السلل الغذائيّة’… إذلال للمستحقين ومورد لغيرهم’

السلل الغذائيّة’… إذلال للمستحقين ومورد لغيرهم’

دمشق

في ساعات الصباح الأولى، كان العشرات متجمهرين أمام إحدى الجمعيات الخيرية في مناطق سيطرة الحكومة بريف العاصمة دمشق، ينتظرون على أحر من الجمر تسلم «السلة الغذائيّة» (الإعانة). لكن نبأ إطالة فترة تسليمها لشهر إضافي وقع كالصاعقة على الكثير منهم، لأن ذلك سيزيد من طين معاناتهم المعيشية “بلة” في ظل الفقر المدقع الذي باتت أغلب الأسر تعاني منه بسبب الحرب المستمرة في البلاد. ردود فعل المتجمعين على ما أفادهم به أحد موظفي الجمعية، بأن تسليم “السلة الغذائية” بات مرة واحدة كل ثلاثة أشهر بسبب العجز المالي لدى “برنامج الغذاء العالمي”، تنوعت وعسكت مدى التأثيرات السلبية التي ستترتب على كل عائلة من جراء ذلك القرار.

عوز ولطم

امراة بدت في العقد الخامس من العمر وترتدي ثوباً رثاً وحذاء ممزقاً، وبينما لم يكد الموظف إنهاء كلامه، لطمت بكفيها على خديها، وصاحت بصوت عال  مع محاولات لحبس دموعها: “منين بدنا نوكل (نأكل)”، على حين بادرت أخرى تقف إلى جانبها للتخفيف عنها، وأوضحت أنها “نازحة من جنوب البلاد ولديها خمسة أطفال ولا معيل لهم بعد أن قضى زوجها خلال الحرب.”

أكثر تماسكا، كان عجوز يجلس على الرصيف بمحاذاة باب الجميعة بسبب عدم قدرته على الوقوف واكتفى بالتعليق على الأمر بترديد عبارة: “حسبي الله ونعم الوكيل… إلنا الله” لعدة مرات.

ومنذ بدء الحرب في البلاد قبل نحو سبع سنوات شهدت أسعار المواد الغذائية والخضروات ومختلف الحاجات المنزلية في عموم البلاد، ارتفاعاً تدريجيا ، ووصلت الى حد غير مسبوق، بسبب انخفاض مستوى سعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية (الدولار الأميركي يساوي حاليا نحو ٤٥٠ ليرة)، وتضاعفت غالبية الأسعار عشر مرات عما كانت عليه قبل الحرب عندما كان سعر صرف الدولار لا يتجاوز ٥٠ ليرة.

وانعكس ذلك سلباً على الحالة المعيشية للمواطنين، مع بقاء سقف المعاشات الشهرية للموظفين على ما هو عليه، فالموظف الذي كان مرتبه ٣٠ ألف ليرة قبل الأزمة، أي ما يعادل ٦٠٠ دولار، أصبح مرتبه اليوم يساوي أقل من ٧٥ دولاراً، على حين يقدر اقتصاديون حاجة الأسرة المؤلفة من خمسة أفراد حاليا إلى 800 دولار شهريا لتستطيع مواصلة حياتها بشكل وسطي.

وكشفت دراسة أعدها في مايو (أيار) ٢٠١٦ “مركز الرأي السوري للاستطلاع والدراسات”، وهو مركز موال للحكومة، أن نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر تصل إلى ٨٧.٤ في المئة، وفقا لمعيار البنك الدولي.

ووفق مكتب التنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشوا)، في سورية ٧.٥ مليون شخص نزحوا من مناطق إقامتهم إلى مناطق افترضوها أكثر أمناً، إضافة الى أكثر من خمسة ملايين لاجئ خارج البلاد.

من جانبه، أكد “برنامج الغذاء العالمي” مؤخرا، أن ١٣.١ مليون سوري في حاجة للمساعدات الإنسانية، وأن  ٦.٥ مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي وتوقع ارتفاع هذا الرقم مع استمرار الصراع لـ١٠ ملايين شخص وهو تقريباً ضعف عدد الأشخاص المحتاجين للغذاء في العام الماضي.

ومع تردي الوضع المعيشي للسوريين، أطلقت جمعيات خيرية في السنة الثانية للحرب مشروعاً لتوزيع “سلل غذائية”، وغالباً يكون مصدر تلك السلل”برنامج الأغذية العالمي” التابع للأمم المتحدة، والمنظمة الدولية للصليب الأحمر، وجمعيات خيرية. كما تقوم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التابعة أيضاً للأمم المتحدة، بتوزيع سلل غذائية على اللاجئين الفلسطينيين.

وبعد أن كان يتم توزيع السلال الغذائية مرة واحدة كل شهرين على كل عائلة،  بات توزيعها منذ مطلع العام الجاري مرة واحدة كل ثلاثة أشهر.

وتحتوي السلة الواحدة على مواد أساسية قابلة للتخزين ولا تحتاج إلى التبريد لضمان إمكان حفظها لأطول فترة ممكنة. وفي كل سلة، فول (٦ – ١٢ علبة) وعدس حب (٣ – ٥ كلغ) وبرغل (٢ – ٤ كلغ) وأرز (١٠ كلغ) ومعكرونة (١ – ٥ كلغ) وزيت نباتي (٥ – ٦ ليتر) وسكر (٢ – ٥ كلغ) وملح (١ كلغ) وحمص حب (٢ – ٤ كلغ) وطحين ( ٥/٧ كلغ). كما يتم أحياناً، توزيع أدوات مطبخ ومنظفات وفرش وأغطية إضافة الى السلة الغذائية.

مصدر رئيسي للعيش

في ظل تراجع الوضع المعيشي  بشكل عام، باتت أغلب الأسر السورية في داخل البلاد وخصوصا النازحة تعتمد بشكل رئيس على محتويات السلة الغذائية، التي “تكاد لا تكفي لسد رمق أفردها”، بحسب ما يقول أب لأربعة أطفال، ويوضح أن مرتبه يكفي فقط لدفع بدل إيجار الشقة الشهري وثمن الخبر، ويعتبر أن إطالة فترة تسليم هذه السلة سيتسبب بمشكلة له في كيفية “تأمين معيشة” أفراد عائلته و”لو على الكفاف” في الشهر الإضافي.

وأعلنت الأمم المتحدة في ابريل (نيسان) الجاري، أنه وبحلول يناير (كانون الثاني) الماضي، بلغ عدد من يتلقون مساعدات “برنامج الأغذية العالمي” ثلاثة ملايين سوري، بعد أن كان أربعة ملايين في أغسطس (أب) الماضي، وذلك بسبب نقص التمويل، من دون أن توضح إن كان هذا الرقم يشمل اللاجئين السوريين في دول الجوار أم لا.

وبحسب المنظمة يحتاج البرنامج إلى ١٥٩ مليون دولار للحفاظ على تشغيل عملياته، حتى بنسب منخفضة، إلى شهر يوليه (تموز) المقبل.

محسوبيات

تشترط الحكومة السورية على المنظمات الدولية، أن تتم عملية الإغاثة بالتنسيق معها، وتمنع أي منظمة دولية تُعنى بالإغاثة من العمل على الأراضي السورية من دون موافقتها. كما تحصر عملية تمويل المساعدات وتسليمها في جمعيات خيرية سورية مرخصة بقائمة أشرفت على وضعها وزارة الخارجية. كما تشترط أن تتم عملية توزيع المساعدات من المنظمات الدولية بالتنسيق معها، عبر “منظمة الهلال الأحمر العربي السوري.”

ويتم تسجيل أسماء العائلات المحتاجة لدى مخاتير الأحياء أو مراكز التوزيع، التي غالباً ما تقوم عليها شخصيات من الأحياء ذاتها بموجب البطاقات العائلية.

وبحسب النشرات المرفقة مع “السلة الغذائية” والإعلانات الملصقة في مراكز التوزيع، فإن من يحق لهم التسجيل للحصول على “السلة الغذائية” هم العائلات النازحة، والعائلات الفقيرة جدا، والعائلات التي فقدت المعيل على أن تقدم تلك العائلات أوراق تثبت ذلك.

وتقول ربة منزل، وهي أم لثلاث فتيات، ونزحت من منزلها في ريف دمشق إلى إحدى ضواحي دمشق الآمنة: أنه “رغم أن شروط الاستحقاق تنطبق على عائلتي، فإنني لم أتمكن من التسجيل، إلا بشق النفس، بسبب المماطلة وحجج القائمين على مراكز التوزي”، في حين يؤكد أب لطفلين وعاطل عن العمل بسبب قلة فرص العمل في البلاد، أنه “لم يتمكن حتى الآن من التسجيل بسبب المحسوبيات المتبعة من المسؤولين” في المراكز ويضيف: “العملية إذلال بإذلال.”

مكافأة للموالين

والمفارقة بحسب تأكيد العديد من الأهالي، أن من يأخذون “المعونة” معظهم من أهالي الأحياء الأصليين على رغم أنهم يسكنون في بيوتهم، كما يحصل في أحياء  معينة في العاصمة.

كما تشاهد سيارات فارهة أمام مراكز التوزيع يترجل منها أصحابها ويستلمون سلالاً غذائية من دون أدنى وجل أو حياء، لا بل تبدو عليهم ملامح الابتهاج بعد عملية الاستلام، على حين يمنع النظام المواد الإغاثية في شكل كامل أو جزئي عن مناطق سيطرة المعارضة.

ووفق الكثير من الأهالي، فإن مرد ذلك إلى عمليات تلاعب تحصل في عمليات التسجيل، والتي غالبا  ما تجري بالتواطؤ مع المخاتير والقائمين على مراكز التوزيع، عبر تقديم الكثير من الأسر أوراقاً تثبت أن لها بيتاً في إحدى المناطق المتوتّرة وبيتاً آخر في الحي الآمن الذي تعيش فيه.

ويلاحظ أن كثيراً ممن يقفون أمام المراكز للاستلام هم من عناصر جيش النظام والأمن ومليشيا “قوات الدفاع الوطني” الموالية له رغم أنهم قاطنون في بيوتهم، وغالبا ما يعمد هؤلاء إلى عدم الوقوف على الدور لاستلام “السلة الغذائية” بل يتجاوزونه، وعلى رغم ذلك يلقون كل الترحيب من القائمين على عملية التوزيع، بينما عندما يأتي دور شخص محتاج ملتزم بدوره يتأففون ويمنون عليه وكأنهم يعطونه من مالهم الخاص.

 تجارة وإقرار

وبينما تشهد مراكز التوزيع خلال أيام العمل، تجمهر العديد من التجار لشراء “السلة الغذائية” أو جزء مما تحتويه ممن يرغب، باتت شوارع الأحياء الرئيسية في العاصمة تشهد الكثير من البسطات التي تتضمن محتويات السلة الغذائية لبيعها.

وبينما يقوم الكثير من المستلمين ببيعها فورا للتجار في مؤشر على أنهم غير محتاجين، يعمد بعض المحتاجين إلى بيع جزء منها لا يرغبون به، ويشترون بثمنه مواد يرغبون بها، بينما تقوم بعض الأسر الفقيرة النازحة ممن يعمل أرباب أسرها ببيعها كاملة لتأمين بدل إيجار المنازل.    

وغالباً ما تباع محتويات السلة الغذائية بأسعار أقل مما هي عليه المادة في الأسواق والمحلات التجارية. وبينما يباع سعر الليتر من الزيت النباتي الموجود ضمن السلة على بسطات الرصيف بـ٦٥٠ ليرة سورية، يباع في المحلات بـ٨٠٠ على رغم أن الاثنين من النوعية ذاتها.

وفيما يباع كيلوغرام البرغل الموجود في السلة على البسطات بمئة ليرة، يباع النوع ذاته في الأسواق بـ ٢٠٠ ليرة. ويصل سعر مجمل ما تحتويه السلة الغذائية الى ما بين ١٢ الى ١٥ آلاف ليرة سورية.

وبات الغالبية العظمى من سكان مناطق سيطرة الحكومة بدمشق يقرون باستلامهم سللاً غذائية ومواد تنظيف وأدوات مطبخ وفرشات وبطانيات، ويبررون ذلك بأن “الغالبية العظمى من السوريين باتت في حاجة إلى المساعدات في ظل الارتفاع الكبير للأسعار لعموم المواد الغذائية والخضار والفاكهة والأدوات المنزلية.”

