رياح آميركية – روسية  على  الجنوب السوري

رياح آميركية – روسية على الجنوب السوري

التركيز حالياً على «هدنة الجنوب» السوري. هي تقع بين حافتين: أفكار أميركية – أردنية مع روسيا مرفقة بتحذيرات للحفاظ على اتفاق «خفض التصعيد» وتنفيذه بنوده بما في ذلك إبعاد «حزب الله» تنظيمات تابعة لإيران من جهة، وتشجيع طهران لدمشق للذهاب إلى الحل العسكري والتلويح بأسلوب «الأرض المحروقة» من جهة ثانية. وكان لافتاً أمس، إعلان واشنطن موقفاً تضمن مطالبة موسكو بالوفاء بالتزاماتها بموجب بيان الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين العام الماضي.

بعد غوطة دمشق وريف حمص، كان النقاش عن الوجهة المقبلة للمعارك والتسويات في سوريا: جنوب غرب، شمال غرب، شمال شرق. والفرق بين المناطق هو عمق الانخراط الخارجي. اتفاقات «خفض التصعيد» شرق دمشق وشمال حمص حصلت بضمانة روسية ورعاية مصرية، غير أنه في الاتفاقات الأخرى كان هناك انخراط مباشر عسكري ودبلوماسي لدول مجاورة و/ أميركا وروسيا. إذ إن اتفاق «خفض التصعيد» في جنوب غربي البلاد حصل باتفاق روسي – أميركي – أردني بعيداً عن عملية آستانة، فيما يقع اتفاق إدلب ضمن عملية آستانة التي تضم روسيا وتركيا وإيران. أما منطقة شمال شرقي البلاد، فإنها محكومة باتفاق «منع الصدام» بين الجيشين الأميركي والروسي اللذين اعتبرا نهر الفرات خط الفصل بينهما بعد معاركهما ضد «داعش».

رياح الجنوب

تشكل أجزاء من محافظات درعا والقنيطرة والسويداء جنوب سوريا إحدى مناطق خفض التصعيد باتفاق أميركي – روسي – أردني في يوليو (تموز). وحاولت قوات النظام العام الماضي مراراً التقدم إلى أحياء سيطرة الفصائل في المدينة وخاضت ضدها معارك عنيفة من دون أن تحرز تقدماً بعد صد «الجيش السوري الحر» المهاجمين.

بعد الغوطة وحمص، الواضح أن دمشق حسمت خياراتها بدفع قواتها وتنظيمات تدعمها إيران إلى الجنوب وشمل ذلك قوات العميد سهيل الحسن المعروف بـ«النمر» والفرقة الرابعة و«لواء القدس» التابع لـ«الجبهة الشعبية – القيادة العامة» بزعامة أحمد جبريل بعد الانتهاء من معارك مخيم اليرموك قبل أيام. كما ألقت مروحيات منشورات، وطبعت على أحد المنشورات صورة مقاتلين قتلى مرفقة بتعليق: «لا تكن كهؤلاء. هذه هي النهاية الحتمية لكل من يصر على الاستمرار في حمل السلاح (…) اترك سلاحك قبل فوات الأوان». وكتب على آخر: «أمامك خياران، إما الموت الحتمي أو التخلي عن السلاح، رجال الجيش قادمون، اتخذ قرارك قبل فوات الأوان».

وحضت منشورات أهالي درعا، التي انطلقت منها «شرارة الثورة» في 2011، للتعاون مع قوات الحكومة ضد «الإرهابيين»، علماً بأن دمشق تصف جميع المعارضين بأنهم «إرهابيون»، وأن مقاتلي الجنوب هم من «الجيش الحر» باستثناء عدد قليل من عناصر تابعين لتنظيمات متطرفة.

وتسيطر فصائل معارضة على سبعين في المائة من محافظة درعا، وعلى أجزاء من مركز المحافظة. وتوجد في المدينة القديمة الواقعة في القسم الجنوبي من درعا فيما تحتفظ قوات الحكومة بسيطرتها على الجزء الأكبر شمالاً، حيث الأحياء الحديثة ومقرات مؤسسات الحكومة.

وبالتزامن مع انطلاق عملية «آستانة» التي قاطعتها أميركا، انطلقت بين واشنطن وموسكو وعمان في مايو (أيار) العام الماضي، مفاوضات لإقامة منطقة «خفض تصعيد» جنوباً أسفرت في يوليو عن اتفاق بين الرئيسين ترمب وبوتين على هامش قمة هامبورغ، ثم جرى التأكيد عليه خلال قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (أبيك)، في دانانغ في فيتنام في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وقتذاك، توصل وزيرا الخارجية الأميركي حينها ريكس تيلرسون، والروسي سيرغي لافروف، إلى اتفاق، أُعلِن باسم الرئيسين ترمب وبوتين في 11 نوفمبر تضمّن عناصر، بينها أهمية «خفض التصعيد» في الجنوب باعتباره «خطوة مؤقتة» للحفاظ على وقف النار، وإيصال المساعدات الإنسانية بهدف «الخفض والقضاء النهائي على وجود القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من المنطقة لضمان سلام أكثر استدامة»، في إشارة إلى عناصر الميليشيات الإيرانية و«حزب الله».

وكانت وُقعت في عمان، في 8 نوفمبر، مذكرة تفاهم لتنفيذ اتفاق، وتضمنت تأسيس مركز رقابة في عمان لتنفيذ الاتفاق الثلاثي لاحتفاظ المعارضة بسلاحها الثقيل والخفيف، وتحديد خطوط القتال، وبدء تبادل تجاري مع مناطق النظام، وتشكيل مجلس محلي معارض، واحتمال عودة اللاجئين من الأردن أو نازحين قرب الحدود.

بالنسبة إلى موسكو، فالخطة التي ضمنت تعاوناً روسيّاً – أميركيّاً، تعني القضاء نهائيّاً على «جبهة النصرة» و«جيش خالد» التابع لـ«داعش». وقدمت وقتذاك إدارة ترمب تنازلاً بأنها جمدت البرنامج السري لدعم فصائل المعارضة بتنسيق من «غرفة العمليات العسكرية» بقيادة «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي إيه) في الأردن. ونهاية العام الماضي، أوقف الدعم العسكري والمالي فعلياً لـ35 ألف مقاتل معارض في «جبهة الجنوب».

ومنذ نوفمبر الماضي جرت سلسلة لقاءات أميركية – روسية – أردنية لتنفيذ الاتفاق الثلاثي. حيث جرى تبادل الاتهامات، واشنطن تقول إن «موسكو لم تلتزم إبعاد (القوات غير السورية) بين 5 و15 كيلومتراً في المرحلة الأولى، و20 – 25 كيلومتراً بالمرحلة الثانية. وموسكو التي نشرت بعض نقاط المراقبة ضمن منطقة فصل تلف خط القتال بين النظام والمعارضة، تقول: إن واشنطن لم تلتزم محاربة (النصرة) و(جيش خالد)».

لكن الاتفاق بقي صامداً مع وقف عمليات القصف والعمليات الهجومية. وخلال معارك غوطة دمشق حاول معارضون الاستنفار لـ«نجدة الغوطة»، فجاء الجواب من السفارة الأميركية في عمان برسالة بعثت إلى قادة فصائل «الجبهة الجنوبية» في «الجيش الحر»، فيها أن الضربات من الطيران الروسي أو السوري «لا تعني بأي شكل من الأشكال نهاية اتفاق خفض التصعيد الموقع بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والأردن ولا تشير إلى أي تغيير في سياستنا العامة تجاه سوريا». وتابعت: «كدولة ضامنة لاتفاق خفض التصعيد، لا نرغب بأن نرى النظام يأخذ أراضيكم في الجنوب ونريد حفظ حقكم بالمطالبة بدولة الحرية والعدالة، لذلك نطلب منكم الحرص الكامل على عدم إعطاء النظام وحلفائه أي فرصة للانقضاض عليكم أو يقوم في درعا والقنيطرة بما قام به في الغوطة الشرقية» (قبل انتهاء المعارك). وفي إشارة تحذيرية، جاء في الرسالة: «إذا بادرتم في عمل عسكري ينتهك خفض التصعيد لن نستطيع أن ندافع عنكم، وإن بادر النظام بانتهاك الاتفاق فسنفعل أقصى ما بوسعنا لوقف الانتهاك وضمان استمرار اتفاقية خفض التصعيد».

