بواسطة وداد سلوم | يناير 20, 2025 | Cost of War, News, العربية, بالعربية, تقارير, غير مصنف, مقالات
لا أعرف من روى نكتة أنه لو فُرض علينا حظر تجول لخرجنا نتفرج على حظر التجول! هذا ما حدث في الحي عند بدء الحملة الأمنية على بعض أحياء حمص التي وُصمت بالموالاة للتفتيش عن السلاح وفلول النظام كما قيل، إذ خرج سكان الحي ووقفوا “يتشمسون” أمام أبواب البيوت كي يراقبوا السماء حيث كانت الطائرات المسيرة تصور الحركة في الأحياء، محاولين استطلاع تقدم عمليات التفتيش في الشوارع.
ربما كان هـذا فضولاً أو رهاناً على الآخر الجديد والغريب الملثم بقناع ردع العدوان، من البسطاء الذين استغلهم بشار الأسد والذين تمنوا سراً كل يوم سقوطه.
أربعة عشر عاماً من القمع والقصف والتعذيب في السجون وشيطنة الآخر وتجريمه بالخيانة والطائفية على يد النظام الذي زج بالشباب السوري في الدفاع عنه في حربه الطويلة ضد الثائرين عليه، بينما كان على مدى خمسين عاما يعمق الطائفية بين مكونات الشعب السوري فلم يتوقف منذ الثمانينات عن ضخ الماء العكر في القنوات ليسمم مكونات المجتمع. وبدل أن يمد جسور المواطنة كان يقطعها بتغذية الانتماءات الطائفية والعشائرية والعائلية ليحافظ على وجوده أولاً وعلى خزان القوى البشرية لجيشه وعلى دعم فئات لها وزنها خارج البلاد.
إشارة استفهام حول معايير اختلاف التعامل مع السكان
بدأت الحملة الأمنية دون إنذار مسبق، إذ استيقظنا على صوت رشقات الرصاص من عدة أنواع من السلاح، للوهلة الأولى كنا بحاجة لوقت لاستيعاب الحدث وما يمكن أن يليه فكل الاحتمالات ممكنة، والخوف حالة غريزية عند الإنسان يثيره المجهول وغير المجرَّب حتى الآن. كان الوقت يمر ببطء في انتظار وصول الشباب للتفتيش حتى سمعنا صوت يحث الجميع على الدخول إلى المنازل، ولعلها نكتة حمصية أن نقول: إن الذين انصاعوا قلائل.
عرّف شباب الحملة عن أنفسهم بالشرائط الملونة على الكتف وكان بعضهم يضع شرائط حمراء وبعضهم الآخر صفراء وخضراء فهل اختلف السلوك حسب لون الشريطة أم حسب الحي؟
بعضهم دخل المنازل وهو يعتذر قائلاً إنه لا يمتلك وقتاً لخلع الأحذية وعبر عن أسفه للأمهات لأن سجاد المنزل قد يتسخ، وبعضهم الآخر زاد على تهذيبه بعض التلميحات التي تحمل اللوم والتنديد بصمت سكان هذه الأحياء على قصف النظام لهم والمقارنة بين دخولهم إلى بيوتها ودخول شبيحة النظام الساقط إلى بيوتهم في سنوات سابقة وكيف أن الشبيحة لم يتورعوا عن ارتكاب المذابح والمجازر والتقاط الصور مع الضحايا.
بعضهم قام بكسر الآلات الموسيقية والشاشات ربما لأنه يرى الموسيقا حراماً والتلفاز بدعة! وثمة من لم يكتف بالكلام، بل صب جام غضبه المكبوت على بعض الشبان ضارباً ومعنفاً ومهيناً لهم إذ تناقلت الصفحات فيديوهات لإذلال الشباب بعد جمعهم سواء بالضرب أو الطلب منهم القيام بالنباح أو تقليد صوت الحمار.
وهو ما كان يفعله سجانو النظام مع السجناء بإجبارهم على النباح أو تقليد أصوات الحيوانات، فهل فكر هؤلاء الشبان وهم يقومون بذات الفعل الذي قام به سجانو الأسد في النظام السابق بخطورة فعلهم؟ وهليفكرون بتحويل سوريا إلى سجن كبير؟
عدالة أم انتقام؟
كان الخطر يكمن في طبيعة النظرة التي تم إيصالها للآخر فهو حين يجبره على تقليد صوت حيوان عملياً يقول له إنه يراه بهذا المستوى ويحط من كرامته الإنسانية إلى مستوى أقل في التطور، وهذا يعني أنه لا يريده شريكاً، وعلاقته لن تتعدى هذا المستوى. نتذكر كيف كان ينظر البيض إلى الأفارقة على أنهم بمستوى أقل إذ كان في بداية القرن الماضي يتم عرضهم في أقفاص، وهو ما يشابه ما قامت به السلطة النازية بإذلال الشعوب الأخرى على أساس التمييز العرقي.
يرافق الإذلال حين يكون علنياً ومصوراً إحساس بالخزي والعار وهنا يترك الممارس عليه عرضة لحالات مختلطة تتوقف على كونه فردياً أو جماعياً و تتراوح بين الانتحار والانتقام فإن كانت الجهة التي تمارسه لها شكل سلطة واضح ومحدد يزداد الشعور بعدم القدرة على رد الاعتبار وهو ما يمكن أن نراه في حالة البوعزيزي الذي أشعل الربيع العربي، أما إن كان غير ذلك فقد يؤدي إلى محاولة رد فعل عنفي، إذ يسقط الإنسان المقهور ذات الفعل على غيره في محاولة التعويض النفسي للإحساس بالخزي.
هل من عدالة في شعار من يحرر يقرر؟
سُجلت هذه الانتهاكات كحالات فردية وشعر الناس بالراحة بعد انتهاء الحملة الأمنية لكن ما حدث من حالات فردية زرع الخوف من طبيعة المرحلة القادمة في البلاد خصوصاً بعد الرد على كل انتقاد بشعار من يحرر يقرر وهذا تلميح بالسعي للانفراد بالحكم ورغبة ضمنية بإقصاء الآخر وتغيير جوهر الثورة التي قامت على أساس رفض ديكتاتورية الأسد التي انفردت بالحكم وأقصت سائر فئات الشعب الأخرى، الثورة التي نادت بالحرية هدفاً أول.
إن هذه الأفعال الانفعالية والشعارات لا تبني سوريا القادمة التي تحتاج إلى كل الجهود والترفع على الآلام والماضي مع محاسبة المجرمين والقتلة فالعدالة التي تبني سورية ليست الانتقامية والثأرية بل عدالة قانونية تستهدف كل من حمل إثم الدم السوري.
إن اللجوء إلى الفعل الانتقامي دون رقابة أمنية خطير لأنه يهدد الشراكة التي تقوم عليها الدولة والتي قام الأسد ونظامه بتدميرها، ليس فقط كمؤسسات بل أيضاً كقاعدة شعبية، ولنتذكر الآية الكريمة “لا تزر وازرة وزر أخرى” فبعض الشبان الذين تعرضوا للإذلال من أعمار صغيرة ولم يشاركوا بأي فعل عنفي يستحق الانتقام.
تم اعتقال كثير من الشبان أثناء ذلك، ثم تم الإفراج عن 360 شاباً منهم فقط بينما ما زال الأهالي ينتظرون أولادهم على أحر من الجمر.
في هذه الأثناء تتواصل حوادث الاختطاف وتهدد السلم الأهلي في المدينة بينما يعرف الجميع أن التركة التي ورثها الشعب السوري من النظام الساقط ثقيلة كهذه الأيام، والكل يتمنى أن يتجاوز ذلك بأقل الخسائر، فهل ينجح؟
بواسطة عمر الشيخ | يناير 17, 2025 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, مقالات
“أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير” بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته الإبداعية، وهو واحد من أبرز الكتّاب في سورية والعالم العربي.
يتميز أدب زكريا تامر بأسلوب مكثف ومقاربة لاذعة تضع القارئ في مواجهة مباشرة مع دهشة غير متوقعة تخفيها تفاصيل نصوصه الشهيرة. ويتسم بمزيج متوازن من النقد السياسي والاجتماعي، مع ميل واضح للنقد السياسي باعتباره محوراً أساسياً في العديد من قصصه، كما يتضح في أعماله مثل “ربيع في الرماد”. مع ذلك، لا ينفصل النقد السياسي عن النقد الاجتماعي في أدبه؛ فالسياسة والمجتمع في أعماله متشابكان بشدة.
البدايات الأدبية والانتشار الثقافي
تنبض قصص زكريا تامر بتوتر دائم بين الألم والأمل، مصاغة في حكايات قصيرة مكتظة بالدلالات والرموز، تعالج قضايا جوهرية كالقمع، الفقر، الحرية، والموت. يُطلق على أسلوبه لقب “الضربة القاضية”، حيث تنتهي قصصه فجأة بعبارات قاسية أو مفاجئة تترك القارئ في حالة من التأمل أو الصدمة.
يتسم أسلوب زكريا تامر بالاقتصاد اللغوي والرمزية العميقة، حيث يوجز العالم في عبارات مكثفة تحمل دلالات متعددة. لغته تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها غنية بالإيحاءات، مما يجعل قصصه قابلة للفهم من قبل القارئ العادي، ومؤثرة بعمق لدى القارئ المتمرس.” برع زكريا تامر في خلق عوالم سريالية تعكس قسوة الواقع، حيث وظّف السخرية السوداء لكشف عبثية الحياة تحت وطأة الاستبداد. رموزه المتنوعة-كالحيوانات والأطفال لم تكتفِ بتجسيد القهر، بل عكست توقاً للتمرد. هذا التداخل بين الألم والأمل جعل نصوصه تجسيداً فنياً فريداً. وفي مقال موسعة عن حياة الكاتب أعدها الباحث “عبد المتين” برر كيف أن زكريا تامر “كسر الحواجز في القصة التقليدية السائدة، وفتح آفاقاً جديدة وصوتاً منفرداً في هذا المجال.”
بعد تركه الدراسة عام (1944)، غاص زكريا تامر في ميادين الحياة العملية، حيث شكّلت تجربته كنجار وحداد في دمشق عمقاً إنسانياً انعكس لاحقاً في تصويره لمعاناة الفرد في قصصه. عمل في مصنع للأقفال في حيّ البحصة بدمشق، قضى سنوات هناك يحتك بتلك العوالم القاسية التي أكسبته مرونة وخصوصية في اللغة تحطمت على ضرباتها الفنية تابوهات المجتمع من عادات وتقاليد مغروس في الخوف من الزعيم مهما كان تمثيله المجازي في الحياة، أب، معلم، مدير، رئيس، سلطة، أفكار.. وسواها من التابوهات التي تسعى لقمع الإنسان.
في أواخر الخمسينيات تحديداً عام (1957) من القرن المنصرم، كرّس تامر حياته للقصة القصيرة. بدأ يكتب وينشر في الصحف والدوريات الثقافية، وكان صديقاً مقرّباً من الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط، والذي قدمه لمنابر جعلته على السكة الصحيحة للانتشار، فسحر القرّاء بلغته الخاصة منذ تلك اللحظة.
الأسلوب الفني والرمزية في أدب تامر
وفي العام (1960) بدأ زكريا تامر بنشر قصصه في كتب، كانت أول مجموعة له بعنوان “صهيل الجواد الأبيض”، تتألف المجموعة من (11) قصة تسلط الضوء على حياة الإنسان تحت وطأة التعذيب النفسي، وتُعد من أبرز أعمال زكريا تامر في القصة القصيرة. وبحسب بحث نُشر في مجلة “فكر الثقافية” بعنوان “تجليات صراع الإنسان في صهيل الجواد الأبيض”، حلّل هذا البحث صراع الإنسان تجاه الوجود والعدم، والحقيقة والزيف، كما يكشف عن شعور الإنسان بالعدم والزيف في العصر الحديث ومحاولاته لإنقاذ نفسه من هذا الشعور بحسب قصص تامر تلك. من أجواء المجموعة: “الإنسان الكامل مزيج من القذارة والنبل”، و “أتمنى لو أحطم جبهتي وأمحو بدمها الدموع من الأرض.”
بعد مضى ثلاث سنوات على عمله الأول، أصدر زكريا تامر عمله القصصي “ربيع في الرماد” عام 1963. وجاء في دراسة نقدية بعنوان “ربيع في الرماد لزكريا تامر: تحليل نصي” نشرت في مجلة قلمون، العمل يتميز بتصوير مدينة خيالية تمزج بين الأمل واليأس، حيث يعكس العنوان نفسه جدلية الحياة والموت عبر “الربيع” و”الرماد”. يعتمد زكريا تامر على بناء سردي فريد يرتكز على شخصيات بلا أسماء محددة، مما يعزز الشعور باللايقين والتأويل المفتوح. نقتبس من هذا الكتاب “قالت الأميرة: الدموع في العينين أجمل من الوجه الضاحك. قال المهرّج: الفاجع أن يبكي القلب بعينين جافّتين.”
بقي زكريا تامر لسنوات يتابع الحياة المتقلبة سياسياً في بلده سورية حتى نهاية الستينيات، بعد أن وضع حزب البعث في سورية يده على الحكم أصدر عام (1970) مجموعته القصصية “الرعد” وتضم 18 قصة قصيرة تجسد بعمق تعقيدات النفس البشرية وتتناول صراعاتها اليومية، والتي وصفها الناشر بأنها “همسات تدور في أروقة الحياة تحدث بأنها ستغدو صراخاً يعلو كرعد ينبأ بصيحة المظلومين والمقهورين”، ومما جاء في دراسة نقدية استشهدت بقصص هذه المجموعة وكانت بعنوان “تجليات التراث في قصص زكريا تامر” ونشرتها (جامعة تشرين السورية): زكريا تامر يوظف التراث العربي والإسلامي في قصصه، بهدف إعادة صياغة الواقع والتعبير عن قضايا الحاضر من خلال عدسة الماضي. التراث يظهر في قصصه كأداة للمقارنة بين الأمجاد القديمة والانهيارات المعاصرة، مما يبرز التناقضات الحادة بين الماضي والحاضر. مثلاً يظهر طارق بن زياد في قصة “الذي أحرق السفن”، حيث يتحول حرق السفن إلى إدانة ضمنية للبروقراطية والفساد الحديث. فيما يظهر عمر المختار كرمز للبطولة التي اغتيلت في ظل قمع القوى الاستعمارية وظلم الأنظمة. أما الشخصيات الشعبية مثل الشاطر حسن وجحا، توظف لتعكس واقع المجتمع بتعبير ساخر ومؤثر.
في عام (1973) أصدر تامر مجموعته القصصية “دمشق الحرائق” التي كانت امتداداً لخط محاكاته النقدية في التعبير عن الألم الإنساني مسلطاً الضوء على قضايا الظلم الاجتماعي، وقهر المرأة، والفقر، والجوع، والقمع السياسي، عبر سرد خيالي ممزوج بالواقعية من خلال 30 قصة قصيرة، يستعرض الكاتب معاناة الأفراد في ظل التقاليد الصارمة والسلطة القمعية، موضحًا تأثير الخرافات والموروثات الثقافية على المجتمع، مما جاء في تلك القصص “في دمشق، كل شيء يحترق: الأحلام، الحب، الضحكات، حتى الصمت نفسه يشتعل”، و “ليس هناك ألم أقسى من أن ترى العالم من حولك ينهار وأنت عاجز عن الصراخ”.
حضور أدبي عابر للحدود
وفي عام (1978) أصدر زكريا تامر مجموعته “النمور في اليوم العاشر”، والتي تسلط الضوء على الشخصيات التي تعيش تحت وطأة الظلم والخوف، لكنها تسعى دائماً لمقاومة الواقع بأساليبها الخاصة. في قصة “النمور في اليوم العاشر”، يروي عن نمر يتحول تدريجيًا إلى كائن خاضع بعد تعرّضه للترويض. هذه القصة، كغيرها من أعماله، تعكس بوضوح نقده العميق لأنظمة القهر والسيطرة. وفي حوار منشور مع تامر بمناسبة حصوله على جائزة سلطان العويس عام (2001) يقول تعليقاً عن القصة الأشهر في هذا الكتاب: “النمر يا عزيزي هو الحيوان الوحيد الذي يستطيع أن يعود الى طبيعته الحيوانية في أيّة لحظة مهما حاولت أن تدعي ترويضه واستئناسه في السيرك مثلاً.. لذلك فإن قصة النمور في اليوم العاشر تعني في المقام الاول أن الإنسان العربي سيعود إلى طبيعته الإنسانية الحقة ليصلح الأوضاع العائلية، والدليل على ذلك ما يحدث في فلسطين المحتلة الآن”.
شغل زكريا تامر مناصب بارزة في المؤسسات الثقافية السورية، منها رئاسة تحرير مجلات “الموقف الأدبي” و”أسامة” و”المعرفة”، بالإضافة إلى عمله كرئيس قسم الدراما في التلفزيون السوري ومساهمته في تأسيس اتحاد الكتاب العرب. أثارت افتتاحياته الجريئة في مجلة “المعرفة” جدلاً واسعاً، خصوصاً تناوله قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، ونشره مقتطفات من كتاب “طبائع الاستبداد” لعبد الرحمن الكواكبي، ما أدى إلى استقالته في (1980) بعد استدعائه للتحقيق. عمل أيضاً في وزارتي الثقافة والإعلام، وترك سوريا في (1981) ليستقر في بريطانيا حيث واصل نشاطه الأدبي والصحفي.
الجوائز والتكريمات
أصدر زكريا تامر العديد من أعماله الأدبية عبر دور نشر مرموقة، حيث نشرت دار رياض الريس كتب “نداء نوح” في لندن عام (1994)، و”سنضحك” في بيروت عام (1998)، و”الحصرم” عام (2000)، و”تكسير ركب” عام (2002)، و”القنفذ” عام (2005). كما صدر كتابه “أرض الويل” عن دار جداول عام (2015)، و”ندم الحصان” عام (2018).
كما أبدع تامر في أدب الأطفال منذ عام (1968)، وقدم مجموعة من الأعمال التي تحمل رسائل تربوية وإنسانية، منها “الحمامة البيضاء” و”لماذا سكت النهر” و”نصائح مهملة: عشرون قصة للأطفال”، وغيرها. امتاز بأسلوب يمزج بين الخيال والواقع بلمسة خاصة لم يسبقه إليها أحد، مما يعزز خيال الأطفال ويثري قدرتهم على التفكير النقدي. تُرجمت قصصه إلى عدة لغات، مما يعكس انتشارها وتقديرها عالمياً، حيث استقى مادتها من الطبيعة وعالم الحيوانات، محوّلاً القصص إلى أدوات تعليمية محببة وقريبة من عالم الطفل.
وجه آخر للإبداع
حصد زكريا تامر العديد من الجوائز والتكريمات تقديراً لإسهاماته الأدبية، منها جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في القصة والرواية والمسرحية عام (2001)، ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام (2002). كما نال جائزة بلو ميتروبوليس الماجدي بن ظاهر للأدب العربي عام (2009)، وجائزة ملتقى القاهرة الأول للقصة القصيرة في العام نفسه. وفي (2015)، حصل على جائزة محمود درويش للحرية والإبداع، ما يبرز مكانته كأحد أبرز كتّاب القصة في العالم العربي.
تمكن زكريا تامر من تجاوز الحدود الثقافية ليصبح جسراً أدبياً يربط بين العالم العربي والمشهد الدولي، حيث تُرجمت أعماله إلى لغات عديدة، مقدمةً نموذجاً إنسانياً شاملاً عن الحرية وكرامة الإنسان، فقد تم ترجمة أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، ليصبح صوتاً عربياً عالمياً يعبر عن قضايا الإنسان بجرأة وعمق. لاقت مجموعته “Tigers on the Tenth Day” استقبالاً نقدياً واسعاً في الأوساط الأدبية الغربية، فيما حظيت قصصه باهتمام أكاديمي في جامعات عالمية، حيث اعتُبرت نموذجاً متميزاً يمزج بين الرمزية والواقعية السحرية. لم يقتصر تأثيره على الترجمات، بل امتد إلى ظهوره في أنثولوجيات أدبية مرموقة مثل “Modern Arabic Short Stories”. وُصف تامر بـ”كافكا العرب”، حيث ألهم بأسلوبه المكثف والسريالي كتّاباً عالميين مهتمين بالحرية ومقاومة الظلم. كما عززت مشاركاته في مهرجانات دولية ومقالاته المترجمة حضوره في المشهد الثقافي العالمي، مما أهّله لنيل جوائز مثل جائزة بلو ميتروبوليس للأدب العربي. برموزه الإنسانية الشاملة، مثل النمر والطائر، استطاع تامر تجاوز الحدود الثقافية، ليصبح أدبه رسالة عالمية عن الحرية وكرامة الإنسان.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
بواسطة دعد ديب | يناير 14, 2025 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, مقالات
إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد “هاني الراهب” ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه، ودائماً كان قلمه سلاحه المسدد بوجه الطغاة والطغم الحاكمة.
شكل إنجاز هاني الراهب انعطافة هامة في مدونة السرد السورية، وكان سباقاً في اجتراحه لآفاق التجريب بالسرد؛ ومقتحماً لعوالم الحداثة مع إيمانه الراسخ بأهمية توظيف الموروث الثقافي العربي وتطويعه لخدمه مشروعه الحداثي. ولقد ابتدأ هذا المشروع مبكراً وأصدر روايته الأولى ” المهزومون” وهو على مقاعد الدراسة الجامعية في الثانية والعشرين من عمره ونالت في ذلك الوقت جائزة دار الآداب كونها لامست وجدان الفرد العربي المهزوم بفعل انكسارات الواقع وخيبة آمال جيل كامل إثر تداعيات السياسة وإخفاق تيارات المد القومي، وفككت وشخصت الهزائم المتتالية التي أحدقت بالفرد العربي وانتكاسات منظومة الشعارات الرنانة ونتائجها الكارثية في هزيمة حزيران والتي كان لها وقع قاس على الوجدان الجمعي وكانت سبباً في تشظي الذات العربية وخرابها النفسي وضياعها. أكملت روايته “شرخ في تاريخ طويل” تعميق أسباب الضياع الذي عانت منه شخصياته وعلاقتها بمحيطها السياسي على خلفية “هزيمة 48 و”67. وتكرر ذلك أيضًا في روايتي “الوباء” و”بلد واحد هو العالم”.
وبين أول رواية ” المهزومون”، وآخر رواية ” خضراء كالبحار” والتي أنجزها قبيل وفاته في عام 2000 مرت مياه كثيرة، ومرت أزمان قاربت أربعة عقود، وفي الوقت التي كانت فيه روايته الأولى المهزومون تنطق بمضمونها وتصوّر واقع الشخصية العربية المهزوم في كل شيء جاءت روايته الثانية “خضراء كالبحار” متوجة مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب “خضراء” والتي يرصد فيها الحياة العائلية الرتيبة حيث الأمان والاستقرار يفتقد النبض والعاطفة ويأتي الحب ليقتلع الأعماق ويهز منظومة ثبات الشخصية التقليدي” نورما” في عجزها عن ولوج الحياة الحقيقية ودلالة جفاف النهاية لها، فعقم الزوج مهند يوازيه عقم الأنظمة العسكرية وعقم تجربتها بما أنها لم تلد أي جنين، وشخصية نورما الممزقة بين جبلين أو رجلين، بين خطرين خطر الحرية وتبعاتها مع فراس، أو خطر الجمود والتكلس والحياة الرتيبة الشبيهة بالموت مع مهند، نورما الشخصية الممزقة بين حالين فما أن تصل إلى ضفاف حالة حتى تعاود النكوص إلى نقيضها، فمن الانجراف وراء الحب والحرية إلى الارتداد إلى العائلة والحجاب الذي تصل إليه في نهاية المطاف، وهنا يرصد الراهب تهاوي عالمها الداخلي وخواءه من المعنى في الإطار الخشبي للحياة المطمئنة الراكدة، وكيف تفاجئ نفسها عندما تطلق موجات الحب لآلئ دفينة في أعماقها، وتظهر مواهبها النقدية التي حجبها يباس حياتها الرتيبة التي رسمها لها النظام البطريركي ممثلاً بالأب والزوج وهيمنة التقاليد والاطمئنان الكاذب ليعكس كل ذلك الصورة التي عبر عنها فراس الفنان في التشوه الذي رسمه في ملامحها باعتباره “الجمال المعتدى عليه، الجمال الذي ينقصه حريته”. ويتداخل هنا السرد مع التشكيل والنحت والموسيقا في تجسيد الملامح والتفاصيل لإظهار البعد الداخلي للشخصية الذي أنتج المرأة بتلك الطبيعة المقولبة والخاملة والعاجزة عن العطاء والحب عبر الولوج إلى الطبقات الداخلية لشخصية وازدواجها بين خطابها الواعي لوجودها الحي وخطابها المستند على البرمجة العائلية، وعندما تتمرد عليها تتعثر وتخرج بشكل مشوه وغير مقبول وتبقى تراوح في مكانها رغم استفزازات الشعور والعاطفة ليطرح السؤال: “هل الحب غياب للوعي أم هو وعي آخر؟
كل ذلك يعبر عنه الحوار الداخلي للشخصية وصراعها مع ذاتها بين الصوت العالي للنسق المهيمن وبين رغباتها الذاتية التي تعكس أناها الخاصة، فالمرأة ورغم نزوعها العارم لاقتناص فرصتها بالحياة ترجع بالنهاية للتماهي مع النسق الثقافي السائد في المجتمع، وترجع إلى قيدها رغم كل التناقضات التي عاشتها بسبب من علو ووطأة العرف الاجتماعي وأسواره المكبلة وهذا ما رأيناه في الشخصيات النسائية في مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب”خضراء” فهي مهزومة وراجعة إلى الحضن الأبوي المهيمن متناسية أحلامها وجموحها العارم نحو الحرية.
