شتاء درعا…شهر البرد والمعاناة

شتاء درعا…شهر البرد والمعاناة

يرتبط فصل الشتاء في أذهان معظم سكّان العالم بالحميمية والدفء والملابس الشتوية الأنيقة، باستثناء السوريين في جميع أنحاء سوريا. مع بدء فصل الشتاء لا تعبر مخيّلاتهم وهواجسهم سوى أفكار مرتبطة بالبرد القارس وبكيفية الحصول على أكبر قدر من الوقود للتدفئة من خلال مخصصات حكومية أو عبر جمع بعض انواع الحطب والملابس المهترئة والتي لا تغطّي غالباً سوى بضعة أسابيع من فصل الشتاء الطويل.
كما هو الحال في الأعوام الماضية، لا تستطيع حكومة النظام أن تؤمن لهذا الـعام مادة الديزل للتدفئة إلا بكميات شحيحة تكاد لا تكفي لأكثر من 20 يوماً حيث تقلصت مخصصات العائلة الواحدة إلى 50 لتراً من مادة الديزل بعد أن كانت 200 لتراً في سابقها من الأعوام.
في محافظة درعا جنوب سوريا يحدثنا خالد المسالمة (مالك محطة وقود) بعد سؤالنا له عن إمكانية توزيع دفعة ثانية من مادة الديزل : “حتى الآن لم يتم توزيع نصف الكميات المطلوبة لتغطية عدد العائلات (٥٠ لتراً لكل عائلة) فمن غير الممكن الحديث عن توزيع دفعة ثانية من مادة الديزل ما لم نستطع توزيع الدفعة الأولى على كافة العائلات وبرأيي هذا سيكون أفضل الخيارات الممكن توفيرها من قبل الحكومة فهي عاجزة عن تأمين الوقود للدوائر الحكومية والمستشفيات والمدارس، ما البال لو تحدّثنا عن تأمين دفعات أخرى من مادة الديزل على العائلات”.
يُذكر أن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام قد رفعت سعر لتر الديزل المدعوم من 180 إلى 500 ليرة، وغير المدعوم من 2400 إلى 3500 ليرة في يوليو/تموز من هذا العام بينما تجاوز سعر السوق السوداء عتبة الـ 4000 ليرة سورية لليتر الواحد.
لا تُعتبر مادة الديزل مادة رئيسة للتدفئة في محافظة درعا حيث يعتمد معظم السكان على الحطب للتدفئة نتيجة الشح الكبير في المحروقات وغلاء سعرها. إلا أن الحطب تحول مع اقتراب شتاء هذا العام إلى ترف حيث بات الحصول عليه بالنسبة للكثير من العائلات أمراً شبه مستحيل نتيجة الارتفاع الجنوني بأسعاره. بات الحطب نادراً بسبب ندرة الأشجار بعد سنوات من التحطيب المستمر ونتيجة فرض حواجز النظام العسكرية الاتاوات على نقل الحطب فبلغ ثمن طن الحطب 650 الليرة (200$) ويبلغ متوسط استهلاك العائلة طنّين خلال فصل الشتاء! أي أن العائلة تحتاج إلى مليون وثلاثمئة ألف ليرة سورية للتدفئة خلال فصل الشتاء! أي ما يعادل (400$) وهذا ما يصعب توفيره لدى الغالبية العظمى من أهالي درعا في ظل حياتهم في بلد يعتبر اقتصاده من أسوأ الاقتصادات على مستوى العالم.
أبو محمد أحد سكان مدينة صيدا في ريف درعا الشرقي يحكي لنا عن معاناته في تأمين الحطب هذا العام : “أنا أعمل في محل حدادة وأتقاضى راتباً شهرياً يبلغ ثلاثمئة ألف ليرة وهذا الراتب لا يغطي احتياجاتنا من الطعام ناهيك عن باقي مستلزمات الحياة التي لم نعد نفكر بها أساساً فكيف سأستطيع تأمين مبلغ مليون ونصف ليرة لشراء الحطب؟ مستحيل. أقوم حالياً بجمع بعض الأقمشة المهترئة والأخشاب المتناثرة على جوانب الطرقات وأقوم بتكسير بعض اللوازم القديمة من منزلي للتدفئة خلال الأيام الأشد برداً. وأعتمد في معظم هذه الأيام على تغطية الأولاد بلحف النوم المصنوعة من الصوف عوضاً عن تشغيل مدفئة الحطب في الأيام الأقل برودة”.
لا تنتهي معاناة الأهالي عند توفير الحطب ومواد التدفئة المختلفة فتأمين اللباس الشتوي للأطفال يشكّل هاجساً كبيراً لمعظم السكان. حيث بلغ سعر المعطف لطفل في عمر ٨ سنوات 90 ألف ليرة. تقول أم محمد من أهالي مدينة درعا البلد: “لا نعلم كيف سيمرّ علينا الشتاء هذا العام فبعد عودتنا إلى منزلنا عام 2019 وجدناه مدمراً نسبياً وقد نُهب بشكل كامل. كان خاوياً تماماً، حتى النوافذ والأبواب اقتلعت. قمنا بسدّ النوافذ بأكياس من النايلون وبعض الأقمشة وهذا العام لا يوجد مازوت ولا حطب. كنت ألجأ في الأعوام السابقة إلى شراء معاطف جيدة لأطفالي تقيهم برودة الطقس في المنزل ولدى خروجهم منه. إلا أنني عاجزة هذا العام عن شراء الألبسة الشتوية فسعر المعطف الرديء تجاوز عتبة ال100 الف ليرة فكيف لي أن أشتري ملابس شتوية جيدة لستة أطفال! زوجي يعمل سائق سرفيس على خط درعا دمشق لا يكاد دخله يكفي لسدّ الرمق فلا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل”.
فقدان القدرة الشرائية لمواد التدفئة لدى الغالبية العظمى من السوريين في ظل الارتفاع الكبير في أسعار الحطب والديزل وحتى البدائل الأقل نجاعة في التدفئة كالغاز والكهرباء لم تعد متوفرة حيث بلغ سعر جرة الغاز في السوق السوداء 110 آلاف ليرة والكهرباء لا تتوفر إلا ثلاث ساعات على مدار الـ24 ساعة.
لا يبدو أن شتاء هذا العام سيكون ضيفاً عادياً على الشعب السوري وسط ظروف اقتصادية هي الأصعب على مستوى العالم ووسط حالة فقر مدقع بين أوساط السكان وانعدام الحلول المادية لدى غالبية الناس ناهيك عن جائحة كورونا التي تفاقم من سوء معاناة السوريين على امتداد جغرافيتهم.

نصيحة لأميركا في سويا: الصبر الاستراتيجي

نصيحة لأميركا في سويا: الصبر الاستراتيجي

كشفت اجتماعات كبار المبعوثين والخبراء بالملف السوري في بروكسل، قبل يومين، عن وجود فجوة في الأولويات بين واشنطن من جهة، وعواصم أوروبية وبعض الدول العربية من جهة أخرى، وسط دعوة اوروبية لـ«الصبر الاستراتيجي»، الأمر الذي دفع المبعوث الأميركي للملف السوري، إيثان غولدريش، إلى ضبط إيقاع التنسيق بين الحلفاء عبر سلسلة اجتماعات، وتأكيده أن واشنطن «لن ترفع العقوبات عن دمشق»، و«لن تطبع» معها، و«لن ترسل إشارات خاطئة» لها.

– 3 اجتماعات

عقدت ثلاثة اجتماعات في بروكسل يومي الأول والثاني من ديسمبر (كانون الأول) الحالي: الأول، اجتماع للمبعوثين والخبراء الأجانب في مركز أبحاث أوروبي؛ والثاني، اجتماع المبعوثين العرب والغربيين وتركيا للملف السوري بدعوة أميركية، في ظل غياب الإمارات؛ والثالث، اجتماع كبار الموظفين على هامش مؤتمر التحالف الدولي ضد «داعش».

