بواسطة سلوى زكزك | أكتوبر 19, 2023 | News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
للحروب آثار كارثية على حياة البشر، لكنها كالسيل تجرف في طريقها مقومات القوة وكذلك مقومات الضعف، لدرجة تصل حتى حدود التغيير الجذري. وبالتحديد، يبرز التغيير واضحاً وغير قابلٍ للإنكارفيما يتعلق بالحياة الجديدة للنساء أثناء الحروب وبعدها. إذ غالباً ما تنتفض النساء على وقائع حيواتهن التقليدية ويباشرن الحضور في مواقع جديدة بفعل قوة الاحتياج أولاً وفي ظل غياب وتراجع سيطرة قوى مهيمنة تتحكم تاريخياً بتفاصيل عيش النساء.
ارتبط عمل النساء بعد الحروب بمفهوم الإعالة، فجأة أصبحت الكثيرات وربما الغالبية من النساء معيلات لأسرهن بعد وفاة الأزواج والآباء والأخوة وحتى الأبناء الكبار من ذكور العائلة، أو تغيبيهم أو هجرتهم أو إصابتهم بالعجز التام أو الجزئي عن العمل.
فوضى عارمة عمت في سوق العمل النسائي (إن صح التعريف)، تم تعميم قاعدة ذهبية وهي أن مجال العمل في البيوت كعاملات منزليات أو طباخات أو مقيمات للمرضى والمسنين مفتوح على مصراعيه أمام النساء ويستقبل كل النساء المعيلات أو المتعطلات ويؤمن لهن دخلا كريماً وكافياً، لكن الحقيقة بعيدة جداً عن هذه الفرضية العمياء والتعميمية. الأهم والأكثر إثارة للغضب، أنه تم تثقيل هذه الأعمال النمطية والملتصقة بواقع العمل النسوي ومنحها تراتبية عالية في سلم الأعمال التي تلجأ إليها النساء وخاصة بعد الحروب، لقد منحوها وصفاً عتيقاً ومغرقاً في ظلمه وتمييزه! “عمل شريف” وهذا أحد مكامن تحفيز النساء على اللجوء إليه وحده وحصرياً دون التفكير بأي عمل سواه.
وفي المقلب الآخر وحتى في السلك الحكومي، شهدت الأعمال النمطية والمغرقة في ثباتها كوظائف نسائية، تراجعاً كبيراً. فقد استقال عدد كبير من المعلمات والموظفات والممرضات، بمن فيهم حملة الشهادات العلمية العليا كالمهندسات، بسبب الهجرة أو النزوح أو تغيير أماكن السكن. وتناقص عدد الطبيبات بسبب خروج عياداتهن عن الخدمة أو بسبب تعذر الوصول إلى أماكن العمل. ولحق الضرر أيضاً بالسيدات صاحبات المشاريع الصغيرة لضيق سوق تصريف الإنتاج ولغياب الاستقلالية والخبرة التي تضمن استدامة العمل وعدم المتابعة مع النساء بعد انتهاء الدورات التدريبية وتقديم المنح.
تغير كل شيء، وفي كل تعمق أو تدقيق في المشهد العام نلحظ تغيراً حاداً علينا التقاطه. ومن هذه التغيرات الوجود الملحوظ لظاهرة جديدة هي مهنة تعقيب المعاملات. فمثلاً في بهو بلدية جرمانا، راقبتُ خمس سيدات امتهنّ هذه المهنة التي كانت مصنفة بأنها ذكورية وعصية وممنوعة على النساء. كانت هذه السيدات يتابعن تعقيب معاملات مكلفات بها من قبل أصحابها، ينبغي عليّ الاعتراف بأنني اليوم عرفت سرهن العظيم لأول مرة، العديد من المراجعين/ات لم ينتبهوا لهن، ظنوا أنهن مراجعات وربما موظفات، ربما لأن الجميع لم يتساءل عن مبرر وجودهن هنا، وربما لأن الغالبية العظمى لا تتخيل أن نساء قد انخرطن في مهنة تعقيب المعاملات.
تقول إحداهن (و.س) وتبلغ من العمر اثنين وأربعين عاماً، وهي زوجة شهيد حرب: “فجأة وجدت نفسي امرأة وحيدة في مهب الريح، أنا وثلاث بنات، حاصلة على الشهادة الثانوية وبيئتي وعقلي يرفضون أن أعمل في الخدمة المنزلية، استعرضت كافة الأعمال النمطية المعروضة أمامي كامرأة، لكني رفضتها فوراً بمجرد مرورها أمام مخيلتي، فكرت بعمل خاص ومستقل يدر دخلاً كريماً وكافياً لأربع نساء يزداد احتياجهن مع الوقت ومع تضاعف وتضخم الغلاء وصعوبة تفاصيل العيش اليومية.” وتتابع: “خضعت لدورة تدريبية وبعد الامتحان انتسبت لنقابة معقبي المعاملات.” تقول (و.س) أن عدد المعقبات في دمشق قد وصل لألفي امرأة، وأن اعدادهن في مدينة جرمانا لوحدها قد بلغ خمس عشرة امرأة.
تعتمد النقطة المركزية في اختيار هذا العمل على إرادة السيدات بأن يكنّ صاحبات عمل ومستقلات ولديهن دخل يعتبرنه كافياً لإعالة أنفسهن وعائلاتهن، أو على الأقل أكثر وفرة من رواتب النساء الموظفات أو من العاملات في البيوت وفي قطاع الخدمات الهامشية وغير المحمية أو المسجلة في نقابات أو مؤمن عليها بشركات تأمين وخاصة لضمان حمايتهن من إصابات العمل وجور أصحاب العمل.
تعرفت إلى خمس معقبات معاملات، كلهن معيلات، زوجات وأمهات وبنات وأخوات لأفراد يحتاجون الدعم والسيولة، لكن التعامل معهن مختلف تماماً، حيث لا مكان للشفقة ولا للامتهان المباشر، اللافت أنهن متعاضدات ويساعدن بعضهن البعض.
شكت المعقبّة (ر.ع) من الرفض العلني لهن من قبل الموظفات بصورة رئيسية، ومن عدم تقبل وجودهن في الدوائر الرسمية، بسبب ترسخ الصورة النمطية أن تعقيب المعاملات مهنة ذكورية! مع أن إحدى المديرات الداعمات لهن أوضحت بأن عملهن متقن بشدة، وبأنهن أقل فجاجة من المعقبين الرجال وأقل ضجيجاً، كما أنهم لا يملن للتزوير أو الابتزاز ولا حتى للرشوة، إضافة إلى اهتمامهن الواضح بالصورة النهائية لكل معاملة وبرأي ورضا الموظفين والموظفات في الدوائر أو المكاتب التي يتابعن المعاملات فيها.
أجابت أصغر المعقبّات سناً (ل، ن) على سؤال رضا الأهل أو المجتمع عن هذه المهنة قائلة: “في البداية لم يعلم أحد بطبيعة عملي، أنا طالبة جامعية في كلية الحقوق، فمن الطبيعي أن الجميع معتاد على خروجي اليومي من المنزل خاصة وأني أعيش في بيئة اجتماعية ضيقة والجميع يعرفون بعضهم، مع الوقت شكت لي والدتي بأن البعض قد قال لها وفي تساؤل غير بريء بأنني أدور من مكان لآخر، وأن البعض قد رآني في عدة أماكن بصورة يومية، تخيلوا لم يسألني احد من الذين رأوني في عدة مراكز ودوائر أتابع فيها معاملاتي عن سبب وجودي هناك، رسموا سيناريو محدد (اتهامي بالطبع) لعجزهم عن تقديم أي إجابة عليه وتبادلوه ثم رماه البعض في وجه أمي.” وتضيف (ل، ن): “حين واجهتهم أمي بطبيعة عملي، اختلف تقييمهم، البعض هنأها على شجاعتي وتدبيري والبعض كرر أنها مهنة لا تليق بالنساء، أما الغالبية فقد باتت تلجأ لاستشارتي بقضايا تستلزم التعقيب والمتابعة.”
لا تشكو المعقبات بشكل صريح من رفض معقبي المعاملات الرجال لتواجدهن في الدوائر والمحاكم، بل لاحظنا شكلاً من أشكال المساندة بين النساء والمعقبين الشباب خاصة وأغلبهم طلاب جامعيون ويعملون مستقلين أيضاً، أي أنهم لا يملكون مكاتب خاصة لتعقيب المعاملات، لكن وفي الحقيقة ثمة صراع خفي بين المعقبّات وأصحاب المكاتب العقارية ومكاتب تعقيب المعاملات لأنهم يعاملون المعقبّات وكأنهن قد استولين على أرزاقهن. قال أحد أصحاب المكاتب العقارية صراحة شاكياً ظهور المعقبّات على ساحة العمل: “اتسلبطوا على شغلنا سلبطة!” وأضاف: “تعمل في مكتبي سيدتان، لكن مهامهما محددة، تصوير تنضيد، أرشفة، استقبال المراجعين ويكفي!”
