كيف عاش السوريون فطامهم القسري عن البلاد

كيف عاش السوريون فطامهم القسري عن البلاد

  حاولت السينما السورية إضاءة الواقع وأثر الحرب الطويلة على الناس والبلاد،  فكان هناك ما انتجته المؤسسات الرسمية وكان هناك في المقابل ما اعتمد على مؤسسات مدنية وجمعيات أو جهود المخرجين بشكل مستقل.

 يتناول المخرج السوري حسام حمو في فيلمه فطام وهو أيضاً من إنتاجه وتأليفه، عينة من الأسر السورية في الداخل (اللاذقية) والتي وصلت كغيرها إلى حالة من انعدام الأفق وفقدان الإمكانيات، ما دفع جيل الشباب عموماً إلى الهجرة حتى كادت البلاد تفرغ من شبابها وذلك سواء هرباً من وقائع الحرب أو من قبضة السلطة الأمنية والتضييق على الحريات، أو هرباً من أداء الخدمة الإلزامية التي صارت كابوساً على جيل الشباب كله، أو للبحث عن عمل في الفترة الأخيرة.

وفطام فيلم قصير لا تتجاوز مدته 27 دقيقة وقد عرض في مهرجان فاميك للفيلم العربي في فرنسا، وسيعرض في مهرجان أفلام البحر المتوسط (كان – ميلان – أثينا) ومهرجان الإبداع العربي في مصر ومهرجان داكا السينمائي في بنغلادش ومهرجان سينمانا في سلطنة عمان.

زمن الفيلم القصير هو سهرة عائلية تجمع أسرتين على العشاء بينما  يتجهز الابن للسفر الذي يصبح أمراً واقعاً بعد اتصال السائق الذي سيقله. لتصبح تلك السهرة آخر ما يحمله الشاب من ذكريات وكأنه العشاء السوري الأخير له. 

سهرة عائلية بسيطة تعكس حياة السوريين جميعاً من تلك العتمة التي تطغى على كل الحياة نتيجة انقطاع التيار الكهربائي بينما في الحقيقة تلك الظلمة تعشش في الحياة العامة وتصبغها، وكيف يسارع الجميع عند وصل التيار لشحن كل الأجهزة من البطاريات والموبايلات التي صارت نافذتهم الوحيدة على العالم وصلة الوصل مع أحبة في الطرف الآخر من الجغرافيا، لكن زمن وصل التيار القصير يجعل كل هذا غير ممكن.

 في هذه السهرة البسيطة يتجادل الآباء في السياسة ويمتد النقاش بينما يكتفي الآخرون بالاستماع غالباً لأن البعد بين  الكلام النظري والواقع بات شاسعاً ولا يمسهم أو يعبر عن الحالة التي يعيشونها. خاصة وقد تطور الحديث إلى الانتماء ومفهوم الهوية، بينما في الواقع يشهدون جميعاً تمزيقها عن كثب، حيث في الطرف الآخر من الطاولة شاب سيغادر بعد ساعات إلى المجهول.

يذكر أن لحسام حمو فيلمان، “سبات” المنتج عام 2023 والحاصل على ثلاث جوائز عالمية منها جائزة لجنة الافلام الروائية العربية في مهرجان البحرين السينمائي ومدته 13 دقيقة، و الثاني فيلم “فراغ” ومدته 7 دقائق وهما فيلمان يعتمدان على الموسيقا أكثر من الحوار لكنهما حسب قوله يشكلان مع فيلمه الجديد فطام مشروعاً واحداً هو رؤيته للواقع السوري المهترئ والمتردي قبل سقوط النظام والشخصية السورية التي وسمت بالفقدان على كل الأصعدة فقدان العائلة وفقدان الأمل وفقدان الحب.

 وقد اعتمد في فيلمه الجديد فطام على شخصيات خارج الوسط الفني لكن بعضهم من مثقفي مدينة اللاذقية إذ قامت بدور الأم الكاتبة القصصية مي عطاف وقام بدور الأب الكاتب والرسام عصام حسن وشاركت أيضاً سوسن سليمان الراهب وكانت الشخصيات بشكل عام في دورها الأول. يقول المخرج إنه كان حريصاً في اختياره لهم وفق معايير معينة وإن دافعهم للعمل كان إيمانهم بالفكرة والمشروع الذي يقدمه. 

رغم أهمية أفكار الحوار لا يتوقف المشاهد عنده إذ تأخذه تعابير الوجوه والتعليقات التي ترمى خلال ذلك إلى عالم الشخصيات الحقيقي الذي يلتقطه بسرعة، حيث يعيش الجميع حالة الترقب ثم الحزن والانتظار في وداع الشاب الذي حزم أمتعته، الموسيقا التي تكمل حالة الانتظار وتمنح البعد العميق لهشاشة الإنسان بينما نجد الرجال عالقين في النقاش السياسي والفكري سنرى أن النساء يتفاهمن ويتبنين رأياً واحداً بشكل غير متفق عليه.

وهذا يأخذنا إلى معاناة الأم السورية الواحدة التي تتجلى فيها محنة البلاد التي وصلت إلى القاع أو الجحيم وكأنها إنانا (عشتار) في رحلتها إلى العالم السفلي بعد أن وصلت إلى الدرك الأسفل بسبب واقع المعاناة جراء فقدها لأبنائها وعالمها وحريتها، وهو ما يعبر عنه حسام حمو صراحة إذ يقول إن الفيلم مستوحى من أسطورة هبوط إنانا إلى العالم السفلي.

والعالم السفلي عالم الأموات هنا أبعد من الموت الجسدي إنه المجاز حيث يتحول الفرد إلى مجرد جسد على قيد الحياة.

في بداية الفيلم نرى الأم في الحمام وقد نسيها الأبناء في العتمة مستسلمة لواقع الظلام في أكثر الأماكن انعزالاً في الحياة الشخصية ودون أي رد فعل وكأنها في القبر وحين ينتبهون لذلك و يشعلون لها الضوء تبدو كأنها في عالم آخر ثم تبدأ بخلع زينتها وأساورها وأقراطها وغسل وجهها وكأنها (إنانا) في رحلتها إلى العالم السفلي حيث يتم تجريدها وبشكل تدريجي من زينتها كشرط لدخولها إليه، وتنفذ صاغرة بعد ان بدأت رحلتها تلك،  تخرج مي عطاف (الأم) بعد ذلك ساهمة عن كل شيء حولها فتعيش غربتها الخاصة وانفصالها عن الحياة وكأنها الأمهات السوريات كلهنّ وربما سوريا التي تعيش غربتها بين أبنائها.

وبينما تدور النقاشات والأحاديث في السهرة تقوم الأم (إنانا) باستحضار الذكريات من ماضي العائلة وذكرياتها مع ابنها الذي سيذهب بعد حين في هجرة لا تستوعبها حد الإنكار فهي لا تستطيع احتمال هذا الانفصال عنها إذ لم تزل كأي أم ترى أبناءها بعين الأمومة  صغاراً يحتاجون الرعاية، فتنتبه إلى صحنه وتناول طعامه، في الوقت الذي سيغادر بعد حين إلى المجهول، وهو ما يأخذنا إلى عنوان الفيلم “فطام”، والذي يبدو هنا فطاماً قسرياً  مزدوجاً في ابتعاد روحي ونفسي عن الانتماء الطبيعي للأم  البلاد.

تدور الكاميرا في البيت فنرى الباب المقفل والأبواب المغلقة كتعبير عن حالة العزلة والوحشة المحتشدة في حياة الأشخاص حيث اللاأفق يحكم حياتهم جميعاً وكأن السفر صار هو الحل او النافذة الوحيدة المفتوحة على الحل.

يمتد إنكار مي عطاف (الأم) للواقع ولسفر ابنها الذي صار شاباً، فحين الوداع تصعد على كرسي لتعانقه لتحتفظ بذلك الموقع المشرف من الأعلى وكأنها تتحايل على الزمن الذي جعله شاباً أطول منها وتدس في جيبه مالاً إضافياً مستذكرة أيام الطفولة والخرجية التي يأخذها الأولاد من الأهل، بينما تتردد أغنية التهويدة مع أمي أصحو وأنام كأنها تشبع روح الأم المتشبثة بأبنائها والتي تريد المغادرة معهم فالمكان دونهم ليس مكاناً، كأنه ذلك العالم السفلي الذي وصلته مرغمة فهو ليس عالمها ولهذا ربما أراد المخرج في إشارته تلك إلى سحب المشاهد نحو الأمل  بالقيامة التي ترافق عودة إنانا إلى عالم الأحياء وانتصارها على عالم الموت والجحيم وانتظار تلك العودة . 

يسجل لحسام حمو أنه استطاع إدارة الممثلين في ظهورهم الأول والوصول للمشاهد مع جدل متقن لعمق الفكرة والتماس المباشر مع معاناة السوريين جميعاً.

الإعلام السوري: لعنة “التوجيه” مستمرة حتى إشعار آخر

الإعلام السوري: لعنة “التوجيه” مستمرة حتى إشعار آخر

توقفت الصحف الرسمية عن طباعة النسخ الورقية مع جائحة كورونا، إلا أن الأمر لم يكن إلا مقدمة لاختفاء هذه النسخ بسبب رغبة وزارة الإعلام في زمن النظام السابق في خفض النفقات، الأمر الذي كان قد سبقه إيقاف قناة “تلاقي”، ومن بعدها إذاعة “صوت الشعب”، ليبقى الإعلام السوري الحكومي في ذلك الوقت محصوراً بقنوات “السورية – دراما – الإخبارية – إذاعة دمشق – إذاعة سوريانا”، علاوة على المواقع الإلكترونية التي تتبع لصحف “البعث – تشرين – الثورة”، وكمصدر أساس للأخبار الرسمية، بقيت “وكالة الأنباء السورية – سانا”، مع وجود مجموعة من الإذاعات المحلية وصحيفة الوطن، فتجربة صحيفة “الأيام”، لم تكن طويلة بسبب الضغوط العالية التي مارستها السلطات آنذاك على الصحيفة، واعتقال مالكها “محمد هرشو”، ما تسبب بهجرته إلى الإمارات العربية المتحدة، ليعمل من هناك في الإعلام من خلال موقع “هاشتاغ سوريا”، وكل محاولات رفع سقف الحرية في التعبير من قبل وسائل محدودة كانت تغامر بالأمر مثل “إذاعة شام آف إم – موقع أثر برس – موقع كيو ميديا”، كانت تصطدم برد فعل عنيف من قبل “المكتب الإعلامي في رئاسة الجمهورية”، والذي تسلمته في أوقات الذروة من الحدث السوري “لونا الشبل”، التي توفيت في حادث سير ما زال ذكره يرتبط بالكثير من التفسيرات التي تشير إلى قيام النظام بتصفيتها، إذ ترافق الأمر حينها مع معلومات عن اعتقال شقيقها من قبل مخابرات النظام، وتأكد الأمر من خلال تغيبه عن الجنازة المتواضعة التي شيعت من خلالها “الشبل”، ومن ثم لم يظهر له أثر بعد سقوط النظام، ما يشير أيضاً إلى تصفيته ربما. ضمن هذا المناخ العام كانت وسائل الإعلام النشطة خلال الفترة الممتدة ما بين العام 2011  وحتى سقوط النظام تعمل ضمن ما يمكن تسميته بـ “الإعلام الموجه”، بعض هذا الإعلام وجه قسراً ودون رغبة القائمين عليه، والبعض الآخر اتخذ اصطفافاً سياسياً واضحاً تبعا لرغبة المالك، مثل “قناة الدنيا”، التي تحولت إلى “سما” بسبب العقوبات الدولية التي تعرضت لها القناة آنذاك، والأمر نفسه ينطبق على صحيفة الوطن التي كانت تتبع لـ “مجموعة راماك”، المملوكة من قبل “رامي مخلوف”، رجل الأعمال الأكثر شهرة. 

مصير الصحف

لا يبدو مصير الصحافة السورية مبشراً خلال الفترة الحالية، فإن كان غياب جريدة البعث عن الساحة طبيعياً بفعل قرار الحزب بتعليق نشاطه إثر سقوط النظام تبعاً للبيان الذي جاء موقعاً من قبل “إبراهيم حديد”، الذي شغل منصب الأمين العام المساعد في الفترة الأخيرة، فإن الإدارة السورية الجديدة لا تبدي أي خطوة في إعادة طبع الصحف، إلا أنها أصدرت تعليمات بتغيير اسم صحيفة “تشرين”، إلى “الحرية”، مع تغيير الهوية البصرية للصحيفة وتغيير ألوان شعارها من الأبيض والأزرق إلى الأبيض والأخضر، فيما بقي اسم صحيفة “الثورة”، على حاله، وسبب التغيير حسب المعلومات التي حصلنا عليها هو ارتباط مسمى “تشرين”، بالنظام السابق، فالاسم من وجهة نظر متخذي قرار التغيير لا يرتبط بحرب تشرين بقدر ما يرتبط بتمجيد الانقلاب الذي نفذه حافظ الأسد للوصول إلى السلطة في تشرين الثاني /نوفمبر من العام 1970، وهو الانقلاب الوحيد في التاريخ السوري المعاصر الذي حمل اسم “الحركة التصحيحية”، وعلى الرغم من إن صحيفة “الثورة”، تحمل اسماً يمجد الانقلاب الذي نفذ في تاريخ “8 آذار / مارس”، من العام 1963 والذي أفضى إلى تسلم حزب البعث السلطة بشكل رسمي في سورية، إلا أنها بقيت حاملة لاسمها فهو يشير إلى مفهوم “الثورة”، من حيث المطلق، ويمكن أن يستخدم لتمجيد ثورة 18 آذار من عام 2011  والتي أفضت إلى إسقاط النظام السابق، وضمن هذه الأجواء لم يزل مصير الصحيفتين على المستوى المهني مجهولا، وغير مبشر بالمطلق.

يقول أحد الصحافيين العاملين في صحيفة “الثورة”، والذي يفضل عدم ذكر اسمه، أن ممثلي وزارة الإعلام أجروا عملية “إعادة التقييم”، للعاملين في الصحيفة وتم منح 55 من العاملين وغالبيتهم من الصحافيين إجازة مدفوعة الأجر، وتم التواصل مع بعض من منحوا إجازة ليعودوا إلى العمل، ورئيس التحرير المعين من قبل الإدارة الجديدة، “أحمد حمادة”، يعمل على إعادة كامل من تم منحهم إجازات، وتعمل حالياً الصحيفة من خلال الموقع الخاص بها ونسخة إلكترونية من العدد. ولكن على الرغم من إن النظام السابق سقط، إلا أن عقلية إدارة الصحف الرسمية لم تتبدل، فهي موالية لـ “الإدارة السورية الجديدة”، وبحسب الصحافي ذاته فإن الأمر طبيعي، فإن الإعلام الحكومي بطبيعة ملكيته للحكومة فإنه ينطق بلسان حالها، ولا يمكن أن يكون إلا موالياً لها، ويحاول تقديم أفعالها للجمهور بطريقة تروج للحكومة، لا تنتقدها، وهذا الدور يطلب غالباً من وسائل الإعلام الخاصة لا العامة، وبالتالي لا يبدو أن الثورة أو غيرها من الصحف الرسمية ستخرج عن هذا السياق.

أثناء حديث ودي مع أحد أعضاء اتحاد الصحافيين الذي كان موجوداً في زمن النظام السابق كمؤسسة إعلامية من المفترض أنها تعمل كنقابة، يظهر واضحاً أن هذا الاتحاد منذ تأسيسه عام 1974 لم يكن خارج النص البعثي، إذ يتم انتخاب، أو لنقل تعيين من تريده القيادة القطرية في منصب “رئيس الاتحاد”، وأعضاء القيادة المركزية. ولم يكن الاتحاد قادراً في أي يوم على ممارسة دوره في حماية الصحافيين السوريين من الممارسات المخابراتية، ولا من قانون “الجرائم الإلكترونية”، الذي يبدو أن النظام أصدره أساساً للتحكم بـمسار الصحافيين حتى على صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي. ويقول عضو الاتحاد الذي فضل عدم ذكر اسمه خلال حديثه لـ صالون سوريا: “المؤسسات الصحافية السورية ذات تاريخ عريق في المهنة على الرغم من أنها مملوكة للحكومة، وكان متحكماً  بها.

الهيئة العامة: ما مصيرها؟

يُحكى منذ سقوط النظام عن تطوير منظومة التلفزيون السوري ليكون منافساً للقنوات الخاصة، ويُحكى أيضاً عن عملية إعادة تأهيل للكوادر، وإلى الآن لم يظهر مما يحكى إلا عملية إعادة التقييم، التي تصفها مذيعة تخشى من ذكر اسمها خلال حديثها لـ صالون سوريا بأنها تمت من قبل أشخاص لم يكونوا مهنيين، وتقول: لا يوجد قواعد واضحة لإبعاد مذيع أو محرر من العمل من خلال الإجازات القسرية التي منحت، فإحدى اللواتي تم إبعادهن عن العمل بإجازة ذات صوت معتمد من كبرى شركات الإنتاج لدبلجة البرامج الوثائقية، وكانت تعمل ضمن إحدى الإذاعات التابعة للهيئة، كما أن مذيعة تلفزيونية أجبرت على الإجازة وهي من ذوات الظهور اللائق والأداء المشهود له، ولا يمكن تبني وجهة النظر التي تقول آن الإبعاد تم بسبب الانتماء الطائفي، فكلا الشخصين اللذين ذكرتهما ليسا من الطائفة العلوية، ولم يكن لهما أي مواقف معلنة لتأييد النظام السابق، وبما أن الحديث عن عمل إعلامي فمن المؤكد أنهما لم تكونا كمذيعتين شريكتين في سفك الدم، ولكونها من النماذج النشيطة جداً في عملهما، يتأكد أن إعادة التقييم لم تكن جدية.

