مظاهرات السويداء وعودة الروح المدنية

مظاهرات السويداء وعودة الروح المدنية

منذ منتصف مارس / آذار عام 2011، لم تفكّر الأصوات التي انطلقت في الشّوارع السوريّة، بحمل السّلاح من أجل التغيير، كان لدى أصحابها حلم بالحريّة. كانت أداة تعبيرهم الأبرز هي الهتاف ضدّ السلطة.

أصوات انطلقت من قهر العقود التي تسلّطت فيها عائلة واحدة على حكم البلاد، فانهمرت دون خوف، لتغير مسار التاريخ السوريّ والمنطقة. لم يكن ثمّة تخطيط للحالة التي وصلت إليها الأوضاع الأمنيّة لاحقاً، هذا ما يبدو، ولكنّ الجميع كان يدرك أنّ مصلحة النظام في سوريا هي أن تتسلّح الثورة، أن تتطرّف، أن تصبح شيئاً آخراً غير الثورة الشعبيّة.

وعلى مدى سنوات اكتسب فيها المجتمع وعيه السياسيّ الحرّ، كان يبدو ذلك بين حين وآخر في صور حراك شعبي هنا، ومظاهرات خجولة هناك.  بعد أن حصر النظام أغلب قوات المعارضة المسلّحة، في إدلب، شمال البلاد.

وعلى اختلاف تنوّع المناطق وتأثّرها بالحدث السوريّ، كانت حدّة التفاعل السياسيّ تظهر عبر منصّات التواصل الالكترونيّة، كردّ فعل على غياب العمل السياسيّ الميدانيّ على الأرض، بسبب القمع الأمنيّ والقتل العشوائيّ لكلّ من لا يؤيد أفعال النظام ضدّ معارضيه.

واليوم، هضم المجتمع في سوريا، كلّ أكاذيب السلطة وذرائعها لمنع التظاهر والثورة، وشهدت على ذلك مدينة السويداء، جنوب البلاد. إذ ومنذ أيام، لم يغادر أهل المدينة ساحات الاعتصام والتظاهر ضدّ النظام السوريّ، ورفع شعارات سياسية كانت هي السّيرة الأولى لثورة 15 آذار/ مارس 2011.

لقد استعاد الناس رغبتهم بالاحتجاج مجدداً ضد حكم النظام في سوريا، ترى ما الذي دفعهم للنزول مجدداً إلى الشارع في ظلّ الضغط الأمنيّ والاجتماعيّ الذي تعيشه البلاد؟

تواصل “موقع صالون سوريا” مع عدد من الناشطين في السويداء ومنهم شادي صعب، الذي أجابنا قائلاً: “نتيجة الاستعصاء الحاصل في العملية السياسية، وفشل اللجنة الدستورية في إيجاد مخرج للمسألة السورية. وقد ترافق ذلك بحالة خذلان عام بعد المبادرة العربية وانكفاء المجتمع الدولي عن إيجاد حلّ عادل للمقتلة السورية. كلّ ذلك ترافق مع حالة انهيار اقتصاديّ وقيميّ على المستوى المحليّ والوطنيّ في ظلّ انعدام أبسط مقومات الحياة والنجاة” بحسب رأيه.

ويضيف شادي خلال حديثه لـ “موقع صالون سوريا”: “إن السّياسات الاقتصاديّة الخاطئة التي انتهجها النظام والتي فاقمت من معاناتنا وضيّقت علينا خيارات الحياة، حولت المجتمع السوريّ لطبقتين متمايزتين؛ الأولى، أقلية مستفيدة من فساد النظام وعابرة لكلّ الطوائف والجغرافيّات، تنعم برغد العيش، تستثمر بالفساد والدم، غير مكترثة بصرخات المقهورين. بينما الثانية، طبقة الأكثريّة المسحوقة، كذلك العابرة لكافة الطوائف والجغرافيّات، والتي دفعت الفاتورة الباهظة لفساد البطانة الحاكمة واتجارهم بدمائنا تحت ذريعة الحصار والعقوبات الأمميّة!” على حدّ قوله.

هي أسباب برأي شادي صعب “لم تجهض الأمل بالتغيير السلميّ، رغم مرور السنوات”. ويتوافق مع تلك النظرة، مرهف الشاعر، وهو مسؤول عن “مركز إعلام الانتفاضة” حيث يرى أن “هناك حالة قهر واستبداد منذ عقود، مضافاً إليها تهميش سياسيّ وتدمير لمستقبل الشباب وتهجيرهم” حسب ما وصف لـ “موقع صالون سوريا”.

بينما تعتبر أريج عامر (اسم مستعار)، وهي أحد الذين يشاركون اليوم في مظاهرات السويداء، أن دافعها للنزول إلى الشارع كان يقوم على “المطالبة برفع الرواتب في ظلّ رفع الدعم الحكوميّ عن الوقود” والذي “سوف يلعب دوراً كبيراً بارتفاع الأسعار، وعدم قدرة المواطن على شراء أبسط مستلزماته اليوميّة من طعام وأدوية وطبابة وكلفة اتصالات”.

وتؤكد أريج خلال حديثها لـ “موقع صالون سوريا”: “أصبح راتب المواطن السوريّ لا يكفي أجرة مواصلات مع ارتفاع أسعار المازوت والبنزين. إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي، وانقطاع الماء بشكل كبير. أصبحت الحياة معجزة حقيقية بعد اثني عشر عاماً من النزاع، جميع شرائح المجتمع من معارضين وموالين، هي تحت خط الفقر” حسب تعبيرها.

أمّا رانيا ياسر (اسم مستعار)، وهي محامية وناشطة، تقول إنها نزلت إلى الشارع من أجل “إسقاط النظام” والمساهمة “كمحامية في ترسيخ العدالة وسيادة القانون وبناء الدولة الديموقراطية المتعددة”.

وتضيف خلال حديثها مع “موقع صالون سوريا”: “إننا ننادي دائماً بوطن حرّ، كريم، ومعافى لجميع السّوريين على اختلاف مشاربهم. لقد كانت انتفاضة السويداء وكنّا في الساحات نحلم بدولة ينال فيها السّوريون حقوقهم التي لن تتحقق إلا برحيل هذا النظام”.

طبيعة القوى

يروي شادي صعب بالتفاصيل كيف عادت المظاهرات إلى الشارع ومن كان خلفها، يقول: “اندلعت الانتفاضة في السويداء صباح الخميس 18 آب/أغسطس 2023، بشكل عفويّ، وذلك ردّاً على القرارات الجائرة التي اتخذتها الحكومة ليلاً برفع الدعم وزيادة أسعار المحروقات بنسبة 250% بشكل غير منطقي. وجاءت ردّة فعل المجتمع المحليّ في السويداء بقطع طريق دمشق السويداء في عدة قرى وبلدات، وتجمع المواطنون/ات بشكل عفويّ قبيل الظهر في ساحة الكرامة، للتعبير عن حالة الرفض ونفاذ الصبر لديهم، ووجهوا دعوة عامّة لكافة القوى الوطنيّة والاجتماعيّة للمشاركة في الإضراب العام صباح يوم الأحد 20 آب/أغسطس 2023، وسط ساحة الكرامة، موجهين دعوة للتجار في مدينة السويداء لإغلاق المتاجر ومشاركة أبناء مجتمعهم همّهم وحراكهم”.

ويضيف شادي في حديثه لـ “موقع صالون سوريا”: لاقت دعوة الإضراب يوم الأحد قبولاً واسعاً لدى تجّار مدينة السويداء. أغلقت المحال التجارية بشكل كامل، كما شاركت مختلف الشرائح الاجتماعية في الوقفة الاحتجاجيّة وسط المدينة في صورة فريدة من نوعها”.

وفي إشارته لطبيعة القوى السياسية المشاركة، يقول شادي: “تعتبر القوى السياسيّة والديموقراطيّة للانتفاضة هي الحوامل الأساسية للحراك في السويداء، مثل “الهيئة الاجتماعيّة للعمل والوطنيّ” و “تجمّع القوى الوطنيّة” وغيرها من الكتل السياسية المعارضة. كذلك “تجمّع أحرار جبل العرب” بقيادة الشيخ “سليمان عبد الباقي”، و”قوات شيخ الكرامة” بقيادة ليث البلعوس، وعدد من منظمات المجتمع المدنيّ وتجمع المحامين الأحرار.