ما بين تعتيم غير مقصود على دخول النساء معترك مهنة تعقيب المعاملات وما بين قبول ورفض إداري ومجتمعي واقتصادي ومهني لحضورهن المميز، تكرّ حبات المسبحة، وتنفرط العقد المتأصلة عقدة إثر عقدة، بحذر، برفض صامت أو بمواجهة معلنة، لا يهم، المهم أنهن هناك وفي كل مكان، قادرات ويملكن قرارهن، سعيدات تملؤهن الثقة والرضا ويملؤنا الأمل بوجود أوسع وأكثر فاعلية وقوة وتقبّل.
بواسطة طه خليل | أكتوبر 10, 2023 | Culture, News, العربية, بالعربية, مقالات
يقول الكرد في أمثالهم، أو حكمتهم التي ترافق مناسبات العزاء، عن المعزين: ” كلٌّ يبكي على موتاه.. أو كلٌ يبكي على نفسه.”
كان الوقتُ ليلاً، قبل منتصفه، سمعتُ بنبأ رحيل الصديق الروائي خالد خليفة في دمشق، بدايةً شعرت بوخزةٍ في صدري، ربما كانت مما وخزه قبل ساعات ورماه طريحاً الى الأبد.
بداية لم أفعل شيئا، أغمضتُ عيني ورحت أتذكر: كنا معاً في حلب.. كنا معاً في دمشق، كنا معاً في ديار بكر.. وآخر اتصال بيننا حدث وهو في سويسرا حين حل عليها ضيفاً ككاتبٍ. يومها تحدثنا عن زيوريخ التي أعرفها جيداً، وتحدثنا عن الفن و الأدب السويسريين من إلياس كانيتي مروراً بجاكوميتي ودورينمات وماكس فريش وبول كلى وغيرهم… وصولاً الى مانو خليل، وقممٍ كماترهورن ويونغ فراو وبيلاتوس.
ثم عاد خالد الى الشام التي يحبها، الشام التي عرفها خالد كما عرف قبلها حلب وعفرين التي ولد فيها أو حولها. في حلب، في أواخر الثمانينيات، كنا مجموعةً من الأصدقاء، كتاب وشعراء وفنانين تشكيليين ومسرحيين وروائيين، نجلس في مقهى القصر، أو نسهر ليلاً في بيت صديقنا الشاعر لقمان ديركي، حيث كان أهله قد خصصوا له منزلاً كاملاً، فحوّل لقمان البيت الى مأوى لكل الأصدقاء المقطوعين من “أهلهم ومدنهم” في تلك المدينة الساحرة: خالد خليفة، محمد فؤاد، صالح دياب، عبداللطيف خطاب الذي سبقنا جميعاً في الرحيل، ثم عنايت عطار، رشيد صوفي، مروان علي، أحمد عمر، خطيب بدلة، محمد عفيف الحسيني، وآخرون كثر لم تعد تسعفني الذاكرة في استحضارهم.
كان خالد وقتها يكتب الشعر، وقد كثر الشعراء، ويبدو أنّ هذا لم يرق لصديقنا خالد فاتجه صوب الرواية، لينشر أولى رواياته “حارس الخديعة” والتي لم ترق لنا وقتها، وانتقدناه كثيراً حول أسلوبه الذي مزج بين الشعر والنثر، فضاعت خيوط الرواية منه ومن القارئ، وبالطبع كان معلمنا في ذلك الحين الشاعر والروائي السوري الكردي سليم بركات الذي كنا نقلده جميعاً.
ثم تفرقنا، من كان يؤدي الخدمة العسكرية عاد الى بلدته، ومن كان يدرس في جامعة حلب تخرج منها وغاب، ومن كان يعمل في السياسة تم اعتقاله أو فرّ الى مكانٍ آمن. وبعد سنوات اجتمعنا من جديد ولكن هذه المرة في دمشق، ودمشق لم تكن كحلب، فليس لدينا صديق كلقمان يفتح لنا باب بيته لنسكن ونأكل فيه، فبدأنا بالبحث عن غرف للإيجار في دمشق الشام، وأغلبنا سكن باب توما لأسبابٍ كثيرةٍ، فهو الحي الأكثر انفتاحاً، والأكثر تقبلاً لمزاج مجموعات من الفنانين والكتاب والشعراء، يعملون في النهار، وفي الليل يصرفون ما لديهم في باراتها، ويخرجون آخر الليل يصرخون ويغنون في أزقتها الضيقة.
وصارت جلساتنا ولقاءاتنا تتم في مقهى الروضة نهاراً، وليلاً في نادي الصحفيين او في بيت الشاعر الراحل بندر عبدالحميد، وهنا تعرفنا على أصدقاء جددٍ كنا نقرأ لهم، أو نراهم يمثلون على الشاشات، وعلى كتاب وشعراء وفنانين، صحيحٌ أننا لم نكن كلنا منسجمين فكرياً، إلا أنّ أغلبنا يحمل هم الإبداع وحب دمشق. تعرفنا على العشرات من الكتاب والشعراء العراقيين المنفيين في دمشق، وكذلك على أصدقاء شعراء وكتاب لبنانيين يأتون بين الحين والآخر الى الشام.
في هذه الأثناء اتجه خالد خليفة إلى كتابة سيناريوهات تلفزيونية، وتميزت مسلسلاته بنكهة حلبية صافية، فيها من عبق التاريخ وكذلك ” المسكوت عنه ” الكثير، ولعل هذا الاتجاه جعله يتجه تماماً الى الرواية، فكان لرواياته صدى طيب، لا سيما وانه استفاد كثيراً من تجربته المرئية، ومن هنا أيضاً تشعبت علاقات خالد بأوساط عديدة، ممثلين وممثلات، منتجين ومخرجين وشباب وشابات يبحثون عن إنجازٍ ما، وكان خالد ودوداً ومحباً للجميع.
لم يكن خالد ممن يتحزبون إلى هذا أو تلك، كان صديقاً للجميع، ودوماً يدهشني بنقائه، وعدم اغتيابه لأحد، حتى لو كان هذا “الأحد” يناصبه الحسد أو الحقد، ومن هنا كان أشبه بنسيمٍ ضاحكٍ في كل مكانٍ يصل إليه، يخلق أجواءً مرحةً وحميميةً، يرقصُ في البيت والبارات ويدلق النشوة على الساهرين. أذكر مرةً كنا في اسطنبول، وقد دعانا صديقٌ قديم من أصدقائنا الفارين من حملة الاعتقالات في منتصف الثمانينات، إلى مطعمٍ وبارٍ مليءٍ بالشباب اليساريين وهناك بدا أنّ لصديقنا صاحب الدعوة حظوةً لدى مدير المطعم إذ خصص لنا طاولة في مكانٍ مرتفعٍ، مخصصٍ للضيوف المميزين. وما أن جلسنا حتى التفت إلينا الجميع، إذ سمعونا نتكلم بلغةٍ غير لغتهم، فتحلقوا حولنا، وبدأ خالد يتفاهم معهم ليس بلغتهم ولا بإنكليزيته الركيكة. يومها التقطنا أنا وخالد من المحيطين بنا كلمة: كارداش، أي الأخ، وصارت الكلمة مفتاح لقاءاتنا وأحاديثنا، “كيفك كارداش”، “أين أنت كارداش؟” ومنذ سهرة اسطنبول تلك وحتى اليوم، لم نعد ننادي بعضنا بأسمائنا، وبالعودة الى تلك السهرة اكتشفنا أنّ لصديقنا الفار العديد من الأسماء. فكان فرج بيرقدار، الذي كان معنا في السهرة، يناديه باسم بيشمركه، حيث كانا معاً في حزب العمل الشيوعي المحظور. أما لقمان ديركي فكان يناديه بـ”سمير”، وأنا كنت أناديه باسم “فرات”، في حين رحب به صاحب المطعم، ورحبت به المغنية التركية باسم ” باقي”. ضحكنا جميعاً ولم نعد نعرف بأي اسم نخاطب صديقنا، وحده خالد قال ليلتها:” الأفضل أن نرقص ونحن في ضيافة العثمانيين، ورفع كأس العرق، وضعه على جبينه وراح يرقص متمايلاً واندهشنا من عدم فقدانه للتوازن، كان يرفع الكأس يشرب منه، ويعيده لفوق جبينه و يرقص الرقصة الحلبية المسماة ” قبا ” أو (السبعة ابه)، و تتألف من سبع دقات كما يقول الحلبيون، وأربع حركات بطيئة، أو حسب المزاج، كانت هذه الإضافة من شرح خالد. أثناء تلك الرقصة نهضنا جميعاً لنشاركه، والتم علينا رواد المطعم جميعاً، والتفوا حول خالد يصفقون له، حتى أن المطربة أثناء الاستراحة جاءت لتجلس بجانبه، أو في حضنه، وقد حسدناه جميعاً. لم نكن ندري أن خالداً ومن يومها كان يحاول أن يشبع من هذه الحياة “القصيرة جداً”، ولهذا أيضاً، كان هاجس الموت يلازمه، ووجده “عملاً شاقاٌ”، فتناساه، حتى جاء إليه على غفلة منه ومنا جميعاً، لنهتف لبعضنا- نحن أصدقاءه ونستفسر هل مات خالد حقاً؟ كيف ولماذا ومتى؟ وكلنا حاول أو حلم بأن يكذب الخبر أحدٌ ما في تلك الليلة، لكن هيهات.
