لا سبيل لإيقافها: عمليات الخطف تزداد في الشمال السوري

لا سبيل لإيقافها: عمليات الخطف تزداد في الشمال السوري

لم ينج الصراف عامر الخشان من محاولة اختطافه أثناء توجهه لمنزله في مدينة سلقين أواخر تشرين الثاني 2020، وبعد مضي أكثر من شهر على اختطافه ومفاوضات عدة مع الخاطفين أطلق سراحه مقابل مبلغ خمسين ألف دولار أمريكي.

ازدادت جرائم الخطف في شمال غرب سوريا من قبل عصابات امتهنت الخطف مقابل فدية مادية وسط فشل الأجهزة الأمنية التابعة للمعارضة بمكافحة هذه العمليات التي يرتكبها مسلحون ملثمون بهدف الابتزاز المالي وإبدال المختطف بمبالغ ضخمة غالباً لا يستطيع ذوو المختطف دفعها فتنتهي العملية بقتل المختطف والتمثيل بجثته.

يروي الخشان تجربته المريرة مع الخطف قائلاً: “كنتُ في طريقي من مدينة إدلب إلى سلقين حين استوقفتني سيارة نوع فان نزل منها أكثر من خمسة أشخاص مسلحين ومقنعين سرعان ما قبضوا علي واضعين كيساً في رأسي وراحوا يوجهون لي اللكمات.” ويتابع بأسى: “هناك في مكان مظلم وبارد بدأ الخاطفون بتعذيبي جسدياً وممارسة الضغوط النفسية علي، وهددوني بأنني سأكون نسياً منسياً إن لم يتم الاستجابة لطلباتهم من قبل أهلي ودفع الفدية، وهوما دفعني للتحدث مع أقربائي مكالمة فيديو بغية تأمين المبلغ والإسراع في دفعه لتخليصي مما أنا فيه”.

وبالفعل نجا الخشان بعد دفع المبلغ وهو ما اضطره للسفر إلى تركيا فور خروجه خوفاً من إعادة المحاولة وتعرضه لحادثة مشابهة.

تنقطع أخبار الكثير من الأشخاص فجأة أثناء انتقالهم من مكان لآخر ليُكتشف في وقت لاحق أنهم إما خطفوا من أجل فدية أو قتلوا؛ في حين يبقى مصير عدد كبير منهم مجهولاً؛ الأمر الذي بات يجعل السوريين يعيشون وسط خوف وانعدام أمن مستمرّين.

تعرض علاء الحسون الخمسيني (موظف بإحدى منظمات المجتمع المدني) للخطف أثناء توجهه من مكان عمله في مدينة كللي إلى منزله الكائن في إسقاط، لم يشفع له كبر سنه عن إمكانية تعذيبه، وإنما تعرض لبتر إصبعين من يده على يد الخاطفين في فيديو مصور أرسل لذويه للضغط عليهم من أجل دفع فدية وقدرها خمسة وعشرين ألف دولار.

عاش الحسون بغرفة مظلمة أكثر من عشرين يوماً ريثما تمكن أهله من تأمين المبلغ ودفعه للخاطفين مقابل إطلاق سراحه.

يقول الحسون: “كانت لحظات صعبة شعرتُ معها أني ميت لا محالة وخاصة وأن أهلي لا يملكون المبلغ المطلوب لدفعه للخاطفين الذين هم عبارة عن أشخاص جردوا من إنسانيتهم ووحوش بهيئة بشر مستعدين لارتكاب أفظع الجرائم مقابل حفنة من المال. حين تم دفع المبلغ وإطلاق سراحي شعرت أني ولدتُ من جديد”.

يرى الحسون أن مسألة الخطف ليست جديدة على المنطقة وأنها ازدادت بشكل كبير مؤخراً نتيجة وجود ميليشيات تستغل الانفلات الأمني والمسافات بين المدن والبلدات وقطع الطرقات فيتعرض المسافر للسلب والنهب والخطف بقوة السلاح؛ موضحاً أن نسب الخطف تختلف بين منطقة وأخرى وهي الأعلى في إدلب وريفها، والمهجرين عرضة للخطف بنسب أكبر من أهالي المنطقة ذاتها لجهلهم بالمناطق التي يتم اقتيادهم إليها.

في بعض الأحيان لا يعني دفع الفدية نجاة المختطف من يد خاطفيه. ففي أواخر 2020 قتلت عصابات ناشطاً إغاثياً خطف من طريق حربنوش، رغم أنها حصلت من عائلته على أربعين ألف دولار أمريكي كفدية. وما زالت عصابات تحتفظ بمختطفين بسبب عجز أهاليهم عن دفع المبالغ التي يطلبونها رغم المفاوضات التي يتم من خلالها تخفيض المبالغ.

وبات الوضع الأمني يمنع الأهالي من الخروج من منازلهم ليلاً، وكثير من العائلات منعت أبناءها من ارتياد المدارس والجامعات. وعائلات أخرى أرسلتهم إلى تركيا ودول الجوار خوفاً عليهم من الخطف.

المحامي مصطفى الموسى قال إن: “الفصائل وعلى رأسها هيئة تحرير الشام فشلت في مكافحة العصابات وتوفير الأمان لملايين المواطنين في معقل المعارضة الأخيرة شمال سوريا”. وأكد المحامي  أن هناك خلايا موجودة في إدلب وما حولها تتبع للنظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية وهدفها زعزعة استقرار المنطقة من خلال التفجيرات والعبوات الناسفة وعمليات الخطف.

ووفقاً لإحصائيات صادرة عن مجالس محلية فقد جرى إحصاء نحو 93 حالة اختطاف و300 محاولة اغتيال استهدفت مدنيين وناشطين وقادة عسكريين تابعين للمعارضة المسلحة في الشمال السوري خلال النصف الأول من عام 2020 فقط.

ولم تقتصر عمليات الخطف على الذكور وإنما أيضاً طالت فتيات ونساء وأطفالاً؛ ففي 31 أغسطس /آب 2020 أفادت مصادر محلية في مدينة الدانا شمال إدلب عن فقدان فتاتين على طريق دير حسان الحدودي دون ورود أي معلومات عن سبب الخطف حتى اللحظة.

وتقف خلف عمليات الخطف عصابات منظمة مجهولة هدفها جمع المال لكن الاتهامات بالمسؤولية تشير إلى فصائل عسكرية معينة بسبب سيطرتها على المناطق التي تتم فيها عمليات الخطف واستحالة خروج الخاطفين من تلك المناطق وانتشار الحواجز الأمنية التابعة لهذه الفصائل في محيطها.

ويتهم الناشط المدني لؤي دياب الفصائل العسكرية بعمليات الخطف ويقول في حديث خاص إنه إلى “فترة معينة كنا نظن أن قطاع الطرق واللصوص وعصابات الخطف هم من يقفون خلف عملية الخطف في إدلب، ولكن تبين لاحقاً أن هناك مجموعات محسوبة على الفصائل العسكرية اتخذت من عمليات الخطف باب رزق في ظل هدوء الجبهات وتراجع الدعم المقدم لها”. ويؤكد دياب أن التسعيرة باتت معروفة وهي تبدأ من 120 ألف دولار كفدية لطبيب كما حصل مع طبيب النسائية في إدلب ومدير صحة الساحل خليل آغا وتنتهي ب 25 ألف دولار فدية للمواطن العادي، ويشير إلى أن الجهة التي اختطفت الطبيب خليل آغا تمت معرفتها وهي مجموعة تنتسب لهيئة تحرير الشام وقد قدمت مديرية صحة الساحل شكوى للهيئة ووعدت الأخيرة بمتابعة الأمر دون جدوى حتى اللحظة.

 وكان فريق منسقي استجابة سوريا أدان في وقت سابق أعمال الاختطاف والتغييب القسري التي تمارسها الفصائل العسكرية في الشمال السوري تحت حجج واهية وغير مقنعة للعاملين في المجال الإنساني مؤكداً أن ممارسة الضغوط على المختطفين للإقرار بأعمال لم يقوموا بها تصنف ضمن جرائم ضد الإنسانية، وأن الأفعال التي تقوم بها تلك الجهات العسكرية تندرج ضمن بنود عدم الشعور بالمسؤولية تجاه المدنيين وحمايتهم وتوفير الرعاية لهم. ودعا فريق منسقي استجابة سوريا كافة الفصائل العسكرية إلى احترام القانون العسكري وتجنيب المدنيين والعمال الإنسانيين عمليات الاستهداف التي كان منها اعتقال مدير مكتب منظمة عطاء في منطقة أطمة الحدودية صدام المجد من قبل إحدى الفصائل العسكرية المسيطرة على المنطقة وأيضاً اختطاف مدير منظمة رؤية في مدينة إدلب رامي عبد الحق والمسعف في منظمة سيريا ريليف علاء عليوي وغيرهم الكثيرين.

عبر نشطاء كثر على صفحات التواصل الاجتماعي عن المسؤولية المباشرة لهيئة تحرير الشام عن عمليات الخطف التي تحدث “فمن يستطيع الوصول لمعارضيه ومنتقديه وينتقم منهم لا يصعب عليهم الوصول لمجرمين يختطفون أطباء ونشطاء ومدنيين إن أرادوا ذلك” وفقاً لتعبير أحد النشطاء.

الرمضان الدمشقي والرمق الأخير

الرمضان الدمشقي والرمق الأخير

تعيش دمشق وأهلها واقعاً مأساوياً في تفاصيل الحياة المعيشية واليومية؛ واقعا معاشاً يتكثف في سرديات متطابقة ومروية على ألسنة الجميع.

رمضان شهر الصيام، هو شهر الطقوس الخاصة والاحتفالية وشهر الأعباء الاقتصادية المضاعفة، خاصة بسبب ما تحتاجه المائدة الرمضانية من تنوع وزيادة في أعداد الأطباق ومحتوياتها لتعويض الصائمين عما فقدوه في ساعات صومهم الطويلة، أو تلبية للطقس الاجتماعي والروحاني والذي يحمل في طياته بعداً دينياً، وهو وصل صلة الرحم وخاصة في الدعوات العائلية على موائد الإفطار.

رمضان، هو شهر التحضيرات المسبقة وخاصة في تموين المواد الغذائية كالأرز والبرغل واللحوم والزيوت والسمن والبهارات والخضار والعصائر والوجبات المحضرة مسبقاً، مثل الكبب والرقائق والفطائر وعصير الليمون والبرتقال وشراب التمر هندي والعرقسوس. والآن وببساطة ووضوح متناهيين يمكن القول: إن كل شيء قد تبدل، كل شيء وصل إلى حد الزوال.

تُشير بعض الإحصاءات الاقتصادية إلى أن الأسعار هذا العام قد زادت بمعدل 120 مرة عن عام 2011. وبينما يعتقد البعض الآخر أن حجم التضاعف مبالغ به، إلا أن الكثيرون يؤكدون بأنه وبغض النظر عن نسبة الزيادة، فإن الوضع الاقتصادي والحالة المعيشية لهذا الموسم الرمضاني بلغت حدود العجز التام عن تأمين الوجبات اليومية الأساسية للسكان. ولاحظ الكثيرون بأن التكافل المعتاد كشكل أصيل من أشكال التآزر المجتمعي وخاصة في شهر رمضان، مازال عاملاً داعماً لموائد رمضان ولو بصورة ضئيلة جداً وتتضاءل باستمرار وبشدة.

