عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع أنصار العالم الافتراضي نقل إلا جزء يسير من الكتب المطبوعة ورقيا أو الصحف،  للأسف حتى المكتبات الضخمة  غير قادرة على جمع وعرض كل ما طبع.

من هنا كانت الأرصفة في دمشق المكمل الحقيقي لهذا العنصر المعرفي، ولا يمكن تجاهلها في أي مكان من العالم. فمن ناحية هناك تنوع كبير في ما تعرضه من كتب التي تشمل كافة ميادين الثقافة والعلوم والفنون، والأهم من ذلك هي أن بسطات الأرصفة هي المالك الوحيد للطبعات النافدة من السوق والإصدارات القديمة من دون أن تفعل ما تفعله بعض المكتبات إذ لا يوجد اصطفاف سياسي ولا قطيعة مع أي مؤلف، كما أنك تجد على الأرصفة كتباً خاصة بالجامعات وكتب الأطفال واليافعين وقصصهم التي قرأتها الأجيال السابقة من سوبرمان إلى تان تان، المواد التي لا تمكن مشاهدتها في المكتبات الأنيقة، لكنك تضطر لجمع أجزاء الكتب والمجلات من أكثر من مكان كما يحدث حين تريد اقتناء كتاب العقد الفريد. 

قرار محافظة دمشق الأخير (يوم الأربعاء 16 تشرين الأول 2024) والقاضي بإزالة بسطات الكتب المتواجدة منذ سنوات تحت جسر الرئيس، المنطقة الأشهر لبيع الكتب، بذريعة تجميل المكان أثار حفيظة شريحة كبيرة من المثقفين والعاملين في هذا المجال حتى أن البعض وجه عبر منصة فيس بوك دعوة للتوقيع بالاسم والصفة لتوجيه رسالة مفتوحة إلى السيدة وزيرة الثقافة السورية ومحافظ دمشق فحواها “أنه بهذا القرار سِدت آخر رئة لتنفس هواء المعرفة، الهواء الذي يميز كل عواصم العالم من باريس الى القاهرة وبغداد وبيروت، وكأن مثل هذا القرار الجائر قدر دمشق كي تحتضر أكثر فأكثر”. وأشاروا إلى بسطات الرصيف المشهورة في تلك العواصم ومن أبرز الأسماء التي وقعت على هذه الرسالة المخرج السينمائي محمد ملص، والروائي خليل صويلح، والكاتب والمخرج المسرحي سامر محمد إسماعيل والشاعر أوس أسعد وآخرون كثيرون.

 أبو طلال، المحارب القديم المتقاعد، الذي بحث عن عمل يحقق له دخلاً مادياً وسعادة لا يرى أن المقاطعة الثقافية التي صنعتها الحرب وغياب الإصدارات الجديدة مشكلة فمن وجهة نظره هناك الكثير من الكتب المهمة والقيّمة التي تستحق القراءة، والتي لم نطلع عليها بعد. وهناك كتب قيّمة، لا يمكن أن تجدها في أهم وأشهر المكتبات السورية، لكنها متوفرة في بسطته بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي صدرت خلال السنوات الماضية. أضاف بنبرة جازمة: “لا تمكن المقارنة بين أمهات الكتب وكتب التنفيعة التي تصدرها الجهات الرسمية أو بعض دور النشر الخاصة”، وهناك الكثير من الكتب التي يرفض شراءها، أو وضعها ضمن المجموعة التي يقتنيها، لكنه يعتب على بعض الأشخاص الذين ينظرون إلى مكتبة الرصيف بتعال خاصة من أطلق عليهم اسم (البروليتاريا الجديدة)، كما انتقد الحكومة التي رفضت ترخيص أكشاك خاصة لبيع الكتب مثلما فعلت مع أكشاك بائعي التبغ ومشروبات الطاقة. واعتبر قرار إزالة البسطات جائرا بحق باعة الكتب والمواطن غير القادر على اقتناء نسخة جديدة بسبب ارتفاع سعرها بينما بقيت بسطات حمالات الصدر الصينية والثياب المستعملة وورق اليانصيب التي لم يطالها قرار تجميل المكان.

عماد، بائع الكتب الرصيفية، يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والصحف والمجلات لكن الحرب السورية دمرت بيته الذي كان مخزنا لما يزيد عن خمسة آلاف عنوان في منطقة دوما وهو اليوم يضع كمية محدودة من الكتب والمجلات القديمة ونادرا ما يجد طالبا لها. يقول: “المجلات القديمة أهم من المجلات المطبوعة حديثا، بالنسبة لي لا يمكن أن أقارن مجلة شعر أو الآداب  مع ما يأتينا اليوم. إن القيمة الثقافية مختلفة ومضمون النص أهم”. أما عن قلة الكتب لديه فقال: “كان عملنا خلال الحرب أشبه بعمل أي محل مجوهرات، يعرض علينا أن نشتري مجموعات من الكتب وموسوعات أكثر مما يطلب منا كتاب، مجموعات فاخرة، تجليد فني، وأسعار زهيدة، لكن لا أحد يسأل عنها (الجمل بليرة وما في ليرة). المهتمون بالقراءة والمثقفون مفلسون”. وفيما يخص القرار الأخير أعلن أن مورده المادي توقف بشكل كامل.

تحت جسر فكتوريا يفاجئك أبو مهيار (محمود بوكس) كما يسميه أصحاب البسطات المجاورة له فهو ليس مجرد بائع كتب مستعملة بل يمكن أن تطلق عليه اسم (غوغل) فما أن تسأله عن كتاب حتى يعطيك شرحا وافيا عن محتواه وعن مؤلفه ولمحة عن الكتب التي صدرت بخصوص هذا الموضوع، ويرشدك ماذا يجب أن تقرأ ولماذا،  لتكتشف بعدها أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. وما يميزه عن أقرانه هو أن لديه خدمة التوصيل، واللافت أنه يتسوق كتبه من البسطات كأي مقتن للأشياء القيمة، ويواظب على حضور معارض الكتاب في سورية ولبنان. الأرشيف الذي يمتلكه يضم مجلات كروز اليوسف، والآداب، ومجلة شعر ومجلات أخرى مختصة في المسرح والسينما والصحف التي تعود لعام  ١٩٢٠. أما ثروته الحقيقية (مكتبة المنزل) التي كانت تحتوي على خمسة عشرة ألف كتاب فقد التهمتها الحرب مع ابنه ومنزله بالكامل. أبو مهيار متمسك بمهنته ويرفض الهجرة خارج البلاد. يضحك قائلاً: “صار بيع الكتب مثل الدعارة، أو بيع الدخان المهرب. يجب أن تتواصل مع القارئ على الهاتف وتعطيه موعد بالخفاء وتنتبه من أن يراك أحد فيصادرون الكتب”.

أكثر ما يثير شجونك عناوين الكتب التي لن تراها بعد اليوم فقرار الإزالة بدأ ومن لم يجمع كتبه ويرحل تقوم الجرافة بتجريفها كأية أنقاض أو قمامة. ولم يعد بإمكاننا لوم أبي حيان التوحيدي على حرقه لكتبه، ولا لوم الداراني الذي ألقى بمؤلفاته في التنور.

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته “المسرح الجوال” عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين العناصر المسرحية من أهداف هذا النوع الجديد. وجاءت طريقة العرض والاتصال بالجمهور في موقع عمله وحياته اليومية كتلبية لنداء المسرح الجماهيري الفقير الذي حرص على التواصل مع الناس وطرح مشاكلهم، وما لبث أن تحول إلى مسرح آخر يعرض على الخشبة مسرحيات عالمية وعربية ثم يجول على مسارح المدن ذات الشروط الفنية المكتملة، إلى أن بدأ نشاطه ينحسر ويتحدد في المناطق القريبة من دمشق العاصمة، وفي النهاية اقتصر على عرض واحد كانت طبيعته مختلفة عن المسرح الجوال وخالفته من حيث البنية وشرط المكان أو الاقتراب من الواقع الراهن.

كان المسرح الجوال عبارة عن عروض مسرحية مكتوبة بلغة بسيطة وأسلوب فني سهل هدفه مخاطبة الجمهور ببساطة وعمق، أما مهمته الأساسية فتكمن في تطوير الحياة وتغييرها بيد أبنائها وأن يزيد من رقعة جمهوره بشكل مستمر، أما الشكل المسرحي فهو أقرب إلى حلم الشاعر السريالي”أنطونين أرتو” بإزالة جمود العلاقة بين المتفرج والعرض وتغيير العلاقة بين العرض والصالة. ولقد عمل كل من غروتوفسكي ومنوشكين ضمن حلم أرتو فأدخلوا المتفرج في سياق العرض بتحريضه على المشاركة واللاحيادية، فقام غروتوفسكي في مسرح المختبر بالتخلي عن المعماريات والأدوات المسرحية التقليدية، كما تخلى عن تقسيم الفضاء بحدود القاعة والخشبة. وقام لوكا رانكوني الكاتب والمخرج الإيطالي بتحويل سيرك برلين إلى مسرح واسع بلا ستائر ووحّد الحلبة والقاعة التي اتسعت حينها لحوالي ثلاثة آلاف متفرج.

بناء على هذا لا يمكن أن نطلق على المسرح الجوال لقباً جديداً بما أنه جامع للتجارب الذي سبقته وطور على أساسها بما يخدم هدفه. وكان يبدأ عروضه في المناطق السورية التي يذهب إليها بكلمة مدير المسرح ويليها العرض، وفي نهايته يفتح المدير حواراً مع الجمهور حول المشاكل التي شاهدها، وكانت المواضيع متنوعة لكنها تتعلق بحياة الفلاح بشكل رئيسي مثل الهجرة من القرية إلى المدينة، والثقافة الفلاحية، والخوف من السلطة، والمهور والزواج وغيرها.

أعطى المسرح الجوال صورة واضحة عن وضع الحركة المسرحية في سورية، إذ كان ينتقل بالعروض الجديدة من مدينة إلى مدينة ومن ساحة قرية إلى باحة مدرسة أو بهو صالة. لم يكن المكان شرطاً في حد ذاته، فالمهم كان الاتساع وإمكانية الاندماج مع الجمهور ومشاركته في العرض بشكل أو بآخر. وكان العاملون في المسرح الجوال يعدونه من التجارب المثيرة والمهمة، سواء للجمهور أو للمشاركين فيه، فهو يلاقي جمهوره دون أية إضافات أو تزويق يجتلب إيهام المسرح، فهو عبارة عن مسرح مكشوف من دون خشبة أو ستارة أو ديكور أو ملابس أو ماكياج، والشرط الرئيس، بعد ابتعاده عن الديكور والسينوغرافيا والصنعة المسرحية، أنه هو من يذهب إلى الناس والتجمعات بأنواعها الفلاحية والعمالية والطلابية، حتى اكتسبت هذه التجربة ملامحها من المشكلات التي تطرحها بلغة الجمهور نفسه، فكان  يتحول أحياناً للتوعية والإرشاد.

غير أن أهمية المسرح الجوال جاءت من تنقله بين القرى التي لم تعرف المسرح إلا عن طريق الفنون الشعبية التي لازمتها كالأعراس والمآتم، وذلك من دون أن تدرك تلك الجموع أن ما تقوم به هو أحد أشكال المسرح والفرجة.

 قبل أن يحضر المسرح الجوال كان الريف السوري عموماً محروماً من فن المسرح لعدم وجود الصالات أو الفِرق، سواء المحترفة منها والهاوية، إضافة لغياب الإمكانيات الفنية بشكل كامل. في الوقت ذاته وصل المسرح إلى نصف سكان سورية، وأطلق حواراً بين الفلاحين أنفسهم وبين الفلاحين والمسرح، فاعتبره الفلاح في مرحلة ما وجهاً من أوجه السلطة. وكان يترك الجمهور يواجه نفسه بالبحث عن حلول تناسب قضاياه دون الاتكال على الآخر، لأن المشاكل تختلف بين قرية وقرية، بحسب قربها أو بعدها عن المدينة، وتضاريسها ومناخها، فضلاً عن الالتحام الذي كان يحصل بين المشاهد والممثل من خلال طريقة العرض.

كان القائمون على هذا النوع من المسرح يكيفون عروضهم مع متطلبات البيئة وواقع الحال في الريف السوري وبيئاته الشعبية، فكان الكاتب يختار المشاكل اليومية والراهنة في بعض الأحيان، وعروضاً كوميدية وترفيهية أو اجتماعية أو سياسية أحيانا أُخرى. الفكرة الأساسية تعنى بالإرشاد القومي، ثم يسردها في حوار يتناسب مع لغة المتلقي من حيث قاموس المفردات وأسلوب الطرح وطرق المناقشة، وفي بعض العروض كان الجمهور شريكاً حقيقياً يشارك الممثلين في حواراتهم، فيتحول العرض إلى ما يشبه الندوة الفكرية، حتى بات للمسرح الجوال خصوصيته المكانية والزمنية والتقنية، فتحرر من شرط الصالة والوقت والقراءة الواحدة للعرض.

قدّم المسرح الجوال قرابة ألف عرض مسرحي في سبعمائة قرية سورية، حتى أنه في عام 1976 حطَّ رحاله في دمشق وقدم عرضاً باسم “الدنيا أخد وعطا” من تأليف  أحمد قبلاوي وإخراج حسين إدلبي. أما السبب الرئيس لتقديم عروضه في العاصمة فقد كان لفت الأنظار إليه. وكان العرض الأول للمسرح الجوال بمثابة عرض تجريبي. كما قدّم عرضاً في قرية “بدا” محافظة دمشق، وكانت التجربة ناجحة، وتلقاها الفلاحون بشغف، فاندمجوا مع العرض، وتدخلوا في مجرى الأحداث، وبدأت مناقشة بعد العرض بشكل تلقائي، فطالبوا بأن تتكرر زيارات المسرح الجوال لقريتهم، علماً أن العرض لم يتجاوز الثلاثين دقيقة. وخلال شهر واحد قدّم أربعة وستين عرضاً في أربع وستين قرية.

كان من أهم عوامل نجاح المسرح الجوال ذهابه إلى الناس والفلاحين والبسطاء  الذين لم يفكروا يوماً في السفر إلى المدينة لحضور عرض مسرحي، فلا التوقيت مناسب للذهاب والعودة، ولا أحد يعلمهم بتاريخ وتوقيت العروض المسرحية في المدن، ناهيك عن العبء المادي. وكان الاندماج الحاصل بين الممثلين والجمهور من حيث مكان الجلوس أحد عوامل النجاح، فكان الممثل بعد أن يؤدي دوره يعود للجلوس ببساطة وسط الجمهور، سواء في مضافة أو مرج أو ساحة، فلا يختفي الممثل في هذا النوع من الفرجة خلف الكواليس. وكان الجمهور يشارك أيضاً في الحوار الذي يلي العرض، وتتفاعل فيه الآراء المتناقضة، إذ كان يتيح العرض الجوال لكل فرد إبداء رأيه، إضافة لبساطة الإخراج ومحلية النص والمضمون على مستوى اللغة أو الموضوع.

كان أبرز من عمل في المسرح الجوال ممدوح عدوان ومحمد الماغوط وعبد اللطيف فتحي وأيمن زيدان، وهذا الأخير أخرج للمسرح الجوال نص “رحلة حنظله” المستند إلى نص لسعد الله ونوس. كما قدم سهيل شلهوب عرض “المهرج ” للراحل محمد الماغوط  ثماني وعشرين مرة، وقدم المخرج يوسف حرب “حكايات للريف”-وهو نص لأسعد فضة إحدى وثلاثين مرة. وكانت بعض النصوص تنتمي للأدب العالمي مثل “المجنون” للروائي والمسرحي ميخائيل بولغاكوف، و”المنافقون” للكاتب المسرحي الإنكليزي بن جونسون، و”المحقق” للكاتب الروائي والمذيع جون بي بريستلي. وقدم المخرج صلاح الهادي بدوره نصاً بعنوان “مأساة مضحكة” كان قد اقتبسه عن نص مسرحي بعنوان “الكوميديا السوداء” للكاتب البريطاني بيتر شافر. ومن النصوص العربية قدم عرض “المهزلة الأرضية” للقاص يوسف إدريس.

لم يعلن توقف المسرح الجوال، واستمر الاسم من غير مضمون، وأخذ الاسم على عاتقه تقديم الأعمال الكوميدية كونها تجذب جمهوراً أوسع. والجدير بالذكر أن الفنان أيمن زيدان كانت له تجربة جيدة فيما قدمه لكنها لم تستمر طويلاً.

 تعثر المسرح الجوال منذ انطلاقته في السبعينات، ربما لأن القائمين عليه لم يدركوا طبيعته ما جعلهم يبتعدون عن أهدافه. وبدأ عدد العروض ينخفض ففي عام ١٩٨١ كان ضمن برنامجه عرض وحيد فقط هو “مهاجر بريسبان” تأليف جورج شحادة وإخراج طلال الحجلي، لكن مكان العرض لم يكن في الأرياف والساحات، بل على خشبة مسرح القباني في العاصمة دمشق. وبدأ اختيار عروض لا تتناسب طبيعتها وطبيعة المسرح الجوال، لا من حيث خصوصية العرض المسرحي ولا مخاطبة الجمهور فالعرض المذكور لجورج شحادة كان عبارة عن مسرحية شعرية تنتمي إلى تقاليد المسرح في الغرب، ولا بد من توافر عدة شروط أولها الخشبة وجانب الإيهام في التلقي واللغة المسرحية، وكل الشروط كانت تخالف الطريقة التي انتهجها المسرح الجوال.

بتوقف النواة المسرحية الأولى انعدمت الحركة المسرحية والفنية في القرى والمدن التي ليس فيها مسارح أو صالات عرض سينمائية. ولم يعد متاحاً أمام الموهوبين الفرصة الأولى لتلمس طريقهم، الأمر الذي أثّر على رفد الحركة المسرحية بعناصر جديدة. وبدلاً من أن يبقى على وضعه الأول أو تتم زيادة كوادره غاب المسرح الجوال بشكل كامل، وذلك بعد أن بات له جمهور ينتظر عروضه من مختلف الأعمار واستطاع أن يتجاوز عدة إشكاليات أهمها العلاقة بين المسرح ووسائل التواصل، وبعد أن كان دوره هامشياً بالنسبة للجمهور صار محورياً، وبدلاً من أن يكون الجمهور متلقياً تحول إلى مشارك، وهو نوع من التكافؤ الإبداعي، فلا النص ولا صناع العرض مارسوا الدور القمعي المتسلط ولا الجمهور مارس هذا الدور، لأن الاتصال المباشر جرد الطرفين من سلطتهما القمعية.

في النهاية إن توقف هذا الشكل المسرحي الحي صادر إمكانية تغيير الواقع الحياتي والمسرحي، أو احتمال حدوث فعل تغييري في الجمهور، وعادت الجماهير السورية لتكريس الموروث وحراسة المقدس والقفز نحو الاستهلاكي من وسائل الفرجة.

جدَليّات أساليب وجود العولمة (ثقافيّاً وحضاريّاً) بينَ أنساق المُطابَقات وأنساق الاختلافات في قصّة “حكاية الرّوح التّائهة في أوربّا” للقاصّ السُّوريّ (مصطفى تاج الدّين الموسى)   

جدَليّات أساليب وجود العولمة (ثقافيّاً وحضاريّاً) بينَ أنساق المُطابَقات وأنساق الاختلافات في قصّة “حكاية الرّوح التّائهة في أوربّا” للقاصّ السُّوريّ (مصطفى تاج الدّين الموسى)   

يُشكِّلُ هذا البَحث الفصلَ الثَّالثَ من كتابي[1] المَوسوم بـِ “انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها”، والذي فازَ مَخطوطُهُ بـِ (جائزة الطَّيِّب صالح العالميّة للإبداع الكتابيّ)، مَجال الدِّراسات النَّقديّة (المركز الثَّاني)، دورة 2018/ 2019.

وقد نُشِرَ هذا الكتاب في طبعتِهِ الأُولَى في العام 2019 بالعُنوان نفسِهِ، وذلكَ من قبَل هيئة الجائزة (الشَّركة السُّودانيَّة للهاتف السَّيَّار/ زين _ الخرطوم/ السُّودان _ 2019). 

وهذهِ الدِّراسةُ (غير المنشورة إلكترونيَّاً من قبل) هيَ مُحاوَلةٌ تطبيقيَّةٌ لمَنهج التَّأويل الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ للانزياح (المَنهج الأُنطُو/ ثقافيّ)، الذي اقترحتُ أُسُسَهُ النَّظَريَّةَ وآليَّاتِهِ الإجرائيَّةَ (المبدئيَّة) في الفصل الأوَّل من هذا الكتاب، واختبرتُهُ تطبيقيَّاً بدراسةِ هذهِ القصَّة في الفصل الثَّالث، وبدراسةِ روايةِ “حارس الفيسبوك” للرِّوائي المصري (شريف صالح) في الفصل الثَّاني، وقصيدةِ “اللَّيلُ الذي يعقبُ نهايةَ الدِّيكتاتور” للشَّاعر المغربيّ (محمَّد بنميلود) في الفصل الرَّابع.  

مدخل تعريفيّ بقصّة “حكاية الرّوح التّائهة في أوربّا”

تُمثِّلُ هذه القصّة القصيرة القصّة العاشِرة في مجموعة القاصّ “مصطفى تاج الدّين الموسى“: “آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة“، الصّادِرة عن دار فضاءات للنَّشر والتَّوزيع في عمّان (الأردن)، وذلكَ في طبعتِها الأُولى في العام (2017). 

تبدأ القصّة بسرد الرّاوي لبعض التَّفاصيل عن حياتِهِ في دمشق، حيثُ يعيشُ في ظروف أُسَريّة اجتماعيّة واقتصاديّة صعبة، فلا يجد عمَلاً، على الرّغم من أنَّهُ خرّيج (كلِّيّة الآداب/ قسم اللُّغة الانكليزيّة).

تتسلَّل إلى ذهنه فكرة كتابة رواية، ونشرِها باسم “عيسى زكريّا” بوصفِهِ مُترجماً عربيّاً ترجَمَها من الأدب الانكليزيّ لروائيّ مُتخيَّل اسمُهُ “باتريك جيمبسون”، وسبب ذلكَ أنَّ الوسط الثَّقافيّ والإعلاميّ والقرّاء السوريّين والعرب لن يهتمّوا بها إذا نشرَها باسمِهِ، في حين أنَّها ستلقى رواجاً كبيراً إذا كانت رواية مُترجَمة من الأدب الغربيّ، وسيحلّ ذلكَ مشكلاتِهِ المالية والحياتيّة.

وبالفعل، يُقدِّم الرِّواية (المُترجَمة) إلى دار نشر بعد موعد عمَل مع مدير تلكَ الدّار، وتوافق لجنة القراءة على نشرِها بعد ذلكَ، ليوقِّع العقد، ويقبض مبلغاً جيِّداً، ويتَّفق على نسبة الأرباح.

وبعدَ طباعتِها ونشرِها، تُحقِّق الرِّواية شُهرة كبيرة، ونسبة مبيعات عالية، وتحظى باهتمام نقديّ وإعلاميّ هائل، وتُطبَع طبعة ثانية!

وفي الوقت الذي يُفكِّر فيه الرّاوي بترجمة رواية ثانية لِـ “باتريك جيمبسون”؛ أي بكتابة رواية جديدة، والادّعاء ثانيةً أنَّها مُترجَمة عن الأدب الانكليزيّ، يتَّصل به شخص مجهول يدَّعي أنَّهُ المُؤلِّف الحقيقيّ للرواية “باتريك جيمبسون”، ويطالب الكاتب/ الرّاوي “المُترجم عيسى زكريّا” بحصَّتِهِ من الأرباح.

يفقد الرّاوي أعصابه، ويهرب خائفاً من البيت إلى منزل صديقه أدهم، ثُمَّ يتَّصل هاتفيّاً بوالدتِهِ التي تُخبرُهُ أنَّ صديقَهُ “باتريك جيمبسون” ينتظرُهُ في البيت، وهو شخص لطيف، وقد أعطتْهُ غرفتَهُ لينزل فيها.

يزدادُ اضطراب الرّاوي، ولا سيما حينما يبدأ باتريك بمُلاحقتِهِ في أحياء دمشق وشوارعها، إلى أنْ تخطر ببالِهِ فكرة “عبقريّة”، مفادُها أنْ يسجن باتريك في دمشق (أي أن يمنعَهُ من مُغادرتِها)، وذلكَ بتزوير جواز سفر عن طريق عصابات دوليّة، وبمُساعدة خال صديقِهِ أدهم، باسم “باتريك جيمبسون”، ثُمَّ السَّفر بواسطتِهِ إلى لندن.

وفعلاً، يُسافر “عيسى زكريّا” باسم “باتريك جيمبسون” إلى لندن، ويبدأ حياتَهُ هُناك في العمَل في مطعم، مُستفيداً من كونِهِ يُتقن اللُّغة الانكليزيّة (فهو خرّيج قسم الأدب الانكليزيّ كما ذكرْتُ)، إلى أنْ يقع في حُبّ فتاة إنكليزية اسمها “مارغريت”، لكنَّ والدَها “اللّورد تشارلز” يرفض علاقتَهُما بدعوى أنَّهُ لا يقبل أنْ يكون شريك ابنتِهِ من مُستوىً اجتماعيّ أقلّ (فهو غاسِل صحون في مطعم).

تدفَعُ هذه الصَّدمة الرّاوي للبَحث عن طريقة يُثبتُ فيها ذاتَهُ، وأنّهُ شخص مُهمّ، فيفكِّر بنشر روايتِهِ التي نشرَها في دمشق، لا بوصفِهِ مُؤلِّفاً لها، لكن بوصفِهِ مُترجِماً لها عن اللُّغة العربيّة إلى اللُّغة الانكليزيّة، وذلكَ بالادّعاء أنَّها رواية تعود لكاتب شاب مات مُنتحِراً منذ زمن في دمشق، واسمه “عيسى زكريّا”.

وكما فعَلَ في دمشق، طلَبَ موعداً مع أحد أصحاب دور النَّشر في لندن، وعرَضَ عليه الرِّواية، التي أثارَت إعجابه، فقرَّر نشرَها، لتُحقِّقَ من جديد أرباحاً خياليّة وشهرة واسِعة، ولتتصدَّرَ قائِمة الرِّوايات الأكثَر مبيعاً في إنكلترا وعدد من الدُّول النّاطقة بالإنكليزيّة، ولتطبَعَ طبعتين ثانية وثالثة، وليعرُض مُخرِج مهمّ من ويلز على “باتريك” أنْ يُحوِّلْها إلى فلم سينمائيّ.

تدفَعُ الحياة الجديدة والشُّهرة، والغنى المادّيّ، باتريك، للتَّفكير بترجمة رواية ثانية لِـ “عيسى زكريّا”، لكنَّ جرس الهاتف يرنّ فجأة، ليقول لهُ المُتحدِّث المجهول إنَّهُ مُؤلِّف الرِّواية الحقيقيّ “عيسى زكريّا”، وإنَّهُ يُريد حصَّتَهُ من الأرباح.

تتكرَّرُ حالة الهلَع والذّعر والهروب عند الرّاوي، ويُلاحقُهُ “عيسى زكريّا” في شوارع لندن، ويدخل باتريك في حالة من الكوابيس والإدمان على الخمر، غيرَ أنَّهُ يتشجَّع على لقاء عيسى، وحسم القضيّة معه، وذلكَ عندما يتَّصل به هاتفيّاً للمرّة الثّانية، فيتفقان على موعد ومكان للقاء تحت جسر لندن.

حينَ يصل الرّاوي إلى مكان الموعد وسط ضباب شديد، يفاجأ بشبحين بجانب ضفّة النَّهر، فينحني ويختبئ بينَ الشُّجيرات، ليشهَقَ بعدَ ذلكَ شهقةً عظيمة ويُذهَل عندما يعرف أنَّ هذيْن الشخصيْن هُما: “عيسى زكريّا” و”باتريك جيمبسون”!!

يبدأ “عيسى” و”باتريك” في الشِّجار العنيف، ويتبادَلان اللَّكمات القويّة، والرَّكلات القاسية، ويعجز الرّاوي عن فكِّ الاشتباك بينهُما، فتسيل الدِّماء منهُما، ويتدحرجان إلى ضفّة النَّهر، وتزداد وحشيّة صراعهما، فيجرُّهُما الماء بهدوء إلى منتصف النَّهر، وعندما يجدان نفسيهما مُهدَّديْن بالغرق، ينسيان الصِّراع، ويصرُخان طلباً للمُساعدة من دون جدوى، حيث يبتلعهُما النَّهر، ويغرقان في قاعه.

يشعر الرّاوي بعد موت “عيسى” و”باتريك” بأنَّه روح تائهة بلا بشريٍّ يستر وحشتَها، روحٌ تتجوَّلُ في فضاء كونيّ من الصَّمت والسُّكون، ولم يبقَ منها سوى (رواية) لها كاتبان ومُترجمان في بلديْن مُختلفيْن!!.

أوَّلاً: انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة والحضاريّة) في عصر العولمة بينَ منظومة القيَم، وسُلطة السُّوق وثقافة التَّسليع والاستهلاك

تُشكِّلُ الآنيّة الحاضِرة والانفعال اللَّحظيّ افتتاحيّة تأسيسيّة للقصّة، فالراوي الذي يُفترَضُ أنْ يكونَ مُعزَّزاً مُكرَّماً في بلدِهِ، يعيشُ فاقة وفقراً وعجزاً عن الكينونة الأصيلة، حيثُ يبحثُ يائساً عن فرصة عمَل، وهو الخرّيج الجامعيُّ المُثقَّف والمُسلَّح بالمعرفة والثَّقافة.

ولعلَّ دلالات هذِهِ الحالة، لا تُتعِبُ المُتلقِّي أو القارئ المُتمعِّن كثيراً، لإحالة مرجعيّة المُستوى الوقائعيّ في بُعدِهِ الثَّقافيّ هُنا، إلى صراع منظومة القيَم مع سُلطة السّوق، وهو الأمر الذي يدفَعُ الباحث لتقليب المُستوى التَّاويليّ، ثُمَّ التَّساؤل: ما مدى حُضور انزياح أساليب الوجود الثَّقافيّة/ الحضاريّة بوصفِها مُطابَقات عولَميّة في هذا الواقع الذي يعيشُهُ الراوي، وهيَ المسألة التي ستنجلي بتفصيل ووضوح في التحليلات الآتية:

1_ “مرّتْ سنتان، في الصباح أتجوّل _ مستعيناً بدراجتي الهوائية _ في المدينة بين الشركات والمؤسسات والمدارس الخاصّة بحثاً عن فرصة عمل، ولو كـ مستخدم، لا مشكلة.. وفي المساءات أتسلّى بقراءة الروايات”[2].

2_ “تخرجتُ منذ سنتين من كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزيّة، ولم أعثر حتى الآن على فرصة عمل، لولا الراتب التقاعدي للمرحوم أبي لكنّا _ أنا وأمي _ قد متنا جوعاً في بيتنا الكئيب هذا”[3].

3_ “أخجل دائماً من أمي، لو أنّني أستطيع مساعدتها في تحسين أوضاع بيتنا وحياتنا قليلاً، علّها تفرح وترتاح هذه العجوز”[4].

تُسيطر أزمة البَحث عن فرصة عمَل على الراوي، الذي يقبل حتّى بالعمَل كمُستخدم، وهذِهِ أوَّل إشارة رمزيّة لافتة إلى خلخلة منظومة القيَم بتأثير منظومة السّوق، فضلاً عن إشارة ثانية تتعلَّقُ بتنقُّل الراوي على درّاجتِهِ الهوائيّة لا بوصف ذلكَ فعلَ رفاهيّة؛ إنَّما بوصفِ الدرّاجة وسيلة بدائيّة في مُعظَم دول العالَم الفقيرة للتَّنقُّل المجّانيّ، لتنزاح فكرة الرّفاهيّة عبرَ الإشارة الثّالثة والحاسِمة هُنا، والمُتعلِّقة بتسلية الراوي مساءً بقراءة الروايات، ففعل التَّسلية يُشير إلى انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) من المُمارَسة الجادّة والأصيلة للثَّقافة إلى مُطابَقة ثقافة التَّسليع والاستهلاك العولميّ حتّى للمُنتَج الثَّقافيّ الذي يُفترَضُ أنْ يعكسَ مُستويات البنية الحضاريّة للمُجتمَع.

وفضلاً عمّا سبَق، يُحيلُنا المقبوس السّابق إلى تساؤل عميق عن دور الدَّولة الوطنيّة في تأمين فرص العمَل ومُحارَبة البطالة ووضع الرَّجُل المُناسِب في المكان المُناسب، وإلى أيِّ حدٍّ قد انزاحَتْ سُلطتُها وقوَّتُها أمام طُغيان سُلطة السّوق العولميّة؟

في ضوء ما يحيط بالراوي من ضائقة مادّيّة تفرض عليه الاغتراب عن ذاتِهِ الثَّقافيّة، تخطر في باله الفكرة الآتية: “تذكرت.. لماذا لا أكتب رواية؟ ثمّة فكرة جميلة تجول في عقلي منذ زمن وأعتقد أنها قد نضجتْ، أشعر بأنها سوف تكون رواية مميزة، خصوصاً أنّه لا يوجد فيها ماء، ولنفترض أنها قد تكون عادية، على الأقل أثناء كتابتها أحمي روحي من هذا التشرد في مساءات الملل والحساء الفقير.

لم أتريث حتى لدقيقة، التقطتُ قلمي وبدأتُ بالكتابة على دفترٍ متواضعٍ.. كنتُ متحمساً للغاية، حتى أنا شخصياً استغربتُ جداً من هذا الحماس الذي لا أعرف من أين جاءني”[5].

من الواضح أنَّ قرار الراوي كتابة رواية لم يأت رمزيّاً ودلاليّاً ليُشير إلى فعل (ثقافيّ/ حضاريّ) ضمن مشروع مَعرفيّ أصيل؛ إنَّما كانَ هذا القرار ردّة فعل لا تخلو من جانبٍ عبثيٍّ على واقعِهِ المَعيشيّ: “بعد ثلاثة أشهرٍ ونصف أنهيتُ كتابتها، كل يوم وبعد قيلولة الظهر مستعيناً بفناجين القهوة والسجائر أبدأ بالكتابة حتى ساعةٍ متأخرة من الليل، بينما أمي طوال هذه الأسابيع كانت تراقبني عن كثب بخوف، استمتعتُ كثيراً بكتابتها.. متعة حقيقية، تمنيتُ لو أنها لم تنتهِ معي، رسم كلماتها على الأوراق منحني سعادة لا توصف.

في المساء الذي أنهيتُ فيه كتابتها لم أصدق بدايةً، أَيعقل أنّ فاشلاً مثلي كتب رواية!.. يا إلهي. سرعان ما طار عقلي من الفرح، قفزتُ إلى منتصف غرفتي وبدأتُ أغني وأرقص وأصفق بفرح مثل مجنون مخمور، صحيح أنّني فشلتُ في العثور على عمل لكنني كتبت رواية، يبدو أنّني منذورٌ فقط للأشياء العظيمة”[6].

نعم، كتب الراوي روايتَهُ بوصفِها ردّة فعل كما يكشف قوله هو نفسه: “صحيح أنّني فشلتُ في العثور على عمل لكنني كتبت رواية“، وكتابةُ هذِهِ الرواية ليسَتْ إلّا تعبيراً عن أزمة وجوديّة حادّة يعيشُها الرّاوي تظهَر من حيث المبدأ في المُستوى المادّيّ الاقتصاديّ لحياتِهِ، فهو شخص مُحاصَر بالغربة، والغربة قد تكونُ “غربة عن المكان بالسفر، أو النَّفي، أو الهجرة، لكنَّها قد تكون أيضاً غربة في المكان”[7].

وهكذا، ينتقل الراوي بعدَ كتابة روايته إلى مرحلة التَّفكير في نشرها، وهُنا الطّامّة الكُبرى ذات الدَّلالات العميقة، فها هو ذا يقول: “أنا أعرف جيداً كتّابَ هذه البلاد التعيسة ونقّادها وصحفييها، لن يكون لديهم أيُّ وقتٍ للاهتمام بروايةٍ لشابٍ مغمور مهما كانتْ مهمة، كل اهتمامهم ينصبّ على الكاتبات والشاعرات الناشئات، وكلّما قَصُرَتْ تنّورة إحداهنّ ازدادَ في الجرائد والمجلات عددُ الدراسات النقديّة التي تتناول أهمية إبداعاتها”[8].

بعدَ أنْ أظهَرَتْ أزمة البَحث عن فرصة عمَل، وحالة الفقر والبطالة تهافت منظومة القيَم على نحْوٍ يُرجَّح التحاق الراوي بانزياح أساليب الوجود لصالح مُطابَقات العولمة، كما هو الحال في الدول الضَّعيفة أمام قوّة سُلطة السّوق، يأتي المقبوس السّابق ليكشُفَ اختلالاً آخَر في منظومة القيَم المحلِّيّة على المُستوى الثَّقافيّ المُنتِج لفعاليّات الحضارة، فالوسط الثَّقافيّ، وعلاقاتِهِ المأفونة، وشروط النَّشر والتَّرويج، تعكسُ انزياحات كبيرة في أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة)، وهذِهِ الانزياحات بقدر ما تخضع للمُستوى الوقائعيّ المحلِّيّ، لا تنفصل بحالٍ من الأحوال عن مُطابَقات العولمة وثقافة التَّسليع والاستهلاك الرَّخيص ثقافيّاً، وغياب الخُصوصيّة الإبداعيّة أمام النَّفعيّة الشَّخصيّة، وترقيم البشر وأعمالهِم بوجهٍ عام، والمُثقَّفين ونتاجاتهِم بوجهٍ خاص، وهذا الأمر يتَّضح بجلاء في تسلُّل الفكرة الآتية إلى الراوي: “تنهدتُ وهذا الحزن في صدري يشتهي سيارة فأشعلتُ واحدة، عندئذٍ خطرتْ في بالي فكرة جميلة يمكن أن تنقذ روايتي من الموت.. أتذكر أنّني قد قرأتُ منذ سنوات في قصة قصيرة من الأدب العالمي عن مبدع يكتب روايات لكن لا أحد يكترث بها، وبجنونٍ غريب بدأ بطباعة رواياته تحت اسم أجنبي على أنها من الأدب الأجنبي لتلقى رواجاً غير طبيعي”[9].

تُظهِر هذِهِ الفكرة أنَّ تهافت منظومة القيَم ثقافيّاً وحضاريّاً أمام سطوة التَّسليع والتَّرويج ليست خاصِّيّة محلِّة فقط في عصر العولمة، وهذا الأمر يتَّضِح في الشّاهدين الآتيين اللَّذين يُصف أوَّلُهُما موعد (المُؤلِّف: المُترجم المُزيَّف للرواية عن الأدب الإنكليزيّ) مع صاحب دار نشر في دمشق، ويصف ثانيهُما اتّصال صاحب دار النَّشر في لندن بهذا (المُؤلِّف: المُترجم المُزيَّف للرواية عن الأدب العربي):

1_ “قلت لـ باسم علاء وأنا أجلس بنزق لأشعل سيجارة، ابتلعتُ ضحكاتي بعد دخولي وأنا أصافح عدة رجال حول مكتب السيد علاء، يبدو أنّهم اللجنة الاستشارية للدار.. كلهم يشبهون الفقمات، إلا واحداً.. يشبه بطريقاً.

شربتُ القهوة وأنا أضع ساقاً على أخرى، ثمَّ وقعنا العقد لأقبض فوراً مبلغاً جيداً واتفقنا على نسبة الأرباح.

خلال أسبوعين كانت الرواية قد طبعتْ ووزعتْ على كل المكتبات، مع بعض الإعلانات عنها في المجلات والجرائد”[10].

2_ “اتّصل بي اللورد جيمس على هاتف المكتب في المطعم:

_ عزيزي باتريك.. الرواية رائعة جداً، قد أذهلتني فعلاً.. رواية عظيمة لا يمكن أنْ تبدعها سوى روحٍ شابة تنوي الانتحار بعيداً عن هذا العالم.. هل من الممكن أنْ تأتي الآن إلى مكتبي حتى نوقع العقد؟..

_ أعتذر صديقي.. الآن لا أستطيع، لديّ بعض الأطباق ويجب أنْ.. عفواً لديّ بعض المواعيد، نلتقي صباح الغد”[11].

هيَ إذن آليّات سوق مُتحكِّمة بدور النَّشر، ولها حساباتُها النَّفعيّة أكثر من أنْ تكون حسابات إنتاج إبداع ثقافيّ له أفق حضاريّ، فصاحب دار النَّشر في دمشق، ولجنة القراءة عنده، تبنّوا نشر الرواية لأنَّها (مُترجَمة عن الأدب الإنكليزيّ لكاتب يُدعى باتريك جيمبسون)، وهذا ما يضمن رواجَها واستهلاكها مثل أي سلعة في عصر العولمة.

كما أنَّ صاحب دار النَّشر في لندن تبنّى نشرَها لأنَّ انتماءها إلى الأدب العربيّ سيُثير فضول القارئ الإنكليزيّ، وستنتشر بالتَّأكيد مثل أيّة سلعة تُستهلَك بسُرعة مادامَت الرواية (مُترجَمة عن الأدب العربيّ لكاتب يُدعى عيسى زكريّا).

في دمشق، حققت الرواية نجاحاً مُنقطع النَّظير، وفي لندن حدَثَ الأمر نفسه، وفي الحالتين يبدو واضحاً هذا الانزياح الهائل في منظومة القيَم الثَّقافيّة المُنتِجة للحضارة، ومُطابقتِها لتمركُزات حُضور العولمة عبرَ سُلطة السّوق وثقافة التَّسليع والاستهلاك، وهذا واضح تماماً في المقبوسين الآتيين:

1_ “مبيعاتها خلال شهرين جعلتنا نشهق مندهشين، كانت أعلى مما خمنّا، وثمّة العديد من المقالات والدراسات كتبتْ عنها ونشرتْ في عدة مجلات وجرائد.

بعد أشهرٍ قليلة طبعتِ الرواية للمرة الثانية مع عقدٍ جديد ينص على أرباح أعلى، وأول كلّ أسبوع كان السيد باسم علاء يرسل لي المال مع سائقه الخاص”[12].

2_ “بعد أنْ وقَّعنا العقد بأسبوع صدرتْ الرواية ووزعتْ على كل المكتبات في المدن الإنكليزيّة، الأرباح كانت خياليّة والرواية حققتْ نسبة مبيعات عالية، لتتصدر قائمة الروايات الأكثر مبيعاً ضمن قوائم خاصة بالفن الروائي، سرعان ما صدرتْ طبعة ثانية وثالثة لها خلال أشهر قليلة وصارتْ توزع أيضاً في البلدان الناطقة بالإنكليزيّة.

أحد المخرجين السينمائيين المهمين من ويلز، اتّصل بي وحدثني حول رغبته لتحويل هذه الرواية إلى فيلمٍ سينمائي عالمي”[13].

إنَّ التَّشابُه المعكوس بين (مُؤلِّف ينشر رواية في دمشق، ويدَّعي أنَّها مُترجَمة عن الأدب الإنكليزيّ)، و(مُؤلِّف ينشر رواية في لندن، ويدَّعي أنَّها مُترجَمة عن الأدب العربيّ)، هو تشابه إلى حدّ التَّطابُق، فحتّى دوافع كتابة الرواية، أو بالأحرى ترجمتِها إلى اللُّغة الإنكليزيّة في لندن لا تختلف كثيراً عن دوافع كتابتِها في دمشق، ففي الحالتين لم يأتِ قرار الراوي بكتابة رواية رمزيّاً ودلاليّاً ليُشير إلى فعل (ثقافيّ/ حضاريّ) ضمن مشروع مَعرفيّ أصيل؛ إنَّما كانَ هذا القرار ردّة فعل على المُستوى المعيشيّ في دمشق، وعلى المُستوى المعيشيّ/ الطَّبقيّ في لندن كما يُظهِر المقبوسان الآتيان:

1_ “الصيف الماضي عشتُ قصة حبٍ ملتهبة، كانت مرهقة جداً لسريري مع الحلوة مارغريت، لكن والدها اللورد تشارلز رفض فكرة الخطوبة بيننا، لأنّني _ بحسب مزاجه الغريب _ لستُ مثلهم من السلالات النبيلة، وملامحي تدل على أنّني من أصولٍ إيرلنديّة، ولا أجيد شيئاً في هذه الحياة سوى غسل الأطباق. قال بغضبٍ لابنته:

_ عزيزتي مارغريت.. أنتِ لست طبقاً..

يا إلهي كم كان كلامه هذا مهيناً لذاتي عندما وصلِني، هذا الكلام المؤلم جعلني سجين غرفتي لأيامٍ عديدة أفكر بأرقٍ كيف أثبت للورد تشارلز أنّني لست قليلاً كما يظن”[14].

2_ “عندئذٍ خطرتْ في بالي فكرة رائعة جعلتْ كل خلايا جسدي تقشعر، قلتُ في سري:

_ لماذا لا أطبع هنَا في لندن تلك الروايَة الجميلة، التي كتبتها عندما كنت عيسى في دمشق؟..

فكرتُ طوال الليل، ثمَّ قررتُ فجراً.. سوف أعيد كتابة روايتي تلك لكن هذه المرّة باللغة الإنكليزيّة، وبما أنّ النقاد هنَا أذكياء جداً لن أكتب عن غلافها أنها من تأليفي أنا باتريك جيمبسون، فيحاولون اكتشاف ثمَّ يعرفون أنّني لست إنكليزيّ الأصل، فأجلب بهذا لنفسي المتاعب.. سأدعي أنّني مترجمتها، وأنّ هذه الرواية لروائي شاب مات منتحراً منذ زمن في دمشق واسمه عيسى زكريا”[15].

في الحالتين نحنُ أمام عناصر دراميّة تنتمي إلى منظومة قيَم لا تخلو من الاستهتار المُخيف، فضلاً عن جانب خطير من العبثيّة.

وفي الحيِّزين الزَّمكانيين (الشرق _ الغرب) تضيع الثَّقافة، ويخفت الحُلم الحضاريّ البنّاء، وتتحوَّل (المُثاقفة) إلى سلعة، وتنزاح أساليب الوجود لتكشف عن نسَق ظاهريّ يُطابِق سُلطة السّوق وتقنيّات الاستهلاك ونفعيّة العمَل الإبداعيّ السَّطحيّة، وهذِهِ النَّفعيّة ليسَتْ مرفوضة على نحْوٍ إطلاقيّ؛ لكنَّ إشكاليتَها تكمُن في غياب الأصالة والمشروع الثَّقافيّ المُنبثق عن همّ حقيقيّ ينتمي إلى حُلْم تخليق الحضارة.

ثانياً: انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة والحضاريّة) في عصر العولمة بينَ التَّماسُك المَعرفيّ، وسُيولة انتقال المَعلومات

لعلَّ أحد أهمّ المُستويات التي يبسطُها عالَم هذِهِ القصّة في ميدان الاهتمام الخاصّ بها، هو التَّهافت المَعرفيّ في العلاقات بين الشُّعوب، ولا سيما بين (الشّرق والغرب).

وتستمدُّ هذِهِ الإشكاليّة خطورتَها عبرَ مراحل النُّمو الدّراميّ في القصّة من استقالة من ينبغي أنْ يتصدّوا لدور النُّخب من واجباتِهِم الثَّقافيّة والحضاريّة في عصر العولمة.

في دمشق، وفي لندن، تضيع مَعالِم الأصالة المَعرفيّة، وتحضر سُيولة انتقال المَعلومات غير المُدقَّقة على نحْوٍ مُريع، وتتعرّى الأمِّيّة الثَّقافيّة أمام سُلطة السّوق ومنظومة التَّسليع والاستهلاك والرّبح السَّريع، وتتحوَّل المَعرفة ورموزها وتاريخ البشر إلى شظايا أو شذرات تفتقد للتماسُك المَعرفيّ.

هذا ما حصَلَ في جلسة (المُؤلِّف: المُترجم المُزيَّف) في دار النشر في دمشق، وهذا ما تكرَّرَ في جلستِهِ في دار النشر في لندن:

1_ “في ظهر اليوم التالي ارتديتُ ثيابي وتأبّطتُ ظرفاً كبيراً أصفر اللون فيه مخطوط الرواية، ثمَّ ركبتُ دراجتي الهوائيّة لأقودها عبر الشوارع إلى دار النشر. أخبرتُ السكرتيرة أنّني المترجم عيسى زكريا، وذكرتها بموعدي مع الأستاذ باسم علاء، الناقد المعروف وصاحب هذه الدار.

عندما دخلتُ مكتبه كدتُ أنفجر ضاحكاً، بدا لي من خلف مكتبه أشبه بالفقمة، ابتلعتُ ضحكتي ثمَّ جلستُ أمامه لأحدثه عن هذه الرواية التي ترجمتها بأمانة عن الأدب الإنكليزي.

سألني عن اسم كاتبها فأجبته: (باتريك جيمبسون)، مطَّ شفته السفلى وهو يمسح كفه على صلعته ثمَّ قال مستغرباً:

_ لم يسبق لي أنْ سمعتُ باسم هذا الروائي!!..

ومثلما خطّطتُ سابقاً، شرحتُ له بثقة المثقفين:

_ هذا روائي عاش في إنكلترا أواسط القرن الثامن عشر.. لكن أصوله تعود لـ إيرلندا الشماليّة.. وهو من أنصار الجيش الجمهوري الإيرلندي، لهذا.. هناك لأسباب قوميّة ودينيّة و….

_ هل الجيش الجمهوري الإيرلندي موجود منذ القرن الثامن عشر؟!..

سألني متعجّباً، فأردفتُ له:

_ موجود منذ القرن الرابع عشر.. وآنذاك كانت هناك مراسلاتٌ مشهورة بينه وبين جماعة (إخوان الصفا) في منطقتنا، وهذه المراسلات محفوظة كمخطوطٍ أثري حتى الآن كوثيقة تاريخيّة مهمة في مكتبة الكونغرس بواشنطن تحت اسم (مراسلات إخوان الصفا)..”[16].

2_ “انتهيتُ من كتابتها، جمعتُ أوراقها بسعادةٍ أخذتْ روحي لأعلى سماء، ثمَّ ذهبتُ إلى دارٍ مشهورة بطباعة الكتب الأدبيّة في وسط لندن، رحّب بي اللورد جيمس صاحب الدار في مكتبه، جلستُ أمامه وأنا أناوله الأوراق.. شرحتُ له:

ـ لقد ترجمتُ هذه الرواية وهي لروائيّ دمشقيّ، انتحر شاباً في القرن الثامن عشر و…

ـ هل كان العرب يعرفون فن الرواية في القرن الثامن عشر؟؟!!..

قاطعني اللورد جيمس مندهشاً فأردفتُ له:

ـ نعم سيدي.. هنالك بعض التجارب المهمّة، لكنّها أهملتْ لأسباب دينية وسياسية تخصّ الشرق وطبيعة عقله ومزاجه..”[17].

إنَّ أسّ الكارثة ليسَ فقط في الأمِّيّة الثَّقافيّة، لكن أيضاً _ وبشكل أخطر _ في غياب المشروع (الثَّقافيّ/ الحضاريّ)، ولا سيما في علاقة (الشرق والغرب) في عصر العولمة، وفي الفراغ الرّاهن الذي يغزو أساليب الوجود الثَّقافيّة ويُزيحُها نحْوَ مُطابَقات العولمة المُحتفية بسيولة انتقال المَعلومات واستهلاكِها على حساب التَّماسُك المَعرفيّ، وهي المسألة التي تُمثِّلُ خطراً كبيراً في اتّساع الهُوّة بين الشرق والغرب، فعلى العكس ممّا تنطوي عليه أنساق العولمة الظّاهِرة، نحنُ بحاجة اليوم إلى كُتّاب عرب يُمارِسون الاستغراب بشيء من التَّوازن المَعرفيّ الخلّاق، مثلما نحنُ بحاجة إلى كُتّاب غربيّين يستأنفون الاستشراق بشيء من الإنصاف والوعي الجديد، حيثُ يُشكِّل الاستغراب في الثَّقافة العربيّة المُصطلح والمفهوم المُقابِل للاستشراق، ومن أهمّ دلالاتِهِ أنَّهُ يشير إلى “حقل لتشكُّل الصُّور أو التَّمثُّلات حول الغرب بوصفِهِ آخَراً للثَّقافة العربيّة الإسلاميّة (ولثقافات أخرى كثيرة بالطَّبع)”[18].

لكنْ، وكما يبدو أنَّ سُلطة العولمة أقوى وأسرع من القدرة إلى الآن على استعادة إنتاج المَعرفة الأصيلة، فسيولة انتقال المعلومات بوصفِها نمَطاً ترويجيّاً استهلاكيّاً تُسيطر على إنتاج الإبداع الثَّقافيّ، وعلى مُعظَم مُؤسَّساتِهِ التي يُفترَض أنْ تُؤسِّس لفعل حضاريّ مُتجذِّر في العالَم، وهذا الأمر ينطوي عليه الشاهدان الآتيان:

1_ “في اليوم السابع رنَّ جرس الهاتف، إنّه باسم علاء.. قال لي بحرارة على السماعة:

_ مساء الخير أستاذ عيسى.. لجنة الدار وافقتْ على طباعة الرواية التي ترجمتها، الأساتذة وصفوها بأنّها من أجمل الروايات في الأدب الغربي.. إذا سمحت تفضّل الآن إلى مكتبي لنوقع العقد و..”[19].

2_ ” _ عزيزي باتريك.. الرواية رائعة جداً، قد أذهلتني فعلاً.. رواية عظيمة لا يمكن أنْ تبدعها سوى روحٍ شابة تنوي الانتحار بعيداً عن هذا العالم.. هل من الممكن أنْ تأتي الآن إلى مكتبي حتى نوقع العقد؟..”[20]

ولا تقف القضيّة عند حدود الكيفيّات المُتهافِتة لإنتاج المَعرفة؛ إنَّما تصل إلى طرق تلقِّي الإبداع الثَّقافيّ، حيثُ تسود ببساطة ثقافة الاستهلاك السَّريع والتَّسلية المُضادّة للجِدّة، فها هو ذا الكاتب (يتسلّى) بقراءة الروايات في لندن كما كان يفعل في دمشق: “وهكذا.. لسنتين هادئتين وأنا أغسل الأطباق في هذا المطعم الصغير، ومساءً أتسلى على سريري في غرفةٍ صغيرة فوق المطعم بقراءة الروايات الإنكليزيّة بلغتها الأم”[21].

وهكذا، يبدو أنَّ انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) نحْوَ سُيولة انتقال المَعلومات واستهلاكِها السَّريع بوصفِها أنساقاً ظاهريّة مُطابِقة للعولمة، قد فتَّتَ التَّماسُك المَعرفيّ على مُستوى العالَم إلى حدّ بعيد، فلُغة الأرقام والتَّسليع أقوى ممّا نتخيَّل، لكنَّ هذا لا ينفي وجود أساليب مُقاوَمة ليسَتْ بسيطة، غيرَ أنَّ انفتاح العالَم (العولميّ) في ميادين الاتّصالات والمَعلومات المُتشظِّية والتّائِهة والطّائشة _ إذا صحَّ التَّعبير _، يعضدُهُ أيضاً انفتاح قد يكون في كثير من الحالات غير شرعيّ، ولا سيما بما يتعلَّق بسهولة انتقال الأفراد على نحْوْ (رقميّ) يُحيلُ ذواتَهُم إلى هياكل شبحيّة أقرب إلى الوهم من الحقيقة، وينبسطُ فعلُ تنقُّلُهُم البيولوجيّ في أنحاء العالَم على نحْوٍ موازٍ لسيولة انتقال المَعلومات، ولا سيما عبرَ طرقٍ لا تخلو من ألاعيب العصابات العولميّة الدَّوليّة والعابرة للقارّات، والتي تمتلكُ قدرات فائقة على التَّزوير، وتسهيل انتحال الشَّخصيّات أحياناً، كما حدَثَ مع (المُؤلِّف/ الراوي) في هذِهِ القصّة، حينما أرادَ الخلاص من مُلاحَقةٍ مُرهِقة من قبَل (شخص/ شبح) يدَّعي في قلب دمشق أنَّهُ المُؤلِّف الإنكليزيّ الحقيقيّ للرواية (أي باتريك جيمبسون)، فلجأ إلى عمليّة التَّزوير الدّولية الآتية: “ذات ليلة وبعد تفكيرٍ طويلٍ ومتعب ابتسمتُ بخبث، وأخيراً عثرتُ على طريقة تخلّصني من باتريك نهائياً، همستُ في سري: (سوف أسجن باتريك في هذه البلاد إلى الأبد). ليلتها شربتُ نبيذاً للمرة الأولى بعد هروبي من بيتي، وأنا أتنفس الصعداء.

استطعتُ بمساعدة خال أدهم المقيم في أوربا الشرقيّة أنْ أحصل على جواز سفر مزور بإتقان، خال أدهم على تواصل مع هذه العصابات الدوليّة.. كلفني هذا الجواز مالاً كثيراً، جواز سفر غربي على صفحته الأولى صورتي الجميلة بابتسامتي الساحرة، لكنّه لم يكن باسمي.. كنتُ قد طلبتُ سابقاً أن يكون باسم باتريك جيمبسون، فكرة جهنميّة.. لم أشرح شيئاً لـ أدهم، كنت طوال السهرة أتأمل الجواز وأضحك بجنون.. لقد هزمته.

حجزتُ ليلتها في طائرةٍ ذاهبة إلى لندن، صباحاً ذهبتُ إلى المطار..”[22].

ثالثاً: انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة والحضاريّة) في عصر العولمة بينَ الهُوِيّة المحلِّيّة، والهُوِيّة العولَميّة

لعلَّ قصديّة اتّجاه المُتلقِّي إلى عالَم هذِهِ القصّة كما ينفتِح أمامَهُ، تقودُ إلى تلمُّس بنية فنيّة تقنيّة مُتراكِبة بالتَّوازي والتَّقابُل في آنٍ معاً، فعلى الرّغم من أنَّ سرد الراوي هو سرد خطِّيّ زمانيّ مُتَّصل، لكنَّ بنية الحبكة تتكوَّنُ من مُستويين زمكانيين لأحداث مُتناظِرة تقومُ على تكرار التَّشابُه الذي يشي (أي هذا التَّشابُه المُتكرِّر بينَ الأحداث الدِّمشقيّة وسيرة الراوي/ المُؤلِّف فيها، والأحداث اللّندنيّة وسيرة الراوي/ المُؤلِّف فيها) بغياب الخُصوصيّة الهُوِيّاتيّة الذّاتيّة والجمعيّة في عصر العولمة، ولا سيما في الإطار (الثَّقافيّ/ الحضاريّ) كما سأشرح في الفقرات الآتية.

لا تبدو حالة الراوي في بداية القصّة ذات سمات محلِّيّة خالِصة، وإنْ كانَ ذلكَ حاضِراً كمرجعيّة مكانيّة، فحالة الارتياب والعشوائيّة واللّامُبالاة والاختناق، تعكس سوداويّة ناهِضة على شُعور عارم بالفراغ الهُوِيّاتيّ للذّات من حيث المبدأ لخرّيج جامعيّ يُعاني من الفاقة، وهو المُتعلِّم الذي يحظى بمُستوىً غير قليل من الثَّقافة، وهذا الأمر يدفعُني إلى نفي الخُصوصيّة الهُوِيّاتيّة في الشّاهدين الآتيين، وإحالة حالة الضَّياع والفراغ إلى نمَط اكتئابيّ عولميّ يُهشِّم الذّات الفرديّة والجمعيّة؛ أي نستطيع أنْ نجد حالات مُشابِهة لهُ في أي مكان في العالَم، ولا سيما بالنَّظَر إلى الجانب المحلِّيّ الاقتصاديّ الذي يُمكن أنْ نشاهد ما يُطابقه _ وليسَ فقط ما يُشابهُهُ _ في أيّ بقعة من كوكب الأرض المُعولَم: 

1_ “لثلاث أو أربع سجائر تقريباً وأنا أرمق ببلاهة وصمت من بين الدخان المتصاعد _ مرتاباً _ ثيابي المعلقة بشكلٍ عشوائي هناك، على المشجب جانب باب غرفتي، لا أتذكر أنّني قد علقتها ظهراً بهذا الشكل المرتب! أظنّ أنّ أحدهم يعبث بثيابي المعلقة، أتكون أمي؟!.. يجوز. زفرتُ بلا مبالاة ثمَّ سمعتها تناديني من المطبخ لأشاركها طعام العشاء، يئستْ معدتي من الحساء الفقير لأمي كل مساء، شكرتها على دعوتها الكريمة بصوتٍ عال”[23].

2_ “نهضتُ عن سريري لأمشي بملل حتى الكرسي، ثمَّ جلستُ خلف طاولتي التي تتناثر فوقها روايات كثيرة، دخنتُ سيجارة أخرى.. حتى هذه السجائر فقدتْ طعمها، هذا الملل يفتك بروحي منذ أشهر، أكاد أختنق.. يبدو أنّ روحي هي الوجبة المفضلة لدى كل الملل في هذا الكون”[24].

إنَّ الراوي منذ بداية القصّة يبحث عن تحقيق هُوِيَّتِهِ الذّاتيّة، ويحلم بمُعانقة كينونتِهِ الرَّحبة، فإذا كانت الفلسفة الوجوديّة على نحْوٍ عام ترى أنَّ الوجود يسبق الماهيّة، فإنَّ مفاهيم الأنطولوجيا ترى تحديداً أنَّ جوهر الاختلاف بينَ علم الوجود والميتافيزيقا التَّقليديّة يكمُنُ في الانتقال من فهم الوجود العام (بِوصفِهِ موضوع الميتافيزيقا السّابق على الوجود الفرديّ المُشخَّص[25]؛ أي بِما هُوَ ماهيّة تسبقُ الوجودَ الفرديَّ المُشخَّص) إلى فهم الوجود العام (بِوصفِهِ ماهيّة لِلإنسان كامِنة في وجوده ذاته)[26]؛ أي إنها تتعيَّن تبعاً لأساليب وجود الإنسان البصَريّة في العالَم؛ ذلك لأنَّه “ليستْ له ماهيّة مُحدَّدة ثابتة مُعطاة له مُقدَّماً”[27]، فهو لا يوجد وجوداً فعلياً بما هو كائن بِحُكم ماهيَّته المُسبَّقة، إنّما يُحقِّقُها بِوصفِها إمكانيّات وُجوده الفعليّ، أو احتمالات وجوده المُتعيِّنة في كيفيّة ما[28]. ومن هنا  ليسَ الوجود عند هيدجر علّة خارج الموجود، إنَّما هو مبدأ مُستقّر في أعماقه[29]، يتكوَّن تبعاً لتلكَ الأساليب البصَريّة (أي كيفيات الوجود المرئية) المُتخارِجة التي يبسطُها في العالَم.

ويبدو أنَّ الفخّ الوجوديّ الذي وقَعَ فيه (الراوي/ المُؤلِّف) يكمنُ في اعتقادِهِ واهِماً أنَّهُ قد حقَّقَ كينونتَهُ الأصيلة عبر كتابة روايتِهِ، ذلكَ أنَّ أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) التي التحَقَ بها فيما بعد عبرَ مُطابَقاتِها لأنساق الهُوِيّة العولميّة التي أزاحتْها إلى أنماط من الاستهلاك والنَّفعيّة والاستسهال ورقميّة المَعلومات، قد مزَّقت هذِهِ الهُوِيّة الذّاتيّة، وبعثرَتْ وجودَها، وأفقدَتْها الماهيّة الأصيلة، بدءاً من مرجعيتِها المحلِّيّة، وصولاً إلى مرجعيتِها العولميّة، حيث سقط المُؤلِّف بعد ذلكَ في ماهيّة زائفة يُمهِّدُ لمَلامحها الشّاهد الآتي الذي يبسط أساليب الوجود بينَ دلالات وَهْم النَّجاح المحلِّيّ بتأليف الرواية، وشعائر الاحتفال المُنطوي على دلالات أوَّليّة لما هو قادم من انزياح نحْو أساليب وجود العولمة، وهيَ الرَّمزيّة التي ينطوي عليها (النَّخب) الزّائف بوصفِهِ شراباً ساخناً من نباتات مُنوَّعة تستخدمها الأم لعلاج أمراض الشَّيخوخة، والتَّظاهُر عبرَ رفع هذا النَّخب احتفالاً كأنَّهُ خمر (نبيذ فرنسيّ رُبَّما)، لينتهي الاحتفال بعودة المُؤلِّف إلى غرفتِهِ وهو يضع يدَهُ على بطنِهِ في مشهدٍ لا يخلو من رمزيّة الألم الآتي قريباً: “هذه مناسبة تاريخيّة ويجب أنْ نحتفل بها، أين أنتِ يا أمي؟.. ابنك الوحيد كتب رواية، يجب أن تزغردي عالياً.. أسرعتُ إليها في المطبخ، كانت واقفة أمام الغاز تقوم بطهي هذا الحساء البائس، التقطتُ يدها ورحتُ أراقصها وكأننا عاشقان في فيلمٍ فرنسي كلاسيكي، أخذتُ عن الطاولة كأساً ساخنةً لشرابٍ غريب تعده أمي لنفسها من نباتات منوعة يفيدها بتحمل آلام أمراض شيخوختها، رفعته إلى الأعلى وأنا أصرخ أمامها: (نخبكِ يا أمي.. نخب الروايات الجميلة) وأخذتُ رشفةً منه، يا إلهي كم هو مرٌّ طعمه، لوحتُ بكفي مودعاً أمي وأنا أضع يديّ على بطني ورجعتُ إلى غرفتي”[30].

يبدأ توتُّر الأثر القصِّيّ ودلالاتِهِ الرَّمزيّة في الانفتاح أمام القارئ منذُ اللَّحظة التي يتَّصِلُ فيها (المُؤلِّف الوهميّ: باتريك جيمبسون) بالمؤلِّف الحقيقيّ في دمشق، ويتكرَّر الحدَث معكوساً حينما يتَّصِلُ (المُؤلِّف الوهميّ: عيسى زكريّا) بالمُؤلِّف الحقيقيّ في لندن، ومُطالَبة كُلّ منهُما بحصَّتِهِما من الأرباح:

1_ “ذات مساءٍ ارتديتُ «بيجامتي» الفخمة الجديدة ثمَّ جلستُ إلى الأريكة أمام التلفاز لأتسلّى بتناول المكسّرات وشرب العصير وتدخين الغليون بمتعة، هذه المكسرات لذيذة جداً.

ثمّة نشوة روحية داهمتْ كياني وأنا أمضغها، عندئذٍ قررت:

_ يجب أن أترجم رواية ثانية لـ باتريك جيمبسون..

فجأةً رنَّ جرس الهاتف، وضعتُ السماعة بلا مبالاة على أذني، خاطبني صوتٌ غامض:

_ ألو.. هل أستطيع التحدّث مع عيسى..

هذه أوّل مرّة منذ أنْ طُبعتِ الرواية يخاطبني شخصٌ غريب بـ عيسى دون أستاذ قبلها!..

_ الأستاذ عيسى معك.. لكنّني أعتذر عن أيّ لقاءٍ صحفي أو إذاعي أو تلفزيوني و..

_ من الضروري أن نقابل بعضنا عزيزي عيسى..

هذه الثقة المزعجة في صوته طردتْ عن لساني نكهة المكسرات، قلتُ له بصوتٍ جاف:

_ ولماذا تريد أنْ تقابلني؟..

_ أنا.. أنا باتريك جيمبسون، مؤلّف الرواية التي ترجمتها.. وأريد الآن حصتي من الأرباح..

شهقتُ غير مصدقٍ هذه الكلمات التي ثقبتْ أذني، لأركل عن غير قصد الطاولة، صرختُ به:

_ أنت كاذب.. أنت غير حقيقي، أنا اخترعتك، إنها روايتي يا وغد..

_ أنا قادمٌ إليك أيُّها الحقير.. إن كنت رجلاً انتظرني، أريد حصتي من الأرباح غصباً عنك.. أنت مجرّد مترجم..”[31].

2_ “رشفتُ من النبيذ مع نفسٍ عميقٍ من هذا السيجار، همستُ بزهوٍ لنفسي منتشياً وأنا أغوص في هذه الأريكة:

_ يجب أنْ أترجم رواية ثانيَة لـ عيسى زكريا..

رنّ جرس الهاتف، اللعنة على الصحفيين المشاغبين.. أنا الآن بحالة نشوة روحيّة يا أغبياء، أخذتُ السماعة إلى أذني:

_ مرحبا.. هل الأخ باتريك موجود..

_ نعم.. باتريك معك..

_ كيفك أبا البواتريك.. أنا عيسى زكريا مؤلّف الرواية التي ترجمتها، أريد حصتي من الأرباح حالاً، وأيضاً أمي تسلم عليك يا أحلى أزعر..

قفزتُ بخوف هزّ كل كياتي عن الأريكة، لتسقط زجاجة النبيذ والكأس والسيجار على الأرض.

_ لا يوجد أحد اسمه عيسى زكريا.. إنّه كذبة من أكاذيبي أيُّها المحتال..

_ أنت الكاذب.. انتظرني، أنا قادمٌ إليك يا (باتريكو) الحقير..

وأقفل الخط، خوفٌ عظيمٌ صرخ عالياً داخل قلبي: عيسى قادم”[32].

يفتَحُ هذان الشّاهدان أكثر من مُستوىً للتَّحليل، وبادئ ذي بدء، يبدو جليّاً مدى انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) لصالح أنساق مُطابَقات العولمة وتمركُزاتِها الظّاهِرة، حيث الحُضور الطّاغي لاختراق الهُوِيّات المحلِّيّة سواء أكان ذلكَ على المُستوى المَعنويّ بادّعاء مُؤلِّفيْن وهميين أحدُهُما غربيّ، والآخَر شرقيّ بحقِّهِما في حقوق الملكيّة للرواية، أم في سُهولة انتقال كُلّ منهُما: الأوَّل إلى دمشق، والثّاني إلى لندن، وهذا الانتقال والاختراق السَّهل من دون رقيب أو ضابط (نسبيّاً) هو من السِّمات الواضحة لعصر العولمة، فضلاً عن الدّافِع (المادّيّ) الأوَّليّ لظُهور هاتين الشَّخصيتين بوصفِهِ نسَقاً عولميّاً حاضِراً.

أدّى الاتّصالان الهاتفيان لهاتين الشَّخصيتين الوهميتين بـِ (الراوي/ المُؤلِّف) إلى دخولِهِ في حالة هلع ورعب وهروب مُستمر بدأ في دمشق، وتكرَّر في لندن، ولا سيما في ظلّ مُلاحقة المُؤلِّفين الوهميين له في أحياء المدينتين وشوارعهِما:

1_ “وأغلق الخط، كلّ جسدي كان يرتجف، اللعنة على هذا المساء، أَيعقل أن يكون هذا الـ باتريك حقيقياً؟!.. مستحيل، إنّه كذبة.. ثمّة شيطانٌ صرخ داخل رأسي: (إنّه قادمٌ إليكَ مع كلّ الجيش الجمهوري الإيرلندي)، انتبهتُ للزجاج المكسور على الأرض للصحن والكأس والغليون، خيّل لي أنَّ حياتي هي التي سقطتْ عن الطاولة لتتحطم فوق البلاط، نويتُ أن أشعل سيجارةً على نية الهدوء، لكن سيجارتي وقلبي سقطا معاً مني عندما بدأتْ خبطاتٌ لئيمة تنهمر على باب بيتنا، مع صراخٍ حاد.

أسرعتُ إلى النافذة لأختلس النظر منها إلى الزقاق فلمحته بصعوبة في عتمة الليل يركل الباب بعنف ويزعق:

_ اخرج أيُّها الغبي.. أين أنت يا محتال؟.. أعطني حصتي من الأرباح، أنا صاحب هذه الرواية وأنت مجرّد مترجم..

ثمّة أضواءٌ بدأتْ تُنار من داخل عدة نوافذ في الزقاق، هنالك فضيحة كبيرة تقترب وهي تنوي أن تفترس بيتنا الشاحب أمام كلِّ بيوت زقاقنا، صعدتُ إلى السطح وأنا أتعثر برجلي، قفزتُ عبر أسطح بيوت الجيران حتى زقاقٍ بعيد، لأركض فيه مبتعداً عن الحارة وعن هذا الكابوس، من حسن حظّي أنّ أمي في زيارة لبيت خالتي.

التجأتُ إلى بيت صديقي أدهم، قال لي مستغرباً بعد أن فتح بابه:

_ أهمُّ مترجم في البلد يزور أصدقاءه ليلاً وهو حافٍ!.. غريب..”[33].

2_ “أخبرتُها أنّني سأسافر لأسابيع قليلة، ووعدتها أن أرسل لها كل شهر ما تحتاجه من أموال، ثمَّ أغلقتُ الهاتف قبل أن تناقشني بأيّ شيء.

لم أخرج من بيت أدهم خلال هذه الأسابيع إلا بضع مرّات، خلالها أرهق روحي باتريك بمطاردته لي من شارعٍ إلى آخر من زقاقٍ إلى ثانٍ في دمشق، يا إلهي، من أين طلع لي هذا الكائن، صار كشبحٍ بين الشوارع يُعِدُّ لي الكمائن ويلاحقني.. هذا الشبح حوَّلَ حياتي لكابوسٍ لا يحتمل”[34][35].

3_ “ارتديتُ ثيابي على عجل وخرجتُ دون ربطة عنق وأَنا أتعثر برجليّ لأركب سيارتي.

في مرآتها الأماميّة العلويّة لمحتُ شاباً قادماً من بعيد على دراجة هوائيّة، وثمّة عصا غليظة يلوح بها مهدداً بصراخٍ عالٍ نصفه شتائم لا ثياب فيها، وقبل أنْ يصل إلى سيارتي شغلتها وهربتُ مبتعداً عنْه.

مضتْ ليالٍ موحشة وأنا أعيش هارباً متنقلاً بين فنادق لندن، وكلّ غرفة أحجزها بمجرد أنْ أدخلها يأتيني اتصال من عيسى فيه ألف شتيمة بذيئة وتهديد بالقتل، وكيفما قدتُ سيارتي يطلع لي من شارعٍ فرعي على دراجته التافهة وهو يلوح لي بعصاه.. ليالٍ كلها كوابيس، بلا نومٍ أقود سيارتي ويقودنِي الخوف.. كوابيس مرعبة فيها ألف عيسى وعيسى يهوون على رأسي بعصيّهم الغليظة، لأنزف أنهاراً من الخوف.

في هذه الليالي التعيسة كبرتُ ألف عام، كنت أموتُ ببطءٍ.. ما عادتْ روحي قادرة على تحمل هذه الكوابيس التي تكفي كلّ البشر من دمشق حتى لندن.

يا إلهي ساعدني.. أتوسل لك أنقذني من هذه الورطة الفظيعة التي تورطتُ بها، أنا ابنك البار باتريك الوفي، لأجل كلّ غيومك وسمائك ارحمني من هذا العذاب، وخلصني من هذه الفضيحة السوداء التي تهمّ بافتراسي”[36].

إنَّ منأحد أهمّ دوافِع الخوف التي تحكَّمَت بـِ (الراوي/ المُؤلِّف) لحظة ظُهور هاتين الشَّخصيتين الوهميتين في دمشق، ثُمَّ في لندن، هو: (الغرابة)، فَـ “الغرابة إحساس حياتي، وإحساس جمالي أيضاً، خبرة حياتيّة وخبرة إستطيقيّة، تتعلَّق بالانفعال المُترتِّب على وجود شيء غريب، مُخيف أيضاً غير مألوف، وقد تثير الرّعدة والرُّعب، ويُمكن أن يوجد (أي هذا الانفعال النّاجم عن الغرابة) في الأدب، وفي الفن، وفي غيرهما أيضاً”[37].

وهكذا، يُوظِّفُ (القاصّ) الغرابة هُنا بوصفِها تقنيّة قصِّيّة، تؤسِّسُ العناصر الدِّراميّة على (وَحدة الأثر)، وتُمهِّدُ لدلالات (لحظة التَّنوير)، فالتَّأويل (الأنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح هُنا _ بوصفِهِ مَنهج دراسة وتحليل _ يلتقِطُ (شيءَ النَّصّ غير المحدود)، أو ما يُدعَى (الزِّيادة في الوجود)، على نحْوٍ عميق انطلاقاً من بُؤرة (الخوف/ الغرابة)، ذلكَ أنَّ ميدان الاهتمام في عالَم هذِهِ القصّة يكشف بعد ظُهور شخصيتَي المُؤلِّفيْن الوهميين مدى التّيه والضَّياع الذي سقط فيه (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ للرواية: المُترجِم المُزيَّف)، حيثُ خسِرَ هُوِيَّتَهُ (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) مرتين بوصفِها هُوِيّة محلِّيّة (مرَّةً في دمشق، ومرَّةً في لندن)، لصالح هُويّة عولميّة احتفَتْ بِـ (المُؤلِّفين الوهميين اللَّذين نسَبَ إليهِما المُؤلِّف طوعاً في الأساس حقوق الملكيّة التَّأليفيّة)، لتنكشِفَ حقيقة ما يُسمَّى بِـ (الإنسان الكونيّ) في عصر العولمة، وليتعرّى هذا الإنسان من هُوِيّاتِهِ المحلِّيّة ثقافيّاً وحضاريّاً، لصالح انزياح أساليب وجودِهِ نحْوَ نسَق ظاهريّ تمركُزيّ يُطابِق الهُوِيّة العولميّة المُحتفية بسُلطة السّوق وآليّات التَّسليع والاستهلاك الرَّقميّ والنَّفعيّ الطّارد للفعل الثَّقافيّ المُؤسِّس للحضارة من جانبٍ أوَّل، والمُحاصِر للإنسان بوجهٍ عام، وللمُثقَّف بوجهٍ خاصّ من جانبٍ ثانٍ.

لعلَّ من أبرز ما تكشفُ عنه (غرابة) ظُهور (المؤلِّفين المُزيفين)، ومُلاحقتِهِما للراوي/ المُؤلِّف (المُترجِم المُزيَّف من جهتِهِ أيضاً)، مدى وَهْم ادّعاء العولمة أنَّها تُقدِّم للبشريّة هُوِيّة تعدُّديّة.

نعم، لقد تطابَقت الهُويَّتان في هذِهِ القصّة لصالِح هُوِيّة العولمة التي ابتلعتهُما، فافتقَدَتالذّات (الثَّقافيّة) خُصوصيتِها، ليسَ بفقدانِها فقط نسبة الرواية إليها؛ إنَّما أيضاً بفقدانِها نسبِها الهُوِيّاتيّ الإنسانيّ الأصيل والفاعل حضاريّاً، فطريقة تعامُل الأوساط الثَّقافيّة ومُؤسَّساتِها مع الثَّقافة تكاد تكون مُتطابِقة في كُلّ مكان (مع الاحتفاظ بنسبيّة موضوعيّة لا تخفى علينا)، وطريقة انتشار المُنتَج الثَّقافيّ وتلقِّيه كأنَّهُ سلعة للاستهلاك السَّريع تكاد تكون مُتطابِقة في جميع أنحاء العالم، وسُيولة انتقال المَعلومات غير المُدقَّقة، وتفتُّت بنى المَعرفة الرّصينة والمُتماسِكة تتطابَقُ أيضاً على نحْوٍ واسِع في عصر العولمة، فضلاً عن أنَّ انتهاك سُلطات الدُّول المحلِّيّة وهُوِيّاتِها قد بات أمراً شائِعاً إلى حدّ ما أمام تغوُّل سُلطة العولمة وهُوِيَّتِها، وإلا كيفَ نفسِّر أنْ يهرُبَ كاتبٌ ما كالمسعور في (بلدَيْه اللذين ينتمي إليهِما) بفعل تهديد شخص وهميّ غريب ومُنتمٍ إلى بلد بعيد، ولذلكَ قالَ عيسى زكريا لباتريك جيمبسون “لا يوجد لديك شخصيّة ثالثة لتهرب إليها..”، فأساليب وجود العولمة قد ابتلعت التَّعدُّديّة ابتلاعاً غير مَسبوق، على عكس ما تدَّعي شعاراتُها البرّاقة وسياسات الهُوِيّة المُتَّبعة فيها، وذلكَ لصالح تثبيت سُلطة السّوق وديناميات ثقافة التَّسليع والتَّرويج والاستهلاك.

 لكنَّ هذا النَّسَق التَّمركُزيّ الظّاهِر تطابُقيّاً في الشّاهِد الآتي (الذي اقتطعْتُ منه العبارة السّابقة) يُمهِّد إلى حدّ بعيد للبَحث التَّأويليّ (جدَليّاً) عن دلالات تلكَ (الشَّخصيّة الثّالثة المفقودة)، ورمزيتِها، بوصفِ هذِهِ الرَّمزيّة قد تكون مدخلاً مهمّأً لتحليل أساليب وجود النَّسَق المُضمَر (الاختلافيّ) الذي سأشرَحُ مَعالِمَهُ في المحور الآتي، بعد أنْ نتمعَّن في مَعاني المَقبوس الأخير هُنا، وبعدَ أنْ نطيل التَّأمُّلَ قليلاً في الأسباب التي تدفَعُ (الراوي/ المُؤلِّف: المُترجم المُزيَّف) للقاء (المُؤلِّف المُزيَّف): “هذه الليلة شربتُ كثيراً بينما تعاسة مؤلمة تشربني وكأنّني نبيذها المفضل، كنت مخموراً للغاية عندما همس لي النادل بأن شخصاً اسمه عيسى زكريا يريدني على الهاتف لأمرٍ ضروري. لم أهرب هذه المرّة شيءٌ ما داخلي استسلم نهائياً.

ساعدني النادل اللطيف لأصل إلى سماعة الهاتف وأنا أترنح، لو أنّني ظللْت أغسل الأطباق. قال لي عيسى بثقة عبر سماعة الهاتف:

_ لا يوجد لديك شخصيّة ثالثة لتهرب إليها.. لا مفر أمامك يا باتريك، أنصحك أنْ تقابلني لنتفاوض ونحصل معاً على تسويَةٍ عادلة.. ما رأيكَ؟..

تعبي وتعاستي وحزني قالوا له معاً بصوت واحد:

_ موافق.. أين ومتى تريدنا أنْ نلتقي يا عيسى؟..

_ بعد ثلاث ساعات.. عند منتصف الليل، تحت جسر لندن.. لا تجلب سلاحاً.. حتى ولو جلبت مسدساً عصاي ستقتلك..

وقهقه بوحشية”[38].

رابعاً: انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة والحضاريّة) في عصر العولمة بينَ الحُرِّيّة (يوتوبيا الرَّفض)، والعُبوديّة (سُلطة القهر الاستلابيّ والقَبول الاختياريّ)

منذ بداية القصّة يظهر واضحاً مدى خضوع الراوي/ المُؤلِّف لسلطة القهر الاستلابيّ العولميّة، ومدى عبوديتِهِ (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) الاختياريّة لمنظومة قيَم السّوق والتَّسليع والاستهلاك، وبغضّ النَّظَر عن إيجاد مُسوِّغات معيشيّة لهذا الأمر، غيرَ أنَّهُ ثيمة جلية في كيفيات انزياح أساليب وجود (المُؤلِّف) الذي يرمز لنُخبة ثقافيّة فقدَتْ حُرِّيَّتَها، وأصالة دورها في عصر العولمة.

لنقف عند الشّاهدين الآتيين بتمعُّن، ونتأمَّل هذا الطُّغيان لسطوة المال والمظاهر المادِّيّة والتي يبدو أنَّ بعضها قد انتقلَ في هذِهِ الحقبة العولميّة من خانة (الكماليّات)، إلى خانة (الأساسيّات):

1_ “هذا المال الوفير جعلني سعيداً للغاية، اشتريتُ لأمي كلّ ما تحتاجه وكل ما حلمتْ به، واشتريتُ لنفسي ثياباً جديدةً وأحذيةً وقبعاتٍ وغليوناً وزينةً حلوةً لدراجتي الهوائيّة، وصوراً جميلة لعارضات أزياء ونجمات هوليود ثمَّ علقتها على جدران غرفتي”[39].

2_ “تركتُ العمل في المطعم لأسكن في شقة جميلة استأجرتها في ضاحية فخمة من الضواحي الراقيَة شمال لندن.. شرفتها تطلُ على ضبابٍ ساحر، الضباب روحي التي أعشقها، ثمَّ اشتريتُ سيارةً حديثة، كنتُ أتمنى لو أنّ لديّ مدير أعمال ليرد هو على اتصال مارغريت، اضطررت لأنْ أرد أَنا على مكالمتها.. طلبتْ منّي بإلحاح أنْ نرجع لبعضنا، أكيد أنَّ أخبار الشهرة لحبيبها السابق قد وصلتها، اعتذرتُ منها ورفضتُ حتى طلبها أنْ أزورها، وقبل أن أنهي المكالمة وعدتها أنّني سأزورها مستقبلاً لأعزيها بموت والدها اللورد تشارلز كما أتمنى له”[40].

لنتذكَّر أنَّ عقدتَي (الدَّرّاجة والسَّيّارة)، قد بدأتا مع الراوي/ المُؤلِّف منذ وجوده في دمشق، وحُضور كُلّ منهُما لهُ اختلافُهُ شكلاً، ووظيفتُهُ الرَّمزيّة التَّطابُقيّة مضموناً، كما سأوضِح في السُّطور الآتية: ” _ أعتذر على التأخر.. ظللتُ طويلاً حتى عثرثُ على مكان أضع فيه سيارتي، أفٍ من الشوارع الضيقة لسوق هذه المدينة”[41].

إذا كانت الدَّرّاجة _ كما ذكرْتُ من قبل _ تُشير إلى نمط عمَليّ لا ينتمي إلى الرّفاهيّة في دمشق، فقد تحوَّلت عبر مُلاحقة (المُؤلِّف المُزيَّف: عيسى زكريّا) في لندن إلى كابوس يكشف هلع الراوي/ المُؤلِّف من العودة إلى ما قبل مكاسبِهِ الدِّمشقيّة واللَّندنيّة، وهذا جانب من الوقوع تحت سطوة سُلطة القهر الاستلابيّ على حساب كينونة الحرِّيّة والماهيّة الأصيلة للإنسان، ولذلكَ تُطابِق رمزيّة السَّيّارة في لندن رمزيّة الدَّرّاجة؛ أي تُمثِّل الوجه الثّاني لعملة القهر الستلابيّ والقَبول الاختياريّ بالعبوديّة العولميّة للمُؤلِّف الذي كانَ من المُفترَض أنْ يحملَ قيَماً ثقافيّة وحضاريّة مُغايِرة، ضمن مشروع ثقافيّ جادّ.

لكنَّ، تحوُّلاً مهمّاً حدَثَ في علاقة الراوي/ المُؤلِّف مع (الدَّرّاجة والسَّيّارة) عندما قرَّر الذّهاب لمُقابلة عيسى زكريّا تحت جسر لندن، فتخلّى عن الوسيلتين، لصالح المضيّ إلى هُناك مشياً على قدميه: “النادل اللطيف ذاته ساعدني لأصل إلى غرفتي في الطابق الثاني، كان يتأمل ملامح وجهي، لم يقلْ شيئاً، كان في عينيه رثاءٌ صامت لروحي.

شعرتُ وكأنّه يودعني، كلّ الأشياء كانت تدور في رأسي كعواصف عاتية، وروحي تتأرجح كبندول ساعةٍ قديمة بين آلامٍ رهيبة.

رميتُ بجسدي على السرير، لم أعرف المدة التي نمتها.. شعوري بالزمن تلاشى كلياً. لم يكن نوماً كاملاً، كنت أغرق خلاله في جحيمٍ من العذابات، ثمّة مخالبُ لكائن غريب افترستْ فجأةً روحي.

استيقظتُ فاختفتْ في اللحظة ذاتها كلُّ آلامي، تأملتُ الغرفة حولي.. إنّها صامتة جداً، حتى أثاثها بات بغير ألوان. ثمّة سكونٌ رهيب يلف المكان.

انتبهتُ لعقارب الساعة، إنّها تشير لمنتصف الليل، تذكرتُ الموعد.. خرجتُ مسرعاً وعندما أعطيتُ مفتاح غرفتي لموظف الاستقبال لم ينتبه لي، يبدو أنّه مخمور.

حاولتُ أن أقود سيارتي، ثمّة عطلٌ غريب أصابها.. هي الأخرى أظن أنّها مخمورة، لوّحتُ بساعدي لسائقي سيارات الأجرة، ولا واحد منهم توقف.. أكيد أنّهم جميعاً مخمورون، بدا لي الكون منتصف هذه الليلة كلّه مخموراً.

لا حلَّ أمامي سوى أنْ أمشي حتى جسر لندن، رغم ازدحام الشوارع بالناس والسيارات لكنّني لم أكن أسمع أيّ شيء. مشيتُ بهدوء.. بلا خوفٍ، دون سيارة، أو حتى دراجة هوائيّة”[42].

هل هُناك دلالة ما قادمة في حبكة القصّة؟ هل اقتربت (ذروة التَّنوير)، وبدأت الألغاز تتفكَّك؟

وبمعنىً أكثر مُباشَرةً: هل يرتبط زوال (خوف) الراوي/ المُؤلِّف بزوال وجود (الدَّرّاجة والسَّيّارة) في آنٍ معاً؟ ولماذا؟

يصل الراوي (مُؤلِّف الرواية الحقيقيّ، والمُترجم المُزيَّف) إلى المكان المُتَّفق عليه، فما الذي يراه: “وصلتُ الجسر متأخراً عن موعدنا بنصف ساعة، نزلتُ أسفله بهدوئي الذي استغربته كثيراً.

تحت الجسر ورغم الضباب لمحتُ عن كثب شبحين بجانب ضفة النهر، انحنيتُ لأختبئ بين الشجيرات وأنا أراقبهما وأقترب منهما خلسة، وكان كلّ شيء هنا أيضاً بالأبيض والأسود فقط.

شهقتُ شهقة عظيمة، أمامي كان عيسى وباتريك واقفين وجهاً لوجه.

لم أصدق في الثانيَة الأولى، أمعنتُ نظري فيهما.. إنهما بكل ملامحي عيسى وباتريك، أَنا أعرفهما جيداً.. أكثر من أيّ كائنٍ آخر، لطالما تأملتهما في المرايا الدمشقيّة واللندنيّة.

يا إلهي كم يشبهان بعضهما، يصعب للوهلَة الأولى التمييز بينهما”[43].

ما من شكّ أنَّها (لحظة التَّنوير الكُبرى) في القصّة، وما من شكّ أنَّ حجم المُفاجأة الغرائبيّة أكبَر من التَّصوُّر أو التَّوقُّع، حيثُ تتأسَّسُ (الغرابةُ) هُنا بوصفِها إحساساً بالمُخيف تبعاً لاتّجاه يُعرَفُ بِـ: “غرابة غير المألوف: كما في حالات التَّحوُّل والازدواج والمسخ والنَّسخ (وكما في تحوُّل إنسان إلى حشرة في قصة كافكا”[44].

أبدأ بتحليلُ (ذروة التَّنوير الغرائبيّة) انطلاقاً من القول إنَّ (الراوي/ مُؤلِّف الرّواية) قد تخلّى عن هُوِيَّتِهِ الأصليّة مرَّةً في دمشق، ومرَّةً في لندن، فخسِرَ دورَهُ (الثَّقافيّ/ الحضاريّ) التَّنويريّ بخسارتِهِ لذاتِهِ أمام انزياح أساليب الوجود لصالح أنساق المُطابَقات التَّمركزيّة على تقنيّات العولمة، وسلطة القهر الاستلابيّ التي تُمارِسُها تلكَ الأنساق، وتُخضِع لها الذّات الفرديّة والجمعيّة طوعاً في حالات، وقسراً في حالات أُخرى.

والآن، بلا درّاجة، ولا سيّارة، وفي مُناخٍ ضبابيٍّ، وتحت سطوة اللَّونين الحدِّيين: (الأبيض والأسود)، لم يعُد هُناك إمكانيّة للهروب من مُواجَهة الدَّلالات الجمّة والفجّة في المَرايا الدِّمشقيّة واللّندنيّة التي تشظَّت بلا رحمة، بما يُشبه (لحظة التَّعرُّف) في لُغة المسرح، فذاتُ الراوي/ الكاتب: (المُترجم المُزيَّف) تتمزَّقُ وتنشطرُ، لينبثقَ عنها شبحان كُنّا نظنُّ أنَّهُما وهميان، لكنْ يبدو أنَّ حقيقة وجودِهِما أكثر رسوخاً من حقيقة وجود الراوي/ المُؤلِّف نفسه!!

نعم، سقطَتْ ورقة التّوت التي كانت تسترُ عورة العولمة، وبدا (الشرق والغرب) وجهان لعملة واحدة يتنقَّل بينهُما اللَّونان الأسود والأبيض في حركيّةٍ تلغي تعدُّديّة الهُوِيّة: “يا إلهي كم يشبهان بعضهما، يصعب للوهلَة الأولى التمييز بينهما”، وهذا الأمرُ يُحيل العلاقة القديمة بينهُما _ في عصر العولمة _ إلى مرجعيّاتِها التَّناحُريّة ذات التّاريخ الطَّويل، والذّاكرة البائسة.

بظهور المُؤلِّفين المُزيَّفين (عيسى زكريّا وباتريك جيمبسون)، يسقطُ وهْم المُثاقفة، ويتبدَّدُ شعار (حوار الحضارات)، ويطفو المَسكوت عنه في ظلّ سُلطة القهر الاستلابيّ، وهو: حُلْمُ الحُرِّيّة ويوتوبيا الرَّفض، ليكونَ صراعُ (عيسى وباتريك) هو صراع (الشرق والغرب) المُستمرّ حتّى في ظلّ العولمة: “فجأةً علا صوتهما وأطرافهما تتشنج وثمّة غضب مكبوت يستبيح ملامحهما، على حين غرة بدآ بتوجيه اللكمات القويّة والركلات القاسيَة لبعضهما، كطفلين بتربيَةٍ سيئة انخرطا في مشاجرةٍ رهيبة لا لغة فيها سوى لغة الشتائم، بعد دقائق قليلة كانت ملامح وجهيهما قد ضاعتْ تحت دماءٍ غزيرة.

في زحمة صراعهما الوحشي والدامي صرخ عيسى:

_ هذه الرواية لي.. أنا من أبدعها، أنت مجرد مترجم أيُّها الحقير..

رماه باتريك أرضاً وهو يبصق عليه، ثمَّ ردَّ بغضبٍ:

_ إنّها روايتي.. واحدٌ حقيرٌ مثلك هو المترجم أيُّها الوغد..

كان باتريك أقوى قليلاً من عيسى، انتبهتُ لهذا.. لكن عيسى أيضاً لم يكن قليلاً.. يا إلهي.. سيقتلان بعضهما، يجب أنْ أساعدهما وأنْهي هذه المشاجرة الداميَة، حاولتُ لكنّني فشلتُ وكأنّني تمثال.

سقطا فوق بعضهما ليتدحرجا مع دمائهما جانب ضفة النهر، ازداد صراعهما وحشيةً.. لم ينتبها لي أبداً وأنا أراقبهما عن قرب بحياديّة وببلاهة”[45].

تظهَر الغرابة في أقصى حُدودِها بمُحاوَلة (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ: المُترجم المُزيَّف) أنْ يفكَّ اشتباكهُما، لكنَّهُ يُخفق، وهذا أمر طبيعيّ، لأنَّهُ يُمثِّلُ منذ زمنٍ طويل الهُوِيّة الوهميّة التّائِهة، وهُما يُمثِّلان بالفعل حقيقة سُلطة أساليب وجود العولمة المُتجذِّرة في ماضٍ تاريخيّ مُستمرّ ومديد ومرير عبرَ علاقة الشَّرق والغرب.

إنَّ الراوي/ المُؤلِّف هو النَّموذج (الثَّقافيّ/ الحضاريّ) المُستبعَد والمُستعبَد والمُهمَّش.

إنَّهُ المُثقَّف الذي فقد ذاتَهُ وكينونتَهُ وماهيتَهُ الحُرَّة (ومشروعَهُ الثَّقافيّ والحضاريّ الأصيل) أمام سُلطة القهر الاستلابيّ للعولمة، وكيفيّات الصِّراع (الدَّمويّ في حالات كثيرة) المُنطوية عليها.

في حين أنَّ (المُؤلِّفين الوهميين) هُما المُستوى الوقائعيّ الحقيقيّ لانزياح أساليب الوجود في عصر العولمة، بوصفِها مُطابَقات تمركُزيّة ذات حُضور طاغٍ لسُلطة السّوق والاستهلاك السَّريع وسُيولة انتقال المَعلومات، وكُلّ التِّقنيّات التي استمرَّت وفيَّةً لتاريخ طويل من تفتيت العلاقة (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) بينَ الشَّرق والغرب، وهذا الأمر ينبسط في الشّاهِد السّابق بوضوح، عندما يخرج الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ من دائرة الصِّراع على ملكيّة الرواية، بينما يكونُ محور الصِّراع بين (عيسى وباتريك) هو حول هذِهِ الملكيّة.

لكنْ في الوقت نفسِهِ، تبدو مسألة عزل الراوي/ المُؤلِّف نفسهِ عن الصِّراع، ومحاوَلتِهِ أنْ يفكَّ الاشتباك الدَّمويّ بين المُتصارعين، كأنَّها تنطوي نوعاً ما على ثغرة تأويليّة في هذا المشهد، ورُبَّما تقود رويداً رويداً إلى قصديّة قراءة تقلِّب جدَليّات الأنساق لتفحُّص مدى وجود نسَقٍ مُضمَرٍ (اختلافيّاً) منذ لحظة التَّنوير التي انفتَحتْ في عالَم هذِهِ القصّة.

لقد كانَ الرّاوي/ المُؤلِّف يُظهِرُ كرهَهُ للماء في مَواضِع كثيرة من القصّة، ويبدو أنَّهُ قد حان الموعد لتأويل تلكَ الكراهيّة، وكشف كنهها هُنا.

لنقرأ بتمعُّن الشَّواهد الآتية:

1_ “أيضاً لم ينتبها للماء وهو يجرهما بهدوءٍ حتى منتصف النهر، وكأنهما قاربان اصطدما ببعضهما بسبب الضباب.

ركضتُ بلهفة إلى الضفة وأنَا أصرخ بهما، حاولتُ أنْ أخلصهما من بعضهما وأنهي صراعهما القاسي، لكنني للأسف لا أجيد السباحة.. أخاف من الماء، لديّ عقد نفسيّة قديمة منه عمرها قرون، كلُّ الأشياء في هذا الكون تحبّني وأحبّها إلا الماء.. أنا والماء لا نحبّ بعضنا”[46].

2_ “أخجل دائماً من أمي، لو أنّني أستطيع مساعدتها في تحسين أوضاع بيتنا وحياتنا قليلاً، علّها تفرح وترتاح هذه العجوز، وتنسى لأسبوعٍ واحدٍ أن تجرّني من أذني إلى الحمام.. كم أكره الماء، لماذا؟.. لا أعرف، أكرهه فقط”[47].

3_ “تذكرت.. لماذا لا أكتب رواية؟ ثمّة فكرة جميلة تجول في عقلي منذ زمن وأعتقد أنها قد نضجتْ، أشعر بأنها سوف تكون رواية مميزة، خصوصاً أنّه لا يوجد فيها ماء”[48].

من المُفترَض أنْ تكون رمزيّة (الماء) في الحالة الإنسانيّة الحضاريّة تنطوي على عوامل الخصب والإحياء والبناء الخلّاق، فهوَ مصدر الحياة دائِماً، لكنَّهُ انزاح في هذِهِ القصّة ليُطابِق عبرَ النَّسَق الظّاهِر سُلطة القهر الاستلابيّ للعولمة، فبدا عامل جفافٍ ثقافيّ، وهدم حضاريّ، فبدلاً من أن يغسل ويُنظِّفَ العالم في عصر العولمة، تحوَّلَ إلى الحيِّز الزَّمكانيّ الذي يحتضِن قذارة صراع (الشَّرق والغرب)، ويكشفُ مدى خذلان شعارات العولمة للبشر بتمركُزها على أوهام المُثاقفة وحوار الحضارات وغير ذلكَ من المقولات البرّاقة التي تفتقد لمضمون وقائعيّ جادّ، ويبدو أنَّ خروج الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ للرواية من لُعبة الصِّراع، ومُحاولتِهِ المُخفقة في إنقاذ الطرفين المُتصارعيْن، تستحضِرُ فيما تستحضِرُ، الدَّلالة الإيجابيّة أوَّلاً للماء، وتستدعي (جدَليّاً) النَّسَقَ المُضمَر والغائبَ بما هو (نسَقُ الاختلاف الثَّقافيّ الحضاريّ)، ونسَقُ احتفاء عالَم القصة في ميادين اهتمامِها بشيء النَّصّ غير المحدود، والذي يرمز إلى مُقاوَمة المُستوى الوقائعيّ الاستعباديّ للعولمة عبرَ يوتوبيا الرَّفض وحُلْم الحُرِّيّة.

وتأسيساً على هذِهِ الرُّؤية، يستمرّ مشهد الغرق في النَّهر ببثّ الرَّمزيّة الجدَليّة للنَّسَق المُضمَر، فالمُتصارعيْن المُزيَّفيْن بما يُشيران إليه من استمرار صراع الشَّرق والغرب في عصر العولمة، لم ينسيا صراعهُما الدّامي إلّا عندما انتبها أنَّهُما يغرقان معاً في منتصف النَّهر، فهل نصحو ونحتفي بأنساق التَّعدُّديّة والحُرِّيّة والاختلاف الوجوديّ قبلَ أنْ نغرق كُلَّنا ونموت معاً؟ ليس بوصفِنا شرقاً وغرباً؛ إنَّما بوصفنا بشراً نعيشُ في عصر العولمة على كوكبٍ جامحٍ مجنونٍ فقدَ بوصلتَهُ (الثَّقافيّة والحضاريّة) إلى حدٍّ بعيد:

1_ “عندما انتبها إلى أنهما صارا في منتصف النهر نسيا صراعهما الدامي، وصارا يخبطان الماء ويصرخان كطفلين تائهين.

ماء النهر غسل دماءهما عن وجهيهما، وبدأ يبتلعهما كوحشٍ جائعٍ غير مكترثٍ لصراخهما.. جدتي قالتْ لي ذات حكاية: (ليس للأنهار لغة.. إنّها لا تجيد اللغات التي اخترعها البشر)، تذكرتُ حكاية جدتي لكن لم أتذكر أين حكتها لي.. في دمشق أمْ في لندن؟”[49].

2_ “تمنيتُ بحسرة أنْ أنقذهما، على الأقل أنْ أنقذ أحدهما.. للأسف أنا لا أجيد السباحة في الماء، يبدو أنّني منذ منتصف هذه الليلة لن أجيد أيّ شيء سوى المراقبة.

بكيتُ بمرارة وأنا أسقط لأجثو جانب الضفة كراهبٍ هزمه الإيمان بالآخرين، كان صراعهما مع الماء فظيعاً.. وكأن صراعهما مع الماء، هو صراع كل الكون مع هذا النهر خلال الضباب.

هذا النهر سرعان ما هزمهما.

لوحتُ لهما بين دمعتين متوحشتين وأنا أستسلم بهدوءٍ لمشيئة موتهما:

ـ وداعاً عيسى.. وداعاً باتريك.. كنتُ سعيداً يوم ارتديتكَ أنتَ، وكنتُ سعيداً أيضاً يوم ارتديتكَ أنتَ أيضاً..

ودعتهما وهما يختفيان تحت الماء، ودعتُ خلال غرقهما كلّ شيءٍ فيّ، كانت هذه أوّل مرّة أبكي فيها وأيضاً المرّة الأخيرة، غرقا معاً لتستقر جثتاهما بعد أنْ تشابكتْ أطرافهما في عناق حزين حتى قاع نهر لندن، معدةُ النهر متخمة الآن بجثتين أنيقتين”[50].

وهكذا، مات (المُؤلفان المُزيَّفان)، ليحملا رمزيّاً دلالة (البقاء على قيْد الحياة الوقائعيّة) التي تبسط صراع الحضارات وتهافت الثَّقافة في عصر العولمة، في حين استمرَّ (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ) حيّاً، ليحملَ رمزيّاً دلالة (الموت الوقائعيّ): “ومرَّ عليَّ زمن طويل لم يكن لديّ خلاله أيّ وسيلة لقياسه، وأنا أتجول في فضاءٍ كوني من الصمت والسكون، كروح تائهة بلا بشريٍّ يستر وحشتها، روحٌ لا مرئية تعبر المدن الأوربيّة مع نسائم الهواء دونما.

أحياناً كنت أشتم عيسى، وأحياناً أخرى كنت أشتم باتريك، وأتسلّى بكآبةٍ دائمة أثناء لا زمني هذا، في محطات القطارات ومكاتب الشركات، في المقاهي والحانات والمطاعم، في المدارس والبيوت.. أتسلى بلا مبالاةٍ بأنْ أقترب من المشاجب وأتأمل _ بالأبيض والأسود فقط _ ما قد علّق البشر عليها من ثيابهم، لألهو وأنا أعبثُ بها متحسراً، خلال ضياعي اللانهائي هذا.. متحاشياً كأي لا شيء، الاقتراب من الماء”[51].

ها هو ذا (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقي للرواية) يحيا كارهاً كعادتِهِ لِـ (الماء: النَّظافة _ الخصب _ الإحياء _ المشروع الثَّقافيّ الحضاريّ)، لأنَّهُ يُذكِّرُهُ بهُوِيَّتِهِ الفرديّة والجمعيّة المُستلَبة، وها هو ذا تائهٌ كروح لا مرئيّة في أوربا (كما تُشير عتبة عنوان القصّة)، تلفُّهُ الكآبة والغربة والاغتراب، ولا ينتهي ضياعُهُ المُنبسِط بينَ الأبيض والأسود (لوني الصِّراع الحدِّيّ والكراهيّة المُستمرّة بين الشَّرق والغرب، وفي عُموم أنحاء الأرض)، مُنغمِساً في التَّسلية واللَّهو والعبَث واللّاشيء، ليرمُزَ ذلكَ إلى ذروة الجدَل بينَ نسَقَي مُطابَقات العولَمة واختلافاتِها، حيثُ ما من خروج قريب للبشريّة من نفقِها المُظلِم هذا، ولكنْ في الوقت نفسِهِ، ما من استسلامٍ نهائيٍّ حاسِم ما دامَ النَّسَق المُضمَر لن يكُفَّ عن استدعاء أساليب الوجود الغائِبة والمُغايِرة والاختلافيّة بوصفِها أساليب انفتاح عالَم الحُرِّيّة الأصيلة المأمول: “لم يتبقَّ شيءٌ منّي، سوى دراجة هوائيّة في دمشق، وسيارة حديثة في لندن.. ليحطَّ عليهما منذ الليلة الغبار العابر للقارات، وأيضاً.. رواية لها كاتبان ومترجمان في بلدين مختلفين”[52].

نتائج البَحث

1_ كشفَتْ قصّة “حكاية الرّوح التّائِهة في أوربّا” تهافت منظومة القيَم في الأوساط الثَّقافيّة، وعلاقاتِها المأفونة، وشروط النَّشر والتَّرويج، وعكست الحبكة انزياحات كبيرة في أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) لصالِح مُطابَقات العولمة وثقافة التَّسليع والاستهلاك الرَّخيص ثقافيّاً، وغياب الخُصوصيّة الإبداعيّة أمام النَّفعيّة الشَّخصيّة، وترقيم البشر وأعمالهِم بوجهٍ عام، والمُثقَّفين ونتاجاتهِم بوجهٍ خاص، ذلكَ أنَّ آليّات السّوق مُتحكِّمة بدور النَّشر، ولها حساباتُها النَّفعيّة أكثر من أنْ تكون لها حسابات إنتاج إبداع ثقافيّ له أفق حضاريّ، فصاحب دار النَّشر في دمشق، ولجنة القراءة عنده، تبنّوا نشر الرواية لأنَّها (مُترجَمة عن الأدب الإنكليزيّ لكاتب يُدعى باتريك جيمبسون)، وهذا ما يضمن رواجَها واستهلاكها مثل أي سلعة في عصر العولمة. كما أنَّ صاحب دار النَّشر في لندن تبنّى نشرَها لأنَّ انتماءها إلى الأدب العربيّ سيُثير فضول القارئ الإنكليزيّ، وستنتشر بالتَّأكيد مثل أيّة سلعة تُستهلَك بسُرعة مادامَت الرواية (مُترجَمة عن الأدب العربيّ لكاتب يُدعى عيسى زكريّا).

2_ إنَّ التَّشابُه المعكوس بينَ (مُؤلِّف ينشر رواية في دمشق، ويدَّعي أنَّها مُترجَمة عن الأدب الإنكليزيّ)، و(مُؤلِّف ينشر رواية في لندن، ويدَّعي أنَّها مُترجَمة عن الأدب العربيّ)، هو تشابه إلى حدّ التَّطابُق، فحتّى دوافع كتابة الرواية، أو بالأحرى ترجمتِها إلى اللُّغة الإنكليزيّة في لندن لا تختلف كثيراً عن دوافع كتابتِها في دمشق، ففي الحالتين لم يأتِ قرار الراوي بكتابة رواية رمزيّاً ودلاليّاً ليُشير إلى فعل (ثقافيّ/ حضاريّ) ضمن مشروع مَعرفيّ أصيل؛ إنَّما كانَ هذا القرار ردّة فعل على المُستوى المعيشيّ في دمشق، وعلى المُستوى المعيشيّ/ الطَّبقيّ في لندن، وفي الحالتين نحنُ أمام عناصر دراميّة تنتمي إلى منظومة قيَم لا تخلو من الاستهتار المُخيف، فضلاً عن جانب خطير من العبثيّة، إلى جانب ضياع الفعل الثَّقافيّ الرّصين _نسبيّاً طبعاً _ في الحيِّزين الزَّمكانيين (الشرق _ الغرب)، حيثُ يخفتُ الحُلم الحضاريّ البنّاء، وتتحوَّل (المُثاقفة) إلى سلعة، وتنزاح أساليب الوجود لتكشف عن نسَق ظاهريّ يُطابِق سُلطة السّوق وتقنيّات الاستهلاك ونفعيّة العمَل الإبداعيّ السَّطحيّة، وهذِهِ النَّفعيّة ليسَتْ مرفوضة على نحْوٍ إطلاقيّ؛ لكنَّ إشكاليتَها تكمُن في غياب الأصالة والمشروع الثَّقافيّ المُنبثق عن همّ حقيقيّ ينتمي إلى حُلْم تخليق الحضارة.

3_ لعلَّ أحد أهمّ المُستويات التي يبسطُها عالَم هذِهِ القصّة في ميدان الاهتمام الخاصّ بها، هو التَّهافت المَعرفيّ في العلاقات بين الشُّعوب، ولا سيما بين (الشّرق والغرب)، وتستمدُّ هذِهِ الإشكاليّة خُطورتَها عبرَ مراحل النُّمو الدّراميّ في القصّة من استقالة مَنْ ينبغي أنْ يتصدّوا لدور النُّخب من واجباتِهِم الثَّقافيّة والحضاريّة في عصر العولمة. ففي دمشق، وفي لندن، تضيع مَعالِم الأصالة المَعرفيّة، وتحضر سُيولة انتقال المَعلومات غير المُدقَّقة على نحْوٍ مُريع، وتتعرّى الأمِّيّة الثَّقافيّة أمام سُلطة السّوق ومنظومة التَّسليع والاستهلاك والرّبح السَّريع، وتتحوَّل المَعرفة ورموزها وتاريخ البشر إلى شظايا أو شذرات تفتقد للتماسُك المَعرفيّ. ويبدو جليّاً أنَّ أسّ الكارثة ليسَ فقط في هذِهِ الأمِّيّة الثَّقافيّة، لكن أيضاً _ وبشكل أخطر _ في غياب المشروع (الثَّقافيّ/ الحضاريّ)، ولا سيما في علاقة (الشرق والغرب) في عصر العولمة، وفي الفراغ الرّاهن الذي يغزو أساليب الوجود الثَّقافيّة ويُزيحُها نحْوَ مُطابَقات العولمة المُحتفية بسيولة انتقال المَعلومات واستهلاكِها على حساب التَّماسُك المَعرفيّ، موهيَ المَسألة التي تُشكِّلُ خطراً كبيراً يُعزِّزُ اتّساع الهُوّة بين الشرق والغرب،  لكنْ، وكما يبدو فإنَّ سُلطة العولمة ما زالتْ أقوى وأسرع من القدرة إلى الآن على استعادة إنتاج المَعرفة الأصيلة، التي يُفترَض أنْ تُؤسِّس لفعل حضاريّ مُتجذِّر في العالَم.

4_ إنَّ الفخّ الوجوديّ الذي وقَعَ فيه (الراوي/ المُؤلِّف) في القصّة يكمنُ في اعتقادِهِ واهِماً أنَّهُ قد حقَّقَ كينونتَهُ الأصيلة عبر كتابة روايتِهِ، ذلكَ أنَّ أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) التي التحَقَ بها فيما بعد عبرَ مُطابَقاتِها لأنساق الهُوِيّة العولميّة التي أزاحتْها إلى أنماط من الاستهلاك والنَّفعيّة والاستسهال ورقميّة المَعلومات، قد مزَّقت هذِهِ الهُوِيّة الذّاتيّة، وبعثرَتْ وجودَها، وأفقدَتْها الماهيّة الأصيلة، بدءاً من مرجعيتِها المحلِّيّة، وصولاً إلى مرجعيتِها العولميّة، حيث سقط المُؤلِّف بعد ذلكَ في ماهيّة زائفة. ويبدو جليّاً مدى انزياح أساليب الوجود (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) لصالح أنساق مُطابَقات العولمة وتمركُزاتِها الظّاهِرة، حيثُ الحُضور الطّاغي لاختراق الهُوِيّات المحلِّيّة سواء أكان ذلكَ على المُستوى المَعنويّ بادّعاء مُؤلِّفيْن وهمييْن أحدُهُما غربيّ، والآخَر شرقيّ بحقِّهِما في حقوق الملكيّة للرواية، أم في سُهولة انتقال كُلّ منهُما: الأوَّل إلى دمشق، والثّاني إلى لندن، وهذا الانتقال والاختراق السَّهل من دون رقيب أو ضابط (نسبيّاً) هو من السِّمات الواضحة لعصر العولمة، فضلاً عن الدّافِع (المادّيّ) الأوَّليّ لظُهور هاتين الشَّخصيتين بوصفِهِ نسَقاً عولميّاً حاضِراً.

5_ كشَفَ ظُهور شخصيتَي المُؤلِّفيْن الوهمييْن مدى التّيه والضَّياع الذي سقط فيه (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ للرواية: المُترجِم المُزيَّفحيثُ خسِرَ هُوِيَّتَهُ (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) مرتين بوصفِها هُوِيّة محلِّيّة (مرَّةً في دمشق، ومرَّةً في لندنلصالح هُويّة عولميّة احتفَتْ بِـ (المُؤلِّفين الوهميين اللَّذين نسَبَ إليهِما المُؤلِّف طوعاً في الأساس حقوق الملكيّة التَّأليفيّةلتنكشِفَ حقيقة ما يُسمَّى بِـ (الإنسان الكونيّ) في عصر العولمة، وليتعرّى هذا الإنسان من هُوِيّاتِهِ المحلِّيّة (ثقافيّاً وحضاريّاً لصالح انزياح أساليب وجودِهِ نحْوَ نسَق ظاهريّ تمركُزيّ يُطابِق الهُوِيّة العولميّة المُحتفية بسُلطة السّوق وآليّات التَّسليع والاستهلاك الرَّقميّ والنