تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟
اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي ودستوري، يمكن وصفها بـ”مرحلة اللادولة”. بغياب رئيس الجمهورية، وتعليق عمل السلطة التشريعية، ووجود حكومة تسيير أعمال محدودة الصلاحيات، لا قوانين تُسنّ ولا قرارات مصيرية تُتخذ. الحديث عن تعديلات دستورية أو تشكيل جمعية تأسيسية يبقى كلامًا نظريًا، طالما لا توجد آليات واضحة أو قوى سياسية حقيقية على الأرض تقود هذا التحول.
ما يثير القلق أكثر من غياب الرئيس أو تعطل المؤسسات هو غياب الرؤية السياسية والتنظيم المؤسسي القادر على قيادة الجماهير وتنظيم العمل السياسي. لا يمكن بناء دولة على أحلام فردية أو قرارات مرتجلة. الشعب بحاجة إلى قوى سياسية منظمة تمثله، تضع أولويات وطنية جامعة، وتدير المرحلة الانتقالية بحكمة وشفافية.
حتى الآن، لم يُعلن عن تشكيلة وزارية واضحة، ولا عن لجان مكملة في الوزارات الموجودة. حكومة تسيير الأعمال تبدو وكأنها مجرد كيان شكلي، غير قادر على تفعيل مقدرات الدولة أو رسم سياسات عامة تلبي احتياجات الشعب. أكثر من ذلك، لا توجد منصة رسمية تجمع مختلف الأطراف لطرح خطط واضحة حول المستقبل.
الإعلام في سوريا، الذي لعب دورًا كبيرًا خلال الثورة، يحتاج الآن إلى إعادة هيكلة وتوظيف مؤسسي. لدينا وكالات رسمية مثل “سانا”، ومحطات فضائية وإذاعات، لكنها ما زالت تعمل بأدوات الماضي، بعيدة عن الواقع اليومي للمواطنين. لماذا لا يتم تفعيل الإعلام ليصبح لسان حال الشعب؟ لماذا لا يتم استخدام هذه الإمكانيات الضخمة لتوثيق الحياة اليومية في المحافظات، ورصد التحديات الحقيقية؟
الثورة تجاوزت مرحلة الأفراد كمحطات إعلامية أو رموز للخطاب الثوري. الآن، نحن بحاجة إلى إعلام مؤسسي يوثق الواقع، يبني رواية جماعية، ويرسخ مفاهيم الرقابة والمساءلة الشعبية. العمل الإعلامي يجب أن يتحول إلى جزء أساسي من بناء الدولة، يعكس تطلعات الناس، ويكون أداة ضغط على المؤسسات لتحقيق الشفافية.
المجتمع المدني اليوم أمام مسؤولية كبيرة. في ظل غياب القيادة السياسية الواضحة، يجب أن يصبح المجتمع المدني حاضنة للنقاشات حول الحقوق والواجبات. الشعب السوري بحاجة إلى فهم عميق لما تعنيه دولة المواطنة والديمقراطية. هذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال نشر ثقافة الحوار والنقد البنّاء، بعيدًا عن العواطف والشعارات.
هناك حاجة ملحة لتحويل النقاشات إلى خطط عملية، تعكس أولويات الشعب. على الجميع أن يدرك أن السياسة ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي وسيلة لتحقيق العدالة والمساواة والحرية. المرحلة الحالية تتطلب صراعًا حقيقيًا على الأولويات الشعبية الجامعة، وليس مجرد تنافس على الخطابات الرنانة أو الشعارات.
ربما أكبر درس يمكن أن نتعلمه من المرحلة الماضية هو خطورة صناعة الأصنام، سواء كانوا رموزًا سياسية أو اجتماعية. لا أحد يجب أن يكون فوق النقد أو المساءلة. سوريا الجديدة لا يجب أن تكون مكانًا لتقديس الأفراد أو المؤسسات، بل فضاءً للنقد الحر والمراقبة الشعبية الحقيقية.
الحرية لا تتحقق فقط بإسقاط نظام، بل بإرساء ثقافة لا تقبل بالاستبداد بأي شكل. هذا يعني أن كل شيء يجب أن يكون تحت المجهر: القرارات الحكومية، السياسات العامة، وحتى أداء القوى الثورية والمعارضة. الشعب السوري يجب أن يكون هو الحَكَم النهائي، وهو مصدر الشرعية الوحيد.
سوريا الحرة التي نحلم بها لن تتحقق بين ليلة وضحاها. بناء الدولة يعني الانتقال من مرحلة الفوضى إلى مرحلة المؤسسات. هذا يتطلب تفعيل كل مقدرات الدولة وإعادة هيكلة المؤسسات القائمة. لدينا وكالات إعلامية، مؤسسات حكومية، وموارد بشرية هائلة، لكنها بحاجة إلى إدارة واعية، تؤمن بالعمل الجماعي والمؤسسي.
لا يمكن ترك الساحة للعواطف أو الخطابات العاطفية. هذه مرحلة السياسة الفاعلة، التي تعتمد على التخطيط والالتزام بأولويات الشعب. المجتمع السوري يجب أن يتحول إلى قوة ضغط مستمرة، تضع معايير للمساءلة وتفرض أجندتها على كل من يتصدر المشهد.
إن كنا نحلم بسوريا ديمقراطية، متنوعة، وحرة، فعلينا أن نعمل بجدية على تحقيق هذا الحلم. بناء الدولة ليس مجرد شعار، بل عملية طويلة ومعقدة، تتطلب تضحيات وصبرًا. المسؤولية تقع على عاتق الجميع: القوى السياسية، المجتمع المدني، الإعلام، وحتى كل مواطن يؤمن بأن سوريا تستحق الأفضل.
شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد بقائه، دعمت تركيا المعارضة المسلحة والسياسية، مما جعلها لاعبًا حاسمًا في المشهد السوري. على الجانب الآخر، استغلت إسرائيل هشاشة الوضع لتقويض قدرات الجيش السوري، مستهدفة 80% من بنيته الاستراتيجية، في غياب ردود فعل جادة من النظام الساقط.
في المقابل، أظهرت مؤشرات دولية رغبة الرئيس المنتخب دونالد ترامب بعدم التدخل المباشر في سوريا، معتبرًا أنها لا تمثل أولوية للمصالح الأمريكية. هذه السياسة عززت واقعًا جديدًا على الأرض، حيث بدا أن الإدارة الأمريكية تمنح إسرائيل ضوءًا أخضر لفرض رؤيتها الاستراتيجية، تحت غطاء تأمين حدودها وأمنها القومي.
من جهة أخرى، وفي ظل انهيار النظام السوري وعجزه عن تلبية أي دور فعال، نسّقت تركيا مع روسيا وإيران لإدارة المشهد، حيث التقت مصالحها في تحقيق تفاهمات مرحلية رغم التناقضات الجوهرية. بدت تركيا أكثر واقعية، حيث أدركت أن النظام بات ورقة خاسرة، مركزة جهودها على حماية نفوذها ومصالحها على الأرض. هذا التنسيق يطرح تساؤلات حول ملامح المرحلة المقبلة ودور هذه القوى في إعادة تشكيل المشهد السوري.
أحمد الشرع، زعيم تحرير الشام والوجه البارز اليوم في القوى العسكرية المعارضة، أكد أن سوريا لن تكون ساحة لحروب جديدة مع أي طرف. هذه التطمينات الدولية تفتح الباب للتساؤل حول مدى جدية هذا التصريح في ظل التوغل الإسرائيلي المستمر، والتهديدات الروسية الحازمة ضد أي مساس بقواعدها البحرية في سوريا.
بعد سقوط نظام بشار الأسد، شهدت سوريا تحولات ميدانية وديناميكيات جديدة بين القوى الفاعلة على الأرض. في العاصمة دمشق، سيطرت قوات المعارضة المسلحة على المدينة دون مقاومة تُذكر، مما أدى إلى فرار الأسد. في مدينة حمص، انسحبت القوات الحكومية بشكل كامل، مما أتاح للمعارضة السيطرة على المدينة، واحتفل السكان المحليون بسقوط النظام، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع مرددين هتافات مثل “رحل الأسد، حمص حرة”.