مجموعة الروايات التي يبدأ عنوانها ب”خضراء” باعتبارها أحدث ما كتبه هاني الراهب “خضراء كالحقول”، “خضراء كالمستنقعات”، “خضراء كالبحار”، و”خضراء كالعلقم” عكست تلك المساحة بين اللون والحالة الشعورية وذلك الالتباس بين رمزية الاخضرار وأطيافه في عالم الدلالات الذي يحيل إليه الأخضر ففي ” خضراء كالمستنقعات اشتغل على تعالق السياسي مع الاجتماعي ومعركة البطلة سلمى مع المجتمع المتعصب للالتزام بالحجاب وهي على أهبة الانخراط بكومونة يسارية، إذ يتقدم السرد على لسان امرأة باعتراض على قساوة المثل ضرب العصافير بالحجارة” ضرب عصفورين بحجر واحد” لينتقل إلى تجسيد الخوف الجاثم في الصدور من ألف عام نتيجة الأنظمة القمعية المتتالية “لا يموت الناس من الجوع لكن كرامتهم تموت بسبب الخوف” والسؤال الواقعي عن أولويات المرحلة متسائلاً “ألم يكن بالإمكان أن يتحمل التنظيم الاجتماعي زبداً تفوهت به أفواه حالمة” لينتقل إلى الهم المركب للمرأة علاقتها مع الرجل وعلاقتها مع السلطات القائمة.
” متى نبتت شجرة الملكية في تراب الحياة” فالمستنقع قمة المأساة التي تعيشها النساء خائبة الروح باستقرار عميق في استسلام الأحلام وهدرها لما هو مستقر في ذاكرة الخنوع البشرية، ورغم ذلك كل التنازلات الاجتماعية التي مارستها البطلة سلمى لم تمنحها إحساساً بالأمان المفترض.
المياه الخضراء الداكنة توحي برييع وما من ربيع، توحي باخضرار وليس سوى المياه الآسنة تموت البطلة مئة مرة وتبقى على قيد الحياة وما عداها قصص وروايات وقد أقحم الكاتب اسمه الحقيقي في النص كنوع من صد القارئ من الاسترسال في الخيال ورده إلى الواقع مراقباً ومحايداً.
معاناة هاني الراهب الحياتية من المنع التضييق والاعتقال وسحب جواز سفره من السلطات القائمة آنذاك وفصله من عمله في جامعة دمشق وارتحاله للعمل في دول النفط تلقي ظلالها الكامدة على أغلب أعماله وتظهر متوارية كسيرة ذاتية تظهر فيها ملامح حياته الشخصية ففي رواية “رسمت خطاً على الرمال” كانت رحلته في بلد النفط واغترابه عن مكانه الأول وهو المسكون بمدن الأسئلة مطلقاً إياها على مدنه المتخيلة ” ماذا، متى، كيف”. كما يبرز الغرائبي والعجائبي فيها متكئاً على حياة شخصيات سردية مثل أبي الفتح الإسكندري وعيسى بن هشام وشهريار وشهرزاد ودنيا زاد وأفقر زاد عبر الخيال المجنح الخارق وغير المألوف في تجواله بين تخوم عوالم لامتناهية يرسم فيها تحولات الشخصيات وتهشيمها وإعادة صياغتها من جديد، فقد اشتغل فيها على تقنيات مكثفة في التلاعب بالزمن بين الإبطاء والتسريع بحسب أهمية ودلالة التكثيف والانبساط في الحدث المروى عبر التنقل بالأزمان من ماض سحيق يستلهم حكايات ألف ليلة وليلة ومقامات بديع الزمان الهمذاني في خلطة عجائبية من عالم الخيال واللامعقول متنقلًا بين الأرض والسماء والماضي والحاضر والحياة والموت في تشظي للزمن والتركيز على بؤر فاعلة في استعادته لواقع الفرد المنفي والمبعد الملاحق للقمة العيش التي ماتزال تنأى عنه مفككاً للخطاب الديني الذي يهلل للحاكم في كل زمان لأن “”الرضا والرقاب ملك يديه، أي تاج أعز من تاجيه”، في تحريف واع للعبارة المسكوكة.
كذلك صنفت روايته “الوباء” باعتبارها من أفضل مئة رواية عربية والتي حازت جائزة اتحاد الكتاب ورصد فيها سيرة أسرة عبر ثلاثة أجيال في رحلة أبنائها من الريف إلى المدينة وعلاقتها بالسلطة والعسكرة في بناء سردي متماسك موظفا التراث الشعبي والروحي والديني في أسطرة الشخصيات وتشكيلها ورصده للشخصية العربية في تغيراتها وانعكاس الأزمات السياسية على وعيها ومصائرها.
العتبات النصية كعناوين ملتبسة:
العنوان باعتباره جزءاً من العتبات النصية للعمل يشكل أحد مفاتيح النص المعبرة عنه أو لجزء منه، إذ تثير فهماً مخاتلاً مما يصعد من فعالية التشويق في الوصول لأفكار النص، فالعنوان “رسمت خطاً على الرمال” عنوان مراوغ فهو قد يشير إلى الخطوط الواهية التي تفصل البلدان العربية وقد رسمها الميجر فيكس بقلم رصاص ليشكل دويلات النفط أو بتأويل آخر قد يفسر محاولة من الكاتب في الحفر على وعي لوجود مفقود الأمل من تحققه.
“شرخ في تاريخ طويل”: العنوان نفسه قصة قصيرة تحيل إلى أهمية تفكيك هذا التاريخ المشروخ في بناه الأساسية وخاصة محرماته الثلاثة الدين والجنس والسياسة.
“بلد واحد هو العالم” كعنوان يختزل معنى مقولة كاملة في أن المسائل الصغيرة صورة عن كبريات المسائل وتكثيف لها وإن ما يحصل في مكان ما صدى لواقع وتوجهات مكان آخر.
“ألف ليلة وليلتان” في تناص مع عنوان النص الشهير وانحراف عنه في تجاوزه الإرث الحكائي المعروف ليزيدها ليلة أخرى كناية عن رؤيته الخاصة بتجدد الهزائم واستمراريتها فقد أخذ العنوان من سياقه وأجرى عليه تحويراً ليرده إلى معنى آخر.
“خضراء كالبحار” جسده تعبيره المباشر “الفرح والجمال كنزان صغيران في هذا العالم وأنت الخضراء كالبحار تجعلينهما يكبران”.
ولكن في جانب آخر تظهر دلالة معاكسة للعنوان وهي عكر الأعماق الذي يظهر على السطح نتيجة تقلب أعماقها وتلونها بين ذاتها الحقيقية والذات المتقولبة فيها التي برمجت شخصيتها وفق الأعراف السائدة.
ويكفي عنوان “خضراء كالعلقم” في تبيان المفارقة بالعبارة الواحدة في التعارض بين الاخضرار الذي هو لون النماء والاستمرار والأمل وما يقابلها من طعم الواقع المر.
في كل ما سبق يركز هاني الراهب على الشخصيات المهتزة والمهمشة وصراعها مع نفسها وواقعها. “الأرض الواطئة هو الشعور الذي يخلق مع الكائن” في وصفه الكائنات المهزومة سواء على صعيد القضية الوطنية أو على صعيد القضية الاجتماعية كواقع المرأة في الشرق، وقد لا يفي مقال واحد للإحاطة بتجربة هاني الراهب السردية فكل عمل وكل نص من نصوصه يحتاج دراسات وأبحاث عدة، وتبقى قضية الحرية هي العنوان الأبرز في أعماله نتيجة لإحساسه الوجودي العارم بأهمية الكينونة الإنسانية للفرد وقد توجت باجتراحه عالم التجريب في التعبير عن رؤاه ومواقفه في صيرورتها الإبداعية المتألقة.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ“
بواسطة أسامة إسبر | يناير 6, 2025 | News, العربية, بالعربية, مقالات
يصدمنا الإعلام الاجتماعيّ كل يوم بمقاطع فيديو وأخبار حول امتهان كرامة الإنسان في سورية عن طريق استفزازات لفظية وعنفٍ جسديّ يُمارَس ضد أشخاص تصنّفهم الآلة الإعلامية للمرحلة الانتقالية على أنهم من “فلول النظام“ السابق. ولقد سمعنا عن أشخاص تُقتحم بيوتهم ويُختطفون، ورأينا أشخاصاً يُرْفسون بالأقدام ويُنكّل بهم ويُهانون ويُشْتمون في استعراض مشهدي يهدف إلى الإذلال وإهانة الكرامة. يحاكي هذا الأداء ويستنسخ ممارسات الأجهزة الأمنية السورية القمعية والوحشية التي كرهها وعانى منها معظم السوريين الذين يتوقون إلى رؤية سلوك قانوني يجسّد مفهوم الدولة، ويحقق العدالة ويدين المجرمين في المحاكم، بعيداً عن الممارسات المخالفة للقانون التي تزرع الغضب في النفوس وتحصد الخراب. إن الانتقام، في المراحل الانتقالية، يهدم البلدان، ويعجّل في خرابها، ولهذا حذّر المفكرون والباحثون والفلاسفة والحكماء وعلماء السياسة من خطره.
من معاني الانتقام في اللغة العربية ”مقابلة السيئة بمثلها“. والانتقام ”معاقبة الشخص على ما صنع معاقبةً ناشئةً من القوّة الغضبية، و بدافع نفسي وذاتي“. ونظر حكماء العرب إلى الانتقام على أنه فعلٌ هدّام يمنح لذّة على المدى القصير لكنه يُورث الندم على المدى الطويل. وذُكر في مصادر التراث العربي أن المنصور قال لولده المهدي: إن ”لذّة العفو أطيب من لذة التشفي“. وانتقد ابن القيّم الانتقام قائلاً: ”وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفّيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام“.
يتقاطع رأي المتنورين العرب مع رأي فلاسفة اليونان في أن للانتقام عواقب خطيرة. فقد انتقد أرسطو الانتقام قائلاً إنه ليس من العدل إلحاق الأذى بأي شخص، حتى وإن كان ذلك في إطار الرد، لأن الأذى في حد ذاته ليس عادلاً أبداً.كما أن الانتقام تعبير عن الرذيلة، لا الفضيلة، لأن الرجل الفاضل الحقيقي يتصرّف بهداية من العقل لا العاطفة، ويسعى إلى خير الجميع، وليس نفسه فقط، كما أن مقولة “العين بالعين”، تقوّض السّعْيَ العقلانيّ لتحقيق العدالة.
يتّفق المفكرون الحديثون مع حكماء العرب، وفلاسفة اليونان، على أن الانتقام سمّ يقتل روح من يسعى إليه، ويلوّث العالم الذي يتم فيه. لكن العدالة، عن طريق الوسائل القانونية، تسمح بإمكانية الشفاء وإعادة البناء، كما تقول الباحثة القانونية الأمريكية، وأستاذة القانون في جامعة هارفارد، مارثا مينّو في كتاب صدر في ١٩٩٨بعنوان “بين الانتقام والتسامح: مواجهة التاريخ بعد الإبادة الجماعية والعنف الجماعي“. إن الانتقام، حين يُمارَس خارج إطار القانون، يؤدي إلى إدامة العنف. وإذا أصبح الانتقام مبدأ موجِّهاً للعدالة، من الممكن أن يقود إلى تأجيج الصراع، وإطلاق دورة لا نهاية لها من العنف والعنف المضاد.
يولّد غياب حكم القانون، في أعقاب الانقلابات والصراعات وسقوط الأنظمة، فراغاً يتفشّى فيه العنف والانتقام دون رادع. ويقود في غالب الأحيان إلى وضع يسود فيه حكم الغوغاء والمجرمين. بالتالي، إن الاعتراف بحقيقة ما حدث، والمساءلة القانونية، ضرورة لا بدّ منها للتعافي المجتمعي، لكن الرغبة في الانتقام يجب أن تُدار بعناية عن طريقالعملية القانونية، والجهود الرامية إلى بناء مستقبل مشترك تحت مظلة العدالة الانتقالية. قد يقدّم القصاص لذة وإشباعاً عاطفياً، كما تقول مينو، ويمكن أن يعدّه البعض “عادلاً”، إلا أنه ينتهك المبادئ الأخلاقية. وعندما يحدث خارج إطار القانون يكون مدفوعاً بالغضب، أو الإذلال، أو الرغبة في التشفّي، وهي مشاعر لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج عادلة. علاوةً على ذلك، إن القوى المنتصرة التي تستلم السلطة، إذا سعت إلى الانتقام بطرق غير قانونية، فإنها تخاطرُ بالتضحية بشرعيتها الأخلاقية، وتآكل الأساس الأخلاقي اللازم لإعادة بناء مجتمع عادل وديمقراطي. ويؤدي هذا إلى إضعاف القدرة على الحكم والحفاظ على النظام. وتشير مينو إلى أن الانتقام قد يوفّر إرضاء عاطفياً فورياً للضحايا، لكنه يهدّد الاستقرار على المدى الطويل لأنه ينكأ الجراح، ويُحْدث صدمة جماعية، ويفاقم المشكلة، ويزيد أيضاً من الانقسامات القائمة، مغذياً الاستياء بين الجماعات المتصارعة. وعندما يتم الانتقام خارج الأطر القانونية، فإنه يقوّض الثقة في القوى المنتصرة. هذا ما حذّر منه الفيلسوف وعالم السياسة النرويجي جون إلستر حين قال: إن الأخذ بالثأر، خارج إطار القانون، يتمخض عنه في معظم الأحيان وضعٌ تصبح فيه العدالة تعسفية، وذات دوافع سياسية، وتتقوّض عملية الانتقال إلى نظام ديمقراطي، لهذا ينبغي أن يكون حكم القانون مبدأ أساسياً.
يتقاطع ما قاله الفيلسوف النرويجي مع ما أكّده عالم اللاهوت الكرواتي ميروسلاف فولف، الذي شدّد على أهمية الصفح في مجتمعات تمرّ في مراحل انتقالية بعد الصراعات، أو سقوط الأنظمة. فالصّفح ليس مجرّد عمل أخلاقيّ بل عمل سياسي يمكن أن يمهّد الطريق للسلام. وفي المجتمعات التي تمرُّ في مرحلة ما بعد الصراع، يجب فصل الانتقام عن العدالة، لأن الانتقام يرتبط بالماضي، في حين ترتبط العدالة والمصالحة بالمستقبل وبنائه. علاوة على ذلك، يعوق الانتقام عملية التعافي لهذا يجب على المجتمعات أن تجد سبلاً للصفح والتسامح من أجل إعادة بناء نسيجها الاجتماعي كما شدّد كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق، الحائز على جائزة نوبل للسلام في ١٩٨٠، ديزموند توتو، الذي عيّنه الرئيس الراحل نيلسون مانديلا رئيساً للجنة الحقيقة والمصالحة، التي شُكلت للتحقيق في جرائم ارتكبها جانبا الصراع في جنوب أفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري.
تتقاطع هذه الآراء مع آراء ناشطين سوريين بارزين شاركوا في الثورة السورية في بداياتها المدنية، وتعرّضوا لأحكام سجن ظالمة وغير إنسانية، من أمثال الناشط الحقوقي ومدير شؤون المحتجزين في فريق الطوارئ السوري، عمر الشغري ابن قرية البيضا في بانياس، الذي عبّر في إحدى حلقاته على إنستغرام، عن رؤية عميقة تثير الإعجاب (نظراً لتجربته المأساوية، ونجاته بأعجوبة من الموت في السجن) حين قال: إننا يجب أن ننطلق من أساس قانوني يخدم العدالة مبتعدين عن الغضب والانتقام كي لا نرتكب جرائم قمنا بإدانة نظام الأسد لأنه اقترفها. في السياق نفسه أكّد المحامي السوري، وناشط حقوق الإنسان، ورئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، والمعتقل السابق مازن درويش، في حوار أجْرته معه ”مجلة المجلة“ أن الجرائم التي ارتُكبت في سوريا لم تكن أحادية الجانب، بل تمّت على أكثر من مستوى، وفي أكثر من سياق، ومن قبل أكثر من طرف. تحدّث مازن درويش عن مستويات في الصراع السوري لها أساس طائفي، وأخرى لها أساس عرقي ومناطقي، وعن صراعات بينية حتى بين القوى المنتصرة، ما يقتضي التعامل بنزاهة قانونية مع الجرائم التي ارتُكبت.
يتطلع السوريون إلى الخروج من نزعة القبائل والطوائف والعشائر الثأرية إلى المساءلة القانونية، تحت مظلة العدالة الانتقالية، التي يطبقها ”شعب“، أو “مجتمع حضاري“ يعيش في دولة قانون ومواطنة هي وحدها الكفيلة ببناء وطن للجميع. إن تحقيق العدالة يتطلب معاقبة مرتكبي الجرائم، والاعتراف الجماعي بالمعاناة، والالتزام بالحقيقة، وخلق مساحات للمصالحة كما يُجمع علماء السياسة. في غياب هذه العناصر، قد يتحوّل الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية إلى انتصار أجوف، من شأنه أن يعمّق الانقسامات، ويطيل من أمد العنف. وكما قال الأب ديزموند توتو في خطبته التي حملت عنوان ”لا مستقبل من دون صفح“: إن الصفح لا يعني التظاهر بأن الأمور مختلفة عما هي عليه في الواقع، إن الصفح مواجهة، وذكر للحقيقة كما هي، وتخلّ عن الانتقام، ونظر في عينيْ الوحش. إنه كمثل فتح نافذة لجعل الهواء النقي يدخل إلى غرفة مغلقة ورطبة ومظلمة، وإزاحة الستائر كي يغمرها الضوء“.
بواسطة محمود عبد اللطيف | يناير 5, 2025 | العربية, بالعربية, تقارير, مقالات
في مساء ٢٩ تشرين الثاني / نوفمبر تعلن “إدارة العمليات العسكرية”، إطلاق معركة “ردع العدوان”، وتبدأ هجوما على خطوط “الجيش السوري”، في ريف حلب الغربي، وبشكل سريع تبدأ وحدات الجيش بالانسحاب لتصل قوات الإدارة العسكرية لتخوم حلب. في تلك الأثناء كان الاستنفار في غرف الأخبار قاطبة على أشده، وبشكل سريع انتقل الخبر السوري على سلم الأولويات لوسائل الإعلام الدولية وتصدره. كان التواصل مع المراسلين شبه مستحيل، إذ لم يجرؤ أحد على تبني معلومات الانسحاب خشية من رد فعل مخابرات نظام الأسد، وكان الاتصال بمحافظ حلب ينتهي سريعا بجملة “ماني فاضي”، بمجرد أن يعرف أن المتصل أحد العاملين في غرفة أخبار أي وسيلة إعلامية سورية. وعلى الرغم من تأكيد المراسلين والصحافيين والسكان لخبر دخول “إدارة العمليات العسكرية”، إلى حلب، لم يجرؤ أحد على نشر الخبر قبل أن تنهي وزارة الدفاع سلسلة الأخبار التي تتحدث عن إرسال تعزيزات عسكرية إلى حلب، بخبر “إعادة التموضع”، وهكذا تباعا حتى بدء اقتحام ”حماة”. وكانت البيانات تنفي كل ما تقوله قوات المعارضة إلى أن أتى خبر “إعادة التموضع”، وهكذا استمر الأمر حتى يوم السابع من كانون الأول/ ديسمبر حين قررت وسيلة إعلام سورية ألا تنتظر خبر “إعادة التموضع”، الرسمي حول حمص وأذاعت ما يحدث بشكل منفرد رغم الخوف من استخبارات النظام، وعند الساعة التاسعة من ذاك المساء بدأ الذعر يسري في كل مكان.
مقدمات السقوط
كان الاتصال بمصادر عليا من قبل القائمين على وسائل الإعلام ينتهي بمعلومات تبدو خطرة وخيالية، فمن كانوا في المكتب الإعلامي في القصر الجمهوري لم يوقفوا اتصالات التوبيخ والتهديد بسحب التراخيص والاعتقال حتى يوم السقوط، فمن ينشر أخباراً عن انسحاب قوات الجيش من الجنوب السوري سيُحاسب، في وقت يُطلب فيه الحديث عن “طوق دمشق”، والمقصود به تحصين العاصمة قبل بدء الدخول في مفاوضات لتطبيق القرار ٢٢٥٤، بعد أن يبقى للنظام سيطرته على دمشق والساحل. في الوقت نفسه كانت الأنباء التي ترد من الساحل بانسحاب قوات الجيش لا يمكن نشرها تحت التهديد بسبب اتصال هاتفي من محافظ اللاذقية آنذاك يهدد ويتوعد، ثم تأتي اتصالات تصر على نشر تصاريح مسؤولين من مستويات بسيطة كـ “رئيس بلدية دوما”، ينفي فيها دخول أي قوة إلى المدينة ذات الخصوصية الكبيرة بالنسبة لـ “الثورة السورية”، ثم التأكيد على وجود “قائد شرطة ريف دمشق”، على رأس قوة لإنهاء أي تظاهرة أو مظهر مسلح في مدينة “حرستا”، التي تعد ذات بعد استراتيجي كبير في حسابات الدفاع عن العاصمة. وكان رفض نشر هذه الأخبار مغامرة كبرى من قبل من رفضوا، فماذا لو أن حديثهم عن تفاوض يقوده الأسد كان صحيحاً، ماذا سيكون رد فعل المخابرات على أفعال من يسميهم النظام بـ “المندسين”، بين صفوفه؟!
ضجيج مفاجئ في الأحياء ذات الصبغة العلوية في العاصمة دمشق، نزوح بأشكال مختلفة، وسيارة صغيرة قد تكون مكتظة بعشرة أشخاص يحاولون الفرار إلى الساحل الذي ما زالت الأنباء تؤكد بقاء الجيش في نقاطه رغم الأنباء عن إخلاء المربعين الأمني والعسكري في العاصمة. كانت الساعة تشير إلى الواحدة ما بعد منتصف الليل، غرف الأخبار مكتظة بالقلق والتخبط والأنباء التي ترد ولا يجرؤ أحد على نشرها رغم أن وسائل إعلام عدة تنقلها على الهواء مباشرة، وكانت إجابة مدير أي وسيلة تبث من دمشق على سؤال: ماذا نفعل؟: ”انتظروا شوي”.
كان الخروج إلى الشارع في ذاك الوقت مع كاميرا يبدو مغامرة، الكل يركض، ثمة أشخاص بزي مدني لا تعرف تبعيتهم يطلقون الرصاص في الهواء بكثافة في منطقة المزة ومحيط ساحة الأمويين، وعند الساعة الثانية فجراً بدأ تحليق مكثف للطيران الحربي مع انفجارات ناجمة عن القصف. في تلك الساعة بدأت مغامرة العمل في غرف الأخبار تأخذ شكلا أكثر درامية، والكل يحاول تقديم أخبار لا تورطه مع النظام، فيكتفي بنقل أخبار مثل “سماع أصوات رصاص – سماع أصوات انفجارات – تسجيل حرائق – أنباء عن سقوط ضحايا”، دون الاقتراب من خبر إخلاء المواقع العسكرية والمقار الأمنية في العاصمة ومحيطها، ولا حتى خبر النزوح الجماعي، فالأمر ما زال مثيرا للرعب من رد فعل النظام، ورغم إن التسابق على نشر الأخبار والحصول على لقب “أول من نشر كذا”، كان سباقا محموماً طيلة سنوات الحرب، غير أن كتابة خبر “سقطت دمشق”، كان يبدو خطرا، ثقيلا، ومغامرة قد تنتهي برصاصة في الرأس من عنصر في مخابرات النظام، أو حبل مشنقة في سجن صيدنايا.