لكن الحال الآن بات متطابقاً مع المثل الشعبي القائل: (الميت لا يجر ميتاً)، بمعنى أن العاجز لا يمكنه تقديم أية خدمة لعاجز آخر.

تضافرت الأزمات مجتمعة لتجعل من الواقع المعيشي واقعاً غير قابل للعيش ولا حتى لتصديق الحال الذي وصلت إليه المعيشة اليومية بكافة تفاصيلها مع انتشار جائحة كورونا. إضافة إلى أزمة غياب المحروقات (وخاصة الشح البالغ في مادتي المازوت والبنزين لدرجة تعطلت معها المواصلات العامة والخاصة)، مما أدى إلى فقدان البعض وخاصة سائقي سيارات الأجرة والحافلات العامة لأعمالهم. هذه الأزمات أدت إلى فقدان الدخل المادي الذي تستند عليه كثير من العائلات لتأمين طعامها اليومي. هذا عدا عن أن بعض العمال المياومين أيضاً قد تعذر وصولهم لأماكن عملهم، ولابد من الإشارة إلى أن بعض معلمي الحرف قد توقفت أعمالهم أيضاً بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى مراكز بيع المواد الأولية اللازمة لإنجاز أعمالهم، إما بسبب ارتفاع كلفة النقل أو لعدم وجود المواد المطلوبة أو للارتفاع الحاد بأسعارها مما يدفع الناس لوقف كل أعمال الصيانة أو الكساء المطلوبين.

كما أن أزمة المحروقات قد أعاقت عملية نقل وجبات الإفطار للمستفيدين منها والمحضرة والمقدمة من قبل بعض الجمعيات التي درجت ولسنين متتالية على تأمينها لعدد محدد من العائلات أو الأشخاص. وأعاقت صعوبة تأمين مادة الغاز نشاط المطابخ الجوالة أو المعدة خصيصا لتأمين وجبات للصائمين في شهر رمضان فتوقفت عن إعداد الوجبات  بصورة نهائية، ودفع بعض الجمعيات للاكتفاء بتوزيع مواد عينية جافة مثل الأرز والعدس والبرغل بدلاً من تقديم الوجبات المطبوخة، ولكن لعدد محدود بسبب ارتفاع الكلف بصورة كبيرة وعجز هذه المبادرات عن تأمين ممولين أو داعمين كما كان يجري في السابق.

واضطرت بعض الجمعيات لتوقيف مبادراتها الخيرية بشكل كامل قبل بداية شهر رمضان لتعذر تنفيذ برامجها المعتادة، مما تسبب في عجز كامل أصاب حركة التوزيع الاعتيادية. وقدّر أحد المصادر الإعلامية عدد الوجبات التي كانت تقدم سابقاً في العام الماضي بخمس وعشرين ألف وجبة، لكنها توقفت كلها بسبب أزمة المحروقات وارتفاع أسعار المواد المكونة لهذه الوجبات. هذا عدا عن توقف المساعدات المادية أو العينية لمزودي هذه الوجبات، كما أن بعض الجمعيات أوقفت نشاطها في عدد من المدن وحصرته في المدن التي يتوفر فيها الدعم ولا يتجاوز عددها مدينتين وهما دمشق وحلب.

يبدو المشهد التعاضدي العام عاجزاً ومتقشفاً، أما عن المشهد الخاص ضمن البيوت فالحالة صادمة تماماً، وعبارة العجز المطلق تبدو توصيفاً وحيداً لا شريك له.

 تتشكل وجبة سحور بعض العائلات من الخبز والشاي فقط، والغالبية أوقفت وجبة السحور بصورة نهائية، خاصة بعد الارتفاع الصارخ لأسعار مكونات وجبة السحور مثل البيض والألبان والأجبان، فقد كان سعر البيضة الواحدة حتى نهاية العام الماضي لا يتجاوز الـ125 ليرة، أما الآن فقد وصل سعر البيضة الواحدة إلى 250 ليرة. وتجدر الإشارة إلى أن ارتفاع سعر البيض شكل ضربة قاصمة لمحتويات وجبات الفطور حتى قبل حلول شهر رمضان، خاصة في ظل التركيز على ضرورة تناوله بصورة مستمرة ويومية، ليس فقط لتزويد جسم الصائم بالقيمة الغذائية المطلوبة، بل كوقاية وكعامل معزز للمناعة في مواجهة الانتشار المرعب لجائحة كورونا. وارتفع سعر الكيلو الواحد من الجبن الأبيض غير المغلي إلى ثمانية آلاف ليرة، أي أنه وبعد تحضيره في البيوت ليصبح جاهزا للأكل سيفقد نسبة من وزنه وبالتالي سيرتفع سعره الفعلي، ولذلك وصل سعر كيلو الجبنة المغلية والجاهزة للأكل الفوري إلى ما بين العشرة آلاف ليرة والأحد عشر ألفاً. أما الجبنة الحلوم والشلل فقد تراوح سعر الكيلو الواحد ما بين 11 الف ليرة وحتى الـ14 الف ليرة، وقد وصل سعر أحد أنواع الجبنة إلى عشرين ألفاً. هذا عدا عن ارتفاع أسعار جبنة الدهن الشعبية والتي تُباع بالأوقية أو في علب صغيرة. كذلك تضاعف سعر جبنة القشقوان حيث وصل سعر الكيلو الواحد منها إلى ثمانية عشرة ألف ليرة رغم سوء مكوناتها وافتقادها للصلابة والجفاف المطلوبين لتستحق اسم القشقوان كمنتج وكجودة.

 لابد من الإشارة إلى أن سبب التفاوت في الأسعار والذي نلاحظه بوضوح ليس بسبب الجودة أبداً، بل بسبب المكان الجغرافي الذي تُباع فيه هذه المواد، وحسب طبيعة نافذة البيع، محل صغير، مول كبير، سوق شعبي، مؤسسة تعاونية. كما أن المواد المغلفة يرتفع سعرها بذريعة التغليف مع مغريات لم تعد تعني شيئاً للسوريين مثل التعقيم والنظافة واسم الشركة المنتجة.

أما الحليب واللبن واللبنة فقد باتوا حلماً صعب المنال وقد وصل سعر علبة اللبن التي لا يتجاوز وزنها في أحسن الأحوال ثمانمائة غرام إلى ألف وسبعمائة ليرة، أي أن السعر الفعلي للكيلو يصل إلى ألفي ليرة، هذا عدا عن تراجع الجودة والكثافة المطلوبة، نتيجة خلط الحليب بالماء. أما اللبنة والتي تعتبر البديل الأكثر شعبية عن الأجبان فهي نوعان، نوع يسمى كريمة ويقال إنه مخلوط بالنشاء ليحقق الكثافة المطلوبة، وهي الأكثر مبيعاً رغم معرفة السوريين بأنها مغشوشة وينخفض سعرها مائة أو مائتي ليرة عن السعر المتداول وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة حتى ثلاثة آلاف وثمانمائة ليرة عند الباعة الجوالين وخاصة  الباعة النساء، لكنها تكون معرضة للتلوث في الشارع والأسواق الشعبية. أما النوع الثاني وهو اللبنة البلدية التي وصل سعر الكيلو الواحد ما بين 4500 و5000 ليرة، فقد قل الطلب على شرائها، ويشكو السوريون من فقدانها للكثافة المطلوبة وبالتالي يكون وزنها مختلطاً بالماء مما يجعل كلفة الكيلو الجاف والمتماسك أغلى. أما اللبنة الناشفة والمحولة إلى كرات فقد باتت حلماً مستحيلاً، لارتفاع سعرها الذي يصل إلى 7500 ليرة للكيلو الواحد عدا عن أن طريقة حفظها تتطلب غمرها بزيت الزيتون الذي تحول لغصة بالغة يصعب  معها على السوريين حتى ذكر اسمه بعد أن وصل سعر الكيلو الواحد منه إلى الاثني عشر ألفاً عند شرائه بالجملة أي بصفيحة يبلغ وزنها ستة عشر كيلوغراماً. أما بالفرط أي بالكيلو الواحد أو بالعبوة الموضبة فقد وصل سعر الليتر إلى أربعة عشر ألف ليرة لليتر الواحد.

تشكو الموائد الرمضانية هذا العام من نقصان حاد في مكوناتها وخاصة الفول المدمس والفتات المصنوعة من الحمص والطحينة، عدا عن النقص الحاد في اللحوم، وإن كان نقص اللحوم هو نقص بات أصيلاً في الطبخات السورية إلا أنه هذا العام وخاصة خلال شهر رمضان الحالي فقد وصل سعر الكيلو الواحد من لحم العجل الى اثنين وعشرين ألفاً، أما لحم الخروف فقد وصل إلى حدود الثمانية وعشرين ألفاً للكيلو الواحد وكيلو ليّة الخروف وصلت إلى خمسة عشر ألفاً. وقد سعى السوريون لاستخدام اللية بدلاً من اللحم لأنها أقل سعراً وطمعاً في استعمالها كبديل عن السمن فقد ارتفع سعر كيلو النوع النباتي منها إلى ضعفين ونصف هذا العام، أي من أربعة آلاف ليرة وحتى العشرة آلاف للكيلو الواحد؛ لذلك يلجأ السوريون لشراء السمن بالأوقية. أما اللحمة فيتم شراؤها بمبلغ مقطوع قد لا يتجاوز الألفي ليرة أي حوالي الـ37 غراماً فقط، تخيلوا هذه الكمية هي لطبخة لأربعة أشخاص أو أكثر بواقع قد لا يتجاوز 8 أو 9 غرامات لكل شخص. ويبدو لزاما علينا ذكر الحالة المرضية من سوء التغذية المنتشرة والتي نلاحظها على الوجوه والأجساد بالعين المجردة والتي يمكن وصفها بما يشبه الجائحة.

تقتصر موائد الإفطار على نوع واحد، طبخة هزيلة بلا لحوم وإن توفر اللحم فقد يكون لحم دجاج للملوخية مثلاً لكن بربع الكمية المعتادة. كل شيء فقد نكهته الأصلية وتضاءلت فائدته الصحية، حتى عتبة الشبع تضاءلت وباتت في حدودها الدنيا. وقد درجت عادة جديدة وهي طبخ البرغل بقانص الدجاج بسبب رخص ثمنها، لكنها تحتاج تنظيفاً شديداً وطعمها لا تستسيغه الغالبية كما أنه بلا أية فائدة صحية، لكنه يتوفر على بعض الدسم فيعطي بعض الشعور الواهم بالاكتفاء.

 في ظل ارتفاع غير مسبوق بأسعار الخضار، وخاصة مكونات السلطة والفتوش والتي تعتبر ركناً أساسياً في موائد الإفطار، فقد بلغ سعر جرزة أو ربطة الفتوش خمسمائة ليرة، أي عشرة أضعاف سعرها في رمضان المنصرم، وكيلو الخيار البلاستيكي وصل سعر الكيلو منه إلى الألفي ليرة.

 اعتاد السوريون منذ حوالي العامين، على شراء الخضار بالقطعة، لكن هذا العام تخلى السوريون قطعياً عن شراء الكثير جداً من المواد الأساسية وخاصة مكونات وجبات الطعام ووجبات الإفطار في رمضان، فبدلاً من الليمون يستعملون ملح الليمون. وتخلوا عن شراء الفليفلة الخضراء لأن سعرها وصل إلى ثلاثة آلاف ليرة للكيلو، قد يتمكنون من شراء قطعتين تفرم مع السلطة بدلاً من اكلها مرافقة للطعام وهو تقليد دمشقي أصيل، وذلك توفيراً في عدد الحبات التي يتوجب شراؤها لتكفي أفراد العائلة.