أما في المناطق الساحلية مثل اللاذقية وطرطوس، التي تُعتبر معاقل للطائفة العلوية، فقد شهدت المدن احتجاجات واسعة ضد النظام، حيث أُسقطت تماثيل حافظ الأسد، والد بشار الأسد، في مشهد يعكس تغير المزاج الشعبي. ورغم مخاوف السكان من التعرض لهجمات انتقامية، فإن التعامل السلمي من قبل المعارضة هدّأ من هذه المخاوف وأشاع أجواء من الأمل بإمكانية تحقيق مصالحة وطنية.
هذه التحولات الميدانية السريعة تُظهر التغيرات الجذرية في المشهد السوري بعد سقوط النظام، وتبرز التأثيرات العميقة على المجتمعات المحلية التي تسعى الآن للبحث عن مستقبل جديد بعيدًا عن الصراعات الدامية.
بعد سقوط نظام الأسد وسيطرة المعارضة على دمشق، أصدرت القوى الدولية والإقليمية تصريحات تؤكد مواقفها من المشهد السوري الجديد. فقد أكد وزير الخارجية الأمريكي أن “الوضع الحالي في سوريا يتطلب دعم الجهات المحلية التي أثبتت قدرتها على تحقيق الاستقرار”، مشددًا على أن “أي عملية سياسية يجب أن تكون شاملة وتُمثل تطلعات الشعب السوري بعيدًا عن التطرف والإقصاء”. من جانبها، أوضحت روسيا عبر وزير خارجيتها أن “أي عملية سياسية في سوريا يجب أن تراعي القوى المسيطرة على الأرض لضمان الاستقرار، مع الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الروسية، خاصة في الساحل السوري”.
بدورها، أعلنت إيران دعمها لتشكيل حكومة انتقالية، مؤكدة أن “المرحلة المقبلة في سوريا يجب أن تكون نابعة من الداخل، بالتعاون مع القوى الميدانية لضمان توازن المصالح”. أما تركيا، فقد شددت على أهمية شمولية العملية السياسية، حيث صرح الرئيس التركي بأن “المرحلة الجديدة في سوريا يجب أن تُبنى على مشاركة حقيقية لجميع الأطراف، مع ضمان وحدة الأراضي السورية وحماية حقوق جميع المكونات”. وعلى الصعيد العربي، دعت السعودية والإمارات إلى “إطلاق حوار سوري-سوري برعاية دولية يضمن تمثيلًا عادلًا للشعب السوري، مع التركيز على إعادة الإعمار وعودة الاستقرار” فيما بدأت دول مثل قطر تستأنف عملها الدبلوماسية في سفارتها بدمشق.
تشير التصريحات إلى أن القوى الدولية والإقليمية تتجه نحو التعامل مع قوى الأمر الواقع في سوريا كفاعل أساسي في أي عملية سياسية مقبلة. روسيا وإيران تسعيان إلى حماية مصالحهما الاستراتيجية عبر التنسيق مع القوى المسيطرة، بينما تركز الولايات المتحدة وتركيا على ضمان شمولية العملية السياسية وتحقيق الاستقرار. الدول العربية، رغم دعوتها لحوار شامل، تظل بعيدة عن تأثير فعلي على الأرض. غياب القوى السياسية الحرة التي تعيش معظم قياداتها في الخارج يُعقد المشهد، ويُبقي مستقبل سوريا مرهونًا بتوازنات دولية وإقليمية أكثر من كونه قرارًا سوريًا داخليًا.
مع سقوط نظام الأسد، انهار الجيش السوري بسرعة مذهلة، ليكشف عن هشاشة كيانه وعدم وطنيته التي كانت سببًا رئيسيًا في عجزه عن البقاء كجيش وطني. لعقود، تحول الجيش إلى أداة لحماية نظام الأسد بدلاً من حماية البلاد، حيث أهملت تجهيزاته، وبقيت معداته العسكرية قديمة وغير فعالة في مواجهة أي تهديد خارجي. الطيران الحربي الذي كان يفترض أن يحمي سماء سوريا لم يستخدم سوى ضد المدنيين والمعارضة المسلحة، التي هي في الأساس جزء من الشعب السوري.
هذا الانهيار السريع يعكس مدى عدم وطنية النظام الذي حول الجيش إلى أداة قمع، أوهمت السوريين بأنها تحميهم، بينما كانت في الواقع درعًا شخصيًا للرئيس المخلوع بشار الأسد. وما إن غادر الأسد وعائلته إلى روسيا كلاجئين، وفقًا لتقارير دولية كشفت عن حيازته مبلغًا ضخمًا يصل إلى 2 مليار دولار، حتى انهار النظام بأكمله في العاصمة دمشق، فجأة فرغت الأفرع الأمنية وقطعات الجيش، سواء بسبب اتفاقيات دولية لإعادة رسم خارطة المنطقة أو نتيجة تخلي الحلفاء الدوليين عن دعمه للبقاء.
هذا الواقع يضع الطائفة العلوية، التي دفعت أثمانًا باهظة للدفاع عن النظام، في مواجهة استحقاقات صعبة. بعد أن قدمت معظم شبابها دفاعًا عن الأسد ونظامه، أصبحت الآن محط استهداف، خاصة في حوادث معنوية ومظاهر انهيار مجتمعي في القرداحة، مسقط رأس الأسد. هذه التطورات تفتح الباب لأسئلة ملحة: كيف يمكن إعادة لم الشمل بين الطوائف السورية المختلفة؟ وما هي الضمانات التي يمكن تقديمها للطوائف التي عانت من قمع النظام أيضًا، لضمان العدالة والمصالحة الوطنية؟ الطريق نحو سوريا موحدة وآمنة يبدو معقدًا، لكنه يبدأ بالاعتراف بجذور المأساة ومعالجة تبعاتها بروح وطنية جامعة.
بعد سقوط نظام الأسد، ظهرت قوى الأمر الواقع كفاعلين رئيسيين في المشهد السوري، مع تساؤلات حول إعادة لمّ الشمل بين الطوائف وضمان العدالة والمصالحة الوطنية. في هذا السياق، أصدرت إدارة العمليات في المعارضة المسلحة بيانًا يؤكد على أهمية “إطلاق حوار شامل بين جميع مكونات الشعب السوري لضمان بناء دولة تحترم حقوق الجميع بعيدًا عن الإقصاء”، مشيرة إلى أن “القوات المسلحة للمعارضة ستلتزم بحماية المدنيين وممتلكاتهم، ولن تتحول إلى طرف قمعي كما كان الجيش السابق”.
هذا الطرح يعكس إدراك المعارضة لأهمية تقديم ضمانات حقيقية للطوائف التي عانت من النظام السابق، مع التركيز على بناء دولة مؤسساتية تعتمد على العدالة والمساواة. تحقيق هذه الأهداف يتطلب إدارة متوازنة لقوى الأمر الواقع، وضمان انخراطها في عملية سياسية تُمثل جميع السوريين، في ظل دعم دولي يرعى الانتقال السلمي ويمنع العودة إلى دوامة العنف.
إلى جانب ذلك، تسيطر اليوم فصائل مسلحة ذات أيديولوجيات وانتماءات متباينة على أجزاء واسعة من البلاد، مما يعكس تفكك النسيج الاجتماعي السوري. بعض هذه الفصائل يحمل طابعًا طائفيًا أو مناطقيًا، وهو ما قد يشكل عائقًا أمام المصالحة إذا لم يتم دمجها بطريقة عادلة في العملية السياسية. إعادة لم الشمل تتطلب قيادة وطنية جامعة قادرة على تجاوز الطائفية والمناطقية، عبر مؤتمرات مصالحة وطنية مدعومة دوليًا، تضمن تمثيلًا عادلًا لجميع المكونات، بما في ذلك الطائفة العلوية التي تحملت أعباء كبيرة دفاعًا عن النظام.
في الوقت ذاته، تحتاج الطوائف التي عانت من قمع النظام إلى ضمانات حقيقية لمستقبلها. ورغم أن بعض الأمل قد يكون معقودًا على الفصائل المعارضة التي تسيطر على مناطقها، فإن هذه الفصائل ليست كافية لتقديم حماية شاملة. هنا يبرز دور القوى الدولية في بناء إطار قانوني يضمن العدالة والمحاسبة للمتورطين في الانتهاكات، مع إنشاء نظام أمني جديد يركز على حماية جميع المواطنين على قدم المساواة.
