بواسطة طارق علي | نوفمبر 10, 2021 | Cost of War, غير مصنف
بيدين راعشتين، يخرج أبو أحمد ورقة نقدية من فئة ألفي ليرة سورية. يمسكها بحذر الخائف من السرقة، والحريص على ما يبدو أنّه آخر ما بجيبه. يتفحص الرجل السبعيني أقراص الفلافل، وهي تقلى من أمام واجهة أحد المطاعم الصغيرة في مدينة جرمانا بريف دمشق.
ينقل عينيه بين زبونين ينتظران دورهما، ينصت باهتمام لسؤال عابر من جواره، “كم سعر السندويشة؟”، يأتي الجواب: “1300 ليرة”، يتحسس العجوز ماله من جديد، وتبدو ملامحه وكأنّه يجري عملية حسابية بسيطة ومعقدة في آن، يسأل صاحب المطعم: “هل يمكنني أن آخذ سندويشتين بألفي ليرة”، يجيبه العامل: “نعم ولكن بعدد أقراص فلافل أقل”، يقول أبو أحمد: “لا بأس، واحدة بلا مخلل والثانية زيادة بندورة، لو سمحت”.
“لو سمحت”، بكل انكسار الكون يقولها الرجل السبعيني وبكل ما أوتي من عزة نفس مزقتها ظروف الأيام وأحوالها، أبو أحمد الذي عاصر أحداث “الإخوان المسلمين” نهاية سبعينات القرن الماضي، يقول لـ “صالون سوري”: “لم يحصل هذا وقتذاك، لم نجع أو نتشرد أو ننم دون طعام، لم نقف على واجهات المحال نشتهي ونتمنى، آخ على هذا البلد”. ببحة وقهر يقولها أبو أحمد، ويمضي ليأخذ سندويشتيه داخل كيس أبيض، على عكس ألوان أيام حياة السوريين، “تنتظرني أم أحمد في المنزل، اليوم قررت أن أدللها وأن نستعيض عن الزعتر واللبن بالفلافل، من حسن الحظ وسوءه في آن أنّه ليس لدينا أولاد”، وعن آخر مرة تناولا فيها اللحوم، يقول: “كان ذلك قبل أربعة أشهر حين كنا مدعوين لدى ابن عمي”.
وفي دمشق أيضاً
لا يبدو الحال في دمشق أفضل بأي شكل. سيدة في عقدها الرابع تقف على واجهة محل لبيع الألبان، في حي الشيخ سعد التجاري، على مقربة من وسط العاصمة، تراقب وتتمعن بالأسعار المعروضة، على الواجهة وضعت أسعار تقول أن كيلو الجبنة البلدي بـ 9400 ليرة سورية، والمغلية بـ 10000 والعكاوية بذات السعر، أما الشلل حب بـ 18000 ليرة، وكذلك المالحة والحلوة وحلوم، أما القشقوان فسعرها 19500 ليرة.
“حقيقةً وقفت مصدومة لهول الأسعار، بدايةً كنت أفكر بشراء بعض الجبن بألفي ليرة لزوم الإفطار والعشاء ربما، نحن خمسة أشخاص في المنزل، ولكن في ظل هذه الأسعار من الجيد أن يسمح لي بتذوق الجبنة فقط بألفي ليرة، يبدو أنّنا سنتناول الزعتر وبعض المكدوس أيضاً ليوم آخر”، تقول السيدة.
ولما أسمته شدة فضولها راحت تسأل عن أسعار الدجاج، رافقها “صالون سوري” ليرى طبيعة الأسعار فعلاً، ليتبين أنّ سعر كيلو الفروج 7400 ليرة، الشرحات 11500، الدبابيس 7100، وكيلو الجوانج 5400، هنا لم يكن من الضروري مراقبة ردات فعل السيدة وهي تقرأ، فكل ما كانت ستحسه كان واضحاً وجلياً يمكن لمسه وقراءته على جبين السوريين، السوريين الذين يبلغ متوسط راتب أفضل موظف فيهم سبعين ألف ليرة سورية، مبلغ بالكاد يكفي بضعة أيام، وبقية الشهر يقضيها السوريون بالشح والاستدانة و”تدبير راسهم”.
طعام اليوم
بحسبة اقتصادية سريعة، إذا أرادت عائلة مكونة من خمسة أفراد، تقليص وجبات طعامها الرئيسية من ثلاث وجبات إلى وجبتين فقط، وأن تقتصر هاتان الوجبتان على الفلافل، فستحتاج العائلة لـ 6500 ليرة على الفطور، ومثلها على العشاء، أي ما يعادل 390000 ألف ليرة ثمناً للفلافل فقط في الشهر، أي نحو خمسة أضعاف الراتب، وهذا دون دفع أي مصاريف للطبابة والمدارس والجامعات والفواتير وأجار المنزل والإصلاحات البسيطة وأجور النقل والملابس والخضار والفواكه… والخ
إذن، فإنّ راتب الموظف الحكومي يكفي في ظل هذه المعطيات ثمن فلافل لخمسة أيام بالضبط، لتبدأ رحلة يطلق عليها الشوام اسم “الحربقة” وتعني بصورة مبسطة “تدبير الراس”، لإيجاد طرائق وبدائل لإمضاء الشهر، قد تبدو المهمة مستحيلة حقاً، لكنّ السوريين خبروا أيام الفقر هذه، وعاينوها عن قرب، ووجدوا أساليب متعددة للتعايش معهما، بأقلّ القليل.
أكثر من عمل
سالم موظف حكومي ويعمل بعد الظهر سائق تكسي في دمشق، يخبر “صالون سوري” أنّه يعمل لدوامين متتاليين، فيعود إلى منزله بعد الحادية عشر ليلاً كل يوم، “أخرج صباحاً في السابعة والنصف، بالكاد أعود آخر اليوم لأرى زوجتي وطفلتي قليلاً، وأتعشى، ثم أنام فوراً، هذه حياتي وهذا شكلها، كذلك زوجتي تعمل من داخل المنزل في مهنة الخياطة، لا أقول أنّ دخلها سيء للغاية ولكنّه بالتأكيد ليس جيداً، إلّا أنّ دخلي ودخلها معها مجتمعين بالكاد يغطيان مصاريفنا الأساسية يضاف إليهما أجار المنزل المرتفع ومصاريف الطفلة الصغيرة”.
المشكلة بالدخل لا بالأسعار
تضحك ميرنا (طالبة جامعية) حين سؤالها عن انخفاض سعر الموز الذي وصل إلى أربعة آلاف بعد أن كان عشرة آلاف قبل أيام قليلة، “يبدو أنّ المشكلة ليست في سعره الذي انخفض، فرغم انخفاضه لا زلنا غير قادرين على شرائه، المشكلة في دخلنا، أنا أعمل بعد جامعتي في محل للمكياج براتب 60 ألف، ووالدي موظف، أما والدتي ربة منزل، ولدي أخوان، لولا أنّنا جميعاً نعمل، لما كنا تمكنا من الإكمال ولو بالحد الأدنى، وأقول الحد الأدنى لأنّ مرتبي كما هو، وفوقه مبلغ من إخوتي حتى يكفيني ثمن مواصلات وبضع محاضرات فقط، هل تعتقد أنّ زملائي لا يلاحظون أبداً أني لا أغير ملابسي كثيراً؟، ولا أصبغ شعري؟، ولا أروح لصالونات تجميل؟، نعم، هم يعرفون جيداً، ولكن كثر منهم مثلي، فليكن الله بعون الناس، ما يحصل ليس قليلاً”.
لقمة الذل
يقال أنّ السوريين شعب حي، ولكن قد يبدو مفهوم الحي مختلفاً قليلاً في هذه الأيام، فثمة حياة كالموت. هكذا يحياها ويصفها السوريون، وحياة لأجل الركض واللهاث خلف لقمة الطعام، فهذه عائلة تطالها وأخرى لا تصلها، وبين كل هذا وذاك، طبقة سوريةٌ أفرزتها الحرب، أناس لو اشتهوا الموز قد يشترون شاحنة، هذا ما يقوله المدرس الثانوي فاتح حمادة.
وفي كل الأحوال، يبقى أنّ الغالبية جائعة وخائفة وحزينة، تبحث عن خبزها كفاف يومها، عن لقمة كانت مغمسةً بالدم، وصارت مغمسةً بالذل، هل يصدق أحدٌّ أنّ سوريين كثر صاروا يتناولون طعامهم من القمامة؟!.
بواسطة رياض الزين | نوفمبر 10, 2021 | العربية, غير مصنف
رغم محاولاتها الحفاظ على الحياد، عانت محافظة السويداء جنوب سوريا ذات الغالبية الدرزية ويلات الحرب في سوريا، ووضعتها هجمات “داعش” و “جبهة النصرة” منذ العام ٢٠١٤ أمام خيارات صعبة جعلت حالة النأي بالنفس تبتعد عنها وانخرطت بها المحافظة ضمن طرق مختلفة. لم تعارض وجود قوات الحكومة عسكرياً وإدارياً وخدمياً، وشكلت فصائلاً محلية التسليح منفصلة عن مجموعات وتشكيلات الحكومة السورية مثل “قوات الدفاع الوطني” واللجان الشعبية ومجموعات الأمن العسكري التي تعتبر تابعة لجهات عسكرية سورية رسمية.
وبدأ صعود نجم الفصائل المحلية المسلحة في السويداء منذ تشكيلها في عام 2014 من قبل الشيخ وحيد البلعوس، إثر هجوم على دير داما في السويداء الشمالي الغربي بتاريخ 14 أغسطس (اب) 2014، بعد أن قدمت “النصرة” من مناطق اللجاة في درعا. واستطاع البلعوس برفقة 40 مقاتلا “تحريرها من عناصر الجبهة”. وأيضاً عندما هاجم “داعش” السويداء لأول مرة في 17 من مايو (ايار) من عام 2015 من قرية “القصر” التي سيطر عليها التنظيم باتجاه قرية الحقف أقصى شرق السويداء من جهة البادية، حيث دخل الحقف ٤٠٠ “داعشي” وقتلوا 3 من أهلها بينهم يافع وسيدة، وأُجبر عناصر التنظيم على الانسحاب بعد مقاومتهم من أهالي البلدة وتدخل القرى والبلدات المجاورة والفصائل المحلية.
وحظيت هذه التشكيلات بتأييد شعبي كبير في السويداء بعدها، خاصة وأنها وقفت مع المظلومين والمطلوبين من أبناء الجبل وضد حالات الاعتقال التعسفي والتجنيد الإجباري المفروض في سوريا، وحالات الخطف، وفرضت نفسها في المحافظة على الجميع بما فيها سلطة الحكومة السورية وباتت السلطة الحكومية شكلية في السويداء، باعتبار أن هذه التشكيلات تظم أعداد كبيرة من المسلحين المحليين من أبناء الجبل ووقفت في عدة مناسبات ضد خروقات نفذتها عناصر من النظام بطرق تظهر قوة وسلطة هذه الفصائل وتجبر الحكومة على التعاطي مع المسألة بطرق سلمية، التي تؤيدها أيضاً هذه التشكيلات.
حدثان مفصليان
بقي مواطنون في السويداء، حسب نشطاء معارضين، يتطلعون إلى سوريا رغم ما حل به من أمراض اجتماعية وسياسية منذ عام 2011 على أنه “الوطن العقائدي الغير طائفي الذي يمكن أن يتعافى ويتعاطون مع الأحداث السورية والحكومة السورية منذ عام ٢٠١١ بطريقة تحكيمية ومنطقية لا تبعدهم عن المجتمع السوري وعن الحكومة السورية”، لكن حدثين مهمين شهدتهما المحافظة ساهما بتغيرات جذرية فيها، الأول عام 2015 يوم اغتيال مؤسس “رجال الكرامة” وحيد البلعوس، وتفحير المشفى الوطني الذي راح ضحيته عشرات المدنيين، واتَهم مناصرو “الحركة” جهاز الأمن العسكري بتنفيذه. الثاني، هجوم “داعش” على السويداء في شهر تموز من عام 2018، الذي أسفر عن سقوط ما لا يقل عن 250 ضحية من النساء والأطفال والشيوخ، وخطف نساء وأطفال، بعد هجوم “داعش” على القرى الشرقية من ريف السويداء المتاخمة من البادية السورية بشكل مباشر.