ويؤكد شادي أن الثقل الأكبر في الحراك كان بيان الرئيس الروحيّ لطائفة المسلمين الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري. حيث وصف موقفه بأنّه “غيّر كافة الموازين، حيث انهالت البيانات المؤيدة لمطالب المحتجين، ولعلّ أبرز تلك المواقف كان موقف حركة “رجال الكرامة” التي أكّدت دعهما ومشاركتها في الحراك وأعلنت جاهزيتها لحماية المنتفضين في الساحة”.

ولا تشك رانيا ياسر، أثناء حديثها لـ “موقع صالون سوريا” بأهمية مشاركة رجال الدين والمرجعية الدينية لها، لما لها من “احترام أمام الأهالي” لقد كانت أصوات المحتجين واضحة، ليست بحاجة إلى بيان، وإن استمرار وجود المشايخ بين الحشود “يكسب الحراك قوة، ودعم الرأي العام والذي ينعكس بشكل إيجابيّ على مستقبل الانتفاضة في السويداء، خصوصاً، وفي الثورة السورية، عموماً” على حد تعبيرها.

وكما تؤكد أريج عمار على تنوّع المشاركين في مظاهرات السويداء، وحسب ما قالته لـ “موقع صالون سوريا”: “كانت المشاركة جنباً إلى جنب بين عشائر الجبل ورجال الدين، وكذلك ثمّة مدنيون ونخب ثقافية إلى جانب فقراء الوطن. وظهرت أيضاً مشاركة ملفتة لحرائر السويداء، كانت ساحة الكرامة مليئة بكل الأطياف والأعمار، كباراً وصغاراً ونساءً وأطفالاً ويافعين”.

وتعتبر أريج أن مشاركة رجال الدين باحتجاجات السويداء هي جزء من قوّة الحراك “بعيداً عن الطائفية” لأن “لسان حالهم هو حال كلّ السّوريين، لسان الإنسانيّة، فكلّنا بشر. الدين لله والوطن للجميع، وهنا أذكر كيف ملأت السماء جملة واحد (واحد واحد الشعب السوري واحد)” على حد قولها.

ويرى مرهف الشاعر أن الانتفاضة الآن “شعبية جامعة” وفيها “قوى ناشئة كحركة الشبيبة الثورية” و “المحامين الأحرار” و “المهندسين الأحرار”.

ومع وجود طيف ديني في هذا الحراك، لا يخشى شادي صعب أن يكون هناك “تأثير سياسي” حسب ما قال لـ “موقع صالون سوريا”. إذ يؤكد أن “رجال الدين الداعمين للحراك هم يعبرون عن مطالبهم كمواطنين لهم حقوق ولا يتواجدون بصفتهم أصحاب مشروع دينيّ، ومشاركتهم المختلفة لها ثقلها وتأثيرها في تغيير المزاج العام للمجتمع المحليّ”.

وحول الانتقادات التي وجهت للحراك حول استخدام الرايات الدينية الخاصة بالطائفة الدرزية والمتمثلة براية التوحيد، فمن وجهة نظر شادي “أن ذلك لا يحمل أي بعد طائفي، هي هوية محلية تمثل أبناء المحافظة، لأنه من حق المجتمعات المحلية أن تعبر عن هويتها الخاصة وأن تنضوي تحتها في ظل العجز الحالي عن إنتاج مشروع وطني وهوية وطنية جامعة لكلّ السّوريين”.

ومن جهة أخرى، يرى مرهف الشاعر أن التأثير الديني في الحراك غير موجود “بمعناه المتطرف أو الإقصائيّ أو حتى الدينيّ التبشيري”.

وأكد مرهف لـ “موقع صالون سوريا” أن “رجال الدين يمارسون دوراً اجتماعياً مرتكزاً على مجموعة أعراف وعادات وتقاليد تدعم مطالب الناس، ولها تأثير إلى حد ما في ذهنية الناس، وبالأخص تلك اللحظات التي تتطلّب وقفات إنسانية” بحسب تعبيره.  

ومن هنا، يعتقد مرهف أن “رجال الدين المسلمين الدروز كان لهم دور في دعم الحراك المدني وجعلهم يتنفسون الصعداء، وذلك بعد أن كانت السلطة الحاكمة في سوريا تؤثر على تيار منهم وتحتكرهم تحت عباءتها”.

العُنف المنتظر

لا تخفي أريج عمار قلقها مع تجارب العنف التي شهدتها سوريا ضد المتظاهرين “خصوصاً إشاعات دخول تنظيم (داعش) الإسعافية للنظام، أو عمليات الاغتيال والتفجيرات المترافقة مع أي حراك داخل السويداء، لكن هذا لا يلغي إصرار المحتجين على النزول إلى الشارع في وقت ليس فيه ما يخسرونه سوى كرامتهم والتي هي خط أحمر”.

وتعتبر أريج خلال حديثها لـ “موقع صالون سوريا” أن “خروج بقية المدن السورية إلى المظاهرات هو حافز لاستمرارية الحراك في السويداء”.

فيما يعوّل شادي صعب على ما سمّاه “خصوصية محافظة السويداء” وذلك خلال عقد من النزاع على آلية التعاطي من قبل سلطات الأمر الواقع، وخاصة مع الاحتجاجات وحالات العصيان. ونتيجة “المعادلات الصعبة في الجنوب وضبابية المواقف الدولية والإقليميّة، أعتقد أنه من الصعب استخدام القوة المفرطة من قبل النظام السوريّ في قمع التظاهر وإنهاء حالة الانتفاضة”.

ويؤكد شادي خلال حديثه لـ” موقع صالون سوريا”: “أن استمرارية الحراك وديمومته ليست مقتصرة على حالة عدم استخدام العنف فقط من قبل سلطات الأمر الواقع، دون رؤية استراتيجية واضحة للحراك، وفي ظلّ غياب تكتيكات جديدة ومتنوعة للمقاومة المدنية غير الاحتجاج اليومي في السّاحات، وفي حال عزوف باقي المدن السورية عن المشاركة، سيكون حراك السويداء معزولاً ويختنق داخل جغرافيته” على حدّ وصفه.

وترى أيضاً رانيا ياسر، أن هناك “خصوصية لمدينة السويداء وأن أي تصعيد من قبل النظام السوري سوف يقابله ردّ من قبل الفصائل التي كسبت في هذه الجولة تأييد رجال الدين مع التأكيد على سلمية الحراك منذ البداية”.

ظل ثورة 2011

تشكل “انتفاضة السويداء” حسب ما يسميها من قابلهم “موقع صالون سوريا”، امتداداً للثورة السورية التي انطلقت في 15 آذار / مارس عام 2011. والتي بدأت بمطالب إصلاحية شاملة ما لبث أن اتجهت إلى رفع سقف المطالب من الخدمية إلى السياسية.  

وهذا ما أكدّه شادي صعب، الذي أشار أنه في البداية كانت “المظاهرات عبارة عن احتجاج على قرارات الحكومة الأخيرة، ثمّ أصبحت تطالب باستعادة المال العام المنهوب ومحاسبة الفاسدين، لتنتقل في وقت قصير إلى إسقاط النظام والمطالبة برحيله، والمطالبة بجلاء كافة الاحتلالات عن الجغرافيا السورية” حسب تعبيره.

فيما كانت بعض المطالب “نوعية” كتطبيق القرار الأممي 2254، والمطالبة “بالانتقال السلمي الديمقراطي للسلطة، وإطلاق سراح المعتقلين”. وتطورت الشعارات لإسقاط “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، المهيمن عليه من قبل جماعة الإخوان المسلمين وتركيا، والذين سرقوا حلم السوريين سابقاً” على حد قول شادي.

وإضافة إلى ذلك، قال مرهف الشاعر إن أحد المطالب كانت تتجه نحو “تطبيق لامركزية إدارية في محافظة السويداء، وفتح معبر باتجاه الأردن”.

