بواسطة طارق علي | أبريل 10, 2024 | Cost of War, Reports, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي “عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟”، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: “بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد”، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا لقلّة ثقافة السوريّ، بل لانشغاله بدوره في طوابير الانتظار التي لا تنتهي.
ولأنّ الأمور في الحرب لا يمكن أن تنفصل عن بعضها بسبب ترابطية عجائبية فأين طاف بها الساقي تنسكب خمراً غير مكتمل التعتيق في كؤوس تظلّ فارغةً لا تملؤها إلّا جماعية الهموم، ومنها بيت القصيدة الثاني، “أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ… فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ”. أليس من فيض المعقول أنّ هؤلاء الأحبة هم الذين تفرغ منهم البلد تباعاً، أهلها وأناسها، شبابها وشاباتها، وأليس من الأغرب أن ينتهي في كل حديثٍ مع سوريٍّ ندمه أنّه لم يهاجر، أو اشتياقه لمهاجر ربما لن يعود؟
حين جاء العيد
انتهى رمضان بكل ما حمله من مواجع لآلاف الأسر التي صامت وأفطرت على شوربة العدس وبعض الخضار بأفضل الأحوال، تفاوتت وجبات تلك العائلات، ولكنّ الجامع بينها أنّ موائد الشهر على فقرها أرهقتهم، وكذا ساروا يوماً بيومٍ حتى جاء العيد وقد يبدو غريباً أنّ شعباً لا ينتظر عيداً.
لذلك أسبابٌ من السهل معرفتها دون الحاجة لمراكز دراسات تقرأ في الحال اليومي لهؤلاء الناس، وإن بدا الحال مغرقاً في الكآبة فهل هناك فرحٌ مقرونٌ بقهر يبدأ بجودة رغيف الخبز ولا ينتهي بأشهر انتظار أسطوانة الغاز وبينهما صلاةٌ موحدة: “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”.
معضلة مركّبة
وجد الآباء والأمهات أنفسهم قبل هذا العيد أمام معضلة مركبة أكثر مما كانت عليه قبل عامين، وقبل عام، وحتى قبل شهر، من ارتفاع أسعار لا يعرف التوقف، ارتفاع جعلهم عاجزين عن تحقيق أشهر طقس مرتبط بالعيد، وهو شراء ملابس لأطفالهم.
بحسرةٍ يتحدث المهندس جاد سلامة عن عدم تمكنه من شراء ملابس لأطفاله الثلاثة بسبب ما لقيه من ارتفاع كبير في أسعارها، حتى تلك الشعبية منها، مبدياً قلّة حيلته واستسلامه أمام عجزه عن اجتراح حلول لأمرٍ إن بدا رفاهية للكبار المدركين، ولكنّه مبعث فرحٍ تامٍ للأطفال الصغار الذين لا يعرفون من رمضان سوى أنّ نهايته مقرونةٌ بعيدٍ يعمّ فيه الفرح وتنتشر الألعاب ويرتدون فيه الملابس الجديدة.
يشرح جاد الوضع: “تكلفة ملابس كل طفل بين 400 و600 ألف ليرة سورية، أليست هذه كارثة! من أين سأجيئ بذلك الرقم المهول الذي يعادل خمسة أضعاف راتبي الشهري ثمناً لملابس ثلاثة أطفال من أدنى حقوقهم أن يرتدوا ثياباً جديدة ويحتفلوا بالعيد ويشعروا بروحانيته وطقوسه؟”
مشكلة جماعية
لم يكن الحال أفضل بالنسبة لكثر آخرين سألناهم عن شراء ملابس العيد لأطفالهم، فمثلاً اكتفت أم مازن (ربّة منزل) بالقول: “لا حول ولا قوة إلّا بالله، حتى بهجة العيد صارت مفقودة، كيف سنشرح لأطفالنا ما نمرّ به وكيف أنّنا مرغمون على ارتداء ذات الملابس حتى تهترئ!”
بدوره يسأل مجيب راشد وهو موظف آخر بعد جولة مستفيضة بالأسواق لذات الغرض عن دور الرقابة والتموين في ضبط الأسعار التي تقفز من شهر لآخر بقوله: “ألم ينخفض سعر الدولار كثيراً وحافظ على ثباته منذ شهرين على الأقل فلماذا ترتفع الأسعار بين يوم وآخر!، سألت عن سعر ملابس لطفلتي في نفس المحل وبفارق يومين اختلف السعر”.
سوق الفقراء للأثرياء
بدا الأمر أكثر غرابةً عند زيارة سوق البالة الكبير في دمشق (سوق الإطفائية)، هناك حيث جنّت الأسعار مرّة واحدة على ما قاله زائرون للسوق بقصد الشراء، أو على الأقل محاولة الشراء من سوق الفقراء، ليتضح أنّ الأسعار قفزت فجأة إلى الضعف على الأقل.
برر صاحب أحد المحال هذا الارتفاع نتيجة قلّة البضائع ومنع استيرادها والاضطرار للحصول عليها تهريباً من لبنان غالباً وبالدولار وبطرق صعبة ومكلفة جداً، وأكمل يقول: “ارتفاع الأسعار هذا طبيعي بعد موسم كامل من الكساد في المبيعات”.
وبصورة وسطية تتراوح أسعار الجينزات كمثال بين مئة ومئتي ألف ليرة سورية، وبعض الأحذية وصلت إلى 600 ألف ليرة، أما الكنزات فمتوسط سعرها 60 ألف ليرة، والفساتين كان من الصعب حصر أسعارها لشدة تفاوتها بين محل وآخر بغرابة شديدة توحي بأنّ السوق فجأة تحول لأثرياء العاصمة نابذاً فقراءها.
“شعرت أنني في سوق الصالحية ولست في سوق الفقراء، الأسواق جميعها تلفظنا، كيف يعيش أولئك الباعة دون مبيعٍ!” هذا ما قاله أحد الزائرين للسوق والذي كان يتحدث ممسكاً بحذاء “مستعمل” يتفحصه بعينيه ويكرر سؤاله للبائع: “هل فعلاً سعره 500 ألف؟”
مصائب قوم
جنون الأسواق ذلك أفضى لنشاط في عمل الخياطين بحسب رئيس جمعية الخياطة توفيق الحاج علي الذي أشار في تصريحات لموقع محلي أن “إقبال الناس على إصلاح الملابس أو تصغيرها سببه ارتفاع أسعار الجديدة بشكل مضاعف عن العام الماضي وهذا أدى إلى تزايد الإقبال على تدوير الملابس القديمة لدى الخياطين بنسبة تتجاوز 40%، في ظل تدني القدرة الشرائية لدى الأهالي، وتالياً يعتبر هذا الحل تدبيراً اقتصادياً في ظل عدم قدرة 60% من الأسر لشراء الملابس الجديدة”.
ليس واضحاً كيف حسم رئيس الجمعية أمر الأرقام بدقة، فإن كانت فقط 60 بالمئة من الأسر لم تستطع شراء ملابس جديدة لأولادها فهذا أمرٌ سيء ولكنّه غير كارثي تماماً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شمولية دراسات الأمم المتحدة التي تؤكد أنّ 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وهذا المؤشر يعني عدم قدرتهم على تأمين الطعام بصورة متواصلة.
مكرهٌ أخاك لا بطل
وبمعزلٍ عن لغة الأرقام الجافة إلا أنّه ثمّة وقائع لا يمكن تجاهلها وهي فعلاً تؤكد نشاطاً في عمل الخياطين استناداً لتمكنهم من تقديم أسعار منافسة للسوق على صعيد الإصلاح والحياكة والترميم وهذا ما شرحه الخياط معاذ جبلاوي.
يقول معاذ: “الناس يعلمون أنّهم لن يحصلوا على أفضل خامة ملابس لدينا، ولكنّهم ببساطة سيحصلون على مجرد كساءٍ، على قساوة التعبير ولكن هذا هو الحال، لأنّهم لو أرادوا تفصيل ملابس من خامة ثقيلة فسيكون سعرها ينافس أفضل بضائع السوق”.
ويضيف: “ما يدفعه الزبون لدينا هو قروش أمام ما سيدفعه في السوق، لأنّه أساساً يعتمد على الترميم وإعادة استخدام المستخدم أساساً”.
ومن ناحيته يشرح عبّاس غانم وهو خياط آخر الأمر من وجهة نظره: “الأمر ليس مرتبطاً بالتفصيل، فالزبائن تأتي لتعيد ترميم القديم وتضييق ملابس الأخ الأكبر ومنحها للأصغر وهكذا، لا، الانتعاش ليس توصيفاً دقيقاً، هو إقبال متزايد نعم، ولكن له ظروفه التي لا تحقق ما يستحقه المواطن ولا تغنينا في الأرباح.”
بواسطة الحسناء عدرا | أبريل 7, 2024 | Cost of War, News, Reports, العربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
مع بدء الحرب السورية تمكنت المؤسسات والمنظمات غير الربحية المندرجة تحت مظلة المجتمع المدني من إثبات وجودها وترك بصمتها على أرض الميدان، فكانت الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية الإنسانية أولى الجهات غير الرسمية التي استطاعت توسيع دورها على خارطة العمل وإنقاذ الفئات الأكثر عوزاً وقضاء الحوائج في محاولة متواضعة لردم المسافة الطبقية بين الأغنياء والفقراء. كما كانت ضمن فرق الاستجابة الطارئة للكوارث، لاسيما أن الحاجة لهذه الجمعيات تبرز عند الأزمات لتصبح مساندة للحكومة، مع الإشارة إلى أن هذه المبادرات تنشط مع تفاقم الحالة المعيشية وتدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع نسبة الفقر في البلاد.