حينها اتُهمت الحكومة السورية بتسهيل هجوم “داعش” على المنطقة وأنها سحبت مجموعاتها والسلاح من “الدفاع الوطني” واللجان الشعبية من تلك المناطق قبل ليلة من الهجوم، إضافة إلى قطع الكهرباء عن تلك القرى والبلدات في تلك الليلة القاسمة. كما ان المهاجمين تنظيم “داعش” كانوا من عناصر التنظيم الذين نقلوا إلى مناطق البادية السورية القريبة من السويداء من مناطق جنوب دمشق في مخيم اليرموك والحجر الأسود والقدم، بعد معارك عنيفة هناك خاضتها الطائرات الحربية الروسية والقوات السورية في عام 2018، وكانت الحالة الشعبية في السويداء قد حملت الحكومة السورية مسؤولية ما حدث.
فأرسلت الحكومة السورية تعزيزات الجيش إلى المناطق الشرقية في السويداء وخاضت حربا استمرت 3 أشهر مع عناصر التنظيم هناك واستطاعت بعدها فرض سيطرتها على المنطقة التي دخلها عناصر “داعش” والمتاخمة للسويداء، وثبتت نقاط عسكرية للجيش في المنطقة.
حاولت الحكومة السورية إعادة ضبط موقفها في السويداء بعد أن كانت الحالة الشعبية قد اتهمتها بتسهيل هجوم “داعش” عليهم، من خلال تعاطي الحكومة السورية مع ملف المختطفات من السويداء مع التنظيم وعددهن ثلاثين هم 14 امرأة و16 من أولادهن، وفشلت كل محاولات التفاوض مع التنظيم لإطلاق سراح المختطفين من السويداء وقتل التنظيم نتيجة لفشل المفاوضات مع السويداء 5 من الرهائن ثلاث سيدات وطفلين وشاب. وبعد المطالب التعجيزية من “داعش” وتلقي اللجنة المخولة بملف المختطفين في السويداء اتصالات داخلية وخارجية للتعاطي مع ملف المختطفين، فضل حينها أصحاب المشورة والرأي في المحافظة التعاطي مع الحكومة السورية وأجريت اتصالات رفيعة المستوى، وتم اطلاق سراح المختطفات الدرزيات من التنظيم عبر عمليتي تبادل حدثت أول عملية اطلاق سراح جزئية للمعتقلات في منتصف اكتوبر عام 2018 شملت سيدتين وأربعة أطفال، والعملية الثانية شملت بقية الرهائن المعتقلات في بداية شهر نوفمبر 2018.
امتصام الصدمة
بذلك امتُصت الصدمة في السويداء بعد تعاطي الحكومة السورية الفعلي مع ملف المختطفين والمعارك التي خاضتها القوات الحكومية وراح ضحيتها ما يزيد عن ألف جندي سوري من المصابين والقتلى، بعد تلك الحوادث باتت سلطة الحكومة السورية الأمنية شكليه. وانتشرت سلطة الفصائل المحلية أكثر وعززت عناصرها وسلاحها أكثر في السويداء، وباتت المرجع الوحيد لأبناء الطائفة في السويداء لتعاطي مع ملفاتهم الأمنية والعسكرية وغيرها. و بعد زيارة رئيس شعبة المخابرات العسكرية كفاح ملحم إلى السويداء ولقائه شخصيات من الفصائل المحلية، ُفتح باب تعاطي الفصائل المحلية في السويداء مع الحكومة السورية بالملفات الأمنية المتعلقة بأبناء السويداء، خاصة وأن هذه الفصائل لا ترفض وجود النظام السوري وأجهزته الأمنية في السويداء، ولم تهاجم أو تقف معه عسكرياً، إنما وجودها لحماية الأرض والعرض والدفاع عن السويداء من كل الاعتداءات، وفقاً لما كانت تقوله حين إعلان تشكيلها.
وعصفت بالسويداء مفرزات الحرب من انفلات أمني وانتشار الجريمة، حيث كثرت أعمال القتل والخطف والسرقة، وانتشار السلاح المنفلت، وتراجع الحالة الاقتصادية، وتشكيلات مسلحة غير مسجلة أو منتسبة أو تابعة لقوات النظام السوري أو أجهزته الأمنية. كما أنها شهدت مظاهرات مناهضة للنظام السوري بطرق سلمية منذ عام 2011 وحتى عام 2020، دون تخرج عن سلطة النظام التي باتت شكلية في السويداء وغير فعلية.
فوضى… وتعاطي
وسط عدم تعاطي الفصائل المحلية المسلحة مع المسألة، وابتعاد دور السلطة الأمنية للحكومة السورية أيضاً، فالجميع أصبح يحمل بعضه مسؤولية ما حصل وما أوصل المحافظة إلى هذه المرحلة من العشوائية. وبحسب ما قاله المكتب الإعلامي لـ “حركة رجال الكرامة”، “لا بد أن تكون العلاقة بين السلطة والشعب مبنية على واجبات والتزامات من كلا الطرفين، والحكومة مطالَبة اليوم بالدرجة الأولى بتحسين الوضع المعيشي والاقتصادي للسكان. وهناك مطالب عديدة من أهالي المحافظة للحكومة السورية، لإنعاش الوضع المعيشي، الذي يمر بأسوأ مراحله”.
ومؤخراً تحاول دمشق التقرب من السويداء أكثر خاصة بعد أن انتهت من ملف الجنوب السوري في درعا والقنيطرة عبر التسويات وتسليم السلاح الخفيف والمتوسط، وكانت أولى خطوات دمشق بالمرحلة الجديدة في السويداء تلقي اللجنة الأمنية في السويداء تعليمات بعقد اجتماع ورفع ملفات السويداء العالقة إلى دمشق لبحث طرق حلها. ولم يأت أي طرح بعد إلى السويداء التي اعتبر فيها شخصيات دينية وعشائرية أن المشكلة الأبرز هي الحالة الاقتصادية وتحسينها وتحسين خدمات الدولة في السويداء سوف يساعد على حل بقية الملفات، لا سيما وأن مصادر حكومية أكدت أيضاً أن السويداء “لا تحتوي على ملفات لجماعات إرهابية، وأغلب الملفات هي ملاحقات أمنية بحق أشخاص مسلحين لدى فصائل غير مسجلة في الدولة، ويتم حل موضوعهم بالتسوية الفعلية، ولكن يبقى موضوع السلاح المنتشر بحاجة إلى حل وضبطه ضمن مجموعات محلية رسمية مسجله، أو تأطيره بطرق منضبطة”.