كما أجمع كلّ ما تحدثوا لـ “موقع صالون سوريا” أن مظاهرات السويداء تجسيد جديد لثورة آذار/مارس 2011 من خلال طبيعة الشعارات والمطالب التي برزت في دوامة الاحتجاجات “كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة” حسب ما يقول شادي صعب. ومن خلال “نضوج الوعي السياسيّ” حسب ما تصف رانيا ياسر، وكذلك وجود بصمة جديدة من “رسائل التطمينات الجامعة مع رفع أعلام الثورة وعلم السلطة وراية التوحيد لنقول إننا نريد كلّ السوريين ضد هذه السلطة” حسب قول مرهف الشاعر.

لقد كانت الاثنا عشر عاماً الماضية “فرصة للنظام للإصلاح والتغيير ولإجاد الحلّ السياسيّ، ومحاربة الفساد ورفع مستوى المعيشة لكن ما حدث هو العكس تماماً، ونفذ صبر السّوريين وصار صوت الشارع هول الحلّ” حسب تعبير أريج عمار.  

وأخيراً يختم شادي صعب: “إن جلّ المشاركين في المظاهرات، هم من جيل الشباب الذين كبروا خلال عقد من النزاع “يصدحون بنفس الأهازيج والشعارات ويحييون باقي المدن السورية ويؤكدون على وحدة الدّم السوريّ في ظاهرة تؤكد أن النهايات المكتوبة بالدم وبسلب حقوق الشعوب هي بدايات مزهرة لجيلٍ جديد يرفض ما كتب وقرر أن يعيد البدايات كما يشتهي”.

يمكن مشاهدة عدة فيديوهات تغطي مظاهرات السويداء على قناة صالون سوريا على اليوتيوب هنا.

سوريا: موجات حر شديدة في ظل انقطاع الكهرباء

سوريا: موجات حر شديدة في ظل انقطاع الكهرباء

تزامنت موجات الحرارة المتتالية مع انقطاع التيار الكهربائي في عدة محافظات سورية أكثر من 20 ساعة يومياً، ما يحرم المواطنين/المواطنات من تشغيل وسائل التبريد أو التكييف إن توفرت، وما يزيد الطين بلة انقطاع الكهرباء بشكل كامل وعام نتيجة لتعطل إحدى محطات التوليد، مثلما حدث ذلك مرتين في شهر تموز الماضي.

وتتعرض البلاد لموجات حرارة قاسية، إذ سجلت (المديرية العامة للأرصاد الجوية) درجات حرارة مختلفة تجاوزت 40 درجة مئوية في عدة مناطق، ووصلت إلى أكثر من 45 درجة في بعض المحافظات خلال الأسابيع القليلة الماضية، بيد أن الحرارة الملموسة بلغت درجات أعلى بكثير.

ولمواجهة لهيب الصيف، تلجأ بعض الأسر إلى مصادر طاقة بديلة عن الكهرباء الحكومية لتشغيل المراوح؛ مثل “الأمبيرات” بمقابل أجر أسبوعي أو شهري ما يشكل عبئاً مادياً إضافياً، في حين يعتمد آخرون على البطاريات ذات السعات الكبيرة، لكن الفئات الأكثر هشاشة وفقراً قد لا تملك مثل هذه الخيارات عموماً.

ومن ناحية أخرى، يفضل مواطنون الذهاب إلى المسابح هرباً من القيظ، بينما تقصد عائلات سورية الحدائق العامة والمساحات الخضراء بدمشق مساء، ويلجأ أفراد للنوم على الأسطح أو شرفات منازلهم.

ومع فشل الثلاجات المنزلية في أداء وظائفها لانقطاع الكهرباء بشكل متواصل، يزداد الطلب على شراء قوالب المياه المجمدة من الدكاكين أو الباعة الجوالين بهدف تبريد ماء الشرب على الأقل، حيث وصل سعر القالب الواحد إلى 16 ألف ل.س في ريف دمشق.

الصحة

تعاني هناء (72 عاماً- ريف دمشق) من موجات الحرارة وانقطاع التيار الكهربائي مثل غيرها من كبار السن، تقول هناء: “استحم بالماء البارد لتخفيف درجة حرارة الجسم، إنه الخيار الأفضل، لا يتوفر لدينا وسائل تبريد باستثناء مروحة صغيرة تعمل على الطاقة البديلة”.

وسجلت عدد من المراكز الصحية في ريف دمشق ودرعا مراجعات بسبب “ضربات الشمس”، وعلى الرغم من برامج التقنين الكهربائي إلا أن أغلب المراكز الصحية والمستشفيات تملك مصادر طاقة بديلة.

وفي زيارة لعدد من العيادات الطبية الخاصة في قلب العاصمة دمشق، يلاحظ أن المرضى يعانون من درجات الحرارة المرتفعة أثناء الانتظار ما إن يغيب التيار الكهربائي، وبشكل خاص في العيادات التي لا تحتوي على منافذ تهوية كافية أو لا تملك طاقة بديلة لتشغيل وسائل التبريد.

وذكرت مصادر طبية وإدارية في دمشق لـ “صالون سوريا” أن منظمات غير حكومية بدأت بتوفير مصادر طاقة بديلة لبعض المراكز الصحية في دمشق وغيرها بهدف استمرار تقديم الخدمات الطبية للمرضى، بينما يقول مواطنون في ريف درعا إن المشكلة لا تكمن بمصادر الطاقة دوماً، وإنما بخروج بعض المراكز عن الخدمة وقلة الكوادر الطبية والأدوية في القرى والبلدات النائية.

ضربة الحرارة!

وعن أضرار موجات الحر الشديد، يوضح الطبيب محمد الشعابين (داخلية- قلبية) في حديث مع “صالون سوريا” أن الحرارة المرتفعة تسبب ضغطاً استقلابياً وما يعرف بالإجهاد الحراري أو ضربة الحرارة، والسبب بذل الجسم جهداً لتخفيض حرارته.

وبحسب الطبيب المختص فإن أعراض ضربة الحرارة هي التعب الشديد، والتعرق المفرط، والدوار، وفقدان الشهية، والصداع، وتؤدي الضربة إلى اضطرابات النطق واختلاجات وتقيؤ وتشنجات عضلية، وقد تؤدي إلى الوفاة في حال لم تعالج بالسوائل الوريدية بشكل سريع.

ويحدد الشعابين الفئات الأكثر تأثراً بموجات الحر، وهم الأطفال والنساء الحوامل والعمال الذين يعملون تحت أشعة الشمس؛ فضلاً عن الرياضيين وكبار السن.

ويقول الطبيب: “يصاب مرضى السكري بالتجفاف ما يؤدي إلى حماضات سكرية ربما تفضي إلى الوفاة، كما أن التجفاف عامل مؤثر على مرضى القلب والكلى أيضاً، بينما يعاني مرضى (الربو) من صعوبة التنفس عموماً، وتسرع ضربات القلب”.

ويخلص أطباء سوريون مختصون في حديث مع “صالون سوريا” إلى أن عدم توفر وسائل تبريد كافية يؤثر على حفظ الأدوية، وقد يحتاج قسم منها للإتلاف سواء في الصيدليات أو في المنازل، وتتعرض الأغذية للتلوث ما يزيد من حالات الإسهال صيفاً، كذلك تسبب درجات الحرارة المرتفعة القلق والأرق ليلاً.

ويدعو الطبيب محمد الشعابين إلى تجنب التعرض لأشعة الشمس بشكل مباشر لمن يستطيعون ذلك، إلى جانب الإكثار من السوائل والأملاح لتعويض شوارد الصوديوم التي تُستنزف عن طريق التعرق كيلا تسبب اضطرابات قلبية أو عصبية، إلى جانب تغطية النوافذ، لكن فعالية هذه الإجراءات تبدو منخفضة في ظل غياب وسائل تبريد جيدة.