عرض ـ تحذير أميركي

مع اقتراب التعزيزات إلى درعا وإجراء ميلشيات إيرانية عمليات إعادة انتشار وبث حملات دعائية، بدأ حلفاء المعارضة البحث في الخيارات. وبحسب المعلومات المتوفرة لـ«الشرق الأوسط»، فإن مساعد نائب وزير الخارجية ديفيد ساترفيلد عكف في الأسبوع الماضي على صوغ مقترح استمزجه مع دول إقليمية. وتضمن العرض الذي كان مقررا بحثه مع الجانب الروسي: انسحاب جميع الميليشيات السورية وغير السورية إلى عمق 20 – 25 كيلومتراً من الحدود الأردنية (علماً بأن الاتفاق الثلاثي نص فقط على انسحاب المقاتلين غير السوريين فقط، في إشارة إلى ميلشيات إيران) للاعتقاد أن إيران جنّدت ميليشيات سورية، نقل مقاتلي المعارضة وأسرهم إلى إدلب شمال سوريا (التقديرات بأنهم نحو 12 ألفاً)، عودة الجيش النظامي إلى الحدود وعودة مؤسسات الدولة إلى درعا، إعادة فتح معبر نصيب بين سوريا والأردن، إضافة إلى تشكيل آلية أميركية – روسية للرقابة على تنفيذ هذه البنود.

والأهم، أن أفكار ساترفيلد، الذي عُيِّن الباحث في مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ديفيد شنكر بدلاً منها، تضمنت احتمال تفكيك معسكر التنف الأميركي في زاوية الحدود السورية – الأردنية – العراقية، الذي تعرض لانتقادات علنية من موسكو. وربط دبلوماسيون بين هذا «العرض» والوجود الأميركي شمال شرق سوريا بعد هزيمة «داعش».

كما حاول مسؤولون أردنيون التواصل مع الجانب الروسي للحصول على «ضمانات» بتأمين الحدود وعدم قدوم لاجئين جدد إلى الأردن، وفتح المجال لعودة لاجئين سوريين إلى بلادهم، في وقت بحث معارضون من الجنوب تداول اقتراحاً تضمن تدمير المعارضة للسلاح الثقيل أو تسليمه إلى دمشق ونشر عناصر من الشرطة الروسية بين حدود الأردن ودرعا بعمق 18 كيلومتراً، إضافة إلى عمل آلاف من مقاتلين معارضين كشرطة محلية وعودة مؤسسات الدولة إلى الجنوب.

لكن مفاوضات داخل إدارة ترمب، رجحت خط وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الجديدين مايك بومبيو وجون بولتن، خصوصاً أن ساترفيلد على وشك ترك منصبه، وربما كي يصبح سفيراً في أنقرة، إذ أعلنت الخارجية الأميركية أمس بياناً تضمن تحذيراً من أنها ستتخذ «إجراءات حازمة ومناسبة»، ردّاً على انتهاكات وقف إطلاق النار، قائلة إنها تشعر بقلق بشأن تقارير أفادت بقرب وقوع عملية عسكرية.

وقالت هيذر ناورت الناطقة باسم الوزارة في بيان: «تشعر الولايات المتحدة بالقلق من التقارير التي أشارت إلى عملية وشيكة لنظام الأسد في جنوب غربي سوريا، ضمن حدود منطقة تخفيف التصعيد التي تم التفاوض عليها بين الولايات المتحدة والأردن والاتحاد الروسي في العام الماضي، وتم التأكيد عليها بين الرئيسين ترمب وبوتين في دا نانغ في فيتنام في نوفمبر. لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة بالحفاظ على استقرار منطقة تخفيف التصعيد في جنوب غربي البلاد، ووقف إطلاق النار الذي تقوم عليه. ونحذر أيضاً النظام السوري من أي أعمال قد تشكل خطر توسيع دائرة الصراع أو تعريض وقف إطلاق النار للخطر. ستتخذ الولايات المتحدة إجراءات صارمة ومناسبة رداً على انتهاكات نظام الأسد بصفتها ضامناً لمنطقة خفض التصعيد مع روسيا والأردن». وتابعت: «روسيا مسؤولة على النحو الواجب كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي لاستخدام تأثيرها الدبلوماسي والعسكري على نظام الأسد لوقف الهجمات وإجباره على وضع حد لأي هجمات عسكرية مستقبلية. يجب على روسيا أن تفي بالتزاماتها المعلنة وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254 ووقف إطلاق النار في جنوب غربي سوريا بحسب ما هو محدد في بيان دا نانغ بين الرئيسين ترمب وبوتين».

انسحابات وتفاهمات

تزامن تجديد الحديث عن سحب الميلشيات المدعومة من إيران من جنوب سوريا والضغط لالتزام «هدنة الجنوب» مع عنصرين: أولاً، استمرار الغارات الإسرائيلية على مواقع إيرانية وأخرى تابعة لـ«حزب الله» في سوريا، ثانياً، حديث الرئيس بوتين بعد لقائه الرئيس بشار الأسد الأسبوع الماضي عن ضرورة انسحاب جميع القوات الأجنبية من سوريا.

ولاحظ مسؤول غربي أن القصف الإسرائيلي على المواقع الإيرانية في سوريا تزامن مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو «ما يعني موافقة سياسية روسية وميدانية لأنها الجيش الروسي لم يشغل منظومة صواريخ إس – 400 الموجودة غرب سوريا». وأضاف: «كان لافتاً أن روسيا لم تتحرك دبلوماسيّاً بعد الغارات الروسية ولم تنتقد الغارات كما فعلت بعد الغارات الثلاثية الأميركية – البريطانية – الفرنسية على مواقع تابعة للحكومة في أبريل (نيسان) الماضي ردّاً على هجوم كيماوي في دوما عندما نقلت الملف إلى الأمم المتحدة وسط انتقادات إعلامية وسياسية».

أما بالنسبة إلى البند الثاني، يتعلق بكلام بوتين عن «انسحاب جميع القوات الأجنبية» من سوريا، بل إن مبعوث الرئيس الروسي ألكسندر لافرينييف حدد المقصود بجميع القوات ذاكراً بالاسم إيران و«حزب الله» وتركيا وأميركا، الأمر الذي رد عليه ناطق باسم الخارجية الإيرانية بان وجود إيران بناء على طلب «الحكومة الشرعية»، الأمر الذي كرره بمعنى ما نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد.

واعتبر دبلوماسيون ذلك أنه إشارة إلى شقوق إضافية بين روسيا التي تملك اتفاقات رسمية مع دمشق تشرعن وجود قاعدتي طرطوس وحميميم من طرف وإيران التي سعت ولم تنجح للحصول على صك قانوني يشرعن وجود قواتها في سوريا من طرف آخر، وأن دمشق تحاول الموازنة بين «الحليفين، لكن ذلك يزداد صعوبة مع اقتراب المعارك من مناطق تفاهمت موسكو مع دول خارجية حولها، ما بدا أن دمشق باتت أقرب إلى الخيار الإيراني فيما يتعلق بمعركة الجنوب».

وقال أحد الدبلوماسيين إن الأيام الماضية شهدت «إعادة انتشار» لقوات تنظيمات تابعة لإيران وفق الآتي: «عادت الميليشيات و(حزب الله) بضعة كيلومترات بعيداً من الحدود الأردنية، لكن بقيت أقرب إلى الجولان. إذ إن (حزب الله) تحرك في مواقعه في معسكر البعث وهضبة تل أيوب 4 – 5 كيلومترات إلى بلدتي حمريت ونبع الفوار، كما أن عناصر الحرس الثوري انتقلت من درعا المدينة إلى ازرع لكنها بقيت على جبهات القتال الشمالية، إضافة إلى انتقال لواء القدس الفلسطيني من مخيم اليرموك إلى درعا».

في موازاة ذلك، بعثت دمشق مقترحاً عبر وسطاء إلى دول إقليمية تضمّن: انسحاب «حزب الله» وميلشيات إيران 25 كيلومتراً بعيدا من خط فك الاشتباك من هضبة الجولان المحتلة، وفق ترتيبات تسمح بوجود مجالس محلية في بيت جن وقرى في الجولان المحرر والبحث عن إمكانية إحياء اتفاق فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل لعام 1974 الذي يتضمن منطقة محايدة ومنطقة منزوعة السلاح وأخرى محدودة السلاح يراقبها نحو 1200 عنصر من «قوات الأمم المتحدة لفك الاشتباك» (اندوف).

لكن في الوقت نفسه تواصل دمشق مدفوعة من إيران تعزيز قواتها وآلياتها إلى الجنوب، حيث تطرح سيناريوهات مشابهة لغوطة دمشق، وقبل ذلك شرق حلب، بحيث تتقدم القوات من درعا إلى معبر نصيب مع الأردن ليتم فصل شرق منطقة اتفاق «خفض التصعيد» عن غربها مع السيطرة على تلال استراتيجية وتكثيف الغارات و«قضم المناطق واحدة بعد الأخرى تحت التهديد بالنار والتسويات». عمليّاً يعني ذلك دفع المعارضة للاختيار بين ثلاثة نماذج: «نموذج دوما» الذي طبق شمال غوطة دمشق، و«نموذج حمورية» في الغوطة التي تعرضت لنهج «الأرض المحروقة»، و«نموذج سقبا» الذي يقع في الوسط بين النهجين.