أما الحلويات وخاصة ما يتم صنعه خصيصاً في شهر رمضان وتعيش منها أسر بكاملها كعمل موسمي مربح اعتادوا على إنتاجه خلال هذا الموسم تحديدا، مثل الناعم والمعروكة والنهش والمغشوشة والحلويات المحشوة بالقشطة، فقد شهد انتاجها كما شراؤها تراجعاً كبيراً لارتفاع كلفتها الذي تسبب بارتفاع أثمانها رغم تقليص هامش أرباحها رغبة من الصناع والباعة بتيسير أعمالهم والحفاظ على مهنتهم وتأمين سيولة ضرورية لهم مهما باتت قليلة وغير كافية.

تحتضر الطقوس الرمضانية بفعل الهشاشة الاقتصادية والفقر العام وغياب الدعم الذي أحاق وأصاب حسب تصريحات أممية الثمانين بالمئة من الشعب السوري.

 إن الاحتضار الأصعب والأكثر شمولية وتوسعاً هو احتضار السوريين والسوريات الطويل في مواجهة أصعب أزمة معيشية تعصف بهم وتهدد رمقهم الأخير، احتضار نفسي ونمطي، والأكثر إيلاماً هو تردادهم لعبارة: (الله يجيرنا من الأعظم)، وكأن الأعظم لم يأتِ بعد، أو كأنه يكشر عن أنيابه في وجوه السوريين والسوريات ويقول لهم انتظروا الويلات القادمة.

حيتان في كأس ماء: ممدوح عدوان والحياة

حيتان في كأس ماء: ممدوح عدوان والحياة

كان يعشق الحياة. عبارةٌ غريبة ضمن سياق الثقافة العربيّة، عبارة عجائبيّة ضمن سياق الثقافة السوريّة على الأخص. لا مكان لعشق الحياة حين تكون مفردة «الموت» المفردة الأكثر تكرارًا على نحوٍ واعٍ ولاواعٍ في الأعمال الإبداعيّة السوريّة ولدى مبدعيها على السّواء. كان يقهقه في بلاد الابتسامات الشّحيحة، وكأنّه يرسم بحياته مقياس ڤلاديمر نابوكوف لتصنيف النّاس: كان نابوكوف يقسم النّاس إلى أولئك الذين يضحكون وأولئك الذين يبتسمون، وقد كان من أنصار الضاحكين؛ وكان ممدوح عدوان يقسم النّاس إلى أولئك الذين يضحكون وأولئك الذين لا يضحكون ولا يفهمون النّكتة، وقد كان من أنصار الضاحكين طبعًا. كان نابوكوف مولعًا بجمع الفراشات؛ رفاهية لا تُتاح لسوريٍّ مثل عدوان، فاكتفى بلملمة الدّقائق كي يعيش الحياة إلى أقصاها، ويعشق الحياة إلى أقصاها. لم يكن ساذجًا كي يُخدَع بقشور «التّفاؤل الثوريّ» الذي اجتاح الستينيّات والسبعينيّات، فحتّى هذا التفاؤل يفترض أّنّ الحياة ليست مكانًا للعشق بل للنّضال كي تحظى الأجيال اللاحقة (أيًا تكن تلك الأجيال المجهولة الغامضة) بحياة تستحق العيش. هذا ما يفترضه الأمر نظريًا على الأقل. لم تكن أعماله ذات تفاؤل ثوريّ، ولم تكن تفاؤليّة عمومًا، إنْ صحَّ تصنيف الأعمال وفقًا لمقدار تفاؤلها أو تشاؤمها. كانت أعماله ذات نبرة حزينة، مثل باقي الأعمال السوريّة العظيمة. الأمل طيف آخر قد يتبدّى وقد لا يتبدّى. ما ميَّزَ أعمالَه حقًا خيطٌ شفيفٌ لعشق الحياة. حتّى ضمن قنطار الكآبة والحزن والأقدار المقبضة، نجد أنّ شخوصه، بعضها على الأقل، تحتفي بالحياة عبر عيشها. يعشقون ويُعشَقون، يتخاصمون ويتصادقون، يأكلون ويشربون ويضاجعون بنهم أحيانًا. كانوا يعشقون الحياة على اختلاف أفكارهم وأخلاقهم وعوالمهم، كانوا يعشقون الحياة مثل مُبدِعهم. ما الذي رآه هذا الرجل كي يعشق حياةً محكومةً بالموت؟ ما كان عقدُ الستينيّات الذي أبصرَ أولى نتاجاته الإبداعيّة عقدًا مغريًا بالعيش، دع عنك عشق العيش. وما كان ساذجًا ليُصدِّق أنّ صحوة حياة السبعينيّات أكثر من محض نسمةٍ ستُبدّدها البزّات العسكريّة عقدًا إثر آخر. الثمانينيّات؟ جحيم لَفَحَ الجميع. التّسعينيّات؟ كان الشّاب قد بات كهلًا يدرك أنّ الأمل ليس إلا سرابًا إلهيًا أو شِعريًا. الألفينات؟ لم يشهد إلا أربع سنوات منقوصة منها، وقد كانت سنواتِ المرض الذي لن يُمهله طويلًا. ولكنّ الرجل بقي عاشقًا للحياة؛ يعشق الحياة حتّى بعد أن مات؛ بل إنّ عشقه لتلك الحياة المتملّصة من بين الأصابع تعزَّز أكثر بعدما مات. إثر رحيله عام 2004، دارت أغلب المراثي حول أشيائه التي كانت تُمثِّل جوهر عيشه: سيّارته الڤولكس ڤاگن الخنفساء، شَعره المُصفَّف بعناية، قهقهاته، سيگارته، كأسه، سنوات عُمره التي اقتطعها الموت بغتةً بالرّغم من عامٍ ونصف العام من الاستعداد للحظة الموت: استعداده هو واستعداد الآخرين. كانت مراثٍ ملموسةً عن أشياء ملموسة: ما اختطفه الموت فعلًا كان اختطافًا للسيّارة التي راكمتْ غبار وقوفها حتّى كاد يُمحى سواد بقع الخنفساء الحمراء اللامعة، اختطافًا لخصلات الشَّعر الجميلة التي تساقطتْ شيئًا فشيئًا كأوراق شجرة فاكهة، اختطافًا للقهقهات الصادحة في زمن اعتقال البسمة والضحكة، اختطافًا للتّبغ وللكحول اللذين واصلَ عدوان غبَّهُما كَمَنْ يُجرِّبهما للمرة الأولى، بشغف العاشق، عاشق الحياة، عاشق العيش. تخطر لي الآن بعض ردوده الساخرة الثّاقبة في حوار أُجري قُبيل رحيله ونُشر في جريدة «تشرين» بُعيد رحيله بأيّام. ما عدت أذكر ما إذا كان هذا الحوار حواره الأخير، وما عدتُ أذكر ما إذا كان الحوار ضمن الجريدة نفسها أم ضمن ملحق أدبيّ. كان الحوار يشغل وسط الجريدة تمامًا بحيث يمكن الاحتفاظ به منفردًا، كما فعلتُ إلى أن ضاع الحوار مع ما ضاع من مكتبتي القديمة. لن أدخل الآن في شجن ما كان وضاع، ورثاء المكتبة القديمة والبيت القديم، لأنّ ممدوح عدوان لا يحبّ هذا الجوّ الكئيب، ولعلّه سيشير إلى رأسه بأصابعه التي لا تفارق السيگارة ويقول: المهم الذاكرة، اكتب ما تتذكّره قبل أن تُبتلى بزهايمر. المشكلة أنّي ما عدتُ أتذكّر تفاصيل كثيرة من الحوار باستثناء أنّ الأسئلة كانت نمطيّة مكرورة ترفع الضّغط، غير أنّنا نقرأ الحوارات عمومًا، والحوارات العربيّة خصوصًا، للاستمتاع بالإجابات لا بالأسئلة. أتذكّر إجابتين بدقّة: أولاهما إجابة على سؤال تناولَ «أزمة الشِّعر»، إلا أنّ عدوان قلب السؤال رأسًا على عقب ليُذكّرنا بأنّ الشِّعر في أزمة دومًا، أو بالأحرى بأنّ الشِّعر لصيقٌ بالأزمة، يولد منها، بمعنى أنّ الشِّعر (الشِّعر الحقيقيّ لا النَّظْم) بضاعةٌ نادرةٌ على الدّوام، من أوّل أيّام الشِّعر إلى نهاية أيّام الدُّنيا. ولذا لا معنى للحديث عن «أزمة»، بل عن شعراء. فالقبائل كانت تحتفي عند بروز شاعر لها مع أنّ العرب كلّهم يقرضون الشِّعر تقريبًا؛ والمتنبّي، مثلًا، ليس شاعرًا فردًا ضمن صحراء تخلو من الأبيات والقصائد، بل كان واحدًا من بين عشرات أو مئات الشُّعراء، غير أنّه برز عنهم بعبقريّته وجموحه وتفرّده، وطالما أنّنا لا نتحدّث عن أزمة شعر أيام المتنبّي، ليس لنا أن نتحدّث عن أزمة اليوم، أو أزمة تخصّ الشِّعر العربيّ أو أيّ شِعر في هذا العالم. صحيحٌ أنّ نسبة الشِّعر الحقيقيّ قد تضاءلت إلا أنّ هذه طبيعة تقلُّب الأزمنة. ما الذي لم يتضاءل اليوم ضمن مجال الكتابة؟ وحين أنهى المُحاور أسئلته «العميقة»، قرَّر لسببٍ مجهول طرح سؤال عابر (أو لعلّ هذا ما ظنّه المُحاور) على عدوان الذي كان يصارع السرطان في أيامه الأخيرة يتمحور حول «سرّ» مواصلته التّدخين والشّرب بالرّغم من إصابته بالسّرطان. أجاب عدوان بهدوء عابث قلبَ فيه السؤال كعادته من «بالرغم من» إلى «لأنّ»، فأشار إلى أنّه بقي يدخّن ويشرب لعقودٍ وهو مطمئنّ، لمّ ينبغي عليه التخلّي عنهما الآن حين اقتربت ساعة الموت؟ تتلاقى الإجابتان في معنى واحد: ما جدوى الحياة إنْ كنّا سنفكِّر في الموت وننشغل به، وما جدوى الحياة إنْ كنّا سنواصل عيشنا ونحن محض نسخة متطابقة من الآخرين؟ حياتنا، وإنجازاتنا في هذه الحياة، وسيلتُنا الوحيدة لقهر الموت، لا بمعنى الانتصار عليه، بل بمعنى مخاتلته. وقد كان ممدوح عدوان أحد أجمل مَنْ خاتلوا الموت، وواجهوه ندًا لندّ.