مدينة دوما، بين الحرب والسلام

مدينة دوما، بين الحرب والسلام

(اعتمد هذا المقال على العديد من المصادر القريبة من مجريات الأحداث الأخيرة في مدينة دوما)

انتهت أزمة المدنيين في مدينة دوما، وتوصّل طرفا القتال إلى اتفاقٍ يقضي بخروج عناصر جيش الإسلام إلى مدينة جرابلس، الخاضعة لسيطرة قوات درع الفرات، وبقاء من يرغب من المدنيين تحت شروط مشابهة لأقرانهم في مدينة حرستا والقطاع الأوسط في الغوطة الشرقية، حيث تشمل الاتفاقية تسوية أوضاع الراغبين في البقاء من خلال لجنة تسوية مع ضمان عدم الملاحقة، ويُمنَح الفارّون والمتخلفون عن خدمة العلم مدة ستة أشهر قبل سوقهم والتحاقهم. وبالنسبة لطلاب الجامعات والمدارس، يستطيعون الالتحاق بأماكن دراستهم وكلياتهم بعد تسوية وضعهم الدراسي أصولاً، وأيضاً ستدخل الشرطة العسكرية الروسية (كتيبة شيشانية) كضامنٍ لعدم دخول قوات الجيش السوري وقوات الأمن الرديفة، وتدخل لجنة من محافظة ريف دمشق لتسوية جميع القضايا المدنية بالتعاون مع لجنة مدنية محلية من مدينة دوما، ويُفتح المعبر أمام الحركة التجارية بمجرد دخول الشرطة العسكرية الروسية.

تُظهِر الشروط المتعلقة بالمدنيين بأنها شروط عادية لا تختلف كثيراً عن أي من شروط تسوية المناطق الأخرى، وبالتالي كان بالإمكان الحصول عليها دون دفع فاتورة كل هذا الدم، وخاصة إبان التصعيد الأخير في السادس من نيسان حين حصل انتكاس في المفاوضات أدى إلى تصعيدٍ عسكري شديد من طرف النظام السوري وحليفه الروسي، راح ضحيته أكثر من ١٩٠ مدنياً في مدينة دوما، مع شبهةٍ واضحة لاستخدام مادة كيميائية محرمة دولياً خلال القصف.

 في الرابع من نيسان، وبعد مفاوضاتٍ مكثفة، قدّم الكولونيل الروسي ألكسندر زورين ورقةً لمدير المكتب السياسي في جيش الإسلام ”ياسر دلوان“، تم تسريبها للإعلام لاحقاً، كان أبرز بنودها تسليم سلاح ”جيش الإسلام“ الثقيل خلال ثلاثة أيام، والسلاح الخفيف خلال أسبوع، ثم بعد تسوية أوضاع عناصر جيش الإسلام يتم تشكيل شرطة مدنية في المدينة تتبع لوزارة الداخلية، وكتيبة ”جيش الإسلام“ يكون تسليحها من الجيش الروسي، ومهامها محصورة في محاربة تنظيم ”داعش“ وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وتأتي لجنة من محافظة ريف دمشق لحل جميع مشاكل المدينة، ويكون الضامن لذلك دولة روسيا الاتحادية.

يبدو أن قيادة جيش الإسلام أساءت تقدير موقف المفاوِض الروسي، وظنّت بأنها تملك أوراق تفاوضية تُمكّنها من طلب المزيد، خاصة وأنه خلال جلسات التفاوض، أرسل مكتب اللواء علي مملوك (الأمن الوطني) رسائل عدة إلى قادة جيش الإسلام، في محاولة للتواصل وبحث اتفاقٍ ما بمعزل عن الجانب الروسي، فكان أن دخل نائب قائد جيش الإسلام (أبو قصي الديراني) على خط التفاوض، واجتمع مع الكولونيل زورين في مكتبه عند مدخل معبر الوافدين في الخامس من نيسان، واقترح عليه تسويةً جديدةً، تحمل في طياتها ”تشكيل لجنة مشتركة من الشرطة العسكرية الروسية وجيش الإسلام مهمتها جرد السلاح الثقيل وتثبيت أماكن تواجده والقائمين عليه، على أن يبقى في مكانه“ وأن ”يرتبط تسليم السلاح النهائي وبشكل كامل بالحل السياسي الشامل في كل سوريا“ بالإضافة إلى تشكيل شرطة مدنية من عناصر الشرطة المدنية الموجودة حالياً، على أن تتبع لوزارة الداخلية بالرواتب والقوانين، واعتماد محاكم دوما بعد أن تتبع لوزارة العدل، والمصادقة على العمليات المدنية التي تمت خلال الفترة السابقة بما يتوافق مع قوانين الدولة، وفتح المعبر بشكل حر وآمن للأشخاص والبضائع، وأيضاً ”ضمان حق جيش الإسلام في العمل السياسي المعارض، وحرية حركة سياسييه داخل وخارج سوريا“، وذلك بوجود ضمانات دولية لمنع دخول قوات النظام والأمن إلى داخل المدينة.

يبدو أن طرح ”جيش الإسلام“ الجديد أزعج الجانب الروسي، ودخول نائب قائد جيش الإسلام وكلامه المتعالي، أعطى إشارة إلى المفاوِض الروسي بأن انقلاباً ما قد حدث داخل جيش الإسلام، حتى أن وكالات الأنباء الروسية والسورية والإيرانية في صباح السادس من نيسان نقلت تأكيداً لعملية الانقلاب، وتلميحاً حول اغتيالٍ حدث لقائد جيش الإسلام ”عصام البويضاني“ في عملية الانقلاب المزعوم، وأتبع ذلك اتهامات غير صحيحة بأنّ جيش الإسلام قام بقصف ضاحية الأسد (ضاحية حرستا)، وفي حوالي الساعة الرابعة عصراً بدأ الطيران الحربي السوري بقصف مدينة دوما دون سابق إنذار، موقعاً في الربع الساعة الأولى أكثر من ٣٠ ضحية من المدنيين (يبلغ تعداد من بقي في دوما حوالي مائة ألف) الذين فاجأهم القصف بعد عشرة أيام من الهدوء. استمر الأمر بشكلٍ تصاعدي ٍمع استخدام ٍلراجمات الصواريخ والبراميل المتفجرة، أدّى إلى وقوع العشرات من الضحايا بين صفوف المدنيين. استمر القصف بدون توقف حتى اليوم التالي، في محاولة للضغط على قادة جيش الإسلام لأجل العودة إلى بنود المقترح الروسي، وكان الكولونيل زورين قد أرسل لهم عدة رسائل يحثهم فيها على العودة إلى الورقة التي قدمها سابقاً ”خطتكم تقود إلى الحرب، لأن الأسلحة تبقى لدى الجميع، خطتي تقود إلى السلام، عليكم ان تخبروني قراركم حول خطتي بسرعة، أنتظر ردكم حتى الثامنة مساءً. خطتكم في الأساس غير مقبولة، بدون نزع السلاح لن يكون هناك سلام، انتظر اليوم حتى الثامنة مساءً، بعدها أوقف التفاوض“

لم يكن هناك رد من جيش الإسلام، رغم الضغوطات التي مُورِست عليه، وفي مساء يوم السبت، ذكر مشفى ريف دمشق التخصصي، في بيان له “في تمام الساعة ٧،٤٥ دقيقة من مساء السبت، ومع القصف المستمر على الأحياء السكنية في مدينة دوما، وردت العديد من الحالات تصل إلى ٥٠٠ حالة إلى النقاط الطبّية، أغلبهم من النساء والأطفال، بأعراض زلّة تنفسية وزرقة مركزية، وخروج زبَد من الفم، وانبعاث رائحة واخزة تشبه رائحة الكلور، لوحظ لديهم حروق قرنيّة بالفحص السريري، خراخر قصبية خشنة ووزيز،“ وأكد على أنّ “المعطيات السابقة تشير إلى حالات اختناق بغاز سام.“ بعدها بعدة ساعات، اتصل قائد جيش الإسلام بالكولونيل زورين وأبلغه استعدادهم للتراجع عن مطالبهم الأخيرة، مع تسليم السلاح الثقيل فوراً، وطلب أن يكون هناك اجتماع في صباح اليوم التالي لترتيب الاتفاق وتوقيعه. على الرغم من ذلك، لم يتوقف القصف طوال الليل، وإن أصبح بوتيرة أقل، وكذلك الحال في صباح اليوم التالي، مع أن جميع رسائل جيش الإسلام كانت تؤكد بأنه يتجاوب تماماً مع شروط الجانب الروسي، ولن يغامر مرة أخرى، لكن كان واضحاً بأن المفاوِض الروسي كان يريد أن يُلقّن ”جيش الإسلام“ درساً لن ينساه، وهو الذي قال لمفاوضيهم مرةً “أنا أُمثّل دولة روسيا الاتحادية، التي أطلقت محطة فضاء منذ ٤٠ عاماً، كما أنني أستطيع أن أتحكم بعشرات الأقمار الصناعية من هنا، أنتم من تُمثّلون؟“ وبالتالي استمر القصف على المدينة دون توقف، مع تراخي واضح من الطرف الروسي لعقد الاجتماع المقرر مع مدير المكتب السياسي لجيش الإسلام حتى تمام الساعة الواحدة ظهراً، وذلك على الرغم من إلحاح جيش الإسلام لعقد هذا الاجتماع بغية وقف القصف، وترتيب اتفاق يُرضي الجانب الروسي.

أخيراً، وبعد إلحاح شديد توقف القصف، وانتهى الاجتماع بتوقيع الطرفين على اتفاقية تقضي بتسليم السلاح الثقيل فوراً، وخروج من يرغب من المقاتلين نحو جبل الزاوية في محافظة إدلب، حيث لواء صقور الشام بقيادة أبو عيسى الشيخ، الحليف السابق لجيش الإسلام، وخروج من يرغب من المدنيين نحو مدينة جرابلس.

ولكن خلال أقل من ساعتين تغيرت وجهة مقاتلي جيش الإسلام فجأة نحو مدينة جرابلس بدلاً عن جبل الزاوية، وكما يبدو بأن الحكومة التركية لم ترغب في أن تتغير تركيبة توازن الفصائل في محافظة إدلب، بعد وصول أكثر من ٤٠٠٠ مقاتل من جيش الإسلام إلى هناك، وخاصةً بأنه معروف بعدائه الشديد لهيئة تحرير الشام، وبالتالي سارعت لاستضافته في مناطق درع الفرات في مدينة جرابلس، حيث يكون تحت عينها وفي عهدتها، وبالتالي من السهل التحكم بقيادته أو تغييرها كما حدث مع قادة أحرار الشام والزنكي وباقي الفصائل في الشمال السوري.

فور إعلان بنود الاتفاق، دخلت عشرات الحافلات مدينة دوما، استعداداً لنقل قادة جيش الإسلام وعناصرهم ومن يرغب من المدنيين نحو الشمال السوري، وتسلّم الجانب الروسي السلاح الثقيل مباشرة، على الرغم من قيام عناصر جيش الإسلام بحرق مدرعتين وتصويرهما بغاية التغطية على تسليم السلاح الثقيل، وحفظ القليل من ماء الوجه. كان من الواضح أن الجانب الروسي يريد الإسراع بتنفيذ بنود الاتفاق قدر المستطاع، خاصةً في ظل التطورات الجديدة على الساحة الدولية والمتعلقة بقصة (الكيماوي) الأخيرة في مدينة دوما، وتخوفه من عودة قادة جيش الإسلام عن تنفيذ الاتفاق بتحريض من جهة ما.

من ناحيةٍ أخرى، عادت قضية المختطفين للواجهة، بعد خروج العشرات من مختطفي عدرا العمالية (منذ نهاية  ٢٠١٣) لدى جيش الإسلام على دفعات، مع سخط واضح من أهالي باقي المفقودين والمغيبين في الحرب السورية لعدم الكشف عن مصير باقي أبنائهم. علماً بأن القصف على مدينة دوما أدى إلى وفاة ٢٩ محتجزاً كانوا في سجن ”التوبة“ التابع لجيش الإسلام، وذلك بتاريخ ٢١ آذار ٢٠١٨، وفي سياقٍ متصل، تبقى قضية الناشطين الأربعة المختطفين من مقر إقامتهم وعملهم في مدينة دوما، رزان زيتونة وسميرة ووائل وناظم، بعيدة عن الحل، ومحفوظة في حوزة من يملك المعلومات الحقيقية من النافذين في تلكم الفصائل التي حكمت الغوطة الشرقية وأهلها ردحاً من الزمن.