والآن مات خالد خليفة، وبكى عليه كل من عرفه او قرأ رواياته، وهنا أود الإشارة الى أنّ السوريين وبعد دزينة من سنوات القهر والبؤس والتنكيل، وخيبتهم تجاه العالم، كل العالم، كانوا بحاجة الى شخص مثل خالد خليفة، يُحول ليل دمشق الى متنفسٍ للحلم، وبارقة أمل بأن القادم سيكون أفضل، وأن دمشق لم يغب عنها كل عشاقها، وأن سوريا ورغم كل الدمار والكره والحقد والحرب والرعب، والزنازين سيظل فيها شخص أو أكثر يقول للصامتين: ” لن نترك البلد جميعاً.” كما لو أن السوريين كانوا بانتظار من يترجم لهم قصيدة رياض صالح الحسين:
” يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأةٍ في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سورية القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك و زيتونك و سياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
ودموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
ولن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنيةٍ في صحراء.
كان خالد صدىً لهذه القصيدة، في كل روايةٍ، وكل حوارٍ، و كل سهرةٍ، وفي كل بارٍ، كان يلتم حوله الشباب والصبايا، ليرقص خالد، رافعاً كأسه، مترجماً مفردات هذه القصيدة الى رقصة “القبا” الحلبية، مؤكداً أنّ السوريين ورغم قلة الحيلة، ورغم الصمت القاتل، ورغم الرعب، يهمسون لبعضهم : لن نتركك تضيعين يا سوريا.
إن الخيبة التي عاشها ويعيشها السوريون منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، مدت رأسها في موت خالد ورحيله، شعروا أنهم تيتموا من جديد، فبكوا على حالهم. صحيحٌ أن الأصدقاء وغيرهم ساروا في جنازته والدموع تنهمر من عيونهم المرعوبة عليه، ولكن الحقيقة أنهم كانوا يبكون على أنفسهم وعلى سوريا التي تضيع كلما رحل عنها شخص مثل خالد. رحل قبله أحبةُ لنا وبكينا عليهم وعلى أنفسنا، لقد رحل بندر عبدالحميد، ورحل عادل محمود، وحاتم علي، وعمر أميرلاي وآخرون كثر، لكن رحيل خالد وضع السوريين أمام مرآة وجعهم الشاسع، وحيرتهم الطاغية. فقد كان وجوده في دمشق ما يشبه حارساً لها من خديعة عالمٍ أجرم بحق السوريين جميعاً، وكان الكل يريده في دمشق ليشهد لها وعنها ومنها، ليقول لهم ما لا يجرؤون عليه، لهذا بكوا على أنفسهم فيه، لأنهم أيقنوا أن الجميلين والأنقياء تتفجر طحالهم من القهر كالغزلان، و تتيبس شرايين قلوبهم قبل الأوان. وإذ بكينا على خالد فإنما نبكي على أنفسنا، وعلى قتلانا الكثر طيلة هذه السنوات الدامية.
بواسطة نادر عقل | أكتوبر 6, 2023 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
ها هو البردُ يقترب في سوريا، ويشعر الناس مع اقترابه برعب كيانيّ، إذ سينتقلون من أعلى ذروات الحرارة في الصيف إلى أخفضها في الشتاء دون المرور بخريف حقيقيّ بسبب ما يجري من تغيُّرات مُناخيّة، وإذا لم يحضِّروا أنفسهم لمواجهة عواصف الثلج والزمهرير والصقيع، فستكون النتائج كارثيّة، وليس في وسع سكان المدن فعل شيء سوى انتظار حصصهم الشحيحة من مادة المازوت التي لن تكفي أكثر من أيام معدودات، فمن كان منهم مالكاً للمال يمكن أن يشتري المزيد من هذه المادة من السوق السوداء بأسعار مرتفعة جداً؛ أما من لا يملك المال فيجب عليه أن يتدرّب مع عائلته على ارتداء الملابس السميكة ولفِّ الجسم بالأغطية إلى أن ينقضي الشتاء، مُعَرِّضاً نفسه وأطفاله لأمراض من أنواعٍ مختلفة يزيدها هولاً ضعف المناعة بسبب سوء التغذية، علاوة على ما قد تتعرّض له العائلات من اضطرابات نفسيّة، تحديداً النساء والأطفال، بفعل الضائقة الشديدة التي تمر بها البلاد.
لكن نجد اختلافاً في الموقف من هذه المعاناة بين سكان المدن وسكان الأرياف في سوريا، إذ إنَّ بعض سكان الأرياف أشدّ مراساً في مواجهة صعوبات الحياة في الشتاء من سكان المدن، ويبدو أنَّ بينهم رجالاً احتفظوا بجينات وراثيّة يمكن أن تحوّلهم إلى شخصيات مختلفة في أوقات المحن ليستعيدوا قدرة أسلافهم على مواجهة قسوة الحياة، إذ يخرج الكثير منهم في هذه الأيام إلى الغابات من أجل جمع الحطب، أو قطع الأشجار للحصول على مورد للتدفئة في هذه الظروف العصيبة، وتأمين مخزون يكفيهم الشتاء كلّه، وكأنهم يتحدون الطبيعة من أجل البقاء كما فعل أسلافهم من مئات السنين.
ويمكن تحليل هذا الوضع من أوجه مختلفة: إذ إنَّ قطع أشجار الغابات من دون أيّ شك يتسبب في الاحتباس الحراريّ وهو ظاهرة مُناخيّة خطيرة تؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وإطلاق غازي ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما بكميات أكثر من المعتاد على نحو يفضي إلى نضوب المياه، كما يؤدي قطع الأشجار وإزالة الحِراج إلى نفوق الحيوانات البريّة، واتّساع رقعة التصحّر، علاوة على اتّجاه السكان على نحو حتميّ إلى الهجرة في المستقبل من مناطقهم بسبب تغيرات سلبية قاسية في العوامل المُناخيّة. ولا بدّ في هذا السياق من التمييز بين الأشخاص الذين يقومون بهذه الأفعال تبعاً لغاياتهم. ذلك أنَّ هناك أشخاصاً امتهنوا مهنة قطع الأشجار وإزالة الحِراج، لاستخدام أخشابها في البناء، او لبيعها كوقود (=فحم أو أخشاب مُقَطَّعة)، كما يمكن أن تتم إزالة الغابات أو البساتين من أجل الحصول على أراض صالحة للبناء من أجل السكن أو إنشاء المصانع أو المشاريع المختلفة، وهذا يجب مواجهته بكلّ الطرق المتاحة من أجل منع البلاد من الاتّجاه نحو الخراب الحقيقيّ.
بيد أنّه ماذا يمكن نفعل أو نقول لقرويين فقراء يعيشون في أصعب الظروف وأقساها في تاريخ البشريّة، إذا قاموا بقطع الأشجار لتدفئة أطفالهم وشيوخهم ومرضاهم، فهل يمكن لنا أن نقنعهم بنظرياتنا عن الإيكولولوجيا والهيدرولوجيا وعلم الحفظ الحيويّ؟
لا شك في أنَّ نظرات هؤلاء إلينا ستتحوّل إلى نظرات ازدراء، لأنهم سيتأكدون حينها من أننا سطحيون جدّاً لنقبل فناء الإنسان وبقاء الطبيعة، فما قيمة الطبيعة الخلّابة إذا كانت قبراً كونيّاً لأسمى الكائنات فيها؟
لقد كان شعار الرواقيين كما كرّسه زعيم مذهبهم زينون الفينيقيّ-السوريّ هو “العيش في وفاق مع الطبيعة”، وهذا يعني أن يقبل الإنسان عن طيب خاطر كلّ ضربات القدَر بالمعنى الواسع؛ لكن شريطة أن يؤدي واجبه كاملاً في مواجهتها حتى لا تفتك به وتزيله من الوجود. وهذا ما يفعله أبناء سوريا في الوقت الراهن، فهم يواجهون القدر بمختلف معانيه، ويجب أن نعرف أنَّ القدَر بالمعنى الرواقيّ مختلف عن القدَر بالمعنى اللاهوتيّ أو الدينيّ. إنّه يعني كلّ ما يصيب الإنسان من مصائب مهما كانت أسبابها، لكن شريطة تقبُّلها ومواجهتها في آن واحد!
وإذا مزجنا تجربة السوريين الحاليين بتجربة أسلافهم الفينيقيين الذين كان زينون نفسه واحداً منهم، لاكتشفنا أنَّ أشجار غابات فينيقيا لم تُقطع قديماً إلا لصناعة سفن مخرت عباب البحار لإنشاء مستوطنات على مختلف سواحل البحر الأبيض المتوسط، ولنقل أدوات التطور الحضاري وفي مقدمتها الأبجدية الألفبائيّة الصوتيّة إلى اليونان وروما ومنهما إلى سائر أنحاء أوروبا وأجزاء كثيرة من العالم.
لقد كانت جبال الساحل السوري التي كانت تشمل تاريخيّاً جبال لبنان مغطاة بأعظم الغابات الغنية بالحياة البرية بمختلف أشكالها؛ لكنها الآن مع مجيء عصر العولمة تتحوّل إلى جبال جرداء مقفرة، أو إلى صُقعٍ بَلْقَعٍ على حدّ تعبير العرب القدماء حينما يصفون أرضاً خاوية من كلّ شيء.