تحقيق وحدة سوريا وأمنها يتطلب التغلب على النفوذ الأيديولوجي والطائفي لقوى الأمر الواقع، وإيجاد صيغة لإدماجها في مؤسسات الدولة بما يضمن مصالح الجميع. إلى جانب ذلك، يجب مواجهة التدخلات الإقليمية والدولية التي تؤجج الانقسامات، عبر دعم عملية سياسية وطنية شاملة تعيد بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية وتطلق برامج إعادة إعمار تستهدف تعزيز التعايش والمساواة بين السوريين.
إن قوى الأمر الواقع اليوم تحمل في طياتها فرصًا وتحديات لتحقيق المصالحة الوطنية. نجاح إعادة بناء سوريا يعتمد على تحويل هذه القوى من جهات عسكرية إلى أطراف سياسية ملتزمة بمشروع وطني جامع. هذا التحول يتطلب إرادة داخلية ودعمًا دوليًا كبيرًا لضمان العدالة والمصالحة وبناء دولة جديدة تلبي تطلعات جميع السوريين.
لعب الشعب السوري دورًا محوريًا في رسم ملامح المرحلة الجديدة، رغم التحديات الكبيرة. في دمشق، خرجت جموع من المواطنين إلى الساحات العامة، مطالبين بحكومة تمثل إرادة الشعب وتعكس تطلعاته نحو الديمقراطية والحرية. في حمص، قام السكان بتنظيم لجان محلية لإدارة شؤون المدينة، مع التركيز على تأمين الخدمات الأساسية وإعادة الحياة إلى طبيعتها.
أما في المناطق الريفية، فقد ساهمت المبادرات الشعبية في دعم استقرار المناطق المحررة، حيث أطلق المواطنون حملات لإعادة بناء المدارس والمستشفيات التي دُمرت خلال الصراع. وعلى الصعيد السياسي، شهدت الساحة ظهور وجوه جديدة من ناشطين مدنيين وشخصيات مجتمعية تسعى لتوحيد الصفوف وطرح رؤية مشتركة لمستقبل سوريا.
هذا التفاعل الشعبي يُظهر أن إرادة السوريين ليست مجرد عامل هامشي، بل قوة دافعة أساسية يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل مستقبل البلاد، إذا ما أتيحت لهم الفرصة للمشاركة الفاعلة في عملية بناء الدولة.
حين تُفْقَد الشرعية، وينهار الاقتصاد، وينحسرُ الدعم الشعبي، ويتفشّى الفساد والمحسوبية، وتُفْرضُ العقوبات والعزلة الدولية، ويشتدّ التغوّل الأمني وسوء الإدارة والرشوة، ويُفْقد دعم النخبة وتتفكك، أو تُصادَر أموالها وتُهَمَّش، ويتحوّل الجيش إلى حرس خاص وتسود الفئوية، ويفتقر الرئيس ونخبته للرؤية السياسية، ويثور الشعب، ويتم تبني العنف الأمني المتوحش كطريقة للحفاظ على السلطة مترافقاً مع كم الأفواه والرقابة على الصحافة، والتحكم بالمعلومات ونهب المال العام، وحين يتم الفشل في التكيف مع الظروف المتبدلة، وفهم المتغيرات الإقليمية والدولية وإطالة الاتكال على العنف، واللجوء إلى الدعم الخارجي دون استقلالية في اتخاذ القرار، والتمسك بالكرسي على حساب أي شيء، فإن النتيجة هي السقوط المدوي، والذي يكون أحياناً سوريالياً.
تغيّر المشهد في سوريا بشكل مفاجئ وبسرعة فائقة. فبشار الأسد، الذي ورث السلطة عن أبيه في انتهاك صارخٍ للقانون، اختار أن يتخلى عن ٢٤ عاماً من الحكم في يوم واحد، في صفقة لا تزال تفاصيلها غامضة، ومن الصعب التنبؤ بتداعياتها واحتمالات ما قد تفضي إليه من نتائج في الداخل السوري. كما لو أن لاعب شطرنج قضى بحركة واحدة مفاجئة على الملك وجنرالاته وجنوده على رقعة اللحظة السورية.
قرأ بشار الأسد الأوضاع الداخلية والإقليمية والخارجية بعينين أمنيتين أعماهما ضباب الغرور والتسلط والعجرفة، فلم يستطع أن يفهم طبيعة التحولات في المنطقة، ونظر إلى الربيع العربي منذ بدايته على أنه مؤامرة، وبدأ حربه على الشعب السوري الذي ردْكَلتْهُ ممارسات الأجهزة الأمنية الوحشية وغير الإنسانية، ودفعت الكثير من أبنائه إلى الخيارات التطرفية القصوى. بدأت الحكاية بقتل المتظاهرين السلميين، أو زجّهم في السجون، وتطور الأمر إلى اقتحام المدن بالدبابات، وقصفها بالبراميل المتفجرة، وتشريد أهلها في الداخل والخارج إلى درجة أن الجيش العربي السوري، تحوّل إلى ”جيش أسدي“، كما قال المعارضون لحكمه، إلى آلة لخدمة كرسيه، وصار يُقارَن بقوات الاحتلال التي تأسّس كي يقاتلها بالأساس، بل هناك من المعارضين من ذهب إلى أبعد من ذلك وقال إن ما فعله يذكر بوحشيته بممارسات إسرائيل.
ازداد عدد القتلى من السوريين العزّل والأبرياء، وتوسّعت السجون العلنية منها والسرية، وهُدمت البيوت والمدن فوق سكانها، وانهار الاقتصاد، وزاد من انهياره الحصار الغربي الجائر الذي فُرض على سوريا وشعبها. أوغل الجهاز الأمني في الإجرام ضد الشعب بتطبيقه للحل الأمني الذي انتهجه بشار غير مصغٍ لنصيحة العقلاء من ضباطه ضارباً عرض الحائط بجميع وجهات النظر. ويتجلى حله الأمني الآن في هذه المناظر المخزية للزنزانات التي حُرر منها المساجين الذين رأيناهم على الشاشات، والتي زُجّوا فيها دون محاكمة لأنهم رددوا بصوت جهوري: هيا ارحلْ يا بشار! هذه الزنزانات التي تجعل (إذا ما عدّلنا قليلاً جملة لسلمان رشدي) الطفل في سوريا يولد من رحم أمه محمراً من العار.
لم يُصْغ بشار الأسد، ولا المجموعة التي تحلقت حوله من شاربي البلاك ليبل والنبيذ المعتق وويسكي السينكل مولت ومدخني السيجار الكوبي وراكبي السيارات الفاخرة ومهربي الكبتاغون لأصوات السوريين تهدر في المدن، واتخذ قراراً بإخراس الجميع بخياره الأمني الذي كان أشد تطرفاً من تطرف السلفية الجهادية. وصُفّي الضباط الذين أرادوا التوصل إلى حل وسط مع المعارضة، وتحولت سوريا إلى سجن كبير. قُتل من قُتل، وسُجن من سُجن، وهاجر من هاجر حتى صارت الأرقام المتداولة مخيفة. واستطاع جهاز الحكم السوري، الذي أداره بشار وبعض ضباط الأمن المقربين منه، أن يقنع كثيراً من السوريين بالقتال معه، وخاصة من أبناء الطائفة العلوية والأقليات الأخرى، تحت ذريعة حماية أنفسهم من ”الإرهابيين“، ومن ”المذابح القادمة“، وعزف على وتر الذاكرة التاريخية كي يحقق ما يريده، ثم في نهاية المطاف أبرم صفقة كي ينفد بجلده هو وعائلته متخلياً عن ضباطه وجنوده بطريقة تفتقر للفروسية والرجولة غير مستبعدة عنه، وغادر البلاد مالئاً حقائبه بالمال غير آبه بمن تركهم خلفه.
ما حدث في سوريا كان مفاجئاً وغير متوقع. ففي رفة هدب اختفى الجيش السوري والأجهزة الأمنية، وغادر الجميع مواقعهم وكراسيهم من العرفاء إلى أعلى الرتب. وطُويت حقبة من الدكتاتورية العسكرية استمرت عقوداً، وأُرسل الجميع إلى بيوتهم تاركين أسلحتهم خلفهم دون أن يفهموا الأمر المربك الذي وصل إليهم بالانسحاب إلى درجة أن بعض المقاتلين المغرر بهم عدّوا ما حدث خيانة فقرروا الانضمام إلى المعارضة.