بواسطة نهى الحسن | نوفمبر 9, 2021 | Cost of War, غير مصنف
“حياة بلا حياة ”بعيون دامعة ، وبهذه الكلمات لخصت النازحة الثلاثينية فاطمة العبسي أوضاع النساء في مخيمات النزوح شمال غربي سوريا، اللواتي يتحملن العبء الأكبر من حياة التشرد والفقر، وسط ظروف قاسية لا تراعي أيا من خصوصيتهن، أو طبيعة حياتهن الاجتماعية المحافظة التي خرجن منها .
اضطرت العبسي وعائلتها لترك المنزل في ريف إدلب الشرقي قبل ثلاثة أعوام، هربا من نيران القصف، ليستقر بهم الحال في مخيمات سرمدا الحدودية. تروي لـ “صالون سوريا” ما تقاسيه مع بقية نساء المخيم، قائلة :“لقد غير سكننا في الخيام حياتنا بشكل جذري ، حيث تنعدم الخصوصية نتيجة تراص الخيام إلى جانب بعضها البعض، وتتقيد حريتنا في اللباس والكلام والحركة، فضلا عن عدم وجود أماكن مخصصة للاستحمام، والشعور بالحرج عند الذهاب أو العودة من دورات المياه المشتركة التي تكون بعيدة عن الخيام على مرأى الجميع”.
والأكثر سوءا هو الخوف الذي يلم بأم أرادت الذهاب للحمام ليلا بصحبة أحد أطفالها من حيوان تتفاجى بوجوده، أو شخص يحاول التحرش بها، خاصة وأن دورات المياه المخصصة للنساء قريبة من تلك المخصصة للرجال بحسب تعبيرها. وتقول :“هربنا من شبح القصف والموت لنقطن مخيمات أشبه بالعراء ، وليس هناك سبيل لتحسين حياتنا ، والخروج من هذا المكان بسبب غلاء إيجارات المنازل وجشع أصحابها .“
في ظل ضعف البنية الأساسية لمعظم المخيمات في الشمال السوري تكمن معاناة النازحات، وخاصة المسنات وممن لديهن إعاقة ليشكل الذهاب إلى الحمام تحديا حقيقيا كحال الأربعينية سناء الأحمد التي أصيبت بقصف جوي قبيل نزوحها الأخير من مدينتها خان شيخون إلى مخيم قاح على الحدود السورية -التركية، ماأدى إلى إحداث إعاقة دائمة لها في الساق ، لذلك تضطر عند الذهاب إلى دورات المياه للاستعانة بإحدى قريباتها أو جاراتها ليساندنها أثناء المشي إلى هناك، خاصة، أن طريق المخيم وعر ودورات المياه لها درج عال. تقول: ” هذا الأمر يشعرني بالخجل والحرج الشديد”.
وتشكو الشابة العشرينية، نوال العمر التي نزحت مع عائلتها إلى مخيم تل الكرامة في مدينة الدانا من عدم قدرتها على خلع الحجاب طوال الوقت حتى داخل الخيمة،لأن أغلب الخيام شفافة وقماشها رقيق تكشف كل حركة داخلها. أنها لاتستطيع تبديل ملابسها إلا بمساعدة أخواتها من خلال تغطية الخيمة بأقمشة إضافية، وعند الاستحمام تضطر لإخراج جميع من في الخيمة وذلك يسبب لها أعباء نفسية .
وتلفت الشابة إلى صعوبة تأمين مستلزمات النظافة الكاملة بسبب قلة المياه ومواد التنظيف والعناية الشخصية، كما أنها تضطر لحمل المياه برفقة أمها وأخواتها من مسافات بعيدة للحفاظ على النظافة ،وزاد الوضع سوءا مع انتشار فيروس كورونا الذي تحتاج فيه الأسرة إلى كميات أكبر من الماء للتنظيف المتواصل، بحسب تعبيرها.
وكانت الأمم المتحدة حذرت في تقرير صادر في الخامس من تشرين الأول (اكتوبر) الفائت من تضرر خمسة ملايين شخص من أزمة المياه المستمرة في شمالي وشمال شرقي سوريا.
وفي المخيمات، أصبحت المواقد الطينية أو الحديدية بديلا عن اسطوانات الغاز التي بات يفتقدها الكثير من النازحين، وخاصة بعد غلاء أسعارها والعجز عن تأمين ثمنها، لذلك تضطر معظم النساء للجلوس خارج الخيمة أمام الموقد عند إعداد الطعام لأسرهن .
الأرملة فريال الدبس (٣٥عاما ) تقطن في مخيم حربنوش بعد نزوحها من معرة النعمان، تقول بأنها قامت مثل باقي جاراتها بصناعة موقد طيني، بعد “الارتفاع الجنوني” لسعر اسطوانة الغاز وتستخدمه للطهي، وتسخين المياه خارج الخيمة. تقول بأنها تشعر بالحرج كون جميع المارة يشاهدونها أثناء إعدادها للطعام، ويعرفون نوع الوجبة التي تقوم بإعدادها .
ولاتخفي السيدة فريال في حديثها لصالون سوريا حنينها وشوقها الشديد للعيش في منزل له جدران ،يحفظ خصوصيتها ، كحق من أبسط حقوقها التي فقدتها بسبب الحرب .
من جهته، تقول الباحثة الاجتماعية رغداء السيد (٤٣عاما)وهي من مدينة إدلب لـ “صالون سوريا” :“النزوح فاقم معاناة المرأة، ولم تتمكن الكثيرات من التكيف مع واقع الخيام المؤلم بسهولة، والإنتقال من حياة البيوت والإستقرار والعيش الكريم إلى الخيام والتشريد وانعدام الأمان والخصوصية، مما سبب لهن الشعور بالقلق والإكتئاب، والإغتراب النفسي عن بيتهن وأسرتهن، وصعوبة التأقلم، والخوف الدائم من المجهول، بالإضافة إلى اضطرابات في النوم”.