غير أنّه يجب فهم معاناة القرويين في هذه الجبال والتعمُّق في معاناتهم إلى أبعد حدّ ممكن، فقد تعاقبت أجيال عديدة منهم طوال قرون من أجل جعل هذه الجبال صالحةً للحياة الإنسانيّة، ولا يمكن إلا أن يشعر كلّ واحد منهم بألم كبير حينما لا يجد أمامه أي إمكانيّة للمحافظة على حياته وحياة عائلته إلا باللجوء لقطع أشجار لها رمزيّة كبيرة في عقولهم ونفوسهم، وكـأنّي بواحدهم حينما يضطر لقطع إحدى الأشجار يشعر بأنّه يجتثُّ ذاته من جذورها؛ ولكنه لا يفعل ذلك إلا مرغماً، وقد وصل الأمر بأشخاصٍ إلى حدّ قطع أشجار جوز أو مشمش أو زيتون محيطة بمنازلهم ويستفيدون من ثمارها، لأنهم يخشون من هول البرد القادم إليهم، على نحو لا تمكن مقاومته، فيُقدمون على قطع هذه الأشجار بعد إحجام، لكنهم يفعلون ذلك لاعتقادهم أنَّ بقاء أطفالهم أكثر أولويّة من بقاء الأشجار، ولا بدّ أن يأتي يوم في رأي هؤلاء يمكن فيه غرس الأشجار من جديد، أعني غرسها في تربة صالحة، غير هذه التربة الحالية التي أصبحت مَوْحِلاً للفساد الداخليّ والتآمر الخارجيّ بمختلف أشكالهما.
وينطبق هذا الأمر على مختلف مناطق الغابات في سوريا، سهولاً وهضاباً وجبالاً وسواحل، وأعتقد أنَّ التنوّع الأنثروبولوجي الرائع في الشعب السوري تبعاً لتوزّع السكان في التضاريس المختلفة يحمل غنى إنسانيّاً لا مثيل له في التاريخ، فحتى التنوّع السكانيّ في الولايات المتحدة الأمريكيّة هو في العمق تنوّع مصطنع قائم على اجتماع أو جمع شعوب من مختلف أصقاع الأرض لتكوين أُمّة عالميّة؛ أما في سوريا فالأمر مختلف، فنجد طبيعة مخصوصة حتى على مستوى الشكل والهيئة والملامح واللهجة على نحوٍ يدلّ على غنى إنسانيّ عظيم؛ لكن أين من المشتاق عنقاء مُغْرب؟
لقد دنَّست هذا التنوّع السوري العظيم العرقيّة والطائفيّة والحزبيّة، لكن رغم كلّ شيء يبقى كلّ سوريّ مشدوداً نحو ما أسماه الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر ببراعة كبيرة “نداء الأصول”. نعم إنَّ صوت النداء يتردّد في سمع كل سوريّ من أجل إعادة خلق سوريا من جديد. ولقد أبدعَ أنطون سعادة حين تحدّث عن أصل القوميّة، فأكّد أنَّ ما يحدّد الانتماء القومي هو “البريَّة”، ويقصد أنَّ البريّة أو أرض الغابات التي شاهدها المرء لأول مرّة في حياته هي التي توحّده مع أشخاص شاهدوا المنظر نفسه، ولا يجب أن يوحّده مع الآخرين، قوميّاً، أي عامل آخر، سواء أكان عرقيّاً، أم دينياً، أم لغويّاً.
ها هي الآن تُقطع أشجار هذه البريّة السوريّة بعد أن اقتُطعت أجمل أراضيها سابقاً من المحتلين والمستعمرين، بسبب زوبعة مدمِّرة هائلة سحقت بعواصفها الرعديّة ورياحها الثلجيّة وأمطارها الغامرة كلّ شيء؛ لكن أفلاطون قال مرَّةً وبحقّ: “إنَّ كلَّ ما هو عظيم يكمن في الزوبعة”. وأراد من ذلك أنّه لن يبقى بعد الزوبعة إلا الأصيل والجوهري وسيتلاشى كلّ ما هو عرضي وعابر، لذلك مهما حدث ستبقى ماهيّة الشعب السوريّ خالدة، ولم يكن الفينيقيون السوريون القدماء إلا معلّمين لأفلاطون نفسه حينما تحدّثوا عن طائر الفينيق الذي سينبعث من رماده، ولن يتجدد طائر الفينيق وحدَه، بل ستتجدّد معه هذه الغابات ليحلّق فوقها مُطلقاً صيحة الرجوع.
بواسطة ختام غبش | أكتوبر 4, 2023 | Culture, News, العربية, بالعربية, مقالات
على مدار السنوات الماضية، فقدنا الكثير من الأحباب، الأصدقاء والغرباء أيضاً. حتى اللحظة لم أشعر بغياب أيّ منهم، فهم يأتونني في مناماتي المشربكة جداً، ينسجون وإياي سيناريوهات متقنة لأحداثٍ يلعبون دور البطولة فيها. أستيقظ من النوم ورائحة كل منهم تخز أنفي وتبقى عالقة في مسامات جسدي. في أحد مناماتي، أرسلت إلى صديقي المقرب جداً أخبره بأنني رأيته اليوم ينقذني من رصاصة كانت عالقة في رقبتي، فأخبرته: “تخيل بأنني لم أمت، كنت ُ في إحدى المظاهرات فهاجمنا الرصاص من كل حدب وصوب لتستقر طلقة في رقبتي”. الغريب في الموضوع أنني لم أرَ دمي في المنام، هذا فأل سيء، “الدم يفسد المنام” هكذا كانت والدتي تطمئنني عندما أستيقظ هلعة. إلا أنني في منامي هذا كدت أختنق حتى الموت، وعندما استيقظت شعرت بانحلال في الاعصاب، وخدر في اللسان.. اكتمل يومي وأنا لا أشعر بجسدي، وحتى هذه اللحظة أحس بخدر الموت والطلقة المستقرة في رقبتي ما زالت تخنقني. بحتُ لصديقي بأنه كان المطمئن هذه المرة في المنام وليست أمي! منذ تلك اللحظة التي سمعت فيها رشقات الرصاص تصمُّ أذني وأنا خائفة من خبر يفزعني، فصوت الرصاص في المنام يترجمه الواقع بخبر وفاة، وهذا أيضاً ما باحت به والدتي وهي تضع يدها على فمها لإسكاتي: “يا قلبي لا تخبري أحداً عن أحلامكِ السيئة، فعند رويها على مسامع الآخرين فأنتِ تثبتينها في عالم الحقيقة”.
هكذا إذا يا خالد، أنت من كنت المخصوص بالحلم، وتلبستك ترجمته!
نادمة على سردي لذلك الحلم اللعين، والذي حتى اللحظة لم أستفق منه..
في نفس اليوم الذي رحلت فيه يا خالد كنا نراسل بعضنا البعض في تمام الساعة 1.11، أخبرتني كم أنك مشتاق لنا وأصبحت بالشام، وبعد فترة سوف تذهب إلى دبي لتحصل على الإقامة “التنكية” حسب اصطلاحك، عندها يمكنك القدوم إلى بيروت والبقاء مطولا دون شروط الأمن العام القذرة وتحديدهم لزمن وجودك معنا. تخيل أننا في بلاد لا تعرف قيمة الإنسان ولا تحفظ كرامة الكتاب والعمال والباحثين والهاربين من الموت، في كل يوم يخرجون إلينا بقرار يجعلنا نعود إلى ذاكرة الأفرع الأمنية التي لم نخرج منها أصلاً. أستعيد ذكرى أحد الايام التي أعادوك فيها من مطار رفيق الحريري لأسباب تافهة جداً، عدت مخذولاً ولم تساومهم أو تحاول معهم لأنك على علم بأنهم سيعقدون الأمر أكثر.
تعارفنا لم يكن منذ زمن بعيد، تعرفت عليك في محاضرة مهمة بعنوان “التحولات المعمارية لمدينة دمشق” في حركة البناء الوطني، على الرغم من أننا في وقت سابق لهذه المحاضرة كنا نلتقي كثيرا لحضور العرض السينمائي في المكان نفسه، إلا أنني كنت أخاف أجواء الفن والمثقفين، جئت إلينا، كنت أنا وأحد أصدقائنا، سلمت بيديك المدببتين وكانت تلتصق برقبتك كتلة دهنية، شرعت بفتح حديث سريع ونظرت إلي وسألتني: “أشعر بأنك لا تحبينني”، حينها كدت أموت خجلاً، فأجبتك: “لا الموضوع ليس على هذه الشاكلة ولكنني لا أرتاح لأجوائكم”، وسألته عن الكتلة التي على رقبته فغير الموضوع وفتح آخر..