اقتحم أبو محمد الجولاني زعيم المنظمة السلفية الجهادية هيئة تحرير الشام، هو والفصائل المنضوية تحت لوائه في عملية ”ردع العدوان“، المشهد في حلب وحماة وحمص ودمشق وصولاً إلى الساحل السوري وجاء إلى العاصمة دمشق كي يلقي خطبة النصر في الجامع الأموي معلناً نهاية نظام الأسد وبداية نظام جديد. استخدم، هو وقادة قواته، لغة جديدة غير مألوفة في القاموس السياسي الحالي للمنطقة، مستمدة من صلب التجربة الإسلامية، وهي أنهم لن ينتقموا، ولن يحاربوا من لا يحاربهم، وإنهم لا يقاتلون طلباً للثأر، بل يقاتلون في سبيل الله، وإنهم يريدون بناء دولة مؤسسات (كما قال أبو محمد الجولاني في حواره مع قناة السي إن إن الأمريكية)، وسيقومون بحماية مؤسسات الدولة الموجودة وتشغيلها. أربكت هذه اللغة الجديدة، وغير المألوفة في الجو السوري، السرديات السائدة وأصحابها، وهزمت توقعاتهم. ثمة أشخاص قادمون إلى السلطة بأسلحة جديدة، ولغة جديدة، ويبشّرون بلغة الانفتاح والبناء واحترام الأقليات الدينية وأملاك الناس، ويتصرفون بذكاء وحنكة أكسبتهم ودّ الجميع. ومما سمعناه في الساحل السوري والقرداحة ومصياف والسلمية حيث العلويون والإسماعيليون والقرى المسيحية في طرطوس وأماكن تواجد المسيحيين في دمشق هو أنهم قادمون كي يبنوا ما هُدم، ويحافظوا على النظام، ويطبقوا القانون مما فاجأ الجميع في هذه المناطق.
هرب بشار الأسد مع أمواله المسروقة من دم الشعب السوري بعد أن حوّل سوريا إلى ”جمهورية كبتاغون“، وذهب كي يعيش خارج البلاد تاركاً خلفه إرثاً مخزياً من قصور الرؤية السياسية والفشل. كان متكبراً ومتجبراً ومغروراً، ويعد نفسه أذكى من الجميع. كان باختصار، من النوع الذي لا يصغي إلا إلى نفسه. إن من سماهم سكانَ مكب نفايات الإرهاب، الذين نقلتهم باصاته الخضراء من المناطق التي هاجمها جيشه وقواته الرديفة، وجمّعتهم في إدلب، هم الذين نظّموا أنفسهم، وتدرّبوا، وتلقوا الدعم المطلوب، وزحفوا إليه فاضطر إلى الفرار في مسرحية هزلية للفشل السياسي لا نعرف حتى الآن ما الذي ستتمخض عنه فيما بدأت سوريا تدخل عهداً جديداً في ظل هذه المجموعات المسلحة التي زحفت بدعم تركي مباشر، وربما بأجندة اقتصادية وترتيبات يتولاها رجال الأعمال الجدد من ذوي التوجه النيوليبرالي ومن خلفية إسلامية تم تليينها وتثقيفها وتدريبها كي تتولى إدارة البلاد.
فقد بشار الأسد شرعيته المشكوك بأمرها في الأساس منذ أول رصاصة أُطْلقت بأمر منه على المتظاهرين، وثم بدأ يخسر الجميع داخل البلاد وخارجها إلى أن تخلى عنه في النهاية حماته الإقليميون والدوليون فسقط كأنه أسد من ورق. وبدأ العالم كله يرى تماثيل عهده المتوارث تتحطم وتتهاوى وتُداس بالأقدام في المدن السورية التي كان يقصفها بالمدافع والصواريخ دون رحمة جنود وصف ضباط ومساعدون وضباط رددوا هذا الشعار الهمجي: ”الأسد، أو نحرق البلد“.
لا يمكن التحدث عن إرث إيجابي تركه بشار خلفه. لن يذكر الناس إلا سجن صيدنايا الرهيب، وسجون الأقبية الأمنية الأخرى التي عمقت الجرح السوري، ورفعت الأسوار بين مكونات الشعب السوري، لن يذكروا إلا نهب المال العام والفساد ومشاغل الكبتاغون وبطولات معارضيه المدنيين الذين تظاهروا ضده بشجاعة تاريخية قل مثيلها ودفعوا أثماناً باهظة.
في خضم هذه التحولات يجب ألا ننسى خطر إسرائيل المتربص بسوريا على الدوام، والذي تُرجم في الهجمات الأخيرة المدمرة، كا يجب ألا ننسى أن هناك قوى أخرى عربية وإقليمية ودولية، لعبت أدواراً مشبوهة في سوريا، ولا تريد لها الخير، وأن ما جرى كان نتيجة سلسلة تدخلات مدروسة في الجغرافيا السورية إلا أن النظام يتحمل في النهاية المسؤولية عما جرى ويجري بسبب لجوئه إلى الحل الأمني وتغليب مصلحة البقاء على الكرسي على مصلحة سوريا كدولة وشعب.
منذ مدة، وقبل هربه، شاهدنا فيديو لبشار نشره موقع رئاسة الجمهورية يدخل فيه إلى القصر الجمهوري كفاتح فيما تعزف له فرقة موسيقية موسيقى كلاسيكية، كما لو أنه كان يتوهم أنه نابليون بونابرت مترجلاً عن حصانه وداخلاً إلى مقره بعد عودته منتصراً من إحدى المعارك، لكن بشار لم يكن من طينة قادة كهؤلاء، ولقد فرّ في جنح الظلام حين حُبسَ في خانة اليك. وفي يوم الأحد في الثامن من كانون الأول\ديسمبر بدأ يوم جديد في سوريا، ويبقى أن ننتظر التطورات كي نرى كيف سيكون البديل وشكل الحكم القادم في الجمهورية التي سُمّيت مرة قلب العروبة النابض وقلعة الصمود والتصدي، القلعة التي انهارت أسسها فجأة كأنها بُنيت من كرتون وحكمها أسد من ورق.
لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود، ليزيد من قهر وعذاب الناس، المحرومين من أبسط مقومات الحياة، وليُقلق راحتهم ويؤرِّق نومهم ويحول حياتهم إلى ما يشبه الجحيم، في ظل عجزهم عن توفير أبسط ما يحتاجه الإنسان العادي لمقاومة ظروف الحر الشديد.
في وقتٍ بات فيه تشغيل المكيفات خلال الصيف أمراً طبيعياً وضرورياً يُحرم معظم الناس في سوريا من تشغيل أية وسيلة تبريدٍ، بما فيها مراوح الهواء، في ظل انقطاع الكهرباء التي لا تأتي غالباً سوى أربع ساعاتٍ على مدار اليوم. ومن أراد أن يحصل على نعمة التكييف، وهو أمر بات حكراً على الأثرياء، فسيحتاج إلى مولدات الكهرباء ذات الاستطاعة العالية، والتي تحتاج إلى تكاليف كبيرة نتيجة ارتفاع أسعارها وصعوبة توفير الوقود، أو سيلجأ إلى تركيب ألواح الطاقة الشمسية التي تُكلف عشرات ملايين الليرات.
ولكي يجلبوا بعض البرودة إلى بيوتهم التي تحولت إلى مخزنٍ للحر، لم يبق أمام معظم الناس سوى الاستعانة بالمراوح التي تعمل بواسطة البطاريات، وهو ما حملهم أعباء مادية تفوق طاقاتهم، إذ وصل سعر المروحة العمودية، المزودة بقاعدة متحركة والتي تعمل بواسطة الكهرباء أو البطارية، إلى نحو مليون ونصف المليون ليرة، فيما تخطى سعر المروحة، التي تعمل بواسطة بطارية خارجية، حاجز المليون ليرة، هذا عدا عن سعر البطارية التي ستحتاجها. ورغم أن تلك المراوح قد أصبحت خياراً وحيداً بالنسبة لمعظم الناس، إلا أنها لا تستطيع العمل لوقت طويل، إذ لا تكفي ساعة كهرباء لشحن بطاريتها التي تعمل في أحسن الأحوال لمدة أربع ساعات.