وتحاول دمشق وضع ذلك تحت غطاء محاربة «جبهة النصرة» أو «جيش خالد» التابع لـ«داعش»، وأن كان اتفاق خفض التصعيد الثلاثي نص على أن ذلك من مسؤولية ضامني الاتفاق، أي أميركا وروسيا، الأمر الذي أكدت عليه واشنطن أمس من خلال بيان الخارجية.

خلاف موسكو ودمشق على “مناطق النفوذ” في سوريا

خلاف موسكو ودمشق على “مناطق النفوذ” في سوريا

ما أن انتهت قوات الحكومة السورية بدعم من الجيش الروسي من معارك وتسويات الغوطة الشرقية وريف حمص، حتى بدأ السؤال يتصاعد في موسكو من جهة وطهران ودمشق من جهة أخرى، عن المرحلة المقبلة ومستقبل مناطق النفوذ الخارجي الثلاث الباقية: جنوب غربي سوريا، شمال غربي سوريا، شمال شرقي سوريا.

أما في برلين وباريس وعواصم أخرى، فكان السؤال، يتناول كيفية تحريك العملية السياسية ومستقبل مساري جنيف وآستانة وإمكانية الإفادة من تجربة مينسك للحل الأوكراني باجتراح «مينسك سوري».

الاعتقاد في برلين وباريس ودول أخرى، أن الأمر لم يعد يتعلق بالسوريين، نظاماً ومعارضة. بل بات يتعلق باللعبة الكبرى. لذلك؛ فإن إحدى القضايا التي حملتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي أمس، هو الإفادة من خصوصية العلاقة الألمانية – الروسية، وإطلاق مجموعة عمل جديدة خاصة بسوريا، مشابهة لمجموعة مينسك، بحيث تضم روسيا، وأميركا، وألمانيا، وفرنسا. ولا شك أن الرئيس الفرنسي مانويل كامرون سيحمل الفكرة ذاتها إلى بوتين في 25 الشهر الحالي، خصوصاً بعدما فشل اقتراح فرنسي سابق بتأسيس «مجموعة اتصال».

الاقتراح الألماني الجديد هو بين اقتراحات أخرى، كان بينها الجمع بين مجموعة آستانة التي تضم روسيا وإيران وتركيا من جهة ومجموعة الدول الخمس ذاتها التفكير المماثل، أميركا، وفرنسا، وبريطانيا، والسعودية، والأردن التي انضمت إليها لاحقاً ألمانيا.

العقبة أمام هذا الاقتراح، هو رفض واشنطن الجلوس على طاولة مع الجانب الإيراني خصوصاً بعد قرار الرئيس دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي. أما ألمانيا، فإنها تحمل بعض المقترحات لتجاوز هذه العقدة. لكن جهوداً كبيراً مطلوبة لذلك، خصوصاً إذا أضيفت العقبات القائمة بين روسيا وأميركا حالياً.

هذه العقبات زادت في الأيام الأخيرة؛ إذ إن واشنطن رفضت حضور اجتماع آستانة الأخير. كما أن الجانب الأميركي لا يزال يفضل مفاوضات جنيف وإن كان لا يبذل الرأسمال السياسي الكافي لتحريكه.

موسكو من جهتها تسير في مسار آستانة، وباتت أنقرة تدعمها في ذلك وتفضله على مفاوضات جنيف وتنفيذ القرار 2254. لذلك، فإن إحدى نتائج اجتماع آستانة الأخير كان الاتفاق على عقد الاجتماع المقبل في سوتشي في يوليو(تموز) المقبل لبحث الملف السياسي، مع أن عملية استانة كانت مخصصة للبعد العسكري وإجراءات بناء الثقة فقط.

لكن العقدة أمام موسكو، كانت في إقناع دمشق على السير في المسار السياسي لسوتشي، أي تشكيل لجنة دستورية من قبل المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. وكان لافتاً، أن الأمر تطلب لقاءً بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس بشار الأسد الذي وافق على إرسال قائمة من مرشحين إلى اللجنة الدستورية لـ«تعديل» الدستور الحالي، مع تجنب ذكر مفاوضات جنيف.

ولم يكن هذا الخلاف الوحيد بين موسكو من جهة وطهران ودمشق من جهة أخرى؛ ذلك أن الخلاف الآخر الذي استدعى لقاء بوتين والأسد، يتعلق بمرحلة ما بعد الغوطة. بحسب المعلومات، فإن موسكو تفضل التزام «هدنة الجنوب» مع أميركا والأردن. وكان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بحث مع نظيره الروسي سيرغي لافروف «ترتيبات» معينة لجنوب سوريا، تتعلق بفتح معبر نصيب الحدودي وتجنب العمل العسكري وتحييد السلاح الثقيل وانسحاب ميلشيات إيران إلى مسافات متفق عليها تصل إلى 25 كيلومتراً من الحدود ومحاربة فصائل «الجيش الحر» تنظيمي «جبهة النصرة» و«جيش خالد» التابع لـ«داعش». ويعتقد الجانب الروسي بإمكانية الوصول إلى «ترتيبات» مقبولة من الأردن وإسرائيل وأميركا تسمح بانتشار الجيش السوري من دون معارك.

لكن طهران تدفع دمشق للذهاب عسكرياً إلى جنوب غربي سوريا والسيطرة عليها، وهما تعتقدان بأن لديهما «إمكانية الردع العسكري» لإسرائيل في حال تصاعدت المواجهات في الجنوب؛ ما يعتبره الجانب الروسي «مغامرة فيها الكثير من المخاطر»، قد يستغلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتصعيد عسكري لـ«تصفية الحساب ومنع أي موطئ قدم إيراني في سوريا».

حماسة طهران ودمشق إزاء العمل العسكري في إدلب التي تضم 2.3 مليون شخص، نصفهم من النازحين، بات أقل بعد اجتماع آستانة الأخير الذي بارك نشر الجيش التركي 12 نقطة مراقبة كان بعضها بين إدلب، وحماة، واللاذقية، وحلب؛ ما يعني قبول تولي تركيا «عزل» إدلب وحل مشكلة الأجانب في «هيئة تحرير الشام» وغيرها، الذين يقدرون بعشرة آلاف من أصل 60 ألف عنصر.

أما المنطقة الثالثة في شمال شرقي سوريا، فإنها خاضعة أكثر للمزاج الروسي – الأميركي وتطور العلاقات بينهما، خصوصاً أنها المنطقة الوحيدة التي يقوم نوع من التعاون بين البلدين وسط توترات في مناطق أخرى. لكن، طهران ودمشق تدفعان رويداً رويداً في جعل الإقامة الأميركية والفرنسية شرق نهر الفرات وفي معسكر التنف مرهقة ومكلفة، إضافة إلى توفيرها ذخيرة للخطاب السياسي السوري الذي يتضمن «مقاومة الاحتلال» ورفض قبول أي قوات أجنبية غير شرعية. وهذا العنصر وافق عليه الرئيس بوتين عندما طالب خلال لقائه الأسد أول من أمس بانسحاب جميع القوات الأجنبية من سوريا، الموجودة من دون موافقة دمشق.

طوفان سوريا وما بعد الفساد إلا الغرق

طوفان سوريا وما بعد الفساد إلا الغرق

ماذا يحصل في دولة تنخر جميع مفاصلها شتى أنواع الفساد والمحسوبية، وتحكمها شلة من المسؤولين الانتهازيين الموهومين بتحقيق الإنجازات، المنفصمين عن الواقع بأقوالهم وتصريحاتهم الخيالية، التي تقول بأن شوارع دولتهم أفضل من شوارع سويسرا!

ماذا يحصد مواطنو هكذا دولة من مسؤولين بهذا المستوى من التفكير، حين تواجههم مصيبة أو كارثة؟ إنهم لا يحصدون سوى الوهم واليأس والتعب.

ليلة الـ 26 من نيسان كانت ليلة قاسية وحزينة على السوريين الذين فقدوا ممتلكاتهم وطافت بيوتهم بالسيول، كارثة بيئية بحجمها الكبير كشفت عيوب المسؤولين، الذين على مدى عدة عقود لا يعبرون مواطنيهم ولا يظهرون للعلن أمام الناس لإعلامهم بكيفية التعامل مع أي كارثة تواجههم سواء كانت كارثة بيئية أو إنسانية، في حين يعتبر هذا الأمر بديهياً لدى المسؤولين في دول العالم المتحضر، فتوعية الناس وتثقيفهم بكيفية التعامل مع الكوارث واجب على الدول التي تحترم شعوبها.