بواسطة حمد المحاميد | نوفمبر 8, 2021 | غير مصنف
حوّل الفقر المفجع حياة أغلبية الأسر السورية في دمشق ومناطق سيطرة الحكومة إلى “جحيم”، بسبب عدم تمكن المعيل من تلبية متطلبات أفراد العائلة، ذلك بعدما كان التآلف والتماسك الاجتماعي في الأسرة السورية، مضرب مثل للمجتمعات في الدول المجاورة والإقليمية والدولية.
“أم محمود” ربة منزل في العقد السادس من العمر، وتعيش مع زوجها وأربع فتيات وطفل في أحد أحياء دمشق، تروي لـ”صالون سوريا”، أن زوجها يعمل موظفا في شركة خاصة صباحا، و “بات مع ضيق الأحوال المعيشية يعمل في المساء سائق سيارة أجرة”.
وتشكو”أم محمود”، من أنه وبخلاف ما عرفته عن زوجها منذ أكثر من أربعين من طبع مرح وإنسانية لا توصف ومزاح دائم، بات عندما يطلب منه أحد أفراد العائلة طلبا حتى لو كان بسيطا، يصبح “عصبيا جدا، ويسمع صوته كل الجيران في البناية وحتى في الشارع”. واشارت إلى أن لسان حال “أبو محمود” المعيل الوحيد للعائلة، في رده على أي طلب، أصبح عبارات يكررها في كل مرة وهي، “ما معي. ارحموني. خافوا الله. بدكون بنك ما بيكفيكون (…)”، وتضيف: “المصيبة أنه وعندما يتم الإلحاح عليه بالطلبات، أصبح يوجه كلمات غير مألوفة لي وللبنات والولد”، وتتابع، “البنات طالبات جامعة وثانوي وأخوهم ثانوي وبدهم مصاريف، يعني منين يجيبوا؟!”.
وجه عابس
وجه “أبو محمود”، وحسب زوجته، أصبح منذ فترة طويلة، عبوس بشكل دائم، فهو يستيقظ في الصباح من دون أن يلقي السلام على أحد ويخرج إلى الوظيفة، وعلى نفس الحال يكون في منتصف الليل عندما يعود من عمله على السيارة، على حين البنات والولد باتوا يركضون إلى غرفهم وينزوون فيها “ريثما يأكل لقمة الأكل ويروح ينام”.
وبعدما تستذكر “لمة العيلة أيام الجمعة (العطلة الرسمية) والمرح والسهرات التي كانت تحصل والطبخات اللذيذة التي كنا نحضرها والفواكه والموالح والحلويات التي نجلبها عندما كانت أحوال العائلة جيدة” قبل سنوات الحرب والضائقة المعيشية التي ألمت بأغلبية الأسر، تؤكد “أم محمود” أن أيام الجمعة وكل أيامنا تحولت إلى “جحيم لا يطاق بسبب القلة”، إلى أن أقنعت زوجها “بالعمل على السيارة في أيام الجمعة لتفادي حصول مزيد من السجالات والمشاجرات بينه وبين جميع أفراد العائلة”.
ويعاني أغلبية السوريين من أزمة معيشية خانقة بسبب تواصل ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، واستمرار فقدان مداخيل العائلات الشهرية جزءاً كبيراً من قيمتها بسبب الانهيار القياسي لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي الذي يساوي حاليا نحو 3500 ليرة، بعدما كان بين 45 و50 ليرة في عام 2010.
وبات أكثر من 94 في المائة من المواطنين في مناطق سيطرة الحكومة يعيشون تحت خط الفقر، حسب الأمم المتحدة والعديد من الدراسات، بينما لا يتعدى متوسط الراتب الشهري لموظفي القطاع العام 25 دولاراً، ولموظفي القطاع الخاص 50 دولاراً، بعدما كان راتب الموظف الحكومي قبل الحرب نحو 600 دولار.
الف حساب
“أبو وسيم” وهو أب لأربعة أولاد ويعمل بائع خضار متجول، يؤكد لـ”صالون سوريا”، أنه بات “يحسب ألف حساب للحظة الرجعة على البيت، حتى الواحد صار يكره الرجعة، لأن الكل (الأم والأولاد يجدهم) قالبين خلقهم”، ويضيف “الولد ما عاجبو الأكل، والبنت بدها أواعي (ثياب) جديدة وتروح مشاوير مع رفقاتها، والأم بدها تصلح أسنانها، وكل يلي بطلعوا باليوم دوبو يكفي أكل ومن قريبو”، ويتابع “يلي بدو يلبس ويأكل متل العالم والناس بدو مليون ليرة بالشهر، هاد غير أجار البيت، وأنا بتطلع روحي لطلّع 5 – 7 ألالف باليوم”.
ويوضح الرجل، أن حياة العيلة “انقلبت وصارت كلها نكد بنكد، لأن الكل يصر على تلبية طلباته”، ويضيف “( عندما) أقول لهم طولوا بالكم شوي شوي.. واحد واحد، بيزعلوا والولد بصير لما بتحكي معو يرد من برّات منافسو دون احترام، والبنت بتعمل حالها مو سمعانة، والأم بترد بنرفزة. الله يحسن أحوالنا وأحوال الجميع، ويمضّي هالعمر ويخلص على خير”.
ويعي بعض الأبناء الضائقة المعيشية التي تعاني منها أغلبية العائلات ويرون أنه يجب مراعاتها في مسألة تلبية طالباتهم، وتقسم طالبة ثانوي في حدثيها لـ”صالون سوريا”، أنها لا تطلب “إلا الضروري الضروري”، لكنها تضيف “إذا لم أطلب من أبي ممن أطلب من الجيران؟ هو خلفنا وهو مجبر بنا”.
انتحار وطلاق
وخلال سنوات الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد من الزمن تشهد مناطق سيطرة الحكومة ارتفاعاً بمعدلات الانتحار، وكشف المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي، زاهر حجو، في يونيو (حزيران) الماضي عن تسجيل 80 حالة انتحار خلال العام الحالي، بزيادة تصل إلى خمس أضعاف مما كانت عليه قبل 2011.