الساعة الثالثة يخرج خبر يؤكد فرار الأسد وعائلته، لم يكن ثمة مصدر واضح لهذا الخبر لكنه كان مؤكدا لجميع من يعمل في الإعلام السوري الحكومي والخاص، ولم يكن أحد ليمنع أي أحد بمغادرة مكان العمل، ولأن التلفزيون السوري توقف عن البث ودخلته عناصر من الفصائل التي تقدمت من الجنوب السوري نحو العاصمة، بات الأمر محسوما، لكن الخوف الذي زرع في نفوس الصحفيين منعهم من التجرؤ على القول: سقطت دمشق، وتركوا الأمر للناس لتعرفه وحدها.
ما بعد السقوط
تبين صباحاً أن عناصر “هيئة تحرير الشام”، لم يصلوا بعد لدمشق، الشوارع مزدحمة بين حاملي السلاح من سكان دمشق، يمكن تمييزهم عن عناصر الفصائل التي دخلت من جنوب سورية بسبب الفارق بين الزي المدني النظيف، والزي العسكري الذي يرتديه عناصر الفصائل، وهنا نوع من الناس كان يحتفل حاملا أعلام الثورة، لكن المشهد المؤلم تمثل بـ “التعفيش”، أو بصورة أدق “أفعال السرقة”، وللمصادفة فإن من دخلوا القصور الرئاسية وسرقوها كانوا من سكان المناطق القريبة منها، وبمعنى أدق هم من “أثرياء دمشق”، وهؤلاء من تولوا مهمة سرقة السيارات وكل ما هو ثمين، بينما وصل سكان الأحياء البعيدة (الفقراء)، متأخرين، لترى سيدة تخرج حاملة عبوة “قهوة”، أو شاب يحمل “كرسياً خشبياً”، غير أن لقية هؤلاء الحقيقية تمثلت بشركة “إيما تيل”، التي يملكها شكلاً “أبو علي خضر”، ومضموناً “أسماء الأسد”، والتي جعلت من الهاتف الجديد حلماً لكثير من الفقراء، فسطوا على كل ما يحتويه مقر ومنفذ البيع الخاص بالشركة، لكن هذه الفوضى لم تكن لتليق بـ الثورة والتحرير، ولم يتحدث أي من الصحافيين هذه الفوضى خشية من رد فعل “الثوار”، كذلك لم يذكره أحد من الصحافيين الذين أتوا إلى دمشق مع إدارتها الجديدة، رغم أن هذه الإدارة ما تزال تطالب بإعادة المسروقات من المؤسسات الحكومية والخاصة.
إن توصيف “فلول النظام”، الذي يطلق جزافاً على أي صحافي يحاول الحديث عما يحدث في سورية، يقابله توصيف “مندس”، الذي كان يطلقه النظام على من يخالف ”حكومة بشار الأسد“. وثمة تهم جاهزة مثل “التحريض الطائفي”، يوجهها جمهور الإدارة الجديدة لكل من يكتب منتقداً تصرفات “حكومة تسيير الأعمال”، ما يجعل من العمل الصحافي في سورية في الوقت الراهن ينطوي على الكثير من الخوف، فالقوانين لم تتضح بعد، وفي ظل انعدام وجود مؤسسة نقابية يمكن أن تحمي الصحافيين، سيبقى الأمر كذلك.
بواسطة رباب هلال | ديسمبر 31, 2024 | Culture, Reviews, العربية, بالعربية, مقالات
يحدث في الحرب أن تستيقظ الساردة صباحاً، تستعدّ لقضاء نهارها في عملها اليوميّ، وقبل أن تتناول قهوتها كالعادة، يطلب أبوها منها مرافقته إلى محلّه في هامش المدينة:” سألني بتودّد إذا ما كنت سأرافقه مشياً في الشارع المفضي إلى الخوف…” بذريعة أنّها ستتناول قهوتها مع أمّها مجبورة الساق، وإلى حين يتمكّن طلّابها من تجاوز حواجز التفتيش الكثيرة وصولاً إلى المدرسة. يصيب صاروخ جدار غرفة المعيشة، مكان شرب القهوة المعتاد، فتنسحب وأمّها إلى مكان أكثر أماناً؛ الحمّام، عوض الخروج من البيت، بسبب جبيرة ساق أمّها المكسورة. وفي الحمّام، تغلي القهوة بعد أن تسلّلت إلى المطبخ، لجلب دلّة وفنجانين، ولعجلتها المرتعبة تنسى الملعقة، فتضطرّ أمّها لوضع القهوة في الماء بأصابعها، ولتحريكها تقترح استخدام فرشاة أسنان الأب! وفي إثر سقوط صاروخ آخر، وانهيار أحد جدران البيت، وتطاير الغبار الخانق، يحطّ الهذيان ويُدفِق الأسئلة واقعيّة، وجوديّة وعبثيّة، تسأل الساردة:” أمّي، لماذا على المرأة أن تكون (ست بيت)؟ “أمّي، ألا نملك إجابات لكلّ شيء؟” ” أمّي، هل سيغفر لنا أبي هذا؟” استخدامهما فرشاة أسنانه لتحريك القهوة! يبدو المشهد غريباً، بيد أنّ واقع الحرب المفترض أنّها السوريّة الراهنة، بفجائعها الغرائبيّة والكابوسيّة تفوق التصوّر والتصديق، فالقصّة لم تحدّد مكان حدوثها.
تتسلسل الأحداث وتتنامى على وقع القصف، وتتداخل الأزمنة ما بين الأمس واليوم، وتتوالد مشاعر الرعب؛ فالأمّ تحار كيف ستنجو مع جبيرتها، وتصرّ على ترتيب الأشياء في البيت وتنسيقها الصارم المعتاد، ترتدي حجابها، فالسترة واجبة حتّى في لحظة الموت! والأب يعود، بعد خروجه من الباب، لتقبيل زوجته وابنته، كأنّما في وداع أخير، ثمّ ينصرف إلى عمله. والابنة المرتعبة تتأمّل داخل البيت وخارجه، بانتظار موت مرتقب. فضاء مشحون بالرعب يستبدّ حتّى بطلّاب الساردة/المعلّمة في المدرسة، فقد رسمت إحدى الطالبات دجاجة تفقس صواريخ!
ذلك ما حكته لنا الساردة/ الكاتبة نهى حسين، في القصّة البديعة “جبيرة”، أولى قصص مجموعتها البكر “سيلفادور دالي يعدّ لي الفطور!” إصدار دار ممدوح عدوان/دمشق 2024.
بعيداً عن الحرب، وقد ذُكرت في أربع قصص، انشغلت الكاتبة في النصوص السبعة المتبقة، بالموت أيضا، بالظلم المجتمعي الذكوري، بالطفولة المعنّفة، وبغير ذلك. يتكرّر ذكر الأطفال في النصوص، فثمّة طفلة أخرى رسمت في حصّة الرسم معلّمتها/الساردة التائهة القلقة على شكل شجرة متشابكة الأغصان! أمّا الطفلة/ الساردة في القصّة الغريبة المدهشة والمخيفة “الكافور”، فقد رسمت في حصّة الرسم: “حديقة أزهارها توابيت.” فهي تعيش في بيت لا يتوقّف عن استقبال الجثامين لغسلهم وتهيئتهم للدفن. طفلة لا تتوانى عن فتح باب البيت لعويل الأهالي حاملي الجثمان، وعن مناولة أبيها الأكفان الاحتياطيّة المركونة في غرفتها. ولكسر الضجر تبدأ بتطريز عصافير ملوّنة على حوافّ الأكفان البيضاء، قبل أن تأخذها لأبيها مُغسّل الموتى، مهنة ورثها عن أسلافه، ويحرص على الحفاظ عليها. وقد اعتاد أهالي القرية حمل جثامين موتاهم إليه، يفضّلونه على مغسّلي الدكاكين. بدا الأب كآلة تعمل لا تتوقّف. رفض طلب زوجته بالانتقال إلى مسكن آخر لإبعاد طفلتهما عن الأجواء الجنائزيّة، وقد باتت تقضّ مضجعها؛ هلع وبكاء، كوابيس وهلوسات، فتهرع الأمّ إلى إيقاظها، تسقيها ماء وتقرأ عليها القرآن لتعاود النوم، تشرح لها:” أنّ الموت سنّة طبيعيّة كتعاقب الليل والنهار وتوالي الفصول.” تصلّي الطفلة طلباً للاعتياد. تقول:” أريد حصّتي من الحياة من دون هذا القرب الحميم من الموت.” (يؤخذ على الكاتبة هنا، تقويل الطفلة ما لا تدركه اللغة الطفليّة.)