غزارة الأمطار الهاطلة تحولت إلى سيول جارفة، بشكل لم يعتده السوريون خاصة في عاصمة الياسمين “دمشق” فقد تحولت الأمطار لطوفان خلال ساعات قليلة، حيث كثر نزول الأمطار في سائر المناطق السورية، وكانت غالب مناطق دمشق قد نُكبت بخسائر من هذه السيول فنتج عنها ما لم ير مثله منذ سنين من أضرار بالغة في المباني والسيارات والحافلات.

تسببت الأمطار الغزيرة، في وقوع حوادث مرور خطيرة فضلا عن اجتثاث أشجار وأعمدة الإنارة. كما عاشت عائلات أوقاتاً عصيبة بعدما وجدت نفسها عالقة بسيارتها وسط السيول.

جرف الطوفان كل شيء وكأن ما أصاب السوريين خلال سنوات الحرب لم يكن كافياً ليحل عليهم طوفان نيسان بقسوة لم يسبق لهم أن شاهدوا مثلها.

طوفان نيسان، كشف عيوب محافظة دمشق وواليها “المحافظ”، الذي أجر واستثمر بمرافق دمشق وحولها إلى عاصمة “للأجار”، ورغم فداحة هذا الطوفان وما كشفه من عيوب، إلا أنه عجز أن يخرج أي مسؤول عن صمته، ليقدموا اعتذاراً شفهياً للناس، ولم يتجرأ أحد منهم على تقديم استقالته لفشلهم في احتواء هذه الكارثة وما حصدته من أضرار ذهب ضحيتها عدد كبير من ممتلكات السوريين.

رغم وجود مركز للأرصاد الجوية، ومركز للاستشعار عن بعد، إلا أن المسؤولين في سوريا لم يغيروا من آلية تفكيرهم وإدارتهم لتجنب الكوارث الطبيعية التي تقع دون أي تحضير أو استعداد حكومي لمواجهة مثل هذه الكوارث البيئية، وما أن ينتقد المواطنون قصور هذه الجهات وفسادها حتى تنهال التبريرات والأعذار غير المنطقية بأن حجم الأمطار كان فوق المتوقع، وبأن الأضرار وقعت فقط ضمن المناطق العشوائية التي تفتقر للتنظيم الجيد، علماً أن هذا التبرير غير صحيح فشوارع العاصمة الرئيسية تحولت خلال ساعات قليلة لأنهار تطفوا وسطها السيارات.

السؤال الذي يطرح نفسه، ماذا لو استمرت الأمطار بالهطول بهذا الحجم لمُدة 3 أيام متواصلة؟ هل كان سيقوم أحد المعنيين بتفقد المواطنين ومحاولة إنقاذهم ومساعدتهم في مصابهم؟

السوريون الذين دهشوا من حجم الطوفان، لم يدهشهم صمت المسؤولين وفسادهم حتى بأبسط حقوقهم وهي ضمان أمنهم وسلامتهم، فقد اعتاد السوريون مواجهة مصائبهم لوحدهم دون التفكير ولو لبرهة بالتعويل على حكوماتهم المتعاقبة التي اعتادت لعب دور “المتفرج الصامت” ومراقبة مايحدث حولها، وكأنه في كوكب آخر.

طوفان سوريا، مؤشر بسيط ومرآة عكست مجمل حال البلد والحكومة والإدارات، البلد غارق بفساده الذي كان أبرز أسباب الحرب التي يعيشها، ومع ذلك يترفع المسؤولون صغيرهم قبل كبيرهم، عن إيجاد مخرج لمثل هذه الكوارث، ويمضي الوقت دون أن يحاسب أحد. أما مجلس الشعب فهو مجلس للنوام وليس للنواب، فاشل في استجواب مسؤول وعزله أو إحالته للقضاء، والسبب أن الجميع يعمل وفق آلية السكرتارية ينتظرون الأوامر والتوجيهات لتنفيذها، ومعايير نجاح المسؤول لا تتصل بالإنجازات الحقيقية ورضا الناس إنما تتصل بالتخريب والفساد والتدمير واستغباء المواطن.

يضاف طوفان سوريا، إلى قائمة الكوارث التي واجهها السوريون خلال سبع سنوات من حرب عصابات وتفجير، وقصف، وقتل، وخطف، وسرقة، ودمار البنى التحتية، إلى التشريد، والتهجير، وجفاف الأراضي، والعواصف الرملية، والثلجية، وبذلك يكون السوريون من أكثر الشعوب الذين عاصروا وواجهوا جميع الكوارث البشرية والبيئية، مرددين بأعماقهم مقولة الكاتب الراحل نجيب محفوظ “نحن في حاجة إلى طوفان جديد لتمضي السفينة بقلة الفضلاء ليعيدوا خلق العالم من جديد” عل الطوفان القادم يقضي على الفاسدين.

حرب خفية بين ايران وإسرائيل في سوريا

حرب خفية بين ايران وإسرائيل في سوريا

المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل في سوريا، أمر مرجح. الخلاف حول مواعيد الحرب المقبلة ونطاقها ومآلاتها والترتيبات المستقبلية اللاحقة ومدى قدرة موسكو على قيادة حملة دبلوماسية قد تؤدي إلى نسخة سورية – روسية من القرار الدولي «1701» ضمن 4 احتمالات سياسية لمآلات المواجهة المقبلة، حسب دبلوماسيين غربيين.

الحرب الخفية في سوريا مستمرة منذ سنوات، حسب الدبلوماسيين الغربيين في بيروت، وظهرت تجلياتها مرات عدة، كان آخرها «الحرب الإلكترونية» ضد منظومة الرادارات السورية والتشويش عليها، ما أدى إلى إطلاق دفعتين من المضادات الجوية على أهداف وهمية وسط سوريا قبل أسبوعين، سرعان ما سحبت وسائل إعلام رسمية سوريا أنباء حصولها بعدما «تأكدت دمشق أن الهجمات كانت على شاشات الرادارات فقط».

«حملة القرصنة» تلك، كانت بمثابة اختبار لمنظومة الرادارات قبل الضربتين اللتين حصلتا وسط سوريا وشمالها ليل الأحد – الاثنين بعد الاختبار السابق لدى شن أميركا وبريطانيا وفرنسا ضربات بلغ بعضها وسط دمشق، إذ إن الضربات الأخيرة التي يعتقد أنها إسرائيلية استهدفت مخازن صواريخ طويلة المدى كانت إيران قد شحنتها قبل أيام، ضمن فرض تل أبيب «خطوطها الحمراء» الأربعة في سوريا، وهي: منع قيام قواعد إيرانية دائمة، ومنع تخزين صواريخ طويلة المدى في سوريا (ولبنان)، ومنع تسليم صواريخ متطورة إلى «حزب الله»، ومنع قيام مصانع صواريخ إيرانية في سوريا (ولبنان).

ولوحظ تجنب الغارات الإسرائيلية فصائل إيرانية تقاتل إلى جانب قوات الحكومة السورية أو التدخل المباشر في الصراع السوري، كما حصل في الغارات الثلاثية التي «تعمدت تجنب تغيير ميزان القوى العسكري واقتصرت على إعادة فرض الخط الأحمر الكيماوي»، حسب الدبلوماسيين.

في فبراير (شباط) دخل عنصر جديد إلى المسرح غيّر «قواعد اللعبة»، تمثل باستهداف إسرائيل قاعدة «تي – فور» وسط سوريا تضم طائرات «درون» انطلقت منها طائرة إلى فوق الجولان السوري المحتل. طائرة الاستطلاع هذه نسخة متطورة عن تلك التي بعث بها ضباط الحرس الثوري الإيراني باتجاه قاعدة التنف الأميركية في زاوية الحدود السورية – العراقية – الأردنية في منتصف العام الماضي. وقتذاك أسقط الأميركيون طائرة الاستطلاع الإيرانية.

في فبراير، أرسل ضباط إيرانيون طائرة «درون» من قاعدة «تي – فور» وسط سوريا باتجاه الجولان. أهمية هذه الطائرة أنها النسخة الإيرانية المعدلة من طائرة استطلاع أميركية كانت «وكالة الاستخبارات الأميركية» (سي آي إيه) قد أرسلتها قبل 7 سنوات للتجسس على البرنامج النووي الإيراني. الإيرانيون سيطروا على الطائرة واستفادوا منها بتأسيس مصنع لنسخة إيرانية متطورة. ويعتقد دبلوماسيون أن الإسرائيليين والأميركيين سيطروا بدورهم على الـ«درون» الإيرانية بعد الهجوم الأخير لاختبار التعديلات عليها.