وسبق أن عقد اجتماع وزاري بشأن سوريا على هامش مؤتمر التحالف ضد «داعش» في روما، في 28 يونيو (حزيران) الماضي. ووقتذاك، ركز وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن على 3 أولويات لأميركا في سوريا، هي: منع عودة «داعش»، ودعم المساعدات الإنسانية، وتثبيت وقف النار. ولم توافق أميركا -وقتذاك- على اقتراحات تضمين البيان الختامي موقفاً واضحاً ضد «التطبيع»، أو ضد الانتخابات الرئاسية في سوريا، لأنها كانت تراهن على الحوار السري مع روسيا للاتفاق حول تمديد قرار المساعدات الإنسانية.

منذ ذلك الوقت، حصلت تغييرات في واشنطن، بينها انتهاء المؤسسات الأميركية من مراجعة سياساتها بشأن سوريا، والوصول إلى 5 أهداف، هي: منع عودة «داعش»، ودعم المساعدات الإنسانية، ووقف النار الشامل، والمساءلة والمحاسبة في سوريا، ودعم العملية السياسية بموجب القرار (2254). يضاف إلى ذلك أهداف ملحقة: الأول، دعم الحوار بين الأكراد أنفسهم، وبين الأكراد ودمشق برعاية روسية – أميركية؛ وتقديم الدعم اللوجيستي للغارات الإسرائيلية ضد «مواقع إيران» في سوريا؛ والإغارة على قياديين في «القاعدة».

أيضاً، بين الاجتماع الوزاري في روما ولقاء المبعوثين في بروكسل، عقدت 3 جلسات غير معلنة بين مبعوثي الرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن في جنيف، أسفرت عن الاتفاق على تمديد قرار المساعدات «عبر الحدود» و«عبر الخطوط»، مقابل موافقة واشنطن على تمويل «التعافي المبكر» للأمور الإنسانية.

وبدأت دول عربية خطوات انفتاح نحو دمشق، وعقدت لقاءات سياسية رفيعة، فيما عادت واشنطن إلى لعب دور قيادي في ملف المساءلة في مجلس الأمن، ودعم دول أوروبية محاكم وطنية لملاحقة متهمين بـ«جرائم ضد الإنسانية».

– ماذا قال المشاركون؟

في اجتماع المبعوثين والخبراء، جرى تقديم قراءة للوضع الميداني في سوريا، ثم قدم كل مبعوث موقف بلاده. وحسب المعلومات، فإن الفجوة كانت واضحة بين موقف غولدريش ونظرائه الأوروبيين والعرب. بداية، انتقد مبعوثون أوروبيون فرض أميركا على دولهم أولويات تمويل المساعدات، خصوصاً في ظل «غياب الدور القيادي الأميركي»، إضافة إلى عقد أميركا اتفاقات مع روسيا من «وراء ظهرهم»، خصوصاً قرار تمديد المساعدات الإنسانية.

وقال مبعوثون أوروبيون إن دولهم هي «المجاورة لسوريا»، وستضع أولوياتها، بحيث إنها لن ترفع العقوبات عن دمشق، ولن تغير موقفها. وقال أحدهم: «لن نصرف أموالاً على النظام»، رداً على اقتراح أحد المشاركين «التطبيع مع الواقع» و«قبول أن النظام باقٍ».

وكان الرد من المعسكر الأوروبي تجديد الدعوات إلى «الصبر الاستراتيجي» في التعاطي مع الملف السوري، الأمر الذي لم يعد موجوداً لدى دول عربية مجاورة. كما استند ممثلا ألمانيا وفرنسا إلى تجربة بلادهما للحوار مع روسيا، للقول بضرورة «تحرك روسيا أولاً». كما ظهرت دعوات للتمسك بأدوات الضغط الثلاث على دمشق – موسكو: العقوبات، والعزلة، والإعمار.

– ما هي المطالب من دمشق؟

بعد الاتصالات الثنائية التي أجراها المبعوث الأميركي مع نظرائه، وبعدما سمع في اجتماع مركز الأبحاث، وأمام تشدد الموقف الأوروبي، قال غولدريش إن رفع العقوبات عن دمشق ليس على طاولة الحوار مع روسيا، وإن بلاده ضد التطبيع مع دمشق، وإن ما تفعله هو تقديم إعفاءات من نظام العقوبات الأميركي لأغراض إنسانية، بل إنه ذهب في بعض الأحيان إلى تقييد الاستثناءات إلى الحد الأدنى. ونقل عنه القول إن واشنطن «لن تقدم أي تنازلات للروس»، و«يجب ألا يعطي الحلفاء أي إشارات خاطئة».

وفي النقاشات، كان ممثل العراق الأكثر حماساً لرفع العقوبات عن دمشق، وعودتها إلى الجامعة العربية، فيما بدا ممثل الأردن الأكثر قناعة بمقاربة «خطوة مقابل خطوة» بين عمان ودمشق. وعندما حاول الإشارة إلى أن هذا يشمل عودة دمشق إلى الجامعة العربية، قوبل ذلك بتشدد من بعض الدول العربية التي جدد ممثلوها القول إن الظروف لم تنضج بعد، مع أن الجزائر تواصل سعيها لدعوة دمشق إلى المؤتمر في مارس (آذار) المقبل.

القرار النهائي لذلك في أيدي الدول العربية الكبرى. وبالنسبة لبعض المشاركين، قامت دول عربية بخطوات أولى، ويجب أن تقوم دمشق بخطوات من جهتها، تشمل أموراً داخلية، مثل تسهيل عبور المساعدات الإنسانية، وإطلاق سجناء، وعودة اللاجئين، ودفع عمل اللجنة الدستورية والعملية السياسية، وتثبيت وقف النار. وقيل إن هناك حرصاً على «عودة سوريا إلى الحضن العربي»، لكن هناك أيضاً توقعات بأن تقوم دمشق بخطوات معينة، بينها «ألا تكون جزءاً من الأجندة الإيرانية الإقليمية». وفهم مشاركون أن هناك احتمالاً لتعاون مع دمشق في ملفي تفكيك شبكات المخدرات ومحاربة الإرهاب و«طي موضوع إدلب»، لكن أحد المنظمين اقترح أن تتم مناقشة هذا في المؤتمر الخاص بالتحالف ضد «داعش» الذي عقد بالتوازي مع الاجتماع السوري، حيث جدد المبعوث الأميركي إلى التحالف جون كودفري الالتزام بـ«حملة هزيمة (داعش)، إلى جانب (قوات سوريا الديمقراطية)، والقوى الشريكة الأخرى التي تواصل التصدي للتهديد الذي يشكله التنظيم». وفي هذه المنصة، جرى بحث معتقلي «داعش»، وخطط توفير الاستقرار والتنمية الاقتصادية في المناطق المحررة من «داعش».

– قنبلة «التعافي المبكر»

لم يتضمن البيان الختامي للمبعوثين موقفاً توافقياً من التطبيع مع دمشق أو العقوبات، لكن الجديد هو الجدل حول «التعافي المبكر» الذي أضيف إلى القرار الدولي الخاص بالمساعدات في يوليو (تموز) الماضي، حيث بدا واضحاً أنه ليس هناك «تعريف موحد» لـ«التعافي المبكر»، وتأرجحه بين دعم مشاريع بنية تحتية واقتصاره على أمور إنسانية.

وكانت المفاجأة حصول جدل كبير بين ممثل الأردن ونظيرته الفرنسية، ذلك أن الأخيرة تشددت بضرورة القول صراحة إن تمويل مشاريع «التعافي المبكر» يجب أن تشمل فقط الأمور الإنسانية، وأن تبتعد تماماً عن البنية التحتية، علماً يأن هناك قراراً من المجلس الأوروبي يرفض «تمويل مشاريع البنية التحتية قبل حصول تقدم جوهري في العملية السياسية». ولم يكن هذا الموقف الواضح الوحيد للمبعوثة الفرنسية، بل شمل أموراً أخرى. وكان لافتاً تزامن ذلك مع قرار الخارجية الفرنسية تعيين السفيرة بريجيت كورمي سفيرة جديدة غير مقيمة للملف السوري.