أطلقت جمعية “ساعد” حملتها الإغاثية بعنوان “خسى الجوع” في شهر رمضان، حيث تقدم وجبات الإفطار لمئات العوائل في مدينة دمشق وريفها. وبدأت الحملة منذ أحد عشر عاماً، ويقول المدير التنفيذي للجمعية مازن القاري عن هذه المبادرة الإنسانية: “هناك آلية عمل واضحة، حيث نسير وفق قاعدة بيانات تسجل فيها أسماء الأسر الأكثر عوزاً بعد دراسة وضعها وزيارتها ميدانياً. تستهدف الحملة الفئات المصنفة التالية كأولوية إطعام طوال شهر رمضان وهم الأرامل، الجرحى وأسر الشهداء والتي وصل عددهم قرابة 200 أسرة يومياًهذا العام.” ويضيف: “هناك مئات الأسر خارج التصنيف المذكور، لكن نقوم بتوزيع وجبات الإفطار لهم ليومين أسبوعياً عند حصول فائض من الطعام”.
التبرع في الأعوام الماضية أعلى منه في الحالي
استنزفت كارثة الزلزال التي وقعت في 6/ شباط 2023 جيوب المتبرعين والتجار وأصحاب الأيادي البيضاء والمجتمع الأهلي، ما انعكس سلباً على إحجام بعض المبادرات بإطلاق أنشطتها لغياب التمويل وهو العمود الفقري الذي تقوم عليه الجمعيات الخيرية. يشرح مازن القاري الوضع: “في العام الماضي خدمنا قرابة 60 ألف عائلة خلال شهر رمضان، بينما هذا العام لن يتجاوز العدد أكثر من 15 ألف عائلة، طبعاً هذا الرقم أقل بكثير من عدد المسجلين، لكننا نقدم الوجبات ونغطي الاحتياجات وفق المواد الغذائية المتبرعة المتوفرة والتي تقلصت كثيراً هذا العام نتيجة إعطاء ضحايا الزلزال الأولوية لأموال المتبرعين.” ويشير المدير التنفيذي إلى اضطرار فرع الجمعية بمدينة حلب إلى إيقاف مبادرة “خسى الجوع” لتقتصر فقط على مدينة دمشق، وذلك لغياب الدعم المالي واستنزافها لصالح متضرري الزلزال.
تتولى جمعية “مجال للخدمات الاجتماعية” توزيع وجبات الإفطار يومياً لقرابة 1250 شخصاً طوال شهر رمضان ضمن حملتها “كسرة خبز” مستهدفة الفئات الأكثر فقراً في مناطق الحسينية وعدرا والعتيبة بريف دمشق وذلك بمساندة فريق “كنا وسنبقى التطوعي.” وعن المبادرة الإنسانية، تقول المسؤولة الإعلامية نور زيادة: “لدينا برنامج محدد نستهدف فيه يومياً منطقة جديدة بريف دمشق حصراً بعد التنسيق مع الجمعيات والبلديات المتواجدة في تلك المناطق ومسح كامل للأسر المتعففة.
تضع الجمعية معايير محددة لتوزيع وجبات الطعام مستهدفة الفئات الأكثر حاجة، وهم ذوو الإعاقة والأيتام والأرامل وفاقدو المعيل وذلك بعد تقييم الوضع الراهن حسب نور.
تعتمد المبادرات بشقها الأساسي على مجموعات من الشباب المتطوعين الذين ينفقون ساعات من يومهم في سبيل العمل التطوعي. يخصص جاد ست ساعات أسبوعياً للمساعدة في أعمال الطبخ وتوزيع الوجبات، يقول: “أنا طالب جامعي في كلية الهندسة المدنية، آتي إلى جمعية ساعد ليوم واحد في الأسبوع لتقديم يد العون، لا أستطيع المجيء يومياً بسبب دراستي، شعور العطاء جميل جداً وضروري في ظروفنا الراهنة الصعبة التي يعاني منها الجميع”.
تتفق تيا مع أصدقائها في العمل على اختيار يوم العطلة لزيارة فريق “كسرة خبز” وتوزيع الطعام والقيام بأعمال الطبخ إيماناً منها بأهمية المجتمع المدني بتحسين الحياة نحو الأفضل، تقول الشابة: “التطوع يضفي معنى إنسانياً وشعوراً إيجابياً وإحساساً بالفخر عند مساعدة الآخرين، كما أن توقيت التطوع مهم للغاية الآن، لاسيما بسبب الظروف الاقتصادية التي نعيشها”.
التحديات والعراقيل
تواجه المبادرات مجموعة من العراقيل والتحديات، أهمها أزمة الوقود لتأمين إيصال وجبات الطعام لمستحقيها، ناهيك عن ضعف التمويل. يعمل مطبخ “ساعد” على التنسيق مع فريق دراجين للتخفيف من الازدحام الخانق وتذليل العقبات المتعلقة بالمحروقات، إذ يقطع الكابتن طارق رئيس فريق دراجين “الأمل” مسافة ما لا يقل عن 30 كيلومتراً ذهاباً وإياباً إلى الريف البعيد بغية إيصال وجبات الطعام إلى الأسر المتعففة، وذلك بعد التعاون مع المخاتير. يقول الكابتن طارق عن تجربته: “نحن مبادرة إنسانية لها صفة اعتبارية وليس رسمية نحاول إكساب صفة أخلاقية لرياضة الدراجات وتطويعها لأهداف خيرية، كما يمكننا بهذه الطريقة التخفيف من الازدحام الخانق وتقليص الوقت.” لا ينكر الكابتن وجود نظرة ازدراء تجاه سائقي الدراجات وكأنهم قطاع طرق ويثيرون الفوضى والشغب والقيام بأعمال نشل وسرقة، ويعقب قائلاً: “نعمل على تغيير هذه النظرة ونشر ثقافة الدراجات في البلاد، إلى جانب غياب دعم وزارة الشؤون الاجتماعية في تسهيل ترخيص الدراجات وتخفيض رسومها المالية الباهظة جداً.”
بدورها، تؤكد نور أن تراجع الوضع الاقتصادي وغياب عنصر التمويل وغلاء المعيشة أثر سلباً على عدم الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الأسر الفقيرة وذلك بسبب الإمكانيات المادية المحدودة، وتشرح أكثر: “هذا العام مجحف والتبرع فيه أقل من العام الماضي بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل ملحوظ، ولو كان حجم التبرعات أكبر لاستطعنا تغطية أكبر عدد من العائلات، لكن بالرغم من ذلك نعمل ما بوسعنا وعلى نفس السوية بالعمل والطاقة والجهد”.
يذكر أن جمعية “ساعد” كانت قد بدأت نشاطها عام 2013 بمطبخ صغير ومجموعة صغيرة لا تتجاوز 25 فرداً من متطوعين تبرعوا بمواد غذائية من منازلهم في مقرها بالباحة الأمامية لجامع الأمويين بدمشق إيماناً بخدمة المجتمع وتقديم يد العون للفئات الأكثر عوزاً، بينما تأسست “مجال” عام ٢٠٢٠ لكنها نالت شهرتها بعد عام من انطلاقتها، إذ تهدف إلى توفير ظروف معيشة كريمة للأسر المحتاجة من خلال تأمين متطلباتها الحياتية وتحسين الأوضاع الاقتصادية لأكبر عدد من المستفيدين.
بواسطة د. علي محمد صافي | أبريل 4, 2024 | Roundtables, العربية, بالعربية, غير مصنف, مقالات
إلياس مرقص مفكر وفيلسوف سوري معاصر، ويعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين العرب. ومع أنه ماركسي شيوعي، إلا أن فلسفته اتسمت بطابع توفيقي جمع فيها بين، المادية والمثالية، إذ جعل من الفلسفة المثالية أو الهيجيلية مدخلاً ضرورياً للمادية أو الماركسية. لم تقف شخصية مرقص التوفيقية بين حدود المادية والمثالية، بل عدا ذلك إلى الجمع بين ثنائيات أخرى كالماركسية والقومية، والفلسفة والدين، وبين الوطنية والقومية، وبين الدولة والديمقراطية، ولا نبالغ إذ نقول بين الاشتراكية والبرجوازية.
إلياس مرقص من مواليد اللاذقية عام 1929، وقد توفي فيها عام 1991. وعاش في بيئة ثقافية، وقد حصل على الثانوية بقسميها العام والفلسفي، ثم درس البيداغوجيا في جامعة بروكسل الحرة، وعمل معظم حياته في تعليم الفلسفة.
تعرَّف مرقص إلى الحزب الشيوعي السوري منذ أن كان طالباً جامعياً ببلجيكا، وانضم إلى صفوفه، واستمر على ذلك حتى بعد عودته لسورية، لكنه طُرِدَ منه عام 1956 وذلك بسبب سلوكه ومواقفه الثورية، وانحيازه جهة الديمقراطية والانتخاب. ولم يدفعه هذا الأمر إلى محاربة التنظيمات السياسية، بل بالعكس كان يؤكد أهمية التجربة الحزبية في الحياة السياسية، وفي تغيير الواقع والدفع به إلى الأمام، ولهذا استمر بالتواصل مع الفعاليات الحزبية المختلفة، وضمن نقاشاته وفي كتاباته المتعددة وفي ترجماته للعديد من الكتب ذات الصلة بالحياة الفكرية والسياسية، حتى لقَّبه خالد بكداش بأنه المثقف الأول بالحزب الشيوعي السوري.
وقد أسهم مرقص في إنشاء مجلة الواقع الفصلية في بيروت، ومجلة الوحدة الشهرية في باريس، ويتم عادة التمييز بين مرحلتين اثنتين مرَّت بهما الكتابات الفكرية لمرقص، الأولى قضاها بالتأليف، وفيها ألَّف معظم أعماله الفكرية، والثانية تفرَّغ فيها للترجمة، ومعظم كتاباته وترجماته كانت تنصب على الفلسفة والفلسفة السياسية تحديداً.