منذ تلك اللحظة نشأت بيننا صداقة عميقة اختصرت سنيناً طويلة، وبدأت مرحلة جديدة في حياتي التي كانت حينها متجمدة بعد استقالتي من المديرية العامة للآثار والمتاحف. طوال تلك السنين تحمّلت جرمانا التي ضمت أغلى الأرواح على قلبي، ونادي السينما أعباء الوحدة والمنفى داخل البلاد التي نحب
أكثر ما يميز خالد هو ذكاؤه بفتح الأحاديث والمواضيع التي تعني من يجلس معه، ففي بداية صداقتنا جلس يحدثني عن عفرين، وقتها سألني: هل أنتِ من هناك قرأت لك مقال عن آثارها، أجبته بـ”لا، ولكنني من عشاق تلك الجغرافيا”. جرى نقاشٌ مطوّل عن مشاريع مؤجلة توثق تاريخ ذلك المكان وتصف بقاعه وروعة أهله. أتى من أحدثه عن الفطور من تحت سواعد العم أبو إسماعيل وهو يجلب لنا الزيتون المعشق بالزعتر البري والزيت العفريني، وأنا أرتشف مشروبي أخبرته: “من لم يتذوق الزيت والزيتون العفريني خسران كتير”.
برقت عيناه وأخبرني عن فيلم وثائقي كان قد أعده للتلفزيون السوري يتحدث عن تأريخ جغرافي لتلك المنطقة ومقابلات مع سكانها ليتحدثوا هم بأنفسهم عن ضيعهم وجمال الطبيعة المعكوس في طيبة أرواح أهلها.
يميز خالد الكثير من الأشياء، إلا أن أهم خصاله تبسيط الحدث أو القصة ورويها بأسلوبٍ مشوّق وبأرق الكلمات وأبسطها، يجذب من حوله بسوالف لا تنتهي، كنت أعود من جلساتنا المسائية في “القصبجي” مفعمة بالطاقة، المكان الذي يحب والذي تفاجأ جداً بأنني لم أسمع به مسبقاً، أنبني وقال: “أنتِ آثارية ما بصير ما تعرفي مقاهي البلد الأصيلة”. صحيح جداً تأنيبه هذا، فدائما ما تشدقت بأن المقاهي هي ذاكرة البلاد ووثيقتها الأساسية، إلا أنني اكتشفت حينها بأنني أجهل الكثير عن المباني المعمارية الرمزية التي تعد الركن الأهم في الذاكرة الشعبية.. التأنيب الآخر الذي حظيت به من خالد، عندما شاركت بأمسية “حكايا الصور” -الفعالية الأهم على الإطلاق عندما انتهيت من حكايتي، جاء دور خالد في الحديث: “هذه ليست بالقواعد الصحيحة للحكاية أو القصة عليكِ أن تتجردي من التورط بتعريف المحيط بتاريخ البلاد وأهميتها، شطحتي جدا في وصف الآثار والتاريخ، فورطي من حولك ببذل مجهود كبير في التركيز في عتبات الحكاية”.
هذا أيضاً أكثر ما يميز خالد وجوده في كل الأوساط، يشعر بأنه ملزم ومسؤول أمام هذه الفعاليات التي يغيب عنها عادة الروائيون والمثقفون، بينما هو كان يقحم نفسه فيها فنجده دوما بقربنا يقدم النصح والنقد اللاذع دون سماحه لأواصر الصداقة بأن تسرق جزءا من ملاحظاته.
في كل يوم أحد، نأتي إلى النادي السينمائي المكان الذي استقطب إليه جيلاً جديداً، استيقظ على عتبات الحرب وفقدان معاني الحياة الطبيعية، القذائف تشتعل خارجاً ونحن في قبوٍ يعرض موسيقا أفلام الحروب، ولكن بنبرة مخففة لما يجري خارجاً. استطاع النادي السينما أن يركز على عرض الأفلام التي تعرض ويلات الحرب، ولكن بأسلوب خال من الدماء والوحشية، التركيز على ملامح البشر، المعاناة الحقيقة للخارجين منها، كان الجو يلتهب تارة ويشتعل طوراً بمشاهد وحشية وإنسانية تفرزها المجزرة وغريزة البقاء المشبعة بما نعيشه.
رافقنا خالد طوال يوميات السينما، ورافقناه نحن في المشوار المسائي بعد نشاط السينما، حيث تبدأ رحلة الهزل والضحكات العالية التي تنزع صمت المدينة من كبوته، يخلع في مكاننا-في شارع بغداد سابقاً، والقصاع لاحقاً جديته ليرتدي ثوبا مزركشاً بالرقص وإلقاء الخطب على الجمهور.
عندما قرأت رواية “لم يصلِ عليهم أحد” أرسلت له ملف word يحوي رأيي بالرواية، احتوى الملف الكثير من الأشياء التي احببتها والقليل القليل من التفاصيل التي لم أستسغها، فأخبرني حينها “ختومة بدك حطها على صفحتي أو تنشريها بشي مكان”، أخبرته بأنني أفضل أن يبقى الأمر بيننا، فأنا لا أعرف التحدث على العام بشأن من أحب.
عند انتقالي إلى بيروت لم ينقطع تواصلنا مطلقاً، يفتح أسبوعيا تقريباً فيديو للسهرات ويخبرني بأنهم يفتقدونني ويدير الموبايل على المجموعة التي أحب.. لا أقوى على كل هذا الحب..
محظوظون بأن خالد كان قبل كل رحلة إلى الخارج يأتي إلينا، ويبقى ليلة أو ليلتين، كنا نشعر بالامتنان كوننا محطته التي تجعلنا نراه ولو قليلاً، يأتي محمّلاً بأخبار من نحب ورائحتهم التي تزكي بيتنا، فنبقى أياماً وليالي نستحضر أحاديثه ونضحك من قلبنا، فخالد لا يعرف سرد المأساة بحذافيرها، بل يضفي عليها خلطته الساخرة وضحكاته التي تخفي شرح عينيه المشعتين حتى وهما مغلقتان. وكان لنا نفس الجمعات عندما يحين موعد عودته من الخارج يأتي وفي جعبته العديد من السرديات والحكايات المضحكة والمضحكة حتى التخمة. استمرت إحدى حكاياته تدور في الأرجاء وتنتشر زمناً كاملاً، والتي تروي تفاصيل مترجمته التي صدم عندما اكتشف بأنها السيدة الأولى، ليخبرها ماذا تفعل سيدتنا الأولى في بلدنا.
تاريخ كامل سيطوى بالنسبة لي برحيل خالد، فقط لأنه يعرف كيف يحب، لقد أتقن فعل الحب بشكله العميق والمباشر، احتفى بأصدقائه جل الاحتفاء، في إحدى زياراتنا مع أحباب قلبي إلى شاليه خالد، أخبرني بأنه يريد أن يجعل من غرفة الأصدقاء أجمل من غرفته.. “هم أغلى ما يوجد لدي”، لن أنسى مقدار الدلال الذي حظينا به ثلاثتنا في شاليه “الندم” حسب تسميته.
مرت سنوات الحرب وكان مرورها قاسياً جداً، أنعش الأصدقاء الأغلى من الروح يومياتها وصعوباتها التي كانت تأتينا بحلة مختلفة عن السابقة لنا، تعرقل أنفاسنا فنعجز عن مجابهتها فنهرب إلى باحة القلوب المتعبة إلا أنها الأجدر بالمواساة وامتصاص فعل الغصة والحرقة. خسرنا الكثير من الأحبة وكنا نتجاوز الفاجعة بسهراتنا وجمعاتنا الغالية. لم أنعِ رحيلهم يوماً باستثناء رحيل واحد منهم، شكّل رحيله نقطة انعطاف في حياتي. بتّ على يقين بأن من يرحل يأخذ جزءا من قلوبنا، لا يتركها وحيدة يسكن بقاعا داكنة، فيأتي إلينا في أحلامنا ليخبرنا بأنه معشش في منزله الملون بذكرياتنا معاً
حرقة كبيرة هذا الفقد.. إلا أنه فقدٌ غريبٌ من نوعه، فمنذ خبر الوفاة وأنا لا أتقن إلا فتح ملفات الصور والبحث عن يومياتنا وضحكاتنا، فأعيد فعل الضحك كما لو أنني أعيش المشهد ذاته، وهذا ما يتميز به خالد أيضاً يجبرنا على الضحك حتى في أقسى اللحظات.
لم أتوانَ يوماً عن الإفصاح عن مشاعري تجاه أصدقائي، فهم أغلى الموجودات في هذه الحياة البائسة، وجودهم أضفى جمالاً لا يحظى به أي إنسان، ولطالما أخبرت من حولي بأن الحياة جبرت بخاطري بأنها كللتني بأصدقاء هم ليسوا بالأصدقاء هم الحياة بكل تفاصيلها، والروح ترخص لهم. وهذا ما كنت أبوح به لخالد دوماً، أخبره كم أحبه وكم وجوده جميل في هذه الحياة، كان يخجل ويرد بابتسامة تلتصق بخدين محمرين، فأقول مستهجنة: “لااا آخر ما أتوقعه بأنك تملك حس الخجل، غريب هذا الفعل عنك”.
فيعود لطبيعته ويخبرني: “ختومة وأنا بحبك وأنتوا أكتر شي بحبه وبحتفي فيه”.
نهايةً لا أعلم إن كان لزاماً علي أن أذكر بأن هناك أمانة تثقل كاهلي “مخطوط روايتك” المقبل الذي كنا سنفرد اتصالاً طويلاً لأجله، لقد تركت لدي هذا الأثر الذي لازال ينبض وفي طور الخلق، ماذا سأفعل به الآن!