من جهتها، تنصح وزارة الصحة السورية عبر صفحة مكتبها الإعلامي على “فيسبوك” بعدم التعرض المباشر لأشعة الشمس خصوصاً بين الساعة 10 صباحاً و4 عصراً، وتجنب المشروبات التي تحتوي الكافيين أو السكر لأنها تؤدي إلى فقدان السوائل من الجسم؛ علاوة على ارتداء ملابس قطنية خفيفة وفضفاضة، وفتح النوافذ لاسيما ليلاً عندما تنخفض درجة الحرارة، والاستحمام بالماء البارد.

تموز: الأكثر سخونة

وسبق أن حذّرت منظمات مختصة من ظاهرة الاحتباس الحراري. في السياق ذاته، وصلت مستويات الغلاف الجوي لغازات الدفيئة الرئيسية الثلاثة -وهي ثاني أكسيد الكربون، والميثان وأكسيد النيتروز إلى مستويات قياسية في عام 2021، وفقا لتقرير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO).

وكانت (المنظمة العالمية للأرصاد الجوية) بالاشتراك مع خدمة “كوبرنيكوس” لمراقبة تغير المناخ الممولة من الاتحاد الأوروبي أصدرت تقريراً عن درجات الحرارة المسجلة في شهر تموز. وأظهرت بيانات سجلتها خدمة “كوبرنيكوس” أن تموز في طريقه ليكون الأكثر سخونة على الإطلاق، طبقاً لما نقل موقع (أخبار الأمم المتحدة) الإلكتروني.

الأمومة واقع جديد واحتفالات مشتتة

الأمومة واقع جديد واحتفالات مشتتة

 تغيرت الصورة، يبدو المشهد العام مشوشاً، والأمهات يقفن على أعتاب القهر بصمت شديد، باتت الأمومة مخلباً يجرح القلوب ويوقظ ذاكرة القلب الموجوع بالغياب، فينساب التعب ملوثاً بشوق عصي على الاستجابة.

طالما كان عيد الأم مناسبة لهدية مميزة، ضخمة وغالية الثمن، ولطالما سعى الأبناء والبنات وبمشاركة الزوج أحياناً لشراء هدية جماعية وإن سعى البعض لشراء الذهب حسب مقدرتهم. لكن الغالبية توافقت فيما يشبه العرف على شراء هدية منزلية مثل طقم من القدور أو غسالة أو مجموعة كبيرة من الصحون وأدوات المطبخ.

تلعب الصورة النمطية لأدوار النساء الاجتماعية دوراً بالغاً في تضمين عيد الأم لمعنى وشكل الهدية، هي هدية تبعية متضمنة حكماً للقالب الاجتماعي التوصيفي لمهام النساء، كالطبخ والتموين وإعداد الولائم في المناسبات العائلية والغسيل وسواه من أدوار الرعاية المنزلية. المؤسف أن الهدايا رحلت مع البيوت وبقي الدور الوظيفي للنساء كما هو بفارق بسيط لكنه مؤلم وهو تشتت شمل العائلة. رحلت البيوت بهداياها وما ابتلعته الحرب أكمل عليه الزلزال، وما تبقى من البشر بعد قضم الحجر ابتلعته الهجرات.

تحتفل الأمهات اليوم بأعيادهن على شاشات الهواتف الجوالة، يستقبلن أحفادهن الذين ولدوا بعيداً جداً وخارج أسوار البلد العصي على استقبالهم على شاشات الهواتف الجوالة أيضاً. أعراس الأبناء والبنات، نجاحاتهم واحتفالات تخرجهم، رحلاتهم، مواعديهم العاطفية، وحتى لقاءات الأخوة والأخوات ببعضهم في بلدانهم الجديدة المختلفة تتابعها الأمهات عبر الشاشات الموصوفة بالذكاء والغارقة في الهجران والقسوة والاغتراب.

يتعامل الأبناء مع المستجدات اليومية بعين حذرة، يعرفون كل ما يحدث في بلدهم، أخطاء طبية بالجملة، فقدان الدواء، عجز الأمهات الجلي والواضح عن تأمين احتياجاتهن اليومية بسبب الغلاء أولاً وبسبب تردي أنواع الخدمات المقدمة وغياب أهمها كالكهرباء والماء والمواصلات.

قررت سمر أنها ستهدي أمها في يوم عيدها دعوة إلى الغداء تجتمع فيه مع شقيقاتها. يعتقد الأبناء والبنات أن تلك الدعوة هي هدية مميزة وغير تقليدية وتسعد الأمهات، لكن الأمهات لا يفكرن بالدعوات ولا يرغبن بها، يردن لقاء حقيقياً، احتضاناً شغوفاً واقعياً يمتزج فيه الجسد بالجسد وتحدق العيون بالعيون وتسمع الآذان صوت الأنفاس وصدى العواطف، باتت جملة: (المهم أنتم بخير) كذبة كبيرة ملت الأمهات من ترديدها وملّ الأبناء والبنات من سماعها.

بالأمس حصلت مرام على قسيمة تموينية بقيمة مائتي ألف ليرة كهدية مسبقة لعيد الأم من شقيقها المقيم في ألمانيا، لم تفرح بها لأنها لا تغني عن جوع تعانيه مرام مع طفلها الوحيد، تسكن في منطقة بعيدة جداً عن مركز المدينة، والمواصلات متقطعة، ما اضطرها لمغادرة بيتها في الثامنة صباحاً لتتمكن من الوصول والعودة قبل العتمة وقبل توقف المواصلات بسبب البعد وشح المازوت، اصطحبت معها طفلها، وفي مركز استلام مواد القسيمة، أعلنت لطفلها أنه حر في اختيار كل ما يشتهيه، تركت له حرية اختيار المواد التي تغطيها القسيمة، وكأنها تمنحه تعويضاً عن قسوة الحياة والحرمان الذي يعيشه. حدثٌ سيقول الجميع بأنه خاطئ ومفرط في عاطفيته وسذاجته، لكنه محاولة بائسة لإسعاد طفل محروم من الأب ومن السند العائلي ومن الأساسيات الضرورية للعيش ولتنشئة طفل ضئيل الحجم وبلا مدرسة أو رعاية وفاقد للاحتياجات الأساسية.

ثمة عنف جديد يحاصر الأمهات، في مراكز الإيواء التي ضمت الأمهات وأطفالهن الهاربين من الزلزال بعد فقدان المنازل أو تصدعها، تحولت الأمهات إلى مشاجب تحمل أخطاء أبنائها في بيئة محصورة وضيقة وخانقة. تم تأطير النساء هنا وخاصة الأمهات بأطر تقييمية قاسية يفرضها الأقوى والمتحكم بالمكان. ارتبطت كل الأخطاء بالأمهات حكماً، من بكى ابنها فهو طفل لم تضبط أمه مشاعره ولم تقوّم سلوكه كما ينبغي كي تحوز على رضى المجتمع، ومن بكت من الأمهات وصفت بأنها امرأة عاطفية وضعيفة وهشة وغير جديرة بأن تكون أماً مسؤولة عن حماية وتربية أبنائها وبناتها. ومن سرق طفلها قطعة من البسكويت أو تفاحة أو ضرب طفلاً آخر وصفت الأم بأنها هي من علمته أو دفعته للسرقة أو للاعتداء على طفل آخر.

ثمة واقع جديد تفرضه تفاصيل العيش غير الآدمية التي يعيشها الأبناء والأمهات معاً. في الحافلة الصغيرة تجلس أم وابنتها التي ولدت طفلاً مريضاً ويخضع الآن للعلاج في المنفسة، بدلاً من تهدئة الابنة تعبر الوالدة عن فرحتها بأنهم وجدوا جمعية تتبنى علاج الطفل لعجزهم عن علاجه. تقول الأم لابنتها: “الحفاضات من نوع ليبرو، وهي الحفاضات الأغلى ثمناً بين أنواع الحفاضات لجودتها.” في بلد تلجأ فيه الأمهات إلى استعمال الحفاضات التي تباع فرطاً وبالقطعة ومن النخب الثالث وربما الخامس وهي غير معقمة أصلاً والمطاط المحيط بها قاس ويسبب الحساسية لبشرة الأطفال الرقيقة.