ويشير صحافي كان يعمل في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في سورية، إلى أن الآمال المبنية على التلفزيون السوري مستقبلا بأن يكون تنافسياً وقادراً على الحضور في المجتمع السوري خصوصاً، كوسيلة يمكن تصديقها، تبدو مثل ذر الرماد في العيون، فالوسيلة الإعلامية الحكومية لن تقدر على ممارسة الدور الرقابي المأمول منها، ولن تخرج عن دائرة الإعلام الذي تتحكم به الحكومة لتقدم مقولتها للجمهور، ولهذا الجمهور الحق بتصديقها أو تكذيبها بناءً على معرفته بالحقائق أولا، ومن ثم مراقبة وسائل الإعلام الأخرى وكيفية تعاملها مع أي قضية ستطرح من قبل التلفزيون السوري، وبدرجة ثالثة مصادر المعلومات التي منها “وسائل التواصل الاجتماعي”، وهذه الأشياء كان يمارسها الجمهور قبل سقوط النظام وسيبقى على حاله بعد سقوطها. وإذا كان هناك من يريد للتلفزيون السوري، أو المؤسسات الإعلامية الحكومية، أن تعمل بطريقة صحيحة فإن عليه أولاً أن يحررها من قيود “الإعلام الموجه”، الذي كانت تعيشه أيام النظام السابق، ولكن هل يمكن أن تترك وسائل الإعلام الحكومية لتمارس عملها تحت سقف عال من الحريات؟ هذا السؤال تبدو الإجابة عليه مقرونة بالنفي دائما.

هل تخلصنا من “التوجيه”؟

وسائل إعلامية عدة توقفت في سورية لأسباب تتعلق بغياب التمويل، أو نتيجة لتعرضها للتخريب، أو الخشية من العودة للعمل نتيجة ارتباطها بأحد رجال الأعمال المحسوبين على النظام. البيانان المنفصلان اللذان صدرا عن كل من جريدة الوطن، وإذاعة نينار، صبيحة يوم الثامن من ديسمبر / كانون الأول الماضي، وهما وسيلتان كان يملكهما “رامي مخلوف”، وسيطرت عليهما “أسماء الأسد”، بعد إقصائه من المشهد الاقتصادي، يعلنان التبرؤ من سياستهما الإعلامية الداعمة للنظام بالقول “كنا مجبرين”. وتعتبر مصادر صحفية عدة هذا الأمر مؤشراً على “الخوف”، من المرحلة الجديدة، فالمحاولات المبكرة لما سمي بـ “التكويع”، لم تكن ناجحة بالصورة التي كان يأملها القائمون على هاتين الوسيلتين على المستوى الإداري والصحافي. ويقول صحافي يعمل في صحيفة الوطني، شدد على عدم ذكر اسمه خلال حديثه لـ “صالون سوريا”، إن الأخبار التي تصدر عن جريدة الوطن تشرف عليها وزارة الإعلام من خلال ممثلين انتدبتهم إلى الجريدة منذ أن اعتبرت إن “الإدارة الجديدة”، تمتلك الحصة الأكبر في “جريدة الوطن”، نظراً لأنها باتت تمتلك حصة رجل الأعمال المعروف بولائه وتبعيته للنظام السابق، يسار إبراهيم، وذلك لكون أموال يسار هي من أموال الدولة المنهوبة وبالتالي لا بد من استعادة هذه الأموال. ويضيف الصحافي: على الرغم من أن رئيس التحرير وعد بعودة النسخة الورقية وعمليات الطباعة قريباً إلا أن الأمر لم يحدث نهائيا، علماً أن رئيس التحرير مقيم حالياً في فرنسا، إذ غادر البلاد صبيحة سقوط النظام وفقاً لما يعرفه العاملون.

الأمر نفسه ينطبق على عدد كبير من الإذاعات الخاصة، ولا يقبل أي من القائمين على هذه الإذاعات أو العاملين فيها الحديث عن المشكلة التي عرف “صالون سوريا”، بأنها نسخة طبق الأصل عما تعانيه جريدة الوطن، إذ إن “القصر”، تملك نسباً كبيرة من إذاعات “نينار – فيوز إف أم – ميلودي – شام إف إم” عنوة عن أصحاب التراخيص الرسمية في بعضها، ونتيجة لإقصاء صراع “أسماء – رامي”، في بعضها الآخر فيما بقيت إذاعة مثل “المدينة إف أم”، محمية بقرار من “ماهر الأسد”، شخصياً، لكون مالكها “ميزر نظام الدين”، من “أصدقاء الطفولة”، وأحد أذرعه الاقتصادية، وبعد سقوط النظام قررت الإدارة الجديدة أن “ترث”، هذه الإذاعات باعتبار أن الحصص الأكبر فيها مملوكة لشخصيات مرتبطة بـ “النظام”، وقد أسست من “أموال الشعب”، وهذا الإجراء لم يكن بالصورة القانونية، إذ تشير معلومات حصل عليها “صالون سوريا”، إلى أن الإدارة الجديدة وعبر “المحامي الممثل ليسار إبراهيم”، نقلت الملكية الخاصة بمن استهدفهم قرارها إلى شخصيات مرتبطة بها بشكل مباشر، وهذا الإجراء لم يكن قانونيا، إذ من المفترض أن تتم محاكمة رجال الأعمال، وإدانتهم، ومن ثم إصدار قرار بمصادرة هذه الوسائل الإعلامية وتحويل ملكيتها لـ الدولة (أي تأميمها)، أو عرضها في المزاد العلني واستعادة أموال الدولة، لا أن تصبح “وريثاً”، وتتعامل مع هذه الوسائل وكأنها من “غنائم الحرب”، ولا يمكن الحصول على رد رسمي من “وزارة الإعلام”، بوصفها المسؤولة عن الملف.

حالة نقل الملكية التي شملت عدداً كبيراً من وسائل الإعلام الخاصة، وتوقف بعضها الآخر عن العمل بسبب مصادرة المكاتب نتيجة لـ “ارتباطها بإيران”، مثل “قناة العالم سورية”، وقرار البعض التروي، والبعض الآخر نتيجة لـ “انعدام وجود ممول حالياً”، تشير إلى أن الإعلام السوري الذي سينشط حالياً داخل سورية، سيبقى إعلاماً موجها حاله في ذلك حال القنوات التي تقوم باصطفاف سياسي واضح لصالح “الإدارة السورية الجديدة”، مثل “تلفزيون سوريا – التلفزيون العربي”، الممولين من مؤسسة واحدة تتخذ من العاصمة القطرية مقراً لها، إضافة إلى منصة “تأكد”، التي تعمل على تبرير أو نفي الأخبار التي تدين “الإدارة السورية الجديدة”، بدلا من ممارسة دورها الذي تقدم نفسها من خلاله على أنها منصة تهتم بالتأكد من صحة المعلومات المروجة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والتحقق من مصادر المعلومة ومحاربة الأخبار المضللة. إلا أن أخطر ما يهدد العمل الصحافي وسلامته حالياً، هو ما ينقله صحافي سوري يعمل حالياً في دمشق بالقول: وزير الإعلام يستقبل ويحتفي ويقدم الفرص لمن يسميهم بـ “الإعلاميين الثوريين”، ويعتبر أن الأفضلية في المرحلة القادمة لهم، على الرغم من إن غالبيتهم مايزالون في خانة الهواة، والإجازة الأكاديمية التي يحملونها هي من جامعات غير معترف بها مقرها في مناطق الشمال السوري مثل جامعة عفرين، كما أن الصحافيين الذين يصنفون أنفسهم على إنهم هواة يطالبون في كل لقاء مع الوزير بإيقاف كل الصحافيين الذين كانوا موجودين في المناطق التي كان النظام يسيطر عليها عن العمل بحجة أنهم موالون للنظام أو كانوا يروجون لدعايته، إلا أن السبب الأساس هو محاولتهم طرد هؤلاء الصحافيين من سوق العمل وترك المجال مفتوحاً فقط لـ “الصحفيين الثوريين”، وذلك لعزوف وسائل الإعلام المرموقة عن التعامل مع هؤلاء “الثوريين”، بسبب قلة خبرتهم وانعدام مهنيتهم في غالب الأحوال.

الخشية من الملاحقة الأمنية تدفع الكثير من الصحافيين، بمن فيهم كاتب هذه المادة إلى إخفاء أسمائهم، ويعكس ذلك حالة الخوف التي مازال الإعلاميون في سورية يعيشونها على الرغم من أن الإدارة الجديدة تشدد على أن زمن الخوف انتهى بسقوط النظام. ويسخر أحد الصحافيين الذين أدلو بشهادتهم ضمن هذه المادة من السؤال عن سبب رفضه ذكر اسمه ليجيب بالقول: “ما بدي كون ضحية حالة فردية”، في إشارة إلى تزايد الانتهاكات التي توضع تحت خانة “حالة فردية – تصرف فردي”، من قبل الحكومة.