ويرى اخصائيون اجتماعيون، أن الفقر والأوضاع الاقتصادية السيئة تعد في مقدمة الأسباب التي تدفع الرجال والشباب والفتيات إلى اتخاذ القرار بإنهاء حياتهم، فضلاً عن ظروف الحرب والبطالة والضغوط النفسيّة والاجتماعية.
وارتفعت حالات الطلاق خلال سنوات الحرب في سوريا إلى نِسَب غير مسبوقة مقارنةً مع ما قبل عام 2011 حيث باتت بعض الزيجات تستمر لأشهر أو أيام معدودة بسبب الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة والتفكك الأسري والاجتماعي.
وقال القاضي الشرعي الأول في سوريا محمود معراوي في ديسمبر (كانون الاول) العام الماضي، في تصريح لإذاعة محلية، أن أهم أسباب ازدياد حالات الطلاق في الوقت الحالي هو الوضع الاقتصادي وعدم تحمّل أحد الأطراف لظروف الحياة الصعبة بالإضافة لغياب دور الأهل في إصلاح ذات البين والاستعمال السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي سواءً من الزوج أو الزوجة .
وبحسب ما قاله مدير عام الأحوال المدنية الحكومية أحمد رحال، في تصريح لوسائل إعلام محلية، تم خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، تسجيل 19 ألف حالة طلاق، فيما بلغت في نهاية العام 2019، 34 ألف حالة طلاق، على حين كشف مستشار وزير الأوقاف، حسّان عوض، في إحدى مقابلاته الإذاعيّةعن ارتفاع نسب الطلاق في سوريا 5 أضعاف خلال فترة حظر التجوّل بسبب انتشار فيروس “كورونا”.
بواسطة طارق علي | نوفمبر 8, 2021 | العربية, غير مصنف
بيدين راعشتين، يخرج أبو أحمد ورقة نقدية من فئة ألفي ليرة سورية. يمسكها بحذر الخائف من السرقة، والحريص على ما يبدو أنّه آخر ما بجيبه. يتفحص الرجل السبعيني أقراص الفلافل، وهي تقلى من أمام واجهة أحد المطاعم الصغيرة في مدينة جرمانا بريف دمشق.
ينقل عينيه بين زبونين ينتظران دورهما، ينصت باهتمام لسؤال عابر من جواره، “كم سعر السندويشة؟”، يأتي الجواب: “1300 ليرة”، يتحسس العجوز ماله من جديد، وتبدو ملامحه وكأنّه يجري عملية حسابية بسيطة ومعقدة في آن، يسأل صاحب المطعم: “هل يمكنني أن آخذ سندويشتين بألفي ليرة”، يجيبه العامل: “نعم ولكن بعدد أقراص فلافل أقل”، يقول أبو أحمد: “لا بأس، واحدة بلا مخلل والثانية زيادة بندورة، لو سمحت”.
“لو سمحت”، بكل انكسار الكون يقولها الرجل السبعيني وبكل ما أوتي من عزة نفس مزقتها ظروف الأيام وأحوالها، أبو أحمد الذي عاصر أحداث “الإخوان المسلمين” نهاية سبعينات القرن الماضي، يقول لـ “صالون سوري”: “لم يحصل هذا وقتذاك، لم نجع أو نتشرد أو ننم دون طعام، لم نقف على واجهات المحال نشتهي ونتمنى، آخ على هذا البلد”. ببحة وقهر يقولها أبو أحمد، ويمضي ليأخذ سندويشتيه داخل كيس أبيض، على عكس ألوان أيام حياة السوريين، “تنتظرني أم أحمد في المنزل، اليوم قررت أن أدللها وأن نستعيض عن الزعتر واللبن بالفلافل، من حسن الحظ وسوءه في آن أنّه ليس لدينا أولاد”، وعن آخر مرة تناولا فيها اللحوم، يقول: “كان ذلك قبل أربعة أشهر حين كنا مدعوين لدى ابن عمي”.
وفي دمشق أيضاً
لا يبدو الحال في دمشق أفضل بأي شكل. سيدة في عقدها الرابع تقف على واجهة محل لبيع الألبان، في حي الشيخ سعد التجاري، على مقربة من وسط العاصمة، تراقب وتتمعن بالأسعار المعروضة، على الواجهة وضعت أسعار تقول أن كيلو الجبنة البلدي بـ 9400 ليرة سورية، والمغلية بـ 10000 والعكاوية بذات السعر، أما الشلل حب بـ 18000 ليرة، وكذلك المالحة والحلوة وحلوم، أما القشقوان فسعرها 19500 ليرة.
“حقيقةً وقفت مصدومة لهول الأسعار، بدايةً كنت أفكر بشراء بعض الجبن بألفي ليرة لزوم الإفطار والعشاء ربما، نحن خمسة أشخاص في المنزل، ولكن في ظل هذه الأسعار من الجيد أن يسمح لي بتذوق الجبنة فقط بألفي ليرة، يبدو أنّنا سنتناول الزعتر وبعض المكدوس أيضاً ليوم آخر”، تقول السيدة.
ولما أسمته شدة فضولها راحت تسأل عن أسعار الدجاج، رافقها “صالون سوري” ليرى طبيعة الأسعار فعلاً، ليتبين أنّ سعر كيلو الفروج 7400 ليرة، الشرحات 11500، الدبابيس 7100، وكيلو الجوانج 5400، هنا لم يكن من الضروري مراقبة ردات فعل السيدة وهي تقرأ، فكل ما كانت ستحسه كان واضحاً وجلياً يمكن لمسه وقراءته على جبين السوريين، السوريين الذين يبلغ متوسط راتب أفضل موظف فيهم سبعين ألف ليرة سورية، مبلغ بالكاد يكفي بضعة أيام، وبقية الشهر يقضيها السوريون بالشح والاستدانة و”تدبير راسهم”.