وأمام الانقسام الفرنسي – الأردني، تدخل غولدريش واقترح عبارة وسطية في البيان الختامي تقول: «شددنا على ضرورة تقديم المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة بالسبل كافة، بما في ذلك مشاريع الإنعاش عبر الحدود وعبر الخطوط، وكذلك مشاريع الإنعاش المبكرة المتوافقة مع قرار مجلس الأمن رقم (2585) في مختلف أنحاء سوريا».

– ماذا بعد؟

على الرغم من الجدل والتوتر الدبلوماسي الذي شهده اجتماع بروكسل، فإنه ساد اعتقاد بين المشاركين بأن اللقاء أظهر بدء الفريق الأميركي في بلورة أفكاره في الملف السوري، وأطلق عملية سياسية بين الدول المعنية بالملف بقيادة أميركية، الأمر الذي كان غائباً منذ أكثر من سنة، ما ذكر بعضهم بالمسار التنسيقي بين واشنطن وحلفائها الذي كان موجوداً قبل سنوات.

وهناك توقعات بأن يعقد اجتماع آخر في واشنطن بداية العام المقبل، بهدف ضبط إيقاع المواقف للدول المعنية تحت مظلة أميركية، إضافة إلى استمرار الحوار الروسي – الأميركي الذي تعززه موسكو بتنسيقها مع شركائها في مسار آستانة في مؤتمر وزاري في الـ21 من الشهر الحالي، مع حديث عن قمة بين الرئيسين بوتين وبايدن الأسبوع المقبل.

نقلا عن “الشرق الأوسط”

النسوية السورية زمن الحرب

النسوية السورية زمن الحرب

تأثير سنوات الحرب الطويلة طال أدق تفاصيل الحياة اليومية والمظاهر الاجتماعية والإنسانية. كانت السنوات العشر كفيلة بقلب كل المعايير والموازين داخل المجتمع السوري وخارجه. أصلاً لم يعد معروفاً ما هو المجتمع السوري وما هو داخله وما هو خارجه. مجتمعات بأكملها انزاحت جغرافياً في حين تشكّلت مجتمعات جديدة في أماكن مختلفة بينما تحلّلت مجتمعات أخرى بالكامل أو تشكّلت من جديد بعيداً في الشتات.

أفكر كثيراً بتاء التأنيث في (سوريا) أو (سورية). التاء التي وإن بدت بديهية وغير ملحوظة من فرط تكرارها في العبارات المعلوكة مثل (عاشت سوريا) و(ماتت سورية) و(دخلت سوريا عامها التاسع من أعوام الحرب)، لكنها ما تزال تحمل بعض الكبرياء والغرور وإن كان يعلو حوافه بعض الصدأ. كبرياء استمدّ من التاريخ السوري الذي تباهى بملكاته وسرد مراراً وتكراراً مناقبهن وحكاياتهن وسير السطوة التي حكمن بها أجزاء واسعة من العالم. لكن لمن كانت تحكى الحكاية؟ هل كانت التركة الأنثوية كافية لتتقاسمها السوريات فيعبرن بها حرباً أو أكثر؟ هل كان لدى هؤلاء النسوة كما يظهر في أغلب المسلسلات علبة خشبية يخبّئن فيها قطعة ثمينة من الذهب تخرج للضوء عند اشتداد الأزمات؟

ربما نعم، الأمر ليس سراً ولا علبة مخبأة في صندوق العرس، وليس استعارة أدبية درامية تحاول توصيف الحالة النسوية السورية على أنها جبروت جاء من العدم. هناك تحوّل حصل على مراحل في البيئة الاجتماعية السورية، لكن المراحل لم تكن بطيئة، كانت انكسارات دراماتيكية ضخمة، شروخ على امتداد المحددات الأفقية للمجتمع، ولا يمكن الجزم إن كانت طبيعة المرأة بشكل عام أو العوامل الأخرى المحيطة بها هي ما جعلها أكثر مرونة في التجاوب مع التغيرات المتسارعة. فخلال أشهر قليلة فقط تقدمت المرأة إلى الصفوف الامامية فيما يتعلق بإدارة المتطلبات الحياتية الأساسية، لأن عدداً كبيراً من الرجال تغيب عن الساحة، وهذا العدد استمر في الازدياد وبالتالي تزايد عدد النساء اللواتي بدأن يتولين مهمات جديدة.

لم نسمع أحاديث كثيرة حول هذا الأمر. لم تحدث جلبة حول وقوف النساء الطويل في طوابير الخبز وكيف يجدن طريقهن إلى مراكز دفع الفواتير ويقمن بتركيب جرات الغاز. كان انتقالاً سلساً وصامتاً في البداية، لكن كثيرات من بينهن فقدن أزواجهن وإخوتهن وآبائهن وأدركن أن هذا الحال ليس مؤقتاً. ثم دون كثير من التفكير ودون وضع تسمية خاصة بكل مرحلة، انتقلن إلى طوابير البحث عن العمل، وتفكيك حيثيات معيشية مثل العيش وحيدات مع أبنائهن أو العودة إلى جناح الأسرة الأكبر، وهذا ما كان ليكون مفروضاً ومسلّماً به لولا أن مخيم العائلة أيضاً كان يعاني من تشققات خطيرة ومخيفة في سقوفه، فترك في أحيان كثيرة للنساء أن يتدبرن أمرهن، على طريقة “مجبر أخاك لا بطل”.

هناك قصص كثيرة يمكن للمرء أن يرويها في هذا الصدد. قصص نساء عشن في قرى بعيدة كل البعد عن مراكز المدن وعن صخب الحياة فيها. منهن من توقّفت في تعليمها عند المرحلة الابتدائية، وبعد وفاة زوحها، حصلت على وظيفة لم يكن يخطر لها الخوض فيها لولا هذه الظروف.

سمعت عن سيدة في حمص لا تملك سوى شهادة الصف السادس (هذا إن صحت تسميتها شهادة)، توفي زوجها وحصلت على وظيفة في مركز المدينة. انتقلت واستأجرت منزلاً وسجّلت ولديها في مدرسة جديدة، ثم تدرجت في السلم الوظيفي صعوداً ووصلت إلى مناصب ذات تأثير مباشر على قيادات سياسية وعسكرية! دخلت الشأن العام من أوسع أبوابه وجعلته بابها الخاص، وصار يطرق هذا الباب مسؤولون ورجال أعمال وقادة مجموعات وغيرهم، طلباً للـ”خدمات” التي يمكن لها تأمينها من خلال “المنصب”.

في مناطق أخرى، كان التغيير الديموغرافي وموجات النزوح الداخلي هو الأثر الأكبر على النساء، الوافدون مثلاً من ريف حلب وإدلب إلى سواحل طرطوس واللاذقية، الوافدون من ريف دمشق إلى قلب العاصمة، حيث تلكأ كل مجتمع في حمل أدبياته إلى بيئته الجديدة، ومنهم من تخفف منها كلياً. انفتحت عيون نساء كثيرات على عوالم جديدة تنقلن فيها بين مراكز الإيواء وبين البيوت المستأجرة بمبالغ كبيرة وبين صالونات التدريب على المهن اليدوية وحياكة الصوف والكروشيه التي انتشرت مثل الوباء عند بداية ظهور المنظمات الدولية في سوريا. انخرطت النساء في مشاغل الحياة التي انقلبت رأساً على عقب وعملن بسرعة على الإحاطة بالواقع الجديد بما أمكن من أسيجة الأمان، وعلى تخفيف وطأة الانتقال. الرجال هم أكثر من عانى من تلك الوطأة ومن أحداث كانت لتحتاج سنيناً وسنين كي تجري لولا تكات ساعة الحرب المتسارعة. بل بالعكس، عانى الرجال من بطء في الحركة على الصعيد الشخصي أمام التضييقات الكثيرة والعوائق التي وضعت أمامهم، منها الخدمة العسكرية ومنها أعباء المواقف السياسية ولقمة العيش وغيرها.

تروي سيدات وافدات من ريف حلب ويعشن حالياً في طرطوس، كيف أنهن لم يحلمن ولا مرة بأن يأتي اليوم الذي تتمكّن فيه من الحديث إلى الرجال بشكل مباشر. وأنهن الآن قادرات على القيام بما كان يبدو مستحيلاً في زمن يبدو غابراً، كالأكل في الشارع مثلاً! وليس من تحت النقاب! كالركوب في الحافلات إلى جانب الرجال! المصافحة باليد! هذه التفاصيل التي ما هي إلا انعكاسات لتغيرات أكبر فرضت واقعاً جديداً مكّن البنات من دخول المدارس وأخّر سن الزواج وقلّل من عدد الزوجات للرجل الواحد. ولحقت بذلك أيضاً تغيرات في شكل اللباس والحركة وأدخلت مفردات جديدة إلى القواميس النسائية كما وضعت في أيديهن أدوات جديدة وامتلكن صوتاً أعلى من الماضي.

يبدو هذا جيداً من بعض النواحي، وأشبه بدفعة إلى الأمام حصلت عليها المراة السورية دون أن تخرج في اعتصامات وتشكل تنظيمات نسوية ومكاتب تنسيق. لكن في العمق، هل حقاً حصلت نهضة في واقع المرأة؟ هل حقاً يمكن تسمية ما تعيشه الآن بمكتسبات الحرب؟ برغم ما يبدو براقاً امام الناشطات النسويات وما يبدو أنها خطوات واسعة على طريق تحرر المرأة فإن الواقع أكثر ظلاماً. إذ لم تنتقل كل الشرائح المجتمعية بذات السرعة وذات الانسيابية، بل شهدت بعض المجتمعات مزيداً من التصلّب كردة فعل على ما تحاول الحرب إجبارهم عليه. بالنسبة للبعض ما يزال خروج الزوجة أو الإبنة إلى العمل هو أصعب ما يمكن تخيّله. ولمواجهة هذا الاحتمال ضاعف البعض عنفه على النساء، وفي حالات الفقر الشديد كان تزويج الفتيات هو الملجأ للتخفف من أعباء الحياة. هناك شريحة واسعة اليوم من زوجات – أو أرامل – الشباب المقاتلين في الجيوش المتعددة. هناك أيضاً شريحة الزوجات المنتظرات لمّ الشمل، وشريحة المتزوجات عبر الحدود. فلا يمكن للمسافر من سورية إلى لبنان مثلاً إلا أن يلاحظ عدد النساء برفقة أطفالهن –غالباً طفلين وأكثر- والواضح أنهن من طبقة فقيرة يحاولن العبور إلى أزواجهن، وغالباً أيضاً ما يتم إرجاعهن خائبات من المعبر الحدودي لنقص في الأوراق أو لعدم اقتناع الضابط المناوب بمنطقية الحجز الفندقي المؤمن على عجل من السماسرة، وبالتالي يلجأن إلى طرق أخرى يهربن عبرها إلى حيث يعمل رجالهن أعمالاً شاقة أصعبها حمل صفة (اللاجئ) التي تزن آلاف الأطنان.

من هنا أعود إلى السؤال الأساسي الذي بنيت عليه فكرة هذا المقال: كيف تبدّلت الهوية النسوية السورية خلال الحرب؟ في الواقع، الإجابة عنه قد تحتاج إلى صفحات وكتب. وكان علينا طرحه قبل وقت طويل. السؤال الأصعب في الأساس هوعن الهوية السورية عموماً ونحن اليوم في سعي حثيث للتنظير لهوية واحدة يمكننا تبنّيها بعد انتهاء الحرب. فهل كان للسوريين عموماً هوية واحدة؟ ولو وجدت، هل تبدّلت ضمن مسار واحد وباطراد زمني معيّن؟ ربما لا. وكذلك الحال بالنسبة للمرأة السورية إذ هل يصحّ القياس عندما يكون المقياس مشوّهاً؟ وهل تستوي معايرة المجتمع السوري اليوم بمنظار واحد؟ التقيت بنساء في قلب دمشق يتذمرن مما آل إليه الحال، ولا يجدن في انخراط المرأة في التعليم أو العمل حالة إيجابية. قد لا يمرّ أسبوع دون أن تجلس بجانبي في الباص امرأة خمسينية أو أكبر، تحدثني عن معاناتها هي التي لم تعتد يوماً على ركوب وسائل النقل العامة، ولم تعتد على حمل أكياس الخضار. تحكي كيف عاشت حياتها “معززة مكرمة” و”كل شي بيوصل لعندها”، ولم تتخيل أن يأتي اليوم الذي يتوزع فيه أبناؤها في شتات الأرض، لتبقى وحيدة مع زوج كهل ومحبط يترك لها أن تتحمّل مسؤوليات كثيرة. يكاد لا يمر يوم دون أن تشتكي لي زميلتي في العمل، المسؤولة عن تنظيف المكتب وإعداد القهوة والشاي من تدهور حياتها والكوارث التي انهالت عليها منذ اعتقال زوجها واختفائه، بدءاً من هرعها بين سجن وآخر بحثاً عنه، وصولاً إلى يأسها وانشغالها بتربية الأطفال الأربعة ثم البحث عن عمل واضطرارها لإخفاء طبيعة العمل عن أهلها وأهل زوجها كي لا “تنكسر عينها أمامهم”.

تتشكل الهوية بناء على المساحة التي يتحرك ضمنها الفرد. تتسع أو تضيق، تتسطح أو تتعمق، وقد لا يتطلب تشكل الهوية وعياً بذاته، لكن تبدّلها أو تسيير هذا التبدل باتجاه معين يتطلب وعياً كبيراً وإدراكاً. هذا ما يبدو أن المنظمات والجمعيات النسوية والناشطات والباحثات وكل المهتمين بشؤون المرأة في سوريا يسعون لتحقيقه. تثبيت المكتسبات التي حصلت عليها النساء وتوعيتهن بالجانب المشرق لها، تدريبهن على تقبل الواقع الجديد وإدارته لصالحهن. صار مقبولاً في سوريا اليوم أن تقول: “بفضل الحرب حصل كذا وكذا…”، نعم بفضل الحرب صارت النساء تعمل وتتعلم وتتكلم وتسكن وحدها غير تابعة لأي سلطة ذكورية. لم يعد ممكناً الرجوع إلى الوراء، لكن بالإمكان السير إلى الأمام.

في منطقة الدويلعة صادفت شابة تعمل في محل خردوات، قالت إنها مشغوفة بعملها وسعيدة به، وإن أحداً لا يستنكر مهنتها الغريبة عادة عن النساء. الجميع يدرك أن المهم في الأمر هو العمل وتأمين لقمة العيش فقط. إحدى السيدات اللواتي نزحن من إدلب وقابلتها في جلسة حوارية أقامتها إحدى الجمعيات قالت لي: “والله عايشة حياة ما كنت أحلم فيها، إذا بيفكر زوجي يرجعني متل ما كنت قسماً بالله إلا أبلغ عليه!”، لا أعرف إن كانت تمزح أو تتكلم بجدية ولا أعرف ما إذا كانت ستبلّغ عنه بالفعل أو لمن ستشتكيه؟ ولم أسألها. اكتفيت بالإصغاء إلى ضحكات النساء حولها يوافقنها بشدّة.