الضربة الإسرائيلية لقاعدة «تي – فور» كانت المواجهة المباشرة الأولى، حيث قتل ضابطان من الحرس الثوري (بين 7 قتلى) هما مسؤولان عن برنامج الـ«درون» الإيراني في سوريا.

وسلاح الـ«درون»، من أدوات النفوذ الإيراني في المنطقة، إضافة إلى الميلشيات العابرة للحدود ودعم فصائل خارجة عن سلطة الدول العربية.

استطراداً، فإن قاعدة حميميم الروسية تعرضت لسلسلة هجمات غامضة من «درون» بينها دفعة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من حميميم «خطاب النصر» وانتهاء المهمة.

سابقاً كانت المواجهة بين موسكو وتل أبيب تتم بالوكالة شملت عشرات الضربات لمواقع في سوريا (لم تعلن إسرائيل إلا جزءاً يسيراً منها كي تترك لدمشق وحلفائها إمكانية تجنب الرد)، لكن الهجوم على «تي – فور» كان أول مواجهة مباشرة.

مواعيد وجبهات

منذاك، كانت التقديرات أن «الحرب قادمة». وموعد الحرب كان مقدراً في مايو (أيار) بسبب تراكم استحقاقات كبرى: الانتخابات اللبنانية الأحد المقبل، والانتخابات العراقية في 12 من الشهر نفسه، وقرار الرئيس دونالد ترمب إزاء الاتفاق النووي في 12 من الشهر نفسه أيضاً (الانسحاب منه على الأرجح)، وذكرى نكبة فلسطين في 15 من الشهر نفسه كذلك، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، وتسليم روسيا منظومة «إس – 300» لدمشق، وقرار ترمب مراجعة بقاء قواته شرق سوريا.

أما جبهة التصعيد، فهناك أربع بوابات: قطاع غزة، وجنوب سوريا، وشمال شرقي سوريا، ولبنان. وحسب تقديرات الدبلوماسيين، فإن الوقائع الميدانية في جنوب لبنان لا توحي باحتمال تصعيد عسكري، بل العكس صحيح ذلك أن الاستقرار الاقتصادي يهيمن وسط تراجع الشهية للعسكرة بين الناس. كما أن مسؤولين في «حزب الله» أبلغوا صحافيين غربيين أن الأولوية للعمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي بعد الانتخابات البرلمانية.

في شرق سوريا، التقديرات أن إيران ستواصل اختبار العزيمة العسكرية الأميركية. كان آخرها هجوم، أول من أمس، قرب دير الزور، حيث كان رد الجيش الأميركي واضحاً بمنع تقدم موالين لدمشق. وأفاد دبلوماسيون: «التقدير أن تدفع دمشق وحلفاؤها إلى عمليات ضد الأميركيين شرق نهر الفرات، ما يعني احتمال حصول انفجارات داخلية: صدام عربي – كردي، وعودة لـ«داعش» بعمليات انتحارية، ومشكلات خدمية واقتصادية، خصوصاً بعد بطء برامج الاستقرار والتمويل الأميركي، وتراجع إزالة الألغام وإعادة الأعمار. (ترمب جمّد 200 مليون دولار لدعم الرقة).

هذه خطة متوسطة الإطار الزمني. وستنضم إليها روسيا، خصوصاً إذا فشلت محاولات استعادة الحوار بين واشنطن وموسكو بعد الضربات الثلاثية ضد مواقع في سوريا. كما ستسعى إيران إلى إفشال برنامج الإقامة الأميركية شرق الفرات باعتبار أن الوجود يرمي إلى إضعاف النفوذ الإيراني ومنع إيران من الوصول إلى البحر المتوسط.

أما المواجهة العاجلة، فقد دارت التقديرات بين غزة وسوريا. وأعرب دبلوماسيون عن الاعتقاد باحتمال استغلال موضوع السفارة و«مسيرات العودة» لإشعال مواجهة قد تلتقي مصلحة فصائل فلسطينية وطهران على إشعالها في محاولة لإعادة خلط الأوراق وإظهار إيران أوراقها في الشرق الأوسط في حال انسحب الأميركيون من الاتفاق النووي. وقال سفير غربي: «التحليلات أن إيران ستستغل ذكرى النكبة ببدء مواجهة بعد ضمان الأغلبية في انتخابات العراق».

أما في سوريا، فإن التقديرات كانت أن «الانتقام الإيراني لمقتل ضابطي الحرس الثوري قادم بالتزامن مع الانسحاب من النووي وقرار القدس». ونقلت محطة «سي إن إن» عن مصادر أميركية أن أقماراً صناعية رصدت شحنات عسكرية نوعية من إيران إلى سوريا استعداداً لشن هجوم. وأفاد دبلوماسيون: «الضربات على وسط سوريا وشمالها كانت استباقية استهدفت تدمير مخازن صواريخ إيرانية كانت تجهَّز للمواجهة المقبلة المتوقعة منذ قصف قاعدة (تي – فور)».

أين روسيا من ذلك؟

المسؤولون الروس ليسوا في مزاج الحديث عن الحل السياسي في سوريا. و«مسار جنيف مات» بالنسبة إليهم. الأولوية حالياً لدعم قوات الحكومة السورية للسيطرة على جنوب دمشق ثم ريف حمص والإفادة من انتهاء صلاحية اتفاقات «خفض التصعيد» واستقطاب مجندين من التسويات و«التأجيل المؤقت عن الخدمة الإلزامية». بعدها تبقى ثلاثة جيوب: جنوب غربي سوريا، وشمال غربي سوريا، وشمال شرقي سوريا (ومعسكر التنف).

الجيب الثاني مرتبط بالتفاهم مع أنقرة ضمن عملية آستانة واستعداد الجيش التركي للانسحاب من سوريا «كما وعد». الجيب الثالث، مرتبط بالتفاهمات الأميركية – الروسية واحتمالات فشلها وتعرضه المستمر للاختبارات الروسية – الإيرانية – السورية للتقوقع والتقلص.

أما الجيب الأول، فهو الأكثر إثارة، إذ تسعى موسكو لربطه بالمواجهة المقبلة. إذ حسب المعلومات، فإن الجيش الروسي أنزل منظومة «إس – 300» في طرطوس ونقلها إلى حميميم، لكنه لم يسلمها بعد إلى الجيش السوري. وضع «إس – 300» مثل وضع «إس – 400»، لكن الأخيرة تعمل بأيدي الروس. أما الأولى، فإن موسكو لوّحت بتسليمها إلى دمشق في تحدٍّ لتل أبيب ودول غربية.

استطراداً، باتت المنظومة الجوية السورية مندمجة بالروسية بقيادة حميميم. وتلوّح موسكو بتسليم «إس – 300» إلى دمشق بحيث يكون التحكم بها في دمشق وليس حميميم. لوحظ أن الرشقات من المنظومة السورية بعد الغارات الثلاثية، كانت سياسية – دعائية أكثر مما هي عسكرية، سمحت بـ«حفظ ماء الوجه» من دون تحقيق نتائج عسكرية.

أربعة خيارات

روسيا التي تميل إلى مزاج وزارة الدفاع، تسعى إلى بعض الدبلوماسية في حال حصلت المواجهة المرتقبة. وحسب الدبلوماسيين، فإن موسكو «تدفع جميع الأطراف كي تكون عقلانية وأن يكون التصعيد محسوباً ومحدداً». كيف؟ هناك أربعة خيارات:

الأول، أن يكون التصعيد تكراراً لحملات القصف والقصف المتبادل على الأرض السورية والعودة إلى «قواعد اللعبة»، بحيث إن صواريخ «إس – 300» وروسيا لا تقيدان أيدي إسرائيل في فرض «خطوطها الحمراء».

الثاني، العودة إلى اتفاق فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل. إذ بدأ الجيش الروسي إجراء تغييرات في الوحدات السورية بين دمشق والجولان وحدود الأردن، ونشر نقاط للشرطة العسكرية الروسية، وإعادة تموضع نقاط في درعا، إضافة إلى تحريك ضباط من الحرس الثوري في ريف درعا.

اتفاق خفض التصعيد جنوب غربي سوريا بين أميركا وروسيا والأردن، نَصّ على انسحاب «القوات غير السورية» (أي «حزب الله» وتنظيمات إيران) بعيداً من الأردن والجولان في مرحلتين: الأولى بين 5 و15 كيلومتراً، والأخرى 20 كيلومتراً. (موسكو تقول: إن أميركا والمعارضة فشلتا من جانبهما في قتال «جبهة النصرة» و«جيش خالد» التابع لـ«داعش»). هذا لم يحصل، بل إن «حزب الله» وإيران ساهما في معركة بيت جن قرب القنيطرة والجولان، ما عقّد العلاقات بين موسكو من جهة وباقي الموقّعين على «هدنة الجنوب» ومَن وراءهم من جهة أخرى.

