجب البناء على الدستور من الصفر، لأنّ هناك فعلياً الكثير مما أنجز منه خلال فترات متباعدة، ولكن كلّ ما نرجوه ألّا يكون الهدف هو وضع دستور جديد بالكامل يتكامل مع ايديولوجية معينة تعنى بها قيادة البلد الجديدة.
ويضيف لـ “صالون سوريا”: “نخشى ألّا يقتضي ذلك الدستور الجديد ببناء دولة مواطنة حقيقية أو فصل للسلطات، وإنما تقديم دستور شرعوي يراعي الحالة التي خرجت من رحمها الفصائل التي حررت سوريا، وهذا مبرر رفض المرحلة السابقة من النقاشات المدنية التي تمّت في جنيف وغيره من دساتير سابقة معمول بها، وبالتالي ترغب الفصائل في وضع نفسها في خانة واحدة”.
وحول تصريحات الشرع حول دستور جامع يُجيب: “في هذه الحالة يجب الاحتكام لمناقشة ما تم إقراره مسبقاً مما يوفر الكثير من الوقت والجهد في حال توافرت النوايا الطيبة بمعزل عن ضغوط داخلية أو خارجية”.
موجبات الوقت الطويل
يؤكد الدكتور والأكاديمي القانوني هادي المنفي خلال حديثه مع “صالون سوريا” أنّ الأسد ترك خلفه “شبحاً” لدولة مدمرة بكل المقاييس المؤسساتية والبنيوية ما شكّل فراغاً كبيراً وإرثاً وتركة ثقيلةً للغاية لمن سيخلفه في الحكم، ما يعني أنّ الحاجة لبناء الدولة ومؤسساتها من جديد سيتطلب وقتاً وجهداً ومشروعاً كبيراً، والدستور السوري جزء منه.
بدورها تبيّن المحامية لمياء قباقيبي أنّ الدستور يجب أن يخضع لاتفاق شامل وأن يعرض كما العرف على الاستفتاء أو أن يكون ممثلا ًبلجنة موثوقة تمثل كافة أطياف الشعب السوري الذين لا ما يزالون على غير وفاق حول تمثيلهم حتى الآن- وبالتالي هناك أيضاً قضية سبعة ملايين لاجئ خارج الحدود في دول المنفى وهؤلاء يشكلون عائقاً كبيراً أمام أي استحقاق كبير على شاكلة الاستفتاء أو الانتخابات المقررة بعد أربعة سنين.
وتتابع: “في حال تمكنت الأمم المتحدة من لعب دور إيجابي فقد لا نستغرق كل هذه المدة لكتابة دستورنا، وتدخل الأمم المتحدة إذا قوبل باتفاق داخلي يسعى لرأب الصدع فإنّه سيثمر نتائج سريعة كما حدث في البوسنة والهرسك أواسط التسعينات خلال اتفاقية دايتون”.
دستور عام 1950
يرى كثير من الأخصائيين القانونيين أنّ الحل الأمثل كان الاعتماد على دستور عام 1950 بشكل مؤقت لتجنيب البلد الفراغ الدستوري، وهو أول دستور جرى إقراره بعد خروج الانتداب الفرنسي وقد صاغه كبار رجال القانون في الدولة ومن بينهم الرئيس ناظم القدسي. وكان ذلك أول ما يميزه، أما ثاني ميزاته فهي شكله المتقدم في نمط وطريقة إدارة الدولة والبلاد وتنظيمهم مع مبادئ الحكم.
وقد كان الدستور الوحيد الخالص الذي يؤمن الرفاه للسوريين والسوريات والتعددية، ويقيم نظاماً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً يراعي العدالة الاجتماعية في أبهى صورها، إلى أن جاءت الدساتير اللاحقة لتنسف الحياة السياسية والتعددية وتفضي إلى حكم شمولي ذي قطب واحد يدفع اليوم ثمنه السوريون والسوريات.
بواسطة أسامة إسبر | مارس 1, 2025 | News, العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
أعرف جرمانا جيداً، كنت أحب الذهاب إليها وقضيتُ فيها أوقاتاً ممتعة في منازل أصدقاء ما يزالون يسكنون هناك، وفي القلب. كانت أحياناً سهرات صاخبة تتخللها اختلافات في الرأي ونرفزة وصياح ومقاطعة كعادة السوريين في الحوارات السياسية في إطار اختلافٍ في الآراء لا يفسد للود قضية. وكنا نعود في أوقات متأخرة من الليل متفقين على اللقاء في بيت آخر لنكمل الحوار الذي لم يُحسم، أو لنستمع إلى قصائد جديدة لشاعر صديق. كانت جلسات المنازل أكثر راحة لتبادل الآراء في الأدب والسياسة بعيداً عن آذان مخبري العهد المتبخّر، الذين مُنحوا سلطة مطلقة غير قانونية على رقاب الناس في المقاهي والمطاعم.
حين قرأتُ في الإعلام التصريحات الأخيرة لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، المتهم بارتكاب جرائم حرب، والذي يعدّ نفسه رئيسَ بعثة تبشيرية للتقدّم الغربي في عالم يتسم بالإرهاب والتخلف، كما يروّج في خطاباته، اختلط لديّ الشخصي بالموضوعي، وثار غضبي من هذه التصريحات الملغومة التي تهدف إلى إذكاء نار الفتنة.
ثمة من يصطاد في الماء العكر، على الإعلام الاجتماعي، مستغلاً هذه التصريحات للتشكيك بوطنية الآخرين، ولا شك أن اصطياداً كهذا يعكس ذهنية طائفية منحطة تهدف إلى تخريب النسيج الجوهري للخارطة السورية الذي يشكل فيه ”بنو معروف“ أحد أجزاء القلب السوري. والجدير بالذكر أن سوريي السويداء خطّوا ملحمة فريدة في النضال المدني اللاعنفي ضد نظام بشار الأسد يثير الإعجاب، ويُضْرب به المثل، وتحمّلوا الحصار وشظف العيش، كي يوصلوا رسالتهم للسوريين كافة بأنه لا خيار إلا في حياة كريمة مشتركة مع السوريين كلهم في إطار نظام ديمقراطي حقيقي، بعيداً عن المصطلحات التي تسمم عالمنا.