تُعبر البنت عن قلقها بدموع محبوسة، لكن الأم تمنعها من البكاء بذريعة أن ذلك يوازي التشكيك بعدم نجاة الطفل، هكذا إذن تحرم الأمهات حتى من التعبير عن القلق على أطفالهن بغطاء من قيم تقليدية تشكك بالدعاء أو بالإرادة الغيبية المهيمنة.

والأمهات الوحيدات كيف يحتفين بيومهن؟ باتت كل الاحتفالات مكروهة، مناسبة لتذكر ماض لم يكن وردياً لكنه أفضل من أحوالهن اليوم. واقع بلا أي ضمان ولا أمل أو ثقة بأنهن سيبقين محميات أو سالمات أو أنهن سيمتن بحضور الأبناء والبنات والأحبة. تعبر أمل صراحة عن سعادتها الغامرة بسفر أولادها، تغص بدموع الشوق، لكنها تتابع قائلة: “أنا عاجزة حتى عن إعداد قالب كاتو منزلي، لا غاز ولا كهرباء ولا قدرة  مادية على شراء مكوناته، سأحتفل بنفسي وحيدة كي أضمن بقائي متمكنة من شراء حاجاتي الأساسية.” وتضيف: “العيد مجرد ذكرى ومشاعر داخلية عليها ألا تهدر مقتنياتي الشحيحة.”

 تغدو الأمومة بحد ذاتها إطاراً قاسياً ومجهداً للنساء، يُفرض على البعض ولادات جديدة رغم أن لهن عدداً كافياً من الأبناء أو البنات، وتحرم أخريات منه لأنهن زوجات لرجال متزوجين، تزوجن وقبلن زواجاً عرفياً أو سرياً طلباً للمأوى أو للدخل وربما فقط للحماية من استبداد أفراد العائلة والأقارب أو من المتحرشين والمستغلين والمتحكمين بالموارد وحتى بلقمة الطعام.

يتحول الأبناء فجأة إلى حوامل للضغط على الأمهات والنساء، تضطر النساء وخاصة الأمهات لاستنزاف طاقتهن وعواطفهن وقدراتهن الجسدية والنفسية لحماية الأبناء والبنات. تصير الأمومة مصدراً للقهر والخوف والتعب، تغدو الأمومة كما الحياة عملاً شاقاً في إطار عام غير إنساني وعنيف ينحدر بسرعة نحو الدرك الأسفل، درك مضيع للحقوق وهادر لمقومات العيش اللائق بالأمهات وبالأبناء وبالجميع. تتحول الاحتفالات مهما تغيرت لتلبية الاحتياجات الكبيرة والمتجددة، إلى مناسبات للبكاء وتأكيد الفقدان وتثبيت العجز، عجز شامل ومتمكن وهادر للقوة ولأمل.

في مواجهة الزلزال: كارثة سوريا الكبرى وجهود تطوعية جبارة 

في مواجهة الزلزال: كارثة سوريا الكبرى وجهود تطوعية جبارة 

لا يدري المرء ماذا يكتب عما حلّ بسوريا فجر السادس من شباط الجاري وتالياً، بدا الأمر كمزحة سمجة في ثوانيه الأربعين الأولى، فجأة اهتزت مدن بأكملها، أبنية، منازل، حجارة، أشجار، والكثير من الأرواح.

أرواحٌ كانت حتى الأمس القريب تتحمل شظف العيش وتكابده قهراً لتذلّه قبل أن يذلّها بلقمة عيش صار الحصول عليها صعباً، مريراً، أليماً، كليماً. فصار السائر من منزله إلى الخارج بغية الحصول على مالٍ يعينه ليسد رمق أسرته كمن يسير في حقل من الأشواك البرية، حتى حقّ في السوريين جمعاً هذه المرة، ما قاله الشاعر السوداني إدريس الجماع يوماً: “إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه، ثم قالوا لحفاةٍ يومَ ريح اجمعوه.”

 وما أكثر أيام الريح على الخارطة السورية، ما أكثرها وما أعنفها وما أعتاها، ولكن من كان يتوقع أن تتآمر الطبيعة عليهم أخيراً، بعد اثني عشر عاماً من القصف والدماء والدمار، من كان يتوقع أنّ الأسوأ لم يأت بعد؟.

جاء الأسوأ حقاً حين توقفت عقارب ساعة حياة آلاف الضحايا عند الرابعة وسبع عشرة دقيقة فجر السادس من شباط، من إدلب المكلومة، إلى حلب الحزينة، فاللاذقية الجريحة، وابنتها جبلة الثكلى، إلى طرطوس وحماه.

لأول مرّة في الحرب السورية يجد السوريّ حدثاً أكبر من تحزباته السياسية جعل الجميع في الموت سواسية، وأي ميتة؟، تلك الميتة التي يسمع قبلها استغاثات ضحاياها من تحت الركام.

جاءت المأساة لتقول إنّ الإنسانية حين تنبري لتدافع عن جراحها تكون أقوى من ألف منطق أوجدته الحرب وعززته وكرسته، أصوات تعالت من إدلب تسأل عن حال ضحايا الداخل السوري، وأصوات أخرى من الداخل السوري كسرت حاجز الفراق وسألت عن إخوانهم في إدلب.

بيد أنّ التضامن كان ناقصاً، فأرقام الوزارات المعنية في سوريا أشارت لعدد ضحايا الداخل فقط، وأرقام المعنيين في إدلب أشارت لضحايا الشمال السوري فقط، فبئس أيام صارت فيها سوريا داخلاً وخارجاً، قاتلاً ومقتولاً، كارهاً ومكروهاً.

الناس لبعضها

ليس من السهل الحديث عما جرى، هي أيام عصيبة على السوريين، أيام قاهرة مسكونة بآلام كبيرة، 300 ألف شخص خرجوا من منازلهم في حلب واللاذقية وجبلة وحماه، 300 ألف شخص فتحت لهم الشوارع صدرها رحباً تحت سماء معاندة شاءت أن ترسل غيومها أمطاراً وثلوجاً لتزيد معاناتهم.

ولكن السوريين رفضوا مبيت إخوانهم في العراء، فهبّوا على قلب رجل واحد يتداعون لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض، لإطعام المنكوبين، لتدفئتهم، لإيوائهم، من درعا إلى الحسكة، مروراً بكل محافظات البلاد.

ليس على سبيل المبالغة القول إنّ عشرات الحملات الأهلية تم تنظيمها بجهود ومبادرات فردية وجماعية من المجتمع المدني الذي أثبت نفسه كفاعل حقيقي قادر على القيام بمهامه وإن كانت تطوعية.

حملات من كل المدن جمعت ما تيسر من أدوية وطعام وأغطية وخيم وخلافه وتوجهت بها إلى المناطق المنكوبة، وفرق أخرى قوامها ممرضون وأطباء وصحيون، وفرق ساهمت ولا زالت برفع الأنقاض، كل ذلك إلى جانب عمل الهلال الأحمر السوري وبقية المنظمات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والتي يدعمها جميعها استنفار واسع للقوات العسكرية.

إلى جانب كل ذلك استمر سيل الدعم الذي وصل ويصل تباعاً من دول عربية وغير عربية للمرة الأولى منذ بدء الحرب في سوريا، في خطوات وصفها ناشطون بـ”كسر الحصار”، ليتزامن هذا الـ “كسر” مع وسم تداوله الناشطون بكثرة يدعو لرفع العقوبات الغربية عن سوريا لتسهيل وصول المواد الأولية اللازمة للإغاثة. وعلى حد وصفهم تركيا حصلت على أضعاف ما حصلت عليه سوريا من مساعدات، رغم أنّ سوريا بطبيعة الحال تعيش حالة نكبة مستمرة منذ أكثر من عقد، حالة أدت لتخلخل ودمار البنية التحتية.

وكان قد نشر هيثم مناع الناشط والحقوقي، الرئيس السابق لهيئة التنسيق المعارضة في الخارج، بياناً من جمعيات ومنظمات مدنية وحقوقية عددها 47 طالبت جميعها برفع الحصار والعقوبات عن سوريا، وجاء في البيان: “نطالب برفع العقوبات فوراً عن سوريا والسماح بإمدادها بجميع المواد وبالوصول إليها من أجل أن لا تتحول هذه العقوبات إلى جريمة ضد الإنسانية، وتسهيل عبور قوافل المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة عبر المعابر الحدودية مع سورية، إضافة إلى السماح بجمع التبرعات المادية والعينية وإيصالها للمناطق المتضررة.”