وفي ظل عجز كثير من الفقراء والمُعدمين عن شراء تلك المراوح لجأ الكثير منهم لشراء المراوح المُصنعة بطرقٍ بدائية. وتتكون المروحة من فَراش بلاستيكي بأربع أو خمس شفرات، موصول إلى محرك صغير يعمل بسرعة واحدة، مُثبَّت على زاوية معدنية صغيرة يمكن تعليقها على الجدار. وقد انتشرت تلك المراوح في الأسواق بشكل كبير، ويبلغ متوسط سعرها نحو 70 ألف ليرة، ويمكن تشغيلها بواسطة بطاريات الإنارة البديلة، لكنها، ورغم حجم الإقبال الكبير على شرائها، تفتقد لأبسط شروط الأمان، إذ يمكن أن تتسبب بأذى جسدي إذا تم لمس فَراشها غير المجهز بأي شبك حماية، كما يمكن للفَراش أن يخرج من مكانه خلال دورانه، ويمكن للمحرك أن ينفصل عن القاعدة، نتيجة عدم القدرة على التحكم في سرعة دورانه.
بسطات وعربات لبيع الثلج
في ظل أزمة الكهرباء وشلل عمل البرادات في معظم البيوت بات توفير مياه الشرب الباردة أمراً صعباً بالنسبة لمعظم الناس، وهو ما اضطرهم لشراء الثلج بشكل يومي، ليتحملوا أعباء مادية أثقلت كاهلهم، هذا إلى جانب صعوبة توفير الثلج في كثير من الأحيان، نتيجة عجز كثير من البقاليات والمحلات التجارية عن تأمين التبريد اللازم لحفظه. وفي ظل هذا الواقع انتشرت منذ بداية فصل الصيف، في الشوارع وعلى الأرصفة، بسطات وعربات لبيع قوالب الثلج الكبيرة، حيث يقوم الباعة بتقسيم القالب، الذي يباع كاملاً بأكثر من 25 ألف ليرة، إلى نحو ستة قطع، تباع القطعة، التي تزن نحو كيلو ونصف كيلو غرام، بسعر يتراوح بين خمسة وستة آلاف ليرة. وإذا ما أرادت العائلة أن تستعين بالثلج لتبريد الماء فستحتاج بالحد الأدنى لقطعتين أو لثلاثة أكياس من مكعبات الثلج، هذا في حال تم وضعه في حافظة للبرودة، وهو ما سيكلفها نحو عشرة آلاف ليرة يومياً، أي 300 ألف ليرة شهرياً، ما يعادل راتب موظف حكومي تقريباً.
ورغم أن قوالب الثلج المباعة على العربات والبسطات قد أوجدت حلاً لمشكلة توفر الثلج، إلا أنها قد تكون عرضة للتلوث وغياب الشروط الصحية، فهي غالباً تُلفّ بمواد غير صحية كالخيش والبطانيات، وتتعرض لأوساخ وغبار الشوارع، هذا بالإضافة لعدم معرفة مصادر معظمها، فقد تكون مُصنعة من مياه ملوثة وغير صالحة للشرب، وفي معامل غير مرخصة ولا تخضع لشروط التعقيم والرقابة الصحية، لذا قد تؤثر سلباً على صحة الناس وتكون سبباً لبعض الأمراض، كونها غير صالحة للاستهلاك البشري، إذ كان استخدامها ينحصر سابقاً في تثليج الأسماك وبعض أنواع اللحوم.
برادات عاطلة عن العمل
اعتاد معظم الناس فيما مضى على تخزين وتفريز الأطعمة والمؤونة في ثلاجات بيوتهم، لتوفر عليهم الكثير من الجهد والأعباء الإقتصادية، وتتيح لهم إمكانية تحضير العديد من أصناف الطعام في وقت قصير. ولكن نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وغياب الكهرباء تحولت معظم البرادات في بيوتهم إلى “نملية”، ليحرموا من أبسط عاداتهم اليومية التي كانت تغني مطابخهم، ويتخلوا عن عادات المؤونة وتخزين الطعام، فباتوا يطهون كميات قليلة منه خوفاً من تعرضه للتلف، ويكتفون بشراء كميات محدودة من المواد الغذائية كالألبان ومشتقاتها والخضار والفاكهة واللحوم، فيما لجأ البعض لوضع عبوات المياه في برادات الجيران، الذين تتوفر لديهم المولدات الكهربائية أو أنظمة الطاقة الشمسية، واضطر البعض الآخر للعودة إلى الطرق البدائية في تبريد الماء، كوضعه في أباريق الفخار، ولفِّ عبوات المياه بأكياس الخيش والأقمشة الصوفية لتحافظ على برودتها.
وفي محاولة بائسة لبعث الحياة في براداتهم التي أصبحت شبه خاوية، لجأ بعض الناس للاستعانة بقوالب الثلج وعلب المياه المجمَّدة ليضعونها في الثلاجة بجوار الأطعمة والمؤونة، ليحافظوا على صلاحيتها لأطول فترة ممكنة، حالهم كحال الكثير من محلات بيع اللحوم التي باتت تغطي بضاعتها بقطع الثلج الكبيرة، لتحافظ عليها من التلف، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، وتكتفي بعرض كميات قليلة منها، نتيحة عجزها عن تشغيل مولدات الكهرباء التي ستُحمِّلها أعباء مادية كبيرة، تجعل عملها غير مجدٍ، وتضطرها لرفع أسعار بضاعتها التي تراجع حجم الإقبال عليها بشكلٍ كبير.
أزمة المياه تفاقم مرارة الصيف
في وقتٍ يحتاج فيه الناس للاستحمام لأكثر من مرة يومياً لمقاومة حر الصيف والتعرق الشديد، ساهم الانقطاع الطويل للكهرباء في خلق أزمة مياه في عددٍ من أحياء العاصمة ومحيطها وبعض المدن الكبيرة ذات الكثافة السكانية العالية، وذلك نتيجة شلل عمل المضخات المركزية، التي تضخ المياه من الآبار والخزانات الرئيسة إلى الشبكات التي تغذي الأحياء والحارات، لتحرم كثيراً من البيوت من وصول المياه إلى خزاناتها، وخاصة في ظل شلل عمل المضخات المنزلية. كما شهدت بعض المناطق عمليات تقنين في المياه، التي يتم وصلها ليومٍ واحد مقابل يوم أو يومين قطع، فيما اقتصرت مدة توريدها إلى مناطق أخرى على أربع ساعات على مدار اليوم وأحياناً ساعتين فقط. وقد أجبر ذلك الواقع الكثير من الناس على نقل المياه إلى بيوتهم بواسطة الغالونات، التي يملؤونها من البقاليات وبيوت بعض الجيران، أو على تعبئة خزانات بيوتهم من سيارات الباعة الجوالين، التي نشطت في الآونة الأخيرة بشكل كبير في عدد من المناطق كمدينة جرمانا، وقد وصل سعر برميل الماء لأكثر من خمسة عشر ألف ليرة، وهو ما شكل عبئاً مالياً إضافياً على الناس العاجزين حتى عن توفير لقمة عيشهم.
معاناة أخرى
ساهمت ظروف النزوح، خلال سنوات الحرب، في ازدياد حجم الكثافة السكانية بشكل كبير في دمشق ومحيطها وأريافها، وخاصة في المدن الكبيرة كجرمانا وصحنايا، وهو ما فاقم حالة الاختناق والاكتظاظ والازدحام البشري، وأدى لتزايد أعداد السيارات الخاصة والآليات ووسائط النقل والتكاسي، لتساهم بدورها بمزيدٍ من الاختناق وتلوث الهوء وازدحام الشوارع، وبالتالي في رفع معدلات درجات الحرارة، لتفاقم حجم المعاناة مع فصل الصيف.