أن يصرح رئيس وزراء من طينة نتنياهو ووزير دفاعه كاتس أنهما أصدرا الأوامر للجيش الإسرائيلي كي يستعدّ للدفاع عن جرمانا في العاصمة دمشق لهي مهزلة القرن الواحد والعشرين، وأمر يستدعي الضحك والسخرية، إذ كيف لمن تلطخت يداه بدم الأطفال والنساء والشيوخ وهادم البيوت فوق رؤوس سكانها، وقاتل ٤٥ ألف فلسطيني، هذا من دون أن نحصي اللبنانيين والسوريين الذين قُتلوا في الغارات داخل سوريا، كيف يمتلك هذه الجرأة- المسخرة، ويعلن جاهزيته للدفاع عن جرمانا. ليست هذه إلا بلاغة كاذبة وجوفاء ذلك أن نتيناهو ومن لفّ لفه لا تهمه سلامة أحد من السوريين، وهو الذي تفوح منه رائحة العنصرية الصهيونية، كما يعرف ذلك الموحدون الدروز قبل غيرهم. إن ما يهمّه بالدرجة الأولى هو الأرض السورية والماء السوري والثروات السورية وربما في النهاية اليد العاملة السورية، في ظل تفكّكٍ وركوعٍ واقتتالٍ بين السوريين. لكن هذا التصريح يحمل في طياته ما يحمل، ذلك أنه رسالة صريحة للقوى الدينية والسياسية في سوريا وللسوريين كلهم بأن إسرائيل، بعد ٢٠١١، وفي أعقاب حرب التدمير في غزة وجنوب لبنان، صارت ”سلطان“ الأراضي السورية التي تقع في الجنوب، وهذا يعني أن الجغرافية السورية صارت مقسمة في ضوء الأوضاع القائمة بين أراض واقعة في شمال سوريا تحت سيطرة ”السلطان“ التركي حيث يحشد الجيش التركي قواته، و“السلطان“ اليهودي الذي انتهك الاتفاقيات والترتيبات الأمنية في الجنوب. ذلك أن الأتراك، الذين يدعمون التحول السياسي القائم في سوريا، المتمثل في منح كرسي الحكم لهيئة تحرير الشام والتنظيمات المنضوية في عملية ردع العنوان، في إطار الصفقة السياسية الكبرى التي ما تزال تفاصيلها طيّ الكتمان، يتحركون من جهة فيما الإسرئيليون يتحركون من جهة أخرى لإحكام السيطرة على الجغرافية السورية إلا أن تصريح نتنياهو الماكر يلعب على وتر التوازنات الطائفية، موهماً من يريد أن يفهم خطأ بأن مكوناً ما هو تحت حمايته، كما لو أن أبناء هذا المكون يقبلون بأن يحميهم مجرم حرب يطلق التصريحات من أجل توجيه المزيد من الضربات للنسيج السوري المثقل بالجراح.
بدأت القصة في عهد رأس النظام الفار الذي أبدى جبناً فاضحاً في وجه انتهاكات إسرائيل شبه اليومية للمجال الجوي السوري، وفي وجه الإنزال العسكري المهين في قلب مصياف، بينما وجّه قواته وبراميله وجنرالاته، الذين كانوا يطيعونه طاعة عمياء، للبطش منذ البداية بمعارضي حكمه، الأمر الذي تطوّر إلى حرب حقيقية في الداخل على أنقاض هوامش المدن حيث اندلعت الانتفاضة المدنية قبل أن يسطو عليها ويركب موجتها الأصوليون.
اخترق الطيران الحربي الإسرائيلي المجال الجوي السوري واللبناني وعربد في السماء السورية قاصفاً على هواه، وكانت عملية التدمير الكبرى في أعقاب فرار بشار الأسد إلى موسكو. كانت البداية غارات متلاحقة طالت المدن السورية كلها وسط تواطؤ روسي وعجز إيراني ولامبالاة عربية بخطورة هذه الرسالة التي قالت للعرب بالبنط العريض إن اختراق المجال الجوي السوري يعني أن أجواءكم كلها تحت مؤخراتنا. ثم أُرسلت الرسالة من جديد في عهد القوى التي استولت على السلطة في دمشق وتم تدمير معدات الجيش السوري كلها، وانتُهكت الأرض السورية من جديد وسط صمت لم تعكر صفوه كلمة استنكار أو إدانة واحدة.
والآن تأتي الرسالة مرة أخرى بشكل استفزازي، كما لو أن جرمانا مستوطنة إسرائيلية، لكن الرسالة المضادة تأتي من السويداء، ومن سكان جرمانا أنفسهم، الرافضين لحماية مجرم حرب مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية، وهذا هو الموقف الوطني النبيل لبني معروف على مدار التاريخ السوري.
إن الردّ السوريّ الحقيقي الوحيد الفعال على هذه التصريحات المريبة، وللتخلص من بلاغة لا تجد في قاموسها إلا كلمة فلول لشيطنة الآخرين وتسريحهم من وظائفهم، هو بناء دولة ديمقراطية حقيقية قوية تمثل سوريا كلها خارج الاستئثار بالسلطة والتوجهات الديكتاتورية العسكرية والفصائلية الأحادية التي دفع ثمنها السوريون كلهم، بطريقة أو أخرى، في عهد الأسد من دمهم ورفاههم.
بواسطة سلوى زكزك | فبراير 24, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
تقول الأرقام الواردة من دمشق، إنّ ما يقارب مليون سوري وسورية قد عادوا إلى بلدهم بعد سقوط النظام. لقد شكل هذا السقوط المدوي صدمة عاطفية دفعت كل قادر على العودة للسفر فوراً. انقسم العائدون إلى شريحتين: شريحة مدفوعة بالعاطفة وتمتلك وثائق تمكنها قانونياً من العودة؛ وشريحة من الصحافيين\ات السوريين\ات العاملين\ات في محطات إعلامية عربية ودولية ممن عادوا فعلياً للعمل على الأرض السورية فحققوا استجابة عاطفية وحضوراً عملياً، وكانوا خير بداية للإعلام المنقول من على الأرض في جو عارم من الزخم المهني والعاطفي.
لكن السؤال الأهم بعد هدوء العاصفة العاطفية وتصديق واقع رحيل النظام إلى غير رجعة، هو ماذا عن باقي عودة السوريين\ات المنتشرين\ات في بقاع الأرض؟
تجدر الإشارة إلى أن عدداً كبيراً تجاوز المائتي ألف سوري من النازحين\ات السوريين\ات في لبنان وخاصة من النساء والأطفال قد عادوا إلى سوريا في الأشهر الأخيرة وحتى قبل سقوط النظام بحوالي خمسة أسابيع تزامناً مع الضربات العسكرية الإسرائيلية.
هل يعود السوريون؟ إنها محطة جديدة من الأسئلة المستجدة والتي تتصارع الأجوبة عليها، لأنها أكبر وأوسع من الإجابة بالنفي أو بالإيجاب.