أين المساعدات؟

اعتباراً من اليوم الثالث لما بعد الكارثة بدأت ترتفع أصوات كثيرة تسأل عن المساعدات، وهل هي فعلاً وصلت لمستحقيها؟، وإن كانت وصلت فعلام أُسر كثيرة لا زالت في الطرقات بلا مأوى أو بدون غذاء وأغطية.

وفي هذا السياق فقد انتشرت قصة “مختار قرية اسطامو” المنكوبة في ريف اللاذقية، والذي اتهم من قبل عشرات الأشخاص بسطوه على المعونات التي وصلت إلى القرية، مطالبين بمحاسبته على الفور بذريعة استغلال النكبة.

ورد المختار على الاتهامات بالقول: “استلمت من رئيس بلدية قمين ٥٠ حصة غذائية مؤلفة من معلبات اضافة الى ٥٠ بطانية و١٠ وسائد، و٣٠ حصة تفاح مغلفة، و٨ كراتين إندومي، و١٠ كراتين أقراص عجوة، و١٣ شرحة خيار وبندورة”. 

وأضاف “بحسب التعليمات فإن المساعدات مخصصة للمتضررين الذين خرجوا من منازلهم، وذوي الضحايا، لكن ما حدث هو أن الجميع كان يريد المساعدات وهذا أمر خارج عن إرادتي ولا أملك سوى تنفيذ التعليمات”.

تدخل عمرو سالم (وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك) على خط هذه القضية سريعاً مبيناً وجود مختارين في المنطقة، وكلاهما وزع تلك المعونات لأقاربهما فعلاً (غير متضررين)، مؤكداً أنّه تم حل المشكلة وإيصال المساعدات إلى مستحقيها.

قد تبدو قضية المختار ثانوية في حدث كهذا، ولكن فعلاً بدأ القلق يساور السوريين عن مصير المساعدات، خاصة أنّ الكميات التي جمعت داخلياً وخارجياً، تكفي على حد تعبيرهم- لإيواء كل متضرر بشكل تام، وقد يبدو هذا حقيقياً من حجم القوافل الداخلية والطائرات التي وصلت من الخارج.

وفي هذا الإطار يقول الصحفي بلال سليطين: “أنا أثق بـ ٩٩ بالمئة من العاملين على الأرض من جمعيات ومتطوعين في سوريا لمواجهة أضرار الزلزال ومساعدة الناس، ومن ليس له ثقة بهؤلاء هذا حقه لكن إذا كان حقاً يريد المساعدة يمكنه أن يثق بعائلته ويقدم المساعدات عن طريق أهله لكي يسلموها مباشرة للمحتاجين”.

ويشير سليطين لوجود أخطاء إلا أنّ معظمها ناتجة عن سوء التنظيم وقلة الخبرة: “لكن حجم العمل الإنساني والتعاضد واندفاع الجمعيات والمتطوعين بكبرو القلب”.

وتصف المهندسة لمياء أحمد من اللاذقية الوضع بالمأساوي والحزين وغير المقبول، وفي ذات الوقت تتهم معظم الجهات بالتقاعس.

وتشرح: “اسمحوا لي عبركم أن أوصل هذه الرسالة، ليس فقط حول إيصال المساعدات، ولكن عن الذين يلهثون لأخذها، نعم أفهم ظروف الناس الصعبة ولكن هذا ليس وقتاً مناسباً لنقاسم المنكوبين رغيف خبزهم، أقسم أنّه ثمة العشرات يصطفون على الدور ليأخذوا معونة وهم أصلاً غير متضررين أو منكوبين”.

تتابع أحمد حول مشاهداتها مؤكدةً أنّه ثمة أسر لغاية نهاية اليوم الثالث ما بعد الكارثة تنام على الأرض دون مأوى أو اهتمام، منوهةً في الوقت ذاته لضرورة الانتباه من الأفراد أو الجمعيات التي ستستغل هذا الحدث لتسوق لنفسها.

بدوره يرفض المحامي مفيد نصرة من جبلة ما ساقته المهندسة أحمد، معتبراً أنّ مدناً بأكملها منكوبة ولا يمكن استثناء أحد من حالة الجوع القائمة، وخاصةً أنّ الزلزال عززها إذ عطل الحياة والمهن واليوميات بشكل شبه تام، يقول: “المنازل التي لم تسقط على الأقل تصدعت وحال الكثير منها خطر ولجان الهندسة في حالة شبه عدم استجابة”.

ويبين نصرة أنّ لديه أخاً يعمل مياوماً وبسبب هذا الظرف هو لا يملك مالاً لإطعام أطفاله: “هذه نكبة شاملة أصابت كل العوائل رغم نسبية الأمر أحياناً”.

وفي الأثناء تداول سوريون على نطاق واسع قائمة تضم أسماء شيوخ خمسة جوامع معنية باستضافة المنكوبين متهمين إياهم بسرقة المعونات وإساءة معاملة الناس وعدم تأمين شروط تليق باستضافتهم. لم يتسن لكاتب التقرير التحقق من هذه المعلومة، التي انتشرت متزامنة مع عشرات المعلومات والبيانات والتنويهات والمنشورات التي تتهم أشخاصاً بعينهم أو بما يمثلونه من سلطة بالتقصير وسرقة المعونات.

وبحسب المحامي أحمد معروف من حلب فإنّ سرقة المعونات تندرج تحت مسمى سرقة خلال النوائب، فهي سرقة عقوبتها مشددة، حسب المادة 627 من قانون العقوبات. وقد تصل العقوبة حتى 15 سنة حبس. 

وفي هذا الإطار يتضح اتجاهان: الأول هو الدور “الجبّار” وغير المسبوق للمجتمع المدني، والثاني هو بعض ضعاف النفوس الذين استغلوا الكارثة، وعموماً هذا ليس غريباً في بلد أفرز من أمراء الحرب ما أفرزه خلال السنوات العجاف الماضية.

في الأسباب

قلّة الخبرة وضعف التنسيق أفضيا لحالة من الفوضى الشاملة في التعامل مع الحدث، وبافتراض النيّة الحسنة لجميع العاملين، إلّا أنّ هذين العاملين أديا لتشتيت الجهود باتجاهات عدة، جعلت عائلات بأسرها حتى الساعة تنتظر معونةً أو إيواءً.

وعلى الرغم من أن المئات أعلنوا فتح بيوتهم لاستقبال المنكوبين، إلّا أنّ الفوضى عينها هي ما حكمت الأمر، فقلّة أفادت قلّة، على اعتبار أنّ المعونة لم تصل بالضرورة إلى الأكثر حاجةً.

يبقى أنّ سوريا المدمّرة، المهدمة، كبُرت اليوم بأولادها، أولادها الغلابة الذين قدموا كل ما يستطيعون من تبرعات نجدةً لإخوتهم، وقد تكون الحالة الأكثر لفتاً هي تلك التي تبرعت لـ “مشروع أحمد الإنساني،” وهو مشروع طبي ناشط خلال الأزمة السورية وتطوع في عمليات الطبابة إثر الزلزال، فبحسب منشور لهم على صفحتهم الرسمية في فيس بوك، جاء إليهم رجل وتبرع بـ “جاكيت” وحيد يملكه وكان يرتديه.

روسيا و “الاستفراد”بجنوب سوريا

روسيا و “الاستفراد”بجنوب سوريا

تحاول روسيا مؤخراً فرض نفسها ووجودها أكثر في مناطق الجنوب السوري خاصة في درعا والقنيطرة، من خلال استمرار الدوريات العسكرية الروسية وزيارات وفود روسية إلى درعا، ودخولها على خط تقديم الخدمات والمساعدات للقطاعات المدنية في المحافظة.
كما زار المحافظة مؤخراً عدة شخصيات روسية رسمية وغير رسمية منهم نائب رئيس مركز المصالحة الروسية الضابط كوليت فاديم والمنسقة بين وزارتي التربية السورية والروسية سفيتلانا روديفينا، ومسؤولين في جمعيات خيرية روسية، وأكد نائب رئيس مركز المصالحة الروسي خلال زيارته إلى محافظة درعا مؤخراً عبر وسائل إعلام محسوبة على دمشق، أن روسيا مستمرة في دعم سوريا ومحافظة درعا على وجه الخصوص.

نشيد… وعلم
وافتتح الجانب الروسي في درعا يوم الخميس 18 تشرين الثاني (نوفمبر) مركزاً لتعليم اللغة الروسية في مدرسة إسماعيل ابو نبوت في مدينة درعا المحطة، بحضور شخصيات حكومية رسمية سورية من درعا مثل قائد الشرطة ومدير التربية ونائب المحافظ، وحضر الافتتاح الجنرال الروسي كوليت فاديم وسفيتلانا روديفينا المنسقة بين وزارتي التربية السورية والروسية وقوات من الشرطة العسكرية الروسية.
حيث ابتدأ الحفل برفع النشيد السوري ثم الروسي، وتخلل افتتاح المركز فقرات فنية وشعرية باللغة الروسية، وعرض مجموعة من رسومات الطلاب تعبر عن التآخي بين الشعبين السوري والروسي، وقدمت نسخة من القرآن الكريم مترجمة باللغة الروسية، ثم ألقى الضابط الروسي كلمة تعبر عن استمرار الدعم الروسي للمركز الذي سوف يشمل عددا كبيراً من الراغبين في تعلم اللغة الروسية، وسيتم دعم المركز بالتجهيزات الحاسوبية والمراجع الأدبية لتعلم اللغة الروسية. واعتبرت اكسانا غنيم أن تعلم اللغة الروسية مسألة مهمة لتعميق العلاقات الثقافية والتاريخية بين الشعبين مبينة أن المركز سيوفر المكان المناسب لممارسة الهوايات في مجال الشعر والفنون والرسم.
كما قدم الجانب الروسي مؤخراً إلى المستشفى الوطني فى مدينة درعا السورية شحنة مساعدات طبية وغذائية روسية، أرسلتها إدارة شؤون الرئيس الروسي، تضم فرشات وبطانيات وأغطية وبعض اللوازم الطبية وأدوات التعقيم ومولد كهربائي بطاقة ألف كيلوواط، لضمان استمرار عمل المستشفى والمعدات فيه، لا سيما مع الضغط الكبير الذي تشهده المشفى مع تزايد حالات الإصابة بفايروس كورونا في درعا.
كما أرسل الجانب الروسي مولدا كهربائيا للمستشفى الوطني في مدينة إزرع شمال درعا، وحضرت الشرطة الروسية برفقة بعثة من الكنيسة الروسية ورابطة المحاربين القدماء وجمعية الإخوة الروسية إلى مدينة بصرى الشام بريف درعا الشرقي، وقدمت مساعدات إنسانية ومستلزمات مدرسية للمجمع التربوي في المدينة تضمنت قرطاسية وحقائب ومعاطف لعدد من طلاب المدارس، إضافة إلى أنها قدمت أدوية وبعض المستلزمات الطبية لمشفى بصرى الشام، واطلعت على واقع المشفى في المدينة.
من جهته، أكد المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، ضمن فعاليات أعمال المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين والمهاجرين السوريين، أن «روسيا ستواصل تقديم المساعدة للشعب السوري بهدف تحسين الوضع الاقتصادي والإنساني، وهناك الكثير من العمل الدؤوب في هذا المجال مستقبلاً». وذلك بحضور ممثلين عن منظمة الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمنظمات الإنسانية. التي نشطت مؤخراً في درعا وخاصة في مجال الخدمات الإنسانية كترميم المدارس المدمرة خلال السنوات الماضية، وبناء مرافق صحية واقامة مشاريع زراعية كحفر الآبار وغيرها.

انفراد روسي
وفسر ناشطون في درعا ذلك بالرغبة الروسية بالانفراد بادراه المنطقة الجنوبية خاصة درعا بعد طرحها للتسويات الأخيرة، وسحب السلاح الخفيف والمتوسط من المنطقة، واعطاء صلاحيات أمنية جديدة للقوات الحكومية بملاحقة المطلوبين والرافضين للتسوية في المنطقة الجنوبية، وانهاء حالة التشكيلات والمجموعات العسكرية المسجلة لدى الأجهزة الأمنية أو الفرقة الرابعة أو الفيلق الخامس وتوحيد تبعيتها مؤخراً لإدارة المخابرات العسكرية، وتشكيل قوة عسكرية كبيرة وذات تبعية واحدة موالية لها في جنوب سوريا، تبعد أي منافسين لها في المنطقة.
ويرى مراقبون أن روسيا وإيران لا تتنافسان جنوب سوريا، وان “التعاون موجود في سوريا وحتى روسيا استخدمته مؤخراً في مشاركة قوات موالية لإيران في معارك درعا البلد قبل تطبيق التسويات الأخيرة، وهي نفسها من طلبت بانسحابها عند انتهاء مهمتها، فالتعاون بين الدول الحليفة لسوريا قائم ولكن روسيا تعارض إيران عند مصالحها في سوريا، وباعتبارات إقليمية وتعهدات روسية عام ٢٠١٨، بإبعاد ايران عن المنطقة الجنوبية، دفعت روسيا إلى ابراز سيطرة النظام الفعلية وايجاد قوة عسكرية لها في المنطقة وحكمتها مؤخراً بتبعية عسكرية واحدة تناسب النظام وتحت إدارتها وتناسب أبناء المنطقة الجنوبية الذين يفضلون البقاء في المنطقة وعدم المشاركة بأعمال عسكرية خارج المحافظة”.
فعلياً وبشكل علني لا تواجد لتشكيلات أو قوات عسكرية موالية لإيران و “حزب الله” في درعا، وإيران وحزب الله متواجدة في سوريا حتى قبل عام ٢٠١١، والظهور العسكري العلني هو ما أثار المخاوف من هيمنتها على المناطق السورية، وبقي جنوب سوريا المنطقة الأكثر حساسية بنسبة للدول الإقليمية والخليجية باعتباره بوابه سوريا الجنوبية، واستحسنت الدول فرضية سيطرة النظام على الجنوب السوري مقابل عدة تفاهمات أجرتها روسيا مع دول المنطقة قبيل السيطرة عليها عام ٢٠١٨ وكان أولها إبعاد إيران عن المنطقة، فتحاول روسيا اخذ ضمانات أكثر لسوريا أو تطبيع أكثر وإعادة قبول النظام السوري، مقابل استخدام ورقة إبعاد إيران عن المنطقة، وبالتالي إيران ووكلائها في المنطقة طالما اعتبروا سوريا صلة الوصل سابقاً مع العالم العربي، والتفاهمات أو المفاوضات الإيرانية العربية والعالمية الأخيرة تقرب المسافة من رغبات إيران بعدم دخولها بحرب ولو بالوكالة، ولن تعارض أن تكون سوريا نقطة لقاء جديدة بينها وبين الوسط العربي الذي يرغب بإبعاد إيران عن جنوب سوريا.
ولأن روسيا تشكل ثقلاً سياسياً وأمنياً وعسكرياً بالنسبة لسوريا، أن روسيا هي الدولة الوحيدة القادرة على ضبط الأمور السورية وإيقاف تسرب الممنوعات البشرية أو الاصطناعية حيث إن هناك القاعدة وداعش، هذا بالإضافة إلى قوات أجنبية كثيرة، والمخدرات والحشيشة، وقد تثق الجهات الدولية بروسيا أكثر بالحفاظ وضبط الحدود وهذا ما يرجح الكف الروسي جنوب سوريا على القوى الثانية في سوريا.