*الصورة من تصوير أحمد حسن.
بواسطة سلوى زكزك | أكتوبر 2, 2023 | Culture, News, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
مات خالد خليفة، الروائي الذي تمكن من تحويل قرائه وربما كل من عرفه أو تعرف عليه من البقّال وعامل محطة البنزين وحتى أعتى نقاده إلى أصدقاء. خذله قلبه المطرز بعدة شبكات طبية لتحمي قلبه من التوقف، اعتاد بجرأة وتوق كبير للعيش على إجراء القسطرة القلبية واعتبرها إجراءً روتينياً لا يستحق حتى التوجس منه، قالها ضاحكا وهازئا من الخوف من توقف القلب، إنها نصف ساعة تحت المراقبة، أخرج بعدها معافى ومطمئناً كأي زيارة روتينية لطبيب القلبية. صارت شبكات الحماية ضيفة ودودة كقلبه، تستقر جيداً كي يعتمر قلب خالد بالحب وبمزيد من الحياة والأصدقاء. درّب خالد قلبه على الاستزادة اليومية من الأصدقاء عدداً وحضوراً، كي يحمي قلبه وقلوبهم بفرط المودة باذلاً دوماً كل جهوده الدافئة لمزيد من الكسب، وربما لم يحتج يوماً لتدريب هذا القلب الجميل، لأن الحب فطرة لدية والمودة سلوك يومي.
والكسب عند خالد خليفة موهبة مرتبطة بالسخاء المفرط، يقف خالد لساعات طويلة ليدرب أفراداً راغبين بتعلم الكتابة، من فرط سخائه لم يشكك يوماً بموهبة أحد، اعتمد نظرية الجلوس إلى الطاولة وعممها على كل متدربيه. ترك لهم فرصة الكتابة وكأنها مهنة يومية تليق بحيواتهم مهما كانوا مغمورين أو غير موهوبين، بل وترك لهم قرار الاستمرار بالكتابة من عدمه. علّمهم كيف يقرأون نصوصهم وكيف يحفزون آذانهم لالتقاط الجمال أولاً والضعف ثانياً، كان التشجيع ديدنه، لا تخافوا من الكتابة، مزقوا كل ما لا يقنعكم أو يعجبكم، لا تخافوا الموهبة ولادة وتستجر نفسها بخفة ورشاقة. لطالما استخدم الروائي خالد خليفة وصف الرشاقة والخفة في تدريباته ليمنح المتدربين آلية ذكية لاختبار منتجهم، كان يمنحهم بسخاء بالغ تلك الفرصة للتعرف إلى الفرق بين الخفة المحببة والمنتجة للدهشة في النص وما بين الخفة التي تضعف النص وتفقده كل مكونات التداول أو القبول.
كلنا نعرف بيته في مساكن برزة والمطل على دمشق لدرجة أن حارات دمشق القديمة والجامع الأموي تحت مرمى نظر جميع من دخل أو سكن هذا البيت، إنه عين على دمشق التي عشقها خالد. عاد إلى بيته من اللاذقية حيث يملك شاليهاً خاصاً يعرفه غالبية الأصدقاء، كلهم لهم ذكريات هناك، كلهم يعتبرون أنفسهم أصحاب البيت والشاليه، مفاتيح بيته والشاليه موزعة على أشخاص في كافة أصقاع الأرض، وحين يدعو خالد أحدهم يرفق الدعوة بمفتاح ويردد: افتح وادخل! إنها تعويذة الحب السخي أو السخاء في الحب! عاد ليموت في دمشق وعيناه على دمشق، بيته الذي كلما غادر سوريا أحبه وتعلق فيه أكثر، وكلما عاد إليه سعى لتحسين شروط الحياة فيه كي يبقى في دمشق أكثر وأكثر. بعد عودته الأخيرة من سويسرا، غيّر ثلاجته لتتسع للمزيد من المؤن ولتحفظ الطعام بصورة أفضل، لجأ إلى تركيب شبكة كبيرة للطاقة الشمسية، خالد يبذل حبه عبر دعوات الأصدقاء إلى الطعام، اشترى الكثير من البرغل وجفف البندورة، لأن البقاء هنا يستدعي الكثير من الدعوات والكثير من المؤن. عاد مشتاقاً بشدة، عاد ليجدد عهد الحياة مع الحياة ومع دمشق، لكنه مات وأكياس الباذنجان والفليفلة معلقة فوق رأسه المسجى على أرضية مطبخه، فقد كان يوم وفاته موعده مع تحضير مونة المكدوس.
في مقالاته الأخيرة لـ(المجلة) كتب خالد خليفة عن الفريكة والبرغل، عن عادات أهله في التموين، استحضر التاريخ الماضي والروائح وطرائق التحضير وصور أمه وشقيقاته ونساء العائلة وهن يطهين البرغل أو يحضرن الفريكة من قمح أراضيهم، كان وهو يكتب مفعماً بحضورهن، لدرجة أنه استعاد حرفياً رائحة التراب وحفيف القدور الكبيرة ونكهة السمن العربي.
خالد خليفة هو الشخص الوحيد الذي صرّح للجميع أنه قد اختار أن يصبح كاتباً، قال هذا لأهله وهو في السادسة عشرة من عمره، قالها وفعلها رغم أنه في البداية لم يكن يعرف أو يتخيل الطريق ليصبح روائياً عظيماً وكاتباً ناضجاً، مشاكساً لكنه حازم، نبيل لكنه نزق وشتّام ذكي وشرس وإن عبر الكتابة، وربما عبر نقض الصورة وهدم جدران اللغة الصماء.
درس وحاز على شهادة الحقوق كرمى لعيني أمه، قصة نجاحه في الثانوية تحولت لعتبة من الإنجاز ويتم تداولها وكأنها قرار يسهل تحققه فقط لأن خالد أصرّ على الهدية وأصرّ على تكريم والدته بشهادة جامعية، وانصرف بعدها ليعيش قراره، ليدون أو يرسم أو يصوغ بعناية فائقة ما بدا باهتاً أو عادياً جداً، لكنه تحول بين يديه لمنجز ينتمي لخالد الروائي وينتمي لنا كلنا، وربما نحن من ينتمي للرواية كفعل حياة أو كفعل تدرب على العيش وتبادل المودة مع خالد الروائي ومع خالد الإنسان ومع الشخصيات والوقائع والصور كلها.
في سهرتنا الأخيرة قبل أسبوعين، رقص خالد كما لم يرقص من قبل، فرحنا به وكأننا نشاركه الرقص، شاكس وتلاعب بإعجابنا لدرجة أننا كنا نطلب منه المزيد، استفرد وحيداً في الساحة الضيقة لمطعم بسيط مازال يجمع أصدقاء وكتاباً وشعراء وفنانين، لكننا كنا جميعاً معه في تلك المساحة الضيقة نرقص ونحن جالسون، ونهلل ونضحك لليل دمشقي أصرّ رواده على البقاء في دمشق مهما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، لكن هل لي بأن أعلمكم بأن ذاك المطعم الصغير قد أغلق أبوابه قبل يومين من وفاة خالد، في دمشق تكثر المواعيد مع الرحيل دون أن نعترف بأن المدينة تضيق وتضيق، نحن لا نريد الاعتراف بذلك تماما مثل خالد، رحل خالد وعينه على دمشق، وكان القرار بأن يدفن في دمشق تكريماً له ولها، دفقة فائضة أو لازمة من الحب من قلب لم تسعفه الشبكات الطبية الكثيرة بالبقاء ليحرس المزيد من ليالي دمشق وأهلها وحكاياتهم ورواياته المخطط لها لكنها لم تكتب بعد.
ها هو الآن، خالد خليفة الروائي والسيناريست والفنان الذي أهدانا جميعا لوحات رسمها بمتعة وفرح، يرقد في عليائه وفي علياء دمشق في مقبرة التغالبة في حي المهاجرين، يحرس ليل دمشق وأسرار أهلها، سيكتب من هناك رسائل لها، تفوح منها رائحة البرغل والفريكة، أناشيد الأمهات والشقيقات والعمات والخالات والأصدقاء والصديقات وكل الحالمين أو العابرين لانكسارات الأحلام وأسماء الأماكن العصية على الوصول إليها كقريته الغالية والبعيدة عنه كما هو بعيد عنها وعنا.
لا عزاء في كل هذا الرحيل الموجع، لا الكتابة تنهض دون فرسانها ولا الروايات قادرة على كتابة نفسها دونما رواة قرروا الكتابة كفعل من أجل البقاء أو لإحياء المدن والبلدان.
لمن تركت الرواية يا خالد؟ لمن تركت دمشق وضيقها وليلها ونهارها، وأصدقاءك وقراءك وكل السعداء بأنهم عرفوك ولو لمرة، مرة واحدة لكنها كانت كافية ليقولوا: نعم نحن نعرفه! إنه صديقنا ونحبه. مات صديق الجميع، يا لهول هذا الفقد، مات وزرع في قلوبنا قبراً جديداً.