ترتبط الإجابة على سؤال العودة بظروف كل شخص وحالته القانونية والمالية والعائلية. وترتبط أيضاً وبشكل أساسي بالعمل وبالتوصيف الاقتصادي المهني، كما ترتبط بالبعد العاطفي الوجداني أو العائلي المتشابك ما بين سوريا وما بين البلد المقيم فيه.
لكن وللأسف الشديد وتطبيقاً للمثل العامي الشهير (راحت السكرة وإجت الفكرة)، تبدو موجبات العودة أقل من موانعها. فعلى سبيل المثال يعيش وليم وهو مهندس سوري في ألمانيا، ولم يتمكن بسبب اللغة والتقدم في العمر من تعديل شهادته، وهو يعمل الآن كسائق باص للنقل الداخلي في إحدى المدن الألمانية، يروي وليم حكايته مع العودة قائلاً: “بعد خمسة أيام من سقوط النظام سألني المشرف على العمل وبصورة رسمية هل سأعود إلى سوريا؟ كان السؤال صادماً لأنه ورد من المشرف أولاً، ولأن صدمة الفرح بسقوط النظام لم تسمح لي بتوجيه هذا السؤال حتى لنفسي!” ربط المشرف سؤاله بحقيقة صادمة لوليم وللمشرف أيضاً، وهي أن ستة عشر سائقاً من أصل أربعين سائقاً يعملون في شركة النقل هم من السوريين. من المؤكد أن وليم يعرف هذا، وأن كافة السائقين السوريين يعرفون بعضهم البعض، لكن توقيت السؤال يتضمن حرص الشركة وربما ألمانيا على ضرورة ترتيب جدولة العودة إلى سوريا حتى كزيارة. تتعادل وجوه الصدمة هنا، إذ تطفو على السطح مصلحة العمل، بينما يغرق السؤال عميقاً في وجدان وليم وشركائه في العمل من السوريين.
الصدمة الأكبر حول سؤال العودة كانت في البيوت، بمشاورات انفعالية، مترددة ومركبّة جرت بين أفراد العائلات وخاصة بين الزوجين، وصلت بعض الصدامات إلى طلب الطلاق إن لم يوافق الزوج أو الزوجة على العودة أو إن قرر العودة تم بشكل منفرد.
ثمة قطب مخفية وغير معلنة تجعل من عدم العودة قراراً مؤكداً، مثل التبدلات الشخصية التي اتخذها أصحابها وخاصة صاحباتها مثل الزواج من أجنبي، أو خلع الحجاب. وللأمانة وفي بعض الحالات وبعد مرور أكثر من سنوات عشر على اتخاذ هكذا قرارات شخصية يبدو أن بعض الأشخاص لم يعلنوها في بيئاتهم العائلية، بل وقد تُخفى حتى عن الأب والأم، رغبة بعدم فتح أي نقاش وتداركاً لأي عتب أو مساءلة قد تصل إلى درجة القطيعة.
لن يعود السوريون\ات ممن لديهم أطفال لا يعرفون حروف اللغة العربية ولا الأرقام ولا التحية ولم يتحدثوا بها مطلقاً منذ ولادتهم. كما يمكن القول إن سقوط النظام قد شكل صدمة وجودية للجميع خاصة أن أحداً لم يتوقع سقوطه رغم الأمل الكبير بذلك ورغم الجروح النازفة شوقاً ورغبة بلم الشمل. إن سقوط الأبدية أربك الجميع وخلق حالة من اختلال التوازن الوجودي والعاطفي، تغيرت فجأة خارطة الأولويات لدى الجميع، حزمة من القرارات الفجائية والارتجالية التي طغت على تفاصيل الحياة اليومية.
بدأت بعض اللاجئات بالتزام قرار جديد، قرار عاصف بالتوقف عن شراء أي شيء جديد حتى لوكان قطعة ملابس منعاً لتراكم الأغراض التي سيشكل تصريفها أو التخلص منها عائقاً أمام إجراءات العودة. كما أن البعض منهن وفوراً قُمن بالتخلص من الكثير من قطع الملابس الفائضة وحتى قطع منزلية مثل الحرامات والأغطية أو بعض أدوات المطبخ. وبعض الأشخاص كسلمى، فقد كان قرار العودة لهن حاسماً وممكناً ولو كان مؤجلاً، لذا فقد افتتحت سلمى حقيبة كبيرة وألصقت عليها بطاقة كبيرة مكتوب عليها (شنتاية سوريا)، وبدأت بتوضيب كل الأشياء التي تراها ضرورية لاصطحابها معها إلى سوريا في رحلة العودة النهائية.
لن يعود كل السوريين\ات، ولن تكفي الصفحات للإجابة على هذا السؤال، وعنوان العودة يبدو موازياً تماماً للسؤال السابق، إلى أين سيكون اللجوء؟
الأهم هو أنه بات للسوريين\ات وطناً، يفرض التفكير به كمساحة متاحة للزيارة مهما كانت قصيرة، وطن استعاد السوريون والسوريات فجأة تفاصيله بزخم عاطفي غير مسبوق. تقول لي صديقة: “فور إعلان السقوط والدموع تغمر وجهي انتابتني موجة حنين لا يطفئها ماء البحار كلها”، لكنها أردفت قائلة: “تخيلي أن رائحة سوق باب الجابية تسربت من أنفي، وكأنها كانت كتلة مخزنة في الأعماق وانفجرت فجأة، بت محاطة بها وكأنني أقف هناك، أوسع صدري وحواسي كلها لاستنشاق هواء حُرمنا منه مع أنه كان ملوثاً، كان عصياً حتى على الحضور في يوميات اللجوء الممتدة والطاعنة في قسوتها وفي مرارتها المتسارعة.”
هناك ملايين من السوريون والسوريات ممن لجؤوا في أوروبا وتركيا وكندا ومصر ولبنان والأردن، فعلى الأقل أصبح ثلث سكان سوريا خارج بلادهم منذ سنة ٢٠١١. هذا عدا عن ملايين السوريين\ات المقيمين في أوروبا ودول الخليج و أربيل والعراق منذ قبل الثورة السورية، فهل سيعود هؤلاء أيضاً؟ لا أحد يمتلك جواباً حاسماً، تبدو الأسئلة كما الأجوبة متفاوتة الأهمية، متقلبة، غير حاسمة وعدوانية في بعض تفاصيلها، لكنها تستحق الإنصات، تستحق التمعن بجدية بالغة وبحنان يليق بالسوريين والسوريات وبسوريا.
