أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

مع سيطرة الجيش السوري على أغلب مساحة الغوطة الشرقية بعد خروج فصيلي ”أحرار الشام“ من حرستا، و“فيلق الرحمن“ من زملكا وجوبر وحزة وعربين، وهي المناطق التي بقيت تحت سيطرته في القطاع الأوسط، أصبح واضحاً بأن الوجود المسلح لفصائل المعارضة السورية أصبح محسوماً في تلك المنطقة، والتي شهدت أعنف حملة عسكرية عليها منذ بداية حصارها في نهاية عام ٢٠١٢.

لكن يبقى السؤال الأهم، ما هو مصير فصيل ”جيش الإسلام“ المحاصر في مثلث دوما، وبعهدته ما يقارب ١٤٠ ألف مدني؟

بدأت مفاوضات جيش الإسلام مع الجانب الروسي منذ بداية الحملة العسكرية على الغوطة في منتصف شباط ٢٠١٨، ومع استمرار تقدم الجيش السوري في مزارع الغوطة، من الناحية الشرقية، حيث الخاصرة الرخوة للمحاصرين، ثم محاصرة كل فصيل على حدة، بعد تراجعه إلى مركز سيطرته (جيش الاسلام في مدينة دوما مع امتداد حتى بلدة الريحان في الشمال الشرقي للغوطة، وأحرار الشام في مدينة حرستا، بينما تآكلت مناطق فيلق الرحمن وتصالحت مدنه مع ما فيها من مدنيين ومقاتلين مع النظام بشكل منفرد، وبالتالي أضحى محاصراً في مدن زملكا وجوبر وحزة وعربين) تقدَّم جيش الاسلام بعرض إلى الجانب الروسي، وكما رشح من بنود هذا العرض، والمحفوظة ضمن دائرة ضيقة في قيادته، أن يتحول جيش الإسلام إلى شرطة مدنية (بدل خدمة العلم الإلزامية في الجيش السوري) في مدينة دوما وما حولها، مع تسليم السلاح الثقيل، ودخول رمزي لمؤسسات الدولة، ورفع العلم السوري على الدوائر الحكومية، ودخول كتيبة شيشانية لتأمين المنطقة بدل دخول الجيش السوري وقوات النظام الرديفة.

ومع الحديث عن تواجد وساطة مصرية في دمشق تسعى للحفاظ على جيش الإسلام ومدينة دوما، كما تسرب من الصحافة، يبدو أن الجانب الروسي تعاطى بشكل ايجابي مع عرض جيش الإسلام في البداية، حيث دخلت المساعدات الإنسانية إلى مدينة دوما وحدها دون غيرها عدة مرات، وخرجت الكثير من الحالات المرضية والإصابات بالغة الخطورة من داخل مدينة دوما لتلقي العلاج في العاصمة دمشق، وأيضاً أعلن الجانب الروسي عن وقف إطلاق النار من جانب واحد على مدينة دوما فقط، وهذا أعطى جيش الإسلام قناعة بأنه يملك أوراق تفاوضية قوية ومختلفة عن فيلق الرحمن أو أحرار الشام، فهو لم يُخِل باتفاقية ”خفض التصعيد“ التي وقعها مع الجانب الروسي في ٢٢ تموز ٢٠١٧، على عكس فيلق الرحمن الذي ساند بشكل واضح أحرار الشام في معركة ”بأنهم ظلموا“ على إدارة المركبات في مدينة حرستا، ولم يقم أيضاً بقصف العاصمة دمشق كما كان يفعل سابقاً في مثل هذه الظروف، في حين أن فيلق الرحمن أمطرها بوابل من القذائف والصواريخ، مما أوقع العشرات من الإصابات والضحايا في صفوف المدنيين، وأيضاً يتباهى جيش الإسلام بأنه أول من حارب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”داعش“ وذلك بعد أشهر من إعلان التنظيم عن قيام دولة خلافته، حيث اقتلعه تماماً من الغوطة الشرقية وقضى على وجوده فيها، ثم قاتله في جنوب دمشق، وفي جبال القلمون بالتعاون مع قوات أحمد العبدو المحلية هناك، وكذلك حربه ضد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) حيث دخل مراكز قيادتها في ٢٨ نيسان ٢٠١٧ بعد أن قتل وأسر العديد من قادتها وعناصرها، ولولا تدخّل فيلق الرحمن المتأخّر لحماية من تبقى منهم، لكان أنهى وجودها بشكل كامل في الغوطة الشرقية.

لكن يبدو بأن الجانب الروسي كان يملك اليد العليا في إدارة المعركة على الأرض ومن خلال التفاوض أيضاً، فهو أعطى نوعاً من الاطمئنان لقادة جيش الإسلام في رده على مطالبهم، ومن ثم بعد أن دخل الجيش السوري إلى القطاع الأوسط وبدأت مدنه وبلداته تُصالح منفردة، ومع تحوّل صمود أحرار الشام في حرستا إلى تفاوض بفعل ضغط الأهالي، تغير موقف الجانب الروسي فجأة، وقيل بأنه انسحب من تعهداته التي قدمها لجيش الإسلام، وهذا ظهر واضحاً من خلال تصرفات جيش الإسلام الذي حاول التلويح بأوراق تفاوضية جديدة، فاستعمل منظومة صواريخ الأوسا (9K33 Osa منظومة قاذفة، تحمل ستة صواريخ دفاع جوي محمولة على سيارات نقل بستة عجلات، ومدمج بها رادار في سيارة واحدة، وكان جيش الإسلام قد استولى عليها من قاعدة دفاع جوي بالقرب من دمشق في نهاية ٢٠١٢) للمرة الأولى خلال هذه الحملة، وأطلق صاروخين اثنين في اتجاه مروحييتين للجيش السوري دون إصابة أي منهما، وذلك في ١٧ آذار الماضي، وأيضاً قام باستعراض لبعض دباباته في وسط دوما، ثم فتح معركتين في مساء اليوم التالي، واحدة باتجاه حرستا بالتعاون مع أحرار الشام فيها، حيث قيل بأنه تسلّم سلاحهم الثقيل قبل إبرام اتفاقهم النهائي مع النظام السوري، وأخرى أحرز من خلالها تقدماً في مزارع بلدة مسرابا، فعاد القصف من جديد على مدينة دوما موقعاً العديد من الضحايا، وكان أشدها في ٢٣ آذار حين تم قصف المدينة بالنابالم والفوسفور الحارق.

مع عودة الهدوء النسبي وتوقف القصف على مدينة دوما، عاد جيش الإسلام إلى التفاوض من جديد، ولكن هذه المرة كان من خلال لجنة مدنية (تم انتقاء معظم أفرادها من المقربين منه) وعبر خط تفاوض جديد موازٍ لخط العسكر التفاوضي، ومع ذلك لم يتم تحقيق أي شئ يُذكر، فالموقف الروسي ثابت، خروج من دوما إلى محافظة إدلب أو جبال القلمون الشرقي، مع تسليم السلاح الثقيل، وتسوية أوضاع الراغبين في البقاء، مع إعطاء مهلة سنة كاملة قبل الالتحاق بالجيش للمتخلفين أو الفارين من خدمة العلم، وأن تكون الخدمة الإلزامية في الفرقة الخامسة (وهي فرقة ميكانيكية، تتموضع في الجنوب السوري ومسؤولة عن الجبهة الجنوبية، شاركت في حرب تشرين في ٧٣ وكانت أكثر الفرق نجاحا حيث وصلت إلى مشارف بحيرة طبريا) وكذلك أبدى الجانب الروسي استعداده للتفكير في إرسال كتيبة شيشانية إلى دوما، بدلاً من الجيش السوري وقوات النظام الرديفة، وبالتالي بقي الوضع معلّقاً مع جولات من التفاوض شبه اليومية وبحضور ممثل عن الأمم المتحدة المتواجدة في دمشق.

يعلم الجميع بأن ”جيش الإسلام“ قد انتهى، وهو يعلم ذلك، فخروجه إلى محافظة إدلب، يعني بأنه سيكون في مواجهة غير متكافئة مع هيئة تحرير الشام، على الرغم من تأكيد قيادة أحرار الشام في الشمال بتأمين الحماية اللازمة والكاملة لجيش الإسلام إن رغب في التوجه إلى محافظة إدلب، والجانب الأمريكي يرفض تماماً فكرة  توجه جيش الإسلام نحو الجنوب إلى درعا، والجانب التركي كذلك يرفض بشكل قاطع دخول أي مدني أو مسلّح إلى مناطق سيطرة درع الفرات، حتى أنه ومن معه من فصائل المعارضة السورية وضعوا ”فيتو“ على دخول ”فيلق الرحمن“ للقتال إلى جانبهم سواء في قيادة الأركان أو في درع الفرات، ويبدو أن جيش الإسلام قد أغضب الأتراك حين قبل بالوساطة المصرية عند توقيع اتفاقية خفض التصعيد، وبالتالي لم يبقَ أمام جيش الإسلام إلا منطقة جبال القلمون الشرقي، وهي منطقة مُحاصَرة بشكل أكثر سوءاً من مدينة دوما الآن، ناهيك عن عدم أهليتها لاستقبال هذا العدد من المقاتلين وعائلاتهم.

