بواسطة ديانا بركات | أغسطس 24, 2024 | Culture, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
كان لقضايا اللاجئين في أوروبا وتحوّلات الهويّة التي يعيشونها هناك، دور لافت في نشاط ساندرا علوش (1987) الإعلاميّ، مؤخراً. فاكتشاف المجتمعات الجديدة، ترك أمامها أسئلة مؤلمة عن العنصرية والتهميش وتلك الحيوات المؤجلة لآلاف اللاجئين في أوروبا.
“علوش” التي بدأت عملها مذيعة في العديد من إذاعات سورية المحلية، عملت أيضاً مقدمة برامج تلفزيونية في قناة (الدنيا) وكانت شاشة الإخبارية السورية هي آخر محطة عمل لها قبل الهجرة.
عانت “علوش” بدايةً من التهديدات الأمنية من قبل بعض من يسمّون أنفسهم “المعارضة السياسية”، وذلك نتيجةً لعملها مع قناة إعلامية مؤيدة؛ وبعد استقالتها من الإخبارية السورية عام 2012، تمّ تخوينها وملاحقتها من قبل بعض من يدعون “الوطنية”، فما كان أمامها سوى الهروب خارج البلاد.
لجأت الصحفية الشابة في بداية الأمر إلى لبنان، حيث بقيت هناك لثلاثة سنوات ومارست عملها كإعلامية، إلى جانب خوضها تجربة المشاركة في مسابقة “مذيع العرب” ووصولها إلى النهائيات. في هذه الأثناء استطاعت الحصول على تأشيرة سفر مخصصة للصحفيين المهدّدين أمنياً، وحسمت أمرها بالانتقال في عام 2015 إلى فرنسا برفقة زوجها.
محطة للأمل
اتجهت “علوش” برفقة زوجها، طارق حداد والذي يعمل كمخرج ومصوّر، إلى صناعة التقارير والأفلام حول اللاجئين والمهاجرين في أوروبا الغربية مع قناة (ARTE) الفرنسية الألمانية، والتي أنتجت بالتعاون معها أيضاً سلسلة وثائقية بعنوان “من دمشق إلى إلزاس”؛ تبعها العديد من الأفلام الوثائقية مثل “غرباء في الغابة” والذي حصد عدداً من الجوائز منها: جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير أجنبي (HIIDA)، وجائزة الاستحقاق المرموقة من مسابقة Impact DOCS، وكذلك جائزة التقدير من مهرجان الأفلام الإسكندنافية الدولي (SCIFF)، إضافة إلى جائزتي أفضل مخرج وأفضل مونتاج في مهرجان لوس أنجلوس للأفلام المستقلة (LAIFFA).
وكذلك قامت بإنتاج فيلم “حارس المعبد“، وفيلم ” إنجلترا بعد كاليه”، انتهاءً بفيلم “في عيونكم” الذي تم عرضه لأول مرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهكذا استعادت ساندرا علوش بعد كل ذلك جزءاً كبيراً من توازنها المهنيّ بعد الهجرة، وتطوّر الأمر إلى فتح أبواب أخرى في قضايا الهجرة واللجوء.
تعمل “علوش” حالياً مع منظمة (New Women Connectors) كضابط مناصرة، حيث تقوم بحضور اجتماعات على أعلى مستوى في “البرلمان الأوروبي” والأمم المتحدة للدفاع عن حقوق اللاجئين والمهاجرين.
كما تتعاون مع شبكات حقوقية مثل الشبكة الأوروبية ضد العنصرية (ENAR) ومنظمة Avocats Sans Frontières – محامين بلا حدود، وصندوق الأمم المتحدة للنساء WPHF.
ومن الجدير بالذكر أنه قد تم اختيارها من قبل مكتب “الكويكر” في الأمم المتحدة (QUNO) كمستشارة في مجال الهجرة واللجوء، كما اختارتها شبكة الأمم المتحدة للم الشمل (FRUN) كسفيرة لها.
في عيونكم
واليوم نتوقف مع آخر أعمال ساندرا علوش وهو فيلم “في عيونكم” الذي يعرض واقع الهجرة بعيون المهاجرين واللاجئين. كان الهدف من هذا الفيلم -على ما يبدو هو أن يكون واقع هؤلاء اللاجئين، أيضاً، مرئياً في عيون المجتمعات المضيفة. إذ يتناول الفيلم الوثائقي القصير، معاناة اللاجئين والمهاجرين من خلفيات عربية وإفريقية وجنوب شرق آسيوية في بلاد أوروبا الغربية. ويعالج خصوصاً مشكلة الأشخاص ممن لا يملكون أوراقاً ثبوتية؛ ويكشف لنا الشريط الكثير عن تجاربهم لنتعرّف على العوائق والعقبات التي تخلقها “السياسات العنصرية” للحكومات الأوربية أمامهم، والتي قد تؤدي في بعض الأحيان إلى تدميرهم!
تحاول فكرة هذا الوثائقي التأكيد على أنه من غير العادل معاملة اللاجئين بشكل مختلف عن غيرهم من الناس، في الوقت الذي يبذلون فيه كلّ ما لديهم من أجل “الاندماج” و”العمل الإيجابي” في المكان الذي قد قادهم القدر إليه. كما نلتقط من المشاهد والحوارات التي تابعناها؛ أثر فجوة اللغة والثقافة والأيديولوجيا، وتكريس النظرة الفوقية للقادمين من دول العالم الثالث، مما يعوق اندماجهم ومجاراتهم لشعوب تلك البلاد.
وفي حديثها معنا قالت ساندرا علوش: “الحكومات الأوروبية لديها منطقها المبني على نظرة استعمارية فوقية وهذا واضح في كل الجوانب، فمثلاً نظام الفيزا مختلف تماماً إذا كان الزائر قادماً من دولة مثل كندا أو البرازيل عنه إذا كان الزائر قادماً من دولة إفريقية أو شرق متوسطية أو جنوب شرق آسيا؛ بالتالي ليس لكل المهاجرين نفس الحقوق ونفس المعاملة وهذا يخلق ظلماً اجتماعياً تدفع ثمنه المجتمعات المهاجرة من خلال عدم تكافؤ الفرص في التعليم والعمل والمشاركة السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية وتتسبب بعزل هذه المجتمعات وخلق مشاكل أكبر للدول المضيفة”.
وتضيف: “لكن بالمقابل هناك مسؤولية تقع أيضاً على المجتمعات المهاجرة في تقبل الثقافة الجديدة التي دخلوا إليها، وتغيير بعض العادات والتقاليد والمفاهيم التي لا تتناسب مع المجتمعات الأوروبية ومحاولة تغيير الصورة النمطية عن المهاجرين واللاجئين وتعريف المجتمعات المضيفة بالجانب الإيجابي من ثقافاتنا المختلفة”.
من ناحية أخرى يطرح الفيلم المشاكل من نظرة واقعية، عقلانية، بعيداً عن اللعب على وتر الضحية. يقدم وجهة نظر خبراء من المجتمعات المهاجرة، ويناقش هؤلاء القضية من جميع الجوانب مقترحين حلولاً عملية.
نرى بعض التجارب الفردية الناجحة التي تمثل كفاحاً حقيقياً في بيئة غير متعاونة، ينتج عنها قصص نجاح مؤثرة وملهمة، فقد تحولت معاناة بعض اللاجئين إلى مشاريع مناهضة للعنصرية التي طالتهم وتطول سواهم، فهم لا يكتفون بعرض المشكلة وتصوير المعاناة، بل يحاولون طرح الحلول والمقترحات أيضاً.
لقد كانت ساندرا علوش لاجئة من بين هؤلاء قبل وقت قصير، ومرّت بمعظم تلك الصعوبات، وتحدثنا اليوم عن ذلك قائلة: “لطالما كنت مهتمة بحقوق الإنسان والعدالة والحرية، وتبلورت هذه القيم من خلال تجاربي الشخصية والمهنية التي وجهتني بشكل أو بآخر لأن أدرك أنني أريد تسخير طاقتي لتحسين أوضاع المجتمعات المهاجرة والمهمشة في أوروبا. ولربما أدخل المجال السياسي يوماً ما للتمكن من تمثيل جزء من اللاجئين والمهاجرين هنا.. كل شيء وارد.. فأنا أؤمن بأن التغيير المطلوب يحدث من داخل مجالس النواب الأوروبية وبالأساليب الديموقراطية المتاحة؛ مدعومة بضغط شعبي” على حد تعبيرها.