يسعى العديد من السوريين\ات الآن إلى الحصول على جنسيات بلاد لجوئهم، فقط لضمان إمكانية زيارة سوريا مراراً والعودة إلى بلدان لجوئهم التي صارت تعادل بلدانهم الأصلية في التوصيف القانوني لحضورهم، ربما لن يعود الكثير ممن يتمنوا العودة لأنهم يفتقدون إمكانية تغيير صفة اللاجئ فقد فاتهم سن العمل والمقدرة على تعلم اللغة الجديدة، سيعيشون حلماً مريراً أزاحوه جانباً واستسلموا لفكرة أنهم بلا وطن! لكن الازدواجية الحاصلة اليوم تشكل اختباراً قاسياً، مرهقاً وشديد المرارة للعاجزين عن تجاوز واقع أن بلدهم صار مباحاً للعودة، وأن فرق التوقيت بات عاملاً حاسماً يؤكد اللا عودة، خاصة أنهم في البلد بلا دعم مادي وبلا ضمان صحي وبلا بيوت وربما بلا أهل أو جيران، وربما أبناؤهم هنا في بلاد اللجوء لكن بظروف لا تشبه اللمة العائلية، لكنهم غارقون في العجز وفي الخيبة.
البلدان لا تزول ولا تسقط مهما طالت الأزمنة، لكنها تضيّع أبناءها في كل سياقاتها الثابتة والمتحولة سلباً أم إيجاباً.
لك السلام وعليك السلام يا بلد، سوريا يا بلدنا.
بواسطة حيان درويش | يناير 27, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
توقفت الصحف الرسمية عن طباعة النسخ الورقية مع جائحة كورونا، إلا أن الأمر لم يكن إلا مقدمة لاختفاء هذه النسخ بسبب رغبة وزارة الإعلام في زمن النظام السابق في خفض النفقات، الأمر الذي كان قد سبقه إيقاف قناة “تلاقي”، ومن بعدها إذاعة “صوت الشعب”، ليبقى الإعلام السوري الحكومي في ذلك الوقت محصوراً بقنوات “السورية – دراما – الإخبارية – إذاعة دمشق – إذاعة سوريانا”، علاوة على المواقع الإلكترونية التي تتبع لصحف “البعث – تشرين – الثورة”، وكمصدر أساس للأخبار الرسمية، بقيت “وكالة الأنباء السورية – سانا”، مع وجود مجموعة من الإذاعات المحلية وصحيفة الوطن، فتجربة صحيفة “الأيام”، لم تكن طويلة بسبب الضغوط العالية التي مارستها السلطات آنذاك على الصحيفة، واعتقال مالكها “محمد هرشو”، ما تسبب بهجرته إلى الإمارات العربية المتحدة، ليعمل من هناك في الإعلام من خلال موقع “هاشتاغ سوريا”، وكل محاولات رفع سقف الحرية في التعبير من قبل وسائل محدودة كانت تغامر بالأمر مثل “إذاعة شام آف إم – موقع أثر برس – موقع كيو ميديا”، كانت تصطدم برد فعل عنيف من قبل “المكتب الإعلامي في رئاسة الجمهورية”، والذي تسلمته في أوقات الذروة من الحدث السوري “لونا الشبل”، التي توفيت في حادث سير ما زال ذكره يرتبط بالكثير من التفسيرات التي تشير إلى قيام النظام بتصفيتها، إذ ترافق الأمر حينها مع معلومات عن اعتقال شقيقها من قبل مخابرات النظام، وتأكد الأمر من خلال تغيبه عن الجنازة المتواضعة التي شيعت من خلالها “الشبل”، ومن ثم لم يظهر له أثر بعد سقوط النظام، ما يشير أيضاً إلى تصفيته ربما. ضمن هذا المناخ العام كانت وسائل الإعلام النشطة خلال الفترة الممتدة ما بين العام 2011 وحتى سقوط النظام تعمل ضمن ما يمكن تسميته بـ “الإعلام الموجه”، بعض هذا الإعلام وجه قسراً ودون رغبة القائمين عليه، والبعض الآخر اتخذ اصطفافاً سياسياً واضحاً تبعا لرغبة المالك، مثل “قناة الدنيا”، التي تحولت إلى “سما” بسبب العقوبات الدولية التي تعرضت لها القناة آنذاك، والأمر نفسه ينطبق على صحيفة الوطن التي كانت تتبع لـ “مجموعة راماك”، المملوكة من قبل “رامي مخلوف”، رجل الأعمال الأكثر شهرة.
مصير الصحف
لا يبدو مصير الصحافة السورية مبشراً خلال الفترة الحالية، فإن كان غياب جريدة البعث عن الساحة طبيعياً بفعل قرار الحزب بتعليق نشاطه إثر سقوط النظام تبعاً للبيان الذي جاء موقعاً من قبل “إبراهيم حديد”، الذي شغل منصب الأمين العام المساعد في الفترة الأخيرة، فإن الإدارة السورية الجديدة لا تبدي أي خطوة في إعادة طبع الصحف، إلا أنها أصدرت تعليمات بتغيير اسم صحيفة “تشرين”، إلى “الحرية”، مع تغيير الهوية البصرية للصحيفة وتغيير ألوان شعارها من الأبيض والأزرق إلى الأبيض والأخضر، فيما بقي اسم صحيفة “الثورة”، على حاله، وسبب التغيير حسب المعلومات التي حصلنا عليها هو ارتباط مسمى “تشرين”، بالنظام السابق، فالاسم من وجهة نظر متخذي قرار التغيير لا يرتبط بحرب تشرين بقدر ما يرتبط بتمجيد الانقلاب الذي نفذه حافظ الأسد للوصول إلى السلطة في تشرين الثاني /نوفمبر من العام 1970، وهو الانقلاب الوحيد في التاريخ السوري المعاصر الذي حمل اسم “الحركة التصحيحية”، وعلى الرغم من إن صحيفة “الثورة”، تحمل اسماً يمجد الانقلاب الذي نفذ في تاريخ “8 آذار / مارس”، من العام 1963 والذي أفضى إلى تسلم حزب البعث السلطة بشكل رسمي في سورية، إلا أنها بقيت حاملة لاسمها فهو يشير إلى مفهوم “الثورة”، من حيث المطلق، ويمكن أن يستخدم لتمجيد ثورة 18 آذار من عام 2011 والتي أفضت إلى إسقاط النظام السابق، وضمن هذه الأجواء لم يزل مصير الصحيفتين على المستوى المهني مجهولا، وغير مبشر بالمطلق.