شيعناه اليوم، قالوا إنها جنازة كبيرة، تساءل الجميع عن هويته، صفقنا له ما استطعنا وكأننا ندعوه للنهوض علّه يستجيب، تركناه هناك يشرف على دمشق، لم يلّوح لنا وداعاً، لكننا لوحنا له كي يرى أننا كنا هنا من أجله، كلنا بكاه وناداه، لم يجب، يبدو أنه يحضر لرواية جديدة يرد فيها على كل نداءاتنا الملتاعة، نحن ننتظر يا خالد، من الصعب جدا أن نسلّم بهذه الخسارة التي أبكت حجر دمشق وقلبها كما أبكتنا.
بواسطة عمر الشيخ | أغسطس 30, 2023 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
منذ منتصف مارس / آذار عام 2011، لم تفكّر الأصوات التي انطلقت في الشّوارع السوريّة، بحمل السّلاح من أجل التغيير، كان لدى أصحابها حلم بالحريّة. كانت أداة تعبيرهم الأبرز هي الهتاف ضدّ السلطة.
أصوات انطلقت من قهر العقود التي تسلّطت فيها عائلة واحدة على حكم البلاد، فانهمرت دون خوف، لتغير مسار التاريخ السوريّ والمنطقة. لم يكن ثمّة تخطيط للحالة التي وصلت إليها الأوضاع الأمنيّة لاحقاً، هذا ما يبدو، ولكنّ الجميع كان يدرك أنّ مصلحة النظام في سوريا هي أن تتسلّح الثورة، أن تتطرّف، أن تصبح شيئاً آخراً غير الثورة الشعبيّة.
وعلى مدى سنوات اكتسب فيها المجتمع وعيه السياسيّ الحرّ، كان يبدو ذلك بين حين وآخر في صور حراك شعبي هنا، ومظاهرات خجولة هناك. بعد أن حصر النظام أغلب قوات المعارضة المسلّحة، في إدلب، شمال البلاد.
وعلى اختلاف تنوّع المناطق وتأثّرها بالحدث السوريّ، كانت حدّة التفاعل السياسيّ تظهر عبر منصّات التواصل الالكترونيّة، كردّ فعل على غياب العمل السياسيّ الميدانيّ على الأرض، بسبب القمع الأمنيّ والقتل العشوائيّ لكلّ من لا يؤيد أفعال النظام ضدّ معارضيه.
واليوم، هضم المجتمع في سوريا، كلّ أكاذيب السلطة وذرائعها لمنع التظاهر والثورة، وشهدت على ذلك مدينة السويداء، جنوب البلاد. إذ ومنذ أيام، لم يغادر أهل المدينة ساحات الاعتصام والتظاهر ضدّ النظام السوريّ، ورفع شعارات سياسية كانت هي السّيرة الأولى لثورة 15 آذار/ مارس 2011.
لقد استعاد الناس رغبتهم بالاحتجاج مجدداً ضد حكم النظام في سوريا، ترى ما الذي دفعهم للنزول مجدداً إلى الشارع في ظلّ الضغط الأمنيّ والاجتماعيّ الذي تعيشه البلاد؟
تواصل “موقع صالون سوريا” مع عدد من الناشطين في السويداء ومنهم شادي صعب، الذي أجابنا قائلاً: “نتيجة الاستعصاء الحاصل في العملية السياسية، وفشل اللجنة الدستورية في إيجاد مخرج للمسألة السورية. وقد ترافق ذلك بحالة خذلان عام بعد المبادرة العربية وانكفاء المجتمع الدولي عن إيجاد حلّ عادل للمقتلة السورية. كلّ ذلك ترافق مع حالة انهيار اقتصاديّ وقيميّ على المستوى المحليّ والوطنيّ في ظلّ انعدام أبسط مقومات الحياة والنجاة” بحسب رأيه.
ويضيف شادي خلال حديثه لـ “موقع صالون سوريا”: “إن السّياسات الاقتصاديّة الخاطئة التي انتهجها النظام والتي فاقمت من معاناتنا وضيّقت علينا خيارات الحياة، حولت المجتمع السوريّ لطبقتين متمايزتين؛ الأولى، أقلية مستفيدة من فساد النظام وعابرة لكلّ الطوائف والجغرافيّات، تنعم برغد العيش، تستثمر بالفساد والدم، غير مكترثة بصرخات المقهورين. بينما الثانية، طبقة الأكثريّة المسحوقة، كذلك العابرة لكافة الطوائف والجغرافيّات، والتي دفعت الفاتورة الباهظة لفساد البطانة الحاكمة واتجارهم بدمائنا تحت ذريعة الحصار والعقوبات الأمميّة!” على حدّ قوله.
هي أسباب برأي شادي صعب “لم تجهض الأمل بالتغيير السلميّ، رغم مرور السنوات”. ويتوافق مع تلك النظرة، مرهف الشاعر، وهو مسؤول عن “مركز إعلام الانتفاضة” حيث يرى أن “هناك حالة قهر واستبداد منذ عقود، مضافاً إليها تهميش سياسيّ وتدمير لمستقبل الشباب وتهجيرهم” حسب ما وصف لـ “موقع صالون سوريا”.
بينما تعتبر أريج عامر (اسم مستعار)، وهي أحد الذين يشاركون اليوم في مظاهرات السويداء، أن دافعها للنزول إلى الشارع كان يقوم على “المطالبة برفع الرواتب في ظلّ رفع الدعم الحكوميّ عن الوقود” والذي “سوف يلعب دوراً كبيراً بارتفاع الأسعار، وعدم قدرة المواطن على شراء أبسط مستلزماته اليوميّة من طعام وأدوية وطبابة وكلفة اتصالات”.
وتؤكد أريج خلال حديثها لـ “موقع صالون سوريا”: “أصبح راتب المواطن السوريّ لا يكفي أجرة مواصلات مع ارتفاع أسعار المازوت والبنزين. إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي، وانقطاع الماء بشكل كبير. أصبحت الحياة معجزة حقيقية بعد اثني عشر عاماً من النزاع، جميع شرائح المجتمع من معارضين وموالين، هي تحت خط الفقر” حسب تعبيرها.
أمّا رانيا ياسر (اسم مستعار)، وهي محامية وناشطة، تقول إنها نزلت إلى الشارع من أجل “إسقاط النظام” والمساهمة “كمحامية في ترسيخ العدالة وسيادة القانون وبناء الدولة الديموقراطية المتعددة”.
وتضيف خلال حديثها مع “موقع صالون سوريا”: “إننا ننادي دائماً بوطن حرّ، كريم، ومعافى لجميع السّوريين على اختلاف مشاربهم. لقد كانت انتفاضة السويداء وكنّا في الساحات نحلم بدولة ينال فيها السّوريون حقوقهم التي لن تتحقق إلا برحيل هذا النظام”.
طبيعة القوى
يروي شادي صعب بالتفاصيل كيف عادت المظاهرات إلى الشارع ومن كان خلفها، يقول: “اندلعت الانتفاضة في السويداء صباح الخميس 18 آب/أغسطس 2023، بشكل عفويّ، وذلك ردّاً على القرارات الجائرة التي اتخذتها الحكومة ليلاً برفع الدعم وزيادة أسعار المحروقات بنسبة 250% بشكل غير منطقي. وجاءت ردّة فعل المجتمع المحليّ في السويداء بقطع طريق دمشق السويداء في عدة قرى وبلدات، وتجمع المواطنون/ات بشكل عفويّ قبيل الظهر في ساحة الكرامة، للتعبير عن حالة الرفض ونفاذ الصبر لديهم، ووجهوا دعوة عامّة لكافة القوى الوطنيّة والاجتماعيّة للمشاركة في الإضراب العام صباح يوم الأحد 20 آب/أغسطس 2023، وسط ساحة الكرامة، موجهين دعوة للتجار في مدينة السويداء لإغلاق المتاجر ومشاركة أبناء مجتمعهم همّهم وحراكهم”.
ويضيف شادي في حديثه لـ “موقع صالون سوريا”: لاقت دعوة الإضراب يوم الأحد قبولاً واسعاً لدى تجّار مدينة السويداء. أغلقت المحال التجارية بشكل كامل، كما شاركت مختلف الشرائح الاجتماعية في الوقفة الاحتجاجيّة وسط المدينة في صورة فريدة من نوعها”.
وفي إشارته لطبيعة القوى السياسية المشاركة، يقول شادي: “تعتبر القوى السياسيّة والديموقراطيّة للانتفاضة هي الحوامل الأساسية للحراك في السويداء، مثل “الهيئة الاجتماعيّة للعمل والوطنيّ” و “تجمّع القوى الوطنيّة” وغيرها من الكتل السياسية المعارضة. كذلك “تجمّع أحرار جبل العرب” بقيادة الشيخ “سليمان عبد الباقي”، و”قوات شيخ الكرامة” بقيادة ليث البلعوس، وعدد من منظمات المجتمع المدنيّ وتجمع المحامين الأحرار.
ويؤكد شادي أن الثقل الأكبر في الحراك كان بيان الرئيس الروحيّ لطائفة المسلمين الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري. حيث وصف موقفه بأنّه “غيّر كافة الموازين، حيث انهالت البيانات المؤيدة لمطالب المحتجين، ولعلّ أبرز تلك المواقف كان موقف حركة “رجال الكرامة” التي أكّدت دعهما ومشاركتها في الحراك وأعلنت جاهزيتها لحماية المنتفضين في الساحة”.