دمشقيون عراة أمام الألبسة المستعملة

دمشقيون عراة أمام الألبسة المستعملة

مع أول قطرة مطر هطلت في شوارع دمشق، بدأ الناس، كما كل شتاء، يستجمعون ذكرياتهم، عن مرويات صنعوها وعايشوها عن شتاء كان يوماً دافئاً. أيامٌ كانت تكتنز الكثير من النعمة لكل شيء فيها حتى بأبسط الأشياء. وأبسط الأشياء هنا، هو معطف محشو بالفرو الذي كان يقيهم برودة الطقس والأسى، ذلك ان السوري بات اليوم عارياً أمام يومياته المثقلة بالهموم.
لم يعد أحد يهتم بتلك الذكريات، مع الغلاء المبالغ به في أسعار الملابس الشتوية التي ترتفع أكثر فأكثر كل موسم. وكل موسم هنا تعني ما كتب للسوري أن يحياه موسماً بعد موسم ليشهد على الفقر المتنامي ينهش جسده وجسد أقرانه.
“أريد فقط أن أشعر بالدفء منذ ساعات الصباح الأولى للذهاب إلى عملي حتى الانتهاء والعودة إلى المنزل”، هذا ما قالته لنا هبة راجح (موظفة حكومية – 29 عاماً) عندما التقيتها في سوق البالة الشهير وسط دمشق والمعروف بـ “سوق الإطفائية”، وهو سوق البالة الأكبر في سورية، على مقربة من حي الحجاز الدمشقي. تضيف: “جئت إلى هنا لأشتري معطفا يدفئني في الأجواء المطرية والحرارة المنخفضة، لكني فوجئت بالارتفاع الكبير في الأسعار بعدما كانت تناسب الكثير من الزبائن مثلي في هذا السوق”.
تنظر في المعروضات، وتقول: “أنا موظفة في مؤسسة حكومية”، وتسأل: “كيف لي أن أدفع ثمن معطف يساوي راتبي الشهري كاملاً؟ هذا جنون!، وعندما اعترض يواسيني بائعو البالة بالقول هناك أنواع معاطف بجودة أقل وبها عيوب، ربما تلك تكون خياراً لا بأس به”، لكن “الغريب”، في رأيها، أنه حتى ملابس البالة أصبحت لها جودة وتصنيف وميزات وهي أيضا باتت تفرق ما بين الفقير والغني في هذه البلاد.

جولة في السوق
رافق “صالون سوريا” الشابة ميرنا عبد الباقي خلال جولتها في “سوق الإطفائية”. ترى ميرنا المشهد من بعيد: بائع على يمين السوق يصيح على مدخل محله: “الشتوي صار عنا ببلاش”، ويضيف آخر: “شو بدك بالجديد، الي ماله قديم ماله جديد”، تلك صيحات يطلقها البائعون لاستجلاب الزبائن في السوق، والمنافسة الأحد بينهم تتعلق بسعر الملابس الأرخص.
تقترب ميرنا لتسأل عن سعر معطف باللون الأسود الذي يليق على كل ملابسها الشتوية. يجيبها البائع بأنها اختارت أجمل القطع في المحل وأميزها، يضيف: “سعره ثمانون ألف”. وبعد الأخذ والرد ينهيه بخمسة وستين ألفا! (الدولار الاميركي يساوي حوالى ثلاثة الاف ليرة)، ما يدل على ضياع التسعير وكل هنا يعطي للقطعة سعرا على هوائه.
هنا تعلو على وجه ميرنا ابتسامة ساخرة، وتقول: “هذا السعر يعادل راتبي لشهر كامل، كيف لي أن دفع كل ذلك المبلغ؟”.
من مكان إلى آخر تتجول ميرنا بين المحلات للعثور على ضالتها المنشودة. وفي محل آخر لا يكلف البائع نفسه عناء النقاش مع الزبائن لأنه فعل كما كثر في السوق وعلق ورقة السعر على كل قطعة، لعله يرتاح من هم السؤال الذي أصبح على لسان الكثير من الزبائن نظرا لهول ارتفاع الأسعار في سوق البالة، السؤال الأقرب للاستغراب الذي يختصر كل ما في الخاطر من صدمة “أوووف؟”.
لم تطل جولة ميرنا كثيرا بين المحلات بعد أن فقدت الأمل في العثور على معطف مناسب بالجودة والسعر. وبعد عناء البحث عن المعطف الذي لا تجده ميرنا، تعود خالية الوفاض خارجةً من السوق عبر النفق القديم المفضي من وسط السوق إلى منطقة معروفة بمختار القنوات. تقول: “صحيح أنّني لم اشترِ المعطف الذهبي، لكني وضعت إعجابات كثيرة على الأسعار”. وتضيف: “هذه رحلتي إلى هنا وهي ليست الأولى أمضي كل يوم خميس هنا بين الأخذ والرد وفي النهاية أعود خالية اليدين لأنه إذا كان من أمل لو ضئيل أن أشتري شيئا من هنا. فبالتأكيد لا أمل لي أن اشتري شيئا من أسواق دمشق كشارع الحمرا والشعلان”، وعما سوقان شهيران في القسم الحديث من دمشق.

جنون الأسعار
“في الموسم الماضي كان سعر المعطف الشتوي يتراوح ما بين عشرة آلاف إلى عشرين ألف. اليوم أصبح سعره يتراوح ما بين أربعين إلى ثمانين ألف بحسب الجودة والنوعية وفي بعض الأحيان يصل إلى مئة ألف، أما الجينز فكان قبل أشهر يتراوح ما بين ثلاثة ألاف إلى ستة ألاف، وأصبح الأن يباع بأكثر من عشرين ألف، ناهيك عن أسعار ملابس الأطفال التي تباع بمثل أسعار ملابس الكبار، فيما تتجاوز أسعار بعض الأحذية الرياضية المئة ألف”، بحسب سالم حلوم الذي يعمل في مدرساً في احدى المؤسسات الحكومية. وسالم ، على حد وصفه، صار متمرساً ببسطات البالة لكثرة ما يقصدها لشراء ملابسه وملابس أولاده.
“كان سوق البالة الملجأ الوحيد لي ولزوجتي وأطفالي الثلاثة بعد أن هجرنا أسواق الملابس الجديدة منذ زمن، لكن الآن الوضع اختلف، الأسعار صارت جنونية، كيف لنا أن نكتسي كلنا جميعا وفق تلك الأسعار العالية والراتب الزهيد؟، وفوق ذلك مصروف المنزل وفواتير الكهرباء والغاز والماء التي بدأت هي الأخرى بالارتفاع، وإلى متى لا أحد يعلم!.”.

مبررات الجودة والسعر
يقول أحد تجار البالة لـ “صالون سوري”: “الدولار مرتبط بكل شيء حتى بأسعار ملابس البالة التي نشتريها على شكل حزم “صرة ملابس” ندفع ثمنها ابتداء من ألف دولار وصعوداً، بحسب نوعيتها، وتصل إلى سورية عبر التهريب، ما يحملنا مصاريف إضافية عادة ما تكون باهظة، وهو ما يدفعنا لرفع الأسعار، وبالطبع كل حزمة تتفاوت فيها درجة النوعية والجودة، نصنفها بحسب ما نطلق عليه “نظافة القطعة” من ممتازة، إلى جيدة، متوسطة الجودة، متوسط درجة ثانية، درجة ثالثة، سيئة، للبيع بالكيلو، للتنسيق، ولكن اليوم غالبية قطع الحزمة تكون ممزقة أو مثقوبة أو ملوثة وفيها عيوب متنوعة، وهذا ما يجعلنا نستند في ربحنا فقط على البضاعة السليمة”.
الواضح، انه باتت القدرة الشرائية للمواطنين من ذوي الدخل المحدود تكتوي بنار الأسعار، ولا يقتصر ذلك على سعر الملابس المستعملة بل أيضا على معظم الجوانب المعيشية بدءا من الطعام وليس انتهاء بالفواتير المعيشية والخدمية. وبعد أن كان سوق البالة الهدف المناسب لشريحة كبيرة من الناس يبدو أنه اليوم ما عاد يتسع لمعظمهم، ما يطرح السؤال: “ماذا بقي من خيارات للفقراء في هذه البلاد التي يسافر أطباؤها للعمل في الصومال؟”، حسب قول خبير اقتصادي يتابع الوضع المعيشي في دمشق.