 

عفرين: الأهداف التركية والدور الروسي والمقاومة المحليّة

عفرين: الأهداف التركية والدور الروسي والمقاومة المحليّة

(تحاول هذه الورقة تحليل العوامل السياسية والجيوسياسية التي أحاطت بمعركة عفرين والأهداف التركية وراء العملية والدور الروسي الكبير فيها، ورهانات القوى الكردية أثناء مواجهة الهجوم التركي انتهاءً بوقوع المنطقة تحت الاحتلال التركي المباشر. كما تقدم الورقة من خلال موضوعها مثالاً متجدداً عن تعقيدات الصراع السوري وحجم التداخل والتضارب بين الأطراف الداخلية والخارجية بما فيها الأطراف التي تبدو في جبهة واحدة، إذ تبدو متحالفةً تارةً ومتنافسةً تارةً أخرى. تستند هذه الورقة إلى متابعة الكاتب المفصّلة والحثيثة للحدث، وإن كانت من الخارج، ولا تزعم بالطبع صحة التقديرات الواردة مع صعوبة التحقق الميداني في ظروف الحرب)

عملية “غصن الزيتون”

تحت هذا المسمّى المناقض تماماً لدلالة غصن الزيتون في التراث والثقافة كرمز للسلام والأمان، شنّ الجيش التركي ومعه 25 ألفاً من مقاتلي المعارضة السورية المسلحة المدعومة من أنقرة حملةً عسكرية ضخمة ضد منطقة عفرين الكردية السورية شمال غرب حلب، في العشرين من شهر كانون الثاني 2018، في خرقٍ للقانون الدولي بالهجوم على أراضي دولة أخرى، دون تفويض من السلطات الرسمية، تحت مزاعم تهديد أمنها القومي من القوات الكردية المتواجدة في عفرين. لم تقدّم الحكومة التركية أي أدلة وقرائن ملموسة حول حقيقة وجود أي تهديدات، فقد التزمت وحدات الحماية الشعبية YPG بعدم تشكيل تهديد مباشر أو غير مباشر للأراضي التركية المجاورة طيلة السنوات الماضية بقرارٍ مركزيٍ من قيادة الوحدات. وأظهرت ضبطاً للنفس رغم الاستفزازات التركية المتكررة للوحدات كي ترد عليها، بما فيها تسهيل مرور أو التغاضي عن آلاف الجهاديين إلى سوريا الذين عبروا حدودها، والذين شكلوا أكبر تهديد أمني للسكان في مناطق شمال سوريا، كما حملت على كاهلها مسؤولية الحفاظ على أمن المنطقة وسط الفوضى السورية وتهديدات الجماعات المسلحة التي يغلب عليها الطابع الجهادي الإخواني والمدعومة بمعظمها من قبل تركيا.  فكانت بذلك منطقة آمنة ومستقرة لجأ عليها عشرات الآلاف الهاربين من جحيم العنف في ريف حلب وإدلب وتقول التقديرات أن عدد النازحين إليها ما يقارب 400 ألف نازح.

الدوافع التركية

تطمح الحكومة التركية ومن منطلقٍ توسعيٍ في المنطقة يستند إلى مخيلة تاريخية فضفاضة وذرائع أمنية إلى السيطرة على مناطق واسعة من شمال سوريا والعراق، وخصوصاً الكردية منها، لمحاربة النهوض الكردي في الداخل التركي أو خارجه بحسب زعمهم. تكتسب منطقة عفرين أهميةً خاصةً لدى تركيا وذلك لقربها من لواء إسكندرون (يحدّ عفرين من الغرب سهل العمق التابع للواء) ذي الأهمية البالغة والذي احتلته تركيا عام 1939 إبان الانتداب الفرنسي على سوريا وبالتواطؤ مع السلطات الفرنسية. يُشكّل المكوّن الكردي غالبيةً مطلقة في المنطقة بنسبة أكثر من 95% حسب تقديرات الكثيرين من سكان المنطقة والباحثين.1  وكانت تسمى في العهد العثماني بـ”كرداغ” (جبل الأكراد باللغة التركية) وبقيت هذه التسمية إلى بدايات العهد الوطني في سوريا ثم استبدلت بتسمية قضاء جبل الأكراد. وتتميز المنطقة بتضاريسها الجبلية الصعبة التي ضاعفت من الفوبيا التركية إزاء وضع هذه المنطقة.

نشر الإعلام التركي مواداً كثيرة حول هذه الجزئية وجرى تضخيمها بناءاً على تصوراتٍ تزعم أنّ هناك دولة كردية تتشكل وسيكون لها منفذٌ بحري على المتوسط عبر الساحل السوري، أو عبر ميناء إسكندرون “التركي” على البحر المتوسط وتطمح لبيع النفط مباشرة عبر هذا الميناء.2  ففي 8  تشرين الأول/ أكتوبر 2017 صرّح الرئيس التركي أردوغان بوضوح: ”لن نسمح أبدا بممر إرهابي يبدأ في عفرين ويمتد حتى البحر المتوسط.“ (علماً أنّ هناك مسافة حوالي 150 كيلومتر تفصل عفرين عن الساحل السوري، تتوسطها محافظة إدلب وريف اللاذقية الشمالي التي تخلو من سكانٍ أكراد).

وباعتقادي أنّ حجة ارتباط مقاتلي وحدات الحماية الكردية بحزب العمال الكردستاني ورفع صور زعيمه المعتقل في تركيا “عبدالله أوجلان،” أو سيطرة وحدات الحماية الكردية على مناطق ذات غالبية عربية ومختلطة في شمال سوريا بعد تحريرها من “الدولة الإسلامية- داعش” والانتهاكات التي ارتكبتها، ليست إلا دافعاً ثانوياً بعكس ما تروّج الحكومة التركية. فلو كانت المنطقة تحت إدارة أية قوة كردية أخرى وبصبغة كردية لاتبعت تركيا نفس السياسة كي لا تصبح الإدارة الذاتية في شمال سوريا أمراً واقعاً ومعترفاً به في التسوية السياسية القادمة في سوريا، كما في حالة فيدرالية كردستان العراق التي ترسّخت دون إرادة تركيا، واضطرت للتعامل معها تالياً وفق هذه الحقيقة السياسية والدستورية في العراق.

إنّ حلم الهيمنة على شمال سوريا ليس ردّة فعل على الأحداث التي شهدها الشمال السوري. (إقامة إدارة ذاتية كردية، أو الارتباط المفترض لوحدات الحماية الكردية بحزب العمال الكردستاني) وحسب، بل كان في صلب السياسة التركية منذ الأيام الأولى للأزمة في سوريا وعلى نحو استباقي.  ففي كتابه «قطار الرافدين السريع» المنشور عام 2012 (ترجمة الراحل عبد القادر عبد اللي) وكذلك في مقابلة له مع قناة «بي بي سي» بتاريخ 19 أبريل (نيسان) 2017،  يروي جنكيز تشاندر الصحافي التركي المخضرم وأحد أقرب مستشاري الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، أنه قبل مرور أسبوعين من انطلاق أحداث درعا في سورية كان ضمن وفد إعلامي في الطائرة الخاصة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في 27 آذار (مارس) 2011 بعد زيارة للعراق (بغداد وأربيل). بادر تشاندر إلى سؤال أردوغان عن الوضع في سورية. طلب أردوغان من الصحفيين أن يضعوا أقلامهم في جيوبهم ويغلقوا المسجّلات الصوتية ولا يدونوا حديثه. وبعد كلام عن عمق صداقته الشخصية والعائلية مع الرئيس السوري بشار الأسد وعائلته، قال أردوغان أن “سورية ليست سوريةً فقط… بالنسبة إلي تعني حلب، وحلب تعني هاتاي (أنطاكية) وعنتاب، المدينتان التركيتان على الحدود السورية، وسورية تعني القامشلي أيضاً، ولا ضرورة للقول ماذا تعني القامشلي. والقامشلي ليست القامشلي لوحدها… بل هي أشياء كثيرة أخرى. (كان يشير للقضية الكردية وآثارها على الداخل التركي). وأضاف أنه لا يمكن السماح بموجة هجرة من سورية الى تركيا كما حصل في شمال العراق بعد 1991. ويجب أن نؤسس خطوط دفاعنا الأولى خارج أراضينا وليس داخل أراضينا، ملمّحاً إلى فرض منطقة عازلة داخل الأراضي السورية.” يضيف تشاندر في مقابلته، وهو العارف بدهاليز السياسة التركية ومن المفترض ألا يُصدَم، أن حديث أردوغان في ذلك الوقت المبكر من أحداث سورية، أي بعد مرور أثني عشر يوماً فقط من شرارة درعا، كان بمثابة قنبلة له!

يُضاف لهذا البعد الكردي الذي شكل ذريعة أساسية للهجوم التركي أهدافٌ وغاياتٌ تتعلق بالأزمة السورية عامةً وحجز نفوذٍ تركي قويٍ في سوريا الجريحة خاصةً في المناطق الشمالية ومنطقة حلب وجوارها، عبر تعزيز نفوذ الجماعات الإسلامية المسلّحة، سيما تلك التابعة لشبكة جماعة الإخوان المسلمين التي تتخفّى وراء تسمياتٍ عديدة ضمن الأطر السياسية والفصائل المسلحة وحتى بعض الهيئات والمنظمات الحقوقية والإغاثية في سوريا التي تحظى بدعم تركيّ- قَطَريٍ غير محدود. يضاف إلى ما سبق سعي الحكومة التركية لتحقيق أهدافٍ تتعلق بالشأن الداخلي لسنا بصدد التطرق إليها الآن.    

خريطة رقم ١: مناطق السيطرة في سوريا حتى تاريخ ٢١ آذار (مارس) ٢٠١٨، تُشير الأسهم إلى جبهات التقدم [المصدر مركز كارتر]

صفقة روسية – تركية وتنافس أمريكيّ -روسيّ على كسب تركيا

تتحمّل حكومة روسيا الاتحادية، ذات النفوذ في منطقة حلب وريفها، قسطاً كبيراً من مسؤولية احتلال تركيا لمنطقة عفرين لأنها أفسحت المجال الجويّ السوري الخاضع لها للدولة التركية كي تشنّ حملتها العسكرية جواً وبراً. بل ومنعت الحكومة السورية من تقديم أية مساعدة جديّة للقوات المقاومة في عفرين بعد أن تخلّت عن ممارسة حقها وواجبها في الحفاظ على سيادتها وحدودها ضد العدوان الخارجي وفق القانون الدولي. كما التزمت الولايات المتحدة ذات النفوذ في مناطق سورية أخرى (منبج وشرق الفرات) الصمت تجاه العدوان التركي بحكم علاقاتها مع الدولة التركيا في إطار حلف الناتو. كما لم يتبلور تنديد الاتحاد الأوربي من العدوان التركي إلى أي موقف سياسي فاعل، سوى الموقف الفرنسي الخجول وهو في الأساس لا يملك أوراق قوة في سوريا. أما عربياً فلم تبدي سوى جمهورية مصر العربية تنديداً واضحاً بالعدوان التركي على منطقة عفرين تطور لاحقاً إلى موقفٍ إعلاميٍ عام للجامعة العربية، تحفظت عليه دولة قطر الحليفة لتركيا والداعمة لشبكات الإسلام السياسي في المنطقة كلها والتي وقفت في صف العدوان منذ اليوم الأول وسخّرت إمبراطوريتها الإعلامية (شبكة الجزيرة الإعلامية) للترويج ومساندة العدوان وتضليل الرأي العام العربي والإسلامي.

وكان من الملاحظ أيضاً أنّ “إسرائيل” لم تدلي بأي تصريحٍ رسمي حول العمليات العسكرية التركية في عفرين، وهي لا تكاد تفوت مناسبة لتظهر صورتها كدولة “إنسانية” و”ديمقراطية”  تستفظع ممارسات الأنظمة العربية وقتلها لشعوبها، رغم كونها دولة احتلال قائمة على التطهير العرقي وتهجير أهل فلسطين. ويعود سبب الموقف الإسرائيلي إلى موقف حليفتيها روسيا والولايات المتحدة من جهة، وإلى تحسن العلاقات التركية الاسرائيلية بعد المصالحة التي تمت عام 2016 بعد سلسلةٍ من الأحداث التي أدت إلى توتر العلاقات بين الدولتين خاصة بعد حادثة سفينة “مافي مرمرة” في أيار 2010، وكذلك التعاون العسكري والأمني بين تركيا وإسرائيل (تتضمن الترسانة العسكرية التركية أسلحةً إسرائيلية خصوصاً في مجال الطائرات دون طيار) .وكان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قد التقى خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول (سبتمبر) 2017، بممثلي الجمعيات اليهودية وطلب، كما يُفهَم من خطاب له تطرّق فيه لمضمون اللقاء، دعمهم لتركيا ضد استفتاء كردستان العراق وضد التجربة الكردية في سوريا، وإقناع حكومة إسرائيل بذلك.

لم تُعر الحكومة التركية أي اهتمام لأية انتقاداتٍ دولية تعارض سياساتها ولا لهيئات الأمم المتحدة بما فيها مجلس الأمن الدولي الذي أقرّ وقف إطلاق النار على جميع الأراضي السورية، بقراره رقم (رقم 2401) الصادر بتاريخ  24/2/2018، والذي لم يلتزم به أي طرف بما فيه الحكومة التركية.

ثمة لومٌ من جانب بعض الأوساط الكرديّة وكذلك أوساط النظام ومواليه، مفادهُ أنه كان على الإدارة الذاتية في عفرين تسليمها للجيش النظامي السوري قبل بدء العدوان، الأمر الذي كان سيجنّب المنطقة الاحتلال والكارثة الإنسانية التي نجمت عنه. في الواقع لم تنقطع المفاوضات بين الإدارة الذاتية والنظام قبل وأثناء الحملة، غير أن الروس منعوا أي تفاهم بين الطرفين، بحسب قيادات سياسية وعسكرية كردية، أكدّ ذلك أيضاً تقرير مطلع لجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 11 آذار (مارس) يقول فيه: “وكانت دمشق تريد العودة إلى عفرين سواء فعلياً أو رمزياً، لكن موسكو رفضت، لأن التفاهمات مع أنقرة أكبر بكثير من عفرين”، بحسب قول مسؤول روسي. بعدها، أرسلت دمشق «قوات شعبية» إلى عفرين وريفها، قوبلت بقصف تركي أوقع عشرات القتلى. وكان هذا تطبيقاً لما أبلغه قائد المركز الروسي إلى حمو وعليا في اجتماع حلب، منه أن موسكو “لن تدعم الاتفاق بين الوحدات والجيش، بل إن تنفيذ هذا الاتفاق خطوة خطرة جداً.” كما أنه تطبيق فعلي لما سمعه حمو من رئيس الأركان الروسي في موسكو عشية بدء عملية «غضن الزيتون» من أن لتركيا “الحق في الدفاع عن أمنها القومي”، وأن الجيش الروسي “لن يعرقل استخدام الطائرات التركية في الهجوم على عفرين.”