يقول أحد الصحافيين العاملين في صحيفة “الثورة”، والذي يفضل عدم ذكر اسمه، أن ممثلي وزارة الإعلام أجروا عملية “إعادة التقييم”، للعاملين في الصحيفة وتم منح 55 من العاملين وغالبيتهم من الصحافيين إجازة مدفوعة الأجر، وتم التواصل مع بعض من منحوا إجازة ليعودوا إلى العمل، ورئيس التحرير المعين من قبل الإدارة الجديدة، “أحمد حمادة”، يعمل على إعادة كامل من تم منحهم إجازات، وتعمل حالياً الصحيفة من خلال الموقع الخاص بها ونسخة إلكترونية من العدد. ولكن على الرغم من إن النظام السابق سقط، إلا أن عقلية إدارة الصحف الرسمية لم تتبدل، فهي موالية لـ “الإدارة السورية الجديدة”، وبحسب الصحافي ذاته فإن الأمر طبيعي، فإن الإعلام الحكومي بطبيعة ملكيته للحكومة فإنه ينطق بلسان حالها، ولا يمكن أن يكون إلا موالياً لها، ويحاول تقديم أفعالها للجمهور بطريقة تروج للحكومة، لا تنتقدها، وهذا الدور يطلب غالباً من وسائل الإعلام الخاصة لا العامة، وبالتالي لا يبدو أن الثورة أو غيرها من الصحف الرسمية ستخرج عن هذا السياق.
أثناء حديث ودي مع أحد أعضاء اتحاد الصحافيين الذي كان موجوداً في زمن النظام السابق كمؤسسة إعلامية من المفترض أنها تعمل كنقابة، يظهر واضحاً أن هذا الاتحاد منذ تأسيسه عام 1974 لم يكن خارج النص البعثي، إذ يتم انتخاب، أو لنقل تعيين من تريده القيادة القطرية في منصب “رئيس الاتحاد”، وأعضاء القيادة المركزية. ولم يكن الاتحاد قادراً في أي يوم على ممارسة دوره في حماية الصحافيين السوريين من الممارسات المخابراتية، ولا من قانون “الجرائم الإلكترونية”، الذي يبدو أن النظام أصدره أساساً للتحكم بـمسار الصحافيين حتى على صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي. ويقول عضو الاتحاد الذي فضل عدم ذكر اسمه خلال حديثه لـ صالون سوريا: “المؤسسات الصحافية السورية ذات تاريخ عريق في المهنة على الرغم من أنها مملوكة للحكومة، وكان متحكماً بها.
الهيئة العامة: ما مصيرها؟
يُحكى منذ سقوط النظام عن تطوير منظومة التلفزيون السوري ليكون منافساً للقنوات الخاصة، ويُحكى أيضاً عن عملية إعادة تأهيل للكوادر، وإلى الآن لم يظهر مما يحكى إلا عملية إعادة التقييم، التي تصفها مذيعة تخشى من ذكر اسمها خلال حديثها لـ صالون سوريا بأنها تمت من قبل أشخاص لم يكونوا مهنيين، وتقول: لا يوجد قواعد واضحة لإبعاد مذيع أو محرر من العمل من خلال الإجازات القسرية التي منحت، فإحدى اللواتي تم إبعادهن عن العمل بإجازة ذات صوت معتمد من كبرى شركات الإنتاج لدبلجة البرامج الوثائقية، وكانت تعمل ضمن إحدى الإذاعات التابعة للهيئة، كما أن مذيعة تلفزيونية أجبرت على الإجازة وهي من ذوات الظهور اللائق والأداء المشهود له، ولا يمكن تبني وجهة النظر التي تقول آن الإبعاد تم بسبب الانتماء الطائفي، فكلا الشخصين اللذين ذكرتهما ليسا من الطائفة العلوية، ولم يكن لهما أي مواقف معلنة لتأييد النظام السابق، وبما أن الحديث عن عمل إعلامي فمن المؤكد أنهما لم تكونا كمذيعتين شريكتين في سفك الدم، ولكونها من النماذج النشيطة جداً في عملهما، يتأكد أن إعادة التقييم لم تكن جدية.
ويشير صحافي كان يعمل في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في سورية، إلى أن الآمال المبنية على التلفزيون السوري مستقبلا بأن يكون تنافسياً وقادراً على الحضور في المجتمع السوري خصوصاً، كوسيلة يمكن تصديقها، تبدو مثل ذر الرماد في العيون، فالوسيلة الإعلامية الحكومية لن تقدر على ممارسة الدور الرقابي المأمول منها، ولن تخرج عن دائرة الإعلام الذي تتحكم به الحكومة لتقدم مقولتها للجمهور، ولهذا الجمهور الحق بتصديقها أو تكذيبها بناءً على معرفته بالحقائق أولا، ومن ثم مراقبة وسائل الإعلام الأخرى وكيفية تعاملها مع أي قضية ستطرح من قبل التلفزيون السوري، وبدرجة ثالثة مصادر المعلومات التي منها “وسائل التواصل الاجتماعي”، وهذه الأشياء كان يمارسها الجمهور قبل سقوط النظام وسيبقى على حاله بعد سقوطها. وإذا كان هناك من يريد للتلفزيون السوري، أو المؤسسات الإعلامية الحكومية، أن تعمل بطريقة صحيحة فإن عليه أولاً أن يحررها من قيود “الإعلام الموجه”، الذي كانت تعيشه أيام النظام السابق، ولكن هل يمكن أن تترك وسائل الإعلام الحكومية لتمارس عملها تحت سقف عال من الحريات؟ هذا السؤال تبدو الإجابة عليه مقرونة بالنفي دائما.