مع كثرة الشائعات والأقاويل، يتحرك الشارع المدني – المُغيّب تماماً عن تقرير مصيره – في دوما بشكل تصاعدي يوماً بعد يوم، مقابل خطاب خشبي يدعو إلى الصمود والمبايعة على الموت من قادة جيش الإسلام وشرعييهم، واستخدام ظالم للغة التخوين مع استدعاءات الأجهزة الأمنية لمن يخالفهم الرأي. لقد خرج من دوما حتى الآن أكثر من ٢٠ ألف مدني عبر معبر مخيم الوافدين إلى مراكز الإيواء الجماعية التي أعدّها النظام السوري لاستقبالهم، مجازفين بأنفسهم ودون وجود أي اتفاق يضمن مصيرهم، لكن يبدو أن جيش الإسلام لا زال يكابر مُعوّلاً على حظوظه في نجاح المفاوضات، دون أن يشرح على ماذا يستند ويراهن، متحدياً بذلك المنطق الذي يقول بأنّه لا يملك في المفاوضات ما يُعطيه مقابل ما يطلبه لنفسه، ربما يكون تعليل ذلك بأنّه مُحاصر في خياراته، ولا يملك سوى الصمود بقدر ما يستطيع. لكن هذا الصمود المستند على الخطاب الحماسي، سوف يدفعه في النهاية إلى تكرار ما حدث مع ”فيلق الرحمن“ حين خرجت المظاهرات مندّدة به، ثم انشقت جماعات متفرقة من عناصره، وتحولت إلى ”قوات دفاع وطني“ من خلال مصالحات مباشرة مع النظام.

في المقابل، يبقى الجانب الروسي متعنتاً في موقفه، وهو يعلم بأن ”جيش الإسلام“ لا يملك خياراً سوى التمسك بأرضه والمواجهة لأجل البقاء، وبالتالي من المفيد تقديم نموذج حميد نحو تحوّل بعض من فصائل المعارضة السورية – الأكثر اعتدالاً – إلى شرطة محلية (مكان خدمة العلم)، بدل تركها لتكون تابعة لمصالح وغايات دولية وإقليمية، أو الدخول في معارك معها سوف تُخلّف الكثير من الضحايا في صفوف المدنيين، مع دمار أصبح سمة رئيسية للمدن والبلدات السورية. ربما يكون النظام السوري هو المعطل لذلك كما تناقلت بعض الصحف، وربما لذلك يسعى الروس لكسب تأييد الأتراك في قبول صفقة ما لترحيل جيش الإسلام إلى جرابلس أو منبج، ويبدو أن مساعي الروس قد نجحت في تحقيق ذلك خلال الساعات الماضية، وبالتالي نبقى في انتظار الرد من جيش الإسلام على هذا الخيار الأخير.

على جانب آخر، تغيب مؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة عن المشهد الحاصل في الغوطة الشرقية، وعندما تحضر تكون بطريقة ”رفع العتب“ دون تدخّل أو تأثير مباشر، فمجلس الأمن – وبعد تأجيل التصويت مرتين بسبب الاعتراض الروسي على صيغة القرار – يُخرج في ٢٤ شباط ٢٠١٨  القرار رقم ٢٤٠١ والقاضي بوقف الأعمال العدائية لمدة ٣٠ يوماً متتالية في جميع أنحاء سوريا، مستثنياً من ذلك تنظيم ”داعش“ و ”جبهة النصرة“ والكيانات الإرهابية كما حددها مجلس الأمن، مما أعطى روسيا والنظام السوري غطاءً دولياً ليفعلوا ما يشاؤون، بحجة وجود عناصر جبهة النصرة هناك، والذين لا يتجاوز عددهم الـ ٣٠٠ عنصر في القطاع الأوسط، وحين أعربت الفصائل الثلاث في رسالتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، وللرئیس الدوري لمجلس الأمن السفير الكويتي منصور العتيبي عن “التزامنا التام بإخراج مسلحي تنظيم هيئة تحرير الشام، وجبهة النصرة والقاعدة، وكل من ينتمي لهم وذويهم من الغوطة الشرقية لمدينة دمشق خلال ١٥ يوماً من بدء دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ الفعلي“ لم تتحرك الأمم المتحدة لايجاد آلية للتنفيذ، مما اضطر جيش الإسلام إلى الاتفاق بشكل مباشر مع وفد الأمم المتحدة الذي دخل مع القافلة الإغاثية في الخامس من آذار لأجل ترحيل الدفعة الأولى من عناصر هيئة تحرير الشام الموجودين في سجونه إلى محافظة إدلب، وأيضاً لم تُحرّك الأمم المتحدة ساكناً عندما قامت قوات أمن النظام السوري باستبعاد نحو ٧٠٪ من المساعدات الإنسانية ومن بينها المواد الطبية من قافلة المساعدات التي دخلت دوما يومها، ولا عندما اضطرت تلك القافلة للخروج مسرعة دون أن تفرغ تسع شاحنات من حمولتها، بسبب القصف المتواصل على المدينة أثناء عملية التفريغ، وأيضاً لم تتحرك مؤسسات الأمم المتحدة الإغاثية لتقديم المساعدة للمدنيين العالقين في مراكز الإيواء المؤقت في مناطق سيطرة النظام.

في النهاية، يبقى المدنيون هم المتضررون الأساسيون، فهم نقطة ضغط للمهاجمين، ودرع واق للمدافعين، حيث تسقط الإنسانية، ويُصادِر السلاح رغبة العاقل في الكلام، وتبقى معظم الاتفاقات والاعتبارات محصورة في السلاح ومن يحمله، وفي ذيل القائمة تجد بنداً يتحدث عن تأمين المدنيين، ومن سخرية الأحداث أن يُنقل بعض من عناصر ”هيئة تحرير الشام“ بأمان إلى محافظة إدلب، في حين يرفض الجانب الروسي أي اتفاقية تشمل خروج من يرغب من المدنيين نحو إدلب، إلا بعد الاتفاق مع فصيل جيش الإسلام.

*مصدر الصورة المرافقة للمقال: REUTERS/Omar Sanadiki

ناجية إيزيدية ترسم معاناتها مع داعش في لوحاتها

ناجية إيزيدية ترسم معاناتها مع داعش في لوحاتها

“ماتزال صورة والدي المختطف على يد تنظيم داعش متمترسة بجدار ذاكرتي، أحاول مراراً وتكراراً أن أرسمه في لوحاتي، وأتخيل أنه عاد مع شقيقتي وأشقائي وأولادهم وزوجاتهم إلى البيت.” بصدى أنة مقهورة تدخل “سهيلة دخيل تعلو” الناجية الإيزيدية في تفاصيل أسرها مع عائلتها من قبل مقاتلي تنظيم داعش في الثالث من شهر آب/أغسطس 2014، حيث مايزال بعضهم مجهولي المصير.

سكبت “سهيلة” في لوحاتها ألوان عذاباتها، وترجمت بريشتها رحلة ألم عاشتها خلال فترة اختطافها لسنتين من قبل التنظيم بعد سيطرة مقاتليه على بلدتها شنكال (120 كم غرب الموصل) في العراق قبل نحو أربع سنوات.

صورة رقم 1: تظهر “سهيلة” في مرسمها

لحظات موجعة لم تبرح مخيلة الشابة الصغيرة بعد تحريرها من الأسر، وعودتها لأحضان من تبقى من عائلتها، لتعيش في مخيم “شاريا” بدهوك في كردستان العراق مع أخيها “ساهر” وشقيتيها “سهار” و”شيماء” الناجية مع والدتها “عمشي” من براثن داعش.

نمّت سهيلة موهبتها في الرسم بعد عودتها لعائلتها والتحقت بدورة لتعلّم فنون إتقان الرسم على يد الرسام الكردي الشهير “بيار محمد عمر” من مدينة دهوك مع مجموعة مؤلفة من “12” ناجية إيزيدية تحررن وعشن في المخيم.

عرضت مؤخراً الرسامة الناجية لوحاتها في أول معرض للرسم في مجمع “شاريا” للنازحين الإيزيديين والذي لاقى حضوراً كبيراً فعشقها لفن الرسم كان اللبنة الأولى في طريق تغلبها على محنتها.

15 رهينة من العائلة

سُبيت “سهيلة” في عامها الثالث عشر مع 14 فرداً من عائلتها، الأب “دخيل”، والشقيقتين “ألماسة” و”شيماء” والأشقاء “سعد” و”آزاد” و”خلف” وزوجاتهم وأطفالهم مع العمة “ليلى” وطفليها.

واجهت “تعلو” كغيرها من المختطفين والمختطفات الإيزيديات حقبة سوداوية مقيتة عاشتها بعد نقلها مع المئات ممن أسرهم داعش في حافلات إلى دائرة نفوس “شنكال”، ومنها لقضاء “بعاج”، فسجن “بادوش” قرب مدينة الموصل، ومنها إلى قضاء “تل عفر” حيث فصلت عن عائلتها وانتهى بها المطاف في قاعة “كالاكسي” في الموصل برفقة شقيقتيها “ألماسة” و”شيماء”.

عدة مرات تعرضت الشقيقات الثلاث للاغتصاب اليومي، ولأشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي والبيع والجوع والضرب المبرح.

وقد تمّ فصل الأخوات عن بعضهن فـ”شيماء” الصغرى نُقلت إلى سورية، وبقيت “سهيلة” في الموصل، أما “ألماسة” فلم يتسن للعائلة الحصول على معلومات عنها حتى اليوم.

بُيعت “سهيلة” الشابة الصغيرة أكثر من ثماني مرات، ناهيك عن تبادلها من قبل عناصر داعش بين بعضهم كسلعة تباع وتشترى.

 أخذت عملية تحرير “تعلو” وقتاً طويلاً، فقد استغرقت أكثر من سنة كما حدثنا عمها الكاتب الإيزيدي “خالد تعلو”. حيث قال: “تتبعنا أخبار سهيلة عن طريق بعض الناجيات اللواتي استطعن الهرب من سجون داعش، وعلمنا أنها أقدمت على الانتحار قبل أن يغتصبها جنود الدولة الإسلامية، غير أن محاولتها في قطع شريانها باءت بالفشل، وبعدها تمكنا من شرائها عن طريق وسطاء بيننا وبين داعش بمبلغ 6800دولار.”

صورة رقم 2: “سهيلة” بالزي الايزيدي الشعبي

فوجئنا أننا عبيد!

سُيقت الشابة الإيزيدية “سهيلة” إلى أسواق الرق بين تلعفر والقيارة والبعاج وحمام العليل والحويجة والموصل لأكثر من ثماني مرات وتذكر “سهيلة”: ” فوجئنا أننا أصبحنا عبيداً، نُباع ونُشترى كسلع رخيصة لا حول لنا ولا قوة، ناهيك عن أن عناصر التنظيم كانوا يتبادلوننا فيما بينهم، بعد إجبارنا على اعتناق الإسلام وتهديدنا بالضرب والحرق والتشويه.” وتضيف: “بعد فصلنا عن عوائلنا كنا نتعرض للاغتصاب الجماعي أنا والعشرات من الفتيات مع شقيقتي “ألماسة” التي لا نعرف عنها حتى الآن شيئاً هي ووالدي وأشقائي الثلاثة مع زوجات وأولاد اثنين منهم. تم تحرري في الموصل وأما شقيقتي شيماء فقد تحررت في مدينة الرقة السورية قبل حوالي سبعة أشهر، فشيماء التي تم بيعها لأكثر من 10مرات وهي لم تبلغ الثماني سنوات حين أختطفت وبيعت لأحد أمراء التنظيم في الرقة وكان سعودي الجنسية واغتصبت بشكل يومي بعد ربطها بالسرير.”

صورة رقم 3: “شيماء” مع أسرتها بعد عملية التحرير

 تحرير الرهائن مغامرة:

تحرير الناجيات عملية معقدة جداً، حيث تتم حسبما يتحدث “خالد تعلو” بعيداً عن أنظار داعش وبسرية تامة جداً، ويضيف: “يتم عرض صور المختطفات الإيزيديات والأطفال على موقع النخاسة الإلكتروني الذي يديره داعش.” موضحاً: “بعض الوسطاء يدخلون المزاد في هيئة موالين لتنظيم داعش ويشترون بناتنا بعد اتفاقهم مع أهالي الأسيرات على قيمة المبلغ الباهظ، ويجب على أهالي المخطوفين تأمين المبلغ المحدد قبل تحريرهم.” ويتابع: “صفقات التحرير مغامرة تواجهها صعوبات جمة، أهمها أن العديد من أهالي الضحايا يعجزون عن تأمين المبلغ المطلوب في التوقيت المحدد فتفشل عملية التحرير.”

شراء الرهائن بمبالغ خيالية

يشتري الإيزيديون أسراهم لقاء مبالغ مالية كبيرة، تُنهك قدرة عوائلهم، فيدفعهم ذلك إلى بيع ممتلكاتهم والاستدانة لشراء حرية أحبتهم.

 أكد “شُكُرْ شَنكالي” مسؤول المجلس الإيزيدي في “شنكال” أنه لم يحرر أسير واحد دون مقابل مادي إلا مرة واحدة قبل حوالي عامين، حيث حرر53 إيزيدياً في عملية مقايضة مع امرأة داعشية كانت من مدينة “حلب السورية” تدعى “عزيزة” والتي تزوجت من أربعة أمراء للتنظيم واعتقلت من قبل وحدات حماية “شنكال” صيف 2016 في طريق عودتها إلى الموصل مع مجموعة من عناصر التنظيم”.

تحدث “خالد تعلو” عن تحرير “عمشي” والدة سهيلة من مدينة الرقة في الرابع من نيسان 2017 بمبلغ 11500دولار، وزوجة ابنها تحررت مع بناتها الثلاث في 24نيسان 2016 من مدينة طبقة السورية بميلغ 29ألف دولار.

ويضيف تعلو: “اشترينا حرية شقيقتي ليلى وطفلتيها ’سالار وسارة‘ بمبلغ 27ألف دولار من مدينة الرقة في نيسان2017.

صورة رقم 4:”سهيلة” مع عمها الكاتب “خالد تعلو”

ناجيات ورهائن

كشفت مديرية الشؤون الإيزيدية في إقليم كردستان الشهر الماضي عن آخر إحصائية لأعداد الفتيات والنساء والأطفال الرهائن لدى تنظيم داعش، فضلاً عن الناجين من سجونه.

ونقلت وسائل إعلامية في تصريح صحفي لمدير مديرية الشؤون الإيزيدية في دهوك، “عيدان الشيخ كالو” (في4 شباط 2018) قوله أن: “العدد الكلي للناجيات والناجين الإيزيديين الذين اقتادهم تنظيم داعش في مطلع آب 2014، بلغ (3259) شخصاً.” وأضاف: “وأما عدد الرهائن لدى التنظيم كان قد بلغ (6417) شخصاً، وهناك أكثر من 3158 مايزال أسيراً لدى داعش في الأراضي السورية والتركية، بينهم 1472 من الإناث.”

ووفقاً لإحصائيات غير رسمية، يقدرعدد الإيزيديين بنحو 600 ألف نسمة في العراق، يقطن غالبيتهم في محافظتي نينوى ودهوك، فضلاً عن وجود أعداد غير معروفة في سورية وتركيا وجورجيا وأرمينيا، وأعداد أخرى من المغتربين في دول أوربية أبرزها ألمانيا والسويد.

وتعرض الإيزيدون إلى 74 مجزرة وكان آخرها في 3 آب/ أغسطس 2014 في “شنكال” موطنهم الأصلي في العراق بعد اجتياح مقاتلي داعش، وسيطرتهم على محافظة نينوى شمال العراق، وقتلهم لمئات الإيزيديين في قضاء “شنكال” وقرى غرب الموصل وسبيهم آلاف النساء والأطفال، وارتكابهم أبشع جرائم ضد الإنسانية جمعاء.

مشكلة الهوية في سوريا

مشكلة الهوية في سوريا

طاولة مستديرة أعدتها هيئة التحرير في صالون سوريا

يكتسب موضوع الهوية أهمية كبيرة في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ سوريا الحديث، والتي تتسم بصراع تقسيمي، وبتدخل من أطراف دولية وإقليمية تعبث بالمصير السوري.  وفيما يتحدث كثيرون عن فيدرالية، أو تقسيم، أو مناطق نفوذ، أو محميات، أو مناطق آمنة، يبدو المجتمع السوري أكثر تفككاً من قبل، وتبدو القوى السياسية سواء في المعارضة أو السلطة عاجزة عن بلورة خطاب توحيدي، أو مشروع يوضح إلى أين تتجه الأحداث في سوريا، وما الذي يعنيه أن تكون مواطناً سورياً في إطار وجود قانوني. بالتالي يصبح من الملح طرح موضوع الهوية السورية، وخاصة بعد تفكك الهوية القومية المفروضة على مكونات المجتمع وبزوغ هويات مناطقية ونعرات طائفية ومكبوتات قومية تاريخية لجمتها الإيديولوجيا القومية عبر ارتباطها بالسلطة. وبرزت إلى السطح هويات تكتسب بحكم الولادة أو بالانتماء إلى خلفية معنية، أو بالقالب الطائفي الذي يُرمى على الآخر بسبب استغلال الانقسامات الاجتماعية في الصراع.

يدعو صالون سورياالكتاب إلى معالجة الموضوعات التالية:

برأيك كيف يقارب السوريون هويتهم وكيف يريدونها أن تكون بالمعنى السياسي، ضمن إطار مشروع مستقبلي لبناء الدولة؟ كيف يعرّفون أنفسهم على المستوى السياسي والاجتماعي؟ هل تمثلهم الأطراف المتصارعة؟ هل هناك شيء يمكن أن يجمع عليه السوريون؟ إلى ماذا يطمح السوريون وماذا يريدون أن يحققوا على هذا المستوى؟ما طبيعة الصراع الدائر، دوافعه الإيديولوجية والدينية والسياسية وتأثيره في موضوع الهوية؟ بأي اسم يخاض الصراع القائم في سوريا؟ هل يعكس إجماعاً على هوية،  أم يتسم بهويات تقسيمية؟ وما هو شكل الهوية السياسية القادمة في سوريا في ظل استمرار الأوضاع الحالية؟ هل تقاتل الفصائل المعارضة والأصولية من أجل فرض هوية إسلامية على سوريا؟ من أجل ماذا يقاتل النظام  وما هو تصوره المستقبلي لمفهوم الدولة، إذا كان لديه تصور؟ وما هو التصور الثقافي لمفهوم الهوية في سياق الصراع؟  وهل هناك شيء يجمع عليه السوريون يتخطى الصراعات القائمة؟

سينشر صالون سوريا الإسهامات التي ترده تباعاً ويفعل روابطها.

الجامعة السورية
يوسف سلامة

دمشقيتي السورية المنتمية إلى فلك العروبة
فواز حداد

الهوية السورية هوية مضادة
راتب شعبو

الهوية السورية المقتولة
علياء أحمد

هوية و هويات
جمال سعيد

هويتنا القاتلة
لبنى أبو خير

الخوف من الثورة بوصفها فضيحة للهوية المشوهة!
عمر الشيخ

-البعث والهوية السورية
رانيـــــــــــــــا مصـــــطفى

أنا سوري! آه يا ويحَ قلبي
أروى غسان

البدل ليس ضائعاً…الهوية السورية في استراحة مقاتل
ملك بيطار

السوريون وصراع الهوية والانتماء
عامر فياض

بيان من أجل الهوية السورية!
معتز نادر

الهوية السورية وأسئلة الحرب المفتوحة
معاذ اللحام

حول الهويات في سوريا
مصطفى تاج الدين الموسى

الهوية السورية على المحك
زينة محمود

قومية زائدة… هوية ناقصة!
إلياس بيطار

سجالات الهوية الوطنية وغياب دور الدولة
أنور بدر

الهوية السوريّة الضائعة
فريد حسن ياغي

الهويَّة السُّوريَّة من التَّفخيخ حتَّى الانفجار
عامر العبود

هوية بلا دين ولا طائفة ولا قومية
غيداء العودات

هويّة شوّهتها العقائد والمصالح
عادل نديم أحمد

يوميات سورية: النساء والعيد، ذات حربٍ طويلة

يوميات سورية: النساء والعيد، ذات حربٍ طويلة

ربما هي مصادفة سعيدة بتزامن يوم المرأة العالمي مع عيد الأم في شهرٍ واحد هو شهر آذار (مارس). لكن بسبب تفاصيل الحرب اليومية يغدو معنى كلمة عيد أو يومٍ خاصٍ للنساء ترفاً ممجوجاً ومدعاةً للكوميديا السوداء، ويصير سؤال النساء عن رغباتهن أو انطباعاتهن في هاتين المناسبتين مجرّد كلامٍ فارغٍ دون أي مضمون، ،وهذراً كلامياً لا مبرر له ولا من مستعدٍ حتى لخوض غمار التفاعل معه والإجابة عن تلك الأسئلة. إن كان البعض يحيل هذين اليومين لمناسبة تذكيرية بالهموم والنواقص والانفعالات العاطفية إلا أنّ الطابع العام هو مجرد اجترار لهمومٍ تئن دونما سعي لتدبيرها واستهلاكٍ للدموع لا راد له وزهورٍ وورودٍ على الشاشة الزرقاء أو شاشة الجوال وهدايا ترهق الجيوب ولا تُفرح القلوب.

“أم نشأت” سيدة خمسينية تعيش في الحديقة. قد توحي كلمة حديقة بوجود مساحة خضراء وارفة الظلال وفيرة المياه والمقاعد، لكنها هنا مجرد أرض جرداء بلا شجر أو عشب طري، مقاعدها مجرد بقايا مفصلاتٍ معدنية مغروزة في الأرض الجرداء. سألتها عن أمنياتها فقالت: “لا أمنيات، مجرد حاجات، أن أعود لبيتي، أن أستحم بماءٍ نظيف وحمامٍ مغلقٍ، أن أنعم بملابس نظيفة ودافئة بعد الاستحمام، أن أشرب قهوتي على شرفتي الصغيرة وأن ألقي تحية الصباح على جيراني وأهل حارتي.”

كانت “أم نشأت” قد قالت لي سابقاً في أول يومِ في السنة الجديدة وفور معايدتي وأمنياتي لها بسنة أفضل: “ليش قديش اليوم بالشهر نحنا وبأي سنة ؟” قالت لي يومها: “لو كان لدي مجرد حائطٍ صغيرٍ أعلق عليه تقويماً للأيام وساعةً جداريةً لكنتُ  فهمتُ عليك ورددت المعايدة بأحسن منها!”

في اللامكان الذي يصير بيتك واللازمان الذي يصير عالمك  نحن لا شيء أيضاً.

***

في مراكز الإيواء والحدائق والبيوت المشتركة التي تضم عائلاتٍ عديدةٍ يتحول الجنس إلى كابوس وتصبح العلاقات الزوجية مسرحاً للانتقام. “غالية” سيدة متزوجة تزوج زوجها الشهم بامرأة ثانية، ويعيشون في أحد مراكز الإيواء. بترتيب ٍغريزيٍ وبقرارٍ تحت إلحاح الحاجة تقرر النسوة تخصيص أحد الحمامات للعلاقات الجنسية، يبدو الأمر هنا تحايلاً عبقرياً على التشرد والحرمان، لكنه يترتب على غالية أن تكون الحارس الأمين لزوجها وضرّتها أثناء ممارستهما للعلاقة الزوجية. تخيلوا غالية تقف على باب الحمام والاضطهاد العاطفي يصفعها بعدد اللحظات خاصة بعد أن تخلى زوجها عن معاشرتها لصالح الزوجة الأصغر سناً والأجمل والأحدث. وكأن الزوجتين مجرد طنجرة يُفضل استخدام الأحدث حرصاً على جودة الطعام ومنظره، تشييئٌ دونيٌ تتآمر فيه الحرب وظروفها والقوانين التمييزية وهمجيتها والعادات ووحشيتها وذلها.

***

تحاول سمر جاهدةً تأمين موافقة على وصايتها على طفلتيها لأن زوجها مفقودٌ ووالد الزوج بعيدٌ جغرافياً وأشقاء الزوج في ألمانيا. تريد سمر التصرف في بيت الزوجية وتأجيره لتأمين دخلٍ يعيلها مع ابنتيها الصغيرتين.

أمّا غادة فقد استلمت قرار زوجها بتطليقها عبر وكيلٍ قانوني هو زوج أخته، وزوج غادة في هولندا وقد تزوج بسيدة سورية من حلب تعيش هناك. يبدو قرار الزوج تطليق زوجته إيجابياً فهو يمنح غادة هنا حريتها ويفك وثاقها من ارتباط ٍعلى الورق، لكنه يُجبر غادة باعتبارها مطلّقة ترك منزل الزوجية هي وأطفالها الثلاثة ولتذهب إلى الجحيم، خاصةُ أنها لا تعمل وأهلها  يعيشون في بيتٍ مستأجر يقطنه سبعة عشر شخصاً، والنفقة في أحسن الأحوال لا تتجاوز العشرة آلاف عدا عن الإجراءات المعقدة لرفع الدعوى ووجود الزوج في الخارج وغيرها من التعقيدات البيروقراطية.

***

تحولت شذا ما بين ليلة وضحاها إلى معيلةٍ لأسرتها، لوالدتها المصابة بالسكري ولأبيها الضرير ولشقيقاتها اليافعات وأبناء أختها الكبرى التي أصبحت أرملة فجأة. مقابل بنطال جينز لأختها التي لم يتبق لديها ما يستر جسدها، وافقت شذا على ممارسة الجنس مع صاحب محل بيع الألبسة الجاهزة الذي تعمل لديه. وكرّت سبحة بناطلين الجينز والبيجامات والأحذية وأسطوانة الغاز وتكاليف الدواء وأجرة البيت وملابس المدرسة والكتب والدفاتر، وهكذا تحولت شذا لإحدى ممتلكات صاحب المحل الذي خصص مكانا ضيقا في المستودع لمعاشرتها كما يشاء مقابل الإنفاق دونما حماية أو أدنى اعتراف، بل إن  تسميعات الجوار من أصحاب المحال والزبائن جعلت من شذا عاهرة يحاول الجميع النيل منها بذريعة أنها رخيصة ولا مانع لديها من معاشرة أي كان مقابل منفعة مادية.

***

سميرة سيدة خمسينية سافر زوجها وولداها إلى النمسا فباتت وحيدة ومهجورة مصابة بمرض ارتفاع الضغط.  تقطن سميرة في شقة في الطابق الثاني عشر من برجٍ سكني، وذات يوم اكتشفت نفاذ أدويتها بينما كانت الكهرباء مقطوعة والصيدليات في عطلتها الأسبوعية فماتت من الخوف إثر نوبة قلبية نفسية المنشأ من شدة الذعر. كان بوسعها البقاء حيةً أياماً دونما دواء خفض الضغط لكن توترها ووحدتها وغياب من يرعاها أو يتطوع لمتابعة أدويتها مرةً بالأسبوع أودوا بحياتها في لحظةٍ موجعةٍ، ولو توفر لها أي مقوّم من المتابعة أو المسؤولية أو الشراكة، لكانت قد بقيت على قيد الحياة تنتظر ورقة لم الشمل لتلتحق بعائلتها. ولابدّ من  الإشارة هنا إلى أن عدة سيدات أعرفهن قد قمن بخطوةٍ غريبةٍ وحديثة العهد على المجتمع السوري، خطوةٌ صفق لها الكثيرون والكثيرات واعتبروها حلا مثالياً لتوابع وحدتهم/ن، وهي قيامهن ببيع البيوت التي يسكنونها ويملكونها ووضع قيمتها في المصرف والإقامة في أحد المآوي المأجورة التي تتبع للكنيسة مقابل الإقامة والمتابعة الصحية والتنظيف، أي عناية كاملة مع حق استقبال الضيوف وحرية الحركة خارج وداخل المأوى المذكور.

وتبدو الشكوى الأكثر إيلاماً هي حياة الأبناء، موتهم غير المعلن إلا باتصال هاتفي، تغيبهم الطويل دونما خبر أو زيارة أو معلومة، استقبالهم بكفن أو من دونه والتكتم على أمراضهم النفسية جراء الاختباء  الطويل أو الشدات النفسية جراء التهديد أو الفصل من العمل أو ضياع مصادر الرزق أو تضرر أجسادهم بقذائف أو رصاص طائش لا يوجد من يردعه أو يحاسب أو يعوض عن نتائجه المرة.

***

في الحرب اسأل النساء وحدهن عنها، على وجوههن تمر شظايا الخيبات والفقد والرحيل وعلى أجسادهن تسجل علامات الانتقام والانكسارات والعقوبات والانهزامات، هن مرآة الحرب وهن خلاصة القول وبلاغة الخسارات. في قلوبهن أسئلة بلا أجوبة وانتظارٌ يطول يميت جذوة الحياة قبل ترنح أجسادهن في مهاوي الترمل والطلاق والفقدان والجوع والمذلة والتنميط والتهميش والاغتصاب والمتاجرة بعواطفهن وأمومتهن وأجسادهن وحقوقهن الأساسية. في الحرب تصبح الأعياد مجرد نهشٍ للروح وضرباتٍ صارخة للتذكير بفداحة الجروح والنواقص وبسطوة الغياب والتغييب.

للسوريات القابضات على الجمر، المنتظرات ظلال الأمل وقرارا بوقف الحرب، كنّ بخير يا غاليات. لنكون وسورية  بخير.

هنا دمشق

الثامن من آذار 2018

المسرح السوري في الحرب: ارتجالات جماعية في وجه الموت

المسرح السوري في الحرب: ارتجالات جماعية في وجه الموت

تصادم أساليب حاد شهده المسرح السوري في سنوات الحرب السبع الفائتة، فالمسرح الذي كان يرتهن لأشكاله القديمة وتكراراته المملة خلع هذه المرة ثوب الوقار القومي، ليرتدي بزته المموهة وقبعة الإخفاء الماهرة من جميع أنواع الرقابات السلطوية منها قبل الاجتماعية والقبلية. يمكننا الإطلالة على هذه الخشبة التي تصرخ وهي تحترق؛ إذ سجلت مسارح سوريا -ولاسيما في العاصمة دمشق- عشرات العروض التي عبّرت عن شجاعة واضحة ورغبة في الإشهار والصراخ في وجه الموت العمومي وغرائز التدمير الهمجية.

المسارح السورية أيضاً ولاسيما الأثرية منها والتاريخية من مثل مسرحي بصرى وتدمر تم السيطرة عليهما من قبل المليشيات المسلحة، بل تحول مدرج تدمر التاريخي إلى منصة إعدام شاهد العالم كله ماذا فعل ما يسمى بـ (تنظيم الدولة الإسلامية- داعش) فوق خشبته الحجرية.

سيكون نصيب المسرح القومي من عروض الحرب هو الأغزر إنتاجياً، ولن تكون الرقابة القبْلية حديدية كما كان الوضع ما قبل الحرب، فلجان المشاهدة وقراءة النصوص صارت أمراً شكلياً، وصار من الممكن تقديم أطروحات موضوعية على الخشبة بهامش مفاجئ من حيث سعته وقدرة العاملين في المسرح على أخذ الأمور حتى نهاياتها في انتقاد طرفي النزاع على حدٍ سواء.

“كأنو مسرح” لـ غسان مسعود عن نص لابنته ” لوتس مسعود” كان مثالاً على توسيع هوامش جديدة، وتسمية الأشياء بمسمياتها على الرغم من الحلول الفنية المتواضعة والبنية المباشرة للنص المكتوب؛ إذ كان (مسعود) قد ركز على تناول الحرب من مقلبٍ آخر عبر تطويع نصوص المآسي الكبرى لشكسبير في مسرحيته “عرش الدم- الأوبرا السورية” ولتكون “مكبث” باقتباس رياض عصمت عنها هي حكاية العنف والشر والطموح بالسلطة؛ وحيث (الدم يطلب الدم) كإسقاط ماهر عن نبذ للعنف، وإدانة القتل العبثي.

مثله كان عرض ” اختطاف” لـ أيمن زيدان، والذي قام بالتعاون مع محمود الجعفوري بإعداد مسرحية “الأبواق والتوت البري” للإيطالي داريو فو، موجهاً نقداً لاذعاً لتحالف السلطة مع المافيا، والاستثمار في الإرهاب تحت عناوين وشعارات يسارية ضللت الشعوب وجعلتها نهباً لحكومات رجال الأعمال المتعاقبة.

سوف يقدم (زيدان) أيضاً مسرحية “دائرة الطباشير” مستعيراً نص المخرج والكاتب الألماني “برتولت بريخت- 1898- 1956” عن العنوان ذاته الذي أراده “زيدان” مفتوحاً على كافة الإسقاطات الممكنة حول الحرب الدائرة في بلاده منذ سنوات؛ وذلك بحذفه لكلمة “قوقازية” من عنوان النص الأصلي؛ تاركاً “الدائرة” هنا دون إغلاق مكاني أو زماني.

من جانب آخر تناول المسرح الحربي البيئات الفرعية ذات الثقافات الإثنية والعرقية عبر أكثر من عرض كان أبرزها “المرود والمكحلة” لكاتبه عدنان العودة ومخرجه عروة العربي. خروج من سطوة النصوص القديمة نحو أشكال مسرحية جديدة للمراهنة مجدداً على فعل اللهجة وقدرتها على ابتكار الحركة على خشبة المسرح؛ وصولاً إلى خصوصية إبداعية تسعى لتأصيل اللهجات المحلية في اللعبة المسرحية، وذلك بالذهاب أكثر خلف ما يشبه ملحمة سورية معاصرة بدأت عام 1917 بمذبحة الأرمن على يد العثمانيين، لتتقاطع مع حكاية شاب سوري- كردي يصادف أخته من أمه في ليلة من ليالي دمشق بعد سنوات طويلة.

سيكرر (العربي) التجربة في عرض (مدينة في ثلاثة فصول) عن نص ( احتفال ليلي خاص في دريسدن) لـ مصطفى الحلاج، وذلك عبر التعرض لجذر الإشكالية السورية من خلال السؤال التالي: الحرب بين من ومن؟ يسأل أحد الممثلين في العرض؟ فيجيب آخر: “الحرب بين (نا) و(نحن) وليست بيننا وبين إسرائيل، نحن يقتلنا و(نا) يقتلُ نحنُ”. سوف لن تحضر هنا وصايا ” غوبلز” وزير الدعاية الحربية في حكومة هتلر، بقدر ما سنشهد سجالات لها إسقاطاتها على الحرب السوريةبالنظر أكثر نحو التجارب الطازجة.

الأماكن البديلة:

حضرت الأماكن البديلة جنباً إلى جنب مع فن الارتجال كجزء أساسي من مسرح الحرب السوري، ليأتي في مقدمته مختبر مفتوح بشكل علني وشجاع على كتابة النص الجماعي عن أعراض الصرع السوري، وذلك دون التعويل على النصوص الأجنبية المترجمة أو الاقتباس عنها، بل في اقتراح صيغة راهنة وحارّة عن المعيش اليومي وفداحة الخسائر الإنسانية في ظل الحرب. الجنون هنا أتى كثيمة مناسبة لاختراع أبعاد أكثر تحرراً في مخاطبة الجمهور، ولاسيما في التجربة التي قدمها المخرج سامر عمران في مسرحية “رماد البنفسج” محققاً تعاوناً لافتاً مع الكريوغراف نورا مراد لصياغة فضاء مسرحي أطل على اللحظة الراهنة بكل تناقضاتها ومفارقاتها الصادمة؛ حيث عمل كل من “عمران” و”مراد” على تحقيق عرض استوحى حكايته من مستشفى الأمراض العقلية؛ متخذين من سيكولوجيا الجنون مادةً رئيسةً لإدارة الممثل. شخصيات ذكّرت برائعة الألماني بيتر فايس “مارا ساد” وقصة “العنبر رقم ستة” لتشيخوف.

سوف يكرر (عمران) هذه التورية في استخدام مقهى شعبي في قلب دمشق القديمة، وذلك ليقدم مسرحيته “نبوءة- إنتاج عين الفنون” مسنداً دور الحكواتي لممثلة شابة (ربا الحلبي) ليكون الجمهور أمام حكواتية امرأة في مناظرة ذكية مع الكرسي الفارغ الذي يتوسط مقهى النوفرة الأثري بعد موت” أبو شادي” آخر حكواتي في دمشق بعد نزوحه من بيته مع أسرته من ريف دمشق بفعل النزاع الدائر؛ فمنذ موت آخر حكواتي في البلدة القديمة، أصبح أعرق مقاهي العاصمة السورية يستقبل زواره دون سماعهم سيَر عنترة وعبلة وأبي زيد الهلالي، إلا أن “عمران” في “نبوءة اختار “مقهى الشام القديمة” المواجه مباشرةً لمقهى “النوفرة” في تحدٍ فني لافت لرجال احتكروا مهمة السرد لقرون طويلة؛ متناولاً سنوات الحرب في بلاده؛ لتسرد المرأة هذه المرة  حكاية من نوعٍ آخر؛ مبتعدةً عن قرقرة ماء النراجيل وجمر أدخنتها وصيحات أنصار الزير ودياب الغانم. الحكواتية الشابة تلت نبوءاتها المتعددة دامجةً بين التمثيل والترتيل والغناء، مفتتحةً بمقطعٍ من “ملحمة السراب” لسعد الله ونوس 1941- 1997″ المسرحية التي كانت بمثابة استشراف مبكّر لما سيؤول إليه واقع البلاد.

صرخة المسرح في وجه الحرب استمرت قوية وهادرة من خلال عروض كان لها طابعها السياسي، وسمتها الجدلية والمعاندة لأطروحات السياسة (دعارة العقل) كما يصفها نيتشه، ولتأتي عبارة “هوب هوب” لتكون عنواناً للمسرحية التي قُدِّمت على مسرح الحمراء، ولتكون بمثابة طلب صريح وواضح من “سائق الحافلة” السورية بإيقاف فوري وعاجل للحرب الدائرة منذ سنوات على امتداد كامل البلاد؛ فالعرض الذي أخرجه الفنان عجاج سليم كان قد اشتغل عليه مع اثني عشر ممثلاً وممثلة في ورشة مفتوحة على الارتجال الجماعي مع الممثل؛ مطوّعاً نص “الجزيرة القرمزية” للروسي “ميخائيل بولغاكوف-1891- 1940” عن إعداد جوان جان؛ ولصالح مقاربة جريئة اتخذت من الكارثة الوطنية الأعنف في تاريخ البلاد موضوعاً فنياً لها؛ إذ يأتي عرض “هوب هوب” ليكون العرض الجماعي الأول الذي رفع عقيرة المسرحيين السوريين عالياً إزاء ما يدور على أرضهم؛ مقتبسين العبارة الشعبية “هوب هوب” كصرخة بمدلول سياسي لا يخلو من التهكم والمرارة؛ حيث بدا هذا جلياً من كلمة المخرج “سليم” على بروشور العرض: ” (هوب هوب) تعني الطلب من (سائق الحافلة) التوقف السريع؛  وفي اللهجة الدارجة تشير بشكل عام إلى الرغبة بإنهاء فعل، أو حوار، أو مشكلة، …أو أزمة؟”.

هوب هوب

مختبر مسرحي:

بمقابل عروض المسارح الكبرى للعاصمة والأماكن البديلة كان ثمة مختبر مسرحي ينمو بهدوء وكتمان داخل جدران المعهد العالي للفنون المسرحية؛ مختبر كان من الصعب عليه أن يزدهر ويترعرع على مسارح العاصمة السورية؛ أولاً من جهة المحرّمات الدينية والسياسية التي ستواجهه في حال العمل على هذه المسارح المفتوحة نسبياً أمام شرائح متنوعة بين الجمهور والحشد، وثانياً من جهة طبيعة العروض التي يديرها أساتذة ومخرجي الأكاديمية المسرحية الأعرق في البلاد، والتي تنحو إلى صيغ أكثر تحرراً ومباغتة للراسخ في الدماغ الجمعي الديني والسياسي.

هكذا على الأقل قدم فايز قزق عرضه ( إيواء واء واء- أستوديو شريف شاكر) كحلقة من سلسلة عروض كان (قزق) قد بدأها مع طلاب التمثيل، فمن ( وعكة عابرة- 2008) إلى ( حكاية السيدة روزالين- 2011) وصولاً إلى هذا العرض؛ والذي برهن من خلاله بطل عروض (فرقة شكسبير الملكية) تجربةً إثر أخرى أن البروفة هي الزمن الأصلي لصياغة العرض المسرحي؛ سواء من حيث اشتغاله على الارتجال كمسوّدة دائمة الكتابة مع الممثل، أو حتى من خلال تلك الرغبة في نبش خفايا هذا الممثل وزعزعة كيانه الداخلي؛ دافعاً إياه إلى أقصى ما يمكن من البذل والسخاء على الخشبة؛ خارجاً في مسرحية ( إيواء واء واء) إلى براح التأمل الجماعي والبحث وفقاً للفرضية التي وضع المخرج السوري ممثليه فيها؛ لتكون وجهاً لوجه مع الحرب الدائرة في بلادهم.

حكاية الشخصيات الثماني عشرة في عرض ” إيواء واء واء” بدت مزدحمة بحضورها وأفكارها واضطراباتها الموحشة، وتعويلها على التناقضات، من مثل مشاهد الأطفال في لحظة التناسخ العجيب نحو القتل والتآمر، دار الإيواء الذي تحول إلى ماخور، المواجهة الصادمة بين الدين والمدنية، قصة الحب الكردية في عيد النوروز؛ قارب الموت المزدحم بدوره كسفينة نوح سوريّة؛ يكاد الدم يحفُّ بها من كل جهات الأرض الأربع، الملاكم ورجل الدين، الديوث والعاقر؛ الخادم والسيدة. متتالية لا منتهية من غثيانات منفلتة بوحشية على خشبة العرض؛ جعلها (قزق) تبدو كصورة مصغّرة عن بلادٍ ترقص في حفلة تعذيب جماعي؛ حيث لا يهدأ سعير المواجهة حتى يعود ويشتعل وفق ثنائيات متحاربة، سعير لا ينجو منه حتى الأموات في أكفانهم.

كوميديا الحق والحق الآخر! قدمها المخرج تامر العربيد هو الآخر ضمن صيغة الارتجال في عرضه” جسور- مسرح فواز الساجر” متكئاً على نص “قضية أنوف” للكاتبة المكسيكية الساخرة (ماروشا بيلالتا) فاستطاع فريق ممثلي هذا العرض صياغة مشروعهم الساخر من الحرب، معوّلين في ذلك على تقنية الارتجال الجماعي في كتابة شخصياتهم وتلوينها.

لقد كان الاقتراب من تجسيد الشخصية النمطية المسخية في “جسور” تجاوز ذلك عبر إسقاط حكاية المسرحية على المقتلة السورية؛ حيث أطل الجمهور من خلال شخصيات هذا العرض على بلدة خرافية اختلف أبناؤها من أجل أتفه الأسباب (أصحاب أنوف قصيرة وآخرين طويلة)! فاندلعت بينهم حروب عبثية مضحكة؛ قاربها الممثلون بأداء حار ولافت من خلال أسلوبي “الفارس” و” الغروتيسك” لتحضر المأساة والعنف والقتل والمؤامرات بين ذات البين في قالب طريف وكاريكاتوري.

الفنان جهاد سعد جاء أيضاً إلى خيار الورشة الفنية المفتوحة في عرضه “هستيريا” واضعاً ممثليه التسعة على “مسرح سعد الله ونوس” وجهاً لوجه مع امتحانات عدة للجسد واللياقة والصوت وحساسية التفاعل الجماعي على الخشبة؛ لتقدم هذه التجربة عروضها في المعهد العالي للفنون المسرحية بصدامية أداء جماعي جعلت الممثل منساقاً إلى نوعية خاصة من مسرح العنف الذي تتغلب فيه القدرة البدنية على صناعة الشخصية المسرحية؛ حيث استطاع “سعد” في صياغته الفنية الجديدة أن يحقق توريات مسرحية متعددة؛ رامزاً بقوة إلى حال العلاقات الإنسانية في ظل الحرب؛ وما ترتب من آثار نفسية قاسية لهذه الحرب على كل من الرجل والمرأة في ظل هيمنة نشرات الأخبار الدموية على وعي الناس وطبيعة سلوكهم اليومي.

لقطة من مسرحية تصحيح ألوان

مسرح تعدد أصوات

مجدداً خرج عبد المنعم عمايري هو الآخر عن كليشيهات المسرح السوري، متابعاً تجربته على الارتجال، والتي كان قد بدأها بعرض  “سيليكون- 2010” آخذاً ممثليه نحو مفازات الممثل الحقيقية، فالنص هنا كان نتيجة لكتابة جماعية امتزجت فيها السيرة الذاتية بصيغة الجماعة، فعمايري أكد في تجربته هذه التي حملت عنوان “ليبيدو” حيوية المقترح وأحقيته كمحترف لانهائي، وكمسوّدة لا متناهية تتم كتابتها في كل مرة يصعد فيها الممثلون على الخشبة؛ فمن خلال إبرام تناص باهر بين نصوص “روميو وجولييت، ريتشارد الثالث، عطيل” لشكسبير، و كل من نصي “عربة اسمها الرغبة” لتينسي وليامز، و”رحلة الليل في النهار” ليوجين أونيل غزل الممثلون أطروحتهم الخاصة بهم، وتصوراتهم الشخصية حول مفهوم إعداد النص وبنائه نحو صيغة عرض احترافي، ليدفع عمايري ممثليه في (ليبيدو) إلى تجربة فعلية لاختبار قدراتهم الأدائية بطريقة تتيح لهم ديمقراطية شاسعة من خيارات الكتابة والتمثيل وإنتاج الأفعال عبر ينابيع الحياة والعيش ضد الحرب.

(سوريون بعنوان) ساق أيضاً تجربة تعدد الأصوات عن أشعار محمود درويش حيث حضر كل من: (السائق العصبيُّ، الجنديّ، الجامعيّ، السيّدةُ، الشاعر، والمسافر) شخصيات المسرحية التي اقتبسها عرض ( سوريون بعنوان- مسرح سعد الله ونوس) من أشعار محمود درويش؛ مطوعاً تعدد الأصوات (البوليفونية-Polyphonie) في نصوص: (لا تعتذر عمّا فعلت، الجدارية، مديح الظل العالي)، لتأتي كحوارات درامية قام بأدائها ممثلو فرقة المعهد العالي للفنون المسرحية؛ مرتكزين في هذه التجربة التي أشرف عليها كل من ( سامر عمران، ووسيم قزق، وشادي كيوان، ونورس عثمان) على إيحائية النص الشعري كخطاب أدبي ينطوي على حوارية الأنا والآخر.

بدوره قدم الفنان أسامة غنم نص (مجموعة الحيوانات الزجاجية) لكاتبها ( تينسي وليامز1911- 1983) محيلاً هذا النص إلى عرضٍ سوري بامتياز تحت عنوان (زجاج- مسرح فواز الساجر). مهارة عالية سجلها (مختبر دمشق المسرحي) الذي يشرف عليه (غنم) بنفسه منذ العام الأول للحرب؛ منهياً بتجربته الجديدة جدلية النص والعرض؛ لصالح فن الأداء وقدرة الممثل على اكتشاف نفسه من جديد على الخشبة؛ بعيداً عن عبودية هذا الممثل لخطة إخراجية صارمة، تعتبر الأدبي مادةً درامية بحتة؛ لا يجوز (درمتتها) إلا بما تمليه المؤشرات والإحالات النصية للكاتب؛ بل عبر الممثل الشريك والمنغمس حتى النهاية في اللعبة المسرحية.

فهم عميق ومؤثر ساقته النسخة السورية ( إنتاج -مواطنون فنانون- آفاق) من نص (الحيوانات الزجاجية) مطوعةً مفردات محلية ومفارقات نفسية أليمة لصالح بناء الشخصيات من جديد؛ انتزاعها من أربعينيات القرن الفائت؛ لزرعها في صراع مرير بين تفاهاتها اليومية وأحلامها المهدورة؛ حيث تصير هذه الشخصيات المتورّمة بثراء عالمها الداخلي؛ نسخةً عن عائلة سورية حزينة؛ عائلة أرادها مخرج العرض صورة عن بلادٍ بأكملها؛ فلم يكن من السهولة بمكان وبعد سبعة أشهر من البروفات المستمرة، الوصول إلى تلك المكابدات الدفينة التي قدّمها (زجاج) بحيوية عالية ورغبة وقلق شديدين لمقاربة الحطام الاجتماعي؛ دافعاً بشخصياته الأربعة إلى أمكنة خطيرة من الذاكرة الجماعية.

بسام كوسا خاض هو الآخر تجارب لافتة في مسرح الحرب السورية؛ كان أبرزها عرض “الكوميديا السوداء عن نص لـ (بيتر شافر) المسرحية التي كتبها رائد الغرابة الإنكليزية عام 1965؛ ليذهب عرض “الكوميديا السوداء” نحو نظرة غاية في الطرافة على حماقات مجموعة من الشخصيات التي تتحسس طريقها في غرفة داكنة الظلمة على مسرح الحمراء الدمشقي؛ حيث ترتطم الشخصيات بكم كبير من المواقف والمفارقات المضحكة بناء على انقطاع الكهرباء؛ الفرضية التي بنى عليها كاتب النص مواقفه الساخرة من كذب المثقفين وانهيار قيم الطبقة الوسطى وتحولهم من ذات إلى موضوع؛ فضلاً عن نفاق أصحاب المال وعلاقات الحب العابرة في فضاء غميضة من التخفي في العتمة.

تجربة سوف يعيدها (بسام كوسا) في مسرحية (تكرار) مقتبساً نص (المتحذلقات السخيفات) لموليير. العرض الذي جاهر عبر ثلاثة أزمنة بتعرية طبقة تجار الحرب ومحدثي النعمة، قدم ثلاث نسخ متتالية من رائعة الكاتب الفرنسي، مطلاً من خلالها على زمن النبلاء المزيفين في القرن السابع عشر، جنباً إلى جنب مع طبقة الباشاوات وأصحاب الطرابيش ورجال ونساء الصالونات الأدبية مطلع القرن العشرين في سورية، وصولاً إلى الزمن الراهن للبلاد، حيث صاغ مخرج العرض مع تسعة من ممثليه ما يقارب ثلاثية تاريخية عن زيف الطبقات الصاعدة في أوقات الأزمات، معللاً بذلك مدخله إلى العرض بمونولوج ألقته الممثلة (فرح دبيات) عن تشابه البشر وعدميتهم في كل الأزمنة، (فلا جديد تحت الشمس)!

(عرض البحر) مسرحية هي الأخرى مزجت العبث بالعنف حققها مجد فضة على خشبة سعد الله ونوس مع كل من الممثلين وسيم قزق و الفرزدق ديوب وياسر سلمون؛ ليطل (فضة) بذلك على أبرز نصوص الكاتب البولوني “سلافو مير مروجيك” من خلال نسخة سورية عمل عليها دراماتورجياً مع إبراهيم جمعة.

التجربة التي قدمها المعهد العالي للفنون المسرحية؛ بدت أقرب إلى مسرح اللامعقول من حيث اعتماد المخرج على أسلوب “الغروتيسك” فعكست قالباً عبثياً لشخصيات العرض متكئة على تقنيات مسرح الكلام، وذلك مع الإبقاء على هيكل النص الأصلي “في أعالي البحار” حيث نشاهد ثلاثة رجال يقطعون رحلتهم نحو المجهول فوق طوفٍ خشبي؛ وليكون الجمهور شاهداً على تباينات حادة في الشخصيات الثلاث؛ حيث هناك الانتهازي والرومانسي والعضلي الأهوج.

أنماط كشفت عبر حوارها المطوّل عن ماضيها قبل اختيارها للهجرة عن بلادها، وعن قصص حب وخيبات عاشتها الشخصيات الثلاث في عملها وعلاقاتها الحميمة وصدامها مع الآخر المختلف سياسياً عنها، كلاً حسب وجهة نظره لكن ومع نفاد المؤن على متن الطوف تتكشف نوازع بدائية لدى الرجال الثلاثة؛ وصولاً إلى فرضية التضحية بواحد منهم ليكون زاداً للرجلين الآخرين بدلاً من موت الجميع جوعاً في عرض البحر.

مسرحية (ستاتيكو) ناقشت هي الأخرى الحرب السورية بذكاء لافت، مستعينةً بنص لشادي دويعر وإعداد مخرجها الفنان جمال شقير الذي ذهب في تجربته الأولى إخراجياً نحو مناقشة ثقافة الانتحار عبر شخصية (حكم) التي لعبها سامر عمران إلى جانب كل من نوار يوسف و محمد حمادة، مسجلاً على شريط كاسيت وصيته الأخيرة قبل أن يتدخل كل من جاره وصديقته في تعطيل خطته للموت بعد لجوء الفتاة الشابة إلى شقته للاختباء عنده بعد عودة الأهل المفاجئة.

العرض الذي أنتجته مديرية المسارح والموسيقى حاز ثلاث جوائز في الدورة الأخيرة لمهرجان قرطاج، ذاهباً نحو حذافير الواقع في محاكاته للديكور الذي أنجزته سهى العلي عبر تصميمها لشقة تطل على شارع من أحياء دمشق ليلاً تموضع في عمق الخشبة، بينما حافظ على موقع لافت للوحة (الغارنيكا) لـ بيكاسو؛ مسقطاً الحرب الأهلية الإسبانية على الواقع السوري الراهن؛ في إشارة لما حمل بطل العرض على الانتحار.

الرقة… دخولها يشبه لحظة الفاجعة

الرقة… دخولها يشبه لحظة الفاجعة

الرقة

“دخول مدينة الرقة يشبه لحظة الموت، لحظة الفاجعة تبدأ كبيرة ثم تتلاشى”،  هكذا يصف الدكتور فواز الأحمد الذي عاد إلى مدينة الرقة بعد حوالي ٤ أشهر من سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) على المدينة.

يقول الأحمد: إنّ ” كل ما شاهدته على محطات التلفزة عن مدينة الرقة ، لم يكن سوى جزءاً صغيراً من لوحة تمتد عدة كيلومترات من الدمار والركام وأحياء خالية من سكانها تفوح منها رائحة الجثث المتفسخة، رائحة الموت والدمار. بكيت كما يبكي الطفل الذي كسر لعبته الجميلة، وأنا أتجول في أحياء المدينة. هنا بناء فلان وهنا بيت فلان أبنية سوي الكثير منها بالأرض.”

ويتحدث طبيب الأطفال الذي لم يغادر مدينة الرقة منذ ٢٠ عاماً إلا بعد سيطرة تنظيم داعش بداية عام 2014، عن عدم قدرته على النوم في اليوم الأول من وصوله إلى المدينة، قائلًا: “لم أستطع النوم في الليلة الأولى، تجوّلت  في صباح اليوم الأول في شوارع المدينة المدمرة وقد أعياني الحزن وغالبتني الدموع على حالها،  في اليوم التالي تمالكت نفسي ولم أبكِ، وتجولت في كل شوارعها ، وفي اليوم الثالث بدأت أبحث عن عمال لترميم منزلي وعيادتي؛ من أجل البقاء في مدينتي لأقدم خدماتي لأبنائها، الذين حرموا منها خلال وجود داعش وما بعده.”