بين هذه السيدة وسيدة أخرى صادفتها تصرخ في وجه الرجال أمام السرفيس لأنهم يسابقون النساء إلى المقاعد وتتحسر على أيام زمان حين كان يقال “السيدات أولاً”، يبدو أن هناك مدى واسع جداً واختلافا بنيويا عميقا، لكن الحقيقة أن السيّدتين تنتميان إلى البيئة ذاتها وتمتلكان نفس المقومات، إلا أن كلاً منهما هضمت التغيير بطريقتها وعبّرت عنه بمفرداتها. تعاطفت مع السيدة الأولى بينما نظرت بشفقة إلى رجل تنازل أمام صراخ السيدة الثانية وابتعد قائلاً: “شو عم تحكي هي؟ هلأ بقي مرا ورجال؟ المهم نركب مو شايفة كيف الدنيا تغيرت؟”.

بالفعل لقد تغيرت الدنيا.

*اللوحة: جورج مكتبي georgemaktabi@

روسيا و “الاستفراد”بجنوب سوريا

روسيا و “الاستفراد”بجنوب سوريا

تحاول روسيا مؤخراً فرض نفسها ووجودها أكثر في مناطق الجنوب السوري خاصة في درعا والقنيطرة، من خلال استمرار الدوريات العسكرية الروسية وزيارات وفود روسية إلى درعا، ودخولها على خط تقديم الخدمات والمساعدات للقطاعات المدنية في المحافظة.
كما زار المحافظة مؤخراً عدة شخصيات روسية رسمية وغير رسمية منهم نائب رئيس مركز المصالحة الروسية الضابط كوليت فاديم والمنسقة بين وزارتي التربية السورية والروسية سفيتلانا روديفينا، ومسؤولين في جمعيات خيرية روسية، وأكد نائب رئيس مركز المصالحة الروسي خلال زيارته إلى محافظة درعا مؤخراً عبر وسائل إعلام محسوبة على دمشق، أن روسيا مستمرة في دعم سوريا ومحافظة درعا على وجه الخصوص.

نشيد… وعلم
وافتتح الجانب الروسي في درعا يوم الخميس 18 تشرين الثاني (نوفمبر) مركزاً لتعليم اللغة الروسية في مدرسة إسماعيل ابو نبوت في مدينة درعا المحطة، بحضور شخصيات حكومية رسمية سورية من درعا مثل قائد الشرطة ومدير التربية ونائب المحافظ، وحضر الافتتاح الجنرال الروسي كوليت فاديم وسفيتلانا روديفينا المنسقة بين وزارتي التربية السورية والروسية وقوات من الشرطة العسكرية الروسية.
حيث ابتدأ الحفل برفع النشيد السوري ثم الروسي، وتخلل افتتاح المركز فقرات فنية وشعرية باللغة الروسية، وعرض مجموعة من رسومات الطلاب تعبر عن التآخي بين الشعبين السوري والروسي، وقدمت نسخة من القرآن الكريم مترجمة باللغة الروسية، ثم ألقى الضابط الروسي كلمة تعبر عن استمرار الدعم الروسي للمركز الذي سوف يشمل عددا كبيراً من الراغبين في تعلم اللغة الروسية، وسيتم دعم المركز بالتجهيزات الحاسوبية والمراجع الأدبية لتعلم اللغة الروسية. واعتبرت اكسانا غنيم أن تعلم اللغة الروسية مسألة مهمة لتعميق العلاقات الثقافية والتاريخية بين الشعبين مبينة أن المركز سيوفر المكان المناسب لممارسة الهوايات في مجال الشعر والفنون والرسم.
كما قدم الجانب الروسي مؤخراً إلى المستشفى الوطني فى مدينة درعا السورية شحنة مساعدات طبية وغذائية روسية، أرسلتها إدارة شؤون الرئيس الروسي، تضم فرشات وبطانيات وأغطية وبعض اللوازم الطبية وأدوات التعقيم ومولد كهربائي بطاقة ألف كيلوواط، لضمان استمرار عمل المستشفى والمعدات فيه، لا سيما مع الضغط الكبير الذي تشهده المشفى مع تزايد حالات الإصابة بفايروس كورونا في درعا.
كما أرسل الجانب الروسي مولدا كهربائيا للمستشفى الوطني في مدينة إزرع شمال درعا، وحضرت الشرطة الروسية برفقة بعثة من الكنيسة الروسية ورابطة المحاربين القدماء وجمعية الإخوة الروسية إلى مدينة بصرى الشام بريف درعا الشرقي، وقدمت مساعدات إنسانية ومستلزمات مدرسية للمجمع التربوي في المدينة تضمنت قرطاسية وحقائب ومعاطف لعدد من طلاب المدارس، إضافة إلى أنها قدمت أدوية وبعض المستلزمات الطبية لمشفى بصرى الشام، واطلعت على واقع المشفى في المدينة.
من جهته، أكد المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، ضمن فعاليات أعمال المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين والمهاجرين السوريين، أن «روسيا ستواصل تقديم المساعدة للشعب السوري بهدف تحسين الوضع الاقتصادي والإنساني، وهناك الكثير من العمل الدؤوب في هذا المجال مستقبلاً». وذلك بحضور ممثلين عن منظمة الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمنظمات الإنسانية. التي نشطت مؤخراً في درعا وخاصة في مجال الخدمات الإنسانية كترميم المدارس المدمرة خلال السنوات الماضية، وبناء مرافق صحية واقامة مشاريع زراعية كحفر الآبار وغيرها.

انفراد روسي
وفسر ناشطون في درعا ذلك بالرغبة الروسية بالانفراد بادراه المنطقة الجنوبية خاصة درعا بعد طرحها للتسويات الأخيرة، وسحب السلاح الخفيف والمتوسط من المنطقة، واعطاء صلاحيات أمنية جديدة للقوات الحكومية بملاحقة المطلوبين والرافضين للتسوية في المنطقة الجنوبية، وانهاء حالة التشكيلات والمجموعات العسكرية المسجلة لدى الأجهزة الأمنية أو الفرقة الرابعة أو الفيلق الخامس وتوحيد تبعيتها مؤخراً لإدارة المخابرات العسكرية، وتشكيل قوة عسكرية كبيرة وذات تبعية واحدة موالية لها في جنوب سوريا، تبعد أي منافسين لها في المنطقة.
ويرى مراقبون أن روسيا وإيران لا تتنافسان جنوب سوريا، وان “التعاون موجود في سوريا وحتى روسيا استخدمته مؤخراً في مشاركة قوات موالية لإيران في معارك درعا البلد قبل تطبيق التسويات الأخيرة، وهي نفسها من طلبت بانسحابها عند انتهاء مهمتها، فالتعاون بين الدول الحليفة لسوريا قائم ولكن روسيا تعارض إيران عند مصالحها في سوريا، وباعتبارات إقليمية وتعهدات روسية عام ٢٠١٨، بإبعاد ايران عن المنطقة الجنوبية، دفعت روسيا إلى ابراز سيطرة النظام الفعلية وايجاد قوة عسكرية لها في المنطقة وحكمتها مؤخراً بتبعية عسكرية واحدة تناسب النظام وتحت إدارتها وتناسب أبناء المنطقة الجنوبية الذين يفضلون البقاء في المنطقة وعدم المشاركة بأعمال عسكرية خارج المحافظة”.
فعلياً وبشكل علني لا تواجد لتشكيلات أو قوات عسكرية موالية لإيران و “حزب الله” في درعا، وإيران وحزب الله متواجدة في سوريا حتى قبل عام ٢٠١١، والظهور العسكري العلني هو ما أثار المخاوف من هيمنتها على المناطق السورية، وبقي جنوب سوريا المنطقة الأكثر حساسية بنسبة للدول الإقليمية والخليجية باعتباره بوابه سوريا الجنوبية، واستحسنت الدول فرضية سيطرة النظام على الجنوب السوري مقابل عدة تفاهمات أجرتها روسيا مع دول المنطقة قبيل السيطرة عليها عام ٢٠١٨ وكان أولها إبعاد إيران عن المنطقة، فتحاول روسيا اخذ ضمانات أكثر لسوريا أو تطبيع أكثر وإعادة قبول النظام السوري، مقابل استخدام ورقة إبعاد إيران عن المنطقة، وبالتالي إيران ووكلائها في المنطقة طالما اعتبروا سوريا صلة الوصل سابقاً مع العالم العربي، والتفاهمات أو المفاوضات الإيرانية العربية والعالمية الأخيرة تقرب المسافة من رغبات إيران بعدم دخولها بحرب ولو بالوكالة، ولن تعارض أن تكون سوريا نقطة لقاء جديدة بينها وبين الوسط العربي الذي يرغب بإبعاد إيران عن جنوب سوريا.
ولأن روسيا تشكل ثقلاً سياسياً وأمنياً وعسكرياً بالنسبة لسوريا، أن روسيا هي الدولة الوحيدة القادرة على ضبط الأمور السورية وإيقاف تسرب الممنوعات البشرية أو الاصطناعية حيث إن هناك القاعدة وداعش، هذا بالإضافة إلى قوات أجنبية كثيرة، والمخدرات والحشيشة، وقد تثق الجهات الدولية بروسيا أكثر بالحفاظ وضبط الحدود وهذا ما يرجح الكف الروسي جنوب سوريا على القوى الثانية في سوريا.