وعن رحلة صناعتها لفيلم “في عيونكم” قالت ساندرا علوش في حديثها لموقع صالون سوريا: “بدأت العمل على تطوير الفكرة في أبريل/ نيسان 2023 بالتعاون مع الصحفي الأرجنتيني “إنريكه تيسيري” المقيم في فنلندا، والناشط أيضاً في الدفاع عن حقوق المهاجرين. ثم بحثنا عن فرص للتمويل وقمنا بتقديم الفكرة للشبكة الأوروبية ضد العنصرية ENAR وحصلنا على تمويل صغير بقيمة 5500 يورو. قمت بالتصوير وحدي في شهر أغسطس/ آب في هولندا وفرنسا وسويسرا وبلجيكا، وتعاونت مع طارق حداد لتنفيذ العمليات الفنية البصرية والسمعية، كما حصلت منه على حقوق استخدام مقطوعات موسيقية من تأليفه في الفيلم لتكون هي الموسيقى التصويرية. عُرض الفيلم للمرة الأولى في مدينة أوتريخت ضمن فعالية قمت بتنظيمها مع منظمة New Women Connectors، حيث دار نقاش مع الحضور حول الفيلم وموضوع الهجرة واللجوء؛ ثم عرضنا الفيلم في بروكسل بحضور عدد من منظمات المجتمع المدني”.
أما عن الصعوبات والتحديات التي واجهها ويواجهها الفيلم حالياً، تقول علوش: “تركزت الصعوبات بالنسبة لي في الميزانية المحدودة التي فرضت علي تنفيذ الفيلم بأقل الإمكانيات؛ ومن ثم أصبحت الصعوبات في التسويق، والذي يتطلب شبكة علاقات قوية مع منصات ومحطات مختلفة، خاصة وأنه يتناول موضوع حساس قد يتعارض مع سياسات معظم المنصات وقنوات العرض”.
ومع ذلك لا تزال “علوش” تسعى لتسويق “في عيونكم” والمشاركة في العديد من الفعاليات، لعلها تتمكن من إيصال الرسالة الحساسة والمهمة التي يطرحها الفيلم، حيث ينافس حالياً في عدة مسابقات، من ضمنها مهرجان أفريقيا لحقوق الإنسان، حيث سيتم عرضه في العاصمة كيب تاون.
ويبدو أن ساندرا علوش لن تتوقف عن توثيق وتصوير الواقع لنا، ولكن هذه المرة بطريقة أكثر ابتكاراً، إذ تقوم الآن بالتنسيق والتعاون مع مغني الراب اللبناني بو ناصر طفار، لإنتاج عمل جديد يستعرض أهم أحداث الشرق الأوسط خلال الأعوام الخمسة عشر الفائتة، والذي سيمثل تجربة فريدة، وسيكون عملاً ذا طابع جديد ومختلف، من خلال دمج النضال السياسي بالموسيقى.
بواسطة سلوى زكزك | أغسطس 17, 2024 | Cost of War, News, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
في فجر الثالث عشر من آب الجاري حدثت هزة أرضية بقوة 4.8 درجة على مقياس ريختر في كل من سوريا ولبنان والأردن. وتركزت الهزة في سوريا بمدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة والتي تبعد عنها ثلاثين كيلومتراً إلى الشرق منها. وفي يوم الجمعة السادس عشر من آب أصاب نفس المنطقة زلزال ثاني تباينت التقديرات بشأن قوته من 4.8 إلى 5.2 درجات.
يقول المثل العامي: “إن الناس تجهل ما لا تعرفه!”، ولكن في مشاعر ذاكرة الناس في سوريا ما يزال زلزال السادس من شباط العام الماضي 2023 حاضراً، ما أدى إلى تضاعف خوف الناس لأنهم يعرفون ماذا يعني الزلزال وماهي تبعاته وآثاره المدمرة.
ولحسن الحظ، جاءت النتائج سليمة ودون ضحايا، لكن مع وجود عشرات الإصابات بجروح طفيفة أو بكسور بسيطة نتيجة التدافع أثناء الهرب أو نتيجة لانهيار بعض الجدران المتصدعة من الزلزال الماضي، أو بسبب تداعي البيوت وعدم ترميمها وإصلاحها لأسباب مادية بحتة تعكس حجم التراجع الاقتصادي وضعف القوة المالية وانصراف الناس للإنفاق وبالحد الأدنى على الضروريات المباشرة والآنية.
إن المتابع للمشهد السياسي والاقتصادي والعسكري العام في المنطقة يعتقد أن حدثاً مثل هزة أرضية سيمر خفيفاً وسريعاً وكأنه شأن شخصي ذو نطاق ضيق ولا ينعكس إلا على أهل المنطقة التي ضربتها الهزة، فالموت المحدق من كل حدب وصوب يقتل يومياً عشرات الأشخاص في غزة وفي لبنان وفي سوريا أيضاً. نظن أنه وفي سطوة الموت بالمدافع وبالقنابل وفي زحمة التدمير العنيف وحروب الإبادة الدائرة، أن موتاً طبيعياً ينتج عن تمرد بسيط أو جراء تحرك عنيف للطبيعة لا قيمة له أبداً ولا ينبغي أن نحرك ساكنا حياله.
لكن المشهد كان مختلف تماماً وتحديداً في مدينة سلمية المعروفة بمدينة الفكر والشعر والثقافة نسبة إلى الشاعر والكاتب المسرحي محمد الماغوط والشعراء فايز خضور وعلي الجندي، والمفكرين عاصم وسامي الجندي وحسين الحلاق وسواهم الكثيرون و الكثيرات.
يمكن القول وبكل وضوح وثقة، إن انعكاس الهزة الأرضية على ردود الأفعال وما رافقها من تعليقات وكتابات وحوارات مجتمعية في بقعة صغيرة من الجغرافية السورية كان مرتبطاً بشدة بالواقع العام في المنطقة العربية وخاصة ما تشهده من حروب ومن اضطرابات عسكرية وارتدادات شعبية على واقع زاخر بالعسكرة وبالرصاص جراء وجود احتلالات متعددة، ما يفرض حالة عامة من القلق الشعبي العارم وكأن البلاد على فوهة بركان قاتل، ويخلق جواً من الترقب لحل ما يجب التوصل إليه، أو على الأقل ضرورة وجود رد حاسم أو مانع لما يعوقه من تردد سياسي عالي المستوى وحالة من الغموض الجيوسياسي، وبخاصة في ظل حالة الصمت السائدة ما بين الحكام وشعوبهم في دوامة عارمة من إنكار كل طرف للطرف الآخر.
عبر أحدهم على صفحة الفيس البوك بعد حدوث الهزة قائلاً: “نعيش في موقع جغرافي تحفة، مفتوح على جميع جبهات الحروب والكوارث الطبيعية والعسكرية”. يتداخل الخاص بالعام هنا، لم تعد تعني الجغرافيا سوى الانتماء إلى منطقة مشتعلة، والأسماء ليست بذات قيمة، نعيش على وقع الرصاص، نصحو على معركة وننام وصخب المعارك يرافقنا حتى في نومنا.
اللافت أيضا هو درجة السخرية العالية التي رافقت الحدث، سخرية مرة لكنها لاذعة، كأن تكتب إحداهن: “بعد كل هزات البدن اليومية جاءت الهزة الأرضية ليتلاشى البدن، لكن على من؟ بتنا شعبا ضد كافة أنواع الهز”. وقال أحدهم في شكل مباشر يربط بين الضربات المتوقعة ما بين إيران وإسرائيل هازئاً: “بينما ننتظر الرد من فوق ويقصد السماء يأتينا الرد من تحت ويقصد باطن الأرض” إنها السخرية التي تشي بحجم الخراب الراسخ وبحجم العجز المستقر.
في محيطنا القلق والمشتعل ينتظر الناس النيزك علّه يحمل خلاصاً نهائياً لجميع المشاكل العالقة، يعتقد غالبية اليائسين أن أحلامهم في التغيير والاستقرار وإرساء الأمن والسلام كلها أفعال إعجازية غير قابلة للتحقق، هم متأكدون أنه لا خلاص في ظل مواجهة غير عادلة ومحسومة سلفاً لصالح الأقوى والأكثر شراً وتجاهلاً للحقوق وللعدالة.
لكن للمصائب وجه آخر، وجه تعاضدي رغم قلة الحيلة وسطوة الخراب، كتب أحدهم على صفحته: “سيارتي في تصرف كل من يحتاج التنقل أو الإسعاف.” كما وضع شخص آخر عنواناً لمركز مبني على أسس الحماية من الزلازل والهزات داعياً الناس لكي يقصدوه ويقضوا ليلتهم هناك مع الإشارة إلى توفر الكهرباء وهذا شأن عظيم في ظل أزمة انقطاع تام للكهرباء، أزمة خانقة وطويلة تعوق الحياة برمتها، فكيف إذا ما زادت الهزات الأرضية واقع الحياة سوءاً وخوفاً. وهنا تجدر الإشارة إلى ما كتبته سيدة تحتفي بالهزة بسخرية فائقة قائلة: “الحمدلله على نعمة الهزات! بفضل الهزة حضرت الهانم الكهرباء لمدة ثلاث ساعات متتالية، هزة محرزة وضاوية!”