ما يطرحه الجانب الروسي حالياً، مفاده أن «الحل الوحيد بتقوية الجيش السوري، بحيث يتقدم إلى درعا وتتم تسويات مع 12 ألف مقاتل معارض مع فضاء محلي وانتعاش اقتصادي وإعادة فتح معبر نصيب والخط التجاري بين الأردن وسوريا». يضاف إلى ذلك، نشر الجيش السوري والشرطة العسكرية في الجولان وأن تتم عملية إحياء اتفاق فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل للعام 1974، ونص على منطقة منزوعة من السلاح ومنطقة مخففة من السلاح الثقيل والخفيف. وقال دبلوماسي: «يمكن العودة إلى الوضع السابق بين سوريا وإسرائيل».

الثالث، نسخة سوريا من القرار 1701. يذهب دبلوماسيون غربيون آخرون إلى مدى أبعد أساسه أن تستغل روسيا التصعيد العسكري لإطلاق عمل دبلوماسي لإصدار قرار دولي مشابه لـ1701 الذي جاء بعد حرب عام 2006 في لبنان، بحيث يكون القرار روسي المنطلق وسوري التنفيذ.

لدى قيام وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بمفاوضات اتفاق خفض التصعيد بعد حرب 1973، أراد السوفيات أن يكونوا ضمن قوات حفظ السلام، لكن الاتفاق النهائي في مايو 1974 قضى بإبعاد أميركا والاتحاد السوفياتي «المنحازتين» عن وحدات حفظ السلام مقابل الاعتماد على دول محايدة مقبولة من الطرفين: سوريا وإسرائيل.

روسيا تريد اختبار حظها مرة أخرى، لكن هذا يتطلب رقص الجانب الأميركي في مجلس الأمن واستعداد الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى للتفاوض على ترتيبات عسكرية وسياسية بين اللاعبين الخارجين في سوريا.

هنا قد تكون الترتيبات فقط متعلقة بالجنوب السوري أو قد تصل إلى انخراط جميع اللاعبين: الأميركيين شرق سوريا، والأتراك شمال غربي البلاد، وروسيا وإيران، ما يتضمن ترتيبات تتعلق بالنظام السياسي المقبل والمحاصصة الخارجية فيه.

الرابع، ترتيبات عسكرية تتعلق بالوجود الإيراني. في حال لم تكن ظروف ترتيبات الجنوب السوري الموسعة أو المخففة متوفرة، يطرح دبلوماسيون خياراً آخر يشابه الترتيبات التي حصلت بين سوريا وإسرائيل في لبنان منتصف الثمانينات، حيث رعى الجانب الأميركي تفاهمات حول الحدود التي يُسمح للجيش السوري وصواريخه بالانتشار فيها في لبنان. لكن دولاً أساسية، تطرح فكرة بعيدة المدى بإطلاق حملة دبلوماسية تؤدي إلى «إخراج جميع القوات الأجنبية غير الشرعية من سوريا».

وهذا ينطبق على إيران (وأميركا وتركيا)، خصوصاً أن الأنباء تفيد بأن موسكو عرقلت مساعي طهران للحصول على وثيقة من دمشق بأن «الوجود الإيراني جاء بناءً على طلب الدولة السورية» أسوةً باتفاقين شرَّعا في البرلمانين السوري والروسي وجود قاعدتَي حميميم وطرطوس الروسيتين غرب سوريا.

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

“سوريا على طاولة “الكبار

“سوريا على طاولة “الكبار

الملف السوري يتصدر سلسلة من الاتصالات الدبلوماسية بين الدول الكبرى والإقليمية المنخرطة في هذا الملف، وسط توقعات منخفضة بتمكن المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا من إحياء مفاوضات جنيف، أو تشكيل اللجنة الدستورية «قبل انقشاع غبار» الضربات الثلاثية على مواقع حكومية سورية، وقبل تبلور نتائج هذه اللقاءات.

هذه الاتصالات تشمل اجتماعاً وزارياً للدول السبع الكبار في كندا، والمؤتمر الوزاري للمانحين في بروكسل اليوم وغداً، واجتماعاً خماسياً، أميركياً – بريطانياً – فرنسياً – سعودياً – أردنياً بعد غد، واجتماع ممثلي الدول الـ15 في مجلس الأمن في مزرعة سويدية، واجتماعاً وزارياً روسياً – تركياً – إيرانياً في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، إضافة إلى قمة الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والفرنسي مانويل ماكرون.

السبع الكبار

عقد ممثلو الدول السبع الكبار محادثات في تورونتو في كندا، تناولت كوريا الشمالية وسوريا وروسيا. وبحسب مسؤول أميركي، فإنه فيما يتعلق بروسيا «كانت ثمة وحدة بين دول مجموعة السبع على مواجهة سلوك روسيا الخبيث. وراجعت الدول الخطوات التي اتخذتها لمواجهة توجهات الكرملين السلبية التي تهدد السلام والأمن»، لافتاً إلى أن الدول السبع قالت إن روسيا هي «ضامن الأسلحة الكيماوية في سوريا، وفشلت في هذا الدور». وقال القائم باعمال وزير الخارجية الاميركي جون سوليفان ان موسكو «ستحاسب» اذا لم تغير سلوكها في سوريا.
وقال مسؤول غربي آخر لـ«الشرق الأوسط» أمس، إن روسيا أخذت على عاتقها في الاتفاق بين موسكو وواشنطن في عام 2013 «التخلص من الترسانة الكيماوية؛ لكن لم تفشل في فعل ذلك وحسب؛ بل إن استخدام الكيماوي كان يتم تحت أنظارها منذ نهاية 2015. الروس لم يفشلوا في الوفاء بالتزاماتهم؛ بل وفروا الحماية لاستخدام الكيماوي».

وتابع بأن «الضربات الثلاثية بهذا المعنى كانت محسوبة ومحددة الهدف، ولم تكن مفاجئة، ولم يكن هدفها تغيير الميزان العسكري على الأرض، إذ إن الدول الثلاث أعلنت أكثر من مرة ضرورة التزام الخط الأحمر بعدم استخدام الكيماوي. وهذه الدول ستبقى تحرس الخط الأحمر». ضمن هذا السياق، تدعم لندن وواشنطن مبادرة باريس لـ«الشراكة ضد التهرب من المحاسبة على استعمال الكيماوي»، إضافة إلى تأسيس «آليات للتحقيق في استخدامه» وطرح المحاسبة خارج اطار مجلس الأمن.

وتنفي دمشق وموسكو مسؤولية قوات الحكومة السورية عن قصف دوما ومناطق أخرى في البلاد. وتتراوح اتهامات دمشق وموسكو بين مسؤولية المعارضة أو «فبركة هذه الهجمات» من معارضين. وقال مسؤول أميركي: «لم يكن هجوم الحلفاء في 13 أبريل (نيسان) لمرة واحدة؛ بل كان جزءاً من حملة متواصلة للحلفاء لإعادة إرساء رادع ضد الأسلحة الكيماوية، ويتضمن ذلك استخدام الوسائل العسكرية مرة أخرى، إذا لزم الأمر». ويختلف موقف الدول السبع إزاء تقويم الدور الروسي. إذ قال المسؤول الغربي أمس، إن «روسيا لم تمارس أي ضغط على دمشق للانخراط في العملية السياسية؛ بل إنها قادت الهجوم على غوطة دمشق»، فيما قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، الاثنين، إن وزراء خارجية مجموعة الدول السبع الكبرى، يدعون روسيا بشكل رسمي للمساعدة في حل الأزمة السورية. وأفاد بأن البيان الختامي «يقول إنه لن يكون هناك حل سياسي في سوريا دون روسيا وإن روسيا يتعين أن تقدم نصيبها من المساهمة في التوصل لهذا الحل».

إعادة الأعمار

وقال مسؤول أميركي في سياق تقويمه لنتائج الاجتماع السباعي: «لا تعتقد الولايات المتحدة بأنه ينبغي أن تصل أي مساعدة لإعادة الإعمار إلى أي منطقة تخضع لسيطرة النظام السوري»، لافتا إلى التمييز بين «إعادة الأعمار» التي تربط واشنطن ودول أوروبية المساهمة فيها بالحل السياسي، و«الاستقرار» الذي تقوم به واشنطن والتحالف الدولي في المناطق المحررة من «داعش».