وهذا لا يعني أن النظام كان راغباً أو متحمساً أو لديه القدرة العسكرية للدخول إلى عفرين ووضعها تحت سيطرته الكلية وحمايتها بالتالي من العدوان التركي والدخول في مواجهة خطيرة مع الجيش التركي، على افتراض أن تركيا كانت ستحجم عن غزو المنطقة لو كانت تحت سيطرة الحكومة السورية المركزية. صحيح أن النظام أيضاً يريد (تأديب) الأكراد إلا أنه بنفس الوقت يُقدّر خطورة تقدم مسلحي المعارضة مجدداً نحو مدينة حلب بعد أن كاد يخسر مدينة حلب بالكامل بكل مكانتها وثقلها بالإضافة لريفها الشمالي ولم يتمكن من استعادتها إلا بمساعدة الطيران الروسي جواً والمشاركة الإيرانية براً. وكان بالإمكان أن يُقدّم الجيش النظامي السوري مساهمةً عسكريةً متطورةً من حيث العتاد ويبقى المقاتلون الأكراد هم القوة الأساسية في الميدان، بيدَ أن الأمر لم يكن بهذه البساطة. فقد أسرّ لي مصدرٌ موثوق شارك في المفاوضات مع الروس قُبيل بدء العدوان على عفرين، أنّ الجانب الروسيّ كان واضحاً في مطالبه التعجيزية للإدارة الذاتية، التي تمثلت برفض مناقشة الوضع في عفرين بمعزل عن جميع مناطق الإدارة الذاتية في شمال سوريا، كما طلبوا منهم فكّ الارتباط كلياً مع قوات الولايات المتحدة المتواجدة في شرق الفرات، والاندراج في الأجندة الروسية المناهضة للنفوذ الأمريكي في سوريا، وأن يكون بترول المنطقة الشرقية من حصة الروس، وبعد تلبية هذه الشروط يمكن مناقشة وضع عفرين!

بالطبع لم يكن ممكناً للجانب الكردي تلبية هذه المطالب والاشتراطات الروسية حتى لو أراد. وبالفعل أوضح سير المفاوضات بعد بدء العدوان على عفرين حقيقة الموقف الروسي هذا، فتلك المطالب لم تكن سوى محاولةٍ من الروس لوضع اللوم على الإدارة الذاتية فيما كانت الصفقة الروسية التركية حول عفرين قد أبرمت وتنتظر التنفيذ على الأرض. وباءت كافة محاولات إدارة كانتون عفرين مع النظام والجيش النظامي بالفشل نتيجة صلابة الموقف الروسي. وأثناء الحملة أخبر الضباط الروس المتواجدون في سوريا قيادات الوحدات الكردية أن قضية عفرين بيد الرئيس الروسي بوتين حصراً، وليس قاعدة “حميميم” العسكرية الروسية في سوريا.  وكلّما توصلت الإدارة الذاتية إلى اتفاقٍ مع الجيش النظامي، تدخل الروس لإجهاض الاتفاق. في المحصلة، وبعد مرور أكثر من شهر على العدوان التركي، تمكنت دمشق من الإفلات من الموقف الروسي الصارم بإرسال “وحداتٍ شعبيةٍ ” رديفة للجيش النظامي بدلاً من الوحدات النظامية، لكنها كانت قليلة العدد والعتاد ومن دون مضاداتٍ للطيران التركيّ. وحتى حينما تعرّض هؤلاء لغارةٍ جويةٍ تركيةٍ في معسكر “كفر جنة”  على مشارف عفرين في منطقةٍ خاضعة للنفوذ الحكومي والروسي ويرتفع فوقها العلم السوري الرسمي وقتل منها ما لا يقل عن 36 مقاتلاً دفعة واحدة،  لم تستطع دمشق إعلاء صوتها وتقديم بيان احتجاجٍ رسميٍ على القصف التركي. ولا يستبعد أن يكون قصف الموقع قد تمّ بعلم الروس. وفي دلالةٍ على أنّ تركيا مصمّمة على احتلال جميع الأراضي التابعة لمنطقة عفرين بغضّ النظر عما إذا كانت تحت سيطرة الوحدات الكردية أو الجيش النظامي السوري، كان هناك عشرات القرى الكردية التابعة جنوب منطقة عفرين قد سُلّمت للجيش النظامي ورفع فوقها العلم السوري وذات تواجد روسي بعد انسحابٍ كاملٍ للوحدات من منطقة عفرين، ورغم ذلك قصفت تركيا المواقع العسكرية هناك وأجبرت وحدات الجيش السوري على الانسحاب منها، لتحتل أراضي منطقة عفرين بالكامل بقراها ومركزها. وتتبع الحكومة التركية حالياً  نفس السياسة الآن مع مدينة “تل رفعت” العربية المجاورة، رغم أنّها واقعة رسمياً تحت سيطرة الجيش النظامي السوري بعد انسحاب وحدات الحماية وجيش الثوار(المتحالفين في إطار “قوات سورية الديمقراطية”) منها.

ومن المرجح أنّ هناك اتفاقاً روسياً-تركياً بخصوص هذه المدينة أيضاً، لذا من غير المستغرب أن تتنازل روسيا عن هذه المدينة أيضاً لتركيا. وهناك ممانعة إيرانية سورية قوية حتى الآن لهذا الاتفاق التركي الروسي بخصوص ” تل رفعت”. والمفارقة هنا أنّ من طرد قوات المعارضة السورية المسلحة من “تل رفعت” وجوارها وهجّر أهلها وسمح لفصيل” جيش الثوار” المتحالف مع الوحدات الكردية في إطار (قسد) بالسيطرة عليها، لم يكن سوى الطيران الروسي نفسه في شباط 2016، والآن تسمح روسيا  لنفس الفصائل بالعودة والتمدد واحتلال منطقة عفرين، كمرافقين للجيش التركي.

أرادت روسيا بفسحها المجال الجوي لتركيا الانتقام من تحالف الوحدات الكردية مع الولايات المتحدة شرق الفرات، رغم أن الوحدات الكردية تعاونت مع روسيا أيضاً في حلب وريفها وهناك نقاط عسكرية روسية في مناطق سيطرة الوحدات في حلب. وقبل بدء الحملة العسكرية التركية التي أطلق عليها عملية “غصن الزيتون”، كان هناك نقطة عسكرية روسية في مدخل عفرين أخلاها العسكريون الروس قبيل الهجوم التركي.

اللاعبَان الأساسيان في سوريا إذاً الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية يتصارعان على كسب تركيا. فالولايات المتحدة في طور تحسين علاقتها مع تركيا، الحليف التاريخي والقوي في حلف الأطلسي (الناتو)، بعد تدهورها إثر اتهامات لغولن المقيم في الولايات المتحدة بالتخطيط للانقلاب. كما تعمل روسيا على كسب تركيا في صراعها مع الغرب والناتو ومن أجل أجندتها في سوريا (إدلب والغوطة للنظام وروسيا مقابل عفرين لتركيا)، ولأجل مصالح اقتصادية خارج سوريا (في مجال الطاقة خصوصاً) وصفقات تسليح بينهما (صفقة بيع المنظومة الدفاعية الصاروخية الروسيةS400   لتركيا).

أما الإيرانيون، اللاعب الثاني النافذ في سوريا والداعم للنظام السوري، فله تفاهماته العديدة مع تركيا حول الملف الكردي تحديداً وقد تجلى ذلك بوضوح في مواجهة استفتاء كردستان العراق العام الفائت. وبالنسبة لللاعب الإيراني، فلا يشكل الشمال السوري أولوية له ومنهمك بمناطق أخرى. ورغم ذلك ونظراً لحساسية موقع عفرين وقربها من حلب وتحديداً بلدتي النبل والزهراء، اللتان ينحدر سكانهما من الطائفة الشيعيّة، ومخاوف الإيرانيين من تهديدات مسلّحي المعارضة السورية المدعومة من أنقرة، فإنه من المحتمل بأنّ الوحدات الشعبية الرديفة للجيش النظامي، وهم في غالبيتهم من أبناء البلدتين المذكورتين أعلاه، قد شاركت في مقاومة عفرين بموافقة من الضباط الإيرانيين في سوريا. هذا وقد سبق أن خضعت البلدتان لحصارٍ من قبل المعارضة وقامت الوحدات الكردية في عفرين بالتخفيف منه، ونالت بسبب ذلك غضباً إضافياً من فصائل المعارضة المسلّحة.

لكنّ صرامة الموقف التركي حيال أي دعمٍ للمقاتلين الأكراد في عفرين، والتفاهمات المسبقة بين تركيا وإيران، أجبرت مقاتلي الوحدات الشعبية الرديفة إلى الانسحاب سريعاً من عفرين والعودة لمحيط بلدتي نبل والزهراء. ومن المرجّح أن تركيا قد تعهدت لإيران وروسيا بعدم اقتراب مسلحي المعارضة السورية من البلدتين.

هكذا أساءت الإدارة الذاتية تقدير الموقف وتعقيداته باعتتقادها أنه بوسعها التنسيق مع أطرافٍ مختلفةٍ ومتنافسةٍ ولاعبين كبار في سوريا (أمريكا في منبج وشرق الفرات، وروسيا في حلب وعفرين)، فأصبحت ضحية صراعات الطرفين من جهة، ومصالح كل لاعبٍ مع تركيا من جهةٍ أخرى. كما أثّر التوتر الأمريكي-الروسي بحدّةٍ على الموقف إزاء الحملة التركية على عفرين، فعدا الأسباب الخاصة بكلا الدولتين، حصلت مواجهة كبيرة بين الطرفين أثناء الحملة التركية الأمر الذي منع أي تفاهم بينهما في سوريا يمكن أن يحدّ من الهجوم التركي على طرفٍ يمكن أن يُعتبر حليفاً للإثنين، أو يوقفه عند حد معين .نعني هنا حادثة يوم 7 شباط/ فبراير 2018 في ديرالزور حين قتلت القوات الأمريكية المئات من جنود روس من شركة أمنية خاصة تُعرف بـ “فاغنر” وهي مقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين،  وكانوا بمهمة مساندة للجيش السوري هناك، الأمر الذي اعتبر بمثابة أول مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا بهذا الحجم ينجم عنها قتلى، ولم يحصل لها مثيل في أوج الحرب الباردة.

بعيداً عن البروباغندا الروسية التي ردّدت مراراً شعار “حماية الدولة السورية” من التفتت والتقسيم كأحد أبرز أهداف تدخلها العسكري المباشر في سوريا في 2015، فها هي تُسلّم مناطق سورية عديدة في شمال سوريا لتركيا، كما تفسح المجال لإسرائيل لتضرب مواقع حكومية سورية أو مواقع إيرانية/حزب الله ضمن الأراضي السورية، وهذا موضوع آخر خارج إطار البحث. وكما تنازلت روسيا عن مناطق جرابلس وإعزاز والباب في شمال سوريا لتركيا، تنازلت أيضاً عن منطقة “عفرين”. ويمكن مقارنة السلوك الروسي، الذي  تدخل في الصراع بناءاً على تفويضٍ رسمي من حكومة الدولة السورية ليقيم قاعدةً على أراضيها بموجب اتفاقٍ عسكريٍ أشبه بانتداب ٍغير مقونن، بسلوك فرنسا إبان انتدابها على سوريا حين أعطت لواء اسكندرون لتركيا في ثلاثينات القرن الماضي. لكن بعد تملّص الانتداب الفرنسي من “التزاماته” كانت هناك نقاشاتٌ وجلساتٌ مطولة في عصبة الأمم، وكانت بعض القيادات السورية تناقش وتطالب بحقوقِ سورية الوطنية مستندةً إلى ما ورد في صك الانتداب لجهة عدم جواز التخلي عن أراضي الدولة المنتدبة من قبل الانتداب لأي دولة أخرى. أما الآن فإن روسيا وإيران تقرران نيابة عن الحكومة في دمشق الكثير من القرارات السيادية والمصيرية. ولا نقاشات في الأمم المتحدة وهيئاتها عن هذا الانتهاك الصارخ لسيادة الدولة السورية المنتهكة من عدة دول (أمريكا، روسيا، تركيا، إيران، إسرائيل) ولا صكوك انتداب!