سوري نجا من “الجحيم”… وآخر عالق في بيلاروسيا

سوري نجا من “الجحيم”… وآخر عالق في بيلاروسيا

«أفضّل الموت هنا على العودة إلى الجحيم. حتى إن عنصر الشرطة في مطار دمشق سألني عن وجهتي، وما إذا كانت ألمانيا أم هولندا، ثم قال لي: نيّالك. ليتني كنت معك». هذه خلاصة ما قاله «فؤاد»، وهو اسم مستعار لشاب سوري عالق في بيلاروسيا منذ وصوله إلى منسك في 28 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. خوف هذا الشاب، و5 من «أصدقائه الجدد»، دفعهم للتواصل مع «سماسرة عرب» بحثاً عن «مخرج من هذا الفخ» بين عدم القدرة على العبور إلى بولندا الأوروبية، وبين الخوف من «الوقوع» في أيدي السلطات البيلاروسية لإعادته إلى سوريا.
أما «رفيق»، فكان بين المحظوظين الذين غادروا «الكابوس السوري» وقبضوا على «الحلم الأوروبي». فبعدما وصل إلى الحدود «جاء 6 جنود بيلاروس ضخام، رفعوا الأسلاك الشائكة لنا، وأشار أحدهم إلى بولندا، وقال لنا؛ اذهبوا، حظاً سعيداً». وبالفعل، وصل «رفيق» ووالده وآخرون إلى ألمانيا. ويقول نبيل: «المخاطرة تستحق، لن أعود إلى بلادنا في حياتي».

– كيف بدأت قصته؟
«فؤاد»، شاب كان يعيش في دمشق. تخرج من الجامعة قبل سنوات، وعمل لفترة قصيرة براتب لا يسد الحد الأدنى من كلفة العيش مع تدهور سعر صرف الليرة السورية إلى 3 آلاف مقابل الدولار الأميركي، ثم فقد عمله المتواضع وفقد معه الأمل. صار همه السفر إلى خارج البلاد. تواصل مع مكتب للسياحة والسفر في وسط دمشق مرخص من الحكومة، واستدان مبلغاً من أقاربه ودفع 3600 دولار للمكتب للحصول على تأشيره إلى بيلاروسيا. الصفقة تشمل التأشيرة وأجرة رحلة السفر عبر شركة «أجنحة الشام» وحجزاً في فندق في مينسك لبضع ليالٍ.
تأخرت التأشيرة من السفارة البيلاروسية بدمشق، لكنها وصلت. وخلال فترة الانتظار، اتصل «فؤاد» بقريب له كي يرتب أمور الاتصال مع مهرب من مينسك إلى حدود بولندا. ترتب الأمر، ودفع 2500 يورو. كان محظوظاً لأن آخرين دفعوا للمهرب 10 آلاف يورو لكل شخص. تبلغ «فؤاد» وصول التأشيرة، فجمع حاجاته البسيطة في حقيبة، ووضع هاتفاً نقالاً و1000 دولار في جيبه. وفي الساعة التاسعة من صباح 27 أكتوبر، تسلم الفيزا في مكتب السياحة المكتظ بعشرات الباحثين عن «الحلم الأوروبي»، أو «الخروج من الكابوس السوري». وركبوا الباص إلى مطار دمشق. يقول: «وصلنا إلى نافذة مسؤول أمن الحدود. تحقق من وجود تأجيل عن الخدمة العسكرية الإلزامية وجواز السفر، ثم سألني؛ إلى أين أنت ذاهب؟ ألمانيا؟». ثم أضاف: «ليتني كنت معك. نيّالك».
عبر «فؤاد» خط التفتيش الأمني ووصل إلى منصة الدخول إلى الطائرة؛ حيث كان عناصر الأمن التابعين لـ«أجنحة الشام» بالانتظار. كانوا ينتقلون من «مسافر» إلى آخر، طالبين منهم تسليمهم الأوراق النقدية السورية. يقول: «كانوا يفتشون كل واحد منا. أخذوا رزماً كثيرة من الأوراق النقدية السورية».

– راعٍ ورعية
كان على متن الطائرة نحو 200 شخص، معظمهم من الشباب، وبعض العائلات. وصلوا إلى مينسك بحدود الساعة السابعة مساءً. وعندما حطت الطائرة، جاء باص ونقلهم جميعاً إلى مبنى المطار. صعدوا إلى الطابق العلوي؛ حيث كانت «الصدمة. كان كل العالم هنا. شباب وعائلات من العراق وأفغانستان وسوريا ولبنان».
هنا، كانوا على موعد مع الانتظار والأمن البيلاروسي. بعد ساعات وساعات، جاء رجل أمن و«قادنا كالبقر. كان يسير في رأس الرتل، أمام نحو 200 شخص. كان يقودنا يساراً ويميناً، إلى أن وصلنا إلى قاعة»، حسب «فؤاد». ويضيف: «هناك أخذوا من كل شخص هاتفه النقال. وسجلوا الرقم التسلسلي له مع جواز السفر، كي يراقبونا على الأغلب». بعد ذلك، ينتقل كل شخص وحده إلى حاجز التفتيش للتأكد من جواز السفر والهاتف والفيزا، مع أخذ بصمة العين. استمرت هذه العملية وقتاً طويلاً.
ولدى الخروج من المطار في فجر 28 أكتوبر، كان هناك باص نقل الواصلين إلى الفنادق، التي كان المكتب السياحي في دمشق، تكفل بالحجز فيها. قليل من هؤلاء أمضى ليلته في الفندق، فيما توجه كثيرون فوراً إلى حدود بولندا وفق ترتيبات مسبقة مع مهربين. ويشرح «فؤاد»: «المهرب عادة، يرسل نقاط تنقل معينة على الهاتف النقال، وكل شخص يلتحق بهذه النقاط للوصول إلى الحدود ويقطع نحو 390 كيلومتراً، ثم تأتي مرحلة عبور الأسلاك الشائكة، ثم الوصول إلى بولندا».