على صفحته على الفيس بوك كتب أحد الأطباء: “بينما كنا نقطب جرحاً غائراً في كف شاب ونساعد امرأة على الصحو من إغمائها بسبب الخوف، سمعنا صراخ طفل وصل حتى غزة!” يربط الطبيب هنا بين واقعين داخلي وخارجي، خاص ومحدد وعام غير محدد.
بات ما يجمع الشعوب المنكوبة هو صراخ الأطفال وعجز الأطباء والمشافي وإغماء الناس من شدة الصدمة. يبدو الحال واحداً لكنه يتوسع ويتعمم.
خرج أحدهم إلى الشارع وهو يحمل بيده طاولة الزهر التقليدية، لقد اختبر هذا الشعب معنى الوقت الطويل خارج البيت بانتظار الفرج أو النجاة، وبدلاً من قضائه بالخوف والترقب، سيلعب الرجال أشواطاً بطاولة الزهر ساخرين من الزلزال وسواه من الشدّات القهرية المتسلسلة.
أما عن ربط الهزة بالوضع الحربي المتأزم وصراع الوجود المحتدم في الجغرافيا القريبة انتماء والبعيدة جغرافيا، فليس المقصود بتاتاً المقارنة ما بين الحدثين لأن حجمهما وآثارهما وتجلياتهما مختلفة فعلياً، لكن قوة الوجود في خضم هذه الأحداث الجسام في ذات البقعة من الأرض حتى لو بلغت المسافات مئات الكيلومترات هي الرابط الأقوى والأكثر تجذراً، وهي خيط الربط الفعلي لأن ثمة شراكة حقيقية مبنية بين كل من يموت وبين كل من يقتل أيضاً، بين الضحايا جميعهم وبين مصائرهم المجهولة والمتروكة للعبث.
في لوحة دراماتيكية ساخرة لشخص يخرج إلى سطح بيته ليجد أن خزانات المياه التي سدد ثمن مائها مئات آلاف الليرات قد سالت على السطح بعد انفجار السطح السفلي للخزانات نتيجة الاهتزاز القوي وضغط الهزة. تأمل ملياً في الماء المسفوح كالدم المجاني، وقال ساخراً، ممتلئاً بالقهر: “غداً سأقضي نهاري هنا وأنا أشرب المتة على وقع تدفق المياه المشتراة بمئات آلاف الليرات أيضاً.” صمت وتحسس السطح المعدني لأسفل الخزانات، كاد أن يختنق لأن الخراب بدا أكبر مما كان يتوقعه وقال: “سأوجل شرب المتة على السطح لما بعد الغد، بعد أن أشتري خزانات جديدة.”
هكذا نحن، مجرد خزانات مهترئة تطرد كل عوامل الحياة من جوفها نحو احتضار طويل ونازف.
بواسطة محمود عبد اللطيف | أغسطس 14, 2024 | Cost of War, News, العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
يرتبط رعي المواشي في ذاكرتي، بالحليب الطازج الذي كنا نحصل عليه من رعاة القطعان الذين كانوا يعتبرون الطرف الجنوبي من مدينة الحسكة مكاناً ممتازاً للرعي حينما كان يسمى هذا الجزء من المدينة بـ “الچول”، وهو برية كان يتخللها بعض من المساحات المشجرة بالصنوبر الحراجي، ثم إن هذه القطعان باتت أبعد بعد أن تحول “الچول”، إلى كتل من المباني الحكومية والسكنية بُعيد بناء المدينة الرياضية في العام ١٩٩٨، وصار الوصول إلى أماكن الرعي محظورا علينا من قبل ذوينا بفعل أن المسافة باتت طويلة، وبالتالي هي خطرة، لكن هذه المسافة لم تكن خطرة بالمطلق في حسابات الرعاة، وفهمت منذ ذاك الوقت أن خطورة الابتعاد عن الكتل العمرانية والمدن تختلف من منظور إنسان لآخر، فما كان يخيف ذوينا غير موجود في حسابات ذوي رعاة المواشي، لكن الأمر اختلف جذريا منذ العام ٢٠١١ وبعد أن أخذت الحرب خطاً تصاعدياً تحول رعي المواشي من مهنة مفرداتها الاسترخاء في الهواء الطلق والنوم بأمان مطلق بين القطيع، إلى مهنة معقدة الظروف.
الألغام.. خطر ممتد
يجتاز سعيد بقطيعه مسافات طويلة جنوب مدينة الشدادي بريف الحسكة ويحاول قدر المستطاع ألا يخرج عن الخارطة التي اعتادها خلال الرعي وتجنب أماكن التي لم يدخلها سابقاً، وبقايا المواسم في الأراضي الزراعية أو الأعشاب التي تنمو على أطراف نهر الخابور تبدو مساحات آمنة بالنسبة له، ويقول لـنا:”ما سمعته عن انفجار ألغام أو عبوات ناسفة تركت في الأراضي المفتوحة بعد انسحاب داعش ومن قبله الفصائل المسلحة بمختلف تمسياتها، أو حتى الألغام التي تنشرها “قوات سورية الديمقراطية”، حول بعض المناطق لمنع السكان من الاقتراب من القواعد الامريكية أو سواها من النقاط الحساسة، يجعلني دائما أفكر في ضرورة ألا أقترب من مكان لا أعرفه، أو غير مجرب من رعاة مواشي آخرين، فالألغام خطرٌ غير متوقع أو محسوب النتائج، والموت قد يبدو خياراً رحيما إذا ما تمت مقارنته بخسارة الأطراف، وبالتالي فقدان القدرة على العمل”.
ويتفق معه “أبو إبراهيم”، الرجل الذي يقترب من إنهاء عقده الرابع من العمر، ويعمل برعي قطيع الماشية الذي يملكه بالقرب من مدينة تدمر، الـذي يقول: أعمل برعي الأغنام منذ كنت طفلاً، كنا نجتاز البادية دون أي خوف من شيء، ربما كانت الذئاب والضباع ما يثير في أنفسنا بعضا من المخاوف لكنها تتبدد في ظل مرافقة “الكلاب للقطيع”، حالياً يجب على الراعي أن يعرف أين يضع قدميه، فالأرض التي يسير عليها بقطيعه قد تحتوي مخلفات حربية كالألغام أو العبوات أو حتى القذائف غير المتفجرة التي تعد من المخلفات الطبيعية للمعارك التي شهدتها البادية قبل أن يتحول داعش من جهة مسيطرة على المنطقة إلى عصابات موزعة على البادية، وهناك ألغام جديدة يزرعها التنظيم على بعض الطرقات أو في بعض المساحات المفتوحة لأغراض تخدم مصالحه، وهذا ما يجعل من الرعي مهمة صعبة فإن انفجر لغم بمجموعة من الأغنام ستكون الخسارة المادية كبيرة، وإن تفجر اللغم بالراعي فسيكون ثمة مصيبة كبرى قد حلت به وبعائلته، ولا يبدو أن نهاية الحرب في سورية ستكون نهاية لهذا الخطر، وربما سنظل نسمع بانفجار المخلفات الحربية حتى زمن طويل ما بعد الحرب.
داعش والعصابات
خلال عدة أشهر شهدت المناطق الواقعة إلى الجنوب من ريف الرقة الواقع إلى الغرب من نهر الفرات عدة حوادث استهداف من قبل خلايا تابعة لتنظيم داعش لـ رعاة مواشي، ويقول أبو جاسم الذي يقترب من الخمسين من العمر إن 11 شخصاً قضوا خلال إحدى الهجمات التي نفذها تنظيم داعش، ويروي تفاصيل الحادثة التي وقعت في الأسبوع الأول من شهر تموز الحالي، أن مجموعة من التنظيم اختطفت راعياً في الخامسة عشرة من عمره، وحين وصل الخبر لسكان القرية هبت مجموعة من شبانها لنجدة الفتى وقطيعه، ليتبين أن الخلية التابعة لـ داعش أعدت كميناً محكماً بانتظارهم ليقضي 9 أشخاص على الفور فيما توفي اثنان في وقت لاحق متأثرين بإصابتهم، ويصف “أبو جاسم”، أن الدافع في مثل هذه العمليات يتعدى السرقة والحصول على التمويل الذاتي ليصل إلى حد الثأر والانتقام من السكان الذين رحبوا وفرحوا بخروج داعش من المناطق التي يعيشون فيها.