الرقة التي حولها تنظيم داعش الى عاصمة له، ما أدى إلى تدمير المدينة وتحويل نحو ٧٠ بالمئة منها إلى أنقاض، من دون وجود أية نوايا جدية من أجل  التحرك لإعادة إعمار المدينة رغم الوعود المتكررة في المؤتمرات والتي بقيت حبراً على ورق واقتصرت على إزالة الأنقاض من ثلاثة شوارع في المدينة التي تمتد آلاف الهكتارات تقوم بها منظمة التدخل المبكر الأميركية.  

رغم الدمار الكبير الذي حوّل الكثير من أحياء المدينة الى ركام، عاد بعض الاهالي إلى أحيائهم، ورمموا ما استطاعوا من منازلهم المدمرّة على قدر استطاعتهم، وسط غياب الخدمات الأساسية، عودة شكلت صدمة عند الجهات المشرفة على المدينة التي راهن البعض منهم على عدم عودة أحد إلى المدينة.

مجلس محافظة الرقة المدني -الذي أسس من قبل قوات سورية الديمقراطية (قسد)- يشرف على عمليات ترحيل الأنقاض، ويقدّر أمين سر مجلس المدينة، ابراهيم الفرج حجم الدمار في وسط المدينة والأحياء الغربية منها بنحو ٨٠ بالمئة، ويقول: إنّ “وزن الركام والأنقاض في الشوارع  يبلغ نحو ١٠ مليون طن، حيث نقوم بالتعاون مع منظمة التدخل المبكر بترحيل الأنقاض وفتح الشوارع الرئيسية؛ لتأمين فتح الطرقات وإزالة الألغام، من أجل ضمان عودة آمنة للأهالي، الذي يقدر عددهم بنحو ١٧٠ ألف شخص.”

ويضيف: “على الرغم من أنّ المدينة، لاتزال تفتقر إلى أبسط الخدمات، إلا أن العيش في المخيمات يدفعهم للعودة إلى مدينتهم”، وأشار إلى أنّ “الكثير من الصعوبات تعترض عودة الأهالي، لكننا نحاول تأمين الخدمات لهم، حيث نقوم بتأمين الكهرباء عبر محطة الفروسية وتأمين مولدات في الأحياء التي عاد الأهالي للسكن فيها، إضافة إلى افتتاح مركز طبي بالتعاون مع منظمة أطباء بلا حدود.”

ضد التحالف و”قسد”

رئيس مجلس مدينة الرقة التابع للحكومة السورية المهندس طلال الشيخ حمّل التحالف الدولي وقوات سورية الديمقراطية (قسد) وتنظيم داعش مسؤولية دمار المدنية، ويقول: إنّ “ما حصل في مدينة الرقة لم يكن طرد تنظيم داعش، بل هو تدمير المدينة وطرد سكانها وتشريدهم في المخيمات، من كان موجوداً في المدينة كان شاهداً على تدمير متعمد للمدينة.”

وكشف الشيخ عن “إعداد ملف حول ما تعرضت له المدينة من تدمير وأضرار لإقامة دعوى قضائية على كل من ساهم بتدمير المدينة وتعريض ما دمر من ممتلكات عامة وخاصة.”

أبرز الأحياء التي تشهد عودة كبيرة لسكان المدينة (حي المشلب)-الواقع شرق المدينة- أول الأحياء التي سيطرت عليها قوات سورية الديمقراطية بداية شهر حزيران/يونيو الماضي، عاد إليه أغلب سكانه إلى جانب بعض سكان الأحياء الأخرى من المدينة، حيث تعود الحياة إلى الحي بشكل متسارع من خلال حركة الإعمار أو ترميم المنازل التي تضررت بالقصف والمعارك.”

صالح الحسن، من سكان حي المشلب، عاد إلى الحي بعد سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) على المدينة، يقول: إنّ “قوات قسد منعت منذ نهاية شهر تشرين أول/اكتوبر الماضي من دخول الحي بعد نحو  ثلاثة أشهر على السيطرة عليه وأطلقت الرصاص على أهالي الحي، وأصابت عدداً منهم ، رامية إلى منع الأهالي من العودة إلى الحي، حتّى تتمكن من السطو على منازل السكان، ولكن تحت إصرار سكان الحي، سمح لنا بالعودة إلى بعض المنازل بعد تعرضها للدمار والسرقة، فيما تعرضت منازل أخرى لأضرار بسيطة.”

ويؤكد الحسن الذي يعمل تاجراً على رهان الجميع على عدم عودة أهالي المدينة؛ بسبب الدمار الكبير الذي لحق بها، لكنه يشير إلى “تكاتف الأهالي فيما بينهم من أجل التغلب على الصعوبات التي تمنع الكثيرين من العودة، من خلال تقديم الأثاث المنزلي. نحن أبناء مجتمع عشائري، ومن الواجب أن نساعد بعضنا في هذه الظروف الصعبة”، ويضيف “العودة إلى منزل مدمر، أهون بكثير من العيش في خيمة بالعراء.”

ويضف الحسن: “مع تزايد أعداد القاطنين في الحي تبقى الخدمات محدودة وخاصة مياه الشرب التي تنقل وهي ملوثة بشكل كبير رغم محاولة تعقيمها ولكن كل ذلك يتم بشكل جزئي”، كاشفًا عن “تعرض الأحياء المدمرة لعملية سرقة في وضح النهار من قبل بعض عناصر قوات سورية الديمقراطية (قسد) -الذين قدموا إلى المدينة قبل عودة سكانها- حيث سرقت منازل المدينة في وضح النهار.”

ألغام “داعش”

“بعد السيطرة على المدينة سقط المئات من أبنائها قتلى وجرحى؛  بسبب الألغام، التي زرعها تنظيم (داعش) قبل انسحابه من المدينة- حيث لا يمر يوم إلا وهناك ضحايا جدد. الألغام تنتشر في كل مكان من المدينة، ولاتزال عمليات تفكيكها محدودة.” بحسب عدد من أهالي المدينة.

محمد راضي، فقد ساقة جراء انفجار لغم زرعه عناصر تنظيم داعش، يقول: إنّ “ما تم إزالته من الألغام محدود جدًا، حيث يقوم الأهالي بالاعتماد على أشخاص لا يمتلكون الخبرة والمعدات؛ من أجل تفكيك الألغام في منازلهم والساحات المحيطة بها، حيث تعرض البعض منهم لأضرار؛ نتيجة انفجار الألغام ، وبقيت وعود إزالتها من قبل (قسد) مجرد كلام في الهواء، وفي مدينة حلب التي تتجاوز مساحتها مساحة الرقة عدة مرات تمت إزالة الألغام بعد أيام من قبل الجيش السوري والروسي ونحن لا نعلم متى سيتم ذلك  ، وكل يوم هناك ضحايا.”

منسق المشاريع بفريق (التدخل المبكر) حسام الجاسم يقول: إنّ “أعمال إزالة الأنقاض من شوارع المدينة تأتي ضمن جهود إعادة الإعمار،  كل الأعمال التي نقوم بها لا يمكن وصفها بأنها تدخل تحت إطار إعادة الإعمار بل لدعم استقرار الاهالي وعودتهم إلى أحيائهم وهو هدف المشروع، ومن خلال عملنا في المدينة وتعاون الأهالي أدى لسرعة الإنجاز من خلال إزالة الأنقاض من المنازل وبذلك تسير عملية ترحيل الأنقاض بشكل سريع.”

ويصف حجم الدمار في المدينة بـ “الهائل”، ويضيف: “قدم فريق (التدخل المبكر) مجموعة آليات بكافة مستلزماتها بالإضافة لسائقيها وورشات تنظيف عدد من الشوارع التي تعتبر مركز المدينة ونقل تلك الأنقاض إلى خارج المدينة.”

التدخل المبكر

بدأت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بتنفيذ مشروع إزالة وترحيل الأنقاض في مدينة الرقة، بعد ثلاثة أشهر من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على المحافظة من يد تنظيم الدولة الإسلامية/داعش، في تشرين الأول الماضي.

ويتولى إدارة المشروع فريق التدخل المبكر الذي بدأ العمل في المدينة في ١٤ كانون الثاني الجاري، بعد الحصول على منحة مالية من الوكالة الأمريكية، لينفذ المشروع على مراحل، في سعي لتأهيل المدينة وليستفيد الأهالي من الخدمات والمشاريع، وفق ما قال منسق المشاريع في الفريق، حسام الجاسم، لعنب بلدي.

تأسس الفريق، الذي يصف نفسه بأنه نتاج مبادرة مجتمعية، مطلع حزيران ٢٠١٧ ويقول إنه يسعى لإيجاد الحلول لمشاكل الأهالي، من خلال رصد معاناتهم عبر جلسات مع الأهالي في إطار إعادة الاستقرار للرقة.

ويتكون من قسمين:CRG الذي يعقد اجتماعات دورية مع الأهالي لرصد احتياجاتهم، وERT المؤلف من فريق هندسي يدرس الحلول الممكنة لتلك المشاكل، ويسعى لتطبيقها على أرض الواقع، بمساعدة إداريين من محافظة الرقة.