– الحدود
عندما وصل فؤاد، تغير المزاج البيلاروسي، من «رفع الأسلاك لتسهيل عبور المهاجرين إلى بولندا، إلى ضربهم وإعادتهم إلى العاصمة». ويقول «رفيق»: «هناك قام رجال الجيش البيلاروسي برفع الأسلاك الشائكة وتشجيعنا للعبور إلى بولندا». ويضيف: «قام جندي ضخم برفع الأسلاك، وقام آخر بضرب الجنود البولنديين بالحجارة كي نعبر دون أن يرونا». عبر بعض المهاجرين، فيما تجمع نحو 1000 شخص على الحدود، وسط تفاقم الأزمة السياسية بين بيلاروسيا ودول أوروبية.
تجربة «فؤاد» تختلف عن «رفيق». الأول، تعرف على شباب سوريين آخرين جاؤوا إلى بيلاروسيا. وهو من دمشق، لكن مجموعته ضمت شباباً من وادي النصارى في حمص، وإدلب والساحل. كل واحد منهم كان قد رتّب أمر الانتقال إلى الحدود. وجرب فؤاد مرات عدة الانتقال من العاصمة إلى الحدود، ودفع 100 دولار. وفي كل مرة كان يصل إلى مبتغاه، ثم يقع بين أيدي الجيش البيلاروسي. يقول: «اتفقنا مع مهرب على دفع 2500 يورو لنقلنا من بولندا إلى ألمانيا بعد الالتقاء في نقطة معينة، ثم اتفقنا مع تاكسي. ودفع كل واحد 100 دولار، لكن السائق تركنا قبل 20 كيلومتراً من الحدود. مشينا في الغابات، وكان كل واحد منا يحمل معه حقيبة بوزن 15 كيلوغراماً، فيها مياه وأكل وخيمة للنوم. وعندما وصلنا إلى الحدود، جاء عسكر بيلاروسيا، وصوّرونا، وطلبوا مساندة من ضباط وجنود ضخمين. اعتقدنا أنهم سيرفعون الأسلاك أمامنا كما سمعنا. لكن، فجأة بدأ أحدهم بضربنا بالبندقية، وفتحوا الحقائب وفتشوا عن سجائر سورية وأخذوا بعضها، ثم طلبوا منا العودة. وبالفعل، مشينا 20 كيلومتراً، إلى أن وجدنا تاكسي، وعدنا إلى مينسك».
في طريق العودة إلى العاصمة، تواصل «فؤاد» مع «سمسار عربي» آخر كان تعرف عليه أمام الفندق حيث ينتشر كثير من «السماسرة العرب». رتّب لهذه المجموعة استئجار قبو في بناية للستة، ووعدهم بتكرار المحاولة. يقول «فؤاد»: «سمعنا أن طائرة تابعة لـ(أجنحة الشام) ستأتي إلى منسك في 28 من الشهر لإعادة مجموعة منا إلى دمشق. كلنا قررنا أننا لن نعود إلى الجحيم». ويضيف: «لقد استأجرنا شقة أمس، لشهر، بـ1000 دولار، بانتظار واحد من حلّين؛ إما أن نعبر تهريباً إلى بولندا، أو أن نذهب إلى موسكو، ومن هناك نأخذ تاكسي إلى فنلندا ثم أوروبا، حسب ما وعدنا أحد السماسرة العرب».

* نقلا عن “الشرق الأوسط”

في سجن “الدواعش” شرق سوريا

في سجن “الدواعش” شرق سوريا

مالك الشاب السوري البالغ من ثلاثين عاماً المتحدر من مدينة الباب بريف حلب الشرقي، “نزيل” مستشفى سجن الثانوية الصناعية مشددة الحراسة في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا، يبدأ رواية قصته من أن العام 2014 سيبقى “تاريخاً محفوراً” في ذاكرته طوال عمره بعدما تغيرت مسيرة حياته رأساً على عقب. يعتقد بأنه سيدفع ثمن هذه التجربة طوال عمره حيث شن جهاديو تنظيم “داعش” المتطرف أكثر من 100 هجوم انتحاري على مسقط رأسه، آنذاك ذاعت سمعته بالترهيب والقتل والأجرام وسقطت الكثير من المدن والبلدات سريعاً دون مواجهة في قبضته، الأمر الذي دفع هذا الشاب وغيره القتال الى جانب التنظيم وانتهى بهم المطاف أما أسرى في غياهب هذا السجن؛ أو انهم قتلوا.

طيران التحالف
في غرفة طبية داخل مستشفى السجن، جلس مالك وهو ضخم البنية ذو شعر كثيف، ظهرت يده اليمنى مربوطة بالجبسين تبدو مكسورة. قال ان يده وقعت بعد حادث تدافع أثناء أعمال عنف وشغب وقعت بداية الشهر الحالي. وعلى الرغم من صغر سنه، فان الشيب غزا شعره. ولدى حديثه إلى لـ “صالون سوريا”، حاول استرجاع بداياته، ليقول: “نعم شاهدت كيف قام عناصر التنظيم بالذبح وقطع الرؤوس وتنفيذ التفجيرات. وبعد سيطرتهم على الباب كثف عملياته الانتحارية عبر أحزمة ناسفة وعلى متن الدراجات النارية وبعض هذه المشاهد رأيتها بأم عيني”.
وبعد توسع حروب التنظيم في الأراضي السورية ووصوله الى مدينة إدلب غرباً وحلب شمالاً ودمشق، إضافة الى مدن تدمر وحمص وسط البلاد، أكد هذا المقاتل أن الكثير من قادة التنظيم أدركوا حينذاك أنهم “خرجوا عن المسار الدعوي الجهادي”. وعن المعركة التي قسمت ظهر التنظيم المتشدد علق قائلاً: “كانت معركة عين العرب (كوباني) بعد دخول طيران التحالف الدولي للمعركة التي الحقت الهزيمة بالتنظيم، وقتها لو أكملت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وشنت هجوماً على باقي المنطقة سيما الرقة لاستسلم التنظيم في معقله الرئيسي”.

الارض فراش
في جناح مشفى سجن الصناعة بالحسكة، أفترش أكثر من 500 مصاب ومريض الأرض أو كانوا يرقدون على أسرة قليلة. بعضهم، نام تحت السرير وهذا المكان عبارة عن عنبر كبير بالإمكان مشاهدة أكياس من الخبز الطازج أو المجفف معلقة على الجدران. وتحولت علب المواد الغذائية مثل الزيت والحلاوة والطحينية إلى كاسات لشرب المياه أو مخصصة لرمي النفايات. هنا يمنع بإدخال أي مواد قاسية حديدية او زجاجية خشية من تنفيذ استعصار او الهجوم عل عناصر الحراسة بالسجن.
وجميع نزلاء المشفى كانوا يرتدون زي موحد برتقالي اللون، لكن البعض قاموا بتحويل البطانيات والأغطية الى ملابس بلون رمادي داكن مصنوعة يدوياً للحماية من برودة الطقس.
ومنشأة سجن الثانوية الصناعية بالحسكة من بين 7 سجون منتشرة في شمال شرقي سوريا يحتجز فيها عناصر كانوا ينتمون إلى التنظيم، تخضع لحراسة وإدارة قوات “قسد”، ومراقبة ودعم مالي من التحالف الدولي بقيادة واشنطن. وتشير إحصاءات إدارة السجون بالإدارة الذاتية إلى وجود نحو 12 ألف شخص كانوا ينتمون إلى صفوف التنظيم المتشدد، بينهم 800 مسلح يتحدرون من 54 جنسية غربية، وألف مقاتل أجنبي من بلدان الشرق الأوسط، على رأسها تركيا وروسيا وشمال أفريقيا ودول آسيوية، بالإضافة إلى 1200 مسلح يتحدرون من دول عربية، غالبيتهم قدموا من تونس والمغرب، كما يبلغ عدد المتحدرين من الجنسية العراقية نحو 4 آلاف، والعدد نفسه يتحدرون من الجنسية السورية.