  حين تقف عاجزاً عن كتابة الفرح 

  حين تقف عاجزاً عن كتابة الفرح 

منذ نحو سبعة أعوام وأنا أكتب لموقع صالون سوريا، وكانت معظم المواد والتحقيقات التي نشرتها في الموقع وفي مواقع أخرى، طوال أكثر من عشرة أعوام، تدور حول  ظروف الحرب وتبعاتها، الحرب التي فرضها نظام الأسد على الشعب السوري لكي يُجهض ثورته العظيمة التي سيُخلدها التاريخ. كتبتُ عن الشوارع المليئة بمشاهد القهر والألم، والمزدحمة بالمتسولين والمشردين، الذين باتوا جزءاً مألوفاً منها، ونابشي حاويات القمامة التي باتت مصدر رزقهم الوحيد، وباعة الأرصفة الذين يرتجلون من العدم بسطاتٍ تبيع أي شيء يمكن بيعه كي يؤمنوا لقمة عيشهم. كتبتُ عن النازحين والفقراء والمعدمين، وعن المتسربين من التعليم وأطفال الشوارع الذين تربوا وكبروا فيها. كتبتُ عن تدهور الواقع التعليمي والثقافي وعن هجرات الفنانين والمثقفين وأصحاب الشهادات، وعن العقبات والصعوبات التي يواجهها من تبقى منهم في البلاد، كما تحدثت في أكثر من مادةٍ وتحقيقٍ عن أزمات الكهرباء والوقود والمواصلات، وعن تردي الواقع المعيشي والاقتصادي لدى السوريين، الذين أصبح جلهم يعيش تحت خط الفقر، وغير ذلك من الموضوعات التي تناولت معاناة الناس وظروف حياتهم اليومية التي تميتهم كل يومٍ عشرات المرات.   

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد المجرم، الحلم الذي انتظرناه طوال حياتنا، وقفت عاجزاً طيلة الأسابيع الماضية عن الكتابة عن الفرح، رغم أن حدثاً كهذا، لم نكن نتخيله حتى في أحلامنا، يُمكن أن تُفرد لأجله عشرات بل مئات الصفحات، ولكن كيف يمكن للغةٍ من حروفٍ وكلمات أن تُجاري، تعبيرياً أو شعرياً، ما تقوله الشوارع والساحات التي كانت أفراحها أبلغ وأفصح وأشد تعبيراً من أنواع الفنون والأدب والصحافة كلها؟ أفراحٌ شاسعة بحجم وطنٍ يولد من جديد، كان لصوته الاحتفالي قدرة تعبيرية  فاقت جميع محاولاتي التعبيرية التي عجزت عن صياغة مادةٍ ما، أنا الذي اعتادت لغتي لسنواتٍ على صياغة موضوعاتٍ تفوح منها رائحة بلاد مُنهكة، صُنفت كواحدة من أسوأ أماكن العيش في العالم.   

في الساحات كانت وجوه الناس المُشرقة والطافحة بالنبض والفرح  تكتب نيابةً عني، بعد أن زالت من تعابيرها معالم القهر واليأس والوجع. الأطفال المتسولون والمشردون في الشوارع والعاملون في نبش حاويات القمامة، في الصباح الذي تلا سقوط الأسد المجرم، كانوا يفردون صوره الممزقة على الطرقات والأرصفة ويدعون المارة أن يدوسوا عليها وأن يعبروا بسياراتهم من فوقها، وهم يرقصون ويهتفون هتافات الحرية والنصر الذي كان يَشعُّ من وجوههم التي زينوها برسوم علم سوريا الجديد، وجوههم التي لطالما تلونت بالقهر وأوساخ الشوارع والندبات التي حُفرت فيها. لربما كان هذا المشهد من أروع مشاهد انتصار العدالة. 

  بعض النازحين، الذين عاشوا لسنواتٍ في شققٍ غير مكسوة (على العظم) لا تصلح للعيش البشري، تحولت من سكنِ مؤقتٍ إلى شبه دائم، كانوا يحتفلون بكثيرٍ من الفرح والدموع في ذات الساحات والشوارع، التي لطالما جلسوا فيها باحثين عن أي عملٍ يمكن أن يؤمن لقمة عيشهم المريرة. كانوا يقفون فيها، مع أطفالهم، لأول مرة منتصرين على من دمَّر بيوتهم وهجَّرهم من مدنهم وقراهم، التي بات حلمهم بالعودة إليها قابل للتحقيق، وكان أطفالهم، الذين تفيض عيونهم أملاً وتفاؤلاً، يشعرون لأول مرة أن لديهم وطناً حقيقياً وأن بإمكانهم العودة إلى قراهم ومدنهم التي لم يتعرفوا إليها منذ ولادتهم.

في ساحة الحجاز وخلال وجودي في وقفةٍ تضامنية مع المعتقلين المفقودين، كانت قدسية المشهد وعظمته وملحميته تُلهم ذهني بعشرات الأفكار والمواضيع التي يُمكن الكتابة عنها، لكن دموع المرأة التي كانت تقف بجواري، كانت أكثر بلاغة وتعبيراً من أي كلماتٍ يُمكن أن تُكتب، دموعها التي كانت تشبه سوريا المتخبطة بين مشاعر الفرح والأمل والحزن والفقد والحسرة على المعتقلين الذين استشهدوا لكي يرسموا لنا طريق الحرية. 

كانت صور المعتقلين المحمولة في الساحة تحدق بي، وهي تقول الكثير، وكنت أشيح بوجهي عنها، أخجل من عظمتها ومن النظر إليها. كيف يمكنني أن أكتب عنها بضع كلماتٍ مقتضبة، وكل صورة منها تحفل بعشرات القصص والمشاهد والذكريات، ويُمكن أن تُفرد لأجلها عشرات المقالات؟ 

خلال وقوفي في الساحة فكرت للحظة أن أجمع حكايات بعض الناس الذين حضروا إلى الوقفة، حاملين صور أبنائهم وأخوتهم وأقاربهم المفقودين، علهم يحظون بأي خبرٍ عنهم، لكن نظراتهم، الباحثة عن أي أمل، كانت تصفعني وتجعلني مشلول الحركة، غير قادرٍ على القيام بأي فعل، بل كانت تُشعرني بسخافة أن يُكتب عن معاناتهم فيما يقف العالم بأسره عاجزاً عن تقديم أي خبرٍ يُريح قلوبهم المتعبة التي مزقها الفقد. هربت من نظراتهم ورحت استحضر إلى ذهني، مشاهد المعتقلين المحررين من المعتقلات والسجون، والتي أمضيت ساعاتٍ طويلة وأنا أشاهدها خلال الأيام الماضية، بمزيجٍ من الفرح والحزن. شردت معها بعيداً لدقائق، حتى قاطعت شرودي نظرات شابة كنت أعرفها حين كانت طفلةً في إحدى مراكز الايواء قبل نحو ثماني سنوات. من كان يصدق أنها ستقف اليوم في إحدى أهم ساحات دمشق، وهي تودع الخوف والقهر والعجز، وتحمل علم سوريا الجديد، لتقول للعالم إنها انتصرت على من دمَّر بلادها واعتقل عدداً من أقربائها وشردها مع عائلتها لسنوات طويلة؟. 

في السنوات الماضية تحدثت في أكثر من مادة صحفية عن الجيل الجديد، أو ما يُمكن تسميته بجيل الحرب، الذي فقد شعوره بالإنتماء إلى سوريا المُدمرة والممزقة، التي قد لا يعرف منها سوى مدينته أو قريته، هو الذي  تربى على ثقافة الحرب والانقسام السياسي والخوف من الموت، ولم يتبلور لديه أي مفهوم واضح عن الوطن في ظل انحسار دور المرجعيات الوطنية وتمزق معظم الهويات الوطنية الجامعة. ذلك الجيل، الذي كان السفر إلى خارج البلاد، بالنسبة لمعظمه، الحلم الأبرز وطوق النجاة الوحيد، تراه اليوم، بعد سقوط النظام البائد، يتعافى ويُبعث من جديدٍ، ينهض حافلاً بالطاقات والانتماء الوطني، يَنشَط كخلايا النحل، يحضر في الساحات، في الوقفات الاحتجاجية والتضامنية، في حملات تنظيف الشوارع وزراعة الحدائق، وفي مختلف الأنشطة المدنية، ويشارك في التجمعات السياسية والمدنية وفي المبادرات الشبابية، يُعبِّر عن رأيه ، الذي كان مغيباً، وبكثيرٍ من الحماس والمسؤولية يشعر اليوم أنه أمام فرصةٍ ذهبية ليستعيد انتماءه لبلاده وليكون شريكاً فاعلاً ومؤثراً في صناعة تاريخها الجديد والنهوض بها. 