وسيكون الموقف من المساهمة في إعادة الأعمار رئيسيا، في المؤتمر الوزاري الذي يبدأ اليوم في بروكسل. وقال المسؤول الغربي: «على روسيا أن تقرر: إما أن تدفع دمشق نحو حل سياسي، وإما أن تدعم العمليات العسكرية، بحيث ترث روسيا دولة فاشلة ومدمرة ومارقة… من دون إعادة إعمار».

وبالنسبة إلى لندن، التي قدمت 2.46 مليار جنيه إسترليني استجابة للأزمة السورية منذ عام 2012، هناك أولوية في مؤتمر بروكسل إزاء توفير دعم المانحين لدعم 13 مليون سوري، بينهم خمسة ملايين في أمسّ الحاجة للإغاثة، إضافة إلى التأكد من آليات صرف الأموال والضغط لتوفير خطوط الإمداد. ويتوقع أن تطالب وزيرة التنمية الدولية بيني موردنت في مؤتمر «دعم مستقبل سوريا والمنطقة» غدا «جميع الأطراف في الصراع السوري، بمن فيهم روسيا، بحماية المدنيين ووضع نهاية للمعاناة في سوريا».

الاجتماع الخماسي

اقترحت باريس عقد اجتماع خماسي لبحث الأوضاع السياسية والعسكرية، بعد عدم وفاء موسكو بالتزاماتها تنفيذ نتائج «مؤتمر الحوار الوطني السوري» في سوتشي، نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي. ويتوقع أن يعقد الاجتماع بعد مؤتمر بروكسل، بحيث يدعو «روسيا لحمل النظام على المشاركة في المفاوضات، لوقف قتل المدنيين الأبرياء، والدفاع عن القواعد والمعايير العالمية التي تحافظ على سلامتنا جميعاً، والسعي للتوصل إلى تسوية لإنهاء الصراع». لكن بحسب دبلوماسيين التقوا وزيري الخارجية والدفاع الروسيين سيرغي لافروف وسيرغي شويغو، فإن موسكو «ليست في مزاج البحث عن مسار سياسي حالياً، خصوصاً بعد الضربات الثلاثية؛ بل هي متفرغة للموضوع العسكري ولا تريد للدول الغربية أن تستفيد سياسياً من الضربات». وقال دبلوماسي: «بعدما كانت موسكو تتحفظ على عملية غوطة دمشق، باتت الآن تقود العمليات، الأمر الذي يمكن أن يحصل في هجوم آخر على ريف حمص ومناطق أخرى»؛ لافتاً إلى أن «خلوة السويد» لم تؤد إلى اختراق؛ بل إنها زوت بعض الجليد، إلى حد لا يصل إلى موافقة روسيا على مسودة قرار دولي فرنسية عن الكيماوي والمساعدات الإنسانية واللجنة الدستورية. وابلغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون امس ان الضربات «عقدت التسوية السياسية».

وتسعى موسكو إلى التركيز على مسارها السياسي – العسكري، عبر عقد اجتماع وزاري للدول الضامنة لعملية آستانة، لبحث اتفاقات خفض التصعيد، والمقايضات المتعلقة بتهجير معارضين من ريف دمشق إلى مناطق سيطرة فصائل تدعمها أنقرة، إضافة إلى تفاهمات لنشر نقاط مراقبة تركية في إدلب، وإمكانية التفاهم لتمركز قوات الحكومة السورية في جسر الشغور وسهل الغاب، وترك إدلب للتفاهمات الثلاثية. وسيكون هذا ضمن محادثات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في لندن، بين 11 و13 الشهر المقبل.
في المقابل، فإن حلفاء واشنطن، الذين لاحظوا أن عملية الجيش التركي في عفرين شتتت قوى «قوات سوريا الديمقراطية» والأكراد، يركزون على بحث مستقبل الوجود الأميركي شرق نهر الفرات وشمال سوريا. وسيكون هذا بنداً أساسياً في محادثات ترمب – ماكرون؛ إذ إن الجانب الفرنسي يقترح دوراً ميدانياً ونشر قوات فرنسية على الأرض، مقابل الحصول على غطاء جوي من التحالف الدولي بقيادة أميركا.

البعد العسكري الآخر، يتعلق بإمكانية حصول مواجهة إيرانية – إسرائيلية في سوريا. وقال المسؤول الغربي: «فشل الروس في الوفاء بالتزاماتهم بإبعاد (حزب الله) وفصائل إيرانية من حدود الأردن والجولان من جهة، وتعزيز (حزب الله) وإيران وجودهما في الجنوب السوري ووسط البلاد من جهة ثانية، يدفعان إسرائيل إلى إمكانية التحرك». وأضاف: «إسرائيل لا تريد الجلوس ومراقبة هذه التطورات، لذلك فإن إمكانية الحرب واردة؛ خصوصاً أن إيران تربط ذلك بمستقبل الاتفاق النووي» الذي يقرر ترمب في شأنه، منتصف الشهر المقبل.

تم نشر هذا المقال في «الشرق الأوسط»

!خط أحمر

!خط أحمر

في أزمة مدينة دوما الأخيرة، وفي مساء السابع من نيسان، قامت قوات النظام بقصف المدينة بمادة كيميائية سامة، لم تُحدّد هويتها حتى اللحظة، لكن بحسب التقييم الطبي الأولي، كانت مادة الكلور السامة مع احتمالية أكيدة لإضافات كيميائية سُمّية معها (يُظن بأنها غاز السارين)، في لحظتها لم أُلقِ بالاً لموضوع القصف الكيميائي، فلقد كان القصف على المدنيين المحاصرين شديداً، وبكل أنواع الأسلحة، طيران حربي، وراجمات صواريخ، وبراميل متفجرة، ومحاولات اقتحام من أطراف المدينة، فما يعني موضوع القصف الكيماوي بالنسبة لي إلا موتاً مختلفاً عن باقي الموت الآخر.

على إثر انهيار المفاوضات الأخيرة بين الجانب الروسي وجيش الإسلام، المُحاصرَ تماماً في حدود ضيّقة من مدينة دوما، ومعه حوالي مائة ألف من المدنيين، قامت قوات النظام بشن حملة قصف شديدة علي مدينة دوما، بدأت من الساعة الرابعة عصراً في السادس من نيسان، واستمرت حتى الساعة الواحدة ظهراً في التاسع من نيسان، أي حوالي ٦٩ ساعة مستمرة، راح خلالها حوالي ١٩٠ ضحية من المدنيين، ٥٩ منهم بسبب القصف الكيميائي.

طوال فترة القصف  تلك على مدينة دوما، لم تُصدِر المنظمات الإنسانية السورية أي بيان إدانة، ولم يخرج تصريح من الدول الغربية للتنديد باستهداف المدنيين، ولم تضج وسائل التواصل الإجتماعي بمقتلة المدنيين في المدينة المحاصرة، ولكن بعد ضربة الكيماوي بساعات بدأ سيل البيانات من المنظمات السورية، وبدأت الميديا المعارضة تنقل الأخبار بسرعة وفاعلية شديدة، واشتعلت وسائل التواصل الإجتماعي بنقل الخبر والتنديد به، وبدأت الدول الغربية وإعلامها أكثر اهتماماً وتسليطاً للضوء على الواقعة.

هالني هذا الاهتمام الكبير بالضربة الكيميائية دون غيره من القصف واستهداف المدنيين، لم أستطع استيعاب الأمر في لحظتها، كنا منشغلين جداً بمتابعة ما يحدث بين قادة ”جيش الإسلام“ والمُفاوِض الروسي، الكولونيل ألكسندر زورين، والذي كان قد أمهل جيش الإسلام حتى الساعة الثامنة من مساء السابع من نيسان ٢٠١٨ عبر رسالة مباشرة لهم ”خطتكم تقود إلى الحرب، لأن الأسلحة تبقى لدى الجميع، خطتي تقود إلى السلام، عليكم أن تخبروني قراركم حول خطتي بسرعة، أنتظر ردكم حتى الثامنة مساءً. خطتكم في الأساس غير مقبولة، بدون نزع السلاح لن يكون هناك سلام، أنتظر اليوم حتى الثامنة مساءً، بعدها أُوقِف التفاوض“ كان قادة جيش الإسلام متمسّكين بقرار الصمود، فهم يرون في الحملة العسكرية الأخيرة عملية ضغط لأجل التفاوض لا أكثر، لكن يبدو أن الضربة الكيماوية حسمت موقفهم بشكل نهائي، فبعد أقل من ساعتين من الضربة الكيماوية، كان قائد جيش الإسلام على اتصال مع الكولونيل زورين يخبره فيها استعدادهم للعودة إلى التفاوض وفق الشروط الروسية.