هل تخلصنا من “التوجيه”؟
وسائل إعلامية عدة توقفت في سورية لأسباب تتعلق بغياب التمويل، أو نتيجة لتعرضها للتخريب، أو الخشية من العودة للعمل نتيجة ارتباطها بأحد رجال الأعمال المحسوبين على النظام. البيانان المنفصلان اللذان صدرا عن كل من جريدة الوطن، وإذاعة نينار، صبيحة يوم الثامن من ديسمبر / كانون الأول الماضي، وهما وسيلتان كان يملكهما “رامي مخلوف”، وسيطرت عليهما “أسماء الأسد”، بعد إقصائه من المشهد الاقتصادي، يعلنان التبرؤ من سياستهما الإعلامية الداعمة للنظام بالقول “كنا مجبرين”. وتعتبر مصادر صحفية عدة هذا الأمر مؤشراً على “الخوف”، من المرحلة الجديدة، فالمحاولات المبكرة لما سمي بـ “التكويع”، لم تكن ناجحة بالصورة التي كان يأملها القائمون على هاتين الوسيلتين على المستوى الإداري والصحافي. ويقول صحافي يعمل في صحيفة الوطني، شدد على عدم ذكر اسمه خلال حديثه لـ “صالون سوريا”، إن الأخبار التي تصدر عن جريدة الوطن تشرف عليها وزارة الإعلام من خلال ممثلين انتدبتهم إلى الجريدة منذ أن اعتبرت إن “الإدارة الجديدة”، تمتلك الحصة الأكبر في “جريدة الوطن”، نظراً لأنها باتت تمتلك حصة رجل الأعمال المعروف بولائه وتبعيته للنظام السابق، يسار إبراهيم، وذلك لكون أموال يسار هي من أموال الدولة المنهوبة وبالتالي لا بد من استعادة هذه الأموال. ويضيف الصحافي: على الرغم من أن رئيس التحرير وعد بعودة النسخة الورقية وعمليات الطباعة قريباً إلا أن الأمر لم يحدث نهائيا، علماً أن رئيس التحرير مقيم حالياً في فرنسا، إذ غادر البلاد صبيحة سقوط النظام وفقاً لما يعرفه العاملون.
الأمر نفسه ينطبق على عدد كبير من الإذاعات الخاصة، ولا يقبل أي من القائمين على هذه الإذاعات أو العاملين فيها الحديث عن المشكلة التي عرف “صالون سوريا”، بأنها نسخة طبق الأصل عما تعانيه جريدة الوطن، إذ إن “القصر”، تملك نسباً كبيرة من إذاعات “نينار – فيوز إف أم – ميلودي – شام إف إم” عنوة عن أصحاب التراخيص الرسمية في بعضها، ونتيجة لإقصاء صراع “أسماء – رامي”، في بعضها الآخر فيما بقيت إذاعة مثل “المدينة إف أم”، محمية بقرار من “ماهر الأسد”، شخصياً، لكون مالكها “ميزر نظام الدين”، من “أصدقاء الطفولة”، وأحد أذرعه الاقتصادية، وبعد سقوط النظام قررت الإدارة الجديدة أن “ترث”، هذه الإذاعات باعتبار أن الحصص الأكبر فيها مملوكة لشخصيات مرتبطة بـ “النظام”، وقد أسست من “أموال الشعب”، وهذا الإجراء لم يكن بالصورة القانونية، إذ تشير معلومات حصل عليها “صالون سوريا”، إلى أن الإدارة الجديدة وعبر “المحامي الممثل ليسار إبراهيم”، نقلت الملكية الخاصة بمن استهدفهم قرارها إلى شخصيات مرتبطة بها بشكل مباشر، وهذا الإجراء لم يكن قانونيا، إذ من المفترض أن تتم محاكمة رجال الأعمال، وإدانتهم، ومن ثم إصدار قرار بمصادرة هذه الوسائل الإعلامية وتحويل ملكيتها لـ الدولة (أي تأميمها)، أو عرضها في المزاد العلني واستعادة أموال الدولة، لا أن تصبح “وريثاً”، وتتعامل مع هذه الوسائل وكأنها من “غنائم الحرب”، ولا يمكن الحصول على رد رسمي من “وزارة الإعلام”، بوصفها المسؤولة عن الملف.
حالة نقل الملكية التي شملت عدداً كبيراً من وسائل الإعلام الخاصة، وتوقف بعضها الآخر عن العمل بسبب مصادرة المكاتب نتيجة لـ “ارتباطها بإيران”، مثل “قناة العالم سورية”، وقرار البعض التروي، والبعض الآخر نتيجة لـ “انعدام وجود ممول حالياً”، تشير إلى أن الإعلام السوري الذي سينشط حالياً داخل سورية، سيبقى إعلاماً موجها حاله في ذلك حال القنوات التي تقوم باصطفاف سياسي واضح لصالح “الإدارة السورية الجديدة”، مثل “تلفزيون سوريا – التلفزيون العربي”، الممولين من مؤسسة واحدة تتخذ من العاصمة القطرية مقراً لها، إضافة إلى منصة “تأكد”، التي تعمل على تبرير أو نفي الأخبار التي تدين “الإدارة السورية الجديدة”، بدلا من ممارسة دورها الذي تقدم نفسها من خلاله على أنها منصة تهتم بالتأكد من صحة المعلومات المروجة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والتحقق من مصادر المعلومة ومحاربة الأخبار المضللة. إلا أن أخطر ما يهدد العمل الصحافي وسلامته حالياً، هو ما ينقله صحافي سوري يعمل حالياً في دمشق بالقول: وزير الإعلام يستقبل ويحتفي ويقدم الفرص لمن يسميهم بـ “الإعلاميين الثوريين”، ويعتبر أن الأفضلية في المرحلة القادمة لهم، على الرغم من إن غالبيتهم مايزالون في خانة الهواة، والإجازة الأكاديمية التي يحملونها هي من جامعات غير معترف بها مقرها في مناطق الشمال السوري مثل جامعة عفرين، كما أن الصحافيين الذين يصنفون أنفسهم على إنهم هواة يطالبون في كل لقاء مع الوزير بإيقاف كل الصحافيين الذين كانوا موجودين في المناطق التي كان النظام يسيطر عليها عن العمل بحجة أنهم موالون للنظام أو كانوا يروجون لدعايته، إلا أن السبب الأساس هو محاولتهم طرد هؤلاء الصحافيين من سوق العمل وترك المجال مفتوحاً فقط لـ “الصحفيين الثوريين”، وذلك لعزوف وسائل الإعلام المرموقة عن التعامل مع هؤلاء “الثوريين”، بسبب قلة خبرتهم وانعدام مهنيتهم في غالب الأحوال.
الخشية من الملاحقة الأمنية تدفع الكثير من الصحافيين، بمن فيهم كاتب هذه المادة إلى إخفاء أسمائهم، ويعكس ذلك حالة الخوف التي مازال الإعلاميون في سورية يعيشونها على الرغم من أن الإدارة الجديدة تشدد على أن زمن الخوف انتهى بسقوط النظام. ويسخر أحد الصحافيين الذين أدلو بشهادتهم ضمن هذه المادة من السؤال عن سبب رفضه ذكر اسمه ليجيب بالقول: “ما بدي كون ضحية حالة فردية”، في إشارة إلى تزايد الانتهاكات التي توضع تحت خانة “حالة فردية – تصرف فردي”، من قبل الحكومة.