كان سيفرح حتمًا حيال هذه الاحتفاءات لأنّها احتفاءات بالحياة (حتّى لو كانت حياةً ماضية) أكثر من كونها حديثًا عن الموت (حتّى وإنْ كان حقيقةً حاضرة). يدرك عدوان أنّ الحياة، لا الموت، هي ما يستحق الكتابة. فالموت ليس إلا تذكيرًا بالحياة، بما كان وما لم يكن، بما صار وما لم يصر. تضاعفَ جمال الاحتفاءات/المراثي حين تركَّزت لاحقًا على تنوُّع نتاجه المدهش. فهذا التنوُّع – في ذاته – برهانٌ آخر على عشق عدوان للحياة، لحياةٍ أخرى، حياة الكتابة حيث خلق حياة موازية. لم يترك عدوان جانبًا من جوانب هذه الحياة الموازية إلا وجرَّب فيه، لعب فيه، عبث فيه، أعاد تشكيله. لعب بالشِّعر وفيه، وفي الترجمة، وفي المسرح، وفي الرواية، وفي الصحافة، وفي السيناريو التلفزيونيّ، وفي المقالات الثقافيّة. ولكنّ المراثي تلاشت وبهتت مع مرور الأيام إلا حين يتذكّر أحدهم ذكرى ولادته أو رحيله، وتضاعفت وطأة التّلاشي حين ترافقت مع تلاشي أعماله التي لم تحظ معظمها بإعادة طباعة. نجتْ بعض التّرجمات، وبعض كتب المقالات، ورواية «أعدائي»، وبعض ذكريات السيناريوهات. نجت لا لأنّها أفضل نتاجاته كما غربلها الزّمن بالضّرورة، بل لأنّها أكثرها رواجًا. يُشار إلى طبعة للأعمال المسرحيّة الكاملة صدرت عام 2006، إلا أنّي لم أصادفها، وباتت قراءاتي معتمدة على ما قُرصِن من المسرحيّات القديمة، وما تسلَّل إلى المكتبات من نُسخ مستعملة. ولم يبق من الشِّعر إلا مجموعته الأخيرة «قفزة في الهواء» التي صدرت في ذكرى رحيله العاشرة عام 2014، ومختارات صدرت عام 2017، وربّما نفد هذان الكتابان أيضًا. طبعة «دار المدى» لأعماله الشعريّة الكاملة اختفت منذ سنوات. كانت طبعةً جميلة ضمن سلسلة أعمال شعريّة كاملة لعدد من الشّعراء: نزيه أبو عفش، محمد الماغوط، سنيّة صالح، أدونيس، سعدي يوسف، نفدت هي الأخرى، لولا تدارك أدونيس وسعدي يوسف أمرهما حين أعادا طباعة أعمالهما طبعة جديدة قبل بضع سنوات. حين أتذكّر أيّة قصيدة من قصائد هؤلاء الشّعراء أو أعيد قراءتها، أستعيد تلك الطبعة ذاتها. قرأتُ قصائد عدوان عام 2005 أو 2006. كانت تجربة لن تتكرّر. قرأتُ القصائد بتتابع جنونيّ وكأنّما الدّنيا ستنتهي خلال أيام. ما زلتُ أظنّ أنّ المقالات وبعض المسرحيّات، لا القصائد، أعظم ما كتب عدوان. لعلّ رأيي سيتغيّر لو أُتيحت لي فرصة إعادة قراءة القصائد كاملةً اليوم. ولكنّ هذا كلّه ليس مهمًا الآن. المهمّ هي حياة عدوان، وعشقه لتلك الحياة، وبراعة تبيان عشقه لها حين كتب عنها في كتابته عن أصدقائه الراحلين. تُقرأ مراثي عدوان، التي نشر بعضها في كتاب «جنون آخر»، بوصفها سيرةً ذاتيّةً مبعثرة كتب فيها عدوان نفسَه وحياتَه بقدر ما كتب الآخرين. هنا، فقط، يُزاح عشق الحياة قليلًا، أو ربّما يتخفّى قليلًا، ليواجه عدوان الموت بالكتابة، بالحياة، تحديدًا حين كتب عن سعد الله ونّوس الذي اختطفه الموت قبله بسبع سنوات. ليست مقالته القصيرة أعظم ما كُتب عن ونّوس بطبيعة الحال، إلا أنّ فيها التقاطات بارعة لم أجدها عند غيره. كتب عدوان عن ونّوس، وعن نفسه، وعن سوريا، وعن الثقافة، وعن معنى أن تكون كبيرًا بين الكبار، وكبيرًا بين الصغار.

يكتب عدوان عن رحيل ونّوس بوصفه نقطةً فاصلة في تاريخ ثقافة، نقطة تُميِّز المياه الشاسعة  حيث تتنافس الحيتان فَتَهِبُ المياهَ من عنفوانها؛ وتُميِّز المياه الضحلة، كأس الماء الصغيرة الشّحيحة، حيث لا مكان للحيتان، بل لأسماك صغيرة تافهة لا تدرك ضيق عالمها فتظنّ تلك الضّحالة هي الكون بأسره. حيتان في كأس ماء، هذا ما كان عدوان يرى نفسه وأمثاله النّادرين ممّن صمدوا في زمن الضّيق. أدرك عدوان احتماليّة تضاؤل أحجام هؤلاء النّادرين بعد رحيل ونّوس، فالحوت «يحتاج إلى مناخ وبيئة من الحيتان. ولكي تكون كاتبًا كبيرًا يجب أن يكون حولك شعب يستوعب كاتبًا كبيرًا، وكتّابٌ كبار يساعدونك على فرض قيمتك من خلال سعيهم لفرض قيمتهم هم.» لا حيتان في كأس ماء، ولا غابات في صحراء. لن تكون للشاعر قيمة حين تتمحور الأسئلة عن «أزمة الشِّعر»، ولن تكون له قيمة لدى قرّاء يقرؤون القصائد بمسطرة الاقتباسات. كان عدوان يرثي نفسه حين رثا ونّوس، كما نرثي أنفسنا مع كلّ راحل من الراحلين الذين يختطفون ذكرياتنا/ذكرياتهم معهم فنتضاءل حتّى لو لم نكن كتّابًا، كبارًا أو صغارًا. لا حاجة لأن تكون قريبًا من المبدع كي ترثيه. أتذكّر هنا تعليقًا ساخرًا لصحفيّ تحوَّل روائيًا ثمّ قرَّر استنساخ ألبرتو مانگيل، أو صورته الظاهريّة بطبيعة الحال، انتقدني حين كتبتُ قبل سنوات عن عدوان. كان يفترض عدم أهليّتي للكتابة عن عدوان لأنّي لم أكن أحد ندماء سهراته. نكتة دفعت جميع ندمائي في سهرتي السابقة للقهقهة بمن فيهم إنكيدو الذي لا يقهقه إلا نادرًا. ولكنّها كأس الماء الضحلة مرةً أخرى. إنْ كان عدوان أدرك انمساخ البحر الشّاسع إلى كأس ماء بعد رحيل ونّوس، فأيّ ماء بقي لنا الآن بعد أن رحل عدوان والماغوط وسنيّة صالح وهاني الراهب، إنْ اكتفينا بالسوريّين؟ لعلّ السّرطان الذي نهش جسد ونّوس أطلق بذوره في جسد عدوان، غير أنّ عدوان لا يكترث للرثاء في ذاته، بل يذكّر نفسه ويذكّرنا بوجوب عشق الحياة حتّى لو كانت طيف حياة في بلاد الضيق. ما دفعه لعشق الحياة أكثر، ولعشق ونّوس أكثر، هو أنّ ونّوس حوَّل سنوات الموت إلى حياة جديدة بالمطلق. كان نتاجه في سنواته الأخيرة أعظم ما كتب على الإطلاق، ولذا مضى إلى الموت بثقةِ المحارب الذي نفض غبار آخر انتصاراته. يذكّرنا عدوان أنّ الموت أضعف من أن نشغل أنفسنا به؛ الحياة أقوى وأجمل وأشدّ إغواء، ولذا لا بدّ من اعتصار دواخلنا قبل أن يعتصرنا الموت. لا بدّ من أن نواجه الموت بكبرياء «لأنّنا لم نترك وراءنا ما لم نعشه، وما لم ننجزه، وما لم نستمتع به. ثمّ نتقدّم لمواجهة الموت مُتخَمين بالحياة». ماذا بشأن ما لم ننجز، ما حلمنا بإنجازه؟ ينفض عدوان السؤال كما ينفض دخان سيگارته التي لم تنطفئ، ليذكّرنا أنّ ما بقي ليس لنا، بل لمن بقي وراءنا كي يبنوا عليه (وهذا نادر)، أو يدمّروه ليشيّدوا ما هو أفضل (وهذا أندر)، أو يهدموه لمجرّد الهدم كما فعلت أجيال متلاحقة طوال عقود وهي تسبح في مستنقعات الضّحالة (وهذا ما يحدث في الغالب).

ما الذي رآه هذا الرجل كي يعشق حياةً محكومةً بالموت؟ رأى الحياة، وتجاهلَ الموت، ببساطة.

*تنشر بالتعاون مع جدلية.

مبادرات رمضانية لدعم الأسر المحتاجة في سوريا

مبادرات رمضانية لدعم الأسر المحتاجة في سوريا

يُشكل تأمين وجبة الإفطار هماًّ حقيقياً لكثير من العائلات السورية في شهر رمضان بالتزامن مع الارتفاع الفاحش في أسعار المواد الاستهلاكية، ورغم الظروف الاقتصادية السيئة و وصول نسبة الفقر في البلاد إلى 90 في المائة، ومع  الأزمات المتلاحقة أصبح العمل التطوعي والإنساني جزءاً أساسياً من ثقافة المجتمع السوري، فمع حلول شهر مضان بدأت المبادرات والحملات تنشط لمساندة الأسر المحتاجة.

حملة خسى الجوع

خلف الجامع الأموي يجتمع العشرات من الشباب والشابات في شهر رمضان بحملة “خسى الجوع” التي أقامتها جمعية ساعد في دمشق وحلب بمشاركة 120 متطوعاًمن فرق تطوعية إسلامية ومسيحية لإعداد كميات كبيرة من وجبات الإفطار وتوزيعها مجاناً. يبدأ عمل المتطوعين في الساعة العاشرة صباحاً ويستمر حتى الساعة السادسة مساء، بأعمال كثيرة أولها تنظيف الخضراوات وتقطيعها وتجهيزها للطبخ مع مراعاة الإجراءات الوقائية من ارتداء الكمامات والقفازات والطواقي.

يتحدث محمد الطباع أحد المتطوعين عن سياق مبادرة “خسى الجوع”: “المبادرة  استوحت فكرتها من الموائد الرمضانية التي كانت تُقام داخل الجامع الأموي. بدأنا العمل قبل يوم من شهر رمضان وجهزنا المعدات لنستقبل الشهر الكريم بالعطاء ومساندة أهلنا. واجهتنا معوقات تتمثل في مصادر الوقود إن كان في الحصول على الغاز الذي تطبخ عليه الوجبات أو مادة البنزين لإيصالها، لذلك يتعاون الفريق مع فريق دراجات (أبناء الشمس) الذي يساهم بدوه في إيصال الوجبات على الدراجات النارية للأطباء المناوبين في المشافي أو الأشخاص التي تنتظر أمام المشافي أو عابري السبيل”. و رغم ازدياد عدد المحتاجين هذا العام ازداد أيضاً عدد المتبرعين على نحو غير متوقع حيث يتم توزيع حوالي 5000 وجبة يومياً.

كسرة خبز

بينما فريق كنا وسنبقى التطوعي وبسبب ظروف هذا العام المختلفة عن السنوات السابقة والمتمثلة بأزمات البنزين والظروف الاقتصادية السيئة بالإضافة إلى جائحة كورونا، فقد قرر توزيع سلة من المواد الغذائية غير المطبوخة والتي  تكفي لصنع وجبة إفطار لعائلة واحدة، وتتكون من كيلو أرز ودجاج بالإضافة إلى زيت ونوع خضار بما يشكل مكونات طبخة إفطار، ومن الممكن في حال وصول تبرعات إضافية من مواد غذائية للسحور أن يقوم بإضافتها للوجبة الأساسية.