طعام اليوم
بحسبة اقتصادية سريعة، إذا أرادت عائلة مكونة من خمسة أفراد، تقليص وجبات طعامها الرئيسية من ثلاث وجبات إلى وجبتين فقط، وأن تقتصر هاتان الوجبتان على الفلافل، فستحتاج العائلة لـ 6500 ليرة على الفطور، ومثلها على العشاء، أي ما يعادل 390000 ألف ليرة ثمناً للفلافل فقط في الشهر، أي نحو خمسة أضعاف الراتب، وهذا دون دفع أي مصاريف للطبابة والمدارس والجامعات والفواتير وأجار المنزل والإصلاحات البسيطة وأجور النقل والملابس والخضار والفواكه… والخ
إذن، فإنّ راتب الموظف الحكومي يكفي في ظل هذه المعطيات ثمن فلافل لخمسة أيام بالضبط، لتبدأ رحلة يطلق عليها الشوام اسم “الحربقة” وتعني بصورة مبسطة “تدبير الراس”، لإيجاد طرائق وبدائل لإمضاء الشهر، قد تبدو المهمة مستحيلة حقاً، لكنّ السوريين خبروا أيام الفقر هذه، وعاينوها عن قرب، ووجدوا أساليب متعددة للتعايش معهما، بأقلّ القليل.
أكثر من عمل
سالم موظف حكومي ويعمل بعد الظهر سائق تكسي في دمشق، يخبر “صالون سوري” أنّه يعمل لدوامين متتاليين، فيعود إلى منزله بعد الحادية عشر ليلاً كل يوم، “أخرج صباحاً في السابعة والنصف، بالكاد أعود آخر اليوم لأرى زوجتي وطفلتي قليلاً، وأتعشى، ثم أنام فوراً، هذه حياتي وهذا شكلها، كذلك زوجتي تعمل من داخل المنزل في مهنة الخياطة، لا أقول أنّ دخلها سيء للغاية ولكنّه بالتأكيد ليس جيداً، إلّا أنّ دخلي ودخلها معها مجتمعين بالكاد يغطيان مصاريفنا الأساسية يضاف إليهما أجار المنزل المرتفع ومصاريف الطفلة الصغيرة”.
المشكلة بالدخل لا بالأسعار
تضحك ميرنا (طالبة جامعية) حين سؤالها عن انخفاض سعر الموز الذي وصل إلى أربعة آلاف بعد أن كان عشرة آلاف قبل أيام قليلة، “يبدو أنّ المشكلة ليست في سعره الذي انخفض، فرغم انخفاضه لا زلنا غير قادرين على شرائه، المشكلة في دخلنا، أنا أعمل بعد جامعتي في محل للمكياج براتب 60 ألف، ووالدي موظف، أما والدتي ربة منزل، ولدي أخوان، لولا أنّنا جميعاً نعمل، لما كنا تمكنا من الإكمال ولو بالحد الأدنى، وأقول الحد الأدنى لأنّ مرتبي كما هو، وفوقه مبلغ من إخوتي حتى يكفيني ثمن مواصلات وبضع محاضرات فقط، هل تعتقد أنّ زملائي لا يلاحظون أبداً أني لا أغير ملابسي كثيراً؟، ولا أصبغ شعري؟، ولا أروح لصالونات تجميل؟، نعم، هم يعرفون جيداً، ولكن كثر منهم مثلي، فليكن الله بعون الناس، ما يحصل ليس قليلاً”.
لقمة الذل
يقال أنّ السوريين شعب حي، ولكن قد يبدو مفهوم الحي مختلفاً قليلاً في هذه الأيام، فثمة حياة كالموت. هكذا يحياها ويصفها السوريون، وحياة لأجل الركض واللهاث خلف لقمة الطعام، فهذه عائلة تطالها وأخرى لا تصلها، وبين كل هذا وذاك، طبقة سوريةٌ أفرزتها الحرب، أناس لو اشتهوا الموز قد يشترون شاحنة، هذا ما يقوله المدرس الثانوي فاتح حمادة.
وفي كل الأحوال، يبقى أنّ الغالبية جائعة وخائفة وحزينة، تبحث عن خبزها كفاف يومها، عن لقمة كانت مغمسةً بالدم، وصارت مغمسةً بالذل، هل يصدق أحدٌّ أنّ سوريين كثر صاروا يتناولون طعامهم من القمامة؟!.
بواسطة يمامه واكد | نوفمبر 5, 2021 | Reports, العربية, غير مصنف
مع أول قطرة مطر هطلت في شوارع دمشق، بدأ الناس، كما كل شتاء، يستجمعون ذكرياتهم، عن مرويات صنعوها وعايشوها عن شتاء كان يوماً دافئاً. أيامٌ كانت تكتنز الكثير من النعمة لكل شيء فيها حتى بأبسط الأشياء. وأبسط الأشياء هنا، هو معطف محشو بالفرو الذي كان يقيهم برودة الطقس والأسى، ذلك ان السوري بات اليوم عارياً أمام يومياته المثقلة بالهموم.
لم يعد أحد يهتم بتلك الذكريات، مع الغلاء المبالغ به في أسعار الملابس الشتوية التي ترتفع أكثر فأكثر كل موسم. وكل موسم هنا تعني ما كتب للسوري أن يحياه موسماً بعد موسم ليشهد على الفقر المتنامي ينهش جسده وجسد أقرانه.
“أريد فقط أن أشعر بالدفء منذ ساعات الصباح الأولى للذهاب إلى عملي حتى الانتهاء والعودة إلى المنزل”، هذا ما قالته لنا هبة راجح (موظفة حكومية – 29 عاماً) عندما التقيتها في سوق البالة الشهير وسط دمشق والمعروف بـ “سوق الإطفائية”، وهو سوق البالة الأكبر في سورية، على مقربة من حي الحجاز الدمشقي. تضيف: “جئت إلى هنا لأشتري معطفا يدفئني في الأجواء المطرية والحرارة المنخفضة، لكني فوجئت بالارتفاع الكبير في الأسعار بعدما كانت تناسب الكثير من الزبائن مثلي في هذا السوق”.
تنظر في المعروضات، وتقول: “أنا موظفة في مؤسسة حكومية”، وتسأل: “كيف لي أن أدفع ثمن معطف يساوي راتبي الشهري كاملاً؟ هذا جنون!، وعندما اعترض يواسيني بائعو البالة بالقول هناك أنواع معاطف بجودة أقل وبها عيوب، ربما تلك تكون خياراً لا بأس به”، لكن “الغريب”، في رأيها، أنه حتى ملابس البالة أصبحت لها جودة وتصنيف وميزات وهي أيضا باتت تفرق ما بين الفقير والغني في هذه البلاد.