قبل أيام من سقوط نظام الطاغية المجرم، كنت أفكر بالكتابة عن تلوث الهواء في بعض المناطق المحيطة بدمشق، وخاصة مدينة جرمانا، والتي يضطر الكثير من سكانها، في ظل أزمتي الوقود والكهرباء، لإشعال النايلون والبلاستيك والخشب والكراتين في مدافئهم، وكل ما توفر من موادٍ تساعدهم على استحضار بعض الدفء إلى بيوتهم الباردة. ويؤدي احتراق تلك المواد إلى انبعاث دخان كثيفٍ يلوث الهواء ويبعث على الاختناق. لكن هواء المكان تغير فجأة، بعد سقوط النظام البائد، وليس في الأمر حالة شاعرية ورومانسية، فقد لمس معظم الناس هذا التغيير وأصبحوا يتنفسون هواء مريحاً وخفيفاً وغنياً بالأوكسجين، بعد أن زالت رائحة الخوف واليأس والعجز من الشوارع التي أصبحت مُشرقة ورحبة، وتفوح منها رائحة الفرج والأمل. 

آخر المواد التي كتبتها كانت تتحدث عن انعدام مساحات التنفس عند الناس في سوريا، نتيجة ما أفرزته ظروف الحرب التي التهمت الكثير من المساحات الخضراء وحرمت معظم الناس من طقوس النزهة والسيران  وزيارة البحر، في ظل تدهور الواقع الاقتصادي وتفاقم أزمات الوقود والمواصلات، وهو ما جعلهم يلجؤون إلى أي مساحةٍ زراعيةٍ أو حتى ترابية تذكرهم بالطبيعة. اليوم، بعد سقوط نظام الطاغية، يُمكن القول أن كثير من  الناس وجدوا مساحات تنفسهم في الساحات والشوارع التي بات السير فيها، بالنسبة لهم، نوعاً من النزهة والسيران، بل أن عشرات الآلاف باتوا يأتون كل يوم لزيارة دمشق من مختلف المحافظات، وبعضهم كان يتعرف إليها لأول مرة. الشباب الذين كانوا محاصرين في أحيائهم وحاراتهم وبيوتهم لسنوات، كونهم مطلوبين للخدمة العسكرية، تحرروا أخيراً من سجنهم وتعافوا من رُهاب الحواجز، وباتوا يتنقلون بين الأحياء ويجوبون الشوارع والساحات بكامل حريتهم، وتعلو أصواتهم  في المقاهي وهم يخوضون النقاشات السياسة حول مستقبل سوريا، وكأنهم يولدون من جديد. 

لقد كنت واحداً من أولئك الشباب، وبقيت مشلول الحركة لنحو سبعة أعوام، خشية اقتيادي للخدمة العسكرية الاحتياطية، كنت خلالها أتنقل، عند الضرورة، بحذرٍ شديد، سيراً على الأقدام، وأحياناً كنت أستعين بهوية أخي، وها أنا اليوم أمضي كثيراً من الوقت متجولاً في أحياء دمشق، التي كتبت كثيراً عن تعبها ومرضها وعتمتها، أتسكع في شوارعها بخفة ورشاقة من يمتلك جناحين، وأنا أودع الخوف الذي كان يتربص بخطاي كلما رأيت حاجزاً أو دورية عسكرية. أحاول استعادة علاقتي الحميمية الأثيرة مع المدينة، أُمعن النظر في كل تفصيلٍ صغيرٍ في شوارعها وأبنيتها، أُدرِّب عيني، التي اعتادت لسنواتٍ على رصد مشاهد الفقد والألم والقهر، أُدرّبها على إبصار التفاؤل والأمل والفرح الذي بات يرتسم على كل تفاصيل المدينة ويطل من وجوه الناس. لقد كنت أشتكي خلال السنوات الماضية من نقص الأصدقاء الذين غادر معظمهم إلى خارج البلاد، وها أنا اليوم أكتشف أنه مازال هناك الكثير منهم في دمشق، بعد أن خرجوا من حصارهم وعزلتهم ليبصروا النور، أصادفهم في الشوارع والمقاهي والساحات، التي بت أستعيد من خلالها ذكريات أصدقائي المسافرين، الذين عادت ذكرياتهم وضحكاتهم وأحاديثهم وخطاهم لتطل من كل شارعٍ أسير به، بعد أن باتت عودتهم، التي كانت شبه مستحيلة، إلى سوريا أمراً ممكناً.  

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟

اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي ودستوري، يمكن وصفها بـ”مرحلة اللادولة”. بغياب رئيس الجمهورية، وتعليق عمل السلطة التشريعية، ووجود حكومة تسيير أعمال محدودة الصلاحيات، لا قوانين تُسنّ ولا قرارات مصيرية تُتخذ. الحديث عن تعديلات دستورية أو تشكيل جمعية تأسيسية يبقى كلامًا نظريًا، طالما لا توجد آليات واضحة أو قوى سياسية حقيقية على الأرض تقود هذا التحول.

ما يثير القلق أكثر من غياب الرئيس أو تعطل المؤسسات هو غياب الرؤية السياسية والتنظيم المؤسسي القادر على قيادة الجماهير وتنظيم العمل السياسي. لا يمكن بناء دولة على أحلام فردية أو قرارات مرتجلة. الشعب بحاجة إلى قوى سياسية منظمة تمثله، تضع أولويات وطنية جامعة، وتدير المرحلة الانتقالية بحكمة وشفافية.

حتى الآن، لم يُعلن عن تشكيلة وزارية واضحة، ولا عن لجان مكملة في الوزارات الموجودة. حكومة تسيير الأعمال تبدو وكأنها مجرد كيان شكلي، غير قادر على تفعيل مقدرات الدولة أو رسم سياسات عامة تلبي احتياجات الشعب. أكثر من ذلك، لا توجد منصة رسمية تجمع مختلف الأطراف لطرح خطط واضحة حول المستقبل.

الإعلام في سوريا، الذي لعب دورًا كبيرًا خلال الثورة، يحتاج الآن إلى إعادة هيكلة وتوظيف مؤسسي. لدينا وكالات رسمية مثل “سانا”، ومحطات فضائية وإذاعات، لكنها ما زالت تعمل بأدوات الماضي، بعيدة عن الواقع اليومي للمواطنين. لماذا لا يتم تفعيل الإعلام ليصبح لسان حال الشعب؟ لماذا لا يتم استخدام هذه الإمكانيات الضخمة لتوثيق الحياة اليومية في المحافظات، ورصد التحديات الحقيقية؟

الثورة تجاوزت مرحلة الأفراد كمحطات إعلامية أو رموز للخطاب الثوري. الآن، نحن بحاجة إلى إعلام مؤسسي يوثق الواقع، يبني رواية جماعية، ويرسخ مفاهيم الرقابة والمساءلة الشعبية. العمل الإعلامي يجب أن يتحول إلى جزء أساسي من بناء الدولة، يعكس تطلعات الناس، ويكون أداة ضغط على المؤسسات لتحقيق الشفافية.

المجتمع المدني اليوم أمام مسؤولية كبيرة. في ظل غياب القيادة السياسية الواضحة، يجب أن يصبح المجتمع المدني حاضنة للنقاشات حول الحقوق والواجبات. الشعب السوري بحاجة إلى فهم عميق لما تعنيه دولة المواطنة والديمقراطية. هذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال نشر ثقافة الحوار والنقد البنّاء، بعيدًا عن العواطف والشعارات.

هناك حاجة ملحة لتحويل النقاشات إلى خطط عملية، تعكس أولويات الشعب. على الجميع أن يدرك أن السياسة ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي وسيلة لتحقيق العدالة والمساواة والحرية. المرحلة الحالية تتطلب صراعًا حقيقيًا على الأولويات الشعبية الجامعة، وليس مجرد تنافس على الخطابات الرنانة أو الشعارات.

ربما أكبر درس يمكن أن نتعلمه من المرحلة الماضية هو خطورة صناعة الأصنام، سواء كانوا رموزًا سياسية أو اجتماعية. لا أحد يجب أن يكون فوق النقد أو المساءلة. سوريا الجديدة لا يجب أن تكون مكانًا لتقديس الأفراد أو المؤسسات، بل فضاءً للنقد الحر والمراقبة الشعبية الحقيقية.

الحرية لا تتحقق فقط بإسقاط نظام، بل بإرساء ثقافة لا تقبل بالاستبداد بأي شكل. هذا يعني أن كل شيء يجب أن يكون تحت المجهر: القرارات الحكومية، السياسات العامة، وحتى أداء القوى الثورية والمعارضة. الشعب السوري يجب أن يكون هو الحَكَم النهائي، وهو مصدر الشرعية الوحيد.