وفي السنوات الماضية ازدادت نسبة البناء العشوائي في محيط دمشق وأريافها بشكل كبير، لتستوعب أعداد السكان القادمين من المحافظات الأخرى، وخاصة في مناطق المخالفات والعشوائيات، وقد ساهم شكل الأبنية العشوائية وغير المنظمة وتقاربها بل والتصاقها ببعضها في قتل مساحات التنفس وانعدام فرص التهوية أمام السكان، لتُطبق الخناق عليهم وتزيد من حرارة المكان.
ونتيجة تزايد الازدحام السكاني وانقطاع الكهرباء اكتظت معظم الشوارع والأرصفة وبعض شرفات البيوت بمولدات الكهرباء، التي يُشغلها السكان وأصحاب المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية، ليساهم دخانها الكثيف في تلوث الهواء ورفع حرارة المكان وخلق شعورٍ من الاختناق لدى العابرين في الشوارع، هذا عدا عن ضجيج أصواتها التي تجعجع طوال الوقت لتصدِّع رؤوسهم وتطغى على أحاديثهم.
وفي ظل صعوبة التأقلم مع الحر الشديد داخل منازلهم، لم يبق خيار أمام كثير من الناس سوى الهروب منها إلى الحدائق العامة، المزدحمة بهم ليل نهار، ليفترشوا الأرض تحت ظلال الأشجار، حاملين معهم أطعمة ومشروبات تكفيهم لقضاء أطول وقت ممكن، فيما لجأ البعض إلى دخول المساجد، لقضاء بعض الوقت فيها، وخاصة خلال فترة الظهيرة، لينعموا بالقليل من هواء التكييف وبشرب الماء البارد.
كانت السباحة في نهر الخابور أو الفرات أحد النشاطات المحظورة علينا حينما كنا صغاراً إن لم يكن برفقتنا أحد من ذوينا، وذلك لأنهما كانا كغيرهما من الأنهار السورية في النصف الأول من التسعينيات خطرين بفعل استمرارية التدفق ومن الخطورة بمكان السباحة فيهما، وإن بقي الفرات بنسبة ما يتدفق حتى وقتنا الحالي، فإن أنهاراً مثل «الخابور وجغجغ – وزركان و – البليخ – والساجور”، باتت أنهاراً شبه جافة، ويمكن تشبيهها بـ “الوديان السيلية”، لعدم استقرار الجريان فيها وهي مرهونة بارتفاع معدلات الأمطار، والحال ذاته ينطبق على أنهار أخرى في سورية مثل العاصي وبردى واليرموك والكبير الجنوبي والكبير الشمالي وقويق وعفرين والنهر الأسود، إضافة إلى أنهار صغيرة في منطقة الساحل السوري، كلها باتت شبه جافة، وجريانها لم يعد يصل إلى مستويات التدفق التي كانت تعد طبيعية واعتيادية في ثمانينات القرن الماضي، وهو مرتبط بالأمطار وحسب.
انعكاس للمشكلة
يمكن اعتبار أزمة مياه الشرب التي تعاني منها مدينة الحسكة و54 منطقة وقرية تتبع لها في الريف الغربي انعكاساً لمستوى “الأمن المائي”، الذي تعيشه سورية حالياً، فالمحطة المشكلة من 22 بئراً كانت تعد المصدر الوحيد لمياه الشرب لهذه المنطقة قبل دخول القوات التركية إليها في تشرين الأول من العام 2019، وكانت “آبار علوك”، تعد في حسابات الحكومة السورية مصدراً احتياطياً وبديلاً لـ “محطة آبار رأس العين”، التي دخلت خارطة الحرب في وقت مبكر من عمر الحرب في سورية، وخرجت عن الخدمة بفعل سرقة محتوياتها بعد خروجها عن سيطرة الدولة في العام 2013، وحين البحث عن مصادر بديلة لـ علوك في المحافظة التي تحتوي ثلاثة سدود رئيسة هي “الشرقي – الغربي – الجنوبي”، تقول مصادر هندسية لـ صالون سورية إن المسطحات المائية للسدود الثلاثة لم تكن ضمن خيارات البدائل، فبحيرة السد الغربي في أدنى مستوياتها، وتتصل مع بحيرة السد الشرقي ذات العمق الضحل وبالتالي ارتفاع مستوى العكارة فيها لمعدل غير قابل للتعقيم، أما بحيرة السد الجنوبي والتي تعد الأكبر لم تكن صالحة للشرب بسبب ارتفاع مستوى الشوائب الثقيلة ضمن العينات المائية التي قطفت وأرسلت من قبل المؤسسة العامة لمياه الشرب في الحسكة إلى مخابر الوزارة لتحليلها والحصول على النتيجة التي كانت متوقعة قياساً على مستوى التسرب النفطي الذي شهدته البحيرة بين العامين 2015-2016 من حقول النفط الواقعة إلى الشرق من البحيرة وتعرف باسم “حقول البريج”. وعلى الرغم من أن الحكومة السورية كانت قد بدأت في مرحلة ما قبل الحرب بمشروعين ضخمين في المنطقة، الأول استجرار مياه نهر الفرات لتكون مياهاً للشرب في محافظة الحسكة، ولم يكتمل المشروع بسبب الحرب، والثاني وضع حجر الأساس في آذار من العام 2011 لاستجرار الحصة السورية من مياه نهر دجلة نحو منابع الخابور في رأس العين بما يعني أن المنطقة ستكون مؤمنة من حيث توافر المياه وتوسيع شبكات الري الزراعي، لكن المشروع لم يعد مسافة أبعد من “حجر الأساس”، بفعل الحرب أيضا. تقول معلومات نقلتها مصادر هندسية لـ صالون سوريا، إن مشروع استجرار مياه نهر الفرات اكتمل وبالفعل وصلت كميات تجريبية إلى خزانات الضخ التابعة لمؤسسة المياه في مدينة الحسكة، لكن لا يبدو أنها ستدخل ضمن كميات كافية للمدينة وما يتبعها من مناطق، وسيبقى نحو مليون ونصف الميلون من السكان متأثرين بالصراع السياسي بين القوات التركية وقوات سورية الديمقراطية الذي تحولت “محطة علوك”، إلى إحدى أهم أوراقه، وحتى الوصول إلى حل يعيش السكان على ما توفره الصهاريج من مياه بسعر يصل إلى 7000 ليرة سورية للبرميل الواحد، أي تكلفة أسبوعية تصل إلى 90 ألف، وشهرياً إلى 360 ألفاً، أي ما يعادل 24 دولارا شهرياً في ظل مستويات دخل لا تزيد عن 100 دولار شهرياً في أحسن الأحوال.
الفرات.. تحت رحمة السياسة
كشفت معلومات حصل عليها “صالون سوريا”، من مصادر هندسية أن العاملين في سد الفرات يحاولون الوصول بمخزون البحيرة إلى الحد الأعظمي بعد سنوات من عدم الوصول إليه، وذلك بالاستفادة من مستوى تدفق مستقر عند حدود 350 متراً مكعباً في الثانية من الأراضي التركية، علماً أن الاتفاق الذي وقع مع أنقرة في ثمانينيات القرن الماضي ينص على ضمان الجانب التركي لتدفق لا يقل عن 550 متراً مكعباً في الثانية، وتلتزم سوريا بتمرير 54 بالمئة من الوارد المائي نحو العراق، ويعد “سد البعث”، في الرقة آخر السدود الثلاثة التي بنتها الحكومة السورية على مجرى النهر إضافة إلى سدي الفرات وتشرين. وتقول المصادر ذاتها إن قلة الوارد قد تلمس في انخفاض مستوى النهر في مناطق الرقة قبل سد البعث، أما ما بعد السد وصولاً إلى البوكمال قد لا يلمس من قبل السكان انخفاض مستوى النهر إلا إن قل الوارد لمستوى أقل من 200 متر مكعب بالثانية من الأراضي التركية، وهذا الانخفاض ينعكس على عدة مستويات، أولها من ناحية جودة المياه التي تنقل من النهر إلى محطات ضخ مياه الشرب، والثاني بتوقف محطات الرفع والضخ الخاصة بالري، والثالث من حيث انتشار الحشرات وارتفاع مستوى التلوث في بعض مناطق النهر الأمر الذي يساعد على انتشار الأمراض الوبائية في مناطق ريف دير الزور والرقة.