ينسق الفريق الذي يبلغ عدده 35 متطوعاً نشاطه بالتعاون مع جمعية مجال لتغطية مناطق ريف دمشق الأكثر حاجة حسب ما أوضحت نور الرز أحد المتطوعات في الفريق موضحة: “لدينا ثلاثون منطقة وقوائم بالأسر المحتاجة. بدأنا بمناطق داريا، يلدا، جرمانا، الحسينية، و بسبب أزمة كورونا ونقص البنزين تحددت حركتنا بشكل أكبر، ولكن هناك من يتبرع بسيارته لإيصال الوجبات ونحن مصّرون على المناطق الأكثر حاجة وأن نوصل المساعدات لأبواب المنازل.”

وتشارك نور أمثلة من الأوضاع الإنسانية التي صادفتها:” هناك عائلات لا يوجد لديها أدنى مقومات الحياة، فسكنهم في بيوت لا تزال على هيكلها الأساسي وبمجرد استلامهم المواد الغذائية يقومون بإشعال النار على الحطب والطبخ عليها، كما هناك أطفال أيتام بدون معيل أو أهل، لذلك نستهدف الأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة ومن هم بلا معيل”.

ينشر الإداريون في الحملة على مواقع التواصل الاجتماعي ما يلزمهم من مواد لتغطية السلة الغذائية والناس بدورها تقدم التبرعات. تختم نور حديثها موضحة: “هذه السنة ظروفها أصعب وبالتأكيد تأثرت وانخفضت التبرعات، ولكن لازال هناك من يتبرع بكيلو أرز وآخر يتبرع بثلاثة أطنان رز كل شخص حسب استطاعته، وبلغ عدد العائلات المستفيدة يومياً بين 500 إلى 600 عائلة”. يوثق الفريق نشاطه في التوزيع مع الصور والفيديوهات بشكل يومي.

سكبة رمضان

في زاوية أخرى من البلاد تحت شعار “أفضل الناس أنفعهم للناس”، يقوم فريق سند التنموي من خلال مبادرة سكبة رمضان بالطبخ بشكل يومي في ثلاثة مراكز في دمشق حسب المواد التموينية التي يحصل عليها الفريق من التبرعات. تهدف المبادرة لإيصال وجبات الإفطار خلال شهر رمضان إلى حوالي 5500 مستفيد ولكن زيادة التبرع رفع عدد الفئة المستهدفة إلى أضعاف العدد المتوقع، ووصل عدد المستفيدين يومياً لحوالي 3000 عائلة توزع عليهم وجبات بالإضافة إلى الحلوى. من بداية شهر مضان حتى الآن تم توزيع حوالي 16 ألف وجبة، وأعلن الفريق على صفحته الرسمية لمن يود الحصول على سكبة رمضان زيارة المراكز الثلاثة.

حملة شهر الخير

وهي الحملة الأولى التي أطلقها فريق “عمرها التطوعي” من خلال إعلان نشره على صفحته الرسمية قبل أسبوعين من شهر رمضان لاستقبال التبرعات العينية ومعظمها مواد تموينية تلزم لتغطية حاجات الأسر في شهر رمضان من سكر، أرز، شاي، سمنة، زيت وغيرها بالإضافة لمواد للأطفال.

يقول الدكتور ميار حلاب أحد الإداريين في الفريق: “جمعنا بيانات 4000 عائلة من المحتاجين ليكونوا الفئة المستهدفة لتغطيتهم لآخر الشهر، العدد منخفض بالنسبة للسنوات الماضية فمثلاً كنا قد وصلنا في السنة الماضية إلى 16 ألف شخص ولكن الظروف الاقتصادية وغلاء الأسعار أثر على انخفاض التبرعات وبالتالي عدد الأشخاص المستفيدين، نحن حوالي 500 متطوع بين إداريين وعاملين وفريق إعلامي”.

وأضاف دكتور حلاب: “هذه السنة واجهتنا مشكلات تأمين البنزين وإجراءات الوقاية من فايروس كورونا في أول فترة تعاون سكان المناطق لمساعدتنا في توصيل المساعدات. التوزيع يكون بالتعاون مع مختار الحي من بداية رمضان حتى الآن وزعنا مواد تموينية لشهر رمضان لحوالي 1000 عائلة.”

حملة إفطار صائم

في ظل كورونا قام فريق “عمرها التطوع” بتنظيم حملة “إفطار صائم” عبر تخفيف التجمعات منعاً من نقل الفايروس من المتطوع إلى المستفيدين أو بين المتطوعين أنفسهم، ويوضح متطوع إداري في الفريق: “استثنينا فكرة الطبخ من قبل المتطوعين واعتمدنا على شيف يقوم بإعداد الوجبات، والفريق يقوم بتوزيعه.”

وأضاف: “تواصلت معنا سيدة في بداية شهر رمضان وتبرعت بإفطار مئة صائم إفطاًرا كاملاً يتضمن وجبة الإفطار ومقبلات ومشروبات رمضانية وحلويات”. ويشرح المتطوع: “تعتمد حملتنا على التبرعات المادية التي يتم تجميعها لشراء المواد الغذائية وتجهيزها كوجبات وتوزيعها، غطينا حوالي 400 لـ 500 شخص والأشخاص المستفيدون هم الأشخاص الأكثر حاجة.”

واعتمد فريق حملة “إفطار صائم” التوزيع في المناطق المهدمة بفعل الحرب بعد إجراء مسح للأسر الأكثر حاجة للمساعدات ليتم وضع تراتبية الأعداد حسب الحاجة، وبعد قيام الفريق بالدراسة الميدانية يتم اختيار العائلات المستهدفة في دمشق وريفها، ويتم التنسيق مع باقي الجمعيات حتى يتم تغطية أكبر عدد من العائلات.

ماء وتمر

ومن النشاطات الأخرى التي نظمها فريق “عمرها التطوعي” حملة ماء وتمر موجهة لأي شخص صائم متأخر عن منزله عند آذان المغرب في الساحات الرئيسية والطرقات العامة، وغالباً يكون ذلك بسبب ظروف عمله، يتم تزويده بقارورة ماء و بعض التمر وأحياناً قطعة حلوى إن كان ضمن سيارته أو باصات النقل العامة أو سيراً على الأقدام، ليتمكن من الإفطار قبل وصوله للمنزل. الفريق التطوعي لجميع الحملات غالباً يتناول إفطاره و هو لا يزال يعمل وفي كثير من الأوقات يستمر العمل لما بعد الإفطار.

المفاجئ حسب القائمين على الحملة أنه ضمن الأحوال الصعبة الجميع يحاول التبرع و لو بأشياء بسيطة، ومن الفريق ذاته هناك من يحضر مواد من منزله للتبرع أو بعض الأشخاص يتبرعون بمخصصاتهم من مادة البنزين ليتمكن الفريق من توزيع المساعدات.

أغنّي العشب: فيروز جوزف حرب

أغنّي العشب: فيروز جوزف حرب

نقرأ في «سِفر التّكوين» أنّ الله أنهى في اليومين الأوَّلين من عُمر الكون خَلْقَ معظم ما يرتبط بالسّماء والفضاء: النُّور والنّهار والليل، ثمّ فصلَ المياه الدُّنيا عن المياه العليا. وفي اليوم الثّالث أخرجَ الأرض. لم يخلقها كما السَّماء، بل أخرجها من بين المياه، ليبدأ فيها سلسلة الخلق الدُّنيويّة. أوَّل ما أنبتته الأرض كان العُشب. العشب أوَّل ما ظهر في الدّنيا، أوّل ما يمكن أن يمثّل من حيث الجوهر ما ليس سماويًا أو إلهيًا. ليس هذا فقط؛ بل إنّه متمايز عن كلُّ ما نبتَ معه من بقل ونبات وشجر لأنّه – على عكسها – بلا بذر؛ بسيط، لا يرتبط بكلّ ما سواه إلا بالأرض؛ يتوالد من ذاته وفي ذاته. هذا العشب، أو أحد تجسُّداته، هو ما يمثّل فيروز جوزف حرب: قصائد/أغانٍ دنيويّة تولد في الحاضر وتنتهي فيه. ليست بسموّ قصائد سعيد عقل، ببساطة لأنّ عالم جوزف حرب لا يشبه عالم سعيد عقل. عالم عقل، كما أشرتُ في مقالة سابقة، أكبر من الأرض ومن الزّمن، أو في واقع الحال منفصل عن الأرض وعن الزّمن. لا زمن فيه لأنّه يبتلع الأزمنة ويُعيد تكوينها في عالمٍ حُلُميّ لا يشبهنا، ولن نشبهه، وإنْ كنّا نتوق إلى عيشه. هذا التّوق هو ما يجعلنا بشرًا: تمنّي ما ليس مثلنا، عيش الـ «يا ريت» التي تُكثّف عالم جوزف حرب. المقارنة بين هذين العالمين ليست مجحفة بقدر ما هي عبثيّة. عالمان مختلفان بالمطلق، لا يربط بينهما شيء حتّى فيروز التي تبرع، كما لا تبرع مطربةٌ أخرى، في التّماهي الكليّ مع عالم القصائد التي تغنّيها. فيروز سعيد عقل تغنّي السّامي، المطلق، اللامتناهي؛ فيروز جوزف حرب تغنّي الدنيويّ، الأرضيّ، العُشب. فيروز سعيد عقل ليست فيروز جوزف حرب، وليست فيروز زياد الرّحباني بالرّغم من تقارُب عالمَيْ جوزف وزياد.

يتماهى سعيد عقل مع المطلق، مع الإلهيّ. قد يبدو التّوصيف عجيبًا حين نتذكّر دنيا عقل خارج القصائد، إذ نعجز عن الحديث عن عقل بلا تحفّظات أو استطرادات تفسيريّة، وتبريريّة ربّما. ولكنّ التّوصيف صحيح بالرّغم من دنياه الشخصيّة النّابذة. التّوصيف صحيحٌ لأنّ دنياه نابذة، إقصائيّة، نخبويّة، مرعبة من فرط الكبرياء. سعيد عقل يشبه إلهًا توراتيًا لا يعرف إلا الغضب وإقصاء ما لا يشبهه؛ ولا أحد يشبه ذلك الإله وتجسّداته النّادرة في واقع الحال. عالمه الشِّعريّ لامتناهٍ، وعالمه الدنيويّ يسعى لأن يكون، أو يبدو على الأقل، لا متناهيًا. السّعي عبثيّ. ولأنّه عبثيّ، بات عقل محكومًا على الدّوام بهذا التّناقض المُفجع. جوزف حرب، بالمقابل، يشبهنا بفضائلنا وخطايانا. هو ابن الحاضر، ابن اللوعة والضحكة، والحِداد والبهجة، والنّقاء والعَفَن. ولأنّه ابنٌ متجذّر في الحاضر لا بدّ من أن يسعى إلى الانزلاق في فخ التّناقضات. يدرك البشريّ أنّه ليس إلهًا، وليس ملاكًا مُكرَّمًا في السّماء أو ملعونًا في الأرض، غير أنّه يدرك – في الوقت ذاته – أنّه وُجِد على صورة قوةٍ فوق-بشريّة، قوّة لادنيويّة، لا ترضى ولا تَقْنَع، بل تسعى (تتوق؟) دومًا إلى الكمال كخالقها، لترى – مثل خالقها – أنّ ما تفعله حسنٌ كلّما أبدعت أمرًا جديدًا. جوزف حرب ابن الـ «يا ريت» التي تُلخّص تراجيديا أن تكون مسجونًا في زمنٍ أوحد خانق، لا فرار منه إلا بالتمنّي، إلا بالخيال، إلا باستعادةٍ عبثيّة لزمنٍ مضى كي يكون الزّمنُ القادم أجمل. الماضي في دنيا جوزف حرب، وفي دنيانا، مرتبطٌ بالمستقبل لا بالحاضر. الحاضر زمن التمنّي والتحسُّر والتفجُّع فقط؛ تمنّي تكرار الماضي في مستقبل أجمل لأنّنا – بالتّحديد – نودُّ لو يشبه الماضي، لو يكون على صورته، بالرغم من إدراكنا الواعي أنّه لا يكون، ولن يكون.

