(القبيسيات في السياق المجتمعي السوري (الجزء الأول

(القبيسيات في السياق المجتمعي السوري (الجزء الأول

تنويه: هذا المقال هو الجزء الأول من بحث يتضمن أربعة أجزاء حول ظاهرة القبيسيات في السياق المجتمعي السوري.

يحتدم النقاش، من جديد، في الأوساط الثقافية والحقوقية في سوريا حول “القبيسيات”، مفجراً تساؤلات قديمة، لكنها متجددة، عن ظاهرة عُرفت من منتقديها أكثر بكثير مما عُرفت من قبل صاحباتها المقلّات جدا في الظهور الإعلامي أو من قبل المتعاطفين معها الذين لا يظهر منهم إلا القلة في الساحات الإعلامية. ولكن المختلف الآن هو أن جهة حكومية، وزارة الأوقاف في الحكومة السورية، قد انبرت للرد على “حملة افتراءات ممنهجة ونشر أكاذيب لتضليل الرأي العام وإلهائه بمعارك فارغة لا جدوى منها”1 وفي مقدمة ما ردت عليه الوزارة موضوع القبيسيات، حيث أكدت الوزارة في بيانها “أنه لا وجود لتنظيم اسمه القبيسيات كما أن هذه التسمية التي كانت تعود لفترة معينة لم تعد موجودة الآن، وإنما توجد حاليا معلمات القرآن الكريم مهمتهم تحفيظ القرآن وتفسيره ويعملن فقط في المساجد بناء على معايير وتراخيص ممنوحة من الوزارة ووفق منهج موحد وفي النور2” وقالت الوزارة إن “عدد المعلمات ١٢٠٠ امرأة فقط. مع العلم إنَّ هؤلاء المعلمات لا يتقاضين أي راتب من وزارة الأوقاف وإنما هُن متطوعات ويعملن تحت إشراف الوزارة.”3

فمن هن “القبيسيات” اللواتي يعرف الجميع بوجودهن القوي والمؤثر في المجتمع السوري، وفي الوقت نفسه، تُضطر مؤسسة حكومية بنفي هذا الوجود في محاولة للدفاع عن نفسها، وليس عن “القبيسيات”؟

النشأة

يتفق جميع من يتحدث في هذا الموضوع على أن “القبيسيات” وجدن في أوائل أو منتصف سبعينيات القرن الماضي4 ولكن دون تحديد سنة بعينها لهذه النشأة. كما يتفق الجميع في أن تسمية الجماعة بهذا الاسم يعود إلى مؤسسة هذه الجماعة النسائية وهي المدرسة منيرة القبيسي التي تخرجت من “جامعة دمشق، كلية العلوم الطبيعية، وعملت بعدها كمدرسة لمادة العلوم في إحدى مدارس دمشق، حيث عُرفت بشخصيتها الكاريزمية، وذكائها، وقدرتها على التأثير بمن حولها، وجذبهم للاستماع لأفكارها. ولم تكتفِ منيرة القبيسي بدراستها للعلوم، بل قررت متابعة دراستها بكلية الشريعة الإسلامية في جامعة دمشق”؛5 وأخذت القبيسي عقيدتها الدينية، كما والدها وعمها من قبلها، من الشيخ أحمد كفتارو، مفتي سوريا سابقًا، وشيخ الطريقة الصوفية النقشبندية في دمشق.

وكانت نشأة هذه الحركة في ظروف داخلية معقدة، شهدت أمرين متناقضين:

الأول، تقرّب السلطة الجديدة من التيارات الإسلامية لمواجهة تحديات تثبيت أركان الحكم، وخطب ود التيارات التي استاءت من راديكالية التيار البعثي الذي حكم سوريا بعد حركة 23 شباط 1966، وكان لا بد من استخدام الكثير من البراغماتية السياسية لتثبيت أركان هذه السلطة الجديدة، وكان في مقدمة التيارات التي استهدفتها السلطة الحاكمة التجار وكبار رجال الدين السنة بالإضافة إلى التيارات السياسية النشطة في ذلك الوقت. وكان من المنطقي، ومن السهل أيضا، أن تقوم هذه السلطة بعقد تحالف مؤسساتي مع التيارات الأيديولوجية القريبة منها، القومية والشيوعية، فكان تأسيس “الجبهة الوطنية التقدمية” عام 1972؛ أما التيارات الأيديولوجية المخالفة لها فكان لا بد من البحث عن أشكال شعبوية تضمن، على الأقل، حياد هذه التيارات تجاه السلطة الجديدة، وكسب ودها في أحسن الأحوال. وفي هذا السياق قامت السلطة الحاكمة بنقل أعداد كبيرة من المعلمات والمعلمين الشيوعيين من وزارة التربية إلى وزارات الدولة المختلفة، على الرغم من أن أولئك المعلمات والمعلمين كانوا أعضاء في حزب حليف ضمن الجبهة، التي كان دستور 1973 يضمن لها، نظريا، مواقع متنفذة في إدارة البلاد؛ وكان موقف الحزب الشيوعي السوري الرافض للتدخل السوري في لبنان (1976) ذريعة لهذه الإجراءات التعسفية.

شكّلت هذه الإجراءات الحكومية فرصة ذهبية للمعلمات والمعلمين ذوي المرجعيات الدينية، التي شهدت نهوضا كبيرا بعد هزيمة حزيران (1967)، لملء الفراغ الناشئ في السلك التعليمي، وغصت المدارس بالمدرسات القبيسيات وفق شهادة سيدة6 جذبتها الحركة القبيسية من خلال زميلاتها وبنات حيها، وبتوجيه من مدرساتها القويات.

الثاني، تصاعد التهديد الإخواني للنظام الحاكم، والذي تطور إلى حركة مسلحة تزعمتها “الطليعة المقاتلة” للإخوان المسلمين في سوريا، وانتهت بصراع دموي (1979-1982) ما زالت الأعداد الحقيقية لضحايا هذا الصراع غائبة عن التداول. وكانت حادثة نزع الشبيبيات المظليات لأغطية رؤوس النساء في شوارع دمشق (29 أيلول 1981) علامة فارقة في ذلك النزاع. فعلى الرغم من أن السلاح لم يُستخدم في هذه الحادثة إلا أنها حملت دلالات عدائية كانت أشد مضاضة من القتل بحد ذاته؛ لقد جرت إهانة النساء المحجبات على الملأ ومن قبل فتيات يافعات غُسلت أدمغتهن وهيمنت عليها فكرة واحدة: كل محجبة هي “إخونجية” وعدوة للثورة تجب معاقبتها! ورغم أن المظليات كنّ من أديان وطوائف مختلفة إلا أن هذه الحادثة أخذت بعدا طائفيا كبيرا لم يخفف اعتذار الرئيس حافظ الأسد غير المباشر7 من آثارها، لا سيما بعد منع طالبات المدارس من ارتداء الحجاب في المدارس، فابتدأت حركة تحجب وتديّن في المجتمع السوري كردة فعل لهذه الحادثة، تعزّزت هذه الحركة مع بدء تدفق المال الخليجي من المغتربين السوريين الذين نقلوا جزءاً من ثقافة تلك المنطقة خلال زياراتهم المتكررة لبلدهم.

وفي هذا السياق انتعشت حركة “القبيسيات” وبدأت تتغلغل بين بنات العائلات الدمشقيات اللواتي رغبن بالتأكيد على هويتهن الثقافية الاجتماعية للتمايز عن “أخريات” قادمات من الريف البعيد ليستوطنّ دمشق التي لم تعد تشبه نفسها. وانتشر الحجاب بفعل حركة “القبيسيات” التي انتعشت باحتجابها عن عيون أجهزة الأمن السورية، وركزت نشاطها في المدارس التي أنشأتها وفي “استقبالات” و”موالد” الدمشقيات الثريات.

في هذه الظروف المضطربة نشأت حركة القبيسيات، واشتد عودها بعد أن تعلمت درسا قاسيا خسرت فيه عددا من قياداتها اللواتي التحقن بالإخوان المسلمين فسُجن البعض وغادر البعض الآخر مع من غادروا هربا من بطش أجهزة الأمن، وكان منهن “الآنسة سمية أبو الشامات”. وفي الوقت نفسه كان ذلك الدرس مفيدا لهذه الحركة الفتية: السياسة خط أحمر في سوريا، وبما أنها كذلك فالفضاء المجتمعي فضاء مفتوح لمن يكتشف، أو تكتشف، الفرص المخبأة وراء أبواب أصحاب وصاحبات النفوذ، المالي أو السياسي أو الديني. واستفادت حركة “القبيسيات” من حاجة النظام في سوريا إلى حركة دينية اجتماعية تخفف من النقمة التي تولدت إثر الصراع الدامي مع “الطليعة المقاتلة” ومن ساندها، وسارت منيرة القبيسي على خطى أستاذها الشيخ أحمد كفتارو، الذي أشاد أحد تلامذته بنهجه البراغماتي قائلا: “ففي تلك الظروف اتخذ الشيخ أحمد كفتارو موقف الحكمة في تخفيف حدة العداوة البعثية للدين، وتمكن خلال تلك الفترة من تعطيل قرار إغلاق المعاهد الشرعية وأقنع حافظ الأسد بافتتاح معاهد تحفيظ القرآن الكريم، وتمكن الشيخ كفتارو من افتتاح كلية الدعوة الإسلامية وكليات الشريعة وأصول الدين وأنتجت المعاهد والكليات الشرعية عشرات الآلاف من الخريجين والخريجات”.8

كما استفادت هذه الحركة من الصفات المتميزة عند منيرة القبيسي، التي يشهد د. محمد حبش بأن نشاطها قد تميز “بالضبط الإداري، وحسن توظيف الطاقات والجهود.”9

الانتشار

لم تقف الحدود عائقا أمام انتشار هذه الحركة التي وصلت إلى كل الأمكنة التي وصلت إليها منتسباتها، خاصة أن الدفاع عن معتقدات أولئك المهاجرات في بلدان “الكفار” كان صنوا للدفاع عن الهوية التي يُخشى عليها من الضياع في تلك البلاد الغريبة، أما المهاجرات إلى البلدان الخليجية فوجدن بيئة خصبة للتمسك بهذه العقيدة، وإن لم يحظين بفرصة العمل العلني لأن بلدان الخليج، كما سوريا، تحظر النشاطات الاجتماعية، خاصة للوافدين. كما أن “الدعوة” إلى التعمق في دين الله لم تكن أمرا مستهجنا في بلدان “الكفار” التي تنعم بالحرية الدينية لجميع القاطنين فيها، مواطنين ومهاجرين؛ أما بالنسبة لبلدان الخليج فكانت تجربة “التقيّة” (العمل السري)، التي خاضتها القبيسيات في سوريا، مفيدة في البلدان الجديدة، وعلى سبيل المثال استطاعت القبيسيات الوصول إلى الشيخة منيرة زوجة الأمير مشعل بن عبد العزيز، وكسبها إلى جانبهن.”10

بقي المركز الرئيسي لحركة القبيسيات في دمشق مكان انطلاقتها الأولى، مكان إقامة “الآنسة الأم”، منيرة القبيسي، وكانت مدينة حمص هي المدينة الثانية بعد دمشق في نسبة الانتشار. أما انتشار القبيسيات في البلدان المجاورة11 “فكان في لبنان عن طريق الآنسة أميرة جبريل (شقيقة أحمد جبريل)، المنحدرة من أسرة فلسطينية يسارية، والتي تُعد أقرب الآنسات للشيخة الكبرى. فقد أسست أميرة جبريل الجماعة في لبنان، ومن ثم تركت القيادة لآنسة لبنانية تدعى سحر حلبي، التي نشأت في فترة السبعينات، ودرست علم النفس في جامعة القديس يوسف (اليسوعية)، ثم توجهت إلى دمشق لتتلمذ على يد منيرة القبيسي، وكانت الشخص الأكفأ لحمل عَبء الدعوة القبيسية في لبنان. حتى أنه قد أُطلق على أتباعها اسم “السحريات” من قبل اللبنانيين.

وبعد تأسيسها للتنظيم في بيروت، عملت أميرة جبريل على تأسيس جمعية “بيادر السلام” المعروفة في الكويت عام 1981 م، وذلك بمساعدةٍ كبيرةٍ من يوسف سيد هاشم الرفاعي المرجع الصوفي الكويتي، ومن ثم عملت أميرة جبريل على تسليم مجلس إدارة الجمعية لدلال عبد الله عثمان. ويختلف تنظيم الكويت عن باقي التنظيمات، فجمعية “بيادر السلام” جمعية مرخصة ضمن منظمات وجمعيات النفع العام التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وربما كان الترخيص لجمعية “بيادر السلام” بسبب الانفتاح السياسي النسبي في الكويت. أما في الأردن فقد انبرت الآنسة، ذات الأصول الدمشقية، فادية الطباع لحمل راية الدعوة، وعملت على نشر أفكار القبيسيات في عمان، فاستطاعت بشكل سريع اختراق أهم العائلات في عمان، وأطلق على أتباعها اسم “الطباعيات”، وما يشير إلى أنهن على علاقة بالتنظيم الرئيسي في دمشق، هو اتباعهن لنفس النظام من ملابس وتنظيم إداري وجلسات الذكر، إضافة إلى اهتمامهن بالمدارس والتعليم، حيث تُعد الآنسة فادية الطباع إحدى المساهمات في مدرسة “الدر المنثور” في عمان، والتي تُركز بشكل أساسي على تحفيظ القرآن.

في فلسطين حملت الحاجة فدوى حميّض، وهي من عائلة مرموقة في مدينة نابلس، راية الحركة بعد أن درست اللغة الإنكليزية في العاصمة السورية دمشق، والتي يبدو أنها كانت على اتصال بمنيرة القبيسي أو إحدى الآنسات المقربات منها، خلال تواجدها في دمشق، فعملت على تطبيق هذه التجربة بعد عودتها إلى فلسطين، مع إضافة بعض التعديلات؛ فنرى إحدى الآنسات المقربات من الحاجة فدوى وهي الحاجة رغد الأغبر تقوم بلقاء صحفي لِتردَّ على بعض التهم الموجهة لبنات فدوى، من أن الحركة تمنع الزوجة من التعري والتزين لزوجها، على خلاف ما جرت العادة لدى القبيسيات عند تعرضهن للانتقادات بالرد غير المباشر، من خلال تصريحات رجال دين مقربين منهن. وتنفي الأغبر أي اتصال مباشر مع الحركة الأم، فتقول: “لسنا امتدادًا لأحد على الاطلاق، سواء في سوريا أو غيرها، ولا اتصال بيننا وبين القبيسيات في سوريا وغيرها. أما في مصر، فقد انتشرت عدة إشاعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حول وجود آنسات قبيسيات في مصر يعملن تحت اسم “جمعية الزهروان”، ورئيسة هذه الجمعية شيرين فتحي، وهي زوجة أحد كبار المسؤولين في نظام مبارك السابق. وتسيطر هذه الجمعية على مساجد كبيرة ومهمة يرتادها الأغنياء فقط؛ بهدف جمع الأموال لدعم دعوتهم. ويكمن وجه الشبه بين جمعية الزهروان وتنظيم القبيسيات بأنهما تنظيمان نسائيان ينشطان في المجال الديني النسائي الخيري والتعليمي. لكن لا يوجد ما يثبت أي ارتباط أو تبعية لهذه الجمعية بقبيسيات سوريا، ومع كونها جمعيةً نسائيةً، إلّا أنَّ لديها العديد من النشاطات الموجهة للذكور، ولا تلتزم نساء الجمعية بزي معين وهو أمر في غاية الأهمية، بالإضافة إلى اختلاف البيئة الاجتماعية، والحالة الدينية بين بلاد الشام ومصر، فمن الممكن أن تكون البيئة الاجتماعية المصرية غير مناسبة لنشوء مثل هذه الحركات.”

أما حديثا فلم يكن غريبا خروج عدد من القبيسيات من سوريا بسبب النزاع المسلح الدائر فيها، وأن يبدأن بنشر دعوتهن في مخيمات اللجوء في لبنان، لكن اللافت أن دعوتهن هذه لم تلق القبول والرواج اللذين كانت تلقاهما في الوطن.12 وربما يعود هذا الفتور إلى ضعف في إمكانيات “الآنسات اللاجئات” المادية، أو إلى ظروف اللجوء القاسية التي تجعلهن غريبات حتى عن الجوامع المنتشرة في أماكن تواجدهن، أو إلى انشغال اللاجئات.   

العقيدة

الصوفية النقشبندية:

“الصوفية هي مذهب إسلامي وهو منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به، وذلك عن طريق الاجتهاد في العبادات واجتناب المُنهيات، وتربية النفس وتطهير القلب من الأخلاق السيئة، وتحليته بالأخلاق الحسنة. وهذا المنهج يقولون أنه يستمد أصوله وفروعه من القرآن والسنة النبوية واجتهاد العلماء فيما لم يرد فيه نص…”13 وانتشرت حركة التصوف في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري ولها طرق متعددة. أما النقشبندية فهي طريقة من الطرق الصوفية، “أسسها الشيخ محمد بهاء الدين شاه نقشبند الذي توفي سنة 791 للهجرة، وانتشرت في آسيا الوسطى وسوريا والقوقاز وبين سنة العراق وكردستان والحجاز وسنة إيران والبوسنة وباكستان.14

النقشبندية “هي الطريقة الوحيدة التي تدّعي تتبع السلسلة الروحية المباشرة مع النبي محمد… وقد تبنى الشيخ محمد أمين كفتارو لواء النقشبندية في دمشق، حيث قام بتأسيس نواة إصلاحية قوامها العلم الشرعي والطريقة النقشبندية في جامع أبي النور”.15

ويؤكد د. محمد حبش على أن القبيسيات هنّ “صورة دقيقة للمجتمع السوري المحافظ، الدمشقي خاصة، وأن مبادئهن وأفكارهن ليست إلا خطاب المشايخ التقليديين المستمر في اتجاه الخضوع للسلطان منذ خمسين عاماً ولا زال”.16

وأتباع الصوفية “لا يكتفون بأن يوضحوا للناس أحكام الشرع وآدابه بمجرد الكلام النظري، ولكنهم بالإضافة إلى ذلك يأخذون بيد تلميذهم ويسيرون به في مدارج الترقي، ويرافقونه في جميع مراحل سيره إلى الله، يحيطونه برعايتهم وعنايتهم، ويوجهونه بحالهم وقولهم، يذكرونه إذا نسي، ويقوِّمونه إذا انحرف، ويتفقدونه إذا غاب، وينشطونه إذا فتر”.17

وتقوم الصوفية على آليتين رئيسيتين تستخدمها بغية إيصال من يستهدفهم الصوفيون إلى أعلى مراتب الإيمان؛ وهي: العلم، وبالأحرى التعليم الذي يقومون به لطلابهم، ف “السالك في طريق الإيمان والتعرف على الله والوصول إلى رضاه لا يستغني عن العلم في أية مرحلة من مراحل سلوكه. ففي ابتداء سيره لا بد له من علم العقائد وتصحيح العبادات واستقامة المعاملات، وفي أثناء سلوكه لا يستغني عن علم أحوال القلب وحسن الأخلاق وتزكية النفس”؛18 والصحبة لأن لها “أثراً عميقاً في شخصية المرء وأخلاقه وسلوكه، وأن الصاحب يكتسب صفات صاحبه بالتأثر الروحي والاقتداء العملي”.19 وظهر جمع “العلم” مع “الصحبة” عند عدد من المتصوفين الأئمة، ومنهم أبو حامد الغزالي  وابن عطاء الله السكندري.

وتتعزز ضرورة الجمع بين “العلم” و”الصحبة” عند الصوفية النقشبندية للارتقاء بنفس “السالك في طريق الإيمان” من “النفس الأمارة (تميل للشهوات وترغب في اللذات… وهي منبع للشر والأخلاق الذميمة)، إلى النفس اللوّامة (تنورت بنور القلب فهي تارة تقترف المعاصي ثم تندم وتلوم نفسها)، وبعدها النفس المطمئنة (تخلت عن صفاتها الذميمة ووصلت للكمالات)، ومن ثم النفس الملهمة (ألهمها الله تعالى العلم والتواضع والقناعة والسخاء)، فالنفس الراضية (رضيت عن الله وتحقق فيها قوله تعالى: “رضي الله عنهم ورضوا عنه”)، مرورا بالنفس المرضية (رضي الله تعالى عنها ويبدو فيها أثر رضاه وهي منبع الكرامة والإخلاص والذكر ويقال إن السالك في هذه المرتبة يضع الخطوة الأولى في معرفة الله تعالى ويظهر فيها تجلى الأفعال) وصولا إلى النفس الكاملة (صارت للكمالات طبعا وسجية ولا زالت ترتقي في الكمال وتؤمر بالرجوع للعباد لإرشادهم وتكميلهم”.20

وإذا كان الاعتقاد السائد عند العامة من المسلمين بأن “من لا شيخ له فشيخه الشيطان” فمن البديهي أن مكانة الشيخ ستكون عند الصوفيين، عامة، والنقشبندية منهم خاصة، ستكون مكانة “سامية”، فالتبحر في علوم الدين من أجل الارتقاء بالنفس على درجات سلّم النفس البشرية يحتاج إلى صحبة غوّاص متبحّر في هذه العلوم وذي نفس “كاملة”، أو في طريقها للكمال، وسيكون “الثواب” “ثوابين”، “ثوابا” لطالب العلم و”ثوابا” للمعلم. ومن هنا جاءت المكانة المتميزة للشيخ أو للشيخة، وجاءت حالة الارتباط الكبيرة بين الشيخ والمريد. “ومع أنَّ الطريقة النقشبندية قد بالغت في هذه العلاقة، إلا أنَّ القبيسيات بشكل خاص، وصَلْنَ بها إلى درجة كبيرة من الغلو”.21

مكانة استثنائية لـ “الخالة الكبيرة” ومن بعدها لـ “الآنسة”

كما جرت الإشارة من قبل كانت منيرة القبيسي تلميذة للشيخ كفتارو وأخذت الطريقة النقشبندية الصوفية عنه، وهذا ما جعل لها مكانة استثنائية عند كل من كانت من جماعتها، وساعدت صفاتها الشخصية في جعل ولائهن لها ولاء غير مشروط، فهي القدوة التي يتمنى الجميع أن يتشبه بها وأن يجتهد يقترب من صفاتها.

و”تحتل الشيخة الكبرى، أو الآنسة الأم، منيرة القبيسي أعلى مرتبة دينية في هرم الجماعة التنظيمي؛ مما يمنحها صفة التقديس المبالغ فيه إلى حد التأليه، فهي الوسيط لدى المريدات، والطريق للوصول إلى الله.”22

وكان هناك الكثير من المبالغات في إضفاء صفات “قدسية” على الشيخة الأم، فلم تكن منيرة القبيسي لتغيب لحظة عن مريداتها، خاصة في اجتماعاتهن، “ومن أقوالهن الشهيرة: شيختنا لو كنَّا أينما كنَّا فهي معنا لا تُضَيِّعُنا. ومع انتشار تلميذات القبيسي في بلدان مختلفة، أصبحت زيارة الشام عندهن واجباً مقدساً. لدرجة أنهنّ أطلقن على زيارة الشام اسم “رحلة كعبة المعاني.” وللقبيسيات عند مقابلة الآنسة أو الشيخة الكبرى دعاء خاص وهو “اللهم اجمعنا على ألمها واجمعنا على أملها”.23

وضمن هذه المبالغة بتقديس الشيخة الأم تقول لمى راجح: “غير أن ما أثار دهشتي هو اعتقاد الطالبات بمقدرات “الخالة الكبير” الروحية؛ فما زلتُ أذكرُ كلام إحداهن عندما قالت لي: “الخالة تستطيع قراءة أفكارنا…”، وحذرتني من تحدثي في سري عنها، لأنها ستسمع ما أقول، والغريب في الأمر أن باقي الطالبات أكّدنَ كلامها. وكما اعتقدت الطالبات أن الله كشف الغيب عن “لخالة الكبير”؛ فقد اعتدن أن يشاورنها علّها ترشدهن لما سوف يأتي في الامتحانات النصفية والنهائية، حيث تقوم بإمساك المقررات المدرسية والجامعية، ومن ثم تغمض عينها وتتمتم بعض الآيات، لتفتح بعد ذلك تلك المقررات، وتحدد الفقرات التي سوف تأتي الأسئلة منها.24

وبما أن الآنسات هن ممثلات “الشيخة الأم” فسيكون لكل منهن نصيب كبير من هذه النظرة التقديرية الخاصة، والتي غالبا ما تضيف إليها المريدات قليلا من الصفات التي يجب أن تكون خاصة ب “الشيخة الأم”، وينسحب “التقديس” إلى “الآنسات” اللواتي يأخذن بيد الطالبات للوصول إلى الله، فقد ورد في دراسة سلام إسماعيل25: “كما نجد أيضًا العديد من الشهادات لمنشقات عن التنظيم يتحدثن عن المبالغة في تقديس الآنسات، فعند دخول الآنسة للدرس تتسابق الحاضرات لتقبيل يدها وتبجيلها، حتى عندما تشرب من كأس الماء فإن ما يتبقى من كأسها طاهر؛ ومن تشرب من بعدها تكون صاحبة حظ سعيد”.

ولا يعني “التقديس” إسباغ الصفات الإيجابية الكاملة والقدرات الخارقة على “الآنسات” فقط، بل يستتبعه، منطقيا، “تقديس” كل ما تقوله “الآنسة” وكل ما تقوم به أيضا، وكأننا نقوم باستنساخ مسيرة الأنبياء مع أن هذا الاستنساخ مناقض بالأصل لفكرة تفرد الأنبياء وخصوصيتهم.

الابتعاد عن السياسة

جرت القبيسيات على عادة المتصوفة النقشبندية في سوريا بالابتعاد عن مناهضة الحاكم، وأحيانا الدعاء له من فوق المنابر، وهذان الأمران، عدم مناهضة الحاكم أو الدعاء له، هما موقفان سياسيان بامتياز. وعلى الرغم من ذلك فالحكم بشكل قطعي على المواقف السياسية للقبيسيات يبدو أمرا معقدا للغاية، خاصة في بلد مثل سوريا حيث العمل بالسياسة يعني مخاطر لها أول وليس لها آخر. وخبرت القبيسيات تجربة مريرة عندما انخرطت بعض العضوات مع الإخوان المسلمين خلال النزاع الدموي مع السلطة، وكان نصيبهن مثل نصيب الآلاف من السوريات والسوريين: الملاحقة والاعتقال والموت أو الهروب خارج البلاد.

وعلى الرغم من اشتداد القبضة الأمنية بعد انتهاء هذا النزاع الدموي إلا أن تلك القبضة الأمنية كانت قد هيمنت على الحياة في سوريا منذ قيام الوحدة بينها وبين مصر عام 1958 عند تأسيس “الجمهورية العربية المتحدة”، حيث جرى حل جميع الأحزاب والجمعيات غير الحكومية في سوريا، وأصبح حق تأسيس الجمعيات مقيدا بقيود إدارية فرضها قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة (93/1958) الذي ألغى العمل بحق تأسيس الجمعيات وفق مبدأ “علم وخبر”؛ وفوق هذه القيود الإدارية كانت القيود الأمنية التي تجبر كل من يرغب بالترخيص لجمعية بتقديم استمارات أمنية. وبدأت مسيرة الهيمنة على المجتمع واحتكار العمل المجتمعي في سوريا مع استكمال تأسيس الاتحادات العامة والتي تحولت بعد ذلك إلى المنظمات الشعبية، وأخذت إجراءات تشكيل الجمعيات تتعقد أكثر فأكثر خاصة مع المرسوم التشريعي رقم /121/ لسنة 1970 الذي حظر ترخيص أي جمعية نسائية لأن الاتحاد العام النسائي أصبح “الوكيل الخاص” للعمل بين النساء، ومع التعليمات التنفيذية لقانون الجمعيات، رقم (9/ د/ 62) تاريخ 8/8/1974، التي نصت على:

“14-على المكاتب التنفيذية التقيد بما يلي عند البت بطلب شهر أنظمة الجمعيات:

1-رفض طلب شهر أنظمة الروابط والجمعيات والأندية ذات الأهداف المتماثلة مع أهداف المنظمات الشعبية.

2-عدم شهر أي جمعيات نسائية عملاً بالمرسوم التشريعي رقم /121/ لسنة 1970.”

ولم يكن أمام المجموعات النسائية إلا أمران: الاستمرار بالعمل وتحمل مسؤولية عواقبه، وهو ما قامت به “رابطة النساء السوريات لحماية الأمومة والطفولة”، أو “التلطي” خلف الهيئات المتاحة وهذا ما لجأت إليه منيرة القبيسي التي أنشأت حركتها في المساجد، وترعرعت هذه الحركة في البيوت عندما كان التضييق الأمني يشتد عليها وتعود للمساجد عندما يضعف هذا التشديد.

إذا، هل يمكننا أن نتساءل إن كان تأسيس هذه الحركة، بحد ذاته، يحمل رسالة سياسية احتجاجية على احتكار العمل المجتمعي وحصر حق العمل بين النساء بمنظمة ذات توجه علماني (نظرياً)، وعلى ارتفاع الصوت النسائي الذي راح يطالب بمقاربة قضايا النساء وفق المقاربة الحقوقية مع بروز الدعوات الأممية لتخصيص عقد للمرأة (1975-1985) والذي شهد تنظيم ثلاثة مؤتمرات عالمية للمرأة، مع ملاحظة أن ” القبيسيات يشتمن الغرب والحضارة”،26 كما يعتبرن كل دعوة من أجل مساواة النساء استهدافا للأمة وأخلاقها. وفي الوقت نفسه، شهدت سوريا عام 1974 إحداث أول مركز لرعاية الأمومة والطفولة،27 وكان من ضمن مهماته: “تأسيس عيادة طبية لتنظيم الأسرة”، وتنظيم الأسرة يعني، فيما يعنيه، المباعدة بين الحمول وتخفيض خصوبة النساء؛ وفي عام 1975 جرى أول تعديل لقانون الأحوال الشخصية، بموجب القانون رقم 34 لعام 1975، والذي جاء في الأسباب الموجبة له”. انطلاقا من أنه من واجبات الدولة بنص الدستور… رفع القيود التي تمنع تطور المرأة فضلا عن مساهمتها في تطور حياة المواطنين، فإن قانون الأحوال الشخصية الحالي يغدو واجب التعديل بما يتفق وما وصل إليه ركب الحضارة…” وتضمنت التعديلات (السطحية بالنسبة للمنظمات النسوية) السماح للمرأة بالاحتفاظ بحقها بحضانة أولادها إذا عملت! وهنا أيضا يمكن أن يكون تأسيس ونشاط القبيسيات ردا مباشرا على سياسة جديدة للحكومة السورية بدأت بتعديل ما كان يجب أن يكون “مقدسا”، لذلك كان لا بد من التصدي لأية محاولات لاحقة للتعديل يمكن أن يدعم مسيرة النساء السوريات في سبيل نيل حقوقهن الإنسانية.

وعلى الرغم من كل الأقاويل التي تتحدث عن الملاحقات الأمنية، وهي أمر شائع في الحياة السياسية في سوريا وكذلك في النشاطات الاجتماعية التي كانت تجري خارج إطار المنظمات الشعبية، إلا أن الاعتقالات طالت النساء المنخرطات بالعمل السياسي بشكله المباشر، ولم تعرف الموافقات الأمنية على التوظيف تمييزا ضد صاحبات المرجعيات الدينية إلا خلال النزاع مع الإخوان المسلمين، في الوقت الذي كانت تُحرم فيه بعض الناشطات السياسيات العلمانيات من فرص التوظيف استنادا لموافقات أمنية، كما أن العمل في السلك التعليمي كان مشرع الأبواب أمام النساء ذوات المرجعيات الدينية، على اختلاف هذه المرجعيات (الإسلامية أو المسيحية)، ما عدا النساء المنتميات إلى طائفة “شهود يهوه.”

كان التجمع محظوراً في سوريا على الجميع باستثناء منظمات “الحزب القائد”، وكان من تبعات هذا الحظر ملاحقة القبيسيات اللواتي كنّ يعملن خارج إطار المنظمات الشعبية. وتقول سيدة كانت ضمن القبيسيات:28 تعرضت بعض عضواته للملاحقة والاعتقال، مثلما حدث مع الشيخة التي أشرفت على تدريسي العلوم الشرعية ضمن إحدى الحلقات. أما السيدة ك فتقول: “في أواخر السبعينيات كنا نضطر لاستخدام كلمات مشفرة في اتصالاتنا، وأحيانا كنا ننقطع عن اللقاءات لأسابيع.”29

وفي عام 2006 جرى تبليغ أجهزة الأمن بالتوقف عن مضايقة القبيسيات، وسرت شائعات في البلد تقول إن الشيخ البوطي قد توسط لهن عند الرئيس بشار الأسد وقال له “إن القبيسيات يدعون لك في صلواتهن”، فجرى رفع الحظر عنهن “شريطة أن تقام حلقاتهن ضمن ما يسمى المعاهد الشرعية في المساجد.”30

ولم تكن هذه الإجراءات التسهيلية خاصة بالقبيسيات أو بالنساء ذوات المرجعيات الدينية فقط، بل شملت أيضا المشايخ والنشاطات الدينية عامة، بينما صدر تعميم بحل جمعية “المبادرة الاجتماعية” وصدر تعميم من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بعدم التعامل مع “رابطة النساء السوريات”، كما طلبت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل من وزارة الثقافة عدم السماح لأي سيدة تحمل صفة “ناشطة نسوية” بتقديم أي محاضرة في المراكز الثقافية!31 كما جرى رفض ترخيص جمعيات تدعو لنشر العلمانية. وقبل 2006 لم يُعط إلا ترخيص واحد لجمعية “تطوير دور المرأة” التي أسستها زوجة فراس طلاس.

إذا، كانت المقايضة واضحة وجلية للعيان: جمعية مدنية جاءت من مراكز النفوذ السياسية، وجمعية دينية جاءت من مراكز النفوذ الدينية.

كانت السلطة بحاجة إليهن بعد قضية اغتيال الرئيس الحريري (2005) وبعد حرب تموز 2006 التي وقفت معظم البلدان العربية ضدها، وفي المقابل كانت القبيسيات مستعدات لتقديم الدعم المجتمعي لهذه السلطة مقابل التضييق على الاتجاهات العلمانية النسوية، والحد من أي تعديلات قانونية تقرّب النساء السوريات من حقوقهن بالمساواة في المجالات كافة.

ويقول د. محمد حبش في علاقة القبيسيات بالسياسة: “خلال خدمتي في مجلس الشعب كنت دائم المواجهة مع المخابرات بشأن القبيسيات، فقد كان المخابرات يرون فيهن خلية إخوانية نائمة، وأن موقفهن المتسامح من الحاكم لا يعني بحال من الأحوال الاطمئنان لعملهن، وخلال خدمتي في مجلس الشعب تبنيت مبدأ إخراج القبيسيات من الغموض إلى العلانية، وكان موقفي يستند إلى قناعتي بأن المجموعة هي في الواقع مجموعة تعليمية ناجحة لا تمتلك أي برنامج سياسي وأن ممارسة إرعابها ومحاصرتها قد يدفع كثيراً من أبناء الجماعة للتطرف، وبالفعل فقد تمكنت من الحصول على عدد من الرخص لشيخات قبيسيات لممارسة العمل العلني في المساجد في سوريا وكان ذلك بداية خروجهن إلى العلانية منذ عام 2005.”32

وبعد انتفاضة 2011 اختلف المشهد العلني بشكل كبير في ظل الانقسام المجتمعي الحاد الذي شهده المجتمع السوري، خاصة مع صورة لاجتماع عدد من القبيسيات مع وزير الأوقاف في القصر الجمهوري في لقاء خاص مع الرئيس السوري بشار الأسد، ومع تعيين الداعية سلمى عياش معاونة لوزير الأوقاف، والتي قالت إن الرئيس بشار الأسد قد “نقل العمل الديني النسائي من البيوت حيث الظلام والضبابية، إلى المساجد حيث النور والضبط“، ويوضح د. محمد حبش أن برنامج نقل العمل الديني النسائي إلى المساجد وترخيص هذا العمل قد “كلف به وزير الأوقاف الذي قام بإحداث إدارة خاصة للنساء في الأوقاف، واختار قريبة له من القبيسيات، سلمى عياش، لتكون مشرفة الإدارة النسائية في الأوقاف، وهذه الرخص تصدر حصراً من المكتب النسائي في وزارة الأوقاف.”33

ومع ظهور الحشد النسائي الكبير في الجامع الأموي عشية انتخاب الرئيس بشار الأسد (2014). وأدت هذه التطورات إلى انقسام واضح في صفوف القبيسيات، فالبعض منهن أعلنّ عن مواقف علنية داعمة للنظام، وتقول لمى راجح: “توجد بينهن مواليات للنظام السوري”34، وأكد بيان وزارة الأوقاف الأخير هذا الأمر عندما ذكر: “كان لهنَّ دور مشهود وبارز أثناء الحرب على سورية في مواجهة التطرّف والطروحات الطائفية التقسيمية، بل وكان لهن الدور الرائد في الدفاع عن الدولة ووحدة الوطن؛35 بينما ظهرت مواقف بين القبيسيات تبرر ما حصل من باب درء المفاسد، “فتروي إحداهن، كيف أنهن ذهبن تلبيةً لدعوة اعتيادية من وزارة الأوقاف كونهن مديرات مدارس شرعية للبنات ومعاهد حفظ القرآن وتم ذلك في المسجد الكويتي بشكل طبيعي. وبعد انتهاء اللقاء تم نقلهنّ بباصات، ثم وجدنَ أنفسهنّ في قصر بشار الأسد، وقد ذكرت واصفةً اللقاءً بأنه عادي؛ وأن الكثيرَ من الحاضرات استأن من أسلوب إحضارهن ثم تتفاجأ الداعيات بعد الانتهاء بنشر وكالة الأنباء خبرًا حول الموضوع مرفقًا بالصور!”36

ويورد د. محمد حبش تبريرات أخرى فيقول: “إن التجمع النسائي الكبير الذي ظهر في الجامع الأموي لتأييد الانتخابات ليس تجمعاً قبيسياً وإنما هو حشد لكل العاملات في الأوقاف، وهؤلاء بالطبع لسن موظفات مأجورات، ولكن من المؤكد أن تراخيصهن في العمل الديني مؤقتة وتخضع للتمديد والتجديد بشكل دوري ومن المؤكد أن غياب أي واحدة منهن عن هذا الحشد يعتبر نهاية ترخيصها ووقف عملها الدعوي، وبالتالي مضايقتها بشكل مستمر وهذا أمر بدهي لدى كل من يعمل في الحقل الديني في سورية.”37

ولم تخف معاونة وزير الأوقاف سلمى عياش موضوع الانقسام الحاصل بين القبيسيات، بل افتخرت بأنه ليس كبيرا خلال كلمة لها في اجتماع مخصص لبحث موضوع فقه الأزمة، حيث قالت: “أحب أن أطمئنكم، لا توجد أزمة واقعية بين صفوف داعياتنا في سوريا أبدًا وإن وجدت فهي لا تتجاوز اثنين بالمائة ممن هن خارج صفوف الداعيات المنضبطات بشروط الوزارة”.38 كما أنه جرى الحديث في العديد من المرات عن “حرائر القبيسيات”، أي القبيسيات اللواتي عارضن النظام بشكل واضح. وتقول السيدة ك: “هناك نقمة من القبيسيات على من قابلن الرئيس، ولم أسمع أيا من الآنسات تدعو لولي الأمر، بل إنهن يعبرن في السر عن نقمتهن على هذا الحكم لأنه غير مسلم.”39

ومن اللافت أن علاقة السلطة الحاكمة مع “القبيسيات”، شأنها شأن العلاقة مع التيارات الدينية، عامةً، قد خضعت لحركة تنوس بين “غض النظر”، الذي يعني في بلد يحكمه الأمن شبه تصريح بالعمل، وبين السماح بشكل علني بالعمل.

وبعد هذا الاستعراض هل يمكن القول إن القبيسيات لا يقمن بأي دور سياسي؟ ربما كان دورهنّ دوراً سياسياُ غير مباشر، لكنه بالتأكيد أثّر، وبشكل كبير، على سياسات الدولة تجاه حقوق النساء، خاصة أن المنابر المتاحة لهن ولدعوتهن لا تُعد ولا تُحصى، كما أنهن أيضاً حيث يقوم العديد من التجار بالتبرع للتجمع كزكاة أو صدقة، أو من خلال نسائهم وبناتهم المنخرطات في التجمع، وهؤلاء التجار تربطهم علاقات قوية مع النظام السوري مما سينعكس حتماً على موقف القبيسيات.

المراجع:

1وزارة الأوقاف، بيان صادر عن وزارة الأوقاف، دمشق في 5 رمضان 1439، 21 أيار 2018

2- المصدر السابق: وزارة الأوقاف، بيان صادر عن وزارة الأوقاف، دمشق في 5 رمضان 1439، 21 أيار 2018

3- المصدر السابق، وزارة الأوقاف، بيان صادر عن وزارة الأوقاف، دمشق في 5 رمضان 1439، 21 أيار 2018

4- أشار بحث مركز “جسور للدراسات” في بحثه المعنون ب “جماعة القبيسيات، النشأة والتكوين” إلى أن منيرة القبيسي قد بدأت نشاطها الدعوي في ستينيات القرن الماضي، ولم نجد أية إشارة أخرى تؤكد هذا التاريخ.

5- سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.

6- مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.

7- قال الرئيس حافظ الأسد في خطابه في ذلك الوقت: “أنا أفهم تطلعات رفيقاتنا، أفهم تطلعات هذا الجيل، من الشابات بشكل خاص، .. وأفهم تمردهن على بعض الظواهر التي يرين فيها دلائل على ماض مظلم .. أنا أقول لرفيقاتنا بصدق الأب وصراحة الأب، إنني قلقت للحادث عندما سمعت به، وتأثرت له، سيما وكما ذكرت عرفت إن النسوة اللواتي شعرن ببعض الإساءة إليهن كن من المتقدمات سنا، وهؤلاء النسوة لسن معاديات للثورة، وربما بينهن كما علمت ما يمكن أن أقول عنه أم البعض، وبينهن أخوات البعض من فتياتنا الشابات الممارسات للتدريب والموجودات الآن بيننا”.

8- facebook.com/AlshykhAhmdKftarw/photos/a.145175868948126.30784.145150298950683/198570833608629

9- محمد حبش، القبيسيات الملف المجهول، كلنا شركاء، خاص، مقالات وتحليلات،  2014/06/09

10- مرجع سابق، مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.

11- مرجع سابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي، جرى الاقتباس بتصرف من الباحثة.

12- مقابلة خاصة لغرض هذا البحث مع السيدة و غ التي تلقت علومها الدينية في صغرها عند القبيسيات في ضاحية من ضواحي دمشق.

13- ويكيبيديا، الطريقة الصوفية الصحيحة، https://ar.wikipedia.org/wiki/صوفية.

14- المرجع السابق، ويكيبيديا، الطريقة الصوفية الصحيحة، https://ar.wikipedia.org/wiki/صوفية.

15- لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.

16- مرجع سابق، محمد حبش، القبيسيات الملف المجهول، كلنا شركاء، خاص، مقالات وتحليلات، 2014/06/09.

17- مرجع سابق، ويكيبيديا، الطريقة الصوفية الصحيحة، https://ar.wikipedia.org/wiki/صوفية.

18- مرجع سابق، ويكيبيديا، الطريقة الصوفية الصحيحة، https://ar.wikipedia.org/wiki/صوفية.

19- مرجع سابق، ويكيبيديا، الطريقة الصوفية الصحيحة، https://ar.wikipedia.org/wiki/صوفية.

20- النقشبندية، ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki/نقشبندية.

21- مرجع سابق، لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.

22- مرجع سابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.

23- مرجع سابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.

24- مرجع سابق، لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.

25- مرجع سابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.

26- مرجع سابق، مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.

27- القرار التنظيمي رقم 10 لعام 1974.

28- مرجع سابق، لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.

29- مرجع سبق ذكره: مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.

30- مرجع سابق، لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.

31- يمكن أن يكون هذا الأمر موضوعا لمقالة لاحقة.

32- مرجع سابق، محمد حبش، القبيسيات الملف المجهول، كلنا شركاء، خاص، مقالات وتحليلات، 2014/06/09.

33- المرجع السابق، محمد حبش، القبيسيات الملف المجهول، كلنا شركاء، خاص، مقالات وتحليلات، 2014/06/09.

34-  مرجع سابق، لمى راجح، رحلتي مع القبيسيات، موقع الجمهورية، عيون، 18 كانون الثاني ٢٠١٧.

35- مرجع سابق، وزارة الأوقاف، بيان صادر عن وزارة الأوقاف، دمشق في 5 رمضان 1439، 21 أيار 2018.

36- مرجع سابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.

37- مرجع سابق، محمد حبش، القبيسيات الملف المجهول، كلنا شركاء، خاص، مقالات وتحليلات، 2014/06/09.

38- المرجع السابق، سلام إسماعيل، مركز برق للأبحاث والدراسات، جماعة الأخوات القبيسيات، دراسة تحليلية لنشوء وانتشار الظاهرة وتأثيراتها على المجتمع العربي والإسلامي.

39- مرجع سابق، مقابلة خاصة لغرض هذا البحث، أجريت مع السيدة ك التي انخرطت مع القبيسيات لفترات متقاطعة، ورفضت الإفصاح عن اسمها الصريح.

القانون 10 وسرقة عقاراتِ السوريين

القانون 10 وسرقة عقاراتِ السوريين

أثار إصدار الرئيس السوري بشار الأسد للقانون 10، المتعلق بإحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، استهجاناً واسعاً، كونه تزامن مع سيطرة النظام على الغوطة الشرقية، بعد إخلائها من المعارضين. وقبله صدرت عدة مراسيم عقارية تفوقه خطورة، ويمكن اعتباره ناظماً لها، ومكملاً، كونه يشمل كامل الأراضي السورية.

القانون سيوفر إطاراً رسمياً لإحالة ملكية الأراضي إلى الحكومة السورية، التي تتمتع بسلطة منح العقود وإعادة الإعمار والتطوير لشركات أو مستثمرين، مجهولي الجنسية، وتعويض المواطنين على شكل حصص في المناطق التنظيمية.

قد يكون صدور مراسيم بإحداث مناطق تنظيمية أمراً طبيعياً في بلد لا يشهد حرباً ونزوحاً جماعياً، وصراعات بين احتلالات متعددة، لكن النظام السوري يستغل غياب أكثر من ثمانية ملايين من السوريين المهجّرين في الخارج، وأغلبهم في تركيا وألمانيا، وهم من سكان المناطق التي دمّرها النظام، وهي التي ستستهدفها المراسيم التي تحدَّث عنها القانون 10، ومنهم مطلوبون للنظام، ومنهم مغيبون في السجون، وبالتالي هم محرومون من تسيير المعاملات في مؤسسات الدولة؛ حيث أعطى القانون مدة لا تزيد عن الشهرين لتثبيت الملكية، وهي غير كافية للمقيمين في الخارج، حيث تتطلب إجراءات الوكالة وقتاً طويلاً لتصديقها من السفارات والقنصليات، وكلفة مالية أيضاً، وسط تعقيدات مقصودة تفرضها الأجهزة الأمنية على تصديق الوكالات الخارجية.

في تركيا لا يمكن عمل الوكالة دون امتلاك الموكِّل جواز سفر، وتكاليف الوكالة تبلغ 150 ليرة تركية/ 36 دولار لحجز موعد لدى القنصلية السورية، بالإضافة إلى رسومٍ تصل إلى 125 دولاراً. أما استخراج جواز السفر لدى القنصلية فيكلف 425 دولاراً ويحتاج 3 أشهر، وإذا كان مستعجَلاً فيصدر خلال شهر واحد بكلفة 925 دولاراً، هذا لمن تجاوز عمره ال42 سنة! أما إذا كان عمر صاحب العلاقة بين 18-42 سنة فيتطلب منه إحضار دفتر خدمة العلم، أو شهادة تأدية الخدمة في حال إنهائها. وفي حال كان صاحب العلاقة مطلوباً فيمكنه عمل الطلب، لكن لا ضمانات لقبولها لدى الحكومة السورية في دمشق. وإجراء معاملة تسوية الوضع تتطلب موعداً مع القنصلية بقيمة 150 ليرة تركية/ 36 دولاراً، وانتظار الموافقة تتراوح بين 3-6 أشهر(1).

يتوجب على مالك العقارات المقيم في تركيا دفع كل تلك المبالغ لمحاولة تثبيت ملكيته لعقاره، وقد يعود الرد بالرفض. لكن هذه المبالغ بالنظر للعدد الكبير للاجئين، ستشكل مبالغ مهمة ستعود إلى خزينة حكومة النظام، وبالتالي قد تشكل لوحدها هدفاً يسهم في إنقاذ الوضع المتآكل لاقتصاد النظام، والذي باتت العائدات الضريبية المتزايدة باستمرار تشكّل مورده الأساسي. إن أي عملية بيع أو توكيل أو إثبات ملكية أو تسجيل العقار في مديرية المالية يحتاج إلى براءة ذمة مالية للمالك، وهي تشمل كل ما عليه من فواتير أو مخالفات سير أو ضرائب لم يقم بتسديدها.

وفي ألمانيا لا يستطيع اللاجئ السوري دخول السفارة السورية، لأنه سيُعدُّ بنظر الحكومة الألمانية غير مطلوب للنظام، وبالتالي قد يتوجب عليه العودة (2). وحسب المجلس النرويجي للاجئين فإن 70 بالمئة من اللاجئين يفتقرون إلى وثائق التعريف الأساسية.

المشكلة في القانون 10 ليست في توقيته فقط، بل في تفاصيله أيضاً. يمكن وصف القانون بأنه فوقي، فالمخططات التنظيمية تُفرض من السلطات العليا، عبر اقتراح وزارة الإدارة المحلية والبيئة في الحكومة المعينة من قبل الرئيس، حسب المادة الأولى منه (3)، ولا دور للمجالس المحلية فيه أو مديريات الخدمات الفنية وقراراتها المتعلقة بأسس التخطيط العمراني. وهذا بعكس ما كان معمولاً به سابقاً؛ فقد كان المجلس المحلي المنتخب من الأهالي، باعتباره أعلى سلطة، هو من يقوم باقتراح تعديل مخطط تنظيمي للمنطقة، وغالباً بسبب الحاجة إلى توسيعها. وكان يُعرض المخطط على أهالي المنطقة للاطلاع عليه، ويتاح لهم تقديم اعتراضاتهم للجنة مؤلفة من 11 عضواً من عدة وزارات وإدارات لدراسة الطعون؛ والقانون لم يلحظ هذه اللجنة كليةً. وبالتالي هو ليس في مصلحة السكان، وسيتضرر منه المؤيدون أيضاً.

المادة 22/12 من القانون تحوّل المالكين الأصليين المستقلين في السجل العقاري إلى مالكين لحصص سهمية تنظيمية شائعة؛ و حسب المادة 29/17، عليه إما التخصص بمقاسم، أو أن يكون جزءاً من شركة مساهمة بصفة شريك على الشيوع، وفي حال الرفض تقوم الوحدة الإدارية، ببيع أسهمه في المزاد العلني، والمستفيد طبعاً سيكون شركات مختصة اعتبارية، مجهولة حتى الآن.

القانون تعامل مع الملكية على أساس الملكية الثابتة في السجل العقاري (4)، والواقع أن الكثير من الأملاك، تقع في مناطق المخالفات، حيث تراكَمَ تقاعس الحكومة لسنوات عن تنظيمها عقارياً، ولا تتعدى الوثائق الموجودة لدى المالكين عقوداً شخصية أو إيصالات اشتراك بالكهرباء والماء، أو وثيقة “وضع يد”، ما يصعّب عملية إثبات الملكية.

المادة 21/11 من القانون تتيح اقتطاع ملكيات خاصة من أجل المنفعة العامة دون تعويض مالي، وهذا مخالف للدستور السوري الذي ينصّ على تعويض مالي عادل في حال انتزاع ملكيات فردية للمصلحة العامة (5).

المرسوم 66 لعام 2012 كان يستهدف منطقتي بساتين الرازي وتنظيم كفرسوسة، ضمن ما سمّيَ “ماروتا ستي”، وتتحدث الحكومة عن مشروع مشابه في بابا عمرو بحمص، وفي حلب الشرقية. أما داريا، التي لم يُسمح بتاتاً بعودة السكان إليها، فالاقتراحات تقول بمشاريع أبراج، وبضمها إلى محافظة دمشق. في حين أن الترجيحات في مجلس محافظة دمشق  تقترح أنّ عمليات تجهيز مدخل العاصمة ستبدأ بالقابون وحي تشرين (6).

هذا القانون وما سبقه من مراسيم يفتح الأبواب أمام اللصوص، ممن دعموا النظام، لاستملاك عقارات السوريين؛ فهو يتيح دخول شركات تطويرعقاري، وشركات مساهمة مغفلة، دون أي ذكر لطبيعة هذه الشركات المجهولة وجنسياتها، والتي ستملك حصصاً ونسباً ومقاسم عن التنظيم، وتؤسس كيانها داخل هذه المناطق التنفيذية، بحجة تنفيذ المرافق العامة والبنى التحتية.

وقد تشهد الأشهر القادمة صراعات بين الحليفين الروسي والإيراني حول حصص كلّ طرف، مع توقعات بتراجع نصيب الطرف الإيراني بعد القرار الأمريكي الإسرائيلي الأخير بإخراجها من سوريا. فالنظام هدفه الانتقام من معارضيه، وروسيا تريد ضرب التجانس الشعبي في المناطق التي ثارت، حتى لا تتمكن من تجديد الاعتراضات على ما ستفرضه من سياسات تفقيرية مستقبلاً، وإيران تتطلع إلى مخيم اليرموك المحاذي لمنطقة السيدة زينب، بعد السيطرة عليه، لتوسيع السياحة الدينية، وهي تريد زيادة نفوذها في سورية عبر البوابة الطائفية.

الحكومة الألمانية عبّرت عن استيائها من القانون، ووصفته “بالغدر”. فألمانيا أكثر القلقين من تلك الإجراءات التي ستقلل فرص عودة المهاجرين، خاصة أنها تدرس إعادة 200 ألف لاجئ سوري كخطوة أولى.

الأمم المتحدة، التي لم تتخذ أي خطوات لإيقاف المجازر ضد الشعب السوري، مازالت تعترف بالنظام الذي يشغل مقعداً لديها، ويصدر المراسيم والقوانين في مناطق وجوده، وبالتالي هي تعترف بشرعيته. رغم ذلك يرى بعض الحقوقيين المعارضين أنّ أي خطوات يقوم بها مواطنون سوريون، لإثبات ملكيتهم، ستعني الاعتراف بشرعية القانون، وأنّه من الأفضل التحرك والقيام بحملات قانونية ودولية وحقوقية وشعبية ضد هذه القوانين (7). فبموجب القانون الدولي، حق السكان في السكن الملائم خاضع للحماية، وهذا يجب أن يشمل ضمانات الحماية من الإخلاء القسري (8).

الموقف الرسمي للنظام يدافع عن القانون في وجه الحملات والانتقادات التي تشن ضده، وأن هدفه المساعدة في إعادة تنظيم المناطق المدمرة والمناطق العشوائية، وأن ذلك سيكون عبر الإدارة المحلية المنتخبة في تلك المناطق، حسب تصريح الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة مع جريدة “كاثيمرني” اليونانية. في حين أن إعلام النظام ينفي ما يقال عن مصادرة أملاك المعارضين. وهذه المصادرة تمت بالفعل عبر المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012، والذي يمكن وزارة المالية من الاستيلاء على أصول وممتلكات الأشخاص الخاضعين لقانون مكافحة الإرهاب لعام 2012 ونقلها إلى الحكومة السورية. حيث يقدم قانون مكافحة الإرهاب تفسيراً فضفاضاً للإرهاب، ويجرم عدداً كبيراً من السوريين دون محاكمة عادلة.

والمفارقة أن أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني، زعيم تنظيم القاعدة في سورية، ما زال يملك منزلاً في المزة بدمشق، وبقالة والده هناك أيضاً (9). ما يعني أن قانون مكافحة الإرهاب الذي شمل معارضين سلميين ونشطاء رأي، لا يشمله!

المراجع

  1. حسب مقالة للكاتب قصي عبد الباري في موقع اقتصاد.

https://www.eqtsad.net/news/article/19667/

  1. حسب تصريح لأحمد كاظم الهنداوي مسؤول الهجرة واللجوء في أوروبا لدى المنظمة العربية لحقوق الإنسان، لموقع اقتصاد في الرابط السابق.
  2. نص المرسوم حسب ما نشر في وكالة سانا السورية للأنباء.

https://www.sana.sy/?p=733959

  1. حسب تقرير لهيومان رايتس ووتش، فإن 50 بالمئة فقط من العقارات مسجلة رسمياً حتى قبل الحرب.
  2. حسب تحقيق لجريدة عنب بلدي السورية
  3. أعلن وزير الإدارة المحلية التابعة للحكومة السورية، حسين خلوف، عن إعداد دراسات لتنظيم بعض المناطق في المحافظات بموجب القانون الجديد، منها مدخل دمشق من مبنى البانوراما حتى ضاحية حرستا. وتدرس محافظة دمشق إدراج المنطقة الصناعية في القابون إضافة لكل من جوبر والتضامن والمزة 86 لإعادة تنظيمها ضمن القانون 10.
  4. حسب تصريح الهنداوي لموقع اقتصاد المذكور أعلاه: “ضرورة عدم الانجرار وراء القانون الصادر من جانب النظام، ذلك سيعطيه شرعية. بقاء الأسد يعني عدم استرجاع أي من الحقوق المسلوبة”.
  5. حسب التقرير السابق ذكره لهيومن رايتس ووتش.
  6. حسب ما ورد في مقالة لفراس الشوفي في جريدة الأخبار اللبنانية، للبرهان على أن النظام لا يصادر عقارات معارضيه.
1 عندما كنتُ في جوف الوحش في مدينة الرقة

1 عندما كنتُ في جوف الوحش في مدينة الرقة

يقدم صالون سوريا هذه القصة على جزئين. حوار مع شمة، امرأة عاشت الأجواء الداخلية لداعش ونقلت شهادة عينية عن حياة نساء داعش. أجري الكاتب الحوار مع شمة في عدة أمكنة متفرقة واستكمل قسماً منه عن طريق السكايب.


الجزء الأول

بصعوبة تشق السيارة طريقها في طريق زراعي ضيق جداً امتلأت حفره بماء المطر، محملة دواليب السيارة بوحله. هنا قاطع السائق تأملاتي: وصلنا!

ثلاث خيم يغطيها بلاستيك أزرق تحت شحوب سماء تشرين الثاني، تحيط بها وعلى مد النظر حقولٌ واسعةٌ من القطن والذرة الصفراء في سهل حرَّان، جنوبي ولاية شانلي أورفة التركية، التي لا تبعد أكثر من 30 كماً عن الحدود السورية.

التف جمهرة من الصبية والفتيات الصغيرات حول عجوز تجلس على كرسي على باب الخيمة الأولى تسند يدها إلى ذقنها، تقبض بها على عصاة تساعدها على المشي على ما يبدو. حفر الدهر على وجهها أخاديد عميقة توحي ملامحها بقصص الساحرات، فيما تغطي عينيها نظارة طبية سميكة. بادرتني بالحديث عندما رأت دفتري “أنتم جماعة المعينة*! يابا والله ما جعد نشوف منهم شي”*. لا خالتي أنا أتيت إلى هنا عندي موعد مع “أبو شمة”. لوت شفتيها الغائرتين داخل فمها لعدم وجود الأسنان متبرمة غير راضية، وأشارت بظهر يدها: آخر خيمة “أبو دحام… صار أبو شمة.. زماااان”؛ بربرت بكلمات أخرى لم أفهم جلها.

زفني الأطفال وأنا أكاد أتعثر بالصغار منهم وهم يتدحرجون بجزمات بلاستيكية ذات ساق، على شورتات لا تتناسب والطقس البارد، بحيث سبقوني جميعاً واصطفوا أمام باب الخيمة تاركين لي مجالاً للدخول. أنوفهم محمرة يتقاطر منها المخاط على أكمامهم وهم يحاولون مسحه، وينقلون أنظارهم بين داخل عمق الخيمة وبيني.

ناديت بصوت عال كعادة أهل الرقة: “أهل البيت.. يا أهل البيت!” فجاءني صوت واهن ضعيف من عمق الخيمة “فوت.. تفضل ما بي حدا.. فوت.. فوت.”

الوحل متراكم من آثار الدخول والخروج على مدخل الخيمة. انحنيت داخلاً خيمة طولها ربما ستة أمتار بعرض ثلاثة، تفوح منها رائحة “العصفير”*، ورائحة أعقاب سكائر نتنة نتجت عن إحكام إغلاق الخيمة. جاءني من عمقها بعد قليل صوت واهن: “تعال هين بجنبي”*. مد يده من تحت دثار مكون من أغطية “هي عبارة عن ملابس بالية خيطت مع بعضها وألبست قماشة واسعة كوجه لها”، وبطانيات عليها أسماء المنظمات الداعمة. مد يده مسلماً، فأخذت يده بكلتا يديَّ، يده التي لم تكن إلا عبارة عن عظام يغطيها جلد وعروق. كانت عروق اليد نافرة وواضحة بحيث يمكن أن تتبعها إلى القلب. جرني وأجلسني إلى جانبه.

يقول أبو شمة أنه في بداية الستين، وكان يعمل حارساً في معمل تجفيف الذرة الصفراء التابع للمؤسسة العامة للأعلاف في الرقة. انقطع راتبه عام 2012 إثر تقرير اتهم فيه بالمشاركة في اعتصام للأهالي بتاريخ 25 حزيران 2012 أمام المحكمة في الرقة، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين لدى فروع الأمن في الرقة. يشرح: مروري كان بالمصادفة، عندما رأيت امرأة من أقاربي، فوقفت أستفهم منها ما الموضوع، ويبدو “أن أحدهم عباني”*. بعد يومين اعتقلت لمدة 17 يوماً، لأخرج وقد تم فصلي من الوظيفة. عندي أربعة أبناء، وثلاث بنات، ونسكن حي شمال السكة، أكبر عشوائيات الرقة، والمحاذية تماماً لمقر الفرقة العسكرية 17 شمال المدينة.

ابني الأكبر متزوج ويعيش في لبنان منذ عشر سنوات، ولحقه في بداية الثورة أحد أخويه، وإحدى أختيه المتزوجتين، بينما رفض أخوه وأخته الآخران المتزوجان، وكذلك البنت والابن غير المتزوجين الخروج من الرقة. شمّة هي الوحيدة التي بقيت عندي في البيت، وكانت تعمل ممرضة. أمّا حسان، العازب الأخير من الأبناء، فيعمل في محل تصليح دواليب خاص به.

آخر نزوح لنا كان منذ أربعة أشهر إلى تركيا. وها نحن نعيش هنا، 19 شخصاً ما بين صغير وكبير، بمن فيهم ابني وابنتي المتزوجين وعائلاتهم.

“شوف! آني مو شبيح”*، بس لازم نسمي كل شي باسمو، السيطرة الفعلية للفصائل على الرقة بعد 4 آذار 2013 كانت لجبهة النصرة وأحرار الشام. بس، والباقي فراطه*، وهذول… تنهد وصمت طويلاً.. دفع لي بعلبة دخان معدنية دخانها يلف باليد: تعرف تلف، فهززت رأسي أن لا. ساعدته لكي ينهض قليلاً. الملعون تمكن من كل مكان بجسمي. والملعون هذا “زاد”* ما أقدر أتركه. الملعون الأول هو السرطان الذي غزا معظم جسمه، والملعون الثاني الدخان.

بيتي بجانب معمل تجفيف الذرة الصفراء، وهو أكبر معمل تجفيف في في سوريا. جاء أحرار الشام وهجرونا من بيوتنا بحجة أنهم سيضربون الفرقة 17، وأنهم قلقون علينا. هجروا أغلب العالم من  بيوتها، لكنني رفضت. بدي أموت هنا. عند المساء، تم البدء بنهب 35 ألف طن ذرة مجففة، ولم يحاربوا الفرقة.

أنا لم آتِ من أجل أحرار الشام والنصرة، أو حتى الجيش الحر. قلت له: فهذه الصفحة ستفتح بعد انتصار الثورة.

أدري.. أدري.. أنتم زاد* ضحك عليكم بشار… مو بس عليكم، عالدنيا كلها، تركها تتلهى بداعش، وهو قام يسرح ويمرح بكيفو*. جاب إيران وحزب الله والعراقيين، يا رجال حتى الأفغان والروس، وضحك عليكم. داعش.. داعش.. داعش سوت.. داعش عملت.. داعش ذبحت… لو أن العالم داعم الجيش الحر كان سواهم صندويشات.. منو جابهم، جابهم النظام.. منو سواهم، سواهم النظام.. والعالم مطرقعين* وراه.. ما شافم* الكيماوي.. ما شافم السجون واللي يصير بيها.. ما شافم البراميل.. ما شافم الجوع والحصار.

أنهكه الكلام والسعال.. التفت إلي قائلاً: إذا تشرب شاي قوم وحط الإبريق على الغاز.. أووووووه! نسيت، قصدي عالنار. ما رح حدا يجي قبل 5 المسا، كلهم بالشغل يحوشون قطن*، إش* بدنا نسوي، بدنا نعيش. شكرت كرم ضيافته، ولكنه أحرجني: يابا لا تشوف حالنا هين، الله وكيلك هناك عندنا بيت ونظيف، واحنا والله نظاف من الداخل والخارج، لا تشوف حالنا هيك يلعن أبو الظروف اللي (…).

لا، لا، ياعم، والله بس مو مشتهي الشاي حالياً. لا تكذب “قالها مموناً نفسه عليَّ “ما بي مدخن ما يشتهي الشاي، أو القهوة.” دلني الأولاد على مكان إشعال النار، ومكان الشاي.

وفي الخامسة مساء من الشهر الثاني من فصل “الصفري* 2015″، حسب التوقيت المحلي للمخيم.

جمهرة نساء وأطفال شباب ورجال هدهم التعب بعد يوم عمل يمتد من الخامسة صباحاً حتى الخامسة مساء في قطاف القطن. يعتمد النظام الزراعي التركي على المكننة في قطاف القطن، ولكن مع توفر العمالة الزراعية السورية الماهرة والخبيرة، ورخص أجورها، اعتمدت بدل المكننة لنظافة قطاف القطن، وعدم خلطه مع الأوراق الجافة، والعيدان، مما يعطي منتجاً من الخيوط، وبالتالي يكون النسيج ذا مواصفات عالية.

أشعلت نيران المخيم وتحلق حولها كل الموجودين، المهمة الأول العجن والخبز ثم الطبخ، ومن ثم تسخين الماء للغسيل والحمام لمن يرغب.

يحمل الأطفال العيدان غير مكتملة الاحتراق وفي رأسها جمرة يرسمون بها أشكالاً عبر تحريك أيديهم بسرعة على شكل دوائر: هذا صاروخ.. لا شوف طيارتي.. هذا دوشكا.. شوووووفو عندي الآربجي.. أنا داعش بدي أذبحكم.. مام حرقني.. الله لا يوفقك هيج حرقت بيجمتك.. بعد عن الدخان… ليش حرقت جزمتك.. أنتم شياطين ما تنامون.. نوم الظالم عبادة.. ولكنهم لا ينامون. إنهم في انتظار العرانيس “أكواز الذرة” التي دمسوها في النار.

يتلفن لي السائق فيصمت الجميع على رنة الموبايل.. بلهجة عرب أورفة “أصوبك ياو… أجيك خلصت شغلك؟ لا ما خلصت بس تعال خذني، بكرا نرجع مرة ثانية، ولكن الجميع أصر أن أنام عندهم. والله! عندنا بطانيات نظيفة. حتى الأطفال قالوا: خليك عندنا أمانة.. أمانة .. يا جماعة والله ما بدي أضيق عليكم، وشرف لي أن أنام عندكم. نادى أبو شمة من داخل الخيمة بصوت قوي تعالى به على مرضه، ما تروح يعني ما تروح. رح تنام جنبي خليني أخلص من شخير أم شمة. تحول الجو إلى مرح ومونولوج تعليقات بين أم شمة وزوجها، وانقسم الجمع فريقين بين مؤيد لها، أو له.

انتقلت وأغلب الحاضرين إلى خيمة أبو شمة، حيث الحديث في الشأن العام والبلد والحرب والسياسة اللجوء بتركيا وأوروبا. الفساد في المعارضة  والنظام.. تشتت الفصائل.. المنظمات الإغاثية ونهبها على اسم اللاجئين، سعر كيلو قطاف القطن، وهكذا.

بطارية السيارة التي تنير الخيمة تبدأ بالنفاد. هنا تتفاجأ بمستوى الوعي الذي يتمتع به هؤلاء البسطاء. كل هذا ونحن نتحلق حول النار الموضوعة بصاج الخبز*، وأغلبنا يحمل أعواداً نحرك بها الرماد لنستخرج بقايا الجمرات نلتمس دفئها الذي بدأ يخبو أيضاً.

انفض الجمع كل إلى خيمته. نباح كلب بعيد، وصفير الهواء خارج الخيمة. نام الجميع مباشرة، وكأنهم تخدروا، وبدأت سيمفونية الشخير، وما يصدر من النيام، حيث لا خصوصية هنا لأحد، حتى في العلاقات الحميمة للمتزوجين التي أعتقد أنهم يمارسونها خلسة في الحقول.

يبدأ الصباح كالمساء.. بالنار. وبداية قصتنا تبدأ من هنا.

شمة

شمة، سمراء فراتية في السابعة والعشرين، خريجة معهد التمريض في الرقة، ومارست عملها في المشفى الوطني صباحاً، وفي عيادات أطباء خاصة مساء، حتى قرر تنظيم داعش الاستغناء عن خدمات الممرضات والطبيبات الإناث، حارماً المئات منهن من دخل كان يساعدهن وعائلاتهن على مواجهة أعباء الحياة، دون أن يقدم التنظيم أي جهد للتعويض عليهن.

تعتذر شمة وأخوها خلدون من “شاويش الورشة”، رئيس الورشة، لأن عندهم ضيف الذي هو أنا.

تقول شمة: كانوا يستنجدون بنا فقط عندما يكون عدد الجرحى والقتلى كبيراً نتيجة قصف أو معركة، وكانت الأولوية دائماً لعناصر التنظيم في عمليات الإسعاف. وهناك رأيته.

كان واضحاً أنه مهم، من خلال اهتمام الجميع به. كانت إصابته سطحية، وأغلبها رضوض نتيجة طيرانه وسقوطه على الأرض إثر سقوط صاروخ بجانب سيارته في تدمر.

الكيمياء في هذه الحالات لا يمكن التحكم به، لم أنتبه لكيميائه بداية، فقد كنت مشغولة بعملي وخائفة منهم. ولكنني بحس الأنثى أحسست بنظراته تخترق تفاصيل جسدي. أصر أن أهتم بجراحه وحده.

أحببته، نعم أحببته! فلم يبقَ من شباب الرقة أحد، بعد أن هاجر قسم منهم، وشرد قسماً منهم النظام، ومن بقي شردتهم داعش. عمري كان ستة وعشرين سنة. وفي عرف أهل مدينتنا، أصبحت من العوانس. وفي ظل هذه الظروف، لابد للأنثى من رجل يحميها. أنا لا أدافع عن قراري بحبي له “يقولون لك الحرة لا ترضع من ثدييها”، ويقولون الحرة لا تزني”. نعم، ولكن ما الذي دعم ذلك؟

اكتشفت لاحقاً أنه ليس خطأ وحسب، بل كفر، وعلى رأي الدواعش هو كفر بواح، ولكن قل لي بالله عليك عندما وضعنا نحن والضباع في قفص واحد، وقالوا لنا احذرن الضباع لكي لا تأكلكن، ماذا قدم العالم لصمودنا في وجه الضباع، وأغلب من بقي في الرقة هم نساء وأطفال ومن كبار السن.

بعض الأوروبيات من مقطع فيديو لا يتجاوز الدقيقة والدقيقتين يفتن بالتنظيم  ويقطعن آلاف الكيلومترات للالتحاق بهذا الطويل الفارع الذي يحكي لثامه قصة غموض ومغامرة، فما المطلوب منا ونحن نعيش معهم ليس لدقائق وساعات، بل لأيام طوال “كل يوم بطول سنة الجوع”*، وربما لسنين. أعرف أن هذ الكلام لا يعجب الكثيرين، لكن هذا منطق الأمر.

تزوجته “…”، بداية كان عاشقاً، ويعرف كيف يدلل الأنثى، يعرف كيف يقول كلام الحب، أي والله، ويحفظ نزار قباني، وشاعراً فرنسياً. تعرف؟ حتى على الموصل أخذني.

لم يدم هذا طويلاً، ربما لشهر، ثم منعني بداية من زيارة أهلي، وحول البيت إلى سجن. التلفزيون ممنوع، النت ممنوع، رغم أنه متوفر في بيتنا. الواتساب، وكل وسائل الاتصال، ممنوعة. فقط كميات كبيرة من الحبوب، وبحكم خبرتي وعملي عرفتها مباشرة “كابتكون”. عندما سألته عنها قال هي أدوية للمجاهدين. كان عنده عشرات آلاف منها، عثرت عليها مصادفة وأنا أنظف سقيفة البيت. وهناك في تلك السقيفة عثرت على تسليتي التي أبقيتها سراً عليه. ذكريات أهل البيت الأساسيين، حيث كان لأحد نشطاء الثورة قبل أن يستولي عليه “محمود عقارات”، أمير ديوان العقارات لصالح التنظيم.

في السقيفة، عثرت على صور عرس، صور أطفال، سجلات مدرسية، شهادات جامعية، منشورات من بداية الثورة تحض على التظاهر، وسندات ملكية لأراض وبيوت لأسماء تتشابه الكنية فيها، وألعاب أطفال، وبنطال جينز عليه بقع دم، دفاتر مدرسية لبداية تعلم الكتابة، مرحات، شهادات تفوق. في هذه السقيفة، عشت حياة العائلة بكل تفاصيلها، وفي هذه السقيفة تعرفت على الثورة في خطواتها الأولى، وفيها عرفت كذب الدواعش عندما كفروا هؤلاء الشباب واستولوا على بيوتهم، وفيها عرفت أي منزلق أدخلت نفسي فيه. بدأت أرتب ذكريات تلك العائلة، وأرتب نفسي، عندما بات يأكلني الإحساس بالخجل، خجلة أنا منهم، من ذكرياتهم، من ألعاب أطفالهم، من صور أعراسهم. خجلة أنا منهم ومن نفسي.

تغيرت معاملته معي عندما اكتشفت أنه متزوج ثلاث نساء أخريات، آخرهن “سبية” يزيدية اشتراها من الموصل، وزوجته التونسية الأم لأطفال ثلاثة، وأخرى لم أرها، ولكن زوجتيه الأخريين اللتين جاء بهما إلى بيتي مرة واحدة قالتا إنها تونسية فرنسية.

عندما تغوص في مجتمعهم تكتشف حجم الكذب، تكتشف أن لا دين ولا مبدأ لهم. وبالنسبة لنساء التنظيم، هنالك مافيا تديرها “أم سياف”. تصدق بالله العظيم تشبه إدارة عمليات الدعارة، فما أن يموت الزوج حتى تسارع أم سياف إلى ما يشبه البيع إلى شخص آخر من التنظيم، غير مراعية حتى للعدة الشرعية، أو رأي الأرملة، فجميع من تزوجن عناصر من التنظيم ربطن حياتهن ومصيرهن بهذا التنظيم. سبعة أشهر قضيتها معه قبل أن تقضي عليه طائرات التحالف في مدينة الطبقة غربي الرقة المدينة 50 كم، عرفت ذلك عندما اقتحم عليّ البيت عناصر ملثمون من المكتب الأمني، ترافقهم ثلاث مقاتلات من كتيبة الخنساء، فجمعوا بهدوء وبدقة كل متعلقات زوجي، ثيابه وكل النقود إضافة إلى مجوهراتي وحليي، فقط لباسي تركوه، وعندما انتهوا قالوا لي إن زوجي قد “استشهد”.

اعتقدت أني تحررت عندما مات، ولكن ككل نساء التنظيم جاءت أم “منتصر الجزراويه” التي استلمت المهمة بعد أن خطف الأمريكان “أم سياف” من حقل العمر إثر مقتل زوجها، جاءت تعرض علي الزواج من “أبو عمر الحمصي”، المسؤول عن تجهيز كل السيارات المفخخة، قالتها بفخر، وكأنها ميزة تميزه. قالت ذلك في محاولة لإقناعي، وكنت أعرفه لأنه كان يزور زوجي، ولكنه أخرس أبكم. قالت: ولك أحسنلك.. ترتاحي من كلامه وأوامره.. وهذيك الشغلة ما بدها حكي.

طلبتُ مهلة للتفكير، وأبديت حزني على زوجي الأول، فاقتنعت وأمهلتني أسبوعين، رتبت خلالها ذكريات العائلة التي كان زوجي الأول يحتل بيتهم باسم التنظيم، وقمت بوضعها في مغلفات وكأنها لعائلتي، واتفقت مع أخي على هجر البلد إلى تركيا.

وهنا، تواصلت مع من بقي من تلك العائلة التي تشرد أفرادها في ثلاث دول. طلبت منهم أن يسامحوني من قلوبهم، كما طلبت السماح من آخرين، ولو أنني لم أسامح نفسي.

كان البنطال لأحد شباب العائلة ممن استشهدوا في مجزرة الساعة التي ارتكبها النظام قبل تحرير الرقة.

هيئة تحرير الشام، وحرب المعابر التجارية

هيئة تحرير الشام، وحرب المعابر التجارية

في دراسة عن التجارة البينية داخل سوريا في زمن الحرب، أَعدّها سمير عيطة وشاركتُه التقصّي عن بعض جوانبها، كان من الواضح حجم التبادل التجاري والنقل البيني بين مناطق النفوذ والسيطرة في الداخل السوري، بالإضافة إلى الواردات التركية الضخمة التي أغرقت الشمال السوري عبر معبر “باب الهوى” الحدودي، سواء تلك التي تدخل بقصد التجارة، أو عبر طريق المنظمات الإغاثية التي تتخذ من تركيا مقراً لها، حتى أن المنتجات التركية تصل بيسر وسهولة إلى كافة مناطق سيطرة النظام السوري كما لاحظنا في مدن حلب وحماه وحمص ودمشق والساحل. كما تصل  هذه الواردات إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، بينما تأتي مواد البنزين والمازوت، وأسطوانات الغاز، بوفرة ودون انقطاع من مناطق النظام إلى مناطق سيطرة المعارضة ومناطق سيطرة “قسد” أيضاً، بالإضافة إلى بعض المواد التموينية والملابس، وفي المقابل يتم نقل القمح والكثير من المنتجات الزراعية بالإضافة إلى اللحوم والحليب من مناطق المعارضة إلى مناطق سيطرة النظام بكل سلاسة.

هذه التجارة البينية، تتم عبر “معابِر” معروفة، يشرف عليها من كلا الجانبين، خصوم الحرب، يأخذون عليها “أتاوة” العبور بما يضمن بقاؤُهم مع استمرار الحرب. ولكي نستوضح الأمر أكثر، يكفي أن نعلم بأن معبراً صغيراً في بلدة “مورك” الواقعة في ريف حماة الشمالي، يدرّ على القائمين عليه ما قيمته ٣٠ – ٥٠ ألف دولار يومياً، فما بالك بمعبر “باب الهوى” الحدودي مع الدولة التركية، إذا علمنا بأن صادرات تركيا إلى سوريا بلغت عام ٢٠١٧ أعلى معدلاتها مقارنة بما قبل عام ٢٠١١.

منذ بداية تشكيلها، سعت أغلب فصائل المعارضة السورية المسلحة للبحث عن مصدر تمويلٍ خاص بها بعيداً عن إرادة الممول، فمن بيع السلاح المُستولَى عليه من المعارك ومن ثكنات الجيش السوري، إلى سرقة الآثار والإتجار بها، وطلب فديةٍ مقابل إطلاق سراح بعض المختطفين، إلى الاستيلاء على آبار النفط (داعش وقوات قسد) وتوزيعه بعد تكريره بشكل بدائي، ليصل إلى كافة المناطق السورية بما فيها مناطق النظام، وأخيراً المعابر التجارية، التي تبيّن بأنّ دخلها المادي جيّد ومُستدام، وخاصّة بعد اتفاقيات “خفض التصعيد الأخيرة”، مع حرص أربابها – من كلا الجانبين – على إبقاء الوضع على ما هو عليه.

إنّ وصول بعض الجهات الراديكالية إلى التمويل الذاتي يُشكّل خطراً أكبر على مستقبل سوريا والمنطقة، من تحرّرها عن أجندة المُموّل الخارجي، لأنّ ذلك يُمكّنها من العمل لأجل تحقيق مشروعها الخاص، كما لاحظنا عند تنظيم داعش (الدولة الإسلامية)، فما إن تمكّن هذا التنظيم المتطرف من السيطرة على مدينة الموصل في العراق في العاشر من حزيران ٢٠١٤، ووضع يده على الأموال المُودَعة في فروع مصارفها، ليستولي بعدها بأيام قليلة على أكبر حقول النفط في العراق وسوريا (٧ حقول للنفط ومصفاتين في شمال العراق، و٦ حقول نفط، من أصل ١٠ في سوريا متواجدة جميعها في محافظتي الحسكة ودير الزور)، حتى أعلن في ٢٩ حزيران ٢٠١٤ عن قيام دولة خلافته “دولة الإسلام في العراق والشام” وعاصمتها مدينة الرقة السورية. ليبدأ محطة جديدة من الإرهاب المحلي والعالمي، وما تبعه من تدخل عسكري خارجي لا زال يهدد وحدة الأراضي السورية حتى الآن، على الرغم من القضاء على التنظيم الإرهابي عسكرياً.

أما تنظيم “جبهة النصرة” فلم يَنعَم بالنفط السوري كثيراً سواء من محافظة الحسكة، حيث استطاعت وحدات “حماية الشعب الكردي” إخراجه من هناك في نهاية عام ٢٠١٣، أو من محافظة دير الزور، حين أخرجه تنظيم داعش منها قُبَيل أيام من إعلان دولة خلافته. وبالتالي تقهقرت جبهة النصرة باتجاه محافظة إدلب وبقي تمويلها كغيرها من باقي الفصائل المعارضة مع ميزاتٍ إضافية تتعلق بخبرة التنظيم والقتال بسبب وجود قادة متمرسين من تنظيم القاعدة الأم وعدد منتسبين وحلفاء جعلت منها القوة الأكبر في محافظة إدلب ومحيطها، ناهيك عن ارتباطها المشبوه بالأموال والمخابرات القطرية ومن هم في حلفها منذ بداية نشأتها.

حالياً، وبعد أن وصل تنظيم جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حالياً) إلى هذه المرحلة المتقدمة في الوضع السوري بعد غربلة الكثير من الفصائل المعارضة ومع وجود اتفاقيات “خفض التصعيد” التي أدّت إلى تثبيت الجبهات خاصة في محافظة إدلب ومحيطها، تفرّغت هيئة تحرير الشام وبقية الفصائل للتناحر فيما بينها من أجل السيطرة على المعابر التجارية والصراع على مصدر الدخل الأكبر المتاح حالياً. ويكفي  تسليط الضوء على بعض ما جرى مؤخراً في محافظة إدلب وريف حلب الغربي للوقوف على أهمية المعابر كمصدرٍ لاقتصاد الحرب.

في ١٨ تموز ٢٠١٧ قامت “هيئة تحرير الشام” ومن معها بمحاصرة معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا، وذلك بعد سيطرتها منفردةً على مدينة إدلب ومعظم بلدات الشمال السوري في المحافظة (أكثر من ٣٠ بلدة وقرية كانت تحت سيطرة أحرار الشام)، لتحاصر من بداخله من قيادات الصف الأول ومقاتلي “حركة أحرار الشام الإسلامية”. وبعد ثلاثة أيام من القتال والحصار، ومع قيام السلطات التركية بإغلاق المعبر من جهتها، اضطر قادة الحركة للجلوس والتفاوض مع الهيئة التي أصرّت على تَسَلُّم السلاح الثقيل والذخيرة مقابل وقف إطلاق النار، ثم إطلاق سراح المعتقلين لدى الطرفين، وانسحاب قادة وعناصر الحركة من المعبر وتسليمه إلى إدارة مدنية، بحسب ما جاء في بيان للحركة.

وهكذا أصبح معبر باب الهوى الحدودي – بتوافق مع الإدارة التركية – تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الفعلية، ولكن من خلف ستار إدارة مدنية. طبعاً لم يكتف زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني ومن معه بالسيطرة على معبر باب الهوى بعد إضعاف أحرار الشام وإبعادهم نحو الجنوب، بل سار إلى معبر أطمة وخربة الجوز، وزحف على مناطق ومستودعات الأحرار في ريف إدلب الشمالي تباعاً، ليصبح وحلفاؤه في الهيئة الجهة الأقوى في الشمال السوري، وبالتالي تفرّغ تماماً للسيطرة على المؤسسات المدنية وفرض “إدارته المدنية” ثم “حكومة الإنقاذ” مؤخراً.

في ١٢ تشرين الثاني ٢٠١٧ جرى الاتفاق بين هيئة تحرير الشام والنظام السوري لفتح “معبر بلدة مورِك” على طريق دمشق – حلب الدولي المقطوع منذ منتصف ٢٠١٤، ليصبح بعد ذلك أهم معبر تجاري (مخصص للحركة التجارية فقط) بين مناطق النظام والمعارضة. وجاءت عملية فتح الأوتوستراد من جهة بلدة مورِك عقب سيطرة “هيئة تحرير الشام” مطلع تشرين الأول ٢٠١٧ على قرية “أبو دالي” شمال شرقي حماة والتي كانت بمثابة معبر بين النظام والمعارضة وخط تهريب رئيسي بيد عشائر موالية للنظام، كما جاءت بعد إغلاق النظام لمعبر “باب المضيق” إثر استهداف فصائل المعارضة لمدينة السقيلبية (شمال غربي مدينة حماة) ونزوح أكثر من ٣٥ ألف نسمة منها.

خلال الأسابيع الأولى من بداية عام ٢٠١٨ قام الجيش السوري بحملة عسكرية ضخمة تستهدف المناطق الشرقية لمحافظة إدلب، استعاد خلالها عدداً كبيراً من البلدات والقرى التي كانت تحت سيطرة هيئة تحرير الشام وحلفائها. وعند محاولته التقدم غرباً باتجاه مدينتي سراقب ومعرة النعمان في وسط إدلب، بعد عمليات قصفٍ شديدة، تدخّل الجانب التركي بسرعة وزرع نقطة مراقبة (كما هو مقرر في اتفاقية خفض التصعيد الخاصة بمحافظة إدلب) في منطقة “تل العيس” ثم نقطة أخرى جنوباً في منطقة “تل طوقان” بالقرب من مطار “أبو الضهور” العسكري الذي أصبح تحت سيطرة الجيش السوري.  ومع إنشاء نقاط المراقبة التركية توقفت المعارك فجأة، وبعدها بأيامٍ غادرت قوات العقيد سهيل الحسن محافظة إدلب إلى تخوم الغوطة الشرقية، حيث كانت المعارك على أشدها بين فصائل المعارضة والنظام السوري على جبهة حرستا. أثناء ذلك اندمجت حركة أحرار الشام الإسلامية وحركة نور الدين الزنكي في فصيلٍ واحد تحت مسمى “جبهة تحرير سوريا”، وبعد أيام من الاندماج، تحديداً في ٢٠ شباط، شنّ الفصيل الجديد هجمات متفرقة على مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” في وسط وجنوب إدلب، كان نتيجتها سيطرة الجبهة على مواقع الهيئة في بلدة “ترملا” في ريف إدلب الجنوبي، وعلى مدينة “أريحا” وعدة بلدات صغيرة بعد انسحاب مقاتلي الهيئة منها. الأهم كانت سيطرة “جبهة تحرير سوريا” مع فصيل “جيش العزة” على إدارة معبر بلدة مورِك التجاري الهام، وبعد أقل من أسبوعين توقفت المعارك فجأة في محافظة إدلب، لتنقل الهيئة معركتها مباشرة إلى مناطق سيطرة الزنكي في ريف حلب الغربي مستهدفةً معبر قرية “العزاوية” الذي يصل ريف حلب الغربي مع مدينة عفرين، والتي أصبحت لاحقاً تحت سيطرة قوات “غصن الزيتون” المدعومة تركياً، مما يعني فتح الطريق بين ريف حلب الشمالي وإدلب دون المرور في الأراضي التركية.

استمرت المعارك الشرسة هناك في بلدة ”بسرطون“ ومحيطها شمال الأتارب لأكثر من شهرين، وخسرت فيها الهيئة الكثير من عناصرها وعتادها الثقيل، ويعود ذلك إلى تصدي الأهالي والكتائب المحلية لأرتال الهيئة، وتحصّن الزنكي في مناطقه المرتفعة في عنجارة وقبتان الجبل وجبل الشيخ بركات، ومن غير المستبعد أن يكون حصل على دعم ومؤازرة من قوات غصن الزيتون التي سيطرت على مدينة عفرين من خلفه.

في السابع من نيسان أُعلن عن التوصل الى هدنة بين “هيئة تحرير الشام“ و”جبهة تحرير سوريا“، على أن يستمر وقف إطلاق النار بين الطرفين بحسب الهدنة الموقعة أسبوعاً كاملاً ليتم بحث الملفات العالقة بين الطرفين. ولكن في منتصف نيسان وبعد انقضاء هدنة الأسبوع، سارعت الهيئة للانقضاض على مناطق سيطرة أحرار الشام في محافظة إدلب واندلعت الاشتباكات بين الطرفين على طول الطريق الدولي من مدينة معرة النعمان جنوب إدلب، حتى بلدة مورِك شمال محافظة حماة، مما أدى إلى قطع الطريق الدولي. واستطاعت هيئة تحرير الشام السيطرة على بلدة مورِك ومعبرها التجاري، وعلى مدينة خان شيخون والكثير من البلدات والقرى الواقعة جنوب إدلب، ومنها ”تلة العِيس“ التي يُتوقّع أن تكون معبراً تجارباً جديداً بين مناطق سيطرة النظام والمعارضة في محافظة إدلب. أثناء ذلك، استعادت حركة أحرار الشام القرى الواقعة على طول الأوتوستراد بين مدينة إدلب ومعبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، ربما في محاولة منها لاستعادة المعبر من سيطرة الهيئة.

لكن في ٢٤ نيسان توصلت “هيئة تحرير الشام” و”جبهة تحرير سوريا” بالاشتراك مع “ألوية صقور الشام” (حلفاء الجبهة في معاركها ضد الهيئة)، إلى اتفاقٍ يقضي بوقف إطلاق نار دائم بين الطرفين، وإطلاق سراح المعتقلين خلال جدول زمني، وفتح الطرقات، ورفع الحواجز، وتشكيل ”لجنة” من كليهما إلى جانب “لجنة الوساطة” لمتابعة تنفيذ الاتفاق، والعمل على بدء مشاورات موسعة ومستمرة للوصول إلى حل شامل على الصعيد ”العسكري، والسياسي، والإداري، والقضائي.”

لم يكن هذا الاتفاق هو الأول من نوعه بين الهيئة والأحرار، وربما لن يكون الأخير، فكم من الاتفاقات بينهما تم خرقها، وكم من المعارك تم خوضها. في حين تبقى محافظة إدلب والشمال السوري عموماً رهناً لسياسات دولية وإقليمية وتوازن قوى بين جيوش أمريكية، تركية وروسية في الداخل السوري. ومؤخراً دعت فرنسا – العائدة بقوة إلى التدخل المباشر في الملف السوري – على لسان وزير خارجيتها جان إيف لودريان إلى ” تقرير مصير إدلب من خلال عملية سياسية تتضمّن نزع سلاح الميليشيات” وذلك تجنباً لوقوع كارثة إنسانية في مدينة إدلب، والتي قد تكون الهدف التالي للنظام، كما جاء في كلامه.

يُذكر بأن محافظة إدلب تعتبر سجناً كبيراً، يقطنها حوالي مليوني نسمة، بينهم عشرات الآلاف من السوريين الذين تمّ إجلاؤهم من مناطق استعادها النظام السوري، وهي مغلقة تماماً أمام عبور المواطنين السوريين من خلال أبراج مراقبة ودوريات لقوات حدودية تركية، وجدار اسمنتي أنهت بناؤه الحكومة التركية في نهاية عام ٢٠١٧ ويمتد على طول الحدود بين تركيا وسوريا، ويُعَد ثالث أطول جدار حدودي في العالم بطول ٦٨٨ كم، بعد سور الصين العظيم والجدار الفاصل بين المكسيك وأمريكا. بالإضافة إلى معارك الفصائل وقتالها فيما بينها، ما زال قصف طيران النظام السوري وبراميله المتفجرة مستمراً – رغم اتفاقية خفض التصعيد – بحجة تواجد عناصر جبهة النصرة هناك.

لماذا سوريا خارج تصنيف جودة التعليم العالمي؟

لماذا سوريا خارج تصنيف جودة التعليم العالمي؟

في سنغافورة التي بلغت نسبة الأمية فيها أكثر من 60 بالمئة سبعينيات القرن الماضي أصبحت الآن تضاهي في تقدمها العلمي والاجتماعي نظيراتها في العالم الغربي. لقد تنبهت حكوماتها المتعاقبة لحقيقة أن التعليم عامل حاسم في تطوير الإنسان. ولعبت الحاجات الاقتصادية في سنغافورة دورًا هاماً في تحديد مسارات سياسات التعليم. وأطلقت مبادرة “مدارس التفكير، تعلُّم الأمة” قائمة على أربعة مبادئ: إعادة النظر في أجور المعلمين, إعطاء مدراء المدارس مزيداً من الاستقلالية، استحداث التميز المدرسي، إشراف موجهين مختصون في استحداث برامج جديدة. حالياً سنغافورة حاضرة معروفة على مستوى العالم, واحتلت المركز الأول في مؤشر جودة التعليم العالمي للعام الدراسي الحالي.

شمل مؤشر جودة التعليم العالمي الذي صدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) لعام الدراسي 2017-2018، حوالي 140 دولة. يرتب هذا المؤشر دول العالم وفق 12 معياراً رئيسياً وحوالي 40 معياراً فرعياً. هذه المعايير معايير دقيقة ومحددة بأسس علمية وتربوية وتعليمية رصينة، وهي ذات أهمية كبيرة، إذ أنها تُقدم معلومات تفصيلية ودقيقة عن واقع سير العملية التعليمية في البلدان التي يغطيها المؤشر، وتشمل: المؤسسات، البنية التحتية، الصحة والتعليم الأساسي، التعليم الجامعي والتدريب، بيئة الاقتصاد الكلي، كفاءة سوق العمل، تطوير سوق المال، الجاهزية التكنولوجية، حجم السوق، الابتكار، تطور الأعمال، كفاءة أسواق السلع.

أظهرت بيانات هذا المؤشر للعام الدراسي الحالي نتائج صادمة، وطبعاً نتائج هذا المؤشر ليست الوحيدة، إذ إن هناك العديد من المؤشرات العالمية والدراسات التي تبين وللأسف أن الواقع التعليمي المحلي السوري غارق في المشاكل، لذلك من السخرية أن ننسب هذه الدراسات والمؤشرات ومنها مؤشر دافوس إلى نظرية المؤامرة التي عودنا عليها المطبلون في الإعلام السوري الرسمي. هذا واقع أليم وعلينا أن نكون جريئين في الاعتراف بحقيقة تدني مستوى التعليم في سوريا فالأرقام لاتكذب، ولا تتموه. وهناك من الدلائل الواضحة التي نراها في حياتنا اليومية يمكن أن تؤكد صحة هذه المؤشرات، مثلاً أعداد الطلاب الهائلة في الصف الواحد، التسيب المدرسي، الغش الممنهج في الامتحانات، سوية الحالة المادية والمعنوية المتدنية للمعلمين، الضعف التكنولوجي وغيرها الكثير من المسائل. ومن نتيجة هذا التردي قامت معظم الأسر السورية على حساب قوتها ورفاهيتها بمحاولة سد التراجع التعليمي في المدارس، بطرق متعددة أوسعها انتشاراً الاعتماد على الدروس الخصوصية التي أصبحت حالياً ثقافة أسروية سورية عامة وهذا مكمن خطرها.

وفيما تسعى دول العالم بكل طاقاتها لتحقيق أفضل عملية تعليمية، لم نرى من المؤسسات التعليمية التشريعية أو التنفيذية في سوريا سوى الطابع الاستعراضي من قبيل شعارات التطوير والتحديث، والتقوقع في ايديولوجيات متصحرة مازالت تهيمن على البرامج والخطط وفق نظرية الرأي الواحد، يقودها مختصون من لون سياسي واحد معظمهم من منظومة إدارية شديدة الفساد والبيروقراطية. إن الهدف ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻰ للتعليم ﻫﻮ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ وتقدمه، وليس ﺗﻔﺴﻴﺮ ﺃﻭ تطبيق الإيديولوجيا سواء كانت سياسية ام دينية، أو بناء المناهج وإنجازها وفق رؤية السلطة التي هي في سوريا تتبع حزب البعث، فالسلطة فانية أما الوطن فباق. النظام السياسي للاتحاد السوفياتي ذهب بينما المنهج التعليمي والعلمي لمؤسساته بقيت وحافظت من خلالها روسيا الحالية على تفوقها العسكري والفضائي ومجالات أخرى عديدة، أما في سوريا فالواقع  مزري ولم يتم النظر يوماً إلى التعليم كمحور من محاور التنمية. وفي الوقت الذي تُعتَبر دولة (عدوة) لسوريا كإسرائيل وزارة التعليم فيها على أنها واحدة من الوزارات الأربع السيادية، لم تنظر الحكومات البعثية المتعاقبة لأهمية هذه الوزارة، حتى أخصائيو التربية والتعليم المنوط بهم معالجة هذه المهمات، لم ينظروا بشكل جدي للمشاكل المتعددة الموجودة في النظام التعليمي المحلي.

والحقيقة أن المواطن السوري لم ير سوى أكذوبات التطوير والتحديث، إذ مازالت العملية التعليمية قائمة على الحفظ والتلقين لا على التفاعل والإبداع. فالعلم هو “طريقة وأسلوب للتفكير أكثر من مجرد كمية من المعلومات” على ما يقول المفكر كارل ساغان. والعلم حيادي ولا يمكن أدلجته، لكن في سوريا بدت المناهج مقيدة بالمنظور الإيديولوجي البعثي من جهة وبمفاهيم إخوانية إسلامية من جهة أخرى، فقد أدخلت وزارة التربية هذا العام ولأول مرة في تاريخ سوريا مادة “التربية الدينية” لطلاب الصف الأول الابتدائي، مع ملاحظة أن صورة الأم المحجبة تطغى على مناهج المرحلة الإبتدائية. حتى الكتب التعليمية العلمية لم تنج من هذه التأثيرات. مثلا في مادة العلوم للصف الثالث الثانوي العالمي نجد عبارة “سقطت نظرية داروين بينما ثبتت نظرية محمد.” وفي مادة الفيزياء للصف الثاني الإعدادي نجد عبارة “تمت التجربة بإذن الله.” ويطبع التأثير الديني سير الحياة المدرسية بشكل قوي، مثلاً نلاحظ على الأقل خلال العشر سنوات الماضية شلل المدارس في اليوم الذي يسبق والذي يلي عيد الأضحى، كما يُختصر الدوام المدرسي خلال شهر رمضان.

ويبدو أن النظام السوري قد أدرك أهمية التربية والتعليم في تكريس سلطته فقط، حيث ومنذ بداية الألفية الجديدة وسحقْ ماسمي وقتها “ربيع دمشق”، لاحظنا استمرارية في سياسة القمع لكل ماهو يساري أو قومي علماني في مقابل تسهيل تمدد الفكر الديني. لاحقاً وخلال الأزمة السورية تعرض النظام لضغوط كبيرة فأصبح مجبراً على تلبية مطالب الإسلام الرسمي (المعتدل) لأنه يحارب الإسلام المتطرف المُمَثل بشكل رئيسي في “تنظيم الدولة الإسلامية” والتنظيمات المقربة من “تنظيم القاعدة” في سوريا. ويعتقد النظام أن استعداء الإسلام المعتدل لايصب في الوقت الحالي في مصلحته، لذلك ارتأى الدعم الكبير له، وهذا يفسر لماذا ميزانية وزارة الأوقاف كبيرة جداً وهي تعادل أقل بقليل مجموع ميزانيتي وزارة الصحة والتعليم العالي! ولماذا هذا التدخل الكبير لهذه الوزارة في إقرار المناهج. في المقابل طالما استخدم النظام الذي يُعد فيه حزب البعث واقعيا قائداً للدولة والمجتمع، الخطاب الثقافي واحتكار التعليم لخدمة قضيته الايديولوجية العربية عبر تضخيم الدلائل التاريخية، لابل تزييفها أحياناً، فمثلا نجد في مادة الثقافة للسنة الأولى في كلية الترجمة الصياغة (البعثية) للتاريخ العربي. تتحدث الفصول الأولى عن سيرة نبي الإسلام، بينما يتحدث الفصل الثاني عن التخلف الذي كان يعيشه الغرب وفساد الكنائس في العصور الوسطى وكيف ساهم الإسلام في نهضة الغرب وإنقاذه من الظلمات. في الفصل الثالث نقرأ كيف أخذ الغرب العلم والفلسفة من الدولة العربية الإسلامية. وفي القسم الأخير نجد ماقيل عن محمد من أقوال لكتاب وعلماء من الغرب. مثال آخر نجده في كتاب التاريخ للخامس الابتدائي -وهو تزوير صريح للتاريخ- عبارة: “أقبلت القبائل العربية من شبه الجزيرة العربية على شكل موجات واستقرت في بلاد الشام والعراق وأنشأوا الحضارات الأكادية والبابلية والآشورية.” وبالرغم من محاولات وزارة التربية في سوريا خلال الفترة الأخيرة إبراز النزعة الوطنية في المناهج بتوليفة عربية إسلامية وإخفاء النزعة القومية البعثية التقليدية التي كانت سائدة سابقاً، إلا أن تأثير هذه المحاولات بقيت محدودة ولم تستطع أن تلامس الرموز القهرية للنظام والحاكمة للمجتمع السوري.