بدوره يروي أبو مصطفى القاطن في مدينة تدمر التي كانت إحدى أبرز النقاط التي ينتشر فيها التنظيم وسط سوريا، أن رعي المواشي في مناطق بعيدة عن المدن الكبرى بات أمراً خطراً، ولم يعد أي راع يغامر بالبقاء ليلاً في المناطق البعيدة عن المدن على خلاف ما كان يحدث قبل العام 2011، ويقول الرجل الذي يبلغ من العمر حوالي 60 عاماً في حديثه معنا: الهجمات التي يتعرض لها رعاة المواشي تجعل من عملهم من أخطر المهن التي يمكن ممارستها في ظل انتشار عصابات داعش، وعصابات أخرى تعمل على سرقة المواشي وبيعها في الأسواق أو تهريبها إلى العراق أو الأردن، وهذه المهنة لم تعد كما كانت قبلاً حيث كان الرعاة يقضون عدة أيام في البادية قبل أن يعودوا إلى المناطق التي انطلقوا منها، كما إن بعض الرعاة كانوا يقيمون مخيمات في عمق البادية أو ضمن الأراض الزراعية البعيدة عن التجمعات السكانية ليكسبوا أكبر قدر ممكن من المراعي المجانية، الأمر اليوم بالنسبة لهم مغامرة بأرواحهم وبالقطيع، فإن لم يتمكن عناصر داعش من سرقة القطيع أبادوه بإطلاق الرصاص قبل فرارهم من المنطقة، فهم لا يتركون أي شيء حي خلفهم.
تحول غالبية مربي المواشي إلى الرعي في المناطق الأكثر أمناً بالقرب من المدن الكبرى في الداخل السوري أو في محيط العاصمة السورية من خلال استثمار الأراضي المحصودة بدفع بدل نقدي لأصحاب هذه الأراضي مقابل الحصول على حق رعي مواشيهم لمخلفات زراعات مثل القمح والشعير، كما إن البعض من رعاة المواشي تحول إلى التخييم في مناطق قريبة من المدن وآمنة ليعتمدوا على شراء الأعلاف لمواشيهم ما زاد من تكاليف المهنة وبالتالي قلة الأرباح التي يتوقعونها من العمل، وعلى هذا تبدو مهنة رعي المواشي في سورية واحدة من أخطر ما يمكن أن يعتمد عليه السوريون من مهن لتأمين احتياجاتهم المعاشية.
بواسطة الحسناء عدرا | أغسطس 12, 2024 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
في ظل الظروف الصعبة والمتدهورة، يلجأ الكثير من الناس في سوريا إلى السحر لحل مشكلاتهم الشخصية المأزومة. تغّص دكاكين الشعوذة بالمريدين على نحو يفوق الوصف، تبيع الوهم لناس يركضون وراء بصيص صغير من الأمل ويدفعون الملايين لشراء ما يعتقدون أنه حلول.
أنفقت سمر (37عاماً) عشرات الملايين ثمناً لهوسها المجنون بزيارة رجال السحر والتبصير وجميع أعمال التنجيم دون أي شعور بالذنب في حالة تصل إلى درجة الإدمان، تقول: “منذ قرابة عشر سنوات وأنا مهووسة بقراءة الفنجان والطالع والكف والحسابات الرقمية. بدأ الأمر كتسلية ثم سرعان ما تحول إلى هوس مرضي، عندما أسمع عن أحد ما ماهر في هذه الأمور أقصده حتى لو كان في مكان بعيد جدا”.
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل بلغت درجة الهوس بالشابة التي تعمل صيدلانية لأن تتواصل مع دجال في المغرب كانت قد سمعت عن مهارته في ربط الزوج عن كل النساء باستثنائها، وتتابع حديثها: “لدي مخاوف من أن يهجرني زوجي، أو يتزوج بأخرى، يخفي عني دوماً تفاصيل عمله ولا يسمح لي بإمساك هاتفه. لدي شكوكي حول خيانته، لذلك ألجأ إلى أهل التنجيم لمعرفة أخباره وعما إذا يوجد امرأة غيري في حياته، في إحدى المرات دلوني على منجم معروف في المغرب، وتواصلت معه عبر الواتساب، طلبت منه حجاب لربط زوجي عن النساء وعدم زيارة أهله”.
بالرغم من أن أحد الأسباب التي تدفع لأعمال السحر هو الثراء، غير أنها تبذر مالاً كثيراً لقاء هذه الرغبة، ما يجعل المعادلة غير منطقية، تقول: “لا أستطيع ذكر الرقم على وجه الدقة، لكنه يتجاوز 100 مليون على مدار السنوات، كنت وما زالت أقصد أي أحد أسمع بوجوده سواء في دمشق أو في أي محافظة سورية”.
“معملك عمل” بهذه الكلمات تلقت الشابة سارة تعليقات لا متناهية على منشورها في إحدى مجموعات “الفيسبوك” حول شعورها المتواصل بالتعب والإرهاق والبكاء الهستيري والهلوسات وعدم القدرة على النوم ليلاً. بعد أن أجرت تحاليل طبية اتضحت أنها سليمة، تقول: “جافاني النوم منذ شهرين، تجتاحني نوبات هلع وبكاء هستيري غير مبرر، كما كنت أرى ملامح أشخاص غير واضحة، سمعت كثيراً عن أعمال السحر لكن لم يخطر ببالي أن الأمر سيحدث معي بالفعل”.
امتثلت الشابة لنصائح الفتيات واحتمالية إصابتها بالسحر وأن عليها البحث جيداً في منزلها عن قطعة مشبوهة مرمية في زاوية ما، وبالفعل عثرت الفتاة على قطعة قماش مهترئة أسفل عامود سريرها بعد أن قلبت بيتها رأساً على عقب بالبحث، وتضيف: “بحثت والدتي وأختي في كل شبر بالمنزل وفي جميع الأماكن غير المتوقعة، وبعد التنقيب الدقيق لمدة ست ساعات وجدنا خرقة قماش ممزقة ملتفة على بعضها بعضاً بإحكام، قمنا بفكها بصعوبة لنجد ورقة صغيرة مكتوب عليه طلاسم غير مفهومة. تكمل الشابة حديثها: “اتصلت أمي على الفور بجدتي لترشدها ما العمل، فنصحتها بإحراقها على الفور ورش ملح مقروء عليه آيات قرآنية في أرجاء المنزل، وبالفعل تحسنت بعد ذلك بكثير وعدت إلى حالتي الطبيعية”.
صور عارية بحجة فك السحر
يستغل المنجمون حوائج الناس وتعلقهم بقشة الأمل للخلاص من مشاكلهم ووضع حد نهائي لمعاناتهم، فيمتثل الكثيرون والكثيرات لرغبات المنجمين وطلباتهم الغريبة دون وعي. وفي الوقت نفسه، هناك بعض الناس ممن لا يذعن لها، كحال فادية الذي دفعها تدهور حالتها الصحية بسبب عمل مكتوب لها من قبل طليقها أن تلجأ إلى أحد الدجالين للخلاص، إلى جانب العراقيل التي تواجهها طوال عامين، تقول لنا عن تجربتها: “عشت جحيماً لا يطاق مع زوجي السابق، لجأت إلى أحد المنجمين الذي بدأ يطلب مني صوراً عارية للقسم الأيسر من جسمي بحجة تطهيري من السحر الذي يتسبب لي بكل هذا الألم، وأنه سيستدعي الجن لخدمته في طرد العمل ورده إلى صاحبه.” تُضيف قائلة: “يتذاكى البعض ولا يطلب صورة لكامل الجسد، بل جزءاً منه للتمويه كي يبرهن أن قصده شريف ولمتطلبات العلاج، باعتبار أن الشخص الذي قد يبيت نوايا سيئة سيطلب حتما صورة طولية لأغراض جنسية بحتة، لكني لم أصدقه وقطعت التواصل معه”.
لم تكن أناهيد بمنأى عن الطلبات الغريبة لمزاج رجال التنجيم تحت مسمى الاتصال بالجن السابع ونيل مبتغاها، تقول السيدة: “لم أنجب لزوجي طفلاً ذكراً ويهددني منذ سنوات بالزواج من امرأة أخرى كي تنجب له ذكراً يحمل اسمه، ذهبت إلى أحد الشيوخ لصنع عمل له كي يمنع ذلك.” تتابع حديثها: “ينجح الأمر لكن يكلفني مبالغ كبيرة مع صور لأجزاء من جسدي، أحياناً يطلب صورا لقدمي أو أصابع يدي وهي مطلية باللون الأسود، أو ارتداء ملابس داخلية باللون الأحمر، لا أمانع في الأمر طالما أن زوجي لن يكون مع امرأة غيري”.