 أوَّل ما يصادفنا حين نستعرض قصائد جوزف حرب الفيروزيّة الصّدمةُ التي ستصحّح فكرتنا المغلوطة السّائدة. يُشار غالبًا إلى أنّ فيلمون وهبي كان الملحّن شبه الحصريّ لقصائد جوزف حرب، ربّما بسبب انتشارها الهائل، وبسبب البصمة الفيلمونيّة الفريدة التي نلتقطها بسهولة من بين جميع ملحّني فيروز. الواقع مُغاير بعض الشيء. لحَّن فيلمون أغلب قصائد حرب حقًا، إلا أنّها أغلبيّة طفيفة. من بين أربع عشرة قصيدة (هي ما تمكَّنْتُ من إيجاده، ولعلّ العدد أكبر)، لحَّنَ فيلمون ثماني قصائد، ولحَّن زياد خمس قصائد؛ أما قصيدة «لبيروت» الشّهيرة فهي موسيقا خواكين رودريغو. تقسيم القصائد تبعًا للملحّن ليس تقسيمًا صارمًا تمامًا، وكذا الحال بالنّسبة إلى تقسيمها تبعًا لثيماتها، لذا سيكون تحليل القصائد مزيجًا من هذين التّقسيمين.

تنقسم القصائد ثيماتيًا إلى قسمين: القصائد «الوطنيّة» والقصائد الغنائيّة «العاطفيّة». القصائد «الوطنيّة» أربع هي (حسب الترتيب الهجائيّ): إسوارة العروس، رح نبقى سوا، فيكن تنسوا، لبيروت. أولاها من ألحان فيلمون، والأخيرة من موسيقا رودريغو، والثانية والثالثة من ألحان زياد. وضعتُ صفة «الوطنيّة» بين مزدوجين لأنّ القصائد لا تندرج بدقّة تحت هذا التّصنيف: ليست أغانٍ حماسيّة، بطوليّة، زاعقة، مع استثناء طفيف للأغنيتين الثانية والثالثة إذ تبدوان ناشزتين عن القصيدتين الأخريين، حيث نجد فيروز في عباءة الواعظ والمحرّض لتؤكّد لنا في إحداها: «جاي النصر وجاية الحريّة» وتحرّضنا في الأخرى: «لا تنسوا وطنكن». اللافت أنّ زياد هو مَنْ لحّن هاتين الأغنيتين اللتين تبدوان أقرب إلى عالم الأخوين رحباني. يغرينا وجود اسم زياد إلى الشكّ بأنّ الأغنيتين پاروديا، إذ تبدوان متسلّلتين من مسرحيّة «شي فاشل»، حيث الوطن الذي كان الرحبانيّان يغنّيانه قد اندثر ومُسخَ إلى موضوعٍ ليس جديرًا إلا بالسخرية اللاذعة. إلا أنّ الواقع صادم حقًا، فالأغنية فيروزيّة، ولم نسمع فيروز يومًا في پاروديا لصورتها الرحبانيّة القديمة بصرف النّظر عن مدى تغيُّر هذا الوطن الذي غنّت وتغنّي له. القصيدتان الباقيتان أجمل وأعمق بما لا يُقاس. لا مباشرة ولا تحريض حتّى حين يُذكّر «الوطن»، أكان تجريدًا عموميًا للبنان كلّه، أو تخصيصًا للجنوب، أو لبيروت، لأنّ الأماكن، ولبنان عمومًا، ليست الوطن نفسه الذي تُدبَّج له القصائد الحماسيّة. الجنوب وبيروت ولبنان، عند جوزف حرب، أماكن خريف، بِقاع رثاء، لا تختلف جوهريًا عن عالم الـ «يا ريت» الذي يُعرِّف عالم حرب. الشِّعر هنا شجيٌّ صافٍ كما لو كان قصيدة حبّ؛ مرثاة حبّ مضى وبقيت ذاكرته الموجعة. لا فارق إنْ كانت القصيدة محكيّة أم فصيحة لأنّ المجاز هو المجاز، والشِّعر هو الشِّعر: «لما بغنّي اسمك بشوف صوتي غلي/ إيدي صارت غيمة وجبيني عِلي» لا تختلف جمالًا ولوعةً وألمًا عن «أطفأت مدينتي قنديلها/ أغلقتْ بابَها/ أصبحتْ في السّماء وحدها». وطنٌ واحدٌ هو ما يغري جوزف حرب بالاستطراد والسموّ الشعريّ: وطن الخيبة، وطن الحرائق، وطن الحاضر الكالح، وطن الرّماد الذي سيُصبح مجدًا سرمديًا لبيروت قبل أن تنقله لمدننا كلّها. «مجدٌ من رماد» لها ولنا ولكلِّ من سيحاول يومًا التغنّي بالوطن، التغنّي بهذه الأرض الجاحدة التي تُرغمنا على هجرها، كي نقيس المسافات بلوعة الشِّعر.

وطن جوزف حرب يشبه وطن ميخائيل ليرمنتف حيث روسيا تلك التي لا فارق إنْ كانت قيصريّة أم لا، كما لا فارق إنْ كانت بيروت هي بيروت قبل الحرب أم أثناءها أم بعدها، إنْ كان ثمّة بعد لجحيم الحرب. يغنّي ليرمنتف، في قصيدته «أرضي»، الوطنَ من دون أن ينزلق إلى فخّ التّمجيد الأجوف: «ومع هذا فأنا أحبك – لا أكاد أعرف لمَ»؛ يغنّي الوطن من دون أن يغنّي «الوطن»، إذ يُفرِّق هذان المزدوجان بين عالمين متمايزين متباينين، بل متناقضين: عالم وطن الأمجاد، وعالم وطن التّفاصيل التي نحبُّها فنحبّ الأرض التي تضمُّها. يستطرد ليرمنتف في «تبريره» لحبّ الوطن (فهذا الحبّ بحاجة إلى تبرير حتمًا) حين يسرد تلك التّفاصيل التي تجعل الأرض وطنًا جديرًا بالحبّ وبالعيش: أرض الطبيعة، لا أرض البشر والحجر؛ أرض الأنهار والصخور والوديان والأشجار والأزهار والعشب. وكذا هي أرض جوزف حرب، وطن جوزف حرب؛ بيروت ليست أرض المقاومة أو الانعزاليّة أو الفينيقيّة أو العروبة أو اليسار أو اليمين، بل هي البحر والبيوت والصخرة التي كأنّها وجه بحّار قديم، والموج والغيم. الفارق بين ليرمنتف وحرب أن حرب لم يعبّر صراحةً عن حبّه للوطن (لحسن الحظ!)، أو عن تبريرات ذلك الحب غير المباشر؛ وأنّ ليرمنتف ابن الرومانتيكيّة وابن الطبيعة أكثر من حرب الذي لا نجده شاعر طبيعة صرفًا (في قصائده الفيروزيّة على الأقل)، إذ هو ليس ميشيل طراد أو طلال حيدر، بل هو أقرب إلى صلة وصل بين الطّبيعة التي غمرت فيروز من الخمسينيّات إلى السبعينيّات وبين المدينة التي بدأت تتسلّل شيئًا فشيئًا إلى أغانيها لتبلغ ذروتها في تعاونها مع زياد. كان جوزف الحرب الباب الذي عبرت منه فيروز إلى عالم المدينة، وإلى هموم الحب وتفاصيله بين حبيبين مدينيّين في الغالب. ليس مصادفةً ولعُ حرب الذي يقارب الهوس بالأبواب التي تشكّل مفتاحًا شديد الأهميّة في فهم قصائده، لا في الأغنية التي كُرِّست للأبواب كاملةً («البواب») وحسب. كانت تلك القصيدة بعبارتها الصارخة: «آه يا باب الـ محفور عمري فيك/ رح انطر وسمّيك باب العذاب» صدًى غير مباشر للوعةٍ أقدم هي لوعة إنكيدو الذي رأى باب انتصاراته الحربيّة القديمة بابًا لهزائمه القادمة ولاندثاره الموجع: «لو كنتُ، يا باب، أعرف أنّك تُضمر لي مثل هذا/ لو كنتُ أعرف، يا باب، أنّك ستكافئني هكذا/ لكنتُ حملتُ فأسًا وقطعتك». الباب لدى إنكيدو ولدى حرب سجلُّ ذاكرة، ذاكرة دنيويّة، دنيا الخيبات والهزائم، هزائم الغرباء العالقين بين عالمين. جوزف حرب، أيضًا، عالقٌ بين عالمين، كما هو عالق بين زمنين، لا سبيل إلى التّوفيق بينهما. نلمحُ توتّرًا في بعض القصائد لا يمكن فهمه إلا بكونه محاولةً عبثيّةً لإدخال ماضي الطبيعة في حاضر المدينة الحجريّ البارد، ولا سبيل إلى ربط هذين المتناقضين إلا عبر الباب الذي يُفتَح فيبدأ الحب ويُغلَق فيبدأ الحنين، يُفتَح فيتسلّل الماضي ويُغلَق فيهجم الحاضر. حالة تذبذب دائمة كانت الألحان أكبر تجسُّدٍ لها.

ألحان فيلمون وهبي طاغية تحاول التهام الكلمات والصوت لأنّها إيقاعات أزمنة متتالية طاغية هي الأخرى. يمكن أن نفهم كلاسيكيّة ألحان فيلمون بمعنييها الحرفيّ والمجازيّ: كلاسيكيّة من حيث التزامها الصّارم بالمقامات الموسيقيّة الراسخة، وكلاسيكيّة بمعنى التّقليديّة التي تشبه زمن الماضي وتُعرِّفه؛ الزمن الذي كان هادئًا لأنّه – ببساطة – يخلو من التمرّدات. العُرف سيّد الموقف دومًا حتّى في الحالات الحبّ التي تفترض وجود شراكة بين اثنين. المرأة أضعف في قصائد حرب الفيلمونيّة. امرأة الحسرة، امرأة ردود الأفعال التي تنتظر المبادرة من الحبيب حتّى في غيابه، ويكاد وجودها كلّها أن يُعرَّف بكونها مرتبطةً بذلك الحبيب. ضمير المثنّى الذي يسود قصائد حرب الفيلمونيّة ضميرُ مفردٍ في واقع الحال، ضمير ذلك الحبيب الذي يمسك خيوط العلاقة حتّى في غيابه. لا يحدث النّسيان إلا بمبادرة من ذلك الغائب، ولا يُعاوِد الحبّ تفجّره إلا بمبادرةٍ ممّن هَجَر: «اعطيني اهرب منك ساعدني إنساك/ اتركني شوف الإشيا وما تذكّرني فيك» أو «إذا رجعت بجنّ وإن تركتك بشقى/ لا قدرانة فلّ ولا قدرانة إبقى». امرأة حاضر تحاول استعادة ماضي ذلك الغائب الطاغية كي تخلق مستقبلًا يشبه ذلك الماضي في طغيانه، لتعود الأمور إلى «طبيعتها» حين تستمدّ المرأة وجودها من غيرها، ولا تكتمل إلا بالنّقصان.