سوريا الحرة التي نحلم بها لن تتحقق بين ليلة وضحاها. بناء الدولة يعني الانتقال من مرحلة الفوضى إلى مرحلة المؤسسات. هذا يتطلب تفعيل كل مقدرات الدولة وإعادة هيكلة المؤسسات القائمة. لدينا وكالات إعلامية، مؤسسات حكومية، وموارد بشرية هائلة، لكنها بحاجة إلى إدارة واعية، تؤمن بالعمل الجماعي والمؤسسي.

لا يمكن ترك الساحة للعواطف أو الخطابات العاطفية. هذه مرحلة السياسة الفاعلة، التي تعتمد على التخطيط والالتزام بأولويات الشعب. المجتمع السوري يجب أن يتحول إلى قوة ضغط مستمرة، تضع معايير للمساءلة وتفرض أجندتها على كل من يتصدر المشهد.

إن كنا نحلم بسوريا ديمقراطية، متنوعة، وحرة، فعلينا أن نعمل بجدية على تحقيق هذا الحلم. بناء الدولة ليس مجرد شعار، بل عملية طويلة ومعقدة، تتطلب تضحيات وصبرًا. المسؤولية تقع على عاتق الجميع: القوى السياسية، المجتمع المدني، الإعلام، وحتى كل مواطن يؤمن بأن سوريا تستحق الأفضل.

مرحلة اللادولة ليست نهاية الطريق، بل بداية جديدة.

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد بقائه، دعمت تركيا المعارضة المسلحة والسياسية، مما جعلها لاعبًا حاسمًا في المشهد السوري. على الجانب الآخر، استغلت إسرائيل هشاشة الوضع لتقويض قدرات الجيش السوري، مستهدفة 80% من بنيته الاستراتيجية، في غياب ردود فعل جادة من النظام الساقط.

في المقابل، أظهرت مؤشرات دولية رغبة الرئيس المنتخب دونالد ترامب بعدم التدخل المباشر في سوريا، معتبرًا أنها لا تمثل أولوية للمصالح الأمريكية. هذه السياسة عززت واقعًا جديدًا على الأرض، حيث بدا أن الإدارة الأمريكية تمنح إسرائيل ضوءًا أخضر لفرض رؤيتها الاستراتيجية، تحت غطاء تأمين حدودها وأمنها القومي.

من جهة أخرى، وفي ظل انهيار النظام السوري وعجزه عن تلبية أي دور فعال، نسّقت تركيا مع روسيا وإيران لإدارة المشهد، حيث التقت مصالحها في تحقيق تفاهمات مرحلية رغم التناقضات الجوهرية. بدت تركيا أكثر واقعية، حيث أدركت أن النظام بات ورقة خاسرة، مركزة جهودها على حماية نفوذها ومصالحها على الأرض. هذا التنسيق يطرح تساؤلات حول ملامح المرحلة المقبلة ودور هذه القوى في إعادة تشكيل المشهد السوري.

أحمد الشرع، زعيم تحرير الشام والوجه البارز اليوم في القوى العسكرية المعارضة، أكد أن سوريا لن تكون ساحة لحروب جديدة مع أي طرف. هذه التطمينات الدولية تفتح الباب للتساؤل حول مدى جدية هذا التصريح في ظل التوغل الإسرائيلي المستمر، والتهديدات الروسية الحازمة ضد أي مساس بقواعدها البحرية في سوريا.

بعد سقوط نظام بشار الأسد، شهدت سوريا تحولات ميدانية وديناميكيات جديدة بين القوى الفاعلة على الأرض. في العاصمة دمشق، سيطرت قوات المعارضة المسلحة على المدينة دون مقاومة تُذكر، مما أدى إلى فرار الأسد. في مدينة حمص، انسحبت القوات الحكومية بشكل كامل، مما أتاح للمعارضة السيطرة على المدينة، واحتفل السكان المحليون بسقوط النظام، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع مرددين هتافات مثل “رحل الأسد، حمص حرة”.

أما في المناطق الساحلية مثل اللاذقية وطرطوس، التي تُعتبر معاقل للطائفة العلوية، فقد شهدت المدن احتجاجات واسعة ضد النظام، حيث أُسقطت تماثيل حافظ الأسد، والد بشار الأسد، في مشهد يعكس تغير المزاج الشعبي. ورغم مخاوف السكان من التعرض لهجمات انتقامية، فإن التعامل السلمي من قبل المعارضة هدّأ من هذه المخاوف وأشاع أجواء من الأمل بإمكانية تحقيق مصالحة وطنية.

هذه التحولات الميدانية السريعة تُظهر التغيرات الجذرية في المشهد السوري بعد سقوط النظام، وتبرز التأثيرات العميقة على المجتمعات المحلية التي تسعى الآن للبحث عن مستقبل جديد بعيدًا عن الصراعات الدامية.

بعد سقوط نظام الأسد وسيطرة المعارضة على دمشق، أصدرت القوى الدولية والإقليمية تصريحات تؤكد مواقفها من المشهد السوري الجديد. فقد أكد وزير الخارجية الأمريكي أن “الوضع الحالي في سوريا يتطلب دعم الجهات المحلية التي أثبتت قدرتها على تحقيق الاستقرار”، مشددًا على أن “أي عملية سياسية يجب أن تكون شاملة وتُمثل تطلعات الشعب السوري بعيدًا عن التطرف والإقصاء”. من جانبها، أوضحت روسيا عبر وزير خارجيتها أن “أي عملية سياسية في سوريا يجب أن تراعي القوى المسيطرة على الأرض لضمان الاستقرار، مع الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الروسية، خاصة في الساحل السوري”.

بدورها، أعلنت إيران دعمها لتشكيل حكومة انتقالية، مؤكدة أن “المرحلة المقبلة في سوريا يجب أن تكون نابعة من الداخل، بالتعاون مع القوى الميدانية لضمان توازن المصالح”. أما تركيا، فقد شددت على أهمية شمولية العملية السياسية، حيث صرح الرئيس التركي بأن “المرحلة الجديدة في سوريا يجب أن تُبنى على مشاركة حقيقية لجميع الأطراف، مع ضمان وحدة الأراضي السورية وحماية حقوق جميع المكونات”. وعلى الصعيد العربي، دعت السعودية والإمارات إلى “إطلاق حوار سوري-سوري برعاية دولية يضمن تمثيلًا عادلًا للشعب السوري، مع التركيز على إعادة الإعمار وعودة الاستقرار” فيما بدأت دول مثل قطر تستأنف عملها الدبلوماسية في سفارتها بدمشق. 

تشير التصريحات إلى أن القوى الدولية والإقليمية تتجه نحو التعامل مع قوى الأمر الواقع في سوريا كفاعل أساسي في أي عملية سياسية مقبلة. روسيا وإيران تسعيان إلى حماية مصالحهما الاستراتيجية عبر التنسيق مع القوى المسيطرة، بينما تركز الولايات المتحدة وتركيا على ضمان شمولية العملية السياسية وتحقيق الاستقرار. الدول العربية، رغم دعوتها لحوار شامل، تظل بعيدة عن تأثير فعلي على الأرض. غياب القوى السياسية الحرة التي تعيش معظم قياداتها في الخارج يُعقد المشهد، ويُبقي مستقبل سوريا مرهونًا بتوازنات دولية وإقليمية أكثر من كونه قرارًا سوريًا داخليًا.

مع سقوط نظام الأسد، انهار الجيش السوري بسرعة مذهلة، ليكشف عن هشاشة كيانه وعدم وطنيته التي كانت سببًا رئيسيًا في عجزه عن البقاء كجيش وطني. لعقود، تحول الجيش إلى أداة لحماية نظام الأسد بدلاً من حماية البلاد، حيث أهملت تجهيزاته، وبقيت معداته العسكرية قديمة وغير فعالة في مواجهة أي تهديد خارجي. الطيران الحربي الذي كان يفترض أن يحمي سماء سوريا لم يستخدم سوى ضد المدنيين والمعارضة المسلحة، التي هي في الأساس جزء من الشعب السوري.

هذا الانهيار السريع يعكس مدى عدم وطنية النظام الذي حول الجيش إلى أداة قمع، أوهمت السوريين بأنها تحميهم، بينما كانت في الواقع درعًا شخصيًا للرئيس المخلوع بشار الأسد. وما إن غادر الأسد وعائلته إلى روسيا كلاجئين، وفقًا لتقارير دولية كشفت عن حيازته مبلغًا ضخمًا يصل إلى 2 مليار دولار، حتى انهار النظام بأكمله في العاصمة دمشق، فجأة فرغت الأفرع الأمنية وقطعات الجيش، سواء بسبب اتفاقيات دولية لإعادة رسم خارطة المنطقة أو نتيجة تخلي الحلفاء الدوليين عن دعمه للبقاء.