ضغوط الحياة تدفع الأشخاص للالتحاق بقوى غيبية لتحقيق أهدافهم
تؤكد أريج الرز المتخصصة في علم الاجتماع أن “السحر أمر متداول منذ القدم، وتشتهر فيه المجتمعات الشرقية على مر التاريخ، ما يفسر لجوء العديد من الأفراد إليه وممارسته على نحو مستمر، فهو أمر شائع وأصيل ضمن هذه المجتمعات نتيجة القصص المروية عن النتائج المحققة والتي قد تكون محض خرافات وليست حقيقية.” وتضيف أن إيمان البعض بأنها قصص حقيقية عزز لديهم الرغبة باللجوء إلى هذه الأعمال لتحقيق رغبات معينة لديهم يعجزون عن تحقيقها.
اللجوء إلى أعمال التنجيم لا يقتصر فقط على الشريحة البسيطة غير المتعلمة، بل يطال أيضاً فئة المثقفين، والسبب كما توضحه الأستاذة أريج المتخصصة في علم الاجتماع هو: “بعض المثقفين ونتيجة حالة العجز التي قد يمرون فيها لتحقيق أهدافهم، وكثرة القصص المحكية عن أعمال السحر ونتائجه أثيرت لديهم الرغبة في التجربة وتحقيق ما عجزوا عنه..” وتتابع حديثها: “لكن إغفال العقل واللحاق بهذه الأفعال بصورة مطلقة يعتبر أمراً منافياً للعلم، ما يجعل لحاق المثقفين بالسحر أمراً مستغرباً، لكن في ظل الضغوطات التي يعاني منها معظم السوريين\ات ستظهر ميول للالتحاق بقوى غيبية لتحقيق الأهداف المأمولة”.
لا تنكر الرز أن عوامل التربية والعادات الشعبية التي تعمل على ترسيخ مفهوم قوى السحر بتحقيق المستحيل تعمل على تعزيز هذا المفهوم لدى الفرد وتجعله إحدى الطرق التي قد يسلكها عند الحاجة، لا سيما أننا في مجتمعات مارست و تناقلت وترسخت لديها هذه الأعمال على مدار السنين.
بواسطة عامر فياض | أغسطس 3, 2024 | Cost of War, Culture, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
لطالما شكَّلت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية جزءاً حميمياً ومميزاً من التراث الشعبي، المحفور في وجدان السوريين وذاكرتهم الجمعية، ومعلماً هاماً من المعالم الثقافية والفنية في سوريا، التي تزدان أسواقها الشعبية القديمة، وخاصة في دمشق وحلب، بالعديد من محلات بيع الآلات الموسيقية، وعلى رأسها آلة العود التي أدرجت منظمة اليونسكو صناعتها على قائمة التراث اللامادي، كونها صناعة عريقة وأصيلة، تعود بدايتها لنهايات القرن التاسع عشر، وتُعد من أبرز الهويات الثقافية السورية. ولكن، وبعد ما فرضته سنوات الحرب الطويلة وتبعاتها، باتت صناعة الآلات الموسيقية التقليدية تواجه الكثير من الصعوبات والتحديات التي أثَّرت بشكلٍ كبير على تاريخها العريق، وعلى كميات إنتاجها وجودة صناعتها، وحجم انتشارها عربياً وعالمياً.
خلال سنوات الحرب تعرض الكثير من ورش صناعة الآلات الموسيقية لأضرار بالغة أوقفتها عن العمل، وخاصة في مدينة حلب، ومناطق جوبر وزملكا وداريا في ريف دمشق، التي كانت تضم عشرات الورش، فيما خسرت تلك الصناعة عدداً كبيراً من أمهر الصناع والأيدي العاملة الخبيرة، الذين غادروا البلاد لينقلوا خبراتهم إلى الخارج وليفتتح بعضهم ورشاً بديلة في أماكن إقامتهم الجديدة، في بعض البلدان العربية وتركيا وكندا وبعض بلدان أوروبا وغيرها.
وتعاني معظم الورش التي تمارس عملها اليوم من صعوبات عديدة، قد تُجبر بعضها على التوقف عن العمل، ومن أبرزها صعوبة توفير الأخشاب، حيث أدت العمليات العسكرية، التي شهدتها البلاد خلال سنوات الحرب، لاقتطاع وإحراق الكثير من الأشجار والبساتين والمساحات الخضراء، بالإضافة لإحراق وتدمير عددٍ من مستودعات الأخشاب، وخاصة في منطقة غوطة دمشق التي كانت تَمدُّ الصُناع بأجود أنواع الأخشاب، فيما تعرض جزء كبير من أشجار البلاد، خلال السنوات الماضية، لعمليات القطع الجائر، سواء من قبل الباحثين عن حطبٍ للتدفئة، في ظل أزمة الوقود المستمرة منذ سنوات، أو من قبل تجار الحطب الذين انتشرت أسواقهم في عموم البلاد، هذا عدا عن الحرائق الطبيعية التي التهمت مساحات واسعة من الأحراش والغابات السورية. كل ذلك أدى إلى فقدان معظم أنواع الأخشاب التي تحتاجها صناعة الآلات الموسيقية، والتي تؤثر في نوعية صوت الآلة وجودتها ومتانتها، وخاصة أخشاب الجوز والزان والمشمش، التي ارتفعت أسعارها اليوم، في ظل ندرة توفرها، إلى أرقام خيالية قد يعجز بعض الصناع عن توفيرها، إذ وصل سعر المتر المكعب من خشب الجوز إلى 25 مليون ليرة، وتجاوز سعر المتر المكعب من خشب المشمش والزان حاجز الـ 15 مليون ليرة.
وبالإضافة لصعوبة توفير الأخشاب، تُشكل صعوبة استيرادها من الخارج تحدياً إضافياً لصُناع الآلات الموسيقية وللمهنة بشكلٍ عام، وذلك نتيجة ارتفاع أسعارها بشكلٍ كبير في دول المنشأ، مُقارنة بقيمة الليرة السورية، هذا إلى جانب ارتفاع تكاليف شحنها، في حال أمكن ذلك، وصعوبة إيصالها إلى سوريا التي تشهد ركوداً في حركة الإستيراد والتصدير، في ظل الواقع السياسي الذي تعيشه والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
صعوبات ومعاناة أخرى
إلى جانب معاناتهم في توفير الأخشاب، يواجه صُناع الآلات الموسيقية معاناة كبيرة مع الانقطاع الطويل للكهرباء، التي قد لا تأتي سوى أربع ساعاتٍ في اليوم، والتي أدت إلى شلل حركة العمل في ورشاتهم لتصبح شبه عاطلة عن الإنتاج. وبما أن تلك الورش تحتاج لتشغيل المنشار الكهربائي وأدوات القص والجلخ وغيرها من المعدات الثقيلة، فإنها ستحتاج للاستعانة بمولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي ارتفعت أسعارها لأرقام كبيرة جداً. وفي حال توفرت المولدة فسيكلف تشغيلها مبالغ مالية كبيرة، في ظل ارتفاع أسعار الوقود الذي سيتم شراءه من السوق السوداء. ومن أراد اللجوء لتركيب أنظمة الطاقة الشمسية، التي انتشرت في سوريا مؤخراً، فسيحتاج إلى ملايين الليرات، لشراء ألواح الطاقة والبطاريات اللازمة لتشغيل معدات وآلات الورشة. كل ذلك، وإلى جانب ارتفاع إيجار الأماكن التي تصلح لتكون ورشاً للعمل، أدى لارتفاع حجم تكاليف الصناعة، التي أصبحت عائداتها المادية غير مُجدية بالنسبة لكثيرٍ من الصُناع، خاصة في ظل تراجع حجم الإقبال على شراء الآلات الموسيقية، بعد تردي الواقع المعيشي في عموم البلاد.
وبالإضافة لما ذكر، يعاني معظم الصُناع من صعوبة توفير الكثير من المواد الأولية ذات الجودة المطلوبة، كبعض أنواع الغراء الأحمر، المصنّع من مواد عضوية، ومفاتيح آلتي العود والبزق ذات النوعية الجيدة، بعد تراجع كميات إنتاجها مع توقف كثير من ورش الخراطة عن العمل. هذا إلى جانب صعوبة توفير ما يلزم من جلود بعض الحيوانات كالأغنام والماعز، والتي تستخدم في صناعة الآلات الإيقاعية كالدفوف والطبول، وذلك نتيجة تراجع حجم الكميات التي كان الصناع يحصلون عليها من المسالخ، بعد ارتفاع أسعار المواشي، وتراجع حجم الإقبال على شراء اللحوم التي ارتفعت أسعارها إلى مستويات غير مسبوقة.