بواسطة عامر فياض | يناير 26, 2025 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
منذ نحو سبعة أعوام وأنا أكتب لموقع صالون سوريا، وكانت معظم المواد والتحقيقات التي نشرتها في الموقع وفي مواقع أخرى، طوال أكثر من عشرة أعوام، تدور حول ظروف الحرب وتبعاتها، الحرب التي فرضها نظام الأسد على الشعب السوري لكي يُجهض ثورته العظيمة التي سيُخلدها التاريخ. كتبتُ عن الشوارع المليئة بمشاهد القهر والألم، والمزدحمة بالمتسولين والمشردين، الذين باتوا جزءاً مألوفاً منها، ونابشي حاويات القمامة التي باتت مصدر رزقهم الوحيد، وباعة الأرصفة الذين يرتجلون من العدم بسطاتٍ تبيع أي شيء يمكن بيعه كي يؤمنوا لقمة عيشهم. كتبتُ عن النازحين والفقراء والمعدمين، وعن المتسربين من التعليم وأطفال الشوارع الذين تربوا وكبروا فيها. كتبتُ عن تدهور الواقع التعليمي والثقافي وعن هجرات الفنانين والمثقفين وأصحاب الشهادات، وعن العقبات والصعوبات التي يواجهها من تبقى منهم في البلاد، كما تحدثت في أكثر من مادةٍ وتحقيقٍ عن أزمات الكهرباء والوقود والمواصلات، وعن تردي الواقع المعيشي والاقتصادي لدى السوريين، الذين أصبح جلهم يعيش تحت خط الفقر، وغير ذلك من الموضوعات التي تناولت معاناة الناس وظروف حياتهم اليومية التي تميتهم كل يومٍ عشرات المرات.
اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد المجرم، الحلم الذي انتظرناه طوال حياتنا، وقفت عاجزاً طيلة الأسابيع الماضية عن الكتابة عن الفرح، رغم أن حدثاً كهذا، لم نكن نتخيله حتى في أحلامنا، يُمكن أن تُفرد لأجله عشرات بل مئات الصفحات، ولكن كيف يمكن للغةٍ من حروفٍ وكلمات أن تُجاري، تعبيرياً أو شعرياً، ما تقوله الشوارع والساحات التي كانت أفراحها أبلغ وأفصح وأشد تعبيراً من أنواع الفنون والأدب والصحافة كلها؟ أفراحٌ شاسعة بحجم وطنٍ يولد من جديد، كان لصوته الاحتفالي قدرة تعبيرية فاقت جميع محاولاتي التعبيرية التي عجزت عن صياغة مادةٍ ما، أنا الذي اعتادت لغتي لسنواتٍ على صياغة موضوعاتٍ تفوح منها رائحة بلاد مُنهكة، صُنفت كواحدة من أسوأ أماكن العيش في العالم.
في الساحات كانت وجوه الناس المُشرقة والطافحة بالنبض والفرح تكتب نيابةً عني، بعد أن زالت من تعابيرها معالم القهر واليأس والوجع. الأطفال المتسولون والمشردون في الشوارع والعاملون في نبش حاويات القمامة، في الصباح الذي تلا سقوط الأسد المجرم، كانوا يفردون صوره الممزقة على الطرقات والأرصفة ويدعون المارة أن يدوسوا عليها وأن يعبروا بسياراتهم من فوقها، وهم يرقصون ويهتفون هتافات الحرية والنصر الذي كان يَشعُّ من وجوههم التي زينوها برسوم علم سوريا الجديد، وجوههم التي لطالما تلونت بالقهر وأوساخ الشوارع والندبات التي حُفرت فيها. لربما كان هذا المشهد من أروع مشاهد انتصار العدالة.
بعض النازحين، الذين عاشوا لسنواتٍ في شققٍ غير مكسوة (على العظم) لا تصلح للعيش البشري، تحولت من سكنِ مؤقتٍ إلى شبه دائم، كانوا يحتفلون بكثيرٍ من الفرح والدموع في ذات الساحات والشوارع، التي لطالما جلسوا فيها باحثين عن أي عملٍ يمكن أن يؤمن لقمة عيشهم المريرة. كانوا يقفون فيها، مع أطفالهم، لأول مرة منتصرين على من دمَّر بيوتهم وهجَّرهم من مدنهم وقراهم، التي بات حلمهم بالعودة إليها قابل للتحقيق، وكان أطفالهم، الذين تفيض عيونهم أملاً وتفاؤلاً، يشعرون لأول مرة أن لديهم وطناً حقيقياً وأن بإمكانهم العودة إلى قراهم ومدنهم التي لم يتعرفوا إليها منذ ولادتهم.
في ساحة الحجاز وخلال وجودي في وقفةٍ تضامنية مع المعتقلين المفقودين، كانت قدسية المشهد وعظمته وملحميته تُلهم ذهني بعشرات الأفكار والمواضيع التي يُمكن الكتابة عنها، لكن دموع المرأة التي كانت تقف بجواري، كانت أكثر بلاغة وتعبيراً من أي كلماتٍ يُمكن أن تُكتب، دموعها التي كانت تشبه سوريا المتخبطة بين مشاعر الفرح والأمل والحزن والفقد والحسرة على المعتقلين الذين استشهدوا لكي يرسموا لنا طريق الحرية.
كانت صور المعتقلين المحمولة في الساحة تحدق بي، وهي تقول الكثير، وكنت أشيح بوجهي عنها، أخجل من عظمتها ومن النظر إليها. كيف يمكنني أن أكتب عنها بضع كلماتٍ مقتضبة، وكل صورة منها تحفل بعشرات القصص والمشاهد والذكريات، ويُمكن أن تُفرد لأجلها عشرات المقالات؟
خلال وقوفي في الساحة فكرت للحظة أن أجمع حكايات بعض الناس الذين حضروا إلى الوقفة، حاملين صور أبنائهم وأخوتهم وأقاربهم المفقودين، علهم يحظون بأي خبرٍ عنهم، لكن نظراتهم، الباحثة عن أي أمل، كانت تصفعني وتجعلني مشلول الحركة، غير قادرٍ على القيام بأي فعل، بل كانت تُشعرني بسخافة أن يُكتب عن معاناتهم فيما يقف العالم بأسره عاجزاً عن تقديم أي خبرٍ يُريح قلوبهم المتعبة التي مزقها الفقد. هربت من نظراتهم ورحت استحضر إلى ذهني، مشاهد المعتقلين المحررين من المعتقلات والسجون، والتي أمضيت ساعاتٍ طويلة وأنا أشاهدها خلال الأيام الماضية، بمزيجٍ من الفرح والحزن. شردت معها بعيداً لدقائق، حتى قاطعت شرودي نظرات شابة كنت أعرفها حين كانت طفلةً في إحدى مراكز الايواء قبل نحو ثماني سنوات. من كان يصدق أنها ستقف اليوم في إحدى أهم ساحات دمشق، وهي تودع الخوف والقهر والعجز، وتحمل علم سوريا الجديد، لتقول للعالم إنها انتصرت على من دمَّر بلادها واعتقل عدداً من أقربائها وشردها مع عائلتها لسنوات طويلة؟.