حين بدأ زياد مشواره الفيروزيّ الحقيقيّ كان فيلمون وهبي قد رحل، إلا أنّ زياد بقي على إخلاصه الفيلمونيّ لا في الألحان فقط، بل أيضًا في ثيمات قصائد حرب القديمة. لن نجد فوارق لحنيّة كبيرة بين «حبّيتك ت نسيت النّوم» أو «زعلي طوّل» الزياديَّتَيْن وبين «لمّا ع الباب» أو «بليل وشتي» الفيلمونيَّتَيْن. وكذا لن نجد فوارق في صورة الحبيبة التي بقيت على حالها بالرّغم من شخصيّة زياد المتمرّدة التي لم تكن قد وضعت بصمتها المتفرّدة بعد. كانت أبواب جوزف حرب تُفتَح ببطء أمام عبقريّة زياد لأنّ حرب أطال وداعه لعبقريّة فيلمون. لن نجد غرابةً حين نصادف عبارةً مثل: «حبسي إنت إنت حبسي وحرّيتي إنت» أو «بتشوفن ما مرقوا إلا إيديك على هالبيت» لأنّها رواسب فيلمونيّة كانت تنتظر إغلاق باب حرب إغلاقًا تامًا كي تنتهي لحنًا وكلمة. أو لعلّه تردُّد زياد أمام سطوة ماضي فيروز الذي لم يكن ليتغيّر بأغنية أو اثنتين. أو لعلّه تحفُّظ فيروز التي لم تكن قد نفضت عنها الصورة الأيقونيّة التي تعهَّدها الرّحبانيّان وفيلمون. أو لعلّه بطء جوزف حرب نفسه حين لم يتحرّر من ذاته القديمة، وواصل النَّهل من منابعه المعتادة بالرّغم من الألق الجديد الخفيّ الذي شرع يظهر في القصائد الجديدة من ناحية نبذ الماضي وصور الطّبيعة، وتلمُّس تفاصيل محسوسة تنأى عن التّجريد القديم الذي كان يسم عالم فيروز عمومًا. لعلّها هذه الأسباب كلّها مجتمعةً، ولعلّه سبب آخر لا سبيل إلى معرفته. كان علينا انتظار العام 1987 كي تحدث المعجزة.

كانت المعجزةُ صدورَ ألبوم «معرفتي فيك» الذي شكَّل أولى الخطوات الزياديّة الواثقة في قلب عالم فيروز رأسًا على عقب، وفيه قصيدة/أغنية «خلّيك بالبيت» لجوزف حرب. كان الألبوم «فضيحةً» بالنّسبة إلى شريحةً كبيرة من جمهور فيروز التي هجرتْ أيقونتها وباتت امرأة دنيويّة سيّدة نفسها. كان رفض الجمهور لهذه «الهرطقة» الفيروزيّة/الزياديّة رفضًا صارخًا. صحيح أنّ هذا الرفض خفتت آثاره بالتّدريج إلى أن طوَّع زياد آذان وآفاق جمهور فيروز، إلا أنّ لحظة صدور الألبوم ما تزال أحد التّواريخ الأساسيّة في مسيرة فيروز وزياد، وفي مسيرة جوزف حرب أيضًا.

تلاشت فيروز الرحبانيّة، وفيروز الفيلمونيّة، وظهرت فيروز جديدة تماهت مع ابنة المدينة، ابنة الجاز، ابنة علاقات الحب التي يحكمها السّجال الندّيّ لا الرّضوخ أو الرجاء. ستبلغ فيروز هذه ذروة تمرّدها بعد ألبومات عديدة إلا أنّ للحظة البداية إغواؤها الرائع. صارت فيروز جوزف حرب – للمرة الأولى – صاحبة المبادرة في علاقة الحب التي تومئ القصيدة إلى أنّها علاقة مساكنة لا زواج، علاقة عشق مدينيّ لا تقاليد قديمة. امرأة تسكن بيتًا بمفردها خارج سلطة العائلة، امرأة هي صاحبة المبادرة في ضبط إيقاع العلاقة، امرأة لا تُصرِّح بالحبّ وحسب بل بحبّ الحب: «هلق حبّيت» للمرة الأولى في بادرة غريبة عن عالم جوزف حرب. لا «يا ريت» هنا بالرغم من الرجاءات الظاهريّة التي لا تعدو كونها غنجًا لا تبعيّة، لن نجد عبارة مثل: «يا ريتك مش رايح، يا ريت بتبقى ع طول». حبيبان أمام البيت بعد انتهاء الوصال، كما كان العاشقان في «لمّا ع الباب»، إلا أنّ المرأة في «خلّيك بالبيت» لا تحبّذ الوداع ولا ترتضيه خيارًا. خلّيك بالبيت لا عند الباب. انتهت مرحلة الباب الفاصل بين عالمين، وصرنا في مرحلة البيت: بيت الحب المتكافئ، بيت العلاقة الندّيّة، لا محض لقاءات ليليّة مختلسة يليها تفجُّع؛ بيت زياد الرحباني في واقع الحال، غير أنّ هذا العالم لم يكن لينطلق انطلاقته الواثقة في ألبومات متلاحقة لولا «خلّيك بالبيت». ليس زياد وحده، أو فيروز وحدها، مَنْ هرطق ونسف صورة الماضي الأيقونيّة. جوزف حرب، أيضًا، هرطقَ، وإنْ لم يكرّر المحاولة أبدًا، إذ اكتفى بمحاولته الوحيدة وارتضى ولعه الأثير بالأبواب، بالتردّد، بالحافّة، لا بالبيوت التي استعادت هدوءً جديدًا لا يشبه هدوء الماضي الرّاضخ.

بقي جوزف حرب في ذاكرة كثيرين مرتبطًا بتلك الـ «يا ريت» القديمة، وغفلوا عن «خلّيك بالبيت»، ربّما بسبب وقوعهم في وهم أنّها لزياد لا لجوزف، إذ هي زياديّة حقًا. ترك جوزف حرب نفسه عند الباب وشرّعه أمام آخرين، وواصلَ إدمانه على هشاشة العشب الدنيويّ.

حين أرسل الله طوفانه، في «سِفر التّكوين»، محا جميع الكائنات عن الأرض، غير أنّنا لا نجد إشارة صريحةً حيال مصير العشب. لعلّه نجا من الطوفان خلسةً كما ينجو دومًا من العواصف التي تمحو كلّ شيء، بشرًا وشجرًا وحجرًا، ويبقى العشب بهشاشته سجلًا وذاكرةً على أبواب العالم الجديد بعد النّجاة. لعلّنا ننجو بهشاشتنا في نهاية المطاف. ربّما.

*تنشر بالتعاون مع جدلية.

من الأمة إلى الطائفة: سوريا في حكم البعث والعسكر: قراءة في آخر مؤلّفات الراحل ميشيل كيلو

من الأمة إلى الطائفة: سوريا في حكم البعث والعسكر: قراءة في آخر مؤلّفات الراحل ميشيل كيلو

برحيل ميشيل كيلو (مواليد 1940)، الكاتب والمترجم والمثقف والسياسي والمعارض البارز للنظام السوري منذ خمسة عقود، يوم الإثنين (19 من الشهر الحالي) في العاصمة الفرنسية باريس، إثر تدهور حالته الصحية بعد إصابته بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، عن عمر ناهز 81 عاماً، خسرت سورية قيمة فكرية كبيرة وقامة وطنية عظيمة.

كتاب «من الأمة إلى الطائفة.. سوريا في حكم البعث والعسكر»، الصادر مؤخراً عن دار “موزاييك للدراسات والنشر” السورية في مدينة إسطنبول، هو آخر ما صدر للراحل من كتب، والذي سنستعرضه في هذه المقالة، للوقوف على دراسته النقدية لحكم حزب البعث والعسكر في سوريا؛ والذي قسمه على ثلاث مراحل، امتدت أولاها من عام تأسيس حزب البعث عام 1947 إلى عام 1966. والثانية من انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966 إلى 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970؛ وهو عام انفراد الفريق حافظ الأسد (1930-2000) بالسلطة وكان حينها وزيرًا للدفاع. والمرحلة الثالثة من عام 1970 إلى قيام الثورة السورية في 15 آذار (مارس) 2011. مفصلاً آليات السلطة البعثية، وكيف استطاعت إحكام السيطرة على كافة مؤسسات الدولة السورية السياسية والعسكرية طيلة العقود الخمسة الماضية، ساعياً إلى توضيح صورة انقسام سوريا بعد الحكم الأسدي من خلال تطييف السلطة والمجتمع، ليقتصر عمل هذه السلطة (الأسدية) على بُعدها الطائفي.

جاء الكتاب في (386 صفحة من القطع الكبير)، ويقع في ثلاثة أجزاء: الأول عن الحزب، الذي تأسّس رسمياً عام ١٩٤٧، وما مرّ به من تحوّلات وتعرجات، نقلت مواقفه من النقيض إلى النقيض، فيما يتصل بأكثر قضاياه أهمية ومركزية كقضية الوحدة العربية، ناهيك عن الحرية والاشتراكية، وفهمه لهما. وينتهي هذا الجزء في العام ١٩٦٦، بالقضاء على بعث كلٍ من ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وتأسيس بعث مختلف على يد ضباط (اللجنة العسكرية) العائدين من مصر، بعداء شديد للوحدة معها ولشخص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والرافضين لقيادة عفلق (المتهم بخيانة الحزب)، لأنه وافق على حلّه من أجل الوحدة مع مصر الناصرية.

يذكر المؤلّف في المدخل التمهيدي لهذا الجزء (الأول) الموسوم بـ «من تأسيس بعث عفلق إلى القضاء عليه أو من ١٩٤٧ إلى ١٩٦٦»، أنه “إذا كان هناك في تاريخ سورية الحديث تشكيل سياسي ناقض مساره الواقعي ما ألزم نفسه به من وعود ورفعه من شعارات، قبيل وعند وبعد إعلان ولادته يوم السابع من نيسان (أبريل) عام ١٩٤٧، ثم قبل وبعد مشاركته في الانقلاب على السلطة عام ١٩٦٣، والانفراد بها بين هذا العام وعام ١٩٦٥، فهو التشكيل الذي أسسه الراحلان ميشيل عفلق (١٩١٠ – ١٩٨٩) وصلاح الدين البيطار (١٩١٢ – ١٩٨٠)، وحمل اسم “حزب البعث العربي”، ثم ما لبث أن تغيّر إلى “حزب البعث العربي الاشتراكي”، بعد اتحاده عام ١٩٥٢مع “الحزب العربي الاشتراكي”، الذي كان قد أسّسه الراحل أكرم الحوراني (١٩١٢ – ١٩٩٦) في حماه وريفها عام ١٩٥٠. مبرزاً ما دار من صراعات وانقلابات في سورية قبل وبعد منتصف ستينات القرن الماضي، حيث “بدأت مرحلة صراعات أشد ضراوةً وعنفًا، استمرت حتى عام ١٩٧٠، ودارت داخل (اللجنة العسكرية) وبين أجنحتها، ومرت بانقلابين عسكريين كبيرين: وقع أولهما يوم الثالث والعشرين من شباط (فبراير) عام ١٩٦٦ ضد الفريق أمين الحافظ (١٩٢١ – ٢٠٠٩)، رئيس الجمهورية المقرب من ميشيل عفلق، تخللته معركة استمرت ساعات عديدة في حي أبي رمانة، أرقى أحياء دمشق، أرسل بعد حسمها إلى سجن المزّة. ووقع ثانيهما يوم السادس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) عام ١٩٧٠، عندما أطاح وزير الدفاع الفريق حافظ الاسد بالأمين القطري المساعد لحزب البعث اللواء صلاح جديد في انقلاب سلمي لم ترق فيه دماء، وأُرسل غريمه إلى سجن المزّة العسكري بصحبة العدد الأكبر من رفاقه في قيادة الحزب، حيث بقي إلى أن توفاه الله بمرض مفاجئ يوم ١٩ آب (أغسطس) عام ١٩٩٥، بعد خمسة وعشرين عاماً من احتجازه دون محاكمة أو تهمة”.

وبعد استقراء نقدي للفترة ما بين 23 شباط (فبراير) 1966 و16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970؛ عام انفراد الفريق حافظ الأسد بالسلطة. يحلّل صاحب «دير الجسور»، أبعاد الصراع بين تياري حافظ الأسد وصلاح جديد، وكيف قاد حافظ الأسد انقلابه العسكري في 16/11/ 1970، والذي أطاح فيه بصلاح جديد، ورفاقه في الحزب واللجنة العسكرية، وقبض عليهم ورماهم في سجن المزّة، إلى أن ماتوا فيه أو خرجوا منه إلى القبر،

مستعرضًا في السياق، الطريقة التي تم بها نصب فخ لمصر وعبد الناصر من خلال اللجنة العسكرية، التي أفادت من موقف عفلق، الذي انتقل من رؤية الحزب بدلالة الوحدة إلى رؤية الوحدة بدلالة الحزب، وصراع عبد الناصر على زعامة العالم العربي باسم الوحدة، وتولت الإعداد للحرب التي أطاحت به، وانتهت بالتخلّص من نظامه، وبصعود نظام حافظ الأسد إلى موقع قيادي في العالم العربي، خلال الحقبة التالية، وفق علاقات قوى جديدة مع إسرائيل.

الجزء الثالث، والذي يقع في قرابة مائتين وخمسين صفحة، وهو الأهم والأطول في الكتاب، يحلّل فيه صاحب «قصص واقعية من عالم الأشباح.. ذكريات من سجون الأسد»، باستفاضة ظاهرة الأسدية تحليلًا بنيوياً شاملاً، شارحاً فيه كل ما يتّصل بتاريخ الأسد الأب وخياراته وآليات اشتغاله والنتائج البعيدة المدى التي ترتبت عليه. مقدمًا من خلاله قراءة مغايرة لكل ما كتب سابقًا في هذا الصدد، في محاولة تكون الأقرب إلى كشف واقعه.

يؤكّد كيلو في كتابه، أنّ علاقات حافظ الأسد الأب مع إسرائيل كانت السبب الرئيس لتسليمه السلطة عام ١٩٧٠، بعد ثلاثة أعوام على تسليمه الجولان لها. وأنه عمل (أي الأسد الأب) على إرساء علاقته مع الإسرائيليين على ركيزتين هما: انصرافه، من جهة، عن اعتبار وجودها غير شرعي ويستدعي التحضير لمعركة معها، تتجاوز سورية إلى فلسطين وأمن وسلامة العالم العربي، الذي كان جليًا على الدوام أنها جهة مكلفة بضبطه، ومصمّمة عليه. ونقل سورية، بالمقابل، من طرف معركته الإستراتيجية معها إلى جهة معركتها مع العالم العربي، بذريعة محاربة عملائها، الذين كان يكفي أن يكونوا مختلفين معه أو مناوئين ومعارضين لنهجه حتى يعاديهم كعملاء للصهيونية، التي جلست مسترخية في الجولان، دون أن يسمح النظام الأسدي بإزعاجها.

يلفت كيلو في سياق تحليله، إلى أنّ حافظ الأسد عمل تحت مظلة إسرائيل، ولم ينفذ غير المهام التي وافقت عليها، كما فعل عندما غزا لبنان، بذريعة حمايته أرضاً وشعباً، وخاض حرباً منظّمة ضد منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، وضد قوى الحركة الوطنية اللبنانية بحجة المحافظة عليها، بينما احتلت إسرائيل ١٢٪ من إجمالي مساحة لبنان وأقامت منطقة عازلة في جنوبه، دون أن يفعل جيش النظام السوري شيئاً، والسبب هو تفاهم على إدخاله إلى لبنان مقابل تقاسم وظيفي له، وحق إسرائيل في الإشراف على دوره فيه، ورسم خطوط حمراء لا يتخطاها في جنوب الليطاني ومنطقة كفريا في جبل لبنان، مقابل المنطقة المسيحية، وإطلاق يده في خصومها (الفلسطينيون واللبنانيون).

ويرى المؤلّف، أنّ التزام بشار الأسد بهذين المحددين، بالإضافة إلى إبقاء المجتمع السوري خارج الشأن العام، وانفراد الأجهزة الأسدية بإدارة الدولة والمجتمع، انطلاقاً من أسس طائفية بنتها السلطة كي تُبقي المجتمع مقسماً وموزعاً على جهات متناحرة، ليست إسرائيل بين همومها، ضمن الأسد الابن بعد الثورة كرسيه، مقابل تدمير دولة ومجتمع سورية كهدف رئيس جدًا من أهداف تل أبيب، ما كانت لتتمكّن من إنجازه دون خسائر فادحة تلحق بها، وقاها الأسد منها.

  • كيف جعل الأسد من طائفته جزءًا من أدوات قمعه..

تميّزت قراءة المؤلّف لظاهرة الأسدية في الجزء الثالث من الكتاب، ببناء نظام تديره أجهزة معظمها سري وقمعي، نافية للمجتمع، تنتمي إلى مجتمع سلطوي راكب على سوريين مشتتين ومقموعين ودون حقوق من أي نوع كان، وقادر على انتزاع كل ما هو بحاجة إليه من موارد لإعادة إنتاج نفسه في إطار يعمق ويعزز حضوره في الشأن العام، وتفوقه على عدوه الداخلي كما يتمثّل في المجتمع الخاضع.

وفي تلخيصه لماهيّة بنية السلطة الحزبية والأمنية والعسكرية الأساسية التي أرساها حافظ الأسد لضمان بقاء نظامه بعد الاستيلاء على السلطة رسمياً بانقلابه العسكري. رأى كيلو أنها بنية إجرامية مكرسة لاحتكار الحقل السياسي واحتلال المجال العام، ومنع الشعب السوري من امتلاك حقوقه أو المطالبة بها، وهو ما تأكّد بعد الثورة، حين انقض بجيشه، الذي سلم الجولان عام ١٩٦٧ دون قتال لإسرائيل، وفرّ في حرب ٧٣، واندحر خلال أربع وعشرين ساعة، اخترق الجيش الإسرائيلي بعدها القطاع الشمالي من الجبهة، بعد أن احتوى هجوم آلاف الدبابات الأسدية، الذي اعترف حافظ الأسد في حديث له مع الصحافي الأميركي أرنو دو بوشجريف بتدمير ١١١٢ واحدة منها خلال أربع وعشرين ساعة، واِدّعى أنّ جيشه خاض أكبر معركة دبابات في التاريخ، والحقيقة أنّ معظم الدبابات لم يدمّر، بل تُركَ في أرض المعركة لأنّ أوامر “القيادة” إلى ضباطها كانت تلزمهم بعدم التضحية بحياتهم كي لا ينهار النظام. هذا الجيش الذي يتعايش مع احتلال الجولان منذ أربعة وخمسين عاماً، لم يتعايش يوماً واحداً مع مطالبة السوريين بالحرية، التي وعدهم حزب البعث بها منذ نيف وسبعين عاماً، وتشدق الأسد الأب بوعدها في جميع خطبه، بل انقض عليهم كما لم ينقض جيش استعماري على شعب مستعمر، وقتل وجرح وشوه وعذب الملايين منهم!

يذهب كيلو عميقًا في تشريح علاقة النظام بطائفته التي جعل منها جزءاً من أدوات قمعه،

شارحًا بنية هذا النظام بتركيزه على الأسدية بوصفها قائمةً على طائفية عميقة اتّخذت من الطائفة العلوية محورها الأساس وركيزة لها لحكمها الطائفي، وكيف عمل الأسد الأب على عزل الطائفة التي ينتمي إليها عن باقي مكوّنات الشعب السوري، وتحويلها إلى أقليةٍ معاديةٍ له، عامداً إلى بقاء دائرته الطائفية مغلقةً على ذاتها.

يقول كيلو: “في حين يجب أن تبقى دائرته الطائفية مغلقة على ذاتها، لتبقى شيفرتها ولغة تداولها وشبكات تواصلها ومسارات عملها وخططها خارج متناول من لا ينتمون إليها، أو لمن هم خارجها من أعضاء الهيئة الاجتماعية العامة، لا بد أن يبقى المجتمع مكشوفاً وممنوعاً من التكور على ذاته، وأن يبقى بالتالي منقسماً إلى جماعات وجَمعات متفاوتة الحجم والأهمية والدور، والأهم من هذا وذاك متناحرة ومكشوفة في الوقت نفسه أمام تدخل الأجهزة، ومفتقرة إلى لغة تخاطب وأقنية تواصل وشبكات تفاعل خاصة بها، كي لا تبني بمعونتها عالمًا خاصًا بها، تواجه به السلطة”.
جدير بالذكر أنّ للراحل ميشيل كيلو قرابة أربعين كتاباً مترجماً في الفكر السياسي والفلسفة والاقتصاد والتاريخ، نذكر منها: «من هيجل إلى نيتشه – التفجر الثوري في فكر القرن التاسع عشر: ماركس وكيركجارد»؛ «برلين-كابول موسكو (أوسكار ريتر فون نيدرماير وجغرافية ألمانيا السياسية)»؛ «نظرية الدولة» لنيكوس بولانتزاس؛ «السياسة في الحرب العالمية الثانية» لماكس فيبر؛ «الديمقراطية الاشتراكية» لارتور روز نبرج؛ وكتاب أ. ك. أوليدوف «الوعي الاجتماعي»؛ و«الإمبريالية وإعادة الإنتاج» و«لغة السياسة» لجورج كلاوس. إضافة إلى قصة طويلة بعنوان «دير الجسور» (2019)؛ و«قصص واقعية من عالم الأشباح.. ذكريات من سجون الأسد» (2012)، والتي كشف فيها تفاصيل حياة أليمة عاش السوريون فظاعاتها طيلة عقود خمسة في مملكة الصمت الأسدية.

ومن المؤلّفات المشتركة التي ساهم فيها كتاب «الجولان السوري المنسي وموقعه في سورية المستقبل»، الذي أصدره مركز حرمون، في عام 2017، بمناسبة ذكرى هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ومرور نصف قرن على احتلال الجولان.