الزّلزال يدفع الإبداعَ في سوريا إلى قوافل الإغاثة

الزّلزال يدفع الإبداعَ في سوريا إلى قوافل الإغاثة

رغم أنّ عدداً من المبدعين في سوريا، يمتهن أشياء أخرى لسدّ رمق عيشه إلى جانب شغفه الإبداعيّ في أحد أجناس الفنون، ورغم أنّ الظروف المعيشيّة تزداد سوءاً في الداخل السوريّ على الجميع، إلا أنّ الحدث العملاق الذي ضرب مناطقَ واسعةَ من شمال سورية؛ زلزل قلوب الملايين حول العالم، ودفع بعض الفنانين والكتّاب إلى محاولات في التبرّع بما لديهم من نتاج إبداعيّ، ربّما كانوا يحاولون مساعدة المتضررين من زلزال 6 شباط / فبراير 2023 على طريقتهم وبقدر إمكانيتهم. 

ثمّة من لا يزال يمتلك إحساساً بالتعاطف والتضامن مع أبناء جلدته إذاً، يرغب في تقديم ما يستطيع من أجل إنقاذ ومساندة بعض الأسر المنكوبة من آثار ذاك الزلزال، لقد باع معظمهم ما لديهم من نتاج إبداعيّ بشكل عشوائي ومعلن عبر منصات التواصل الافتراضيّ، ليشارك الآخرين آلامهم. وبالمقابل هناك من وجد أن مثل هكذا ظواهر كانت “فرصة للشهرة” حسب تعليق أحد الشعراء السوريين المقيمين في أوروبا، بمنشور منذ أيام.

ترى ما الذي دفع بعض الشعراء لبيع مجموعاتهم الشعرية من أجل المساهمة في إغاثة المحتاجين بسبب الزلزال، وكيف من الممكن أن تترك هذه الخطوة أثراً لدى الآخرين في ظواهر المساعدة؟ 

الشّعر أضعف الإيمان 

يقول الشّاعر والصحفيّ زيد قطريب في حديثه لموقع صالون سوريا: “لا أملك عقاراتٍ أو أرصدةً في البنوك.. ليس لديّ صمديّات أو تُحف. اسمي بريء الذمّة تماماً في سجلات وزارة الماليّة والاقتصاد. حتى بمعدلات الأمم المتحدة ومنظمة اليونيسف، يمكن أن يضعوني في قاع الفقر”.

ويضيف: “لدي مسودّات كثيرة تنتظر فرج الله كي تذهب للمطبعة، وباعتبار أن الانفراجات تأخرت على السوريين بشكل كبير، لم يكن بالإمكان أن أواجه تلك الساديّة التي يتعرض لها الشعب السوري، إلّا عبر بيع الكلمات التي أملكها. وقد نشرتُ إعلاناً عن بيع مجموعة شعريّة، وبصدد الإعلان عن بيع كتاب نصوص ساخرة، فما نفع الكتابة إذا لم نتمكن من انتشال بعضنا من قاع الموت؟”. 

وفي هذا الصدد لا يعتبر قطريب أن الكتابة رفاهية. فهو شخصيّاً ليس لديه طموح بصناعة الانعطافات في الكتابة العربيّة، مؤكداّ: “لا مانع لديّ أن تحفظ كلماتي التي أبيعها، كرامة أهلي وأبناء جلدتي الذين يتعرّضون اليوم لأقسى اضطهاد في التاريخ، حتى من الطبيعة التي لم يسلموا منها! إننا نبيع أعزّ ما لدينا، هكذا وبكل بساطة، وليحسبها الآخرون مثلما يشاؤون، فما يهمّني أنّني تمكنت من التبرع بمبلغ 500 دولار إلى المنكوبين ولم أقف عاجزاً مكتوف اليدين”.

وعن طريقة الترويج لمثل هكذا مبادرات يتساءل زيد: “لماذا يحق للمنظّمات الدوليّة والأهليّة وللدول العالميّة، أن تصوّر طائراتها وهي تحمل أكياس الرز والبطانيات للشعب السوريّ، ولا يحق للفنانين التشكيليين والكتّاب أن يعلنوا عن بيع لوحاتهم ونصوصهم من أجل توفير هذا الدعم؟” 

ويضيف: كلّ من تبرّعوا لهم تجارب مكتملة ولا يحتاجون أخباراً عابرة على السوشيال ميديا، فليذهب الفيس بوك إلى الجحيم، ومعه التيك توك واليوتيوب وما لمّ لمهم. المهمّ أنّنا نفعل أضعف الإيمان، وهو أقلّ ما يفرضه ما نسمّيه الانتماء لشعب تخلّى عنه الجميع.

ويستغرب زيد ممّن ينشغلون بأسلوب التبرع ولا ينشغلون بالتبرع نفسه (!) مشيراً إلى أن المشكّكين في هذه الخطوات، غالباً “هم عالم “كحتة” لم يقدّموا شيئاً سوى الكلام الفارغ من وراء البحار، وبالتالي لم يشعروا بكلّ ما يجري في سوريا التي تُذبح وحيدة دون أن يوقف السكين أحد” بحسب وصفه.

ويختم زيد قطريب حديثه بالقول: “العملية لا تحتاج إلى ندوات لتنظيم أساليب التبرّع، بل إلى حملات للتشجيع على التبرّع. ليتبرّع كلّ النّاس بأعز ما يملكون، وليحصدوا الشّهرة، فما المشكلة في ذلك إن حصدوها فعلاً. نمارس الكتابة، ونحن مقتنعون أنّنا منظمات إغاثة فعلاً. منظمات يمكن أن تهدي الأمل وتضيء الطريق عبر النصوص العزلاء التي تقاوم المخرز، ومنظمات إغاثة يمكن أن تساهم في تأمين بعض من العيش الكريم للأهل إذا ما اضطر الأمر. لذلك، كونوا للحق والوطن والمشاعر الإنسانية.. أيها السادة المبجلون!”.

في حضرة الركام

يقول الشّاعر السوريّ آرام في حديثه لموقع صالون سوريا: “لا بدّ أن نتذكر ما كتبه جبران خليل جبران في عبارته الشّهيرة (لا تغني للجائع فإنه سيسمعك بمعدته) ومع ذلك بقي وسيبقى الغناء مستمراً، وكم منّا غنّى ليؤانس وحدته أو عزلته أو ليبدّد خوفه، لكن بالتأكيد؛ خوفاً عن خوفٍ يختلف”.

ويضيف آرام: “ماذا تفعل القصيدة في زمن الكوارث الطبيعيّة؟ أو ماذا يمكن أن يقدّم أيّ عمل فنيّ لمنكوبين فقدوا بيوتهم، أو فقدوا عائلاتهم وأقاربهم، وفقدوا الأمان بكلّ معنى الكلمة، وأصبحوا مشرّدين بين الركام؟”.

بادئ ذي بدء، القصيدة ليست مهمتها إنقاذ الكوكب، أو إيقاف زلزال، ولا يمكن للشّعر أن يتولى أيّة عمليّة إنقاذيّة بالمعنى العاجل الإسعافيّ، الحرفيّ للكلمة، أي لحظة الدّم أو الانهيار أو سقوط سقف بيت وتهدّم جدرانه، لكنّه يبقى نوع من الصّلاة، التي تقويّ، ونوع من الملاذ لكلّ مشرد قلب أو روح أو عاطفة، ونوع من العمل الفكريّ الخلّاق الذي يمزج بين عناصر جماليّة ومعرفيّة مختلفة، على حدّ تعبيره. 