على ماذا كانت تراهن المقاومة في عفرين إذاً؟

كانت  المقاومة تراهن  بقوّة على تحصيناتها القوية في محيط منطقة عفرين، تلك التحصينات التي تمكنت بفضلها الوحدات الكردية من صدّ المحاولات المتكررة لاقتحام عفرين من قبل الفصائل الإسلامية وحلفائها المدعومة من أنقرة في محيط عفرين، وأنّ المقاومة على الأرض ستغيّر المواقف الدولية بالتدريج ، وأنّ المخطط التركي قد يتوقف بعد تحقيق تركيا لحزامٍ أمنيٍ على امتداد حدودها دون التوغّل في العمق، وكانت بعض التصريحات التركية نفسها تلمح إلى ذلك، وأنّ الولايات المتحدة بوصفها حليفةً للقوات الكردية في شرق الفرات خلال المعارك ضد تنظيم داعش (الدولة الإسلامية) لن تقف متفرجة على سحق تركيا لحلفائها في عفرين، وأنها ستمارس ضغوطاً من نوع ما لوقف العدوان. كما كانت هناك مراهنة على أنّ النظام في دمشق قد يتخذ موقفاً عملياً داعماً بالتدريج، أو أنّ المجتمع الدولي سيتخذ موقفاً يُجبر تركيا على التراجع أو وقف التوغل، أو أنّ الداخل التركي-الكردي نفسه قد يتحرك (عبر تنظيم مظاهراتٍ شعبيةٍ، أو عملياتٍ نوعيةٍ لحزب العمال الكردستاني) لنصرة عفرين ليجبر الحكومة التركية على التراجع. لا تتوافر معلومات فيما إذا كان هناك مراهناتٌ على وعودٍ من أطرافٍ ودولٍ بتزويد المقاومة سرّاً بأسلحةٍ متطورةٍ (صواريخ مضادة للطيران مثلاً).

المقاومة أو الترحيب بالغزو؟

كان من البديهي ألّا يحظى هذا الهجوم بأي ترحيٍب من قبل السكان والقوى السياسية والفعاليات الاجتماعية في المنطقة، وكان من المشروع تماماً أن يبادر شباب وبنات عفرين إلى الدفاع عن أرضهم وأهلهم في وجه عدوانٍ خارجيٍ وغزوٍ يستهدفهم ولا يخفي غاياته في ضرب استقرار وأمن منطقة عفرين وسكّانها، ويضمر تهديداً لوجود الأكراد وحقوقهم المشروعة في سوريا والمنطقة.  

كان أمام القيادات الكردية في عفرين خياران لا غير بعد تصميم الحكومة التركية على عدوانها وانسداد جميع الحلول السياسية والدبلوماسية مع الجانب الروسي وتلكؤ الجانب الحكومي السوري وتردّده. الأول هو الترحيب بالجيش التركي، الذي لا يُخفي أهدافه العدوانية والعنصرية، واستقباله بالورود، وهذه كانت ستسجل كواقعةٍ سوداء في تاريخ القوى السياسية والاجتماعية في عفرين. ولم يكن ممكناً لأي جهة كردية أن ترضى بهذا الموقف الذي لا يُغفَر تاريخياً، سيما وأنّ وحدات الحماية الشعبية كانت قد حصّنت منطقة عفرين عسكرياً بشكل جيد تحسّباً لهذا اليوم المتوقع وكانت القيادات الكردية تدرك أن المخطط التركي واسع جداً ويتجاوز عفرين، والمعركة تستحق أن تُخاض بكل الإمكانات لوقف المخطط في عفرين.  فكان الخيار الثاني وهو ممارسة حقّ الدفاع المشروع عن النفس ضد غزوٍ خارجي غير مشروع. بهذا لم يمارس أهل عفرين سوى حقهم المشروع والمبدئيّ في ردّ العدوان الخارجي وغير المشروع بكافة المعايير الحقوقية والإنسانية، وليسوا السبب في إطلاق العدوان وشنّ الحرب، بل كانوا هدفاً وضحايا لحرب ظالمة عدوانية من خارج الحدود.

في الواقع كانت التحصينات العسكرية في محيط منطقة عفرين على التلال والمرتفعات (أنفاق طويلة مفتوحة على بعضها في مناطق جبلية صعبة ووعرة، وخنادق عسكرية) مُحكمةً للغاية، وقد جرى التحضير جيداً في السنوات السابقة لهذا الهجوم المتوقع. وقد تكرّر على لسان القوات التركية والجماعات السورية المهاجمة أنها تحصينات هندسية عسكرية متطورة جداً لا يمكن أن تقوم بها إلا دول وليس ميليشيات وأحزاب. بالمقارنة مع أنفاق غزة مثلاً يقول تقرير: ” وبينما يجري الحديث عن أنفاق في غزة بطول كيلومترات عدة وبعمق يتراوح بين 10 إلى 30 متراً تحت الأرض، تتحدث المصادر التركية عن أنفاق موصولة بعمق وصل إلى 150 متراً وبطول وصل إلى عشرات الكيلومترات، غطيت جميعها بالإسمنت المسلح، يتسع عرض بعضها لدخول شاحنة كاملة في داخلها، لتكون بذلك أشبه بمدينة كبيرة أخرى بنيت أسفل عفرين.”

لكن الطيران الحربي التركي وطائرات المراقبة التي لم تفارق سماء المنطقة والتقنية العالية الحديثة للقوات التركية لم تترك مجالاً فعلياً لأية مواجهات بريّة مباشرة. وسلاح الجو التركي يعدّ الأكثر تطوراً في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة الأمريكية. أعلن وزير الدفاع التركي والصحافة التركية عن أسلحة حديثة في معركة عفرين تستخدم لأول مرة من قبل الجيش التركي، منها طائرة تجسس بدون طيار (درون) صغيرة للغاية بحجم أكبر قليلاً من “النحلة” (تسمى بطائرة النحلة) تستطيع كشف المخابئ والكهوف في التلال والجبال ولا تصدر أصواتاً وغير قابلة للكشف، كما تستطيع التحليق والتصوير لعدة أيام. وهذه الطائرات الحديثة أمريكية في الأصل، تعتمد تقنية النانو، وتٌغير مسارها دون أن ترتطم بأي عائق.

أما الوحدات الكردية فاعتمدت على تكتيك الانسحاب والكمائن والتفخيخ ومضادات الدروع. وقد قالت لي مصادر في الوحدات الكردية أنه لشدة القصف الجوي والمراقبة الجوية لم تتمكن المقاومة من استخدام ما لديها من أسلحة خفيفة ومتوسطة، ففي معظم الأحيان ما إن يُوضع صاروخ على منصةٍ أو عربة إطلاقٍ أو يتحرك مقاتلون من الكهوف تسبقهم ضربة جوية بفعل المراقبة الجوية الحثيثة. وكانت خسائر القوات المدافعة في غالبيتها العظمى عن طريق القصف الجوي والمدفعي من بعيد وليست الاشتباكات المباشرة. ورغم غياب التوازن العسكري لصالح الجيش التركي، فقد وقعت خسائر غير قليلة في صفوف القوات المهاجمة، بينهم عشرات الجنود والضباط من القوات الخاصة التركية عبر كمائن، وأعلنت تركيا عن إسقاط مروحية هجومية تركية في عفرين ومقتل طاقمها.

حظيت مقاومة وحدات حماية الشعب YPG ووحدات حماية المرأة  YPJوحلفائها من قوات سورية الديمقراطية ( قسد) بالتفافٍ شعبيّ منقطع النظير وبمساندة أبناء عفرين الذين تطوعوا في صفوف المقاومة أو قدّموا المساعدة في الخطوط الخلفية وأعمال الإغاثة والدعم الطبي والإعلامي. وعلى مدار 58 يوماً تكبّدت القوات المهاجمة خسائر كبيرة قياساً لفارق التقنية والتسليح. وقد عبّرت المقاومة الميدانية والاحتضان الشعبي عن رفضٍ للعدوان وعن وحدة حال بين أهل عفرين بجميع توجهاتهم وتضامناً بين الأكراد ورافضي العدوان والغزو من المواطنين العرب والسريان من منطقة “منبج” وحتى منطقة “ديرك” في أقصى الشمال الشرقي السوري، وكذلك الجاليات الكردية في الخارج والمهجر، وأكراد تركيا والعراق وإيران.

بعد انهيار الدفاعات الأمامية للمقاومة بعد أكثر من شهر تقريباً من الهجوم، تقدّمت القوات التركية وحلفائها من كتائب المعارضة المسلحة السورية بشكلٍ متسارع ٍ وباشرت حصارها لمركز مدينة عفرين وقطعت المياه بعد استهداف سد بحيرة “ميدانكي.” كما اشتدّ القصف المُركز على المدنيين فيها الأمر الذي أسفر عن وقوع الكثير من الضحايا في يومي 16-17/3/2018 واستهدافٍ للمشافي والمرافق المدنية والخدميّة الأمر الذي اضطر المقاومة لاتخاذ قرارٍ مؤلمٍ، لا يقل شجاعة عن قرار الدفاع، وهو الانسحاب من المدينة لتجنيب المدينة المكتظة بما يزيد عن نصف مليون إنسان مصيراً مأساوياً، سيما وأنّ الميزان العسكري كان لصالح الجيش التركي بفارق ٍلا يقارن، وكان هناك صمتٌ دوليٌ كامل أعطى مزيداً من التشجيع لتركيا للمضي بمشروعها الاحتلالي.

ما اعتمده الجانب الكردي في عفرين منذ لحظة بدء العدوان حتى احتلال مركز المدينة كان حصيلة الموازنة بين ممارسة حقٍ مشروعٍ بالدفاع عن النفس والممكنات والحسابات المتأتية من استمرار المقاومة في معركة مدينة عفرين-المركز في ظل موازين القوى العسكرية والسياسية وتصاعد وحشية القصف التركي على المراكز المدنية. ورغم ذلك فقد سيطر الارتباك والتشوش على موقف وحدات الحماية وإدارة كانتون عفرين في الأيام الأخيرة للمقاومة، الأمر نجم عنه تخبط في إدارة الأزمة وعدم مصارحة الأهالي بقرار الانسحاب الذي اتخذ شكل الانهيار وليس الانسحاب المدروس، مما أدى الى حالة سخط بين الأهالي بسبب تلك الطريقة الغامضة، والتي بدت وكأنّ مسؤولي الإدارة في عفرين تركوا الأهالي لمصيرهم لا يعرفون ماذا يفعلون، خاصةّ وأنّ الحواجز الأمنية للإدارة كانت تمنع خروج السكان من المدينة في الأيام السابقة، بحسب بعض التقارير والمصادر.

خريطة رقم ٢: تُظهر الوضع في شمال غرب سوريا حتى تاريخ ٢١ آذار (مارس) ٢٠١٨ [المصدر مركز كارتر]

المأساة الإنسانيّة في عفرين تتحملها دولة الاحتلال التركي

سقط نتيجة هذا العدوان مئات الضحايا بين المدنيين بين شهداء وجرحى بينهم أطفال ونساء وشيوخ وكذلك بين صفوف المقاومين. وبحسب المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية يانز لاركي فقد نزح ما لا يقل عن  167 ألف شخص جراء الأعمال العدائية باتجاه أطراف منطقة عفرين المتاخمة لمدينتي نبل والزهراء وتل رفعت في ريف حلب  الشمالي وفي ظروف صعبة وقاسية للغاية. حيث منعتهم مثلاً حواجز النظام من التوجه إلى مدينة حلب حيث يملك الكثير منهم منازل هناك، إلا بدفع رشوة تبلغ حوالي ألف دولار للشخص الواحد ولا يملك هذا المبلغ الضخم إلا عددٌ محدود جداً من النازحين.

وقعت مدينة عفرين ونواحيها وقراها (نحو 400 قرية) تحت الاحتلال التركي المباشر ورُفعت فيها الأعلام التركية والأناشيد القومية التركية. أما الجهاديون السوريون (وهم مكون أساسي بين الكتائب المسلحة السورية المرافقة للجيش التركي تحت ستار اسمٍ جديد “الجيش الوطني السوري”) فيواصلون التعامل مع سكان عفرين المتنوعين عقائدياً والمتعايشين بسلام وهدوء ودون تمييز  كـ” ملاحدة وكفار،” ويعبثون بالرموز الدينية العائدة للكرد الإيزديين ويستهترون بهم وعقيدتهم، ويختبرون إيمان الناس علناً في الشوارع بالسؤال عن عدد الركعات في كل صلاة، لمعرفة فيما إذا كان الشخص ملتزماً دينياً أم لا ، كما ظهر في فيديوات بثها مقاتلو المعارضة أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه ظاهرة شاذة عند أهل المنطقة وتشكل تهديداً مباشراً للنسيج الاجتماعي المتآلف والمتعايش في منطقة عفرين الذي تميّز بغياب التوترات الإثنية والدينية والطائفية ونمطٍ متسامحٍ إزاء التعبيرات الدينية المختلفة. ومن المرجح بأن يؤثر نمط السلطة الجديد على هذا النموذج الاجتماعي المنفتح والمندمج على المدى البعيد.

سبقت الحملة العسكرية على عفرين حملة مكثفة موازية بين أوساط المعارضة السورية في إعلامها تتهم وحدات الحماية وحزب الاتحاد الديمقراطي بالعلمانية الحاقدة أو إلالحاد والكفر…والشيوعية!3  وتبرعت أوساط كرديّة وعلمانيّة باتهام قياداتها بأنها “عَلويّة “! كما روجت بعض وسائل الإعلام المعارضة أنّ إدارة “صالح مسلم الذاتي” تغازل الأسد وتفتتح مركزاً للعلويين في عفرين كما ورد في أحد تقارير الأورينت المعارضة.

كما أصبحت مدينة عفرين منذ اللحظة الأولى لاحتلالها ( 18/3/2018) مدينةً مفتوحةً لنهبٍ منظّمٍ ومقصودٍ من قبل المئات من مقاتلي المعارضة الذين ارتضوا العمل تحت راية العلم التركي بحيث لم يتركوا منزلاً أو محلاً تجارياً أو مسجداً إلاّ ونهبوه تماماً.4

في الواقع فإنّ كافة الفصائل المسلحة في سوريا دون استثناء مارست النهب والسرقة عند سيطرتها على أي منطقة، لكنها فاقت جميع التصورات في حالة عفرين بسبب التحشيد الديني ضد المنطقة من قبل الجهات السورية المدعومة من أنقرة بإطلاق أوصاف تكفيرية على أهل عفرين واستباحة دمائهم وممتلكاتهم بموجب فتاوى معلنة وأخرى غير معلنة. فمثلاً أصدر “المجلس الإسلامي السوري” المعارض ومقره اسطنبول، فتوىً مؤيدة للعمليات العسكرية التركي بتاريخ 26  شباط /فبراير2018 واصفاً قتال “قوات سورية الديمقراطية” بالجهاد في سبيل الله، وتضمنت الفتوى حديثاً عن “الغنائم.”  

وفي أعقاب احتلال مركز مدينة عفرين هُدم نصب تذكاري للشخصية الأسطورية ” كاوا الحداد” القائم في مدخل المدينة في مشهد احتفالي كبير، وهو رمز للشعوب المحتفلة بالنوروز ومنهم الكرد، الذين يشغل عندهم شخصية كاوا معنى نضاليّاً ضد الطغيان ورمزاً للحرية. كما تم حرق جميع الرموز والأعلام الكردية والدوس عليها بصرف النظر لأي حزب أو جهة تعود. و يبدو جلياً سلوك الانتقام من خصوصية المنطقة الإثنية في ممارسات الجيش التركي والفصائل السورية التي تقاتل معه في عفرين.

منذ 18  آذار 2018، أصبحت منطقة عفرين تحت الاحتلال التركي المباشر الذي خرق الحدود الدولية مع  سوريا، وخرق القانون الدولي، وهجّر أهل عفرين من قراهم ومدنهم الآمنة التي كانت تحتضن عشرات الآلاف من النازحين (العرب) من ريف حلب وإدلب، و أشعل فتنة بين الكرد والعرب المتآخين في مناطق شمال سوريا، هذا بالإضافة لجرائم واسعة ارتكبت بحق المدنيين من أهالي منطقة عفرين منذ بدء العدوان، وتخريب وتدمير للبنية التحتية، سيما في بلدتي جنديرس وراجو، ومنشآتٍ خدميةٍ كثيرة ومواقع أثرية عديدة كمعبد عين دارة الشهير وموقع براد الأثري (الذي يضم ضريح مار مارون) والمسجل على لائحة مواقع التراث العالمي (اليونيسكو) منذ عام 2011.

يتعيّن على كرد سوريا وجميع السوريين المعارضين للاحتلال التركي وأنصار السلم والديمقراطية ومناهضي الفاشية حول العالم، العمل المكثّف مع هيئات الأمم المتحدة والدول ذات النفوذ في الأزمة السورية لإعادة النازحين والمهجرين من مناطق عفرين وضمان عودة آمنة وسريعة وكريمة إلى قراهم وبلداتهم وتقديم مساعدات إغاثية وطبية عاجلة لجميع الأهالي، ومنع أي تغييرٍ ديمغرافي أو إخلالٍ بالتركيبة السكانية قد تمارسه تركيا أو الجماعات السورية المؤتمرة بأمرها تحت أي حجج. ما هو مؤكد على المدى القريب، أنّ العودة إلى عفرين غير ممكنة حالياً بالنسبة للعديد من السكان الذين شاركوا في الإدارة السابقة في كافة قطاعاتها العسكرية والأمنية والخدمية والصحية والإعلامية والتعليمية، وعوائل شهداء المقاومة ومناصري حزب الاتحاد الديمقراطي وقيادات القوى السياسية والاجتماعية التي تعاونت مع الإدارة السابقة وعارضت الاحتلال أو آزرت المقاومة بأي شكل من الأشكال. نتحدث إذاً عن مئات العوائل العفرينية الممنوعة من العودة.

وبالتوازي مع هذا المحور الإنساني الملح والعاجل ينبغي العمل على المسار القانوني بالعمل على تثبيت صفة الاحتلال على الوجود التركي في عفرين والتصرّف بموجب ذلك، أي الدعوة للخروج الفوري للقوات الأجنبية ومن رافقها إلى خارج الحدود الدولية السابقة للعدوان، وتحميل الدولة التركية مسؤولية المنطقة دون أن تكتسب صفة السيادة على هذا الجزء المقتطع من أراضي الدولة السورية، لأنها أصبحت فعلياً تحت سيطرة الجيش التركي ورفع العلم التركي في كثير من المقرات والمباني الإدارية. وبالتالي تتحمل حكومة أنقرة كامل المسؤولية وفق القانون الإنساني الدولي.  وحتى جلاء هذه القوات عن أرض عفرين وعودتها إلى أهلها تحت السيادة السورية، فإنّ تركيا مسؤولة عن كافة الجرائم والانتهاكات والأضرار التي وقعت منذ بدء حملتها العسكرية في 20 كانون الثاني الماضي. وواجبات سلطة الاحتلال محددة بشكل واضح في لائحة لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة بالإضافة إلى بعض أحكام البروتوكول الإضافي الأول والقانون الدولي الإنساني العرفي، وسوى ذلك من مواثيق وقوانين دولية ذات صلة.

الهوامش:
1- بحسب الباحث محمد عبدو علي ” يشكل الأكراد غالبية السكان في منطقة عفرين، وهم يقطنونها منذ القدم، ولم يشاركهم أحد في استيطانهم لها على مدى قرون عديدة وحتى القرن التاسع عش، وهي تتوزع على سبع نواح، يشكل الأكراد في خمس منها نسبة تقارب 100 %، وهي نواحي: شيخ الحديد، راجو، بلبل، شران، معبطلي. أما العرب والفئات الأخرى القاطنة في المنطقة فينحصر وجودهم في ناحيتي “جنديرس والمركز – عفرين.” (جبل الكرد (عفرين): دراسة تاريخية اجتماعية توثيقية. المديرية العامة للصحافة والطبع والنشر. السليمانية. العراق. 2009، ص 161)
2تكررت مثل هذه المزاعم مراراً في جريدة “يني شفق” المقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم وكتابات رئيس تحريرها إبراهيم قره غول خصوصاً. ففي مقابلة مع موقع تركيا الآن، صرّح قره غول “أنّ تركيا بقيامها بعملية تحرير “عفرين” قد أغلقت الطريق أمام ممرّ البحر الأبيض المتوسط، الذي يهدف الإرهابيّون إقامته” . وفي تسجيلٍ مصور أدلى نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم  Hamza Dağ بتصريحاتٍ مشابهة أن عملية عفرين اقتصادية أيضاً، وقطعت محاولات مد انبوب بترول بديل من اقليم كردستان عبر المناطق الكردية في سوريا إلى البحر المتوسط بدل المرور بتركيا.
3-هناك فتاوى عديدة لـ “المجلس الإسلامي السوري” المعارض بهذا الخصوص. انظر مثلاً الفتوى المعنونة بـ “حكم الإقامة في مناطق تحت حكم ميليشيات PYD” (10 حزيران /يونيو، 2016) حيث تصف القوات الكردية بالـ “ميليشيات PYD العلمانية الحاقدة.”  كذلك الفتوى الصادرة بتاريخ 31 أيار/مايو، 2016، بعنوان “حكم القتال بين تنظيم الدولة والميلشيات الكردية” والتي جاء فيها يرد فيها (بالنسبة للسؤال عن موقف المسلم من القتال الواقع بين تنظيم الدولة في الرقة والميليشيات الكردية العلمانية التي تتخذ من اسم قوات سورية الديمقراطية ستاراً لها، فإننا نرى أن كلا الفصيلين فاسد ومنحرف).
4-صرّح Bulent Kilic  وهو مصور تركي كان يغطي الوضع في عفرين لوكالة فرانس برس، التي نشرت صور السرقة والنهب في عفرين لشبكة سي إن إن CNN:
” عمليات النهب كانت واسعة النطاق ومنظّمة. المئات من مقاتلي المعارضة كانوا يركزون على النهب أكثر من الاحتفال بانتصارهم…كانوا ينهبون كل شيء؛ سلع وحيوانات وماعز وحتى طيور الحمام”.  وتابع قائلاً “كنت في مناطق حروب لسنوات عديدة. يحدث أن اثنان أو ثلاثة أشخاص ينهبون…لم ألاحظ الكثير بداية. ولكن بعد ذلك رأيت أنهم على عجلة من أمرهم لأخذ كل شيء من هذه المدينة “. وقال “إن بعض الكتائب صبغت أسماءها على متاجر معينة كأسلوب لحجز النهب في المستقبل. “…”سكان عفرين غاضبون من نطاق السطو ويحاول كثيرون العودة لحماية منازلهم ومتاجرهم.”
تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية
أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

أهالي دوما بين مطرقة النظام وسندان جيش الإسلام

مع سيطرة الجيش السوري على أغلب مساحة الغوطة الشرقية بعد خروج فصيلي ”أحرار الشام“ من حرستا، و“فيلق الرحمن“ من زملكا وجوبر وحزة وعربين، وهي المناطق التي بقيت تحت سيطرته في القطاع الأوسط، أصبح واضحاً بأن الوجود المسلح لفصائل المعارضة السورية أصبح محسوماً في تلك المنطقة، والتي شهدت أعنف حملة عسكرية عليها منذ بداية حصارها في نهاية عام ٢٠١٢.

لكن يبقى السؤال الأهم، ما هو مصير فصيل ”جيش الإسلام“ المحاصر في مثلث دوما، وبعهدته ما يقارب ١٤٠ ألف مدني؟

بدأت مفاوضات جيش الإسلام مع الجانب الروسي منذ بداية الحملة العسكرية على الغوطة في منتصف شباط ٢٠١٨، ومع استمرار تقدم الجيش السوري في مزارع الغوطة، من الناحية الشرقية، حيث الخاصرة الرخوة للمحاصرين، ثم محاصرة كل فصيل على حدة، بعد تراجعه إلى مركز سيطرته (جيش الاسلام في مدينة دوما مع امتداد حتى بلدة الريحان في الشمال الشرقي للغوطة، وأحرار الشام في مدينة حرستا، بينما تآكلت مناطق فيلق الرحمن وتصالحت مدنه مع ما فيها من مدنيين ومقاتلين مع النظام بشكل منفرد، وبالتالي أضحى محاصراً في مدن زملكا وجوبر وحزة وعربين) تقدَّم جيش الاسلام بعرض إلى الجانب الروسي، وكما رشح من بنود هذا العرض، والمحفوظة ضمن دائرة ضيقة في قيادته، أن يتحول جيش الإسلام إلى شرطة مدنية (بدل خدمة العلم الإلزامية في الجيش السوري) في مدينة دوما وما حولها، مع تسليم السلاح الثقيل، ودخول رمزي لمؤسسات الدولة، ورفع العلم السوري على الدوائر الحكومية، ودخول كتيبة شيشانية لتأمين المنطقة بدل دخول الجيش السوري وقوات النظام الرديفة.

ومع الحديث عن تواجد وساطة مصرية في دمشق تسعى للحفاظ على جيش الإسلام ومدينة دوما، كما تسرب من الصحافة، يبدو أن الجانب الروسي تعاطى بشكل ايجابي مع عرض جيش الإسلام في البداية، حيث دخلت المساعدات الإنسانية إلى مدينة دوما وحدها دون غيرها عدة مرات، وخرجت الكثير من الحالات المرضية والإصابات بالغة الخطورة من داخل مدينة دوما لتلقي العلاج في العاصمة دمشق، وأيضاً أعلن الجانب الروسي عن وقف إطلاق النار من جانب واحد على مدينة دوما فقط، وهذا أعطى جيش الإسلام قناعة بأنه يملك أوراق تفاوضية قوية ومختلفة عن فيلق الرحمن أو أحرار الشام، فهو لم يُخِل باتفاقية ”خفض التصعيد“ التي وقعها مع الجانب الروسي في ٢٢ تموز ٢٠١٧، على عكس فيلق الرحمن الذي ساند بشكل واضح أحرار الشام في معركة ”بأنهم ظلموا“ على إدارة المركبات في مدينة حرستا، ولم يقم أيضاً بقصف العاصمة دمشق كما كان يفعل سابقاً في مثل هذه الظروف، في حين أن فيلق الرحمن أمطرها بوابل من القذائف والصواريخ، مما أوقع العشرات من الإصابات والضحايا في صفوف المدنيين، وأيضاً يتباهى جيش الإسلام بأنه أول من حارب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”داعش“ وذلك بعد أشهر من إعلان التنظيم عن قيام دولة خلافته، حيث اقتلعه تماماً من الغوطة الشرقية وقضى على وجوده فيها، ثم قاتله في جنوب دمشق، وفي جبال القلمون بالتعاون مع قوات أحمد العبدو المحلية هناك، وكذلك حربه ضد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) حيث دخل مراكز قيادتها في ٢٨ نيسان ٢٠١٧ بعد أن قتل وأسر العديد من قادتها وعناصرها، ولولا تدخّل فيلق الرحمن المتأخّر لحماية من تبقى منهم، لكان أنهى وجودها بشكل كامل في الغوطة الشرقية.

لكن يبدو بأن الجانب الروسي كان يملك اليد العليا في إدارة المعركة على الأرض ومن خلال التفاوض أيضاً، فهو أعطى نوعاً من الاطمئنان لقادة جيش الإسلام في رده على مطالبهم، ومن ثم بعد أن دخل الجيش السوري إلى القطاع الأوسط وبدأت مدنه وبلداته تُصالح منفردة، ومع تحوّل صمود أحرار الشام في حرستا إلى تفاوض بفعل ضغط الأهالي، تغير موقف الجانب الروسي فجأة، وقيل بأنه انسحب من تعهداته التي قدمها لجيش الإسلام، وهذا ظهر واضحاً من خلال تصرفات جيش الإسلام الذي حاول التلويح بأوراق تفاوضية جديدة، فاستعمل منظومة صواريخ الأوسا (9K33 Osa منظومة قاذفة، تحمل ستة صواريخ دفاع جوي محمولة على سيارات نقل بستة عجلات، ومدمج بها رادار في سيارة واحدة، وكان جيش الإسلام قد استولى عليها من قاعدة دفاع جوي بالقرب من دمشق في نهاية ٢٠١٢) للمرة الأولى خلال هذه الحملة، وأطلق صاروخين اثنين في اتجاه مروحييتين للجيش السوري دون إصابة أي منهما، وذلك في ١٧ آذار الماضي، وأيضاً قام باستعراض لبعض دباباته في وسط دوما، ثم فتح معركتين في مساء اليوم التالي، واحدة باتجاه حرستا بالتعاون مع أحرار الشام فيها، حيث قيل بأنه تسلّم سلاحهم الثقيل قبل إبرام اتفاقهم النهائي مع النظام السوري، وأخرى أحرز من خلالها تقدماً في مزارع بلدة مسرابا، فعاد القصف من جديد على مدينة دوما موقعاً العديد من الضحايا، وكان أشدها في ٢٣ آذار حين تم قصف المدينة بالنابالم والفوسفور الحارق.

مع عودة الهدوء النسبي وتوقف القصف على مدينة دوما، عاد جيش الإسلام إلى التفاوض من جديد، ولكن هذه المرة كان من خلال لجنة مدنية (تم انتقاء معظم أفرادها من المقربين منه) وعبر خط تفاوض جديد موازٍ لخط العسكر التفاوضي، ومع ذلك لم يتم تحقيق أي شئ يُذكر، فالموقف الروسي ثابت، خروج من دوما إلى محافظة إدلب أو جبال القلمون الشرقي، مع تسليم السلاح الثقيل، وتسوية أوضاع الراغبين في البقاء، مع إعطاء مهلة سنة كاملة قبل الالتحاق بالجيش للمتخلفين أو الفارين من خدمة العلم، وأن تكون الخدمة الإلزامية في الفرقة الخامسة (وهي فرقة ميكانيكية، تتموضع في الجنوب السوري ومسؤولة عن الجبهة الجنوبية، شاركت في حرب تشرين في ٧٣ وكانت أكثر الفرق نجاحا حيث وصلت إلى مشارف بحيرة طبريا) وكذلك أبدى الجانب الروسي استعداده للتفكير في إرسال كتيبة شيشانية إلى دوما، بدلاً من الجيش السوري وقوات النظام الرديفة، وبالتالي بقي الوضع معلّقاً مع جولات من التفاوض شبه اليومية وبحضور ممثل عن الأمم المتحدة المتواجدة في دمشق.

يعلم الجميع بأن ”جيش الإسلام“ قد انتهى، وهو يعلم ذلك، فخروجه إلى محافظة إدلب، يعني بأنه سيكون في مواجهة غير متكافئة مع هيئة تحرير الشام، على الرغم من تأكيد قيادة أحرار الشام في الشمال بتأمين الحماية اللازمة والكاملة لجيش الإسلام إن رغب في التوجه إلى محافظة إدلب، والجانب الأمريكي يرفض تماماً فكرة  توجه جيش الإسلام نحو الجنوب إلى درعا، والجانب التركي كذلك يرفض بشكل قاطع دخول أي مدني أو مسلّح إلى مناطق سيطرة درع الفرات، حتى أنه ومن معه من فصائل المعارضة السورية وضعوا ”فيتو“ على دخول ”فيلق الرحمن“ للقتال إلى جانبهم سواء في قيادة الأركان أو في درع الفرات، ويبدو أن جيش الإسلام قد أغضب الأتراك حين قبل بالوساطة المصرية عند توقيع اتفاقية خفض التصعيد، وبالتالي لم يبقَ أمام جيش الإسلام إلا منطقة جبال القلمون الشرقي، وهي منطقة مُحاصَرة بشكل أكثر سوءاً من مدينة دوما الآن، ناهيك عن عدم أهليتها لاستقبال هذا العدد من المقاتلين وعائلاتهم.

مع كثرة الشائعات والأقاويل، يتحرك الشارع المدني – المُغيّب تماماً عن تقرير مصيره – في دوما بشكل تصاعدي يوماً بعد يوم، مقابل خطاب خشبي يدعو إلى الصمود والمبايعة على الموت من قادة جيش الإسلام وشرعييهم، واستخدام ظالم للغة التخوين مع استدعاءات الأجهزة الأمنية لمن يخالفهم الرأي. لقد خرج من دوما حتى الآن أكثر من ٢٠ ألف مدني عبر معبر مخيم الوافدين إلى مراكز الإيواء الجماعية التي أعدّها النظام السوري لاستقبالهم، مجازفين بأنفسهم ودون وجود أي اتفاق يضمن مصيرهم، لكن يبدو أن جيش الإسلام لا زال يكابر مُعوّلاً على حظوظه في نجاح المفاوضات، دون أن يشرح على ماذا يستند ويراهن، متحدياً بذلك المنطق الذي يقول بأنّه لا يملك في المفاوضات ما يُعطيه مقابل ما يطلبه لنفسه، ربما يكون تعليل ذلك بأنّه مُحاصر في خياراته، ولا يملك سوى الصمود بقدر ما يستطيع. لكن هذا الصمود المستند على الخطاب الحماسي، سوف يدفعه في النهاية إلى تكرار ما حدث مع ”فيلق الرحمن“ حين خرجت المظاهرات مندّدة به، ثم انشقت جماعات متفرقة من عناصره، وتحولت إلى ”قوات دفاع وطني“ من خلال مصالحات مباشرة مع النظام.

في المقابل، يبقى الجانب الروسي متعنتاً في موقفه، وهو يعلم بأن ”جيش الإسلام“ لا يملك خياراً سوى التمسك بأرضه والمواجهة لأجل البقاء، وبالتالي من المفيد تقديم نموذج حميد نحو تحوّل بعض من فصائل المعارضة السورية – الأكثر اعتدالاً – إلى شرطة محلية (مكان خدمة العلم)، بدل تركها لتكون تابعة لمصالح وغايات دولية وإقليمية، أو الدخول في معارك معها سوف تُخلّف الكثير من الضحايا في صفوف المدنيين، مع دمار أصبح سمة رئيسية للمدن والبلدات السورية. ربما يكون النظام السوري هو المعطل لذلك كما تناقلت بعض الصحف، وربما لذلك يسعى الروس لكسب تأييد الأتراك في قبول صفقة ما لترحيل جيش الإسلام إلى جرابلس أو منبج، ويبدو أن مساعي الروس قد نجحت في تحقيق ذلك خلال الساعات الماضية، وبالتالي نبقى في انتظار الرد من جيش الإسلام على هذا الخيار الأخير.

على جانب آخر، تغيب مؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة عن المشهد الحاصل في الغوطة الشرقية، وعندما تحضر تكون بطريقة ”رفع العتب“ دون تدخّل أو تأثير مباشر، فمجلس الأمن – وبعد تأجيل التصويت مرتين بسبب الاعتراض الروسي على صيغة القرار – يُخرج في ٢٤ شباط ٢٠١٨  القرار رقم ٢٤٠١ والقاضي بوقف الأعمال العدائية لمدة ٣٠ يوماً متتالية في جميع أنحاء سوريا، مستثنياً من ذلك تنظيم ”داعش“ و ”جبهة النصرة“ والكيانات الإرهابية كما حددها مجلس الأمن، مما أعطى روسيا والنظام السوري غطاءً دولياً ليفعلوا ما يشاؤون، بحجة وجود عناصر جبهة النصرة هناك، والذين لا يتجاوز عددهم الـ ٣٠٠ عنصر في القطاع الأوسط، وحين أعربت الفصائل الثلاث في رسالتها إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، وللرئیس الدوري لمجلس الأمن السفير الكويتي منصور العتيبي عن “التزامنا التام بإخراج مسلحي تنظيم هيئة تحرير الشام، وجبهة النصرة والقاعدة، وكل من ينتمي لهم وذويهم من الغوطة الشرقية لمدينة دمشق خلال ١٥ يوماً من بدء دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ الفعلي“ لم تتحرك الأمم المتحدة لايجاد آلية للتنفيذ، مما اضطر جيش الإسلام إلى الاتفاق بشكل مباشر مع وفد الأمم المتحدة الذي دخل مع القافلة الإغاثية في الخامس من آذار لأجل ترحيل الدفعة الأولى من عناصر هيئة تحرير الشام الموجودين في سجونه إلى محافظة إدلب، وأيضاً لم تُحرّك الأمم المتحدة ساكناً عندما قامت قوات أمن النظام السوري باستبعاد نحو ٧٠٪ من المساعدات الإنسانية ومن بينها المواد الطبية من قافلة المساعدات التي دخلت دوما يومها، ولا عندما اضطرت تلك القافلة للخروج مسرعة دون أن تفرغ تسع شاحنات من حمولتها، بسبب القصف المتواصل على المدينة أثناء عملية التفريغ، وأيضاً لم تتحرك مؤسسات الأمم المتحدة الإغاثية لتقديم المساعدة للمدنيين العالقين في مراكز الإيواء المؤقت في مناطق سيطرة النظام.

في النهاية، يبقى المدنيون هم المتضررون الأساسيون، فهم نقطة ضغط للمهاجمين، ودرع واق للمدافعين، حيث تسقط الإنسانية، ويُصادِر السلاح رغبة العاقل في الكلام، وتبقى معظم الاتفاقات والاعتبارات محصورة في السلاح ومن يحمله، وفي ذيل القائمة تجد بنداً يتحدث عن تأمين المدنيين، ومن سخرية الأحداث أن يُنقل بعض من عناصر ”هيئة تحرير الشام“ بأمان إلى محافظة إدلب، في حين يرفض الجانب الروسي أي اتفاقية تشمل خروج من يرغب من المدنيين نحو إدلب، إلا بعد الاتفاق مع فصيل جيش الإسلام.

*مصدر الصورة المرافقة للمقال: REUTERS/Omar Sanadiki

ناجية إيزيدية ترسم معاناتها مع داعش في لوحاتها

ناجية إيزيدية ترسم معاناتها مع داعش في لوحاتها

“ماتزال صورة والدي المختطف على يد تنظيم داعش متمترسة بجدار ذاكرتي، أحاول مراراً وتكراراً أن أرسمه في لوحاتي، وأتخيل أنه عاد مع شقيقتي وأشقائي وأولادهم وزوجاتهم إلى البيت.” بصدى أنة مقهورة تدخل “سهيلة دخيل تعلو” الناجية الإيزيدية في تفاصيل أسرها مع عائلتها من قبل مقاتلي تنظيم داعش في الثالث من شهر آب/أغسطس 2014، حيث مايزال بعضهم مجهولي المصير.

سكبت “سهيلة” في لوحاتها ألوان عذاباتها، وترجمت بريشتها رحلة ألم عاشتها خلال فترة اختطافها لسنتين من قبل التنظيم بعد سيطرة مقاتليه على بلدتها شنكال (120 كم غرب الموصل) في العراق قبل نحو أربع سنوات.

صورة رقم 1: تظهر “سهيلة” في مرسمها

لحظات موجعة لم تبرح مخيلة الشابة الصغيرة بعد تحريرها من الأسر، وعودتها لأحضان من تبقى من عائلتها، لتعيش في مخيم “شاريا” بدهوك في كردستان العراق مع أخيها “ساهر” وشقيتيها “سهار” و”شيماء” الناجية مع والدتها “عمشي” من براثن داعش.

نمّت سهيلة موهبتها في الرسم بعد عودتها لعائلتها والتحقت بدورة لتعلّم فنون إتقان الرسم على يد الرسام الكردي الشهير “بيار محمد عمر” من مدينة دهوك مع مجموعة مؤلفة من “12” ناجية إيزيدية تحررن وعشن في المخيم.

عرضت مؤخراً الرسامة الناجية لوحاتها في أول معرض للرسم في مجمع “شاريا” للنازحين الإيزيديين والذي لاقى حضوراً كبيراً فعشقها لفن الرسم كان اللبنة الأولى في طريق تغلبها على محنتها.

15 رهينة من العائلة

سُبيت “سهيلة” في عامها الثالث عشر مع 14 فرداً من عائلتها، الأب “دخيل”، والشقيقتين “ألماسة” و”شيماء” والأشقاء “سعد” و”آزاد” و”خلف” وزوجاتهم وأطفالهم مع العمة “ليلى” وطفليها.

واجهت “تعلو” كغيرها من المختطفين والمختطفات الإيزيديات حقبة سوداوية مقيتة عاشتها بعد نقلها مع المئات ممن أسرهم داعش في حافلات إلى دائرة نفوس “شنكال”، ومنها لقضاء “بعاج”، فسجن “بادوش” قرب مدينة الموصل، ومنها إلى قضاء “تل عفر” حيث فصلت عن عائلتها وانتهى بها المطاف في قاعة “كالاكسي” في الموصل برفقة شقيقتيها “ألماسة” و”شيماء”.

عدة مرات تعرضت الشقيقات الثلاث للاغتصاب اليومي، ولأشد أنواع التعذيب النفسي والجسدي والبيع والجوع والضرب المبرح.

وقد تمّ فصل الأخوات عن بعضهن فـ”شيماء” الصغرى نُقلت إلى سورية، وبقيت “سهيلة” في الموصل، أما “ألماسة” فلم يتسن للعائلة الحصول على معلومات عنها حتى اليوم.

بُيعت “سهيلة” الشابة الصغيرة أكثر من ثماني مرات، ناهيك عن تبادلها من قبل عناصر داعش بين بعضهم كسلعة تباع وتشترى.

 أخذت عملية تحرير “تعلو” وقتاً طويلاً، فقد استغرقت أكثر من سنة كما حدثنا عمها الكاتب الإيزيدي “خالد تعلو”. حيث قال: “تتبعنا أخبار سهيلة عن طريق بعض الناجيات اللواتي استطعن الهرب من سجون داعش، وعلمنا أنها أقدمت على الانتحار قبل أن يغتصبها جنود الدولة الإسلامية، غير أن محاولتها في قطع شريانها باءت بالفشل، وبعدها تمكنا من شرائها عن طريق وسطاء بيننا وبين داعش بمبلغ 6800دولار.”

صورة رقم 2: “سهيلة” بالزي الايزيدي الشعبي

فوجئنا أننا عبيد!

سُيقت الشابة الإيزيدية “سهيلة” إلى أسواق الرق بين تلعفر والقيارة والبعاج وحمام العليل والحويجة والموصل لأكثر من ثماني مرات وتذكر “سهيلة”: ” فوجئنا أننا أصبحنا عبيداً، نُباع ونُشترى كسلع رخيصة لا حول لنا ولا قوة، ناهيك عن أن عناصر التنظيم كانوا يتبادلوننا فيما بينهم، بعد إجبارنا على اعتناق الإسلام وتهديدنا بالضرب والحرق والتشويه.” وتضيف: “بعد فصلنا عن عوائلنا كنا نتعرض للاغتصاب الجماعي أنا والعشرات من الفتيات مع شقيقتي “ألماسة” التي لا نعرف عنها حتى الآن شيئاً هي ووالدي وأشقائي الثلاثة مع زوجات وأولاد اثنين منهم. تم تحرري في الموصل وأما شقيقتي شيماء فقد تحررت في مدينة الرقة السورية قبل حوالي سبعة أشهر، فشيماء التي تم بيعها لأكثر من 10مرات وهي لم تبلغ الثماني سنوات حين أختطفت وبيعت لأحد أمراء التنظيم في الرقة وكان سعودي الجنسية واغتصبت بشكل يومي بعد ربطها بالسرير.”

صورة رقم 3: “شيماء” مع أسرتها بعد عملية التحرير

 تحرير الرهائن مغامرة:

تحرير الناجيات عملية معقدة جداً، حيث تتم حسبما يتحدث “خالد تعلو” بعيداً عن أنظار داعش وبسرية تامة جداً، ويضيف: “يتم عرض صور المختطفات الإيزيديات والأطفال على موقع النخاسة الإلكتروني الذي يديره داعش.” موضحاً: “بعض الوسطاء يدخلون المزاد في هيئة موالين لتنظيم داعش ويشترون بناتنا بعد اتفاقهم مع أهالي الأسيرات على قيمة المبلغ الباهظ، ويجب على أهالي المخطوفين تأمين المبلغ المحدد قبل تحريرهم.” ويتابع: “صفقات التحرير مغامرة تواجهها صعوبات جمة، أهمها أن العديد من أهالي الضحايا يعجزون عن تأمين المبلغ المطلوب في التوقيت المحدد فتفشل عملية التحرير.”

شراء الرهائن بمبالغ خيالية

يشتري الإيزيديون أسراهم لقاء مبالغ مالية كبيرة، تُنهك قدرة عوائلهم، فيدفعهم ذلك إلى بيع ممتلكاتهم والاستدانة لشراء حرية أحبتهم.

 أكد “شُكُرْ شَنكالي” مسؤول المجلس الإيزيدي في “شنكال” أنه لم يحرر أسير واحد دون مقابل مادي إلا مرة واحدة قبل حوالي عامين، حيث حرر53 إيزيدياً في عملية مقايضة مع امرأة داعشية كانت من مدينة “حلب السورية” تدعى “عزيزة” والتي تزوجت من أربعة أمراء للتنظيم واعتقلت من قبل وحدات حماية “شنكال” صيف 2016 في طريق عودتها إلى الموصل مع مجموعة من عناصر التنظيم”.

تحدث “خالد تعلو” عن تحرير “عمشي” والدة سهيلة من مدينة الرقة في الرابع من نيسان 2017 بمبلغ 11500دولار، وزوجة ابنها تحررت مع بناتها الثلاث في 24نيسان 2016 من مدينة طبقة السورية بميلغ 29ألف دولار.

ويضيف تعلو: “اشترينا حرية شقيقتي ليلى وطفلتيها ’سالار وسارة‘ بمبلغ 27ألف دولار من مدينة الرقة في نيسان2017.

صورة رقم 4:”سهيلة” مع عمها الكاتب “خالد تعلو”

ناجيات ورهائن

كشفت مديرية الشؤون الإيزيدية في إقليم كردستان الشهر الماضي عن آخر إحصائية لأعداد الفتيات والنساء والأطفال الرهائن لدى تنظيم داعش، فضلاً عن الناجين من سجونه.

ونقلت وسائل إعلامية في تصريح صحفي لمدير مديرية الشؤون الإيزيدية في دهوك، “عيدان الشيخ كالو” (في4 شباط 2018) قوله أن: “العدد الكلي للناجيات والناجين الإيزيديين الذين اقتادهم تنظيم داعش في مطلع آب 2014، بلغ (3259) شخصاً.” وأضاف: “وأما عدد الرهائن لدى التنظيم كان قد بلغ (6417) شخصاً، وهناك أكثر من 3158 مايزال أسيراً لدى داعش في الأراضي السورية والتركية، بينهم 1472 من الإناث.”

ووفقاً لإحصائيات غير رسمية، يقدرعدد الإيزيديين بنحو 600 ألف نسمة في العراق، يقطن غالبيتهم في محافظتي نينوى ودهوك، فضلاً عن وجود أعداد غير معروفة في سورية وتركيا وجورجيا وأرمينيا، وأعداد أخرى من المغتربين في دول أوربية أبرزها ألمانيا والسويد.

وتعرض الإيزيدون إلى 74 مجزرة وكان آخرها في 3 آب/ أغسطس 2014 في “شنكال” موطنهم الأصلي في العراق بعد اجتياح مقاتلي داعش، وسيطرتهم على محافظة نينوى شمال العراق، وقتلهم لمئات الإيزيديين في قضاء “شنكال” وقرى غرب الموصل وسبيهم آلاف النساء والأطفال، وارتكابهم أبشع جرائم ضد الإنسانية جمعاء.

مشكلة الهوية في سوريا

مشكلة الهوية في سوريا

طاولة مستديرة أعدتها هيئة التحرير في صالون سوريا

يكتسب موضوع الهوية أهمية كبيرة في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ سوريا الحديث، والتي تتسم بصراع تقسيمي، وبتدخل من أطراف دولية وإقليمية تعبث بالمصير السوري.  وفيما يتحدث كثيرون عن فيدرالية، أو تقسيم، أو مناطق نفوذ، أو محميات، أو مناطق آمنة، يبدو المجتمع السوري أكثر تفككاً من قبل، وتبدو القوى السياسية سواء في المعارضة أو السلطة عاجزة عن بلورة خطاب توحيدي، أو مشروع يوضح إلى أين تتجه الأحداث في سوريا، وما الذي يعنيه أن تكون مواطناً سورياً في إطار وجود قانوني. بالتالي يصبح من الملح طرح موضوع الهوية السورية، وخاصة بعد تفكك الهوية القومية المفروضة على مكونات المجتمع وبزوغ هويات مناطقية ونعرات طائفية ومكبوتات قومية تاريخية لجمتها الإيديولوجيا القومية عبر ارتباطها بالسلطة. وبرزت إلى السطح هويات تكتسب بحكم الولادة أو بالانتماء إلى خلفية معنية، أو بالقالب الطائفي الذي يُرمى على الآخر بسبب استغلال الانقسامات الاجتماعية في الصراع.

يدعو صالون سورياالكتاب إلى معالجة الموضوعات التالية:

برأيك كيف يقارب السوريون هويتهم وكيف يريدونها أن تكون بالمعنى السياسي، ضمن إطار مشروع مستقبلي لبناء الدولة؟ كيف يعرّفون أنفسهم على المستوى السياسي والاجتماعي؟ هل تمثلهم الأطراف المتصارعة؟ هل هناك شيء يمكن أن يجمع عليه السوريون؟ إلى ماذا يطمح السوريون وماذا يريدون أن يحققوا على هذا المستوى؟ما طبيعة الصراع الدائر، دوافعه الإيديولوجية والدينية والسياسية وتأثيره في موضوع الهوية؟ بأي اسم يخاض الصراع القائم في سوريا؟ هل يعكس إجماعاً على هوية،  أم يتسم بهويات تقسيمية؟ وما هو شكل الهوية السياسية القادمة في سوريا في ظل استمرار الأوضاع الحالية؟ هل تقاتل الفصائل المعارضة والأصولية من أجل فرض هوية إسلامية على سوريا؟ من أجل ماذا يقاتل النظام  وما هو تصوره المستقبلي لمفهوم الدولة، إذا كان لديه تصور؟ وما هو التصور الثقافي لمفهوم الهوية في سياق الصراع؟  وهل هناك شيء يجمع عليه السوريون يتخطى الصراعات القائمة؟

سينشر صالون سوريا الإسهامات التي ترده تباعاً ويفعل روابطها.

الجامعة السورية
يوسف سلامة

دمشقيتي السورية المنتمية إلى فلك العروبة
فواز حداد

الهوية السورية هوية مضادة
راتب شعبو

الهوية السورية المقتولة
علياء أحمد

هوية و هويات
جمال سعيد

هويتنا القاتلة
لبنى أبو خير

الخوف من الثورة بوصفها فضيحة للهوية المشوهة!
عمر الشيخ

-البعث والهوية السورية
رانيـــــــــــــــا مصـــــطفى

أنا سوري! آه يا ويحَ قلبي
أروى غسان

البدل ليس ضائعاً…الهوية السورية في استراحة مقاتل
ملك بيطار

السوريون وصراع الهوية والانتماء
عامر فياض

بيان من أجل الهوية السورية!
معتز نادر

الهوية السورية وأسئلة الحرب المفتوحة
معاذ اللحام

حول الهويات في سوريا
مصطفى تاج الدين الموسى

الهوية السورية على المحك
زينة محمود

قومية زائدة… هوية ناقصة!
إلياس بيطار

سجالات الهوية الوطنية وغياب دور الدولة
أنور بدر

الهوية السوريّة الضائعة
فريد حسن ياغي

الهويَّة السُّوريَّة من التَّفخيخ حتَّى الانفجار
عامر العبود

هوية بلا دين ولا طائفة ولا قومية
غيداء العودات

هويّة شوّهتها العقائد والمصالح
عادل نديم أحمد