جولة في السوق
رافق “صالون سوريا” الشابة ميرنا عبد الباقي خلال جولتها في “سوق الإطفائية”. ترى ميرنا المشهد من بعيد: بائع على يمين السوق يصيح على مدخل محله: “الشتوي صار عنا ببلاش”، ويضيف آخر: “شو بدك بالجديد، الي ماله قديم ماله جديد”، تلك صيحات يطلقها البائعون لاستجلاب الزبائن في السوق، والمنافسة الأحد بينهم تتعلق بسعر الملابس الأرخص.
تقترب ميرنا لتسأل عن سعر معطف باللون الأسود الذي يليق على كل ملابسها الشتوية. يجيبها البائع بأنها اختارت أجمل القطع في المحل وأميزها، يضيف: “سعره ثمانون ألف”. وبعد الأخذ والرد ينهيه بخمسة وستين ألفا! (الدولار الاميركي يساوي حوالى ثلاثة الاف ليرة)، ما يدل على ضياع التسعير وكل هنا يعطي للقطعة سعرا على هوائه.
هنا تعلو على وجه ميرنا ابتسامة ساخرة، وتقول: “هذا السعر يعادل راتبي لشهر كامل، كيف لي أن دفع كل ذلك المبلغ؟”.
من مكان إلى آخر تتجول ميرنا بين المحلات للعثور على ضالتها المنشودة. وفي محل آخر لا يكلف البائع نفسه عناء النقاش مع الزبائن لأنه فعل كما كثر في السوق وعلق ورقة السعر على كل قطعة، لعله يرتاح من هم السؤال الذي أصبح على لسان الكثير من الزبائن نظرا لهول ارتفاع الأسعار في سوق البالة، السؤال الأقرب للاستغراب الذي يختصر كل ما في الخاطر من صدمة “أوووف؟”.
لم تطل جولة ميرنا كثيرا بين المحلات بعد أن فقدت الأمل في العثور على معطف مناسب بالجودة والسعر. وبعد عناء البحث عن المعطف الذي لا تجده ميرنا، تعود خالية الوفاض خارجةً من السوق عبر النفق القديم المفضي من وسط السوق إلى منطقة معروفة بمختار القنوات. تقول: “صحيح أنّني لم اشترِ المعطف الذهبي، لكني وضعت إعجابات كثيرة على الأسعار”. وتضيف: “هذه رحلتي إلى هنا وهي ليست الأولى أمضي كل يوم خميس هنا بين الأخذ والرد وفي النهاية أعود خالية اليدين لأنه إذا كان من أمل لو ضئيل أن أشتري شيئا من هنا. فبالتأكيد لا أمل لي أن اشتري شيئا من أسواق دمشق كشارع الحمرا والشعلان”، وعما سوقان شهيران في القسم الحديث من دمشق.
جنون الأسعار
“في الموسم الماضي كان سعر المعطف الشتوي يتراوح ما بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف. اليوم أصبح سعره يتراوح ما بين أربعين إلى ثمانين ألف بحسب الجودة والنوعية وفي بعض الأحيان يصل إلى مئة ألف، أما الجينز فكان قبل أشهر يتراوح ما بين ثلاثة ألاف إلى ستة ألاف، وأصبح الأن يباع بأكثر من عشرين ألف، ناهيك عن أسعار ملابس الأطفال التي تباع بمثل أسعار ملابس الكبار، فيما تتجاوز أسعار بعض الأحذية الرياضية المئة ألف”، بحسب سالم حلوم الذي يعمل في مدرساً في احدى المؤسسات الحكومية. وسالم ، على حد وصفه، صار متمرساً ببسطات البالة لكثرة ما يقصدها لشراء ملابسه وملابس أولاده.
“كان سوق البالة الملجأ الوحيد لي ولزوجتي وأطفالي الثلاثة بعد أن هجرنا أسواق الملابس الجديدة منذ زمن، لكن الآن الوضع اختلف، الأسعار صارت جنونية، كيف لنا أن نكتسي كلنا جميعا وفق تلك الأسعار العالية والراتب الزهيد؟، وفوق ذلك مصروف المنزل وفواتير الكهرباء والغاز والماء التي بدأت هي الأخرى بالارتفاع، وإلى متى لا أحد يعلم!.”.
مبررات الجودة والسعر
يقول أحد تجار البالة لـ “صالون سوري”: “الدولار مرتبط بكل شيء حتى بأسعار ملابس البالة التي نشتريها على شكل حزم “صرة ملابس” ندفع ثمنها ابتداء من ألف دولار وصعوداً، بحسب نوعيتها، وتصل إلى سورية عبر التهريب، ما يحملنا مصاريف إضافية عادة ما تكون باهظة، وهو ما يدفعنا لرفع الأسعار، وبالطبع كل حزمة تتفاوت فيها درجة النوعية والجودة، نصنفها بحسب ما نطلق عليه “نظافة القطعة” من ممتازة، إلى جيدة، متوسطة الجودة، متوسط درجة ثانية، درجة ثالثة، سيئة، للبيع بالكيلو، للتنسيق، ولكن اليوم غالبية قطع الحزمة تكون ممزقة أو مثقوبة أو ملوثة وفيها عيوب متنوعة، وهذا ما يجعلنا نستند في ربحنا فقط على البضاعة السليمة”.
الواضح، انه باتت القدرة الشرائية للمواطنين من ذوي الدخل المحدود تكتوي بنار الأسعار، ولا يقتصر ذلك على سعر الملابس المستعملة بل أيضا على معظم الجوانب المعيشية بدءا من الطعام وليس انتهاء بالفواتير المعيشية والخدمية. وبعد أن كان سوق البالة الهدف المناسب لشريحة كبيرة من الناس يبدو أنه اليوم ما عاد يتسع لمعظمهم، ما يطرح السؤال: “ماذا بقي من خيارات للفقراء في هذه البلاد التي يسافر أطباؤها للعمل في الصومال؟”، حسب قول خبير اقتصادي يتابع الوضع المعيشي في دمشق.