لا أعرف، عندها، لِمَ استعدت في مخيّلتي مشهد من الفيلم الوثائقي الشهير ”أبوكاليبس الحرب العالمية الثانية“ عندما استسلمت اليابان وقررت قبول قرارات ”إعلان بوتسدام“ (عُقد المؤتمر في مدينة بوتسدام قرب برلين، بين قادة أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي) والتي حدّدت شروط استسلامها، بعد أن هدّد الرئيس الأمريكي هاري ترومان بتدميرها ما لم تتوقف عن حربها مع دول الحلفاء، وذلك بعد ستة أيام من الهجوم النووي الأمريكي على مدينتي هيروشيما وناكازاكي.

لم يتوقف قصف المدينة أبداً، رغم إعلان استسلام قادة جيش الإسلام، وإن أصبح بوتيرة أخف، واستمر حتى ظهر اليوم التالي، في محاولة لتلقين جيش الإسلام درساً لن ينساه من دولة عظمى، امتلكت محطة فضائية منذ ٤٠ عاماً، وعشرات الأقمار الصناعية، كما وصفها سابقاً الكولونيل زورين أمام مفاوضيه، لكن كان من الواضح بأن اهتمام فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بالضربة الكيميائية، وعملهم الحثيث للتحقق من تفاصيل الهجوم، ثم الكلام عن التحضير لدعوة مجلس الأمن للانعقاد يوم الاثنين في التاسع من نيسان، سرّع من عملية استسلام المدينة، وأصبح واضحاً إلحاح الجانب الروسي على إخراج ”جيش الإسلام“ وتنفيذ بنود الاتفاق بأقصى سرعة ممكنة، وهذا ما حدث فعلاً، فالعشرات من الحافلات وصلت مدينة دوما، بينما حبر التوقيع على الاتفاقية لم يجف بعد.

وفي صباح التاسع من شهر نيسان دخل الجنرال زورين مدينة دوما، وقام بمعاينة البناء الذي استهدفته الضربة الكيماوية، وكان برفقته عنصر من الشرطة العسكرية الروسية يقوم بتصوير المكان بكاميرة فيديو، وخرج بعد دقائق معدودة دون أن يأخذ عينات من المكان، كما أظهره تصوير بعض النشطاء في المدينة.

وفي المساء، عقد مجلس الأمن جلسته بشأن استخدام الكيماوي في سوريا، بدعوة من تسع دول أعضاء، واستخدمت روسيا ”الفيتو“ ضد مشروع قرار أمريكي يطالب بتشكيل آلية خاصة للتحقيق في مزاعم استخدام الأسلحة الكيميائية في مدينة دوما، وخلال الجلسة ظهر واضحاً تهديد المندوبة الأمريكية نيكي هايلي بالرد خارج مجلس الأمن ”لقد وصلنا إلى اللحظة، عندما يجب أن يرى العالم أن العدالة انتهت، في هذه اللحظة من تاريخ مجلس الأمن الدولي إما أن يوفي بالتزاماته، أو يثبت فشله الكامل في حماية الناس في سوريا، وعلى أية حال، فإن الولايات المتحدة سترد“ في حين عرضت كل من روسيا وسوريا، استقبال محققي منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية في دوما، وقالت المنظمة رداً على هذه الدعوة، إنها طلبت من الحكومة السورية “اتخاذ الترتيبات الضرورية للزيارة“ والتي كانت مقررة يوم السبت في ١٤ نيسان الجاري.

لكن في حوالي الساعة الرابعة صباحاً من يوم السبت في ١٤ من نيسان، شنّ التحالف الثلاثي، الأمريكي، البريطاني والفرنسي، هجوماً منسّقاً لمدة ٥٠ دقيقة على مواقع محددة في مدينتي دمشق وحمص، مرتبطة بإنتاج وتخزين واستخدام السلاح الكيميائي، كما وصفتها وزارة الدفاع الأمريكية ”الهدف الأول استهدف مركزاً علمياً في منطقة برزة في دمشق، يعتبر مؤسسة أبحاث لتطوير واختبار الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، بالإضافة إلى مخزن للسلاح الكيميائي غربي حمص، هو المكان الأساسي لإنتاج غاز السارين، أما الهدف الثالث فكان منشأة تضم السلاح الكيميائي“كما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية أن قصف التحالف الغربي استهدف مراكز البحوث العلمية وقواعد عسكرية عدة، ومقرات للحرس الجمهوري والفرقة الرابعة في دمشق ومحيطها، وكذلك أشارت وزارة الدفاع البريطانية إن ضرباتها ركّزت على موقع عسكري على بعد ٢٤ كيلومتراً غربي حمص، مؤكدة أنها قصفت أيضاً موقعاً يعتقد بأن النظام السوري يخزن فيه مركبات أولية لأسلحة كيميائية.

في حين تضاربت الأنباء بين وزارة الدفاع الروسية وقوات التحالف الثلاثي، حول استهداف مطارات عسكرية في محيط العاصمة دمشق، وتصدي الدفاعات الجوية السورية لـ ٧١ صاروخ كروز مما قلل الخسائر المادية كثيراً بحسب الرواية الروسية، لكن نبقى على تأكيد كلا الجانبين بعدم دخول أي صاروخ منطقة مسؤولية منظومات الدفاع الجوي الروسية في سوريا، والتي لم يتم استخدامها خلال الهجوم.

ما يهمنا، بأن الغارة نُفّذت، واستبقت دخول بعثة محققي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى موقع الضربة الكيميائية في مدينة دوما، وتباينت الآراء حولها، فالبريطانيون ربطوا بين الضربة على سوريا وواقعة تسميم الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته، في مدينة سالزبوري البريطانية بغاز الأعصاب، والتي تقول فيها بريطانيا بأن موسكو تقف وراء الاعتداء، بينما أشار لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنها “تقتصر على قدرات النظام السوري في إنتاج واستخدام الأسلحة الكيمياوية“ وأكدت كلامه وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي “الهدف بسيط، منع النظام من استخدام الأسلحة الكيميائية من جديد“ في حين حرص الجانب الأمريكي على التأكيد بأن أمريكا جادة إزاء ”الخط الأحمر“ حول استخدام السلاح الكيماوي السوري.

من الملاحظ من التصريحات الكثيرة لدول التحالف الثلاثي، بأن الضربة تحمل رسائل متعددة، بعضها موجه إلى روسيا، بعد موجة طرد عشرات الدبلوماسيين الروس من أمريكا وأوروبا تضامناً مع بريطانيا التي تتهم موسكو بالوقوف وراء تسميم سكريبال وابنته، وأخرى تتعلق بالحل السياسي في سوريا كما أشارت بوضوح وزيرة الجيوش الفرنسية لودريان “يجب التوصل الى خطة لإنهاء الأزمة بحل سياسي، ونحن مستعدون للعمل عليها الآن مع كل الدول التي يمكنها المساهمة فيها“، وثالثة معنية باستخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي حين يقتل شعبه، وهذا ما أشار إليه وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس بأن ”استمرار العمليات مرتبط باستخدام الأسد للكيماوي مجدداً.“

وبالتالي، ضاع تهليل البعض للضربة العسكرية الأمريكية – الغربية، وخابت ظنون الكثيرين، مرة أخرى، فهي لم تكن انتصاراً لضحايا القصف الكيماوي، ولا لتغيير النظام السوري أو حتى إضعاف لقدراته، بل رسائل متعددة لمصالح ليست سورية، لم يفهمها كثيرون رغم أنها تكرّرت مرات ومرات خلال السنوات السبع العجاف من عمر الأزمة السورية.

لقد نزعت الدول الغربية الترسانة الكيميائية للنظام السوري بموجب اتفاق ٢٠١٣ بعد استخدام غاز السارين على الغوطة الشرقية، وأيضاً في نيسان ٢٠١٧، قصفت مدمرات أميركية بحوالي ٥٩ صاروخاً من طراز توماهوك، قاعدة الشعيرات السورية حيث يعتقد أنها مكان انطلاق الطائرات السورية التي قصفت بالأسلحة الكيماوية مدينة خان شيخون، وتكرر الأمر في هذه المرة من خلال التحالف الثلاثي، وبالتالي، نستطيع أن نفهم بأنه مسموح أن نموت بالبراميل المتفجرة، وبقصف الطيران الحربي، وبراجمات الصواريخ المتعددة الأسماء والأشكال، ولكن هناك ”خطاً أحمر“ أمريكياً – غربياً، يمنع أن نموت بالغازات الكيميائية، ليس غاز الكلور، بل غاز السارين وما فوقه، ما أنذلكم!