إلى جانب ذلك، أوجد الواقع الذي تعيشه سوريا صعوبة كبيرة في استيراد كثير من المواد والإكسسوارت التي تدخل في صناعة الآلات الموسيقية، وخاصة أوتار العود والبزق وجلود الآلات الإيقاعية ذات الماركات العالمية المعروفة. وفي حال تمكن المُصنع من استيرادها فسيحتاج لتكاليف مالية كبيرة، يُضاف إليها تكاليف الرسوم الجمركية، لذا أصبحت كثير من تلك المواد تدخل إلى سوريا عن طريق التهريب أو من خلال بعض الأشخاص المسافرين، ولكن ضمن كميات محدودة جداً، بالكاد تلبي حاجة عددٍ محدود من الآلات.
ورغم عراقة مهنة تصنيع الآلات الموسيقية وأهميتها الثقافية، وبحسب ما أكده الصُناع الذين التقيناهم، لا يتوفر حتى اليوم أي دعم حكومي من شأنه أن ينهض بواقع الصناعة، ولا يقام لها أي معرض ثقافي لتقديم منتجاتها، أسوة ببعض الدول، وهو ما يُشكل ظلماً لتاريخها وعراقَتها ويُجحف بحقوق الصُناع المعنوية والمادية، وخاصة صُناع آلة العود التي تُشكل إحدى الهويات الثقافية السورية، إذ لا يوجد حتى اليوم أي جمعية خاصة بهم، وإنما يتبع بعضهم، في أحسن الأحوال، للجمعيات الحرفية، وتُصنف مهنتنم كمهنة صناعية، ضمن ورشات نجارة الخشب، وليس كمهنة ثقافية وفنية، فيما تخضع ورشاتهم، من حيث حجم الضرائب وتسعيرة فواتير الكهرباء والماء، لقوانين الورش الصناعية والتجارية.
تراجع جودة الصناعة
لطالما كانت سوريا من أهم الدول العربية في صناعة الآلات الموسيقية، التي تتميز بأنها الأجود والأطول عمراً، بل تُعد من أهم دول العالم في صناعة آلة العود وخاصة العود الدمشقي. لكن تلك الصناعة، وفي ظل العوامل التي ذكرناها، أصبحت مهددة بتراجع جودتها يوماً بعد يوم. ففي ظل صعوبة توفير الأخشاب ذات النوعية الجيدة، يلجأ بعض صناع آلتي العود والبزق لاستخدام ما توفر من أخشاب قد تكون مصبوغة ومتشققة وغير معالجة، أو معدة لتباع كحطب، وبالتالي لا تُقدم الجودة المطلوبة، فيما يلجأ بعضهم الآخر، في كثير من الأحيان، لاستخدام أخشاب أشجارٍ مقطوعة حديثاً، لا تصلح للصناعة، كونها تحتاج إلى عملية تجفيف ومعالجة قد تستغرق عدة سنوات.
وفي ظل ارتفاع أسعار أوتار العود المستوردة وصعوبة استيرادها، بات معظم صناع الآلة يستخدمون الأوتار الصينية أو المصنعة محلياً، والتي لا تقدم الجودة المطلوبة وتؤثر على جمالية ودفء وعذوبة صوت الآلة، فيما أصبح استخدام الأوتار الجيدة محصوراً بطلبات بعض العازفين، إذ وصل سعر الأوتار من ماركة “بيراميد لوت”، المصنعة في ألمانيا، إلى نحو 800 ألف ليرة، وسعر أوتار “الكورشنر” و “الأورورا” ، المصنعة في تركيا، إلى أكثر من 300 ألف ليرة.
وبعد أن كانت معظم الآلات الإيقاعية تُصنع من أجود أخشاب الجوز والزان، بات بعضها يُصنع من بعض أنواع الأخشاب التجارية كخشب الحور والزنزلخت والكزبرينة وأحياناً الخشب المضغوط، وهو ما يؤثر على جودة الآلة وطبيعة صوتها ومتانتها، إذ يمكن لإطارها أن يتشقق وينحني ويفقد شكله الدائري بعد فترة قصيرة من تصنيعه. فيما استعاض بعض صناع آلة الرق عن استخدام الخشب، بصناعة إطار الآلة من مواد بلاستيكية تُصبُّ في قوالب خاصة بعد معالجتها. ورغم متانة الإطار، نسبياً، إلا أنه يُفقد الآلة طبيعة صوتها الدافئ ورونقه. وإلى جانب ذلك، يضطر بعض الصناع ، نتيجة صعوبة استيراد جلود الآلات الإيقاعية ذات الماركات العالمية، لاستخدام الجلود المصنعة محلياً، والتي تتأثر بعوامل الطقس بشكلٍ كبير، ولا تُقدم الصوت المثالي للآلة.
نتيجة للظروف السابقة تراجعت كميات الآلات المُصنعة، في مختلف أنواع الورش الموسيقية، إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، فمعظم من التقيناهم من صُناع الآلات الإيقاعية في منطقة باب الجابية، وصُناع آلتي العود والبزق في منطقة دويلعة وجرمانا، أكدوا أن حجم إنتاجهم قد تراجع بنسبة 60% مقارنة بالسابق، وهو ما أدى لإيجاد نقصٍ في كميات الآلات المعروضة للبيع في معظم محلات الموسيقا. وقد تأثرت كميات إنتاج الآلات الموسيقية أيضاً بتراجع حجم صادرتها إلى الخارج، في ظل ارتفاع تكاليف الشحن وإيقاف معظم مكاتب الشحن الخارجي عملها في سوريا. كما تأثرت بتراجع حجم الإقبال على شرائها، بعد أن ارتفعت أسعارها بشكل كبير، نتيجة ارتفاع تكاليف صناعتها ونقلها، فعلى سبيل المثال، بلغ سعر العود التدريبي نحو مليون ليرة، ووصل سعر بعض أنواع العود الاحترافي لأكثر من سبعة ملايين ليرة، ليصبح شراء الآلات الموسيقية بالنسبة لكثير من الناس نوع من الترف والكماليات.
بواسطة عمر الشيخ | يوليو 18, 2024 | Cost of War, News, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
منذ بدأت الثورة في سورية (مارس/آذار 2011)، راحت تتكشف معها التداعيات الاجتماعيّة حول طبيعة الأفراد والجماعات التي ينتمون إليها في سورية، صورة العنف المشترك من كلّ الأطراف، إضافة إلى تصاعد خطاب الكراهيّة؛ إمّا بسبب الانتماء أو بسبب الاختلاف السياسيّ والفكريّ.
لقد برزت البثور الفكريّة في الأفعال المنافية للإنسانية، وبدأنا نرى صور الفساد الضارب في عمق البلاد، مشاهد تؤكد على امتلاك الأغلبية لمعرفة مزيفة عن تقدير الإنسان لبلده وجذوره.
ربّما بدأت الأفكار – في هذه الثورة – على أنّ هدفها الرئيس هو إسقاط النظام السياسيّ، ومع تلك الأفكار والطموحات؛ ظهرت الآفات الكامنة تحت طغيان هذا النظام.
وفي الواجهة تقدّمت السلوكيّات الطاغية لأزلام السُلطة، سواء كانوا قادة حراك شعبيّ أو قادة فصائل مسلّحة.. معارضة أم موالاة، أو كانوا يتربعون على عروش الأزمات في سوريا حتّى قبل الثورة، كان الجميع يشترك، على نحو ما، في تدمير حاضر البلاد وماضيها.
الهدف مما أشرنا إليه أعلاه، هو محاولة تقديم صورة عن المناخ العام حول سؤالنا عن أثر الصراع القائم على الهويّة السورية فيما يخص الحفاظ على الآثار التاريخيّة في تراث تلك الهوية، حيث تعيش الانتماءات وفقاً للقيم والمنظومات والعادات والتقاليد التي تكرسها المجتمعات حسب شرائحها وطوائفها وثقافاتها المتنوعة، والمعروفة بكثرتها وتشعباتها في سورية.
انتماءات رتبت أولوياتها بعيداً عن سؤال وجودي متربط جوهرياً بالتاريخ: ما هي سورية؟ ومن نحن في هذه الجغرافية التاريخيّة الممتدة لآلاف السنوات؟
ربّما لاحظنا كيف كانت العودة للسلف والانتماء العرقيّ أو الدينيّ، هي أوّل الأشياء التي نمّتها السُلطة بين أفراد المجتمع، وكان ذلك خلال المظاهرات وانتشار السلاح والفوضى. وكيف قسّمت المناطق والمدن والمؤسسات والهيئات الإداريّة للبلاد، منذ زمن وفق توازنات مذهبيّة أو ولاءات سياسيّة، حيث أصبح للتفرقة عنوان واحد هو: الاختلاف.