كان لمرقص موقف فلسفي واضح حيال دور المذاهب والاتجاهات الفلسفية، ودورها في بناء المجتمعات والدول، وما يميِّز تجربته الفلسفية أنَّه ورغم كونه ماركسياً لم يفهم ماركس من دون هيجل، ولم يفهم ديموقريطس أو زينون الأيلي من دون أفلاطون، لم يُقِم العالم على قدميه بمعزل عن عقله، ثم نراه ينتقل من ذلك إلى ربط كل العلوم والفنون بالفلسفة، فحسب مرقص ” لا فكر ولا تفكير ولا علم ولا معرفة، ولا بحث ولا تنقيب، ولا خدمة لهذه الأمة بدون أفلاطون إيجابياً، بدون سقراط وأفلاطون وأرسطو وبارميندس وهيروقليط وفيثاغور وبدون هيجل وبدون كانط وهيوم وفشته … وبدون ماركس وإنجلز ولينين إيجابياً.” ( مرقص،1997، نقد العقلانية العربية، ص 489).
فالمثالية ليست في ذاتها عدواً للمادية، حتى بالنسبة للأديان. ومشكلتنا نحن كعرب ” لا تكمن في سيطرة الفكر الديني علينا كما يرى كثيرون، بل في عدم وجود فكر ديني حقيقي، لأن الفكر الديني من أهم ظواهر تاريخ أوربا وتاريخ الثقافة العربية أيضاً. والفلسفة الأوربية الحديثة لها مصدران: أفلاطون والمسيحية…” ( مرقص، 2013 حوارات غير منشورة، ص 16).
ولهذا ينتقد مرقص الماركسية الشوفينية لاستبعادها فكرة الله والدين، في حين أنه لا ماركس ولا إنجلز ولا لينين، قالوا أو طالبوا بهذا الاستبعاد، وقد لعب النبي محمد ومن بعده عمر بن الخطاب دوراً جوهرياً في توحيد العرب أو القبائل العربية، كما أن الإسلام ” لعب دوراً، فعل فعلاً مديداً، في إلغاء العبودية، أي في اضمحلال واختفاء أو انطفاء وانقراض الظاهرة .” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص851).
ولذا ركز مرقص على جدلية الفكري والموضوعي، الصوري والمادي، أو المثالي والواقعي، حتى لدى تحديده لمفهوم الأمة خلافاً لمفهومها عند ساطع الحصري والقوميين المثاليين، فالأمة لديه ” ليست جماعة أصلية نسلية طبيعية ولا أمة دينية، ولا هي الاثنان معاً. هي أمة لغة وإقليم (أرض) وإنتاج وثقافة وتاريخ ومصير ومواطنة. هي مجتمع واحد، دولة واحدة. هكذا مفهوم الشيء فكرته الواقعية، ليس واقعه الموجود، الأمم مختلفة من حيث اتفاقها مع النموذج الذي لا تتطابق معه أمة من الأمم من الناحية العرقية أو السلالية.” ( مرقص، نقد العقلانية العربية، ص 961). لهذا لا وجود مادي واقعي بدون وجود فكري أو نظري.
ومفهوم الأمة لديه مرتبط بمفهوم الوحدة، والوحدة تمثل قضية القضايا في فكر مرقص، فقد كان يرى أن ” لا طريق للتقدم والتحرر العربيين من دون تحقيقها وأن العرب لن يتقدموا ثانية في طريق الوحدة العربية ما لم تتمكن قوى الثورة العربية من إعادة بناء الوعي القومي على أسس إنسانية وعلمانية وديمقراطية وما لم تعِ أن السيرورة الوحدوية هي حركة الأمة وليست مقصورة على طبقة أو فئة أو حزب.” ( إلياس مرقص، حوارات، ص9).
والكلام عن الأمة والوحدة متصل بالحرية، والكلام عن الحرية عند مرقص غير ممكن ” بدون الكلام عن العقل والضرورة والقانون، عن المجتمع والدولة والفرد، عن الفَرق والهوية، عن الشغل والقيمة. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بدون مفهوم الدولة، ولا يمكن الكلام عن الدولة الديمقراطية بدون الدولة الحقية (دولة الحق) أولاً وأساساً. لا يمكن الحديث عن الديمقراطية بدون الحديث عن التقدُّم وبدون عيش الناس، بدون خبزهم.” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص 845). وينتقد مرقص الفكر العربي الحديث لأنه ” لم يُعنَ بفكرة التقدم، بل تمسك بفكرة الثورة. (مرقص، حوارات ، ص 15). وشتان بين التقدم الذي يعني الانتقال والحركة نحو الأمام، وبين الثورة التي قد تكون خطوة في طريق التقدم، لكنها لا تنتهي بالضرورة إليه، إذ قد تنحرف أو تغيّر مسارها.
خاض مرقص معارك فكرية ضد الشيوعيين الذين لم يفهموا ماركس؛ لأنهم لم يقرأوه فشوهوا أفكاره، وخاض سجالاته ضد الماركسية الستالينية، وضد الدوغمائية وضد قطرية الماركسية وضد القومية المثالية المعادية للاشتراكية، وكتب كتاباً في نقد ساطع الحصري، وكان يرنو من وراء ذلك إلى صياغة ماركسية لينينية عربية، تجمع بين الاشتراكية والقومية معاً. واختلف مع المقاومة الفلسطينية، ليس بسبب أنه ضد تحرير فلسطين، بل لأنه كان يرى أن تحرير فلسطين يمر عبر الوحدة العربية والإرادة القومية العربية . لم يكن مرقص يعد نفسه قومياً عربياً، بل كان يرى أنه ماركسي ناصري، حيث يوافق جمال عبد الناصر بقوله: إن العرب أمة واحدة مؤلفة من شعوب عدة، ولا يوافق الأفكار القومية [ الحصرية] التي ترى أن الدول العربية مجرَّد كيانات مصطنعة لا بد أن تزول لقيام الوحدة العربية. (مرقص، حوارات، ص18).
ربط مرقص بين الوحدة والتعدد أو الاختلاف، وهذا الموقف يعدُّ من مآثر الفيلسوف السوري، فبينما تنكر الفلسفة والأيديولوجيا الماركسية التعدد، وتؤمن بما هو مشترك، نرى مرقص الماركسي السوري يخلق التعدد والكثير، وينثره في الواحد الفرد الصمد. والماركسية كما يرى مرقص لا تُنكر التعدد من حيث الأصل، لكن ” الماركسيون فيما بعد ذهبوا نحو الأقنمة [ من أقنوم ]، استغرقوا الاختلاف في الطبقات … فـ الحزب فـ القائد والرمز ودولة الأجهزة. الدولة انتصرت على المجتمع، السياسة على الاقتصاد، الفكر على الوجود وفي الحاصل كان المنتصر أكبر المهزومين.” ( مرقص، نقد العقلانية العربية، ص59).
من هنا نرى حضور فلسفة الاختلاف والفردية لدى مرقص، ولعل الفضل يعود إليه باستخدامه لأول مرة في مجتمعاتنا مصطلح المجتمع المدني بمفهومه الكلاسيكي الهيغلي، وهو ما يعني المجتمع البرجوازي، أو إن شئت فقل المجتمع الحر الديمقراطي. وهذا مما أضافه مرقص للوعي الماركسي الشيوعي، لأنه لم تكن لديه تلك الحساسية التاريخية حيال البرجوازية، ومع كونه اشتراكياً فإن اشتراكيته لم تتحول كما تحولت اشتراكية الأحزاب العربية الستالينية، إلى اشتراكية كليَّانية، بل كان مرقص يربط مفهومي الوطن والأمة بالديمقراطية حسب الفهم البرجوازي، فلا وطنية من دون حرية، ولا حرية من دون حقوق إنسانية أولاً، واقتصادية وسياسية وأضف ما شئت من الحقوق ثانياً. يقول مرقص بهذا الصدد: ” ولأن لا أمة بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون مجتمع مدني حر، من دون حقوق الإنسان أولاً، قبل وفوق حقوق المواطن، المواطن إنسان أولاً، المواطن مواطن المدينة أو المجتمع أولا ثم وبالتالي مواطن الدولة والسياسة.” (مرقص، نقد العقلانية العربية، ص862).
من هنا نلاحظ أن مرقص كان يقيم فلسفته في الدولة على أساس مادي من جهة؛ لأنه أعطى للحقوق الإنسانية التي هي طبيعية ومادية أولوية على الحقوق السياسية، وعلى أساس مثالي من جهة أخرى؛ لأنه كان يطمح لإقامة دولة الحق الواجبة لا الموجودة على أرض الواقع، فكان فيلسوف المثال والواقع السوري بلا منازع.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
بواسطة سوزان المحمود | مارس 28, 2024 | Culture, Reviews, العربية, غير مصنف, مقالات
تتحدث رواية “الوريث” عن “أيوب” الوريث المنتظر للعائلة الجليلة من دمٍ نقي، وعن رحلة ولادته ثم نضاله العبثي وهروبه ومنفاه الإجباري، وعن الصراع داخل العائلة، والصراع بين السلطة والمعارضة في بلاده، تحت ظل حكم دكتاتوري يحكم قبضته على كل من يتنفس في البلاد. لكن أيوب هذا بنظارته الغامقة ليس شخصاً عادياً. إنه شخصية مركبة بدقة مع شخصية عمته البتول، لتؤدي المطلوب منها في سرد قصة “العائلة الجليلة” الأب وزوجاته وأبناءه وبناته وتحول مصائرهم ودمار قلعتهم المقدسة بكل هيبتها من قبل الدكتاتور الذي كان يحكم بلاد ما بين الرافدين وأعوانه.
ربما تُختزَل الرواية كلها في العنوان “الوريث”، فالعنوان هو العتبة الأولى للنص الروائي، يُضمِر أكثر مما يُظهِر، وربما يتبادر للقارئ في البداية أن القصة ستتحدث عن شخص سيرث إرثاً مادياً من عائلة ارستقراطية ما وأن هناك صراعاً عليه، لكن ما سيفاجئ القارئ أن هذا الإرث ليس له ورثة أو أن ورثته أبناء البلاد جميعهم! لكن لن يحمل هذا الإرث الرمزي الرهيب هنا سوى سليل العائلة الجليلة المُنتظر من دم نقي “أيوب” بكل جلال اسمه المنحوت من الصبر، فهذا الإرث هو مجموعة كبيرة من التناقضات. إنه إرث عائلي، وديني، وتاريخي، ونضالي، وسياسي، وثقافي، وفكري، وهذا الوريث سيحمل عبء قرون من الصراع الديني والايديولوجي، لذلك لن يكون أيوب إنساناً عادياً بل كائناً أسطورياً، سيولد ولادةً أسطورية وينتهي نهاية أسطورية.
بالنسبة للتقنيات المستخدمة في هذه الرواية نجد أن حازم كمال الدين يأتي إلى عالم الرواية من عالم المسرح، وقليلاً من عالم السينما، وله تاريخ طويل في الكتابة والتمثيل والإخراج المسرحي في بلجيكا، البلاد التي اختارها لتكون منفاه بعد هروبه من حُكمٍ بالإعدام أصدره بحقه نظام (صدام حسين) على أثر عرضٍ مسرحي في بلده الأم العراق، لذلك سنرى تأثيرات الخلفية المسرحية في معظم أعماله الروائية، حيث ستبدو التقنيات التي يتبعها في الكتابة الروائية غريبة قليلاً على القارئ العربي، فهو من الكتاب الذين يستخدمون تقنيات ما بعد حداثية عديدة في النص الواحد، وربما روايته “الوريث” أكثر الأمثلة وضوحاً للكتابة السردية التي تستخدم هذه التقنيات.
من المسرح تبدو تأثيرات مسرح “البوتو”[1] الياباني السوداوية والنقدية بسخريتها اللاذعة لكل شيء، خاصة للواقع المحلي بطبقاته وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية، عُرِفَ حازم كمال الدين كمعارض للسلطة وهو أمر يظهر في معظم كتاباته السابقة، إحدى همومه الفكرية الدائمة تعرية السلطة وأدواتها وما أنتجته من فساد عميق تسبب في شروخ هائلة مزقت المجتمع العراقي. وأيضاً نجد تأثيرات المسرح في بداية النص من خلال التعريف بالشخصيات الرئيسية للرواية وهو أمر متعارف عليه بكتابة المسرحية وليس الرواية، ومن خلال المونولوغات التي تخاطب القارئ وكأن النص خشبة أو عتبة بين الشخصية الروائية والقارئ.
من الفنون الأخرى سنجد السينما كمونتاج وكلقطة سينمائية فهو يُقطّع الفصل، ويستخدم تعابير سينمائية مثلا كـ (كلوس آب) لتقريب الصورة مفتتحاً الفصل الأول واصفاً المشهد عن بعد ثم يبدأ بتقريبه من القارئ، حيث يمكننا أن نميز به الخلفية السينمائية للكاتب والتي نلاحظ بها تمازج عدة فنون منها التصوير والنحت والصوت الذي يصفه بدقة ليلتقط انتباه القارئ، ويهيئ دخوله إلى بيئة القلعة المقدسة مكان الحدث في الجزء الأول من الرواية، كما يستخدم “الكولاج” والآرت كونسبت” في روايته، نجده لديه في وضع صور إيضاحية مع معلومات تاريخية حول بعض الأمور خاصة عندما يصل البطل إلى أوروبا مثل الصور والحديث عن المرحاض أو التواليت، حيث يتحدث عن تاريخ المرحاض في أوروبا وكيف تطور ليصل إلى الكرسي المتعارف عليه اليوم، أو حول مكان نزول اللاجئين في قلعة “لو بتي شاتو” حيث يتحدث عن تاريخ المكان والتبدلات التي طرأت عليه، أو عندما يتحدث عن المطار والمحطة في بروكسل، أيضا نجد ذلك في وضعه لصور توحي بما يريد أن يوهم القارئ به كصورة مقبرة الأجداد، والقلعة المقدسة، وصورة الثور والكبش ثم الرضيع ثم صورة شاب ضخم الجسم، يهتم حازم كمال الدين كثيرا بالجانب التصويري للرواية لأنه يعلم أن الصور أسهل بالوصول للمتلقي من الكلمة التي تسبر عمق الشخصية، لذلك نجد أنه لم يبنِ حوارات حقيقية عميقة بين الشخصيات إلا نادراً، بل اعتمد على المونولوغات والرسائل أكثر في إشارة إلى بيئة لا تحترم الحوار أو الحوار فيها في حده الأدنى، حتى في الحديث عن التنظيرات السياسية وغيرها كل شيء كان في الحد الأدنى كقشرة رقيقة هشة، يبدو ككليشه لكونه غير أصيل في بيئته، إذ أن الحوارات الفكرية الحرة ليست ذات تاريخ في المنطقة مما سيؤدي إلى فشل معظم الجهود النضالية للمناضلين اليساريين، وبالتالي بقيت الشخصيات معزولة منفصلة عن بعضها رغم الروابط الخفية بينها. إذ لا أحد يمكنه إنقاذ أحد من المصير الذي ينتظره.
كما يستخدم المعارضة الأدبية وهي إحدى تقنيات الكتابة “الما بعد حداثية” في “سياق التناص ما بعد الحداثي للإشارة إلى دمج أو «لصق» العناصر المتعددة إلى جانب بعضها البعض”[2]. نرى ذلك مثلا في اختياره لأسماء الشخصيات المأخوذة من الأعمال المسرحية كـ”الملك لير” لشكسبير وابنتيه غرونويل وكورديليا العذراء، ومن القصص الشعبية والدينية لمنطقة الشرق الأوسط كأيوب وسارة وإبراهيم أو من تاريخ اليسار العالمي كإنجلز وروزا لوكسمبورغ، “قد تكون المعارضة الأدبية في أدب ما بعد الحداثة تكريمًا أو محاكاةً ساخرةً للأساليب القديمة. وتُعتبر تجسيدًا للجوانب الفوضوية أو التعددية أو أسلوب الحياة الغارق في المعلومات في مجتمع ما بعد الحداثة. وقد تكون مزيجًا بين أنواع متعددة بغية خلق سرد فريد أو التعليق على المواقف ما بعد الحداثية“[3] أو في ذكر الأسماء التاريخية القديمة للبلدان مثل “بلاد ما بين الرافدين” و”بلاد العماليق” و”بلاد الطاووق” في القسم الأول من الرواية كناية عن العراق وسوريا وإيران.
كما سنجد من بين التقنيات الما بعد حداثية التي استخدمها “الانعكاسية الذاتية”، إذ سنلمح ظلال التجربة الشخصية ومرارتها خلف الفنتازيا، وسنرى السخرية واللهو والكوميديا السوداء والأحلام، التي تبدو واضحة في معظم أجزاء العمل، فرحلة أيوب تشبه إلى حد ما رحلة حازم كمال الدين من العراق مروراً بسوريا ثم مروراً بأثينا إلى أوروبا وبلجيكا.
كل شيء يبدأ من الأحلام، من اللاوعي البدئي، أحلام أيوب، منذ زرع والده الملك لير نطفته في رحم سارة ابنة عمه، وبدأ ينتظر وريث العائلة الجليلة، زرعٌ طالَ حصاده، ليولد أيوب ولادة أسطورية كائن بحجم ثور هائل، يعزز الأساطير التي تحيط عائلته بقدسية قديمة. الطفل المعجزة الذي سيأخذ كل أنواع المعرفة مرة واحدة الدينية والتراثية والسياسية من أبيه ومن عمته البتول. ثم سينطلق لمقارعة النظام الاستبدادي الذي يحكم بلاده متبعاً في ذلك تقليداً عائلياً قديماً، يجعل الروائي بطله يختزل الزمن متجاوزاً المراحل الدراسية جميعها بوصفه نابغة عصره، متلاعباً بالزمن فتارة يعود إلى أزمنة سحيقة موغلة في القدم عندما يتحدث عن نشأة القلعة المنحوتة من صخرة نيزك وأسطورة الجد وتارة ينتقل إلى زمن العائلة الأحدث وتارة يتغير الزمن مع انتقال أيوب وعمته الى أوروبا، حيث يجعل الزمن يتوقف لدى أيوب الذي يكبح نمو جسده ليجمده طفلاً عند التاسعة من عمره، محارباً الزمن وتطوره مستسلماً لمصيره الغرائبي، ومتحولاً إلى جذع شجرةٍ. حين يقرر “اللا قرار” “اللا اختيار” عند سقوط النظام الدكتاتوري في بلاده على يد الكاوبوي. بعد أن يقوم بجولة في حلمه “تحت نيران القصف والتدمير مستخدماً ظاهرة “الديجافو”[4]، ويقع في صراع نفسي كبير حول واجبه ومكان وقوفه وموقفه الأخلاقي.
يعيد حازم كمال الدين في هذا العمل تقويض وتفكيك صورة كل شيء يتعلق بواقع بلاده ويعيد تركيبه بطريقة سريالية، وبسخرية سوداوية مستفيداً من جميع التقنيات التي يجيدها (ككاتب روائي ومسرحي وسينوغراف ودراماتوج وسينمائي)، مقدماً نوعاً من الكتابة الهجينة متعددة الطبقات، ساخراً من كل شيء ومحطماً له، النظام الديكتاتوري ومعارضته واليسار الذي ينتمي له، (كنوع من جلد الذات)، يضع كوابيسه كلها على الورق محملاً أيوب كائنه الأسطوري الرهيب والبريء أقصى مما يحتمل، وهو يستخدم في معظم أعماله استعارات من الذاكرة الجمعية الشعبية والنخبوية. ليس فقط من الوسط المحلي لكنه هنا يستعين بأسماء أبطال أعمال لشكسبير مثلا “الملك لير” والد بطل العمل “أيوب” الملك الذي يخسر مملكته ويصبح شريداً مصاباً بقلبه بسبب جحود بناته لكن “لير” كمال الدين مختلف تماماً. تُدمّر قلعته ومملكته العائلية بسبب معارضته للدكتاتور يخسر أبناءه وبناته وتقع عائلته تحت التعذيب، وحتى “أيوب” وما يمثله بالذاكرة الجمعية العربية كشخصية صبرت على المصائب والاختبارات الإلهية العظيمة وكورديليا العذراء وسارة، ويعد هذا التناص أحد تقنيات أدب ما بعد الحداثة، فهو يجمع عدداً من أسماء الأعلام من بيئات حقيقية وأدبية مختلفة ليبني معها وعليها نسيجَ عملٍ روائي يرصد رحلة البطل أيوب من رحم أمه حتى هروبه الى أوروبا وفي الخلف رحلة عائلته الجليلة وأخوته وبلاده تحت حكم الدكتاتور الذي اختار له اسم “إسماعيل يس” [5]ليسخر منه. وبذلك يصيب “عدة عصافير بحجر واحد” انتقاد السلطة وهرمها وفسادها، وانتقاد العائلة المقدسة وخطاياها وعاداتها البائدة، ونجد هذا مثلاً في كشف العذرية الذي تتعرض له نساء العائلة، وانتقاد الأحزاب اليمينية واليسارية، السلطة ومعارضيها، لا يتوانى عن انتقاد ما يراه نضالا مضللاً، بطريقة جارحة غير مهادنة، وينتج نصاً روائياً ما بعد حداثياً، حيث “يتسم المؤمنون بما بعد الحداثة بتحديهم للسلطات، الأمر الذي يُعتبر دليلًا على الحقيقة المتمثلة بظهور هذا النمط الأدبي للمرة الأولى في سياق الاتجاهات السياسية في الستينيات. يُمكن ملاحظة هذا الاستلهام – من بين أمور أخرى – في الطبيعة الانعكاسية الذاتية لأدب ما بعد الحداثة فيما يتعلق بالقضايا السياسية التي يتناولها. غالبًا ما يُستخدم القص الما ورائي والمعارضة الأدبية في آن واحد بغرض السخرية”.[6]
بالنسبة لحازم كمال الدين كان عليه أن ينتج نصاً يوازي الواقع في غرائبيته، فالواقع العراقي وواقع المنطقة يتجاوز السريالي من جهة والعبثي من جهة أخرى بأشواط، لذلك يعتبر النص الروائي الذي يستخدم تقنيات ما بعد حداثية أصدق ما يعبر عن واقع يتجاوز المنطق الإنساني. (نلاحظ ذلك في وصف أساليب التعذيب والقمع والعنف الممارس على الأشخاص من نساء وأطفال ورجال، وتشوهات علاقة السلطة بالمواطنين).
فمنذ الفصل الأول من الرواية يصف القلعة ومحيطها، كل تفصيل في هذا الوصف متجهم ينذر بالخطر يُوظف ليدخل فيما بعد بكوابيس الجنين الذي بدأ يعي نفسه داخل رحم أمه سارة ويعي حجم المآسي التي ستنتظره خارج هذا الرحم والمصير الذي ينتظر أفراد عائلته، ويستخدم هنا “السرد المتقدم”[7] و”التوقع”[8] ويتضح هنا البعد التصويري في كتابة حازم كمال الدين، وهو أحد التقنيات التي يستخدمها ليُحَضِّر القارئ للدخول في سيرورة الحدث وتقلّب مصير الشخصيات، يحشد عددا كبيرا من التقنيات المابعد حداثية ليجعل الحكاية مرئية ومُصدّقة ليس بوصفها خيالاً غرائبياً يرتقي على ما وراء القص (الميتاسرد) وهي هنا حكايات الاستبداد التي يعرفها أبناء المنطقة جيداً وحكايات مرتبطة بأسماء شخصيات الرواية، بل مضيفاً إليها خبرته في الكتابة السوداوية التي تعمل على كشف وسبر حقائق المجتمع المحلي الموغلة في القدم وتعريتها بعنف، يتضافر الغرائبي مخلفاً الواقعي المعروف خلفه لينسج حكاية يتبدى فيها الهم السياسي الاجتماعي والثقافي والعائلي، ملمحاً لخيبة أملٍ عظيمة ألمت بالمناضلين اليساريين ولا يتوانى عن جلدهم والسخرية من طرق نضالهم القديمة وانفصالهم عن الواقع وتسرب الفساد إلى عددٍ منهم، كما يسخر من الدكتاتور الذي كاد يودي بحياته في لحظة ما، تنتهي حكايته ليلة سقوط نظام الدكتاتور في بغداد والتي يراها في أحلامه مسبقاً معلناً موقفه الأخلاقي الخاص مبتعداً عن الدكتاتور وعن من أسقطه (الكاوبوي)، رحلة شاقة تتجمد في لحظة ما.
تبدو اللغة مرنة لدى حازم كمال الدين إذ ينتقل في سرده بين طبقات متنوعة وملونة من اللغة، من اللغة البلاغية الجذلة، حيث تقوم المفردات بتصوير مشهد بصري معقد كالفصل الافتتاحي الذي يصف القلعة المقدسة لحظة استقبالها للوريث، ولحظة ولادته الأسطورية، ولحظة استعدادها لتلقي التغيير الذي طال انتظاره مهتماً بتفاصيل كثيرة تظهر التحول وتتنبأ بالقادم من الأيام، إلى مستوى بسيط من اللغة والمفردات التي تصل إلى العامية أحياناً كسيل شتائم تطلقه العمة البتول في لحظة ما، وعندما ينادي أيوب والدته مستنجداً بها، أو حادة وجارحة عند وصف مشاهد تعذيب، ومحرجة وقاتمة وساخرة عندما يصف محاولات انتزاع غشاء بكارة. تتدرج اللغة حسب الموقف والوظيفة المطلوبة منها في كل فصل. فهي تأتي من المخزون البصري العميق للكاتب ومن أهمية الصورة في عمله وحياته حتى أنه يمكننا القول إن المفردات تبدو في بعض الفصول “ثلاثية الأبعاد” مجسمة ومتحركة تصور مفردات الفضاء الذي تتحرك فيه الرواية لتواكب تقدم الأحداث والشخصيات ومصائرها، لكن هذا الأمر يظهر جلياً في الفصلين الافتتاحي والختامي من الرواية. كما كانت إحدى تقنيات الروي لدى المؤلف هي تقطيع الروي (الرواية) على شكل نصوص أو مشاهد يمكن أن تُقرأ بشكل متوالٍ أو بشكل منفصل مراعاة لصبر القارئ وللحفاظ على حيوية المتن.
صوت النساء في الرواية
للوهلة الأولى يكاد صوت النساء في الرواية أن لا يصل للقارئ، لكن بقليل من الانتباه سنجد أن نساء عائلة أيوب لهن مقاومتهن الخاصة من أمه ساره ابنة عم والده الملك لير المكلفة بإنجاب الوريث، ومعاناتها في حمله وولادته العسيرة، إلى أخواته (غرونويل وكورديليا) اللواتي حكم عليهن بالزواج من أشخاص متنفذين في النظام كان دخولهم عليهن يشبه الى حد كبير الاغتصاب الذي شارك فيه الأب والأم رغم عنهما، طقس فض البكارة الأول، البكارة التي ترفض أن تُفضَ بمثل هؤلاء الرجال العنينين والذين يرمزون للخصاء ولسلطة الأمر الواقع هنا، كان التعامل مع البكارة هنا ذا اتجاهين مختلفين الأول سلبي لِما فيه من امتهان للمرأة حيث تبدو الأنثى كائنا مجرداً من الإنسانية والمشاعر يُضحّى به من قبل الأهل بالقوة ويُرمى كأضحية أمام رجال النظام الذين يرغبون بمصاهرة العائلة الجليلة (المقدسة دينياً بسبب نسبها) لتختلط أنسابهم بأنسابها وكان جرحاً هائلاً للطرفين. والثاني إيجابي إذ أن النساء يظهرن مقاومتهن بطريقة مبطنة وهي بأن غشاء بكارتهن المطاطي يرفض الاغتصاب بما يحمله من تلوث دمهن بدم رجال السلطة المُتسيدين بالقوة والعنف وبقربهن من الدكتاتور وحاشيته الفاسدة، أيضاً نجد ذلك يظهر في حوار كورديليا العذراء وجلادها الذي أصبح زوجها رغم عنها وعن أهلها، بعد أن أنقذها من تعذيبه وتعذيب زملائه الجلادين، لكنها ترفض تسليمه نفسها وتظهر رفضها له ولمعاشرته، بينما الشخصية النسائية الرئيسية في الرواية هي العمة البتول صاحبة (طقوس النرجس) التي لا يعرف أحد عمرها الحقيقي، والتي تعترف به في نهاية الرواية وهو 750عاماً، وتبدو كشخص حارس للعائلة الجليلة منذ أجيال بعيدة، لكنها بكل ما تختزنه من معارف وحكمة ومعرفة دينية وسياسية ونضالية لا شيء يحميها من انحرافات تقودها لأفعال عكس اسمها ورمزيته وما يمثله، وتعود لتنكص في النهاية وترمي بكل معرفتها ونضالها الفكري والحركي في سلّة القمامة وتمتهن السحر وقراءة الطالع، ويجعلها من ذوي “الاحتياجات الخاصة” لا يمنحها جمالاً بل قبحاً جسدياً يعطي بعداً تهكمياً من حارسة العائلة الجليلة، إذ أنها تصبح شخصية غير معصومة عن الخطأ والتلوث بالمحيط الفاسد. مصيرٌ مرير تُرمى فيه، وربما يبالغ في قسوته في تلويث هذه الشخصية وحرف مساراتها النضالية والأخلاقية، وربما لم يكن مبرراً بما فيه الكفاية، بينما حافظ على طهرانية أيوب حتى النهاية.
بالنسبة لشخصيات الرواية الأخرى، الأخوة والأخوات الرجال والنساء والأطفال (مصير أيوب الثاني)، نعرف مصائرهم المأساوية من خلال الاسترجاع[9] وهو هنا الرسائل (وهي إحدى تقنيات الكتابة السردية القديمة أعاد استخدامها هنا ليُدخِل الماضي في الزمن الحاضر للروي) التي تصل أخيراً إليه نعرف كم التعذيب والتنكيل الذي تعرضوا له مع أبناء منطقتهم على يد أعوان الدكتاتور. تاريخٌ طويل من الألم يظهر في هذه الرواية المتخيلة التي تعكس مرحلة تاريخية سوداء غير إنسانية في تاريخ العراق.
بالنسبة لأيوب الشخصية المحورية في الرواية، يبقى أيوب ذو العينين كخرزتين كريمتين وأهداب طويلة لا تريد أن ترى العالم الحقيقي كما هو، ترمقان كل شيء من خلف عوينات غامقة، يستسلم لمصيره الذي رآه وعرفه مسبقاً عن طريق الأحلام والكوابيس وهو جنين وحاول تغييره قبل أن يولد وذلك برفض خروجه من رحم أمه لكن القدر سيُطلقه رغماً عنه ليصارع عالماً لا يرحم، فهو مجرد معجزة صغيرة، ستسحقها قسوة البلاد. الشخصية الوحيدة النقية التي تحاول مواجهة كل شيء لدرجة تجميد نفسه ليبقى بمظهر طفل في التاسعة إذ يتجمد الزمن بالنسبة له في أوروبا بينما عمره الحقيقي سيصل في نهاية الرواية الى الأربعين عاماً مختزلاً الخيبة واللا جدوى من أي فعل مقاومة أو نضال بتحوله إلى جذع شجرة في بيته ليرسم الروائي فصل النهاية مشهداً بصرياً غرائبياً يذكر بمنحوتات الغرونيك الأوروبية القديمة، منحوتة يتوقف فيها الزمن والرعب، يمرّ بها العابرون مذهولين غير مدركين لحياتها الماضية. لكن هذه المنحوتة المرعبة في لحظة تحجرها تنذر بأن لحظة حياة أخرى قادمة، لا تقتل الأمل!
القارئ والروائي
لا يزال الواقع العراقي بنظر المؤلف يبدو كجرح تخثر دمه في الأعلى وتيبس حتى بدا كأنه التئم، لكن عصفة ريحٍ صغيرة تنكأه وتفتحه من جديد ليظهر مدى عمقه، حيث الدم لا يزال طرياً يسيل عميقاً. لذلك كان على حازم كمال الدين ابتكار وتوليف عدة تقنيات كتابية ما بعد حداثية ليقارب الواقع العراقي المأساوي والفوضى التي وقع بها، إذ أن من الصعب على السرد التقليدي أن يلامس حجم المأساة والفجوات العميقة التي وقع بها تاريخ العراق المعاصر، ما بين الديني والسياسي والاجتماعي. تقول باتريشيا واو بأن القص المعاصر هو (استجابة ومساهمة في الوقت نفسه لمعنى أكثر تطرفاً يقول بأن التاريخ أو الحقيقة هما افتراضيان لم يعد هناك عالم من الحقائق الخارجية. بل سلسلة من التراكيب وفنون الخداع والهياكل غير الدائمة، كما يفكك الخطاب الميتاسردي قوانين الهيكلية الناظمة له من أجل تحقيق أهداف ما بعد حداثية مثل “كشف فوضى الوجود المعاصر وفضح زيف الوهم المهيمن على الوعي البشري، وبذلك يهدد هذا الخطاب نظام العالم الخارجي للنص، ويفضح عبثيته ووحشيته من خلال مساءلته الذاتية لسرديته وطبيعته التلفيقية بخروجه عن واقعية السرد المتخيل)[10].
لذلك لا يشتغل حازم كمال الدين على القصة بحد ذاتها إذ أن قصته غالباً ما تبنى على قصص معروفة من سكان المنطقة، فهو يخاطب عقل القارئ بما يعرفه مسبقاً كمسلمات، لكنه يُبدع باجتراح طرق جديدة لإيصال القصة، فهو يهتم كثيرا بالنواحي الإجرائية والفنية ليخلخل الأرضية القديمة للقصة تحت قدمي القارئ الذي يجد نفسه عندما يقرأ أعماله لأول مرة في أرض وعرة، لكنه سرعان ما يفكر كيف يأخذ مكانه داخل الحكاية التي غالباً ما تمسه بطريقة أو بأخرى، ومعروف عن حازم كمال الدين عمله الطويل على الرواية فهو يقوم بأبحاثه وبوضع مخطط إجرائي للتقنيات التي سيستخدمها في عمله الروائي إذ ليس هناك مصادفة في أي تفصيل يذكره في عمله. وفي النهاية لا يمكن الإحاطة هنا بكل تفاصيل الرواية فهي محملة بإمكانيات كبيرة للقراءة والتحليل والدرس. الرواية تقع في 375 صفحة من القطع المتوسط مقسمة إلى خمسة أقسام: الأول بعنوان بلاد الرافدين، الثاني بعنوان الولادة، الثالث بعنوان الطريق إلى المنفى، الرابع بعنوان أوروبا، الخامس بعنوان مونولوغات المنفى.
صدرت رواية “الوريث” حديثاً عن “دار الكتاب” في تونس في بداية عام 2024 وهي الرواية رقم 7 في منجز حازم كمال الدين الروائي، فقد صدر له سابقاً في مجال الكتابة الروائية: رواية “أورال” باللغة الهولندية عن Beefkacke publishing في بلجيكا عام 2010، ورواية “كاباريهت” عن دار فضاءات في الأردن 2014، ورواية “مياه متصحرة” عن فضاءات 2015 والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، و”يضج بي الجمال حتى يوم مماتي” عن دارPOLIS في بلجيكا وهي ترجمة (لمياه متصحرة)، ورواية “مروج جهنم” عن فضاءات 2019، ورواية “الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا” عن فضاءات 2020، ورواية “من أحوال داليا رشدي” عن مؤسسة أبجد في العراق. والمؤلف مخرج وممثل وكاتب مسرحي وسينوغراف معروف في أوروبا بتجربته المسرحية الثرية، له عدد كبير من المسرحيات والترجمات في مجال المسرح والشعر والدراسات النقدية.
[1] – رغم أن “البوتو” أسلوب رقص ياباني احتجاجي عنيف في الأصل كان قد استخدمه حازم كمال الدين في عروضه المسرحية في بلجيكا إلا أنه هنا في روايته يحول الأداء إلى كلمات تصويرية سوداوية تسعى لسبر واقع الإنسان العراقي السوداوي ثم تغييره، تقول إيريني سمير حكيم “ولد الـ”بوتو” من الاضطرابات والفوضى السياسية والاجتماعية، التي أدت إلى فقدان الهوية اليابانية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، التي دفعتهم إلى إعادة فحص ثقافتهم، وإنشاء نوع أصلي حديث من الرقص الياباني للتعبير عنهم. بهدف تخليق التغيير في الرقص الياباني”مجلة الفيصل 2022،1.
[2] — ويكيبيديا.
[3] — ويكيبيديا.
[4] – ويكيبيديا. الرؤية المسبقة للأحداث، وقد جعلها المؤلف ترافق البطل منذ كان جنيناً في بطن أمه سارة.
[5] – إسماعيل ياسين ممثل مصري كوميدي حاز على شعبية كبيرة لدى الجمهور العربي لفترة طويلة بسبب نوع الكوميديا البسيطة التي كان يقدمها.
[6] — ويكيبيديا.
[7] – السرد المتقدم: سرد يسبق المواقف والأحداث المروية زمنياً هو أحد خصائص “السرد التنبؤي” قاموس السرديات لجيرالد برنس ص(17)
[8] – التوقع: “مفارقة زمنية تتجه نحو المستقبل انطلاقاً من لحظة الحاضر أو النقطة التي ينقطع فيها السرد التتابعي الزمني (الكرنولوجي) لكي يخلي مكاناً للتوقع” قاموس السرديات لجيرالد برنس
[9] – الاسترجاع: “مفارقة زمنية باتجاه الماضي انطلاقاً من لحظة الحاضر” وهو هنا نوع من “الاسترجاعات التكميلية ” ووظيفتها ملء فراغات سابقة تنشأ عن الثغرات” قاموس السرديات لجيرالد برنس.
[10] – من مقال “جماليات الميتاسرد في فنون ما بعد الحداثة” للباحث أحمد عادل غازي محمود مجلة بحوث في التربية الفنية والفنون العدد رقم (1) جامعة حلوان.
بواسطة طارق علي | مارس 25, 2024 | Culture, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
لا يختلف اثنان أنّ الدراما السورية أحدثت فارقاً وصنعت بريقاً أخاذاً في فترةٍ ذهبيةٍ امتدت ما بين عامي 2000 و2010. وتحديداً ما بين مسلسل الزير سالم الذي أخرجه الراحل حاتم علي ووضع فيه الراحل ممدوح عدوان عصارة ما يمكن لكاتب المجيء به نصاً وحواراً وأحداثاً ليجعل منه العلامة الكبرى التي كرست سوريا كسيدةٍ في الأعمال التاريخية التي لا تشوب نصها ونطق حروفها وأدواتها شائبة، وكان ذلك واضحاً وجلياً في ثلاثية حاتم علي (صقر قريش–ربيع قرطبة–ملوك الطوائف).
أما في عام 2010، العام الذي سبق الحرب السورية مباشرة فقد أسدلت الستارة على النتاج الضخم والمشبع فنياً وحركياً وبصرياً وذهنياً مع مسلسل “لعنة الطين” للكاتب سامر رضوان صاحب “ابتسم أيها الجنرال” وثلاثية “الولادة من الخاصرة” للكاتب نفسه و”تخت شرقي” للكاتبة يم مشهدي وغيرهم.
في هذا العقد قدمت سوريا ثورةً في الدراما الاجتماعية التي تخطت ما عداها لتلامس شرائح المجتمع كله تاركةً خلفها سبلاً وأدوات وحكايات تنطلق من البيئة التي جاءت منها بأسلوب تنفيذ سلس ومباشر وبسيط كان كفيلاً بصنع النجوم، نجوم اليوم.
سادة الدراما
لا يزال السوريون يعتقدون أنّهم سادة الدراما، يقدمون هذه المعلومة في كل موسم رمضاني خلال العقد الفائت، ويقولون بلا تفكير بأنّهم قدموا دراما اجتاحت الوطن العربي وعلمته كيف تكون الصنعة. ولكن ماذا يعرف العرب من المحيط إلى الخليج عن الدراما السورية؟
يعرفون شيئاً واحداً (شبرية أبو شهاب) في باب الحارة، وتلك الطامة الكبرى التي أغرقت سوريا في فخّ التجهيل وأوصلت للسوريين معلوماتٍ مغلوطة عن أنّ أعمالاً كزمن العار وأحلام كبيرة وغيرهما كانت تجعل العربي يتسمر خلف الشاشة، والعربي لم يسمع أساساً بتلك الأعمال، إلا ما ندر.
صراع سوريٌّ – مصري
يتجه السوريون هذا العام في جلساتهم وعبر منتديات النقاش في مجموعات التواصل الاجتماعي بصورة غريبة لمناقشة ومقارنة الفرق بين الأعمال السورية والمصرية واضعين عشرات الملاحظات على الأخيرة موجهين انتقادهم اللاذع إلى مسلسل “الحشاشين” بطولة “كريم عبد العزيز” وإخراج “بيتر ميمي”.
ينطلق هجومهم من إشراك اللغة العربية الفصحى باللهجة المصرية في سياق العمل، لتبدأ مواجهة حامية الوطيس يبدو فيها المدافعون عن الإنتاج المصري أكثر من الرافضين له، ويبدو هذا منطقياً لبلدٍ يملك شركات إنتاج تحقق شرطاً فنياً عالي الجودة ويمكن لشركات بلدهم تقديم ما يحاكيه لولا أنّ مزيجاً من الاستسهال والمبالغة والاستعراض جمع بين شركات سوريا ومخرجيها وممثليها، على ما يقوله مهتمون بالمتابعة.
مصر قدمت هذا العام مسلسلات: الحشاشين – العتاولة – المعلم – الكبير أوي 8 – المداح – أشغال شاقه – بابا جه – أعلى نسبة مشاهدة – امبراطورية م – بيت الرفاعي – بدون سابق إنذار – جودر – كوبرا – حق عرب – خالد نور – رحيل – سر إلهي – صيد العقارب – صدفة – صلة رحم – عتبات البهجة – 100 راجل وغيرهم.
وباتت المسلسلات المصرية تبدو وكأنها تحلق وحيدة كما تفعل منذ عقود في فضاء الفن العربي متفهمةً أخيراً أنّ الجمهور لا يحتاج عملاً من ثلاثين حلقةً، وبأنّ 15 حلقة كافية وتزيد عن حاجته وتشبع ذائقته الفنية.
“بوجقة وردح”
حتى الآن لا يمكن فهم أدوات عمل الممثل السوري وثباتها في مكان اللا تطور، حيث يحافظ على مبالغات في الأداء والصياح والاستعراض تجاوزتها مدارس التمثيل، فاليوم يتجه هذه المضمار لإبكاء المشاهد بلقطة يبدو فيها البطل حزيناً بنظراته لا حزيناً لأنّه يصيح ويمزق ثيابه. وهنا يمكن فقط استحضار مشهد المصري “سيد رجب” في فيلم “وقفة رجالة” إذ استطاع إبكاء المشاهدين في صالات السينما دون أن يذرف دمعةً واحدة حين توفيت زوجته وشريكه عمره.
حتى نهاية الأسبوع الأول من رمضان كانت معظم الأعمال السورية تقوم على التنميط، واستنساخ منشورات الفيس بوك، وأحاديث الشارع الممجوجة، وما يقال عنه بالعامية الشامية “البوجقة والردح” من قبل ممثلين محترفين يفترض أنّهم قاماتٌ كبرى متناسين أنّ قسطنطين ستانيسلافسكي” صاحب فلسفة إعداد الممثل قد علمهم أهم قاعدةٍ جوهرية وهي: “تحدثوا للعين وليس للأذن، فالعين هي العضو الأكثر حساسية الذي يقود معنى الفكرة.”
تصويبٌ لا هجوم
ما يحصل الآن ليس هجوماً على الدراما السورية، بقدر ما هو محاولة تصويب للأخطاء التي تكررها كل عام، فالفرنسي المحتل حاضر على الدوام بعمل أو أكثر كل موسم، ودمشق القديمة حاضرة كما المعتاد، والفتيان الزعران وبنات الليل والراقصات حاضرات أيضاً، وكما كلّ عام يتغير اسم الكاتب وتظلّ خطوط الحبكة متشابهة.
لا يمكن القول هنا إنّ ذلك يعود لخطورة مقصّ الرقيب، فالجميع بات يدرك أنّ الرقابة على الدراما باتت أقل ممّا كانت عليه، وإنتاج عملٍ اجتماعي لا يحتاج مغامرةً أصلاً! ومن أنتج وعرض “غزلان في غابة الذئاب 2006” وثلاثية “الولادة من الخاصرة 2011-2012-2013” وغيرهم يدرك جيداً أنّ السقف يمكن أن يكون عالياً والدليل الأمثل مسلسل “الخربة – 2011” للكاتب “ممدوح حمادة” والمخرج “الليث حجو” بكل إسقاطاته السياسية الشديدة والذي عرض ولا زال على الشاشات المحلية بين وقت وآخر، إذ لا ينسى السوريون أنّ “بقرة معلم أكرم” أهم من كل شرائع وقوانين ودساتير وحياة الإنسان في بلدهم.
مقارنة ظالمة
في هذا العام حضرت سورية بجملة من المسلسلات التي تفاوتت الآراء حولها، وما قد يظلمها هو مقارنتها بأعمال أخرى صنعت خلال الحرب.اليوم ينكب جزء من السوريين على مشاهدة أعمال هذا الموسم كـ: ولاد بديعة – كسر عضم (السراديب) – مال القبان – تاج – وصايا الصبار-بيت أهلي – الوشم. وكما في كل عام عانت هذه الأعمال على قلتها من الشرط التسويقي القاسي في السوق الخليجي والذي كان أساس ازدهار الصنعة السورية مطلع الألفية الحالية.
ممثلٌ مرغم على التمثيل
تعتقد رقيّة ميمون الخريجة الجامعية أنّ أعمال هذا العام جاءت متدنية المستوى، وفي قسم كبير منها لا تناسب المشاهدة العائلية، معلّلة ذلك بكم التناول الواسع لمواضيع حساسة تتعلق بالجنس وفتيات الليل والرقص وما شابه ذلك.
تقول: “هناك كميّة لا تصدق من النكد والحزن والانحدار الفني على مستوى النص المجتر والمكرر، لنتذكر قليلاً مشاهد مرّت في تاريخ درامانا ثم لنقارن، مشهد بكاء خالد تاجا في التغريبة الفلسطينية، الحلقة الأخيرة من أسعد الوراق، الاغتصاب في زمن العار، اجتماع العائلة في أحلام كبيرة، مقتل كليب في الزير سالم، مشاهد الأصدقاء في تخت شرقي، الخازوق في إخوة التراب، كل ذلك كان قبل 2011، أما بعده فصرنا نحسّ أنّ الممثل يؤدي وظيفته مرغماً”.
فلسفة مريبة
فيما تتساءل ناهلة عويتي الطالبة الجامعية عن السرّ الذي يجعل كل الحوارات في المسلسلات السورية مغرقة في الفلسفة والسفسطائية والغرابة والابتعاد عن طبيعة المجتمع وتكوينه البسيط، دون أن تنسى استذكار مسلسل “تخت شرقي – إخراج رشا شربتجي 2010″، والذي قدم في حينه صورة أكثر قرباً من يوميات الناس في بلدهم هذا. وتعبر عن رأيها: “الراقصة لديها فلسفتها الأفلاطونية، عامل الصيانة، الطبيب، الدهّان، القاتل، الضابط، الجميع يملك فلسفة مريبة وكذلك الطفل الصغير، أليس هذا نقلاً غير مفهوم في مستوى الدراما من الإمتاع العائلي الترفيهي البسيط إلى دائرة الانعزال عن القضايا اليومية التي تخلق بيئة العمل الدرامي كما يقول صناعه؟”.
بين الواقع والامتنان والإعجاز
في خضم ذلك يرجو الشاب محمد محمد أن تعود الدراما لواقعها بعيداً عن المبالغة المهولة في ترتيب المنازل وديكورها، قائلاً: “نريد شيئاً يشبه حياتنا وبيوتنا الفقيرة لتعود الدراما ملكاً لنا”.
ومن بين تلك الآراء يظهر رأي الأكاديمي معين نصراني مغايراً إذ يقول إنه ممتن أنّ الشركات لا زالت قادرة على أن تنتج أعمالاً في بلد حطمته الحرب، ويُشدد على فكرته: “13 عاماً من الحرب ولا زلنا ننتج فناً، هل من بلد آخر يستطيع فعل ذلك!”
من سوء حظ معين أنّ جواب سؤاله جاء سريعاً من صديقه الواقف قربه، إذ قال بعفوية: “الرحابنة فعلوا ذلك في حرب لبنان”.
ثمّة نجوم من ذهب
لم يكن غريباً أنّ معظم من التقينا بهم لم يبدوا حماساً للأعمال الدرامية السورية، وهذا طبيعي ومفهوم، فالكثير من الناس في سوريا يملكون قدرةً تحليليةً على تمييز المنتج الرديء من السيء وإجراء مقارناتٍ تأخذهم دائماً نحو طلب الأفضل في ظلّ واقعٍ فعلي يسيطر عليه الاستسهال في معظم مناحيه. إلا أنّ ذلك بطبيعة الحال لا يمكن تعميمه، ففي سوريا نجوم من ذهبٍ قادرون على المنافسة شرقاً وغرباً، ولكنّ هؤلاء النجوم يخضعون لشروط مركبة، فإما شرط إنتاجي سيء، أو أجور قليلة، أو أدوار سيئة يضطرون للقبول بها لئلا يختفوا عن الشاشة. تلك وغيرها عوامل جعلت ولا زالت من الدراما السورية منكسرةً حزينةً لا ترضي صناعها قبل جمهورها.
بواسطة الحسناء عدرا | مارس 21, 2024 | Cost of War, العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
غدت الأمومة في سورية مهمة قاسية ومثقلة بالهموم واكتسبت أوجهاً كثيرة، إذ انتزعت الحرب دور “الأم” الأولي المناط بالعطاء والتربية والمساند المادي الثانوي، وبدأت كثير من الأمهات يلعبن دور المعيل الأساسي ومصدر الدخل الوحيد لتحمل نفقات الأسرة في ظل غياب قسري أو اختياري للرجل. باتت معظم الأمهات يكافحن وحيدات في ساحة الحياة من أجل لقمة العيش، فتحولن إلى نساء مثخنات بلوعة الفراق والقهر والحنين.
تخلت لينا (40 عاماً) منذ قرابة سبع سنوات عن لقب “الأم” بوصفه الدور الوحيد الذي كانت تمارسه قبل وفاة زوجها، غير أن ألقاباً كثيرة ألصقتها بها الحياة عنوة لتتنقل بين أدوار “الأب” تارة و”المعيل” تارة أخرى و”الأخ” و”المنقذ” في أحيان أخرى. تقول لينا عن تجربتها: “نسيت أنني أم منذ سنوات؛ تلك الأم التقليدية التي كانت تقوم بمهام الاعتناء بالأطفال والإشراف على طعامهم ودراستهم فقط دون الالتفات لأمور أخرى. دور الأب هو الطاغي حالياً، أعمل دوامين من أجل تأمين لقمة العيش.” تقر لينا أن وفاة زوجها حملتها مسؤوليات تفوق قدراتها الجسدية ووضعتها تحت ضغوط نفسية ومادية، خاصة أنه ترك خلفها لائحة من الديون غير المسددة. تشرح وضعها: “كان زوجي كثير الدين من أصدقائه، اعتاد أن يسدد شهرياً من عمله الإضافي في تعهدات البناء، لكنه لم ينته من تسديد ديونه كلها وأقوم أنا بالسداد”.
ليست فقط الأعباء المالية هي التي تؤرق كاهل لينا، بل هناك حمولة فائضة، ثمة شعور بالأمان تفتقده منذ وفاة زوجها، ففكرة غياب العنصر الذكوري في حياتها يشعرها بانعدام التوازن وفراغ كبير وتوضح مشاعرها: “افتقد شعور الأمان والسند الذي ضاع مني، أحتاج كتفاً اتكأ عليه كلما اختل توازني، كما يحتاج طفلاي هذا السند أكثر مني”.
وجدت نهال (30 عاماً) نفسها بين ليلة وضحاها أماً لأربعة أطفال، لطفلتها ذات الست سنوات، وأشقائها الثلاثة بعد وفاة والدتها، لتوزع عاطفة الأمومة بين الجميع بحصص عادلة، تقول: “توفيت والدتي مبكراً مخلفة وراءها أخوتي الذين مازالوا صغاراً، أعتني بهم وكأنهم أطفالي أسوة بابنتي، أحاول قدر الإمكان تعويضهم حرمان الأم كي لا يشعروا بالألم “.
تصالحت أحلام (50 عاماً) مع فكرة تحول زوجها من المعيل الأساسي إلى شخص غير منتج في المنزل بسبب مرض السكري الذي تلاه إجراء عملية قلب مفتوح، وبالتالي انتقلت جميع المهام إليها بدءاً من تأمين حاجيات البيت والإشراف على دراسة بناتها الثلاث، مروراً بالقيام بأعمال صيانة المنزل وتركيب أنبوبة الغاز، ناهيك عن عملها الصباحي كمدرسة في المرحلة الابتدائية، لتضاف إليها الدروس الخصوصية كمصدر دخل إضافي، تقول:”أشعر بأنني الرجل في البيت، وليس زوجي، كل شيء يقع على عاتقي لدرجة أنني فقدت شعوري بأنوثتي وأنه يجب الدلال والاعتناء بنفسي، لا وقت لدي لذلك، ضغوطات الحياة تثقل ظهري”.
قرار مصيري
أرغمت خلود (28 عاماً) على إيداع ابنها ذي الأعوام السبعة عند والدتها والسفر إلى أربيل بحثاً عن حياة أفضل لها ولطفلها بعد أن تخلى عنها زوجها وتنصل من مسؤوليته كأب. كلفها هذا القرار ساعات طويلة من الوحشة والدموع واللهفة لطفلها تحاول أن تبددها بمكالمة هاتفية يومياً. وتشرح قصتها: “لم يكن القرار سهلاً عليّ، بل ترددت كثيرا، لكن تركت عاطفتي جانباً واتخذت القرار بعد أن سدت الطرق كلها أمامي وتهرب طليقي من مسؤولياته المادية والعاطفية لابنه، لا فرص عمل هنا تكفي للعيش بكرامة.” تعمل خلود طباخة في أحد مطاعم أربيل ودخلها جيد لكنها تنتظر عدة أشهر إضافية كي تستطيع لم شمل ابنها بعد أن وافق والده على إذن السفر مقابل مبلغ مادي، وتعقب: “تفاوضت مع طليقي من أجل السماح لابني بالسفر معي، أتحضر لإحضاره إلى هنا مع أمي للعيش سويا”.
أمهات على قارعة الطريق
تتوقف يداك عن الجمع وأنت تحصي أعداد الأمهات الجالسات على قارعة الطريق وعتبة العوز والحسرة، تراهن في كل مكان وأنت تتجول في شوارع دمشق. تلتمس نظرات التعب التي تعلو الوجه الشاحب والابتسامة الخجولة لسيدة تركن كرسيها البلاستيكي في زاوية لمحل خضار تفرم حزم البقدونس وتقشر حبات الثوم لتشتريها صاحبات الأيادي الكسولة التي لا تمتد إلا لتناول الطعام أو تلوين الأظافر. تمشي عدة أمتار فتستوقفك أم بمنزلة طفلة تحمل رضيعتها التي لا تعلم كيف تربيها وتمد يدها لتناولها ثمن علبة حليب، ثم تعاود المشي لتناديك بائعة التين والزبيب المجفف بعد أن أخذت طفلتها قيلولة قصيرة، وحين تدخل أحد محلات الألبسة المستعملة تجد سيدة تتسول سترة مطرية أنيقة تليق بابنتها وهي ذاهبة إلى الجامعة.
الاحتفال وحيدات
تغيرت الصورة النمطية للاحتفال بعيد “الأم” إذ فقدت رونقها الخاص وشرطها الحميمي، فتفرق الأبناء والبنات وبات لم الشمل حلماً تنتظره الكثير من الأمهات. بينما يضطر العديد من الأبناء ممن سافروا خارج البلاد إلى إعادة ترتيب أولوياتهم والتقليص من عدد الزيارات بسبب الكلفة المادية المترتبة عليهم، والاكتفاء بزيارة سنوية أو في بعض المناسبات الكبيرة كعيد الفطر والأضحى. هناك أمهات يحتفلن وحيدات وبعيدات عن حضن أبنائهن، ليكتفين بمكالمة “فيديو” وقبلات افتراضية لا تشبع صبوة الأم وتطفئ لهيب شوقها.
حتى الهدايا أخذت شكلاً مختلفاً عما ألفه السوريون، كانت في السابق ترتبط بقطعة ملابس من ماركة ممتازة أو هدية جماعية يتشاركها الأبناء لاقتناء قطعة ذهبية كانوا قد وفروا ثمنها طيلة الأشهر السابقة، أما الآن فقد صار طابعها فقيراً وملحاً يندرج تحت الاحتياجات الدوائية والجسدية والغذائية، كإحضار علبة دواء، أو جهاز لقياس الضغط، أو حذاء طبي يخفف عن الأم أوجاع الدوالي، وربما كنزة مستعملة مازلت محافظة على جودتها، أو وشاح مصنوع يدوياً لأمهات أخريات طرزنه بعرق جبينهن وأصابعهن الباردة لإطعام أولادهن.