على وقع سيل ماء غسيل الموتى خارج الغرفة، وانتشار رائحة الكافور المعطّر، تسرد الطفلة حياتها وسط طقوس جنائزيّة مضجرة؛ أكفان ونعوش وتفجّع، ورائحة الكافور تعشّش في البيت، وفي النوم. ذات ليل ثلجي، طرق على الباب يوقظها، وكعادتها حين تنشغل أمّها، أو تغطّ في نوم عميق بعد نهار جنائزيّ متعب، تهرع الطفلة لفتح الباب. لم تجد وشاحها السميك، فتلحف الكفن الذي تطرّز على حوافّه العصافير، لم يكن بالباب جثمان أو عويل، إنّما هرّة غطّاها الثلج، فلم يكن بدّ من إدخالها، انتبهت الطفلة إلى أنّ الهرّة لا تموء، فتخمّن أنّ البكاء على فقدان ما كابدته، أفقدها صوتها. تدخل الهرّة غرفة الطفلة، مأخوذة بالعصافير المطرّزة على الكفن. تتقدّم بقسوة نحو الطفلة، فيتضخّم خوف هذه! في الصباح، حين ناولت أباها الكفن ذاته، انتبهت إلى اختفاء عصافيرها عنه، وحين سألت أباها عنها: “دخل في اضطراب مفرط، وقال:” لقد التهمتها القطّة وفرّت كالمجنونة.” رمزيّة أبدعتها القاصّة ببراعة. بلى، لا بدّ للأب أن يضطرب كثيراً، وأن يؤكّد أنّ القطّة التهمتها وفرّت، التهمتها تماماً حيث لا أمل في استعادتها! فالعصافير ترمز إلى الطيران والانعتاق. وفي بيت لا تصلح فيه للعيش سوى مهنة غسل الموت التاريخيّة الموروثة، على القطط التي ترمز للجنس/الحياة المضادّ للموت، أن تفرّ وأن تكون قاسية، متوحّشة ولصّة! وعلى الأب أن يبعد عن ابنته رغبتها في أن تكون لها حصّتها: “من الحياة من دون هذا القرب الحميم من الموت.” قصّة تترك أثرها في نفس القارئ بقوّة.
بديهيّ أنّ أوّل ما سيخطر في بال القارئ مع ذكر الرسّام سيلفادور دالي هو السرياليّة وتعني “ما فوق الواقع”. نشأت هذه المدرسة في فرنسا، وتوهّجت في عشرينات وثلاثينات القرن المنصرم. وتهدف إلى الغوص في العقل الباطن واللّاوعي، لاستكشاف ما يبطن من أفكار تتنافى مع الواقع والحقيقة، وتعتمد الأحلام، تأثّراً بعلم النفس الفرويديّ وسواه، فتدمج الخيال بالواقع بعيداً عن الأطر والقواعد المكرّسة، في شتّى الفنون الإبداعيّة. تزعّمها، الشاعر أندريه بروتون وأطلق بيانها الأوّل رفقة أدباء آخرين مثل بول إيلوار ولويس أراغون، ورسامين مثل ماكس إرنست وسيلفادور دالي هذا الذي يعدّ الفطور للكاتبة نهى حسين، أولى وجباتها/ إصداراتها الأدبيّة. لكنّنا سنلمس بوضوح سافر، أنّ ما ورد في المجموعة برمّتها لا يمتّ إلى السرياليّة بصلة، إذ أنّ الأحداث والأفعال تتتابع عبر رصد الساردة، الشخصيّة الرئيسة في أغلب النصوص، بوعي شديد للواقع من حولها وما ينجم عن ذلك من ردود أفعال، وهواجس ومخاوف، حيرة وتيه، تساؤلات، وتأملات فلسفية وجوديّة تنحو إلى العبثيّة مرّات كثيرة، تنقله إلى عوالم فنّيّة، بواقعيّة تارة وبرمزيّة تارة أخرى، وإن بدت غريبة أحياناً فذلك يعود إلى مخيّلة الكاتبة الوسيعة الجميلة، تحلّق كما الشعراء أحياناً وتأتي بصور أدبيّة محمّلة بالهواجس المتأتّية من واقعها. ليكون العنوان شرْكاً يعثّر القارئ!
ثمّة أيضاً، ما يشي باستعجال نهى حسين في نشر مجموعتها اللّامتجانسة هذه، والكتابة الأدبيّة إنّما هي أيضاً فعل تأنٍّ وصبر. ففي حين نجدها قاصّة بارعة في نصوص خمسة تراوحت بين الحداثة والتقليديّة، وبين الواقعيّة والرمزيّة، وأُدرجت في سرد مكثّف، سلس، عفوي، مقنع وممتع، ولغة أنيقة شعريّة حينا وشاعريّة أخرى في اتساق جميل ومؤثّر، محمّلة بأفكار عميقة وتأمّلات لافتة. إلّا أنّنا نلقى في قصص أخرى مثل “نزح الماء” القصديّة والافتعال والمبالغة! وفي قصّة “الجوبي” محاولة متعثّرة لتقديمها بشكل القصّة القصيدة فيما يبدو، كما أنّها تعاني من إبهام مطبق، يُذهِب بمتعة الاكتشاف لدى القارئ!
في نصوص أخرى يبهت الشكل الفنيّ وينتفي، فمثلاً في نص” حجراً إن شئت” تتحدّث الساردة عن جدليّة العلاقة بين الذات المهنيّة والذات الإبداعيّة، والصراع اللّامنتهي للتخلّي عن المهنة قاضمة الوقت وخانقة الفعل الإبداعيّ. النصّ لافت إنّما ليس قصصياً البتّة، أُدرج بخطابيّة ومباشرة لن تسترها أناقة اللغة أو التأمّلات. أمّا نصّ “طابع مجهود حربيّ” وقد جاء في مقاطع تطول أو تقصر، هي رسائل متتالية ترسلها كاتبتها إلى حبيبها الذي بعد عنها، من دون ردود منه، ومن دون أن نعرف عنه شيئاً. رسائل انكتبت بلغة شعريّة لافتة، إنّما أُثقلت بهواجس ورؤىً مختلفة وتحتشد فيها الأفكار فتزدحم، (هو حال النصوص غير القصصيّة كلّها)، فبدت الأحداث فيها ظلالاً لقصص تمكث على ضفاف دانية هنا، ونائية هناك، بانتظار إنجازها!
ذلك التباين بالأشكال التي وردت فيها النصوص غير القصصيّة، واحتشاد الأفكار بشكل مبالغ، رغم أهمّيتها، فقد طغت على فنّيّة القصص، ما لا يؤمّن للقارئ، في النهاية تكوين وحدة انطباع فنّيّة شاملة للمجموعة.
وسمت الكاتبة مجموعتها بــ “سرد حكائي”، وكأنّما تبريراً لخلط ما لا يتجانس! فلا شكّ أنّ نهى حسين تدرك أنّ السرد الحكائي يعني السرد القصصيّ والسرد الروائيّ. وللتوضيح أورد تمييز جيرار جينيت في كتابه “الخطاب الجديد للنصّ السرديّ”، بين ثلاثة مكوّنات للخطاب السرديّ، هي: “الحكي: الترتيب الفعليّ للأحداث في النصّ. القصّة: التتالي الذي حدثت فيه هذه الأحداث فعليّاً. السرد: فعل السرد ذاته.” لنفهم من جينيت ومن نقّاد منظّرين آخرين، كتزيفيتان تودوروف صاحب مصطلح “علم السرد”، على أنّ السرد الحكائيّ، أكان حداثيّاً أو ما بعد حداثيّ أو تقليديّاً، فإنّه يشترط وجود حكاية فيها يتنامى الحدث والشخصيّات بقوّة روح القصّ.
يجدر القول إنّ نهى حسين كاتبة جادّة ولافتة، بلا أدنى شكّ، تدفعنا لمتابعة إصداراتها القادمة بحماس.