ويعتبر آرام أنّ “عموم الفنّ لا يمكن أن يقوم بأيِّ عمل ميدانيّ، وإنّه سيحظى بتقدير أقلّ، وأنّ مبادرات بعض الفنّانين والشّعراء تمثّل نوعاً من التّحريض الإنسانيّ لأشخاص، ربّما يكون امتلاك عمل فنيّ بالنسبة لهم، أهمّ من إرسال مبلغ من المال لضحايا الزّلزال أو فرصة للحصول على مقتنى فنيّ بأقلّ من ثمنه الحقيقيّ بكثير، أو نوع من إشاعة ثقافة العمل الإنسانيّ.. وبالعموم مثل هذه الأعمال الإنسانيّة، الفنيّة الإنسانيّة، لا تنجح في البلد المنكوب نفسه، فلا بدّ أن تحدث في مجتمعات مستقرّة”.

ويؤكد آرام: لا يمكن محاسبة نوايا أيّ فنّان أو أيّ شاعر، لبيع بعض من لوحاته أو دواوينه، في محاولة لتقديم أيّ نوع من المساعدة للمدن المنكوبة. في النهاية كلٌّ يساعد بحسب إمكانياته وقدرته؛ ففي محاولة وصف البعض ممّن حاول أن يضع قصيدته أو عمله الفني في خدمة ضحايا الزّلزال، بأنّه نوع من البحث عن الشّهرة، نوع من التجنّي! فما المشكلة أن يضع فنّان تشكيليّ ريع لوحاته الفنيّة لمساعدة المتضرّرين من الزّلزال؟ على حد قوله.

ويختم آرام: “ربّما في الشّعر يبدو الأمر مستهجناً أو غريباً بعض الشيء، فلم تدرج العادة أن يبيع شاعر دواوين شعره، لإرسال ريعها لمنكوبين لاحول لهم ولا قوة، ومع ذلك حصلت، رغم أنّي شخصياً أفضّل الذهاب بنفسي لإغاثة من هم تحت الأنقاض أو مساعدة الأطفال وكبار السنّ، عوضاً عن أن أبيع كتبي الشعريّة، لكن لكلّ منّا وجهة نظره وزاوية رؤيته، وبصورة عامّة لا يجب السّخرية من أيّ شخص لديه النّية الطيّبة لتقديم العون الإنسانيّ، بأيّة طريقة كانت. كما أن الكثير من الشّعراء -وأنا منهم- يعتبرون بأنّ الشّعر في كثير منه هو احتفاء لغويّ وجماليّ بالخسارة، وإن كان في كثير منه أيضاً هو احتفاء بالمعنى. لكن بالرغم من كلّ شيء، إنّه لجميل أن نجد أحداً يفكّر بالمساعدة والعمل الإنسانيّ سواء أكان فنّاناً أو شاعراً أو غير ذلك، لكن العمل الإنسانيّ بحدّ ذاته لن يصنع شاعراً عظيماً، فعظمة القصيدة في القصيدة نفسها، وعظمة اللوحة -كذلك- في اللوحة نفسها”.  

لوحاتٌ لمساعدة المنكوبين

كانت الأعمال التشكيليّة هي أيضاً في موضع البيع من أجل مساعدة المتضرّرين من الزلزال، ومن بين الفنانين الذين ساهموا في بيع لوحاتهم ليقدّموا ثمنها كمساعدات، الفنّانة والمهندسة ريما الزعبي، التي أكّدت في حديثها لـموقع صالون سوريا: “أنّ المبادرة كانت دون تفكير مسبق أو قرار أو تردّد، لقد ساهمتُ بما عندي وهو أعمالي الفنيّة، هي كلّ ما أملك، كانت سرعة الخاطرة هي ما انتابني بسبب رؤيتي للحاجة الملّحة من أجل المساعدة. بدأت أعرض أعمالي عبر فيسبوك، دون انتظار تنسيق مع أي أحد، أنا لا أنتمي لأيّة جهة، لا اتحاد الفنانين ولا النقابات. كنتُ مغتربة طيلة عمري، وعدتُ إلى سوريا منذ ثلاث سنوات بقصد العيش هنا والاستقرار. لقد أقمت أكثر من خمسة عشر معرضاً فرديّاً حول العالم ولديّ معارف كثر في الخارج؛ بسببهم كان التجاوب رائعاً من أجل بيع اللوحات للمساهمة في مساعدة متضرّري الزّلزال”.

وتضيف: “بعد أن بدأت مبادرة بيع اللوحات هذه، بدأت الفكرة تنتشر، وصرتُ أرى العديد من الفنّانين يقومون بذات الشيء بعد أيام قليلة. وهذا شيء إيجابيّ كون الهدف الأسمى منه هو المُساعدة، حتّى أنّ البعض اتصلوا بي كي يسألوني كيف يستطيعون أن يقوموا بنفس الخطوة. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن أغلب أعمالي تم اقتناؤها من قبل أصدقاء ومعارف لي خارج سوريا ومن قبل متابعين لصفحتي الشخصيّة في فيسبوك مباشرة”. 

وتؤكد ريما أن عمل الخير هو أهمّ ما يمكن فعله في اللحظات الكارثيّة، سواء كان هذا العمل فرديّاً أو جماعيّاً، هو عمل واحد وواجب دون تفكير أو تردّد من أجل إنقاذ ما يمكن من النّاس. ولكن بعد أن تتسع دائرة الحاجة يدخل العمل المؤسساتي ليبدأ دوره في الترتيب والتنسيق. إنّ البيروقراطيّة في الكوارث تقتل وتزيد من الخسائر على كلّ المستويات، حسب رأيها. 

لم تحدد الفنانة ريما الزعبي أسعاراً معيّنة لأعمالها المعروضة للبيع، وتركت أمر التقدير للمقتني بما يتناسب مع وضعه وقدرته ضمن حدود مقبولة كسعر للوحة. وتشير ريما إلى أن الشريحة التي وجّهت النداء لها حين عرضت أعمالها الفنيّة للبيع؛ هي شريحة الأصدقاء والمعارف الذين هم خارج سوريا معظمهم من المغتربين ومن ذوي الضمائر الحيّة، حسب وصفها. 

وتختم ريما حديثها بالقول: “إنّ ما يهيمن على حياتنا في سوريا هو الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة، ويوجد هنا أناس لا يتردّدون أبداً في المساعدة ولو بأقلّ القليل، بالمتاح. إنّ ظروفنا الحياتيّة صعبة أصلاً”. 

معرض زلزال

الفنّان السوريّ كيفان الكرجوسلي، المُقيم في برلين، يقول في حديثه لموقع صالون سوريا: “جاءت فكرة المعرض المشترك بعنون (زلزال) على وقع تراكم عمره اثنا عشر عاماً. كان وقع الزّلزال كبيراً وبشكل لا يمكن استيعابه. وقد انتاب المرء ذلك الشّعور بالعجز بعد مشاهدة الفيديوهات وسماع الأخبار، وذلك بسبب قلّة الحيلة وبُعد المسافات!”.
ويضيف كيفان: “ليس لدى الفنّان منّا سوى أعماله والتي هي مثل الأموال المجمّدة، ربّما يحاول أن يساعد من خلالها. كانت فكرة المعرض عبارة عن مبادرة اقترحها صديق لي اسمه أحمد ياسين، والذي شاركني تلك الرغبة بالبحث عن مكان يمكن أن نقيم فيه معرضاً للوحات ونجمع من خلاله التبرعات لمساعدة متضرري الزّلزال في سوريا. وقد تواصل ياسين مع الفنانين وكنت أنا قد قدّمت المكان وهو محترفي الخاص، وعرضت أيضاً بعض أعمالي مع بقيّة الفنانين”. 

ويعتبر كيفان أنّ الفكرة الأساسيّة للمعرض ليست الترويج للأعمال أو الشّهرة، الفنّان لا يستطيع تقديم شيء عينيّ للناس مقابل المال الذي سوف يتبرعون به سوى من أعماله الفنيّة، لأنّ فكرة التبرّع العامّة هي أن الشخص يتبرّع بالمال لدعم فكرة أو هيئة أو منظمة، وبما أنّ الأهل في سوريا قد تضرّروا من الزّلزال وهم بحاجة أكبر قدر ممكن من المساعدة، كانت فكرتنا أن نقدّم أعمالاً فنيّة على قدر إمكانيّة المتبرّع كمقابل يعادل ما دفعه، بحسب قوله. 

ويرى كيفان أنّ أهميّة الفنّان القادر على المساعدة أن يكون على تواصل مع عدد جيّد من المقتنيين وجامعي الأعمال الفنيّة، والأهمُّ برأيي “أن يكون قادراً على التواصل مع منظّمات أو جمعيات مُلمّة وموجودة على الأرض من أجل إيصال المُساعدات للناس المحتاجة بأسرع ما يمكن”. 

ولا يشكّ الفنّان كيفان أنّ مثل تلك المبادرات سوف تترك انطباعات حسنة لدى النّاس “وقد تقربهم من الفنّان والعمل الفنيّ ليعيشوا دورهم ومساهمتهم في المجتمع. ورغم ذلك، يا للأسف، ثمّة من يريد الصيد في الماء العكر، ومن يودّ أن يركّز على الأزمات بسبب حبّ الظهور، هؤلاء قلّة، ولكنّنا بحاجة إلى تغيير تلك النظرة عن مفهوم التبرّع التي سوف تغيّر بدورها نظرة المجتمع للفن والفنّانين على أنّهم يستطيعون المُساعدة، وهم لا يعملون لطبقة معيّنة من المجتمع، إنّما يعملون من أجل الجميع”.  

ويختم كيفان: “إنّ المبادرات الحاليّة في معظمها هي مبادرات فرديّة، وناتجة عن لهفة الفنّانين للمساعدة، وحتّى يتمُّ إنجاحها وإظهار تأثيرها على المجتمع، لا بدّ من الوقوف عند مثل هكذا أحداث ليتم دراستها وتطويرها بشكل منظّم بمشاركة الفنّانين والمنظمات المختصّة بجمع التبرّعات، لأنّ الأمر متعبٌ بالنسبة للأفراد، كفنّانين، وقد عشتُ ذلك على أرض الواقع مؤخّراً، وكان الأمر صعباً جدّاً دون تخطيط مسبق”. 

ناجيات من الزلزال يروين لحظات الرعب

ناجيات من الزلزال يروين لحظات الرعب

كأن الفجائع صممت على مقاس السوريين، لم يمض وقت طويل على إغلاق باب الحرب وترميم جراحها الغائرة حتى باغتهم زلزال مدمر وقع على رؤوسهم لتكتمل روزنامة المأساة وحزمة الألم. قلوب مفجوعة ووجوه فزعة وصرخات مدوية قضاها المنكوبون منذ يوم وقوع الكارثة لغاية كتابة التقرير، تاريخ يتمنى السوريين شطبه من التقويم الميلادي إلى الأبد.
لم يعد 6 شباط من التواريخ العادية بالنسبة للشابة لميس وللكثير من السوريين، فهذا الرقم سيظل بمثابة دمغة ألم لن تفارقها ولحظات خوف فاقت الوصف لم تختبرها من قبل. بكلمتين مختصرتين تصف مشهد الرعب: “كأنه يوم المحشر”. تروي لميس التي نجت من مجزرة تلكلخ في حمص وحصارين تفاصيل نجاتها مع طفليها لحظة وقوع الزلزال في مدينة جبلة وتقول لـ”صالون سوريا” بصوت متهدج: “جربت شعور شاهد العيان على مجزرة، وعايشت ظروف الحصار والعيش في ملجأ لأشهر طويلة، اختبرت جميع أنواع الخوف، غير أن طعم الخوف عند وقوع الزلزال كان مختلفاً كلياً ومرعباً لدرجة تفوق الوصف، كأنك تهرب من يوم الطوفان، أن تشعر بانشقاق الأرض وبكاء السماء”.

وعن تفاصيل ليلة الزلزال تقول: “كنت أنتظر وصول زوجي عند الساعة 3 فجراً بعد أيام من المناوبة في قطعته العسكرية، بينما كان طفلاي نائمين، عند وصوله دخل للاستحمام فيما كنت أهيأ له الطعام، بعد انتهائه شعرنا بالمنزل يهتز قليلاً ثم تعالت أصوات الجيران ونداءات الاستغاثة والمطالبة بالإخلاء”. تتابع حديثها: “حاول زوجي فتح النافذة للخروج منها لكن دون جدوى، ثم طلب مني إخراج الطفلين على أن يلحق بي بعد أن يحضر هويته وبعض المال، صرت أصرخ وطلبت منه مرافقتي، لكنه رفض وطالبني بالخروج وإنقاذ الأطفال أولاً”.
تضيف الناجية أن قوة الزلزال تضاعفت أثناء لحظات إخلائها للمنزل، كان شكل المطر غريباً ينهال علينا كالرصاص، والجيران يتدافعون بقوة خوفاً من انهيار المبنى فوق رؤوسهم، حينها أمسكت بأيدي طفليّ بشدة وحرصت على عدم إفلاتها والركض بسرعة قصوى، خشية وقوعهما على الأرض لأن ذلك يعني موتهما الحتمي، إما نتيجة الزلزال أو بسبب دعس أقدام الجيران فوق جسديهما وتجاوزهما خلال هربهم من الموت”.

بملابس مبللة وجراح كبيرة قضت لميس مع طفليها يوماً كاملاً في الحديقة دون مأوى. قدم لها أحد الجيران كيساً من الخبز واللبنة والتفاح لمحاربة الجوع. عند حلول الليل لجأت السيدة إلى أحد الجوامع للمكوث هناك، أودعت طفليها عند امرأة لتعود إلى منزلها بحثاً عن زوجها بين المفقودين. وللأسف اكتشفت موته بعد يومين من الانتظار، حيث وجد رجال الإنقاذ جثته وقاموا بإخراجها من تحت الأنقاض ووضعها في مكان موحد للتعرف على هوية المفقودين من الأهالي والأقارب.
وفي قصة مؤلمة أخرى، رضيعة لا يتجاوز عمرها الساعات كانت سبباً بنجاة أسرتها والخروج قبل انهيار المبنى في ريف جبلة، تتحدث أم محمد عن تفاصيل فجر الزلزال: “ولدت حفيدتي قبل يوم واحد من وقوع الزلزال، كانت تصر على عدم النوم والرضاعة طوال الليل، فكانت تبقينا مستيقظين، لذلك كنت أسهر على راحة ابنتي وتحضير الطعام المناسب لها، عند خروجي من المطبخ شعرنا جميعاً بالأرض تهتز من تحت أقدامنا، هرعنا إلى الخارج بملابسنا”. تتابع حديثها: “ما هي إلا لحظات حتى انهار البناء وتداعت البيوت، حصل الأمر في ثوان سريعة، لو كنا نياماً لمتنا جميعاً أو كنا تحت الأنقاض”.

من جانب آخر، تصف الناجية صفاء تجربتها في الفرار من سقوط المبنى الذي تقطنه في حي صلاح الدين بمدينة حلب: “كان الناس يصطدمون ببعضهم البعض أشبه بتدافع السيل الذي لا يتوقف، أن تتوقف عن الركض للحظات يعني أن تقلل من فرصة نجاتك”. نجت صفاء مع أطفالها الثلاثة وزوجها ووالدته، وعن تفاصيل ليلة الزلزال، تضيف قائلة: “عند الساعة الثانية ليلاً شعرنا بهزة خفيفة، لم نشعر بالخوف حينها لأننا اعتدنا على الهزات المستمرة التي تحدث عادة، لكن عند حلول الرابعة فجراً بدأت تشتد ليهتز المنزل يميناً ويساراً، خرجت حافية القدمين وأنا أحمل طفلتي ذات الأشهر الستة بينما حمل زوجي البقية وساعد والدته في الإسراع بالخروج”.
تتابع حديثها: “كنت خائفة من فقدان أطفالي وزوجي، كنا نركض كالمجانين بدون وعي، هبط البناء بأسره ليستحيل إلى رماد وغبار، 40 ثانية تعادل 12 عاماً من الحرب والخوف”.

أما ريم فتصف ليلة ٦ شباط كمشهد ظنت أنه قد يكون الأخير في شريط حياتها: “طوقت رضيعتي بقوة، ثم عانقنا زوجي بملء ذراعيه، بينما كان السرير يتأرجح بنا وجدران المنزل ترتجف من حولنا”. نجت ريم بأعجوبة، حيث تمكنت مع أسرتها من النهوض والخروج قبل وقوع الهزة الثانية بفارق دقيقة، وتقول عن تجربتها لـ”صالون سوريا”: “كنا نائمين وفجأة شعرت بالبيت يرتج من حولنا، للوهلة الأولى ظننت أن المنزل يتداعى نتيجة التشققات الحاصلة في أعمدته وذلك لوقوعه في العشوائيات وتعرضه لجحيم القذائف طوال سنوات الحرب، لكن اتضح أنه زلزال حين نادى الجيران بذلك وتيقنوا من الأمر”.
انقطعت سبل ريم للوصول إلى محطة آمنة في دمشق، وعجزت عن إيجاد مقعد شاغر في وسيلة نقل بسبب الازدحام الكبير، لتضطر إلى المكوث في الحديقة لثلاثة أيام متواصلة في ظل ظروف جوية قاسية عليها وعلى رضيعتها التي لا يتجاوز عمرها الشهر. وتصف مأساتها: “لم نجد أي باص أو سيارة أجرة متوفرة، كادت ابنتي تتجمد من البرد القارس حتى استحال لون جسدها إلى أزرق، كان زوجي يجمع أغصان الشجر للتدفئة وكسر حدة الصقيع”.
تلازم ريم مشاعر الخوف والرعب كل الوقت بعد مرور أكثر من 10 أيام على الكارثة، وتصف الناجية لحظات الزلزال بأنها الأكثر ذعراً على الإطلاق: “مشهد اهتزاز الأرض وانشقاقها وكأنها على وشك ابتلاعنا يفوق رعباً أصوات القذائف وأنين الرصاص، لا تعرف إلى أين ستذهب بنفسك، فالأرض برمتها ترتعش وتتحرك من تحت قدميك، تُذَكر ولا تُعاد”.

على خط الزلازل، على خط الحروب

على خط الزلازل، على خط الحروب

حين جئْنا إلى الحياة

وُلدْنا على خط الزلازل،

وكبرنا على خطّ الحروب

ومنذ الولادة والأرضُ التي تحتنا تميدُ بنا،

والبناياتُ التي نعيش فيها تتأرجح

كأنها مبنية في الفراغ.

يأتينا الضوء بالقطّارة

والظلام كنهر أتشيرون.

دوماً نسير على حبل البهلوان

ونتعجّب كيف نتوازن طيلة الوقت فوق الهاوية

وهي تقول لنا بصوت ساخر:

أينما توجهتم فأنا تحتكم!

وحين تنشقّ الأرض غاضبةً وتبتلع كل شيء

حين يشهر التاريخ مخالبه

 ويمزّق قطعاً من الخريطة

حين تكشّر القوة عن أنيابها

وتقضمُ حديد البنايات ورؤوس البشر

تأخذ المسرحية أبعادها

في انفجارات متتالية

في تدافع جنوني

في انزلاق أبله للصخور

 في شقّ كأنه شدقُ الجحيم

في طيش في باطن الأرض

يخطر أيضاً في رؤوس بشرية

تتكسّر الأجساد فوق صفائح  الطغيان

ويحطّم الاهتزاز الأعمى جدران الأرض.

أيتها الصفائح التكتونية الكبيرة التسع

أيتها الصفائح الصغيرة الاثنتا عشرة

التي تضمنا جميعاً بذراعين صخريتين

وتتحرك بطيئة فوق وشاح الأرض

أيتها الأحجار التي تسحق رؤوساً،

أيتها الأنقاض التي تدفن أجساداً

أيتها الرصاصات والانفجارات التي تدوي

يا صنّاع الحروب والفقر

نحن هنا،

على قشرة الكوكب

نركض بين الاهتزازات هاربين

من كوى في الكتب المقدسة

من شقوق في الشعارات

من فجوات في العقائد

من ثقوب في الرايات

الأرض تغلي تحت أقدامنا

خلفنا تركض الموجة العالية

وتحتنا تتطوح الصخور

في رقصة سقوط تستمر أربعين ثانية.

اختبارات جديدة للكارثة في سورية

اختبارات جديدة للكارثة في سورية

جاء فجرُ السّادس من شباط الحاليّ غاضباً، منفجراً، لا يفرّق بين ظالمٍ ومظلومٍ، ولم يستثنِ أي طرفٍ من الانقسامات الاجتماعيّة والسياسيّة في سورية. لم يكن مجرّد فجرٍ عابرٍ لهزّة أرضيّة، إنّما زلزالاً تجاوز السّبع درجاتٍ على مقياس “ريختر”، ضرب جنوبيّ تركيا بقوة مدمرة وأجزاء واسعة من سورية في كل من حلب وإدلب وحماة واللاذقية وطرطوس، وصولاً إلى دمشق التي شعر سكانها بالهزة الأرضية. وقد شعرنا بارتداده أيضاً في قبرص، ليسجل فصلاً جديداً من حكاية الوجع السوريّ، وهذه المرة بتوقيع الطبيعة. 

حيث أعيش في مدينة لارنكا القبرصيّة، استيقظتُ في لحظة وقوع الزلزال ذاك، كانت صرخات الجيران وهلع الأطفال يذكّرني بما عشته من فرص جديدة للحياة في سورية بعد قصف أو انفجار مفخخة أو نزول قذيفة هاون على الأحياء السكنية الخالية من العسكر. 

ربّما بَقِيَتْ ارتدادات الزلزال في الروح لشهور أخرى، فامتلأت صفحات منصات التواصل الافتراضية بالنداءات وأرقام هواتف المساعدات المحليّة ومئات المبادرات المُرتجلة منها والمنظّمة، لتتحول النّفس السوريّة في لحظتها إلى ترك كلّ ما حدث من تهجير وصراعات عسكريّة وسياسيّة، جانباً، ولتذهب نحو البحث عن ناجين تحت الأنقاض، وتحاول أن تساعد في تأمين جزء من آلاف الأسر التي خرجت إلى الشارع وقد تصدعت بيوتهم الهشّة وغير المعتادة على مثل هذه الكوارث. كانوا جميعاً بشراً دون رتب حياتيّة، تخلّصوا من سطوة التبعيّة وصارت بوصلتهم تتحرك على إيقاع تعاطفهم الإنسانيّ دون أن يحمّلوا المسؤولية لأحد، كانوا يحبون الحياة رغم كلّ شيء. 

تلك الصور القادمة من المأساة التركيّة والسوريّة، قتلت أكثر من خمسة عشر ألف شخصاً وهجّرت الآلاف، وما لفت  نظري حقاً هو النزاع العلنيّ بين حكومة دمشق التي رأت في المسألة فرصة سياسية لمطالبات دولية من أجل إعادة الاعتبار لكيانها بغض النظر عن الضحايا الذين سيموتون جوعاً وعطشاً تحت الأنقاض بانتظار التحرك الإغاثي المجدي، وبين المنظمات النشطة في مناطق سيطرة المعارضة التي كانت تجمع التبرعات من حول العالم وتسعى للعمل في بعض المناطق بينما تخاف من العقاب إن دخلت إلى مناطق سيطرة القوات الحكومية التي تنظر إليهم كـ “حاضنة للإرهاب”! 

إذاً، وُضِعَ السوريّ مجدداً على خارطة الحاجة والبحث عن فرص ممكنة للحياة، لكن الجهات التي تتحكم في مصير حدوده، لا تقيم أيّ اعتبار للإنسانيّة في وقت الكوارث والفيروسات وحتى المعارك الحربيّة للسيطرة على المناطق، إنّما ساد الهدوء في محطات “الإعلام الرسميّ” في السّاعات الأولى فيما تجاوزت صفحات الناشطين حدود العالم خلال وقت قصير. 

حاولت تلك الصفحات أن تعبّر عن الصعوبات وتنظم تجميع المساعدات من جهة وتوثق الأحداث على الأرض، من جهة أخرى، في ظل انشغال حكومة الأسد بتلقّي التعازي وحملات الإغاثة وتوزيعها بهدوء لا يتماشى مع التوقيت الذي فرضه الزلزال على ساعات أرواح الضحايا، فكانت أقسى عبارة وثّقها أحدهم في فيديو قرب الأبنية المدمّرة “لقد اختفى الأنين!” وبالتالي من المؤكد أن أصحاب الأنين قد ماتوا انتظاراً، وقفت في وجوه فرصهم الأخيرة حملات تصفية الحسابات السياسيّة! 

من جهة أخرى، كانت حجة سلطات دمشق أن العقوبات تمنع وصول المساعدات، وفي غضون أيام اتخذ مكتب مراقبة الأملاك الأجنبية الأمريكي، قراراً بتجميد جزء من العقوبات الأمريكيّة على النظام السوريّ لمدة 180 يوماً، ابتداءً من 10/2/2023 للسماح بتقديم المعونات لسورية للتعامل مع آثار الزلزال وبالتالي سوف تتحرك السفارات والقنصليات والهيئات الدولية الإغاثية لجمع التبرعات وإرسالها إلى سورية.

ولكن قبل العقوبات؛ بإمكاننا أن نرى حركة الناشطين على الأرض والمتبرعين الذين قيل إنهم قدّموا مبالغ كبيرةً. يكفي أن تتحرك منظمات المجتمع المدني الإغاثية شبه حكوميّة كانت أم غير حكوميّة، لتعمل على إنقاذ السوريين، ولكن، مهلاً؛ إنّ الإغاثة والعمل الإنسانيّ الذي يوحد البشر على الدفاع عن حقهم الطبيعي في الحياة، هو أمر تعتبره السّلطات استحقاقاً لا يمنح إلا من خلالها (…) وهذا ما زاد في اختبارات الإنسانية أسئلة جديدة في الكارثة السوريّة.  

قتل متكرر!

تبقى في ذاكرة المرء وأثناء تلقي أنباء الكوارث، صورُ الحدث بأشكاله المختلفة، صور الضحايا، صور الناجين؛ نبحث عنها بدافع الفضول أو التعاطف أو الكتابة أو مشاركة الوجع لنخفف عن بعضنا، ومهما كانت الأسباب، فإن تلك المشاهد لن تغادر روحنا بسهولة وسوف تمارس كوابيسها المخيفة على حياتنا القصيرة، ولعلّ أكثر ما جعل الحالات تزداد هو توثيق الهلع، إذ كان أحد السوريين المقيمين في تركيا بمنطقة هاتاي يحاول المغادرة في اللحظات التي ضرب الزلزال فيها، كان يسجل مقطع فيديو وهو يتمنى أن ينجو (…) لست أدري ماذا يخطر في العقل البشري من حاجات لتوثيق الرعب ونشره على مراحل متقدمة ليؤذي الملايين حول العالم من ذلك؟ وعلى عكس هذا كان توثيق خروج الناجين من تحت الأنقاض يفرح القلب، لكن الألم المؤجل هو عرض وجوههم المضطربة في وسائل الإعلام دون حتى استشارتهم، لجذب التعاطف أو أي شيء، وذلك السلوك المؤذي كان يمر إلى ذاكرتنا ويترك أثره القاسي أيضاً. 

التغطية وفقر الأدوات

“هناك أبنية متصدّعة من مخلفات الحرب، وأصبحت بعد الزلزال بوضع خطر على حياة السكان” يقول أسامة كرحوت وهو صحفي شاب، وكان قد ذهب في حملة تطوعية إلى حلب بسبب الزلزال. ويشير إلى أن أعداد السكان الذين تركوا تلك الأبنية، كبير، وقد فضّلوا البقاء في المدارس أو في بيوتهم المتصدّعة، بدل أماكن الإيواء الباردة والمتجمّدة. لقد تمّ التبرع بمبالغ كبيرة، وكان من المجدي بناء بيوت سكن مؤقتة لهؤلاء الناس، على أن تكون مجهّزة لمثل هذه الكوارث، بحسب كرحوت. 

ونُقل عن روايات الأهالي بأن الطعام كان متوفراً بشكل معقول، في أحياء حلبية مثل (السكري والمشارقة) ولكن المعيب “أن أشخاصاً غير محتاجين كانوا يأتون إلى توزيع المساعدات ويأخذون حصص أشخاص لا يملكون أي مأوى أو كسرة خبز!” يؤكد كرحوت، ويلفت إلى أن المفارقة كانت بوجود أناس؛ حالهم يرثى له، رفضوا الظهور أمام عدسات الإعلام أو أمام فرق المساعدة، ربما بسبب “عزّة نفسهم” حسب وصفه! 

هناك فقر إعلاميّ في متابعة الصورة على الأرض، وحين تكلّمت مع أسامة أكّد لي أنّه بث فيديوهات مباشرة رصد فيها الوضع الميداني من خلال صورة واقعية تخفف قليلاً من هول الكارثة بطمأنة السوريين في كلّ مكان عن وضع بعض المناطق التي لم يصل إليها الإعلام بأيّ شكل كان.

إضافة إلى ذلك، كان الأهالي يستخدمون أدوات بدائية لإزالة أنقاض عشرات البيوت، بعد مرور الوقت المحتمل لإيجاد ناجين، ربما قد أصبحوا الآن ضحايا تحت الركام.

يتجول أسامة كرحوت مع عدد من رفاقه الذين خرجوا من دمشق نحو حلب أطلقوا على نفسهم اسم “الفزعة” وهم مجموعة من الشباب والشابات يدرسون في كلية الإعلام بدمشق، جمعوا ما لديهم من مساعدات كمبادرة تطوعية، يتجولون لتوثيق الحقيقة ومساعدة الناس بالتكاتف مع عدد من أهل مدينة حلب الذين يرشدونهم ويساعدونهم في هذه المبادرة الإنسانيّة. 

معضلة الحال

يسوء حال المراقب لكمية التعب والخسائر التي يعيشها أهل سورية بسبب هذا الزلزال، سيما وأنه بلد يعيش حرباً وصراعات سياسيّة وعسكريّة لا حدود لها. لقد وصلت الحالة الاجتماعيّة بين الناس إلى درجات من التّهتك الإنسانيّ وعدم الثّقة والفقر، مع صعود لغة العنف والقتل كأبرز الأدوات لتخليص الحقوق! 

وما أن حسمت الطبيعة ثقلها الفيزيائي لتحرير تلك الطاقة الهائلة في جوفها الأرضي، حتى أزال عدد كبير من السوريين غشاوة الصراع عن عيونهم وطوائفهم وانقساماتهم السياسية؛ لقد انتبهوا لحالهم بشكل آخر؛ إنّهم يحاولون التغلّب على أرباب الحرب وتجارها الذين خطفوا حلمهم بالتغيير. إنّهم يشهرون قلوبهم وأرواحهم لمساعدة بعضهم، لكن المعضلة تكشف عن عبثيّة الحال؛ فمن صنع الحرب هم الطّغاة ويستحيل يوماً أن يصنعوا سلاماً لأرض قُصفت بالطيران والمدافع، ولم يكن السّبب أكثر من رفض الناس لذلك الظلم المسمّى طغياناً، أمّا الآن فقد دُمّرت معظم البيوت وربما النفوس بسبب الزلزال وصرنا بحاجة حقاً لمعجزة إنسانيّة تنقذنا ولو قليلاً من حصار الكارثة. 

*مصدر الصور المرافقة: أسامة كرحوت

ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا

ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا

(شذرات وأقوال)

-١-

من يتطوعون لإنقاذ الآخرين، ويهرعون إلى نجدة الضحايا والمحتاجين، هؤلاء هم أبطال الحياة الحقيقيون. الضوء الذي يتوهّج من أيديهم يعري رجال السياسة ورجال الدين والكذب الذي صار الروح المحركة لوجودنا. 

يندفع الأبطال وسط الأنقاض غير آبهين بالخطر كي ينقذوا حياة الآخرين لأنهم يعرفون قيمة الحياة الإنسانية، ولهذا يحق لهم أن يقودوا المجتمع لأنهم بتطوعهم يعلموننا درساً عظيماً في السياسة ألا وهو أن المهمة الإنسانية الأنبل هي إنقاذ الإنسان من كل ما يستهدف وجوده وإنسانيته، في وقت تعمل فيه كل السياسات العربية على تحويله إلى رقم خاضع ومدجن.

-٢- 

حين تنشبُ الحرائق ولا نقدر على إطفائها، حين تضربُ الزلازل ولا نقوى عن رفع أنقاضها،  حين تتمدد الحروب ولا نستطيع احتواء نتائجها، حين يُخْترق الفضاء وتُقْضم قطع من الأرض ويُعاد رسم الخريطة ولا نجرؤ على رفع رؤوسنا، ألا نستطيع التساؤل: لماذا عجزنا على امتداد أكثر من نصف قرن عن بناء مؤسسات تكون جاهزة للعمل في اللحظة التي يتعرض فيها الشعب لخطر وجودي؟

-٣-

أحزاننا تفيض كالينابيع وقلوبنا مقهورة. أعيننا تفتش الأنقاض بحثاً عن أية علامة، وآذاننا تصغي. لقد دُفنت البيوت تحت الركام، البيوت المنكوبة، البيوت المهزوزة والمردومة والتي تبدو كفلول جيش من الإسمنت محطم ومهزوم.

-٤-

تغزونا صور الأنقاض: أنقاض مدن دمرتها الانفجارات ثم جاء زلزال كي يضع ختمه على الفاجعة، لكن النبل الإنساني يتجلى في أوقات الكوارث لدى من يعرف أن الضحايا أينما سقطوا على الخريطة، وكيفما كان شكل قتلهم، هم أعضاء بُترت من جسده، وصورهم تسكن في قلبه وتظل حية فيه.

-٥-

لي أصدقاء في أنطاكيا، وفي كل المدن المنكوبة، منهم من عاش ومنهم من لا أخبار عنه. 

قال لي صديق من أنطاكيا على الهاتف: لقد متُّ وانبعثتُ إلى الحياة. وبوسعك أن تقسم حياتي الآن إلى حياة قبل الزلزال وحياة بعده.

-٦-

مات صديق لي في جبلة تحت الركام هو وزوجته، حين رُفعت أنقاض البناء الذي كان بيتهما فيه وجدهما رجال الإنقاذ متعانقين. هذا العناق، هذا الحب وسط الكارثة، زرع روحاً جديدة في حياتنا تهزم الموت، وهذا ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا.

-٧-

العنصريون ينمون كالفطر في العالم، وثمة كثيرون يمارسون العنصرية حتى دون أن يعوا ذلك في طريقة استخدامهم للغة. هناك عرب يعيشون في أمريكا أعرفهم شخصياً يطلقون على السود اسم العبيد دون خجل.  وثمة في تركيا من يحتقر الناطقين بالعربية، ووصل الأمر إلى جرائم قتل ضد السوريين، وتجاهلهم تحت الأنقاض.

في أوقات الكوارث لا تخبو نار العنصرية، ويصبح إنقاذ الآخرين من الموت معتمداً على مرتبتهم القومية. إن هذا النوع من العنصرية الذي ينتشر بيننا وبين شعوب كثيرة مجاورة دليل على أن الحجر قد يكون أفضل من الإنسان أحياناً، كما قال أبو العلاء المعري:

أفضل من أفضلهم صخرة

لا تظلم الناس ولا تكذبُ.

-٨-

إلى طفلة عُثر عليها حية تحت الأنقاض:

كان وجهكِ عينين فقط، رأيتُ بهما كيف اتخذ الموت شكل الأنقاض. 

كان الموت أيضاً أجسادنا التي تقف بعيداً وتتفرج

 غير قادرة على فعل أي شيء. 

-٩-

بعد الموت عصّة قبر، قال كثير من السوريين.

بعد الموت يعضّك القبر،

يسحق صدرك، يفتتك، يخلطك بالتراب.

إلى حياة محاصرة،

إلى حياة من الفقر والضيق والنزيف

في خريطة أدمتها الحرب والتهمت قطعاً منها

سكانها على حافة الهلاك

أتى الزلزال ليوقّع لوحة تحمل اسم:

 الموت لا يأتي بالتقسيط.

-١٠-

الذين نسُيوا تحت الأنقاض،

 جرح لن يندمل في الذاكرة، 

سينزف كلما تذكرنا ما حدث.

-١١-

رائحة الموت تفوح بين الأنقاض.

 جندريس،

 على أطلالك لا تعرف العين أين هي

أو إن كانت عمياء أم مبصرة، 

والشاشة التي تعبر فوقك ليست صهوة.

جندريس،

فوقك كان الفراغ يجهش بصوت الريح

والسماء تبكي وتذرف قطرات المطر.

-١٢-

حلب،

عمارات كثيرة مضعضعة. 

الشقوق في الجسد الإسمنتي

جراح في الأجساد

طعن في الأرواح.

المدينة مثخنة بجراح وكدمات غيرت ملامح وجهها.

 لكن لها جذوراً في القلوب لا تتوقف عن النمو.

حلب،

زائر آخر في مطلع الفجر

يُركع المدينة 

ويكسر عظماً آخر في ظهرها.

-١٣-

جبلة\اللاذقية

كان المطر غزيراً،

الظلمةُ تسيل داخلة من النوافذ المحطمة،

والبَشَرة تتجلد.

كان البحر خريطة مطفأة

والجبال تندب أشجارها.

فوق أنقاض بيوت هدمها الزلزال،

كانت الريح تخمد الأصوات

وهي تحملها بعيداً.

-١٤-

إن قدرة الدول سواء الكبرى أو الصغرى على تدمير الحياة أعلى بكثير من قدرتها على الحفاظ عليها وحمايتها. 

تمارس الدول الكبرى فحولتها باستعراض عضلاتها العسكرية من خلال صواريخها الفرط صوتية وطياراتها الشبح أو المسيرة ورجالها الآليين وقنابلها وقاذفاتها الاستراتيجية. بضغطة واحدة على الزر تتغير مصائر وتولد مراحل جديدة، وفي هذا السياق تتحول الثقافة المكتوبة والمنطوقة إلى تعليق على السياسات القاتلة التي هي توأم للزلازل.

الطبيعة تقتل من دون عقل، فيما العقلُ البشري يوظّف نفسه في خدمة القتلة. إن نظرة فتاة مأسورة بين الأنقاض تخترقنا وتصل إلى تلك النقطة من تحللنا الإنساني ككائنات للتنوير، زعمت مرة أنهم امتداد لله.

  إننا الآن صفر ممتلئ بنفسه حتى التخمة وملغم في كل أطرافه وعلى وشك الانفجار وتفجير الكوكب. 

-١٥-

ليست الزلازل من يدمّر ويقتل فحسب. إن من يمهد الطريق لفتكها الأشدّ مهندسون يمررون كرة الخديعة كي يسجلوا هدفاً في مرمى الفقراء، ومتعهدون لاعبون في فريق الخداع نفسه، وقضاة تصطبغ ثيابهم بالدم، ومحامون ينحازون إلى صف المجرمين.  

-١٦-

مدننا مصابةٌ بأمراض مزمنة، أحدها التورم الخرساني السرطاني القائم على أسس واهية، ولهذا نشعر أننا نعيش معلقين في الفراغ، ودوماً على وشك السقوط.

-١٧- 

لا توجد إنسانية صرفة تجمعنا على ما يبدو، حتى المساعدات للمنكوبين تحت راية ما يُسمى بالتدخل الإنساني يُشاع أنها تتم داخل معادلة: معي أو ضدي.

-١٨-

ينهار البناء كأن تدميره مدروس. يتقوض بعينه ضمن دائرته الهندسية كأنه اختير كي يُدمّر، ويتداعى ساقطاً لوحده على من فيه، كما لو أن الزلازل تقصف بصواريخ موجهة. هل هذه مصادفة؟ أم أن الموت ينتقي؟ أم أن العشوائية العمياء والمدمرة تأخذ أحياناً شكلاً منطقياً؟ 

-١٩-

نخسر أصدقاء مقربين وأشخاصاً لا نعرفهم، ونعلن تضامننا مع الذين علقوا تحت الأنقاض. إنهم ينتظرون تحت إسمنت وجودنا المفتت، تحت أنقاض حياتنا اليومية، عالقين هناك والأمل بأن تُفْتح فجوة ويبزغ ضوء وتعاود الحياة وصل شرايينها المقطوعة يحوم فوق المشهد كطائر مذعور.

-٢٠- 

سكنتُ في غرف وشقق في دمشق كانت كلها على القائمة السوداء للزلازل. هزة خفيفة في قشرة الأرض كانت كافية لتحويلها إلى أنقاض، فتخيلوا الأمر إذا حدثت هزة قوية. لا شك أنها ستتحول إلى ذرات لامرئية في ريح الدمار.  نعيش حياتنا دوما على شفا جرف هار، ونتوهم أننا سعداء. 

-٢١-

لا حاجة للتنبؤ بالزلازل وبوقت حدوثها وبالجدل الذي لا طائل منه. ما نحتاج إليه هو مهندسون يبتكرون حلولاً معمارية لمواجهتها وسياسيون يؤمنون بأن هدف السياسة هو خدمة الإنسان، وبأن توزيع الثروة والحياة الكريمة والمنزل الآمن والحرية والدخل الكافي وجواز السفر المحترم هي البنود الأساسية على أجندتهم الانتخابية. 

في مواجهة الزلزال: كارثة سوريا الكبرى وجهود تطوعية جبارة 

في مواجهة الزلزال: كارثة سوريا الكبرى وجهود تطوعية جبارة 

لا يدري المرء ماذا يكتب عما حلّ بسوريا فجر السادس من شباط الجاري وتالياً، بدا الأمر كمزحة سمجة في ثوانيه الأربعين الأولى، فجأة اهتزت مدن بأكملها، أبنية، منازل، حجارة، أشجار، والكثير من الأرواح.

أرواحٌ كانت حتى الأمس القريب تتحمل شظف العيش وتكابده قهراً لتذلّه قبل أن يذلّها بلقمة عيش صار الحصول عليها صعباً، مريراً، أليماً، كليماً. فصار السائر من منزله إلى الخارج بغية الحصول على مالٍ يعينه ليسد رمق أسرته كمن يسير في حقل من الأشواك البرية، حتى حقّ في السوريين جمعاً هذه المرة، ما قاله الشاعر السوداني إدريس الجماع يوماً: “إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه، ثم قالوا لحفاةٍ يومَ ريح اجمعوه.”

 وما أكثر أيام الريح على الخارطة السورية، ما أكثرها وما أعنفها وما أعتاها، ولكن من كان يتوقع أن تتآمر الطبيعة عليهم أخيراً، بعد اثني عشر عاماً من القصف والدماء والدمار، من كان يتوقع أنّ الأسوأ لم يأت بعد؟.

جاء الأسوأ حقاً حين توقفت عقارب ساعة حياة آلاف الضحايا عند الرابعة وسبع عشرة دقيقة فجر السادس من شباط، من إدلب المكلومة، إلى حلب الحزينة، فاللاذقية الجريحة، وابنتها جبلة الثكلى، إلى طرطوس وحماه.

لأول مرّة في الحرب السورية يجد السوريّ حدثاً أكبر من تحزباته السياسية جعل الجميع في الموت سواسية، وأي ميتة؟، تلك الميتة التي يسمع قبلها استغاثات ضحاياها من تحت الركام.

جاءت المأساة لتقول إنّ الإنسانية حين تنبري لتدافع عن جراحها تكون أقوى من ألف منطق أوجدته الحرب وعززته وكرسته، أصوات تعالت من إدلب تسأل عن حال ضحايا الداخل السوري، وأصوات أخرى من الداخل السوري كسرت حاجز الفراق وسألت عن إخوانهم في إدلب.

بيد أنّ التضامن كان ناقصاً، فأرقام الوزارات المعنية في سوريا أشارت لعدد ضحايا الداخل فقط، وأرقام المعنيين في إدلب أشارت لضحايا الشمال السوري فقط، فبئس أيام صارت فيها سوريا داخلاً وخارجاً، قاتلاً ومقتولاً، كارهاً ومكروهاً.

الناس لبعضها

ليس من السهل الحديث عما جرى، هي أيام عصيبة على السوريين، أيام قاهرة مسكونة بآلام كبيرة، 300 ألف شخص خرجوا من منازلهم في حلب واللاذقية وجبلة وحماه، 300 ألف شخص فتحت لهم الشوارع صدرها رحباً تحت سماء معاندة شاءت أن ترسل غيومها أمطاراً وثلوجاً لتزيد معاناتهم.

ولكن السوريين رفضوا مبيت إخوانهم في العراء، فهبّوا على قلب رجل واحد يتداعون لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، لإطعام المنكوبين، لتدفئتهم، لإيوائهم، من درعا إلى الحسكة، مروراً بكل محافظات البلاد.

ليس على سبيل المبالغة القول إنّ عشرات الحملات الأهلية تم تنظيمها بجهود ومبادرات فردية وجماعية من المجتمع المدني الذي أثبت نفسه كفاعل حقيقي قادر على القيام بمهامه وإن كانت تطوعية.

حملات من كل المدن جمعت ما تيسر من أدوية وطعام وأغطية وخيم وخلافه وتوجهت بها إلى المناطق المنكوبة، وفرق أخرى قوامها ممرضون وأطباء وصحيون، وفرق ساهمت ولا زالت برفع الأنقاض، كل ذلك إلى جانب عمل الهلال الأحمر السوري وبقية المنظمات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والتي يدعمها جميعها استنفار واسع للقوات العسكرية.

إلى جانب كل ذلك استمر سيل الدعم الذي وصل ويصل تباعاً من دول عربية وغير عربية للمرة الأولى منذ بدء الحرب في سوريا، في خطوات وصفها ناشطون بـ”كسر الحصار”، ليتزامن هذا الـ “كسر” مع وسم تداوله الناشطون بكثرة يدعو لرفع العقوبات الغربية عن سوريا لتسهيل وصول المواد الأولية اللازمة للإغاثة. وعلى حد وصفهم تركيا حصلت على أضعاف ما حصلت عليه سوريا من مساعدات، رغم أنّ سوريا بطبيعة الحال تعيش حالة نكبة مستمرة منذ أكثر من عقد، حالة أدت لتخلخل ودمار البنية التحتية.

وكان قد نشر هيثم مناع الناشط والحقوقي، الرئيس السابق لهيئة التنسيق المعارضة في الخارج، بياناً من جمعيات ومنظمات مدنية وحقوقية عددها 47 طالبت جميعها برفع الحصار والعقوبات عن سوريا، وجاء في البيان: “نطالب برفع العقوبات فوراً عن سوريا والسماح بإمدادها بجميع المواد وبالوصول إليها من أجل أن لا تتحول هذه العقوبات إلى جريمة ضد الإنسانية، وتسهيل عبور قوافل المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة عبر المعابر الحدودية مع سورية، إضافة إلى السماح بجمع التبرعات المادية والعينية وإيصالها للمناطق المتضررة.”

أين المساعدات؟

اعتباراً من اليوم الثالث لما بعد الكارثة بدأت ترتفع أصوات كثيرة تسأل عن المساعدات، وهل هي فعلاً وصلت لمستحقيها؟، وإن كانت وصلت فعلام أُسر كثيرة لا زالت في الطرقات بلا مأوى أو بدون غذاء وأغطية.

وفي هذا السياق فقد انتشرت قصة “مختار قرية اسطامو” المنكوبة في ريف اللاذقية، والذي اتهم من قبل عشرات الأشخاص بسطوه على المعونات التي وصلت إلى القرية، مطالبين بمحاسبته على الفور بذريعة استغلال النكبة.

ورد المختار على الاتهامات بالقول: “استلمت من رئيس بلدية قمين ٥٠ حصة غذائية مؤلفة من معلبات اضافة الى ٥٠ بطانية و١٠ وسائد، و٣٠ حصة تفاح مغلفة، و٨ كراتين إندومي، و١٠ كراتين أقراص عجوة، و١٣ شرحة خيار وبندورة”. 

وأضاف “بحسب التعليمات فإن المساعدات مخصصة للمتضررين الذين خرجوا من منازلهم، وذوي الضحايا، لكن ما حدث هو أن الجميع كان يريد المساعدات وهذا أمر خارج عن إرادتي ولا أملك سوى تنفيذ التعليمات”.

تدخل عمرو سالم (وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك) على خط هذه القضية سريعاً مبيناً وجود مختارين في المنطقة، وكلاهما وزع تلك المعونات لأقاربهما فعلاً (غير متضررين)، مؤكداً أنّه تم حل المشكلة وإيصال المساعدات إلى مستحقيها.

قد تبدو قضية المختار ثانوية في حدث كهذا، ولكن فعلاً بدأ القلق يساور السوريين عن مصير المساعدات، خاصة أنّ الكميات التي جمعت داخلياً وخارجياً، تكفي على حد تعبيرهم- لإيواء كل متضرر بشكل تام، وقد يبدو هذا حقيقياً من حجم القوافل الداخلية والطائرات التي وصلت من الخارج.

وفي هذا الإطار يقول الصحفي بلال سليطين: “أنا أثق بـ ٩٩ بالمئة من العاملين على الأرض من جمعيات ومتطوعين في سوريا لمواجهة أضرار الزلزال ومساعدة الناس، ومن ليس له ثقة بهؤلاء هذا حقه لكن إذا كان حقاً يريد المساعدة يمكنه أن يثق بعائلته ويقدم المساعدات عن طريق أهله لكي يسلموها مباشرة للمحتاجين”.

ويشير سليطين لوجود أخطاء إلا أنّ معظمها ناتجة عن سوء التنظيم وقلة الخبرة: “لكن حجم العمل الإنساني والتعاضد واندفاع الجمعيات والمتطوعين بكبرو القلب”.

وتصف المهندسة لمياء أحمد من اللاذقية الوضع بالمأساوي والحزين وغير المقبول، وفي ذات الوقت تتهم معظم الجهات بالتقاعس.

وتشرح: “اسمحوا لي عبركم أن أوصل هذه الرسالة، ليس فقط حول إيصال المساعدات، ولكن عن الذين يلهثون لأخذها، نعم أفهم ظروف الناس الصعبة ولكن هذا ليس وقتاً مناسباً لنقاسم المنكوبين رغيف خبزهم، أقسم أنّه ثمة العشرات يصطفون على الدور ليأخذوا معونة وهم أصلاً غير متضررين أو منكوبين”.

تتابع أحمد حول مشاهداتها مؤكدةً أنّه ثمة أسر لغاية نهاية اليوم الثالث ما بعد الكارثة تنام على الأرض دون مأوى أو اهتمام، منوهةً في الوقت ذاته لضرورة الانتباه من الأفراد أو الجمعيات التي ستستغل هذا الحدث لتسوق لنفسها.

بدوره يرفض المحامي مفيد نصرة من جبلة ما ساقته المهندسة أحمد، معتبراً أنّ مدناً بأكملها منكوبة ولا يمكن استثناء أحد من حالة الجوع القائمة، وخاصةً أنّ الزلزال عززها إذ عطل الحياة والمهن واليوميات بشكل شبه تام، يقول: “المنازل التي لم تسقط على الأقل تصدعت وحال الكثير منها خطر ولجان الهندسة في حالة شبه عدم استجابة”.

ويبين نصرة أنّ لديه أخاً يعمل مياوماً وبسبب هذا الظرف هو لا يملك مالاً لإطعام أطفاله: “هذه نكبة شاملة أصابت كل العوائل رغم نسبية الأمر أحياناً”.

وفي الأثناء تداول سوريون على نطاق واسع قائمة تضم أسماء شيوخ خمسة جوامع معنية باستضافة المنكوبين متهمين إياهم بسرقة المعونات وإساءة معاملة الناس وعدم تأمين شروط تليق باستضافتهم. لم يتسن لكاتب التقرير التحقق من هذه المعلومة، التي انتشرت متزامنة مع عشرات المعلومات والبيانات والتنويهات والمنشورات التي تتهم أشخاصاً بعينهم أو بما يمثلونه من سلطة بالتقصير وسرقة المعونات.

وبحسب المحامي أحمد معروف من حلب فإنّ سرقة المعونات تندرج تحت مسمى سرقة خلال النوائب، فهي سرقة عقوبتها مشددة، حسب المادة 627 من قانون العقوبات. وقد تصل العقوبة حتى 15 سنة حبس. 

وفي هذا الإطار يتضح اتجاهان: الأول هو الدور “الجبّار” وغير المسبوق للمجتمع المدني، والثاني هو بعض ضعاف النفوس الذين استغلوا الكارثة، وعموماً هذا ليس غريباً في بلد أفرز من أمراء الحرب ما أفرزه خلال السنوات العجاف الماضية.

في الأسباب

قلّة الخبرة وضعف التنسيق أفضيا لحالة من الفوضى الشاملة في التعامل مع الحدث، وبافتراض النيّة الحسنة لجميع العاملين، إلّا أنّ هذين العاملين أديا لتشتيت الجهود باتجاهات عدة، جعلت عائلات بأسرها حتى الساعة تنتظر معونةً أو إيواءً.

وعلى الرغم من أن المئات أعلنوا فتح بيوتهم لاستقبال المنكوبين، إلّا أنّ الفوضى عينها هي ما حكمت الأمر، فقلّة أفادت قلّة، على اعتبار أنّ المعونة لم تصل بالضرورة إلى الأكثر حاجةً.

يبقى أنّ سوريا المدمّرة، المهدمة، كبُرت اليوم بأولادها، أولادها الغلابة الذين قدموا كل ما يستطيعون من تبرعات نجدةً لإخوتهم، وقد تكون الحالة الأكثر لفتاً هي تلك التي تبرعت لـ “مشروع أحمد الإنساني،” وهو مشروع طبي ناشط خلال الأزمة السورية وتطوع في عمليات الطبابة إثر الزلزال، فبحسب منشور لهم على صفحتهم الرسمية في فيس بوك، جاء إليهم رجل وتبرع بـ “جاكيت” وحيد يملكه وكان يرتديه.