هذا الواقع يضع الطائفة العلوية، التي دفعت أثمانًا باهظة للدفاع عن النظام، في مواجهة استحقاقات صعبة. بعد أن قدمت معظم شبابها دفاعًا عن الأسد ونظامه، أصبحت الآن محط استهداف، خاصة في حوادث معنوية ومظاهر انهيار مجتمعي في القرداحة، مسقط رأس الأسد. هذه التطورات تفتح الباب لأسئلة ملحة: كيف يمكن إعادة لم الشمل بين الطوائف السورية المختلفة؟ وما هي الضمانات التي يمكن تقديمها للطوائف التي عانت من قمع النظام أيضًا، لضمان العدالة والمصالحة الوطنية؟ الطريق نحو سوريا موحدة وآمنة يبدو معقدًا، لكنه يبدأ بالاعتراف بجذور المأساة ومعالجة تبعاتها بروح وطنية جامعة.

بعد سقوط نظام الأسد، ظهرت قوى الأمر الواقع كفاعلين رئيسيين في المشهد السوري، مع تساؤلات حول إعادة لمّ الشمل بين الطوائف وضمان العدالة والمصالحة الوطنية. في هذا السياق، أصدرت إدارة العمليات في المعارضة المسلحة بيانًا يؤكد على أهمية “إطلاق حوار شامل بين جميع مكونات الشعب السوري لضمان بناء دولة تحترم حقوق الجميع بعيدًا عن الإقصاء”، مشيرة إلى أن “القوات المسلحة للمعارضة ستلتزم بحماية المدنيين وممتلكاتهم، ولن تتحول إلى طرف قمعي كما كان الجيش السابق”.

هذا الطرح يعكس إدراك المعارضة لأهمية تقديم ضمانات حقيقية للطوائف التي عانت من النظام السابق، مع التركيز على بناء دولة مؤسساتية تعتمد على العدالة والمساواة. تحقيق هذه الأهداف يتطلب إدارة متوازنة لقوى الأمر الواقع، وضمان انخراطها في عملية سياسية تُمثل جميع السوريين، في ظل دعم دولي يرعى الانتقال السلمي ويمنع العودة إلى دوامة العنف.

إلى جانب ذلك، تسيطر اليوم فصائل مسلحة ذات أيديولوجيات وانتماءات متباينة على أجزاء واسعة من البلاد، مما يعكس تفكك النسيج الاجتماعي السوري. بعض هذه الفصائل يحمل طابعًا طائفيًا أو مناطقيًا، وهو ما قد يشكل عائقًا أمام المصالحة إذا لم يتم دمجها بطريقة عادلة في العملية السياسية. إعادة لم الشمل تتطلب قيادة وطنية جامعة قادرة على تجاوز الطائفية والمناطقية، عبر مؤتمرات مصالحة وطنية مدعومة دوليًا، تضمن تمثيلًا عادلًا لجميع المكونات، بما في ذلك الطائفة العلوية التي تحملت أعباء كبيرة دفاعًا عن النظام.

في الوقت ذاته، تحتاج الطوائف التي عانت من قمع النظام إلى ضمانات حقيقية لمستقبلها. ورغم أن بعض الأمل قد يكون معقودًا على الفصائل المعارضة التي تسيطر على مناطقها، فإن هذه الفصائل ليست كافية لتقديم حماية شاملة. هنا يبرز دور القوى الدولية في بناء إطار قانوني يضمن العدالة والمحاسبة للمتورطين في الانتهاكات، مع إنشاء نظام أمني جديد يركز على حماية جميع المواطنين على قدم المساواة.

تحقيق وحدة سوريا وأمنها يتطلب التغلب على النفوذ الأيديولوجي والطائفي لقوى الأمر الواقع، وإيجاد صيغة لإدماجها في مؤسسات الدولة بما يضمن مصالح الجميع. إلى جانب ذلك، يجب مواجهة التدخلات الإقليمية والدولية التي تؤجج الانقسامات، عبر دعم عملية سياسية وطنية شاملة تعيد بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية وتطلق برامج إعادة إعمار تستهدف تعزيز التعايش والمساواة بين السوريين.

إن قوى الأمر الواقع اليوم تحمل في طياتها فرصًا وتحديات لتحقيق المصالحة الوطنية. نجاح إعادة بناء سوريا يعتمد على تحويل هذه القوى من جهات عسكرية إلى أطراف سياسية ملتزمة بمشروع وطني جامع. هذا التحول يتطلب إرادة داخلية ودعمًا دوليًا كبيرًا لضمان العدالة والمصالحة وبناء دولة جديدة تلبي تطلعات جميع السوريين.

لعب الشعب السوري دورًا محوريًا في رسم ملامح المرحلة الجديدة، رغم التحديات الكبيرة. في دمشق، خرجت جموع من المواطنين إلى الساحات العامة، مطالبين بحكومة تمثل إرادة الشعب وتعكس تطلعاته نحو الديمقراطية والحرية. في حمص، قام السكان بتنظيم لجان محلية لإدارة شؤون المدينة، مع التركيز على تأمين الخدمات الأساسية وإعادة الحياة إلى طبيعتها.

أما في المناطق الريفية، فقد ساهمت المبادرات الشعبية في دعم استقرار المناطق المحررة، حيث أطلق المواطنون حملات لإعادة بناء المدارس والمستشفيات التي دُمرت خلال الصراع. وعلى الصعيد السياسي، شهدت الساحة ظهور وجوه جديدة من ناشطين مدنيين وشخصيات مجتمعية تسعى لتوحيد الصفوف وطرح رؤية مشتركة لمستقبل سوريا.

هذا التفاعل الشعبي يُظهر أن إرادة السوريين ليست مجرد عامل هامشي، بل قوة دافعة أساسية يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل مستقبل البلاد، إذا ما أتيحت لهم الفرصة للمشاركة الفاعلة في عملية بناء الدولة.

قلعة من الورق المقوى

قلعة من الورق المقوى

حين تُفْقَد الشرعية، وينهار الاقتصاد، وينحسرُ الدعم الشعبي، ويتفشّى الفساد والمحسوبية، وتُفْرضُ العقوبات والعزلة الدولية، ويشتدّ التغوّل الأمني وسوء الإدارة والرشوة، ويُفْقد دعم النخبة وتتفكك، أو تُصادَر أموالها وتُهَمَّش، ويتحوّل الجيش إلى حرس خاص وتسود الفئوية، ويفتقر الرئيس ونخبته للرؤية السياسية، ويثور الشعب، ويتم تبني العنف الأمني المتوحش كطريقة للحفاظ على السلطة مترافقاً مع كم الأفواه والرقابة على الصحافة، والتحكم بالمعلومات ونهب المال العام، وحين يتم الفشل في التكيف مع الظروف المتبدلة، وفهم المتغيرات الإقليمية والدولية وإطالة الاتكال على العنف، واللجوء إلى الدعم الخارجي دون استقلالية في اتخاذ القرار، والتمسك بالكرسي على حساب أي شيء، فإن النتيجة هي السقوط المدوي، والذي يكون أحياناً سوريالياً.

تغيّر المشهد في سوريا بشكل مفاجئ وبسرعة فائقة. فبشار الأسد، الذي ورث السلطة عن أبيه في انتهاك صارخٍ للقانون، اختار أن يتخلى عن ٢٤ عاماً من الحكم في يوم واحد، في صفقة لا تزال تفاصيلها غامضة، ومن الصعب التنبؤ بتداعياتها واحتمالات ما قد تفضي إليه من نتائج في الداخل السوري. كما لو أن لاعب شطرنج قضى بحركة واحدة مفاجئة على الملك وجنرالاته وجنوده على رقعة اللحظة السورية.

 قرأ بشار الأسد الأوضاع الداخلية والإقليمية والخارجية بعينين أمنيتين أعماهما ضباب الغرور والتسلط والعجرفة، فلم يستطع أن يفهم طبيعة التحولات في المنطقة، ونظر إلى الربيع العربي منذ بدايته على أنه مؤامرة، وبدأ حربه على الشعب السوري الذي ردْكَلتْهُ ممارسات الأجهزة الأمنية الوحشية وغير الإنسانية، ودفعت الكثير من أبنائه إلى الخيارات التطرفية القصوى. بدأت الحكاية بقتل المتظاهرين السلميين، أو زجّهم في السجون، وتطور الأمر إلى اقتحام المدن بالدبابات، وقصفها بالبراميل المتفجرة، وتشريد أهلها في الداخل والخارج إلى درجة أن الجيش العربي السوري، تحوّل إلى ”جيش أسدي“، كما قال المعارضون لحكمه، إلى آلة لخدمة كرسيه، وصار يُقارَن بقوات الاحتلال التي تأسّس كي يقاتلها بالأساس، بل هناك من المعارضين من ذهب إلى أبعد من ذلك وقال إن ما فعله يذكر بوحشيته بممارسات إسرائيل.

ازداد عدد القتلى من السوريين العزّل والأبرياء، وتوسّعت السجون العلنية منها والسرية، وهُدمت البيوت والمدن فوق سكانها، وانهار الاقتصاد، وزاد من انهياره الحصار الغربي الجائر الذي فُرض على سوريا وشعبها. أوغل الجهاز الأمني في الإجرام ضد الشعب بتطبيقه للحل الأمني الذي انتهجه بشار غير مصغٍ لنصيحة العقلاء من ضباطه ضارباً عرض الحائط بجميع وجهات النظر. ويتجلى حله الأمني الآن في هذه المناظر المخزية للزنزانات التي حُرر منها المساجين الذين رأيناهم على الشاشات، والتي زُجّوا فيها دون محاكمة لأنهم رددوا بصوت جهوري: هيا ارحلْ يا بشار! هذه الزنزانات التي تجعل (إذا ما عدّلنا قليلاً جملة لسلمان رشدي) الطفل في سوريا يولد من رحم أمه محمراً من العار.

لم يُصْغ بشار الأسد، ولا المجموعة التي تحلقت حوله من شاربي البلاك ليبل والنبيذ المعتق وويسكي السينكل مولت ومدخني السيجار الكوبي وراكبي السيارات الفاخرة ومهربي الكبتاغون لأصوات السوريين تهدر في المدن، واتخذ قراراً بإخراس الجميع بخياره الأمني الذي كان أشد تطرفاً من تطرف السلفية الجهادية. وصُفّي الضباط الذين أرادوا التوصل إلى حل وسط مع المعارضة، وتحولت سوريا إلى سجن كبير. قُتل من قُتل، وسُجن من سُجن، وهاجر من هاجر حتى صارت الأرقام المتداولة مخيفة. واستطاع جهاز الحكم السوري، الذي أداره بشار وبعض ضباط الأمن المقربين منه، أن يقنع كثيراً من السوريين بالقتال معه، وخاصة من أبناء الطائفة العلوية والأقليات الأخرى، تحت ذريعة حماية أنفسهم من ”الإرهابيين“، ومن ”المذابح القادمة“،  وعزف على وتر الذاكرة التاريخية كي يحقق ما يريده، ثم في نهاية المطاف أبرم صفقة كي ينفد بجلده هو وعائلته متخلياً عن ضباطه وجنوده بطريقة تفتقر للفروسية والرجولة غير مستبعدة عنه، وغادر البلاد مالئاً حقائبه بالمال غير آبه بمن تركهم خلفه.

ما حدث في سوريا كان مفاجئاً وغير متوقع. ففي رفة هدب اختفى الجيش السوري والأجهزة الأمنية، وغادر الجميع مواقعهم وكراسيهم من العرفاء إلى أعلى الرتب. وطُويت حقبة من الدكتاتورية العسكرية استمرت عقوداً، وأُرسل الجميع إلى بيوتهم تاركين أسلحتهم خلفهم دون أن يفهموا الأمر المربك الذي وصل إليهم بالانسحاب إلى درجة أن بعض المقاتلين المغرر بهم عدّوا ما حدث خيانة فقرروا الانضمام إلى المعارضة.

اقتحم أبو محمد الجولاني زعيم المنظمة السلفية الجهادية هيئة تحرير الشام، هو والفصائل المنضوية تحت لوائه في عملية ”ردع العدوان“، المشهد في حلب وحماة وحمص ودمشق وصولاً إلى الساحل السوري وجاء إلى العاصمة دمشق كي يلقي خطبة النصر في الجامع الأموي معلناً نهاية نظام الأسد وبداية نظام جديد. استخدم، هو وقادة قواته، لغة جديدة غير مألوفة في القاموس السياسي الحالي للمنطقة، مستمدة من صلب التجربة الإسلامية، وهي أنهم لن ينتقموا، ولن يحاربوا من لا يحاربهم، وإنهم لا يقاتلون طلباً للثأر، بل يقاتلون في سبيل الله، وإنهم يريدون بناء دولة مؤسسات (كما قال أبو محمد الجولاني في حواره مع قناة السي إن إن الأمريكية)، وسيقومون بحماية مؤسسات الدولة الموجودة وتشغيلها. أربكت هذه اللغة الجديدة، وغير المألوفة في الجو السوري، السرديات السائدة وأصحابها، وهزمت توقعاتهم. ثمة أشخاص قادمون إلى السلطة بأسلحة جديدة، ولغة جديدة، ويبشّرون بلغة الانفتاح والبناء واحترام الأقليات الدينية وأملاك الناس، ويتصرفون بذكاء وحنكة أكسبتهم ودّ الجميع. ومما سمعناه في الساحل السوري والقرداحة ومصياف والسلمية حيث العلويون والإسماعيليون والقرى المسيحية في طرطوس وأماكن تواجد المسيحيين في دمشق هو أنهم قادمون كي يبنوا ما هُدم، ويحافظوا على النظام، ويطبقوا القانون مما فاجأ الجميع في هذه المناطق.

هرب بشار الأسد مع أمواله المسروقة من دم الشعب السوري بعد أن حوّل سوريا إلى ”جمهورية كبتاغون“، وذهب كي يعيش خارج البلاد تاركاً خلفه إرثاً مخزياً من قصور الرؤية السياسية والفشل. كان متكبراً ومتجبراً ومغروراً، ويعد نفسه أذكى من الجميع. كان باختصار، من النوع الذي لا يصغي إلا إلى نفسه. إن من سماهم سكانَ مكب نفايات الإرهاب، الذين نقلتهم باصاته الخضراء من المناطق التي هاجمها جيشه وقواته الرديفة، وجمّعتهم في إدلب، هم الذين نظّموا أنفسهم، وتدرّبوا، وتلقوا الدعم المطلوب، وزحفوا إليه فاضطر إلى الفرار في مسرحية هزلية للفشل السياسي لا نعرف حتى الآن ما الذي ستتمخض عنه فيما بدأت سوريا تدخل عهداً جديداً في ظل هذه المجموعات المسلحة التي زحفت بدعم تركي مباشر، وربما بأجندة اقتصادية وترتيبات يتولاها رجال الأعمال الجدد من ذوي التوجه النيوليبرالي ومن خلفية إسلامية تم تليينها وتثقيفها وتدريبها كي تتولى إدارة البلاد.

فقد بشار الأسد شرعيته المشكوك بأمرها في الأساس منذ أول رصاصة أُطْلقت بأمر منه على المتظاهرين، وثم بدأ يخسر الجميع داخل البلاد وخارجها إلى أن تخلى عنه في النهاية حماته الإقليميون والدوليون فسقط كأنه أسد من ورق. وبدأ العالم كله يرى تماثيل عهده المتوارث تتحطم وتتهاوى وتُداس بالأقدام في المدن السورية التي كان يقصفها بالمدافع والصواريخ دون رحمة جنود وصف ضباط ومساعدون وضباط رددوا هذا الشعار الهمجي: ”الأسد، أو نحرق البلد“. 

لا يمكن التحدث عن إرث إيجابي تركه بشار خلفه. لن يذكر الناس إلا سجن صيدنايا الرهيب، وسجون الأقبية الأمنية الأخرى التي عمقت الجرح السوري، ورفعت الأسوار بين مكونات الشعب السوري، لن يذكروا إلا نهب المال العام والفساد ومشاغل الكبتاغون وبطولات معارضيه المدنيين الذين تظاهروا ضده بشجاعة تاريخية قل مثيلها ودفعوا أثماناً باهظة.

في خضم هذه التحولات يجب ألا ننسى خطر إسرائيل المتربص بسوريا على الدوام، والذي تُرجم في الهجمات الأخيرة المدمرة، كا يجب ألا ننسى أن هناك قوى أخرى عربية وإقليمية ودولية، لعبت أدواراً مشبوهة في سوريا، ولا تريد لها الخير، وأن ما جرى كان نتيجة سلسلة تدخلات مدروسة في الجغرافيا السورية إلا أن النظام يتحمل في النهاية المسؤولية عما جرى ويجري بسبب لجوئه إلى الحل الأمني وتغليب مصلحة البقاء على الكرسي على مصلحة سوريا كدولة وشعب.

 منذ مدة، وقبل هربه، شاهدنا فيديو لبشار نشره موقع رئاسة الجمهورية يدخل فيه إلى القصر الجمهوري كفاتح فيما تعزف له فرقة موسيقية موسيقى كلاسيكية، كما لو أنه كان يتوهم أنه نابليون بونابرت مترجلاً عن حصانه وداخلاً إلى مقره بعد عودته منتصراً من إحدى المعارك، لكن بشار لم يكن من طينة قادة كهؤلاء، ولقد فرّ في جنح الظلام حين حُبسَ في خانة اليك. وفي يوم الأحد في الثامن من كانون الأول\ديسمبر بدأ يوم جديد في سوريا، ويبقى أن ننتظر التطورات كي نرى كيف سيكون البديل وشكل الحكم القادم في الجمهورية التي سُمّيت مرة قلب العروبة النابض وقلعة الصمود والتصدي، القلعة التي انهارت أسسها فجأة كأنها بُنيت من كرتون وحكمها أسد من ورق.