ولا تشك رانيا ياسر، أثناء حديثها لـ “موقع صالون سوريا” بأهمية مشاركة رجال الدين والمرجعية الدينية لها، لما لها من “احترام أمام الأهالي” لقد كانت أصوات المحتجين واضحة، ليست بحاجة إلى بيان، وإن استمرار وجود المشايخ بين الحشود “يكسب الحراك قوة، ودعم الرأي العام والذي ينعكس بشكل إيجابيّ على مستقبل الانتفاضة في السويداء، خصوصاً، وفي الثورة السورية، عموماً” على حد تعبيرها.
وكما تؤكد أريج عمار على تنوّع المشاركين في مظاهرات السويداء، وحسب ما قالته لـ “موقع صالون سوريا”: “كانت المشاركة جنباً إلى جنب بين عشائر الجبل ورجال الدين، وكذلك ثمّة مدنيون ونخب ثقافية إلى جانب فقراء الوطن. وظهرت أيضاً مشاركة ملفتة لحرائر السويداء، كانت ساحة الكرامة مليئة بكل الأطياف والأعمار، كباراً وصغاراً ونساءً وأطفالاً ويافعين”.
وتعتبر أريج أن مشاركة رجال الدين باحتجاجات السويداء هي جزء من قوّة الحراك “بعيداً عن الطائفية” لأن “لسان حالهم هو حال كلّ السّوريين، لسان الإنسانيّة، فكلّنا بشر. الدين لله والوطن للجميع، وهنا أذكر كيف ملأت السماء جملة واحد (واحد واحد الشعب السوري واحد)” على حد قولها.
ويرى مرهف الشاعر أن الانتفاضة الآن “شعبية جامعة” وفيها “قوى ناشئة كحركة الشبيبة الثورية” و “المحامين الأحرار” و “المهندسين الأحرار”.
ومع وجود طيف ديني في هذا الحراك، لا يخشى شادي صعب أن يكون هناك “تأثير سياسي” حسب ما قال لـ “موقع صالون سوريا”. إذ يؤكد أن “رجال الدين الداعمين للحراك هم يعبرون عن مطالبهم كمواطنين لهم حقوق ولا يتواجدون بصفتهم أصحاب مشروع دينيّ، ومشاركتهم المختلفة لها ثقلها وتأثيرها في تغيير المزاج العام للمجتمع المحليّ”.
وحول الانتقادات التي وجهت للحراك حول استخدام الرايات الدينية الخاصة بالطائفة الدرزية والمتمثلة براية التوحيد، فمن وجهة نظر شادي “أن ذلك لا يحمل أي بعد طائفي، هي هوية محلية تمثل أبناء المحافظة، لأنه من حق المجتمعات المحلية أن تعبر عن هويتها الخاصة وأن تنضوي تحتها في ظل العجز الحالي عن إنتاج مشروع وطني وهوية وطنية جامعة لكلّ السّوريين”.
ومن جهة أخرى، يرى مرهف الشاعر أن التأثير الديني في الحراك غير موجود “بمعناه المتطرف أو الإقصائيّ أو حتى الدينيّ التبشيري”.
وأكد مرهف لـ “موقع صالون سوريا” أن “رجال الدين يمارسون دوراً اجتماعياً مرتكزاً على مجموعة أعراف وعادات وتقاليد تدعم مطالب الناس، ولها تأثير إلى حد ما في ذهنية الناس، وبالأخص تلك اللحظات التي تتطلّب وقفات إنسانية” بحسب تعبيره.
ومن هنا، يعتقد مرهف أن “رجال الدين المسلمين الدروز كان لهم دور في دعم الحراك المدني وجعلهم يتنفسون الصعداء، وذلك بعد أن كانت السلطة الحاكمة في سوريا تؤثر على تيار منهم وتحتكرهم تحت عباءتها”.
العُنف المنتظر
لا تخفي أريج عمار قلقها مع تجارب العنف التي شهدتها سوريا ضد المتظاهرين “خصوصاً إشاعات دخول تنظيم (داعش) الإسعافية للنظام، أو عمليات الاغتيال والتفجيرات المترافقة مع أي حراك داخل السويداء، لكن هذا لا يلغي إصرار المحتجين على النزول إلى الشارع في وقت ليس فيه ما يخسرونه سوى كرامتهم والتي هي خط أحمر”.
وتعتبر أريج خلال حديثها لـ “موقع صالون سوريا” أن “خروج بقية المدن السورية إلى المظاهرات هو حافز لاستمرارية الحراك في السويداء”.
فيما يعوّل شادي صعب على ما سمّاه “خصوصية محافظة السويداء” وذلك خلال عقد من النزاع على آلية التعاطي من قبل سلطات الأمر الواقع، وخاصة مع الاحتجاجات وحالات العصيان. ونتيجة “المعادلات الصعبة في الجنوب وضبابية المواقف الدولية والإقليميّة، أعتقد أنه من الصعب استخدام القوة المفرطة من قبل النظام السوريّ في قمع التظاهر وإنهاء حالة الانتفاضة”.
ويؤكد شادي خلال حديثه لـ” موقع صالون سوريا”: “أن استمرارية الحراك وديمومته ليست مقتصرة على حالة عدم استخدام العنف فقط من قبل سلطات الأمر الواقع، دون رؤية استراتيجية واضحة للحراك، وفي ظلّ غياب تكتيكات جديدة ومتنوعة للمقاومة المدنية غير الاحتجاج اليومي في السّاحات، وفي حال عزوف باقي المدن السورية عن المشاركة، سيكون حراك السويداء معزولاً ويختنق داخل جغرافيته” على حدّ وصفه.
وترى أيضاً رانيا ياسر، أن هناك “خصوصية لمدينة السويداء وأن أي تصعيد من قبل النظام السوري سوف يقابله ردّ من قبل الفصائل التي كسبت في هذه الجولة تأييد رجال الدين مع التأكيد على سلمية الحراك منذ البداية”.
ظل ثورة 2011
تشكل “انتفاضة السويداء” حسب ما يسميها من قابلهم “موقع صالون سوريا”، امتداداً للثورة السورية التي انطلقت في 15 آذار / مارس عام 2011. والتي بدأت بمطالب إصلاحية شاملة ما لبث أن اتجهت إلى رفع سقف المطالب من الخدمية إلى السياسية.
وهذا ما أكدّه شادي صعب، الذي أشار أنه في البداية كانت “المظاهرات عبارة عن احتجاج على قرارات الحكومة الأخيرة، ثمّ أصبحت تطالب باستعادة المال العام المنهوب ومحاسبة الفاسدين، لتنتقل في وقت قصير إلى إسقاط النظام والمطالبة برحيله، والمطالبة بجلاء كافة الاحتلالات عن الجغرافيا السورية” حسب تعبيره.
فيما كانت بعض المطالب “نوعية” كتطبيق القرار الأممي 2254، والمطالبة “بالانتقال السلمي الديمقراطي للسلطة، وإطلاق سراح المعتقلين”. وتطورت الشعارات لإسقاط “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، المهيمن عليه من قبل جماعة الإخوان المسلمين وتركيا، والذين سرقوا حلم السوريين سابقاً” على حد قول شادي.
وإضافة إلى ذلك، قال مرهف الشاعر إن أحد المطالب كانت تتجه نحو “تطبيق لامركزية إدارية في محافظة السويداء، وفتح معبر باتجاه الأردن”.
كما أجمع كلّ ما تحدثوا لـ “موقع صالون سوريا” أن مظاهرات السويداء تجسيد جديد لثورة آذار/مارس 2011 من خلال طبيعة الشعارات والمطالب التي برزت في دوامة الاحتجاجات “كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة” حسب ما يقول شادي صعب. ومن خلال “نضوج الوعي السياسيّ” حسب ما تصف رانيا ياسر، وكذلك وجود بصمة جديدة من “رسائل التطمينات الجامعة مع رفع أعلام الثورة وعلم السلطة وراية التوحيد لنقول إننا نريد كلّ السوريين ضد هذه السلطة” حسب قول مرهف الشاعر.
لقد كانت الاثنا عشر عاماً الماضية “فرصة للنظام للإصلاح والتغيير ولإجاد الحلّ السياسيّ، ومحاربة الفساد ورفع مستوى المعيشة لكن ما حدث هو العكس تماماً، ونفذ صبر السّوريين وصار صوت الشارع هول الحلّ” حسب تعبير أريج عمار.
وأخيراً يختم شادي صعب: “إن جلّ المشاركين في المظاهرات، هم من جيل الشباب الذين كبروا خلال عقد من النزاع “يصدحون بنفس الأهازيج والشعارات ويحييون باقي المدن السورية ويؤكدون على وحدة الدّم السوريّ في ظاهرة تؤكد أن النهايات المكتوبة بالدم وبسلب حقوق الشعوب هي بدايات مزهرة لجيلٍ جديد يرفض ما كتب وقرر أن يعيد البدايات كما يشتهي”.
يمكن مشاهدة عدة فيديوهات تغطي مظاهرات السويداء على قناة صالون سوريا على اليوتيوب هنا.