في السنوات الماضية تحدثت في أكثر من مادة صحفية عن الجيل الجديد، أو ما يُمكن تسميته بجيل الحرب، الذي فقد شعوره بالإنتماء إلى سوريا المُدمرة والممزقة، التي قد لا يعرف منها سوى مدينته أو قريته، هو الذي تربى على ثقافة الحرب والانقسام السياسي والخوف من الموت، ولم يتبلور لديه أي مفهوم واضح عن الوطن في ظل انحسار دور المرجعيات الوطنية وتمزق معظم الهويات الوطنية الجامعة. ذلك الجيل، الذي كان السفر إلى خارج البلاد، بالنسبة لمعظمه، الحلم الأبرز وطوق النجاة الوحيد، تراه اليوم، بعد سقوط النظام البائد، يتعافى ويُبعث من جديدٍ، ينهض حافلاً بالطاقات والانتماء الوطني، يَنشَط كخلايا النحل، يحضر في الساحات، في الوقفات الاحتجاجية والتضامنية، في حملات تنظيف الشوارع وزراعة الحدائق، وفي مختلف الأنشطة المدنية، ويشارك في التجمعات السياسية والمدنية وفي المبادرات الشبابية، يُعبِّر عن رأيه ، الذي كان مغيباً، وبكثيرٍ من الحماس والمسؤولية يشعر اليوم أنه أمام فرصةٍ ذهبية ليستعيد انتماءه لبلاده وليكون شريكاً فاعلاً ومؤثراً في صناعة تاريخها الجديد والنهوض بها.
قبل أيام من سقوط نظام الطاغية المجرم، كنت أفكر بالكتابة عن تلوث الهواء في بعض المناطق المحيطة بدمشق، وخاصة مدينة جرمانا، والتي يضطر الكثير من سكانها، في ظل أزمتي الوقود والكهرباء، لإشعال النايلون والبلاستيك والخشب والكراتين في مدافئهم، وكل ما توفر من موادٍ تساعدهم على استحضار بعض الدفء إلى بيوتهم الباردة. ويؤدي احتراق تلك المواد إلى انبعاث دخان كثيفٍ يلوث الهواء ويبعث على الاختناق. لكن هواء المكان تغير فجأة، بعد سقوط النظام البائد، وليس في الأمر حالة شاعرية ورومانسية، فقد لمس معظم الناس هذا التغيير وأصبحوا يتنفسون هواء مريحاً وخفيفاً وغنياً بالأوكسجين، بعد أن زالت رائحة الخوف واليأس والعجز من الشوارع التي أصبحت مُشرقة ورحبة، وتفوح منها رائحة الفرج والأمل.
آخر المواد التي كتبتها كانت تتحدث عن انعدام مساحات التنفس عند الناس في سوريا، نتيجة ما أفرزته ظروف الحرب التي التهمت الكثير من المساحات الخضراء وحرمت معظم الناس من طقوس النزهة والسيران وزيارة البحر، في ظل تدهور الواقع الاقتصادي وتفاقم أزمات الوقود والمواصلات، وهو ما جعلهم يلجؤون إلى أي مساحةٍ زراعيةٍ أو حتى ترابية تذكرهم بالطبيعة. اليوم، بعد سقوط نظام الطاغية، يُمكن القول أن كثير من الناس وجدوا مساحات تنفسهم في الساحات والشوارع التي بات السير فيها، بالنسبة لهم، نوعاً من النزهة والسيران، بل أن عشرات الآلاف باتوا يأتون كل يوم لزيارة دمشق من مختلف المحافظات، وبعضهم كان يتعرف إليها لأول مرة. الشباب الذين كانوا محاصرين في أحيائهم وحاراتهم وبيوتهم لسنوات، كونهم مطلوبين للخدمة العسكرية، تحرروا أخيراً من سجنهم وتعافوا من رُهاب الحواجز، وباتوا يتنقلون بين الأحياء ويجوبون الشوارع والساحات بكامل حريتهم، وتعلو أصواتهم في المقاهي وهم يخوضون النقاشات السياسة حول مستقبل سوريا، وكأنهم يولدون من جديد.
لقد كنت واحداً من أولئك الشباب، وبقيت مشلول الحركة لنحو سبعة أعوام، خشية اقتيادي للخدمة العسكرية الاحتياطية، كنت خلالها أتنقل، عند الضرورة، بحذرٍ شديد، سيراً على الأقدام، وأحياناً كنت أستعين بهوية أخي، وها أنا اليوم أمضي كثيراً من الوقت متجولاً في أحياء دمشق، التي كتبت كثيراً عن تعبها ومرضها وعتمتها، أتسكع في شوارعها بخفة ورشاقة من يمتلك جناحين، وأنا أودع الخوف الذي كان يتربص بخطاي كلما رأيت حاجزاً أو دورية عسكرية. أحاول استعادة علاقتي الحميمية الأثيرة مع المدينة، أُمعن النظر في كل تفصيلٍ صغيرٍ في شوارعها وأبنيتها، أُدرِّب عيني، التي اعتادت لسنواتٍ على رصد مشاهد الفقد والألم والقهر، أُدرّبها على إبصار التفاؤل والأمل والفرح الذي بات يرتسم على كل تفاصيل المدينة ويطل من وجوه الناس. لقد كنت أشتكي خلال السنوات الماضية من نقص الأصدقاء الذين غادر معظمهم إلى خارج البلاد، وها أنا اليوم أكتشف أنه مازال هناك الكثير منهم في دمشق، بعد أن خرجوا من حصارهم وعزلتهم ليبصروا النور، أصادفهم في الشوارع والمقاهي والساحات، التي بت أستعيد من خلالها ذكريات أصدقائي المسافرين، الذين عادت ذكرياتهم وضحكاتهم وأحاديثهم وخطاهم لتطل من كل شارعٍ أسير به، بعد أن باتت عودتهم، التي كانت شبه مستحيلة، إلى سوريا أمراً ممكناً.