وفي هذا الصدد يقول أطباء من محافظة الرقة إن هناك حالات اشتباه بعودة مرض “كوليرا”، للظهور في مناطق الرقة ودير الزور خاصة في المناطق الواقعة إلى الشرق من نهر الفرات بسبب ارتفاع مستوى التلوث وانعدام التعقيم في محطات ضخ مياه الشرب، كما إن المسطحات المائية والسواقي التي تأخذ مياهها من الفرات تحولت في أجزاء منها إلى ما يشبه المستنقعات الأمر الذي يساعد على تكاثر الحشرات بشكل كبير في ظل غياب عمليات مكافحتها، ما يؤدي إلى الاشتباه بوجود مرضا “الملاريا”، عند بعض المرضى، ولا يمكن البت في تشخيص هذا المرض تحديداً لانعدام وجود القدرات المخبرية في مناطق الرقة ودير الزور التي تسيطر عليها “قسد”، وأخطر ما في الأمر أن السكان ولقلة وصول مياه الشرب لقراهم يعتمدون على مصادر غير آمنة لمياه الشرب ما يزيد من معدلات الإصابة بـ الأمراض الوبائية أو حتى الوهمية.
ري بالملوث
الأمر ذاته ينسحب على مناطق دمشق وريفها التي تعاني من قلة الوارد المائي من نهر بردى بفروعه كاملة خلال فترة الصيف وتحول أجزاء كبيرة منه إلى مجرى للصرف الصحي فقط. وبحال مماثلة تقريباً تعيش الأراضي الزراعية في مناطق حوض العاصي في محافظتي حماة وحمص، ونتيجة لاعتماد مصادر ملوثة لري المزروعات فإن احتمالية انتشار أمراض مثل “الكوليرا”، تبدو مرتفعة بشكل كبير.
يقول “أبو مصطفى”، في حديثه لـ صالون سوريا: أبلغ من العمر ستين عاماً، وأذكر أن بردى في سبعينيات القرن الماضي وحتى منتصف الثمانينيات كان مقبولاً، لكنه ومنذ أزيد من 35 عاماً تحول إلى مجرى للصرف الصحي صيفا، ونهر ملوث بنسبة كبيرة خلال فترة الشتاء إلا إن كان مستوى التدفق كبيراً في السنوات التي تشهد أمطاراً غزيرة، وعلى الرغم من معرفتي وغالبية الفلاحين بتلوث مياه بردى بمعدلات عالية إلا أننا لا نجد بديلاً لري المساحات الزراعية التي نملكها، لكن لا بد من الإشارة إلى أن ازدياد عدد المعامل والورشات المرخصة وغير المرخصة التي تصل مخلفاتها إلى النهر أحد أهم أسباب ارتفاع معدل تلوث المياه، ومع ارتفاع تكاليف حفر الآبار وصعوبة الحصول على تراخيص لذلك، يبدو أننا سنبقى نروي مزروعاتنا من بردى، أو سنقوم بحفر آبار بطرق غير نظامية ولو كان الأمر مكلفاً.
في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية في ريف حلب الشمالي، يعتمد السكان على حفر الآبار في ظل غياب وجود سلطات معنية بتنظيم استخراج المياه الجوفية التي تُعد الخزان الاحتياطي لسورية في سنوات الجفاف، ويقول “أبو ميلاد”، القاطن بالقرب من مدينة عفرين: لا يمكن الوصول إلى النهر، فأرضي بعيدة عنه، وهو أساسا شبه جاف في فصل الصيف، لذا حفرت بئراً بتكلفة عالية جداً قبل سنوات تعادل 5000 دولار أمريكي تقريبا، وهو الخيار الوحيد لضمان وجود مياه تؤمن عائلتي على مستوى الشرب ومزرعتي على مستوى الري الزراعي.
ظروف الحرب وتبعاتها، العمليات العسكرية التي أدت لإحراق واقتطاع وتجريف مساحاتٍ كبيرة من الأشجار في مختلف أنحاء البلاد، عمليات التحطيب الجائر، ازدياد أعداد المفاحم التي تعتمد على الأشجار، واندلاع الحرائق الكثيرة التي التهمت مساحاتٍ واسعة من الغابات والأحراج، كل ذلك أدى إلى تراجع حجم الغطاء النباتي، الذي مازال يتآكل يوماً بعد يوم، وبات يُنذر بأخطار بيئية كارثية على المدى القريب، قد تترك آثارها السلبية على الأجيال القادمة، مع ازدياد حجم التلوّث البيئي وتغير طبيعة المناخ وخسارة التنوع الحيوي وانتشار الأمراض التي يمكن أن يخلّفها غياب المساحات الخضراء، التي سيحتاج تعويضها إلى سنواتٍ طويلة.
في ظل تفاقم أزمتي الوقود والكهرباء اللتين تشهدهما البلاد منذ سنوات الحرب وحتى اليوم، لجأ كثير من الناس لاستخدام الحطب في التدفئة وطهو الطعام، فاضطروا لاقتطاع الأشجار وشراء الحطب من الأسواق التي انتعشت خلال السنوات الماضية، بعد تحول عمليات التحطيب الجائر إلى تجارة رائجة، ولجوء الكثيرين ممن جعلتهم ظروف الحرب فقراء وعاطلين عن العمل لمهنة بيع الحطب، كونها سهلة ومتاحة وتحقق أرباحاً جيدة. ولم يقتصر استخدام الحطب على البيوت فقط، وإنما انتشر استخدامه بشكلٍ كبير في كثير من المطاعم والأفران ومحلات الفطائر كبديل عن مادتي الغاز والمازوت اللتين بات من الصعب توفيرهما.
ولم تقتصر عمليات التحطيب الجائر، التي انتشرت في أغلب المحافظات السورية، على الأحراج والغابات ومختلف أنواع الأشجار البرية، بل طالت الكثير من أشجار الحدائق العامة والشوارع. ففي دمشق مثلاً، وبحسب وكالة الأنباء الرسمية سانا، نظمت مديرية الحدائق نحو 100 ضبط مخالفة لقطع أشجار مختلفة الأحجام خلال شتاء العام الماضي، هذا بالإضافة لضبط مستودعات أخشاب مُخالفة وغير نظامية، فيما تحدَّث مدير الحدائق في محافظة دمشق سومر فرفور عن ضبط أكثر من 25 حالة قطع للأشجار ضمن المسطحات الخضراء، وعن تعرض نحو 40 شجرة صنوبر، عمرها أكثر من 20 سنة، للتحطيب في منطقة عقدة القابون، وعن توقيف 15 شخصاً كانوا يقومون بقطع الأشجار والأغصان في الشوارع والأماكن العامة.
الغوطة التي كانت رئة العاصمة وسلة غذائها، وكغيرها من معظم مناطق ريف دمشق، تراجعت مساحات غطائها النباتي خلال سنوات الحرب وما بعدها، لتتحول إلى منطقةٍ شبه جرداء، فإلى جانب ما خسرته خلال العمليات العسكرية، التهمت عمليات التحطيب ما نجا من أشجارها، لتطال معظم بساتينها التي كانت تمدُّ أسواق دمشق بالفاكهة، وهو ما أدى لفقدان كثيرٍ من أنواع الأشجار التي كانت الغوطة تتميز بها، كالجوز البلدي والمشمش. وبعد أن كانت من أخصب الأراضي السورية، ساهم غياب الغطاء النباتي بتراجع خصوبة تربتها التي كانت تستمد المواد العضوية من مخلفات الأشجار، كبقايا الثمار والأوراق وغيرها، كما ساهم أيضاً في تغيير مناخ المنطقة، إذ كانت أشجارها تساهم في الحفاظ على الرطوبة الجوية وتنقية الهواء.
وفي محافظة السويداء لم تعد عمليات التحطيب، المستمرة منذ سنوات، تقتصر على العمل الفردي بل أصبح هناك مجموعات وعصابات مسلحة تعمل ليل نهار، مستعينةً بالمناشير الآلية، لتلتهم مساحات واسعة من الأحراج التي تضم أشجاراً معمِّرة، كأشجار السنديان، يصل عمر معظمها إلى مئات السنين، وخاصة في منطقة ظهر الجبل، التي لطالما كانت، بما تمتلكه من مناظر طبيعية ساحرة وهواء نقي، متنفساً لسكان المدينة ومقصداً للتنزه والاستجمام. وفي كثير من الحالات طالت عمليات التحطيب بعض البساتين والكروم لتفني أشجارها المثمرة التي يعتاش أصحابها من محاصيل ثمارها. ولم تعد عمليات التحطيب في المحافظة تقتصر على فصل الشتاء، بل باتت تنشط حتى خلال فصل الصيف، حيث تقوم بعض عصابات التحطيب بتخزين ما تقطعه من أشجارٍ في المستودعات، لتباع كأخشاب لبعض الورش الصناعية، أو كحطب خلال فصل الشتاء.