نادم… وينتظر
في غرفة للتحقيق تابعة لإدارة السجن، جلس التونسي مصطفى ودخله عامه الثاني بعد الثلاثين ينحدر من مدينة صفاقس الواقعة جنوبي تونس. يقول إنه كان يعيش في مدينة سوسة المطلة على البحر الأبيض المتوسط، حيث منزله يقع على بعد أمتار من شواطئ البحر وكان يهوى ارتياد المقاهي والحفلات ويقضي معظم وقته برفقة أصدقائه وأبناء الجيران.
شاب نحيل البنية قصير القامة ذو لحية وشعر أسود اللون. بقي صامتاً ولم يبد أي تعليق عندما سُئل عن مشاهد القتل التي طالت مئات الصحافيين والمتطوعين الغربيين والناشطين السوريين الذين فُصلت رؤوسهم عن أجسادهم، لكن تحدث بحماسة عن “طريق الجهاد” ليقول: “يجب على المرء ان يفكر مائة مرة قبل سلوكه، لم تكن هناك خطط واضحة لي في الحياة والكثير من الأمور اعترضت طريقي، والنتيجة أنا سجين ومحتجز هنا”، لافتاً ان أكثر الأشياء التي يستطيع التحدث عنها بإيجابية تعرفه على زوجته، وأضاف: “أحب زوجتي وانجبت منها طفلين وهذا أكثر أمر إيجابي بحياتي، اما باقي الأمور لست راضي عنها لكن لا استطيع تغير شيء”.
ونقل التونسي إنه كان يعمل في المكتب الإعلامي للتنظيم ينتبج التقارير والمواد المصورة المرئية وينشرها على حسابات التنظيم، إضافة الى إعداد كتيبات وأوراق دعوية تنشر بين صفوف المقاتلين وعوائلهم. أدعى كيف حاول الهروب أكثر من مرة برفقة زوجته وأطفاله وقبض عليهم بتاريخ بداية 2019، ومن أصعب الذكريات المثقلة لديه لحظة أخبار والدته وصله الى سوريا سنة 2012، وقال: “أغمي على والدتي وتوسلت كثيراً بالعودة للمنزل والعدول عن قراري، ما كان في مجال أبداً وفي كل مرة أتصل بها مع والدتي تقول لي يجب ان تعود للمنزل”.
وأعترف ان أصعب لحظة ستكون لديه عندما يلتقي بها مكبل اليدين ومتهم بـ “دعوى إرهابية”، ليقول: “صفحة الجهاد طويت عندي والسنوات كانت كافية حتى أتخذ قراري هذا، انتظر معرفة مصيري وعائلتي بعد خروجي من السجن لكن حتماً سأكمل حياتي بشكل طبيعي”.

زحمة… وأبواب
داخل إحدى الزنازين، مهاجع مكتظة موصدة بأبواب مطلية بلون أخضر مرقمة بأحرف إنجليزية، إحداها بلوك (C4) وكتب عليها رقم 120 حيث أشار الحارس إلى عدد نزلائه. بداخلها رجال لحاهم طويلة بملامح أوروبية وروسية وآسيوية وعربية وتركية، قدموا من آلاف الكيلومترات للعيش في وهم طالما حلموا بتحقيقه، بينما أضواء المكان كانت خافتة مع صعوبة وجود بقعة فارغة بسبب تمدد الرجال على الأرض أو الوقوف بجانب الجدران لزحمة المكان، بعضهم كان يقوم بحك جلده وكثيرون منهم ناموا على فراش بسيط وآخرون انتظروا عند باب الحمام الوحيد.

الخوف من الاعدام
في مجموعة ثانية مكتظة، ظهر رجل طويل بلحية غير مهذبة وشعر أشعث كثيف يبدو أنه روسي الجنسية من ملامح وجهه. كان يلبس سترة مصنوعة من أغطية السجن، قال بمفردات عربية ركيكة إن ظروف احتجازه هي “صعبة للغاية وأنه لا يرى الشمس ومتى سأخرج من هنا”، وبحسب حراس السجن، يخرج هؤلاء في كل أسبوع مرة واحدة ولمدة ساعة لساحة مخصصة للترويض.
وتساءل سجين عراقي هل سيتم تسليمه إلى حكومته حيث تنفذ أحكام الإعدام، ووقف عند الباب ليقول: “أخاف تسليمي للحكومة العراقية والميلشيات الشيعية، قاتلنا لجانب التنظيم خشية من هذه الجماعات، أملي تسليمي لدولة ثالثة او محاكمتي هنا على نقلي للعراق”.
وبعكس مطالب هذا السجين العراقي، قال أخر فرنسي الجنسية من أصول مغربية أنه سلم نفسه برغبته الى قوات التحالف، مضيفا: “لقد قمت بتسليم نفسي وأتحمل العواقب، على حكومتي إعادتي ومحاكمتي أمام قضاء بلدي”.
وحسب إدارة السجون ومسؤولي الإدارة لم يسبق لهؤلاء المحتجزين الخضوع لعمليات استجواب أو تقديمهم للقضاء، وهم منقطعون عن العالم الخارجي ولا يعرفون التطورات الميدانية التي شهدتها المنطقة خلال فترة احتجازهم، التي مضى عليها عامان ونصف العام، ويخضع لرقابة صارمة على مدار 24 ساعة عبر تفقدهم ومراقبتهم بكاميرات ضوئية وحرارية، وأجهزة لاسلكية متطورة لتتبع تحركاتهم وتصرفاتهم.

لغة فصحى
وفي غرفة التحقيق سمحت إدارة السجن بمقابلة مواطن ألماني تحدث بلغة عربية فصحى، ورفض ذكر أسمه أو مهامه القتالية في صفوف التنظيم. وبحسب ملفه كان رامي سلاح رشاش (بيكيسي) حيث سافر نهاية 2012 جواً الى مصر ومنها أكمل الرحلة نحو تركيا ودخل الى مدينة إدلب غربي سوريا عبر شبكة أسماء وهمية. خضع وقتذاك لـ “دورة قتالية وشرعية”، وبقي هناك قرابة عام وبعد انقسام “جبهة النصرة” (التي سمت لاحقا بهيئة تحرير الشام) عن تنظيم “داعش”، التحق بصفوف الأخيرة وقصد مدينة الرقة التي كانت يومذاك العاصمة الإدارية للتنظيم، ويعزو السبب الى انه “رفض تسميته بالتنظيم. لقد كانت دولة والراية والمنهج واضح لذلك أخترت القتال الى جانبها، وأكثر من 90 بالمائة من المهاجرين التحقوا بها”.
وبعد 3 سنوات من قدومه الى سوريا وتحديداً سنة 2015 دخلت حياته مواطنه ألمانية تعرف عليها عن طريق مكتب الزواج، وقال ان أحدهم دله عليها وقرر الزواج بها. واضاف: “كانت قبل سفرها لسوريا مطلقة ولديها أبنة، عشنا بالرقة وأنجبنا طفل هناك، وبعد عام تزوج من عراقية وأنجبت طفل ثاني منها”، وعن زواجه الثاني ارتسمت على وجهه الهادئ ابتسامة ليقول: “الشرع حلل الزواج من أربعة شرط العدل، فقررت الزواج من عراقية لتمتين العلاقة بين الأنصار والمهاجرين”.
وهذا الألماني والعراقي والتونسي والسوري وجميع القابعين في سجون تقع شرقي الفرات كانوا مقاتلين في صفوف التنظيم واستطاع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، بالتعاون مع “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية – العربية، في مارس (أذار) 2018 القضاء على آخر جيوب (داعش) في بلدة الباغوز شرقي دير الزور الواقعة أقصى شرق سوريا، معلناً تحرير جميع المناطق التي كان يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق منذ 2014.
آنذاك نقل الرجال إلى سجون ومحتجزات فيما أخرجت النساء والأطفال إلى مخيمي “الهول” و “روج” للنازحين بمدينة الحسكة. أما الأطفال الذين تجاوزت أعمارهم 10 سنوات فرحلوا إلى سجن الأحداث في قرية تل معروف التابعة لمدينة القامشلي شمال شرقي سوريا.