لقد أكملت الحرب على مستقبل العملية التعليمية في سوريا، إذ بينت المذكرة الإخبارية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” أن عام 2016 هو الأسوأ لأطفال سوريا، وقالت إن نحو 2.7 مليون طفل بين سن الخامسة والسابعة عشر لايذهبون إلى المدارس، بينهم 600 ألف طفل لاجئ، وأن 1.3 مليون طفل آخرين معرضون لخطر التسرب. وقالت منظمة “أنقذوا الطفولة” أن أضرار قطاع المباني المدرسية لوحده تُقدر بنحو 3 مليارات دولار، وأدت الى انخفاض معدل التعليم في سوريا بمقدار 50% عن مستوياته قبل اندلاع الحرب السورية عام 2011. وبينت تقارير محلية لعام 2017 تعرض المرافق التعليمية على مستوى سوريا إلى نحو 4000 هجوم أدت إلى أضرار جزئية أو كلية لـ 2445 مدرسة. وأكثر المنشآت التعليمية ضرراً كانت المدارس الثانوية بنسبة 14.7% من مجمل المرافق التعليمية المتضررة كلياً، تليها المعاهد المهنية بنسبة 14.5%. كما أدت الحرب الى تحويل العديد من المدارس إلى مراكز إيواء للنازحين أو مراكز عسكرية. وبحسب معلومات صادرة عن وزارة التربية السورية تحولت حوالي 243 مدرسة من أصل 21 ألف مدرسة حكومية في أرجاء البلاد إلى مراكز إيواء، فيما قدرت وزارة التربية تكلفة الخسائر المادية لقطاع التعليم في سورية حتى عام 2015 بحوالي 50 مليار ليرة (حوالي 105 مليون دولار). وحيث أن التعليم هو استثمار مستقبلي قُدرت الخسارة المستقبلية بـنحو 5.4% من الناتج المحلي نتيجة حرمان الأطفال السوريين من التعليم. ويذكر تقرير “جيل سوريا الضائع” أنه: “وبالنظر إلى تجارب الدول الأخرى التي تأثرت بالنزاعات يمكننا التنبؤ بأن النزاع الحالي قد يؤدي إلى انخفاض معدل سنوات الدراسة بنصف عام على المدى الطويل. وعندما يطبق على امتداد التعداد السكاني فإنه يزيد من التكلفة السنوية على الاقتصاد السوري الى مافوق 1.26 مليار دولار أمريكي, أي 3.1% من إجمالي الناتج المحلي.”

من منتصف الثمانينات حتى بداية التسعينات، لعبت سوريا دوراً يعادل عشرة أضعاف حجمها على الساحة الدولية بحسب صحيفة دير شبيغل الألمانية عام 1985، وسميت بأنها أكبر دولة صغيرة في العالم كما قال أحد الدبلوماسيين الكبار في البيت الأبيض. من أسس لهذا الدور؟ طبعاً هي مجموعة من العوامل لكن أهمها كان الاهتمام بالعملية التعليمية والتدريب وتأهيل الكوادر. للأسف الشديد سوريا والعراق ومصر التي قادت التعليم عربياً منذ خمسينات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الجديدة نجدها قد سقطت. مصر جاءت بالمركز قبل الأخير في مؤشر دافوس لعام2017، في حين لم تدخل سوريا والعراق في الترتيب أصلاً وذلك لافتقارهما بحسب التقرير: (لأبسط معايير الجودة في التعليم).

مرة أخرى لنكن جريئين ونقرأ مؤشر دافوس بواقعية بدلاً من الاستهزاء به، وإلهاء المواطنين بنظرية المؤامرة، وأن نقول صراحة أن هناك ضرورة قصوى ولا تقبل التأجيل لمراجعة السياسات الحكومية في سوريا في مجال التعليم, ووضع أسس اكثر انفتاحاً على العالم الذي بات يسبقنا كل يوم بخطوة. فالتعليم والعلم بالنسبة للمجتمعات هو أساس التقدم الحضاري وهذه بديهية. ولا يأتي العلم بدون التعليم الذي هو المحرّك الأساسي لتطور أي أمة. لذلك نرى بوضوح أن أحد أهم الفوارق بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة هو نسبة التعليم وجودته، ولا تبتعد القوة الاقتصادية والعسكرية وقوة العدالة وقوة النسيج المجتمعي كثيراً عن هذه المقارنة. وفيما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمته الأخيرة للشعب الروسي قبيل انتخابه للمرة الرابعة أن “التخلف العلمي يحمل مخاطر فقدان السيادة” نجد أن صور حليفه في دمشق قد تصدرت قاعات الجامعات الحكومية وجدران المدارس وبوابات المعاهد وقاعات التعليم وأروقة المختبرات في وقت أصبحت سوريا متخمة بالقواعد العسكرية الأجنبية الحليفة والعدوة.

اللباس علامة اجتماعية

اللباس علامة اجتماعية

 يوميات سورية

عندما تجاوز عدد العمالة السورية  في الخليج وخاصة في السعودية أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات   عشرات الآلاف كعمالٍ وافدين ومئات الآلاف كعائلات، بدأت العباءة السعودية تعود مع العائلات عند كل إجازةٍ صيفيةٍ لتصبح مظهراً اجتماعياً لافتاً إلى أن سادت تدريجياً وأزاحت كل ما سبقها من أنماط اللباس المحلية كالمانطو، والطقم  بجاكيت طويل وتنورة طويلة “تصل لتحت الركبة بشبر” كما كانت تصفها النساء اللاتي درجن على ارتدائها. كان الطقم يومها ينتمي للحجاب “المديني”، فأي سيدةٍ محجبة وترتدي طقماً يعني أنها حكماً مدينية وليست ابنة ريفٍ أو حيٍ شعبيٍ، حيث ترتدي نساء تلك المناطق مانطو يتبدل صيفاً وشتاءً ليغطي كل ما تحته من ملابس بسيطة أو رقيقة، وغالباً ما ترتدي السيدات وخاصة المتقدمات بالعمر قمصان النوم تحت المانطو للتمتع براحة كاملة.

خلال الحرب السورية ارتدت بعض السيدات الحجاب في بعض المناطق ذات الصبغة الدينية تحت ذريعة الخوف، سيداتٌ يبدو جلياً أنهن غير محجبات أصلاً لابل يرفضنه كنمطٍ للباسهن، يبدو ذلك من طريقة ربطه، من المكياج الظاهر، من الضيق الظاهر بالتعامل مع زائرٍ جديدٍ وثقيلٍ وقسريٍ حسب توصيف بعضهن.

إلا أنّ المظهر الغالب هو تحرّر الكثير من الفتيات من حجابهن بعد الانتقال من أماكن سكنهن جراء التهجير والنزوح، فتياتٌ انقلبت أحوالهن بصورةٍ جذريةٍ وإن كان يصح القول بأنّ الانتقال كان عاصفاً ومتطرفاً لدرجةٍ لحظنا التحول من وضعية المحجبة إلى المغامرة، بأقراطٍ عديدة في الأذنين وقصة شعر صبيانية أو غريبة، بملابس ضيقة وبلا أكمام.

يبدو التغير أو الانعطاف الجذري في المضمون والشكل حالةً طبيعيةً في الحروب، حالةً مبررةً لكنها تحتاج وقتاً للقبول. السمة الأساسية في الانقلابات الجذرية في عمر المجتمعات هي حرق الوقت، أي تقبّل التغيرات بزمنِ قياسيِ يكاد أن يكون غير ملحوظ أو غير جدير بالتوقف عنده أصلاً.

***

سهى شابة بعمر الخامسة والعشرين، كانت تسكن في زملكا، لم تقتنع يوما بالحجاب، لكن أمها قدّمت لها كل التنازلات الممكنة لتقبل بالحجاب، وافقت معها على ارتداء الجينز لكن مع كنزة طويلة، ومع الوقت تحايلت سهى حتى على الكنزة الطويلة بكنزة داخلية قصيرة ومفصلة تغطيها بجاكيتٍ طويلٍ وواسعٍ.

في شوارع دمشق الآن صبايا بأحجبة ملونة ٍوصاخبةٍ، وبات للأحجبة موديلات وفي كل وقت نجد موجةً جديدةً كاسحةً تعمم موديلاً محدداً للحجاب. ثمة محال خاصة ببيع الحجاب وبإمكانك هناك الاطلاع على  موديلاتٍ متعددةٍ بألبوماتٍ موجودةٍ خصيصاً لتجربي ،لتشتري، لتقرري أيهما الأنسب لوجهك ولونك، وطبعاً يدخل عامل التسويق والمبالغة في خضم عملية البيع المربحة.

في شوارع دمشق صبايا محجباتٍ وفي أقدامهن أحذية رياضية خفيفة وملونة وبعضها مذهب أو مألمس كلونٍ وليس كحجر ثمين طبعاً، أربطةٌ  ملونة ٌوصاخبةٌ ولكلّ فردة حذاءٍ رباطٌ بلونٍ مختلفٍ. في شوارع دمشق فتياتٌ محجباتٌ بحواجب مصقولة بحرفة التاتو الدارجة بقوة رغم قسوة الحرب، بمكياجٍ ثقيلٍ أو خفيفٍ، لكنّ الكحل شرطٌ أساسيٌ، بخواتم  معدنية كبيرة وبستراس لامع على الأنف، بزيركونة لامعة على الأسنان و بعقودٍ حجريةٍ ضخمةٍ تهتز مع خطوات الصبايا المفعمات بالحيوية والشوق للجنس الآخر.

في شوارع دمشق أيضاً نساءٌ ببزاتٍ عسكريةٍ ليلاً ونهاراً، أي لا وقت محدد لعملهن، فهنّ واقفاتٍ على الحواجز ويفتشن حقائب النساء في الأماكن العامة. مظهرٌ عسكريٌ جديدٌ شمل عامة النساء، أي أنهن لسن خريجات الكلية العسكرية للبنات،  يعكس باب عملٍ جديداً انخرطت فيه النساء بصورة واضحة للعيان، نساءٌ من أهل الحي أو معروفات في الأماكن حيت يعملن.

كما أنّ موضة الملابس العسكرية أو على وجه الدقة الزي المبرقع قد غزت صناعة الملابس الجاهزة، حيث تنتشر السراويل والبيجامات والكنزات والجواكيت المبرقعة وهي مطلوبة خاصة لدى الشابات المتموضات. يحاول البعض تعميم فرضية أنّ الحجاب قد تكاثر أيضاً، لكنّ هذا التعميم غير دقيق بحسب مشاهداتي اليومية. صحيحٌ أنّ حفلات التحجيب والهدايا باتت ظاهرةً ومعلنةً وخاصة للفتيات الصغيرات لكنها قليلة، وقد تناقل السوريون مؤخراً تسجيلاً مصوراً لحفلةٍ باذخة تجاوزت كلفتها الملايين بمناسبة ارتداء ابنة رجل أعمالٍ كبير للحجاب، حفلة ارتدت فيها حتى قطع الشوكولا والحلويات الحجاب في استعراضٍ استهلاكي لا يمت للإيمان بصلة.

تخففّت بعض السوريات من ثقل المانطو في زمن الحرب لأسبابٍ مختلفة، فبعضهن تخففن منه لارتفاع أثمانه أولاً ولأنه بات علامةً فارقة توصم صاحبته بالتطرف في أمكنة بات فيها رهاب التطرف رعباً خالصاً وباتت كل محجبة أو مجلببة أو ترتدي المانطو متهمة بأنها داعشية. لم يعد ممنوعاً أن تتجرأ سيدة أو فتاة على الجلوس ملاصقة ً لرجلٍ على مقعدٍ حديديٍ جانبيٍ في السرفيس وذلك تدبيراً لأزمة النقل الخانقة، لابل قد تجلس زركاً ملاصقةً لرجل في مقعدٍ يتسع بالكاد لثلاثة ركاب لكنها تكون الرابعة وربما الخامسة أيضاً فلا ضير في ذلك.

تقول رجاء: “أصعب شيء هو انتظار المانطو ليجف على حافة  الكرسي لأننا نعيش في غرفةٍ بلا شرفةٍ أو حبل غسيلٍ، وحياتنا بهدلة ولا يمكن الركون إلى المانطو كزيٍ، وحياتنا لا تؤمن أدنى شروط النظافة، وأقل مانطو بديل يتجاوز سعره العشرة آلاف ليرة وهو مبلغٌ صعب التحصيل والتوفر.”

سيداتٌ أيضاً خلعن الحجاب بقناعةِ، تقول أسماء: “لم أقتنع به يوماً واليوم بات يشكل ضغطاً على حضوري في الأماكن العامة وخاصة في العمل نظراً لأني مهندسة ومطلوب تواجدي في اجتماعات عملٍ ومراكز إشراف” وتكمل “لقد تغيّر تعامل الناس معي بعد تبدل هويتي، وكأني أصبحت امرأةً أخرى! أجل إنّ خلع الحجاب أو ارتداءه بمثابة هوية تعريفٍ جديدة فرضتها الحرب والخوف من علامات التطرف وجراء تعميمٍ ظالمٍ وموجهٍ ومقصودٍ يصنّف كل المحجبات على أساس الشكل وليس المضمون مع أن القوانين تكفل حرية  الممارسات والمظاهر الدينية والإيمانية.”

على الحواجز ثمة تصنيفٌ نمطي للمرأة حسب مظهرها العام، تصنيفٌ مضللٌ لكنّه شبه معممٍ يصل لدرجة أنّ عنصر الحاجز قد يقول للمرأة السافرة بأنك “من جماعتنا!” ويا للويل من معنى هذه الكلمة ومدلولها المنافي للمواطنة والشراكة في بلدٍ واحدٍ تمزق الحرب أبناءه جميعاً بغض النظر عن الطائفة والجماعة.

على المقلب الآخر ثمة من تبالغ بالتخفف من الملابس معتبرةً هذا التخفف وكأنّه تحدٍ للمتعصب والمتطرف، تصحو هويتها ما-قبل الوطنية والمغرقة في طائفيتها لتعلن أنها باقية هنا وأنّ حضورها هكذا يقلع عين كل متطرفٍ وكل معتدٍ ومتخلفٍ! هنا الوجه الآخر للتطرف! أجل إنه تطرّف أجوف وعدائي، ثبتته قوى الهيمنة  والتمييز المقصود تحت ذريعة التوصيف الشكلاني الأجوف، فكلّ محجبة داعشية وكل مجلببة قنبلة موقوتة! يا للحيف ويا للتسطيح الذي سيدفعنا بعيداً في مهاوي الشقاق والحقد.

سميرة فتاة جميلة الوجه، ممشوقة الجسد ترعى أخوتها الصغار بعد غياب أمها وأبيها، الأم تزوجت والأب مات. نزحت هي وخمسة أخوة مع جدتهم من دير الزور ويعيشون في غرفةٍ على الهيكل، وباتت مضطرة للعمل عند أحد أصحاب محال صناعة الحلوى. كان شرط الجدة هو ارتداء الحجاب وبنطال وبلوزة طويلة وفضفاضة، تبدو سميرة بزيها هذا وظهرها المنحني من شقاء العمل وقوفاً وهي تدهن قطع البريوش بالبيض. سميرة ابنة الخمسة عشر عاماً تبدو من الخلف وكأنها عجوزٌ، لدرجةٍ قد تناديها بـ”يا خالة” قبل أن ترى وجهها الطفولي البريء!

في السلم كما في الحرب اللباس هو صورة مجتمعية وليس شكلية فقط، لكن الحرب تطحن الأجساد والعقول وتصبح الألبسة مجرد أغطية من ورق، لا تحمي ولا ترد  الانتهاكات، لا هوية للباس إلا بعين الحرب، حيث تصبح الحرب هي الهوية وهي الشكل والمضمون وهي اللغة الناطقة السائرة على أقدام النساء.