وطوال السنوات الماضية لم تتوقف الاعتداءات المتواصلة على الغابات السورية، سواء من قبل تجار الحطب، الذين يبيعونه لبعض المحافظات، أو من قبل بعض الفقراء الذين وجدوا في مهنة التحطيب مصدر رزقٍ أفضل من المهن الأخرى، التي تراجع حجم مردودها المادي بشكل كبير، وخاصة مهنة الزراعة التي تأثرت بارتفاع أسعار الأسمدة وأجور النقل وصعوبة توفير المياه والوقود. هذا بالإضافة للجوء كثير من أبناء المناطق الجبلية الباردة لتحطيب الأشجار المحيطة بهم، بما فيها أشجارهم، خلال فصل الشتاء لينعموا ببعض الدفء في ظل شح كميات المازوت المدعوم وارتفاع أسعاره في السوق السوداء، ووصول سعر طن الحطب لنحو ثلاثة ملايين ليرة.
نشاط عمل المفاحم
خلال سنوات الحرب وما بعدها ازدادت أعداد المفاحم في الساحل السوري بشكل كبير، وارتفعت وتيرة نشاطها على نحوٍ غير مسبوق، بعد أن تحولت إلى مصدر رزقٍ للعديد من المُعدمين والعاطلين عن العمل، وإلى تجارة رابحة لكثير من المتنفذين، خاصةً بعد تراجع استيراد مختلف أنواع الفحم، واعتماد معظم المطاعم والمقاهي وأسواق بيع فحم الأراكيل والشواء على الإنتاج المحلي.
وقد ساهم نشاط عمل المفاحم، التي تعتمد على تحويل الأشجار إلى فحم، في اقتطاع الكثير من أشجار الغابات والأحراج، وفي نشوب كثير من الحرائق، التي قد تندلع نتيجة تطاير شرر بعض الأخشاب والعيدان والقشور المشتعلة، لتلتهم مساحات واسعة من الأشجار، خاصة أن مواقع المفاحم تتواجد عادةً ضمن الغابات والأحراش وفي أماكن بعيدة يصعب الوصول إليها، وهو ما يشكل الكثير من المخاطر البيئية في ظل انعدام أبسط الشروط الفنية ومقومات الأمان والسلامة.
ويرى كثيرون أن بعض أصحاب المفاحم قد يكون لهم دور مباشر في افتعال الحرائق، لكي يقوموا باستثمار المساحات التي تعرضت للحرائق وتحويل أشجارها المحروقة إلى فحم، فيما قد يلجؤون لافتعالها، في بعض الأحيان، لكي يغطوا على عمليات قطع الأشجار التي تستخدمها المفاحم.
وإلى جانب التهامها لمساحاتٍ واسعة من الأشجار تَتسبَّب المفاحم في العديد من الأضرار البيئية، كونها تنتج كميات كبيرة من غاز أول وثاني أوكسيد الكربون وغيرها من الغازات والأبخرة التي تؤثِّر على الغطاء النباتي وحياة بعض الحيوانات، كما أنها تنتج كميات كبيرة من مركبات الهيدروكربونات، التي تساهم بشكل مباشر بالإصابة بأمراض السرطان.
سوريا تفقد أكثر من ثلث غاباتها
تشير بعض التقارير إلى فقدان سوريا نحو ثلث غاباتها خلال سنوات الحرب وما بعدها، وذلك نتيجة الحرائق الكثيرة، التي باتت تتكرر كل عام، ونشاط عمل المفاحم وعمليات التحطيب الجائر التي ساهمت أيضاً في اندلاع كثير من الحرائق، نتيجة تساقط بقايا الأغصان والأوراق اليابسة بين الأشجار الخضراء لتكون بمثابة وقود أولي لأي شرارة قد تتحول إلى حريقٍ كبير.
وتشير إحصاءات وزارة الزراعة إلى أن أعداد الحرائق، التي اندلعت في سوريا بين عامي 2011 و2018، قد تجاوزت الـ 3400 حريق، وأن المساحات التي تم إخماد الحرائق فيها قد تجاوزت 220 ألف دونم. وبحسب بعض المصادر المحلية فقد تم تسجيل نحو 400 حريق في عام 2014، التهمت نحو 1925 هكتاراً من الغابات والأحراج، وتسجيل ما يزيد عن 500 حريق في عام 2015، التهمت نحو 2867 هكتاراً، فيما سُجل نحو 819 حريقاً في عام 2016، التهمت نحو 2000 هكتار.
وقد شهد العام 2020 سلسلة حرائق كبيرة ، لم تعرف البلاد لها مثيلاً من قبل، من حيث الضخامة والكثافة وحجم الأضرار، التهمت مئات الدونمات والهكتارات، وتوزعت بين محافظات اللاذقية وأريافها، وطرطوس وريفي حمص وحماه، هذا بالإضافة لأرياف جبلة وصافيتا ومنطقة حميميم وأحراش القرداحة ومحيط جبل الأربعين وغيرها، وقد اقتربت النيران في بعض المناطق من منازل المدنيين، ووصلت إلى مستودعات التبغ وأدت لانهيار جزء من المباني، كما أدت إلى مقتل عددٍ من الأشخاص وإصابة العشرات بجروح وحالات اختناق. وقد تدخل الطيران الروسي حينها لإخماد الحرائق التي استمرت لعدة أيام، وتصدر هاشتاغ “سوريا تحترق” مواقع التواصل الاجتماعي.
أضرار بيئية كارثية
يلعب الغطاء النباتي دوراً بيئياً وحيوياً هاماً، إذ يقوم بتنقية الهواء، وتخزين الكربون والحفاظ على الرطوبة، لذا يؤدي فقدانه إلى حدوث تغيرات مناخية كبيرة وإلى تراجع كميات الأمطار وارتفاع درجات الحرارة وانعدام إمكانية امتصاص غازات الاحتباس الحراري، كما يؤدي فقدانه أيضاً إلى إبقاء التربة معرضة لأشعة الشمس بشكل دائم، وهو ما يفقدها رطوبتها وخصوبتها، ويؤثر على حياة بعض النباتات الصغيرة والأشنات والطحالب التي تعيش في ظلال الأشجار. وإلى جانب ذلك، تلعب جذور الأشجار دوراً هاما في تماسك التربة وحمايتها من الانجراف، وخاصة في المناطق الجبلية، وتساهم في نشر الرطوبة تحت الأرض، وبالتالي في إحياء الكثير من الأعشاب والنباتات البرية المفيدة للطبيعة، لذا غالباً ما تصاب المناطق غير المُشجَّرة بالجفاف وانجراف التربة.
من جهة أخرى، أدى تراجع الغطاء النباتي في سوريا إلى إحداث خللٍ في التنوع الحيوي، وإلى تراجع أعداد الحيوانات البرّية، التي تشكل جزءاً من الهوية البرية للغابات السورية، فالحيوانات الكبيرة والمتوسطة الحجم والتي تحتاج للاختباء بين الأشجار الكثيفة والمتقاربة، لم يبقَ لها مكان مناسب للعيش في كثير من الأحراج والغابات التي تآكلت بشكل كبير، فيما حُرم الكثير من الحيوانات الصغيرة من أي مصدر غذائي بعد غياب الأشجار التي كانت تتغذى على ثمارها، وقد ساهم هذا كله في تهجير بعض أنواع الحيوانات التي باتت مهددة بالانقراض، ومنها غزال اليحمور والضبع السوري والذئب العربي والنيص، هذا بالإضافة لاختفاء الكثير من أنواع الطيور من أماكن عدة، كطائر الحسون والحجل وبعض طيور البوم، وهو ما سيشكل خسارة وطنية كبيرة في التنوّع الحيوي الذي لطالما اشتهرت به سوريا لسنوات طويلة.