وبعد مرور هذه السنوات من الصراع المؤلم في سوريا بين السُلطة الحاكمة والجيش السوريّ من خلفها وحلفائها من جهة، ومن يعارضها من الشعب ومسلحيّ المعارضة وحلفائهم من جهة أخرى، ثمّ فيما بعد تحوّل الصراع إلى مُحاصصات إقليميّة حيّدت السوريّ، ولم تعد تهتم لأمر السوريّ – السوريّ، إنّما جعلت التبعية أساساً لمنح امتيازاتها ودعمها، فنتج أمامنا مثلاً: السوريّ- الإيرانيّ، السوريّ-الروسيّ، السوريّ-المعارض، السوريّ-البعثيّ، السوريّ-الإسلاميّ، السوريّ- الكرديّ، السوريّ- الموالي، السوريّ-التركيّ…إلخ، وضمن هذه التقسيمات اللّاسورية، والتي تحكمها نوعية التحالف ضدّ السوريّ الآخر- المختلف، تلاشت تقريباً الاهتمامات السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة بالهوية السورية في عمقها التاريخيّ، هُرّبت الآثار، نُهب معظمها، دمّر منها الكثير، اختلفت أسباب الاستهتار والاتجار بها واتفق الجميع على تحويلها إلى شيء بلا قيمة إنسانيّة!
واليوم، بعد مرور هذه السنوات منذ عام 2011، توجهنا إلى أشخاص لازالوا في سورية، يهتمون لشأن الآثار السورية وأخبارها التي يرثى لها، ترى كيف ينعكس حال الآثار السورية اليوم على تراث الهويّة السوريّة التاريخيّ؟ وما هي السُبل الحقيقية برأي المختصين لضبط وتوثيق وحماية ما تبقى من الآثار في سوريا؟
الآثار بخير؟
“تصف حال الآثار السورية بأنّها تستحق الرثاء، ولكني أقول إن الوطن السوريّ هو الذي يستحق ذلك” هكذا يبدأ د.فاروق إسماعيل، الباحث التاريخي حديثه لصالون سوريا، ويضيف: “لو تأمّلنا الواقع المعيشي للإنسان السوريّ المقيم أو النازح ضمن الوطن وخارجه، وما آلت إليه سوريا من تمزيق على أيدي عابثين ومغامرين وسياسيين وتجار الحروب والمعتقد الديني الذين فرضوا سلطتهم في معظم أرجاء سوريا، ويتصرفون بنهج استبداديّ أسوأ من السلطة المستبدّة التي هبت الثورة للتخلص منها، وقارنا ذلك بوضع المواقع الأثرية، فسوف نستخلص أن الآثار بخير. وتتحدث عن “غياب الاهتمام الحقيقي بها”، وهل هناك مبالاة بالإنسان وحياته؟ أعتقد أن وضع الآثار أفضل من معظم جوانب حياة الإنسان السوريّ، وأن الضرر الأكبر الذي لحق بها؛ من عبث وتخريب وسرقة وتجارة، تم خلال مرحلة سيطرة التنظيمات الجهاديّة الإرهابيّة، التي ما تزال مستمرة في مناطق سورية” بحسب رأيه.
تراث مشترك
فيما يرى الكاتب والباحث تركي المصطفى، المقيم في الداخل السوريّ اليوم، أن النظام يتحمل مسؤولية ما حدث لسوريا، فيما بقيت المنظمات الدولية “تراقب” كلّ ذلك، ويقول: ” كان هناك عملية تدمير منظم للآثار السوريّة التي تكشف عن حضارة عريقة، مرنة، تمكنت من استيعاب كلّ الحضارات التي أسهمت في تشكيل التاريخ البشريّ وتطور المراكز العمرانيّة، وتطوّر المجتمع السوريّ وتشكيل هويته الحضاريّة، ولعلّ أهمّ تلك الصروح هي ممالك “ماري” و “إيبلا” و “أوغاريت” والمدن الأثرية في الشمال السوريّ”.
وفي حديثه يتأسف “المصطفى” الشاهد على ما وصلت إليه حالة الآثار السوريّة من عمليات تنقيب عشوائيّة خارجة عن القانون: “بالأخص في منطقة وادي الفرات الواقعة تحت نفوذ الميليشيات الإيرانيّة، علاوة على تدمير المواقع الأثريّة بالطيران الحربيّ ومدفعية قوات النظام، كما في آثار تدمر التي قُصفت أعمدتها وأبنيتها” على حد قوله.
ويؤكد “المصطفى”: “لقد طال التدمير مدينة حلب وسوق المدينة التاريخيّ، ودمّر الطيران الحربيّ العديد من أحياء المدينة القديمة، ومثل ذلك فعل في مملكة “إيبلا”، وفي ظل الفلتان الأمنيّ وغياب الأجهزة المسؤولة عن حماية الآثار؛ باتت غالبيّة المواقع الأثرية السوريّة عرضة للسرقة وللتنقيب العشوائيّ، ومع ذلك، ورغم حالة الفوضى التي تسود الجغرافية السوريّة يمكن التحرك لحماية ما تبقى من آثار، فقبل أيام قليلة زرتُ “كنيسة قلب لوزة” الواقعة شمال غرب مدينة إدلب فوجدتُ أنّها بحاجة عاجلة للترميم قبل انهيارها وتهديد سلامتها، ومثلها غالبية المواقع الأثريّة، وباعتبار الآثار، إرثاً عالميّاً، فمسؤولية حمايتها تشمل المهتمين بالآثار من مؤسسات ومراكز دولية تتمتع بخبرات وكفاءات عالية سواء كانت حكوميّة وغير حكوميّة، كما ينبغي إشراك عامّة النّاس في نشر الوعي حول إشعارهم بالملكية والاعتزاز بالتراث الثقافيّ كمنجز اجتماعيّ وتكنولوجيّ تاريخيّ، وبالتالي لابد من إيجاد صيغة قانونية دولية لحماية الآثار السوريّة لردع الأنشطة غير القانونية. مثل فرض قيود على أعمال التخريب والتنقيب العشوائي والتجارة في الآثار وتصنيفها كمواقع محمية. وتقديم تسهيلات لإعادة القطع الأثريّة من خلال تعاون دوليّ للحفاظ على تراثنا الإنساني” بحسب تعبيره.
مشكلة الانتماء
عمل الباحث السوري، ماهر حميد، على موضوع الآثار السوريّة دون رغبة منه “بالانخراط في الموضوع السياسيّ”. وفي حديثه يؤكد “حميد” أنّه قام بإعداد تقرير منتصف العام 2015، وقدّمه للمبعوث الأمميّ آنذاك “دي ميستورا” وقد ناقشه د.عارف دليله، ويقول: “تعاني الآثار السوريّة من تدمير كبير اليوم، إضافة إلى السرقات التي حدثت والتنقيب غير المدروس الذي يدمر الطبقات الأثريّة، وذلك ما عانت منه مدن أثرية مثل “إيبلا” و “ماري” و”دوروا اوروبوس” و “أفاميا” على حد قوله.
ويشير “حميد” بالكشف عبر تقريره بأن “تنظيم داعش” وخلال سيطرته على مناطق شمال سوريا، وبعد تعرض التنظيم لحصار عسكريّ، ولم يعد لديه موارد اقتصاديّة بعد توقف تجارة النفط، توجه “التنظيم” إلى بيع الآثار السوريّة للاتجار بها، وتمريرها عبر تركيا من أجل تمويل أنشطته، وقد أنشأ ديواناً خاصاً لهذا الأمر أسماه آنذاك ديوان “الركاز”، يقول: “كنتُ قد طلبت أن يقوم التحالف الدوليّ ضد “التنظيم” برمي مواد معدنيّة وخردوات من طائرة على المواقع الأثريّة، وبالتالي أثناء عمليات النبش غير المدروس التي كان يقوم بها “التنظيم” في المناطق الأثريّة، سنجد أن معظم “النبّاشين” العاملين مع “التنظيم” و”النباشين” في المناطق الأخرى والذين كانوا ينقبون باستخدام جهاز كشف المعادن، تصبح عملياتهم بلا جدوى” بحسب قوله.
ويضيف “حميد”: “ومن بين الاقتراحات التي تضمنت التقرير هي أنّ تشكّل لجنة من الدول التي يقال عنها إنّها من أصدقاء سوريا (…) كي تشتري هذه الآثار من اللصوص في تركيا! مقابل أن تمتلكها لتسع وأربعين سنة، سواء اشترتها فرنسا أو ألمانيا أو غيرها من أصدقاء سوريا، وبعد انقضاء تلك المدة تعود لسوريا. لأنها لو بقيت أكثر من ذلك أي خمسين سنة ستصبح ملكاً للمقتني ولن تعود، ولكن لم يؤخذ بكلّ ذلك” على حد تأكيده.
ويعتقد “حميد” أن ما تعاني منه الآثار السوريّة لن ينعكس على الهويّة السوريّة، مبرراً ذلك بأن: “هوية الهلال الخصيب أصلاً مقسّمة، هناك جزء كبير من تراثنا أصبح في تركيا. ومن المعروف أن حضارة ما بين النهرين كانت واحدة وفيما بعد قسّمت إلى العراق، لبنان، فلسطين، الأردن، سورية. فالهويّة أصلاً مُفتّتة! مثلاً لو وجدنا قطعة أثريّة في الأردن، ماذا نسميها؟ آثاراً أردنيّة؟ بالطبع لا، هي آثار سوريّة، ولكن الهوية فُتت إلى خمسة أو ستة أجزاء. أعتقد أن المشكلة هنا هي في الانتماء. مثلاً، بعض الناس سرقوا مؤسسات الدولة، وأحياناً سرقوا بيوت الآخرين. فقد اعتبر هؤلاء أن الآثار هي جزء من الدولة التي هم بطبيعة الأحوال ضدها، نحن مشكلتنا سياسية، وبالتالي يعتبرون “بشار الأسد” هو مؤسسة المياه ومؤسسة الكهرباء وجميع مؤسسات الدولة (!) وهو في الوقت نفسه الآثار المدفونة تحت الأرض لأنها جميعها مرتبطة بشخص الحاكم.” بحسب رأيه.
ويروي “حميد”: مع بداية الأحداث في سوريا، أصبح هناك نوع من الفلتان الأمنيّ في منطقة (دير الزور) إلى (البوكمال) وبدأت تنتشر الكتائب ذات الأسماء الإسلاميّة مثل “كتيبة أبو بكر، كتيبة عثمان.. إلخ” وأنت تغادر من (دير الزور) إلى (البوكمال) وعلى الطرقات، بعد انطلاق هذه الكتائب، كنا نرى على طرفي الطريق خيماً كثيرة تحتوي على أشخاص من جنسيّات مختلفة، على “أمريكيين وسويسريين وبريطانيين. أتراك” وكلّ خيمة تحت “حماية” لواء من تلك الكتائب الإسلاميّة، وكلّ هؤلاء كانوا مختصين بالآثار، فصرنا نرى الفلاح الذي لا يعرف ما هي “ماري” يذهب مباشرة بتوجيه من إحدى الخيام إلى معبد “دجن” من أجل أن يحفر دون أن يعلم ما هي ماري أصلاً! ربما هذا المعبد معروف من قبل المختصين من الباحثين وسواهم، إنّما بالنسبة للفلاح فهو لا يعرف ما هو! فكانوا يحفرون ويبيعون ما يجدونه” على حد قوله.
توافق على التدمير!
يعتقد الكاتب والباحث السوريّ سعد فنصة أن السؤال اليوم عن الآثار السورية وانعكاسها في تراث الهوية السورية، “قد فات أوانه” لأن: “سوريا تتفكك، وهذه الحروب العبثيّة على أرضها شوّهت البشر قبل الحجر، وحماية بقايا الأوابد التي دُمرت أو نُهبت عن عمد مسألة لديّ شكوك عميقة ومبررة حولها”. ويرى “فنصة” خلال حديثه معنا بأن: “سوريا محتلة من قبل جيوش متعدّدة وحشود طائفيّة وإثنيّة، وتعاني من انعدام الأمن والاستقرار، وهذا ما يجعل مثلاً من حماية الأطفال من التشرد والفاقة والاستغلال؛ شأناً قريباً جداً من حماية الممتلكات الثقافيّة والإنسانيّة في سوريا، ولكنه للأسف بعيد المنال”.
ويضيف: “لقد تمّ نهب الإنسان في سوريا، هُجّر الملايين من سكنهم وحياتهم، واستقدم المحتلّ إلى الأرض السوريّة وجوهاً غريبة ومسلّحة، تمتلك الأرض وما عليها، وهي صاحبة الحقّ السياديّ حتّى على منظومة الحكم المتداعية، القائمة إلى اليوم في دمشق”.
ويؤكد “فنصة” أن كلّ هذه الحرائق التي نشاهدها ونسمع عنها بين الفينة والأخرى في المدن الأثريّة، ونهب حتى حجارتها الأثريّة وتغيير معالمها، هو جزء من خطة ما بعد التدمير الهائل للآثار بالآلة الحربيّة ولمرحلة تتعمق وتتسع، يقول: “أعتقد أن هناك مصالح عالميّة مشتركة في مسح الهويّة الحضاريّة والإنسانية والأثرية للشعب السوريّ. شاهدي وإثباتي فيما أدعيه هو أنّه ثمّة ست مدن سورية أثريّة هي في نطاق الحمايّة الدولية باعتبارها جزءاً من ذاكرة الإنسانيّة، نظراً لأهمية آثارها ومكتشفاتها ومخططاتها العمرانيّة! ماذا فعلت المنظمة الدوليّة (اليونسكو) في حماية ما سبق أن حرّرت عنه القوانين والمحاضر الملزمة في حماية الآثار السورية؟”.
ويوضح “فنصة”بأن المتاحف قُصفت بالبراميل والصواريخ، وكذلك أهم المواقع الأثريّة في بصرى وتدمر و “إيبلا” و “دورا اوروبس” و”ماري” و”أفاميا” وحلب القديمة وغيرها المئات من المدن الأثريّة التي عُدّ دمارها خسارة كبرى لذاكرة الشعب والوطن وعلم الآثار، يقول: “بعد ذلك هجم الجراد الحربيّ، ينبش في تربتها الأثريّة ويخرّب طبقاتها وينهب بقايا مكتشفاتها، هناك أكثر من مليون قطعة أثريّة من مختلف العهود نهبت من سوريا، وهي تباع اليوم في المزادات العالمية ومواقع التسوق بحسب أهميتها وارتفاع أثمانها”.
ويرى “فنصة” أنّ ما حصل في سوريا؛ حصل سابقاً في العراق، وأنّ كلّ الدراسات وأعمال المنظمات الدولية والمحلية ليست أكثر من مجموعات للإحصاء والتقصي! ليس لها وزن أو صوت أو فاعليّة على المواقع المُستهدفة بالنهب أو التخريب. كلّ ذلك لم يتوقف يوماً، منذ تاريخ طويل قبل الحرب أو الثورة أو الانتفاضة الشعبيّة العارمة في سوريا منذ العام 2011، وفي هذا السياق الكارثيّ، طالما بقيت الأمور السياسية والتحصينات العسكريّة والقوانين والتشريعات القديمة التي فاتها الزمن، على حالها، ودون حلّ سياسيّ بتأسيس مؤتمر وطنيّ شامل للسلام وتفعيل القرار الأممي 2254 المُلزم بخروج كلّ القوات المسلّحة المحتلّة للأرض السوريّة وإنهاء المنظومة الأمنيّة القائمة، لا أرى أيّة بارقة أمل في حماية الآثار قبل حماية النّاس والأبرياء من القتل والتعذيب والمعتقلات والتهجير” بحسب تعبيره.
ويرى “فنصة” أن الحلّ يبدأ من التفكير بمحاسبة المتسببين بالكارثة البشريّة والبيئيّة والأثريّة ووضع القوانين الحازمة الملزمة بملاحقة اللصوص والقتلة والمجرمين، دولياً، إلى آخر الدنيا، والذين ساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر بسرقة ونهب وتدمير الآثار السوريّة، يقول: “كلّ ذلك كان يمكن الإصرار عليه عبر حزمة متكاملة من مشروع العدالة الانتقالية الذي جاء عليه القرار الأممي، ولكنّه بحاجة إلى شخصيات وطنيّة حقيقيّة تتحمّل مسؤولية حمل تبعات تنفيذ القرار الأممي، وملاحقة المسؤولين الدوليين عن تأخيره ولكن ليس بهذه المعارضة الوهميّة المائعة في رموز الائتلاف التي وظفتها الاستخبارات العربية وصنعوها من مافيات سياسية دولية لمفاوضة الأسد على تقاسم السلطات طوال السنوات الماضية والتي ولم ولن تحصل عليها” بحسب رأيه.
ويختم “فنصة” كلامه بالقول: “الشأن السياسيّ لا ينفصل عن الشأن الإنسانيّ في الصحة والتعليم والثقافة وحماية الآثار. إن سوريا مكتبة معارف أثريّة عريقة -كما أردد دائماً- تمّ تدميرها عن عمد وهيهات أن تُستعاد في ظلّ الظروف والشخصيات المرتزقة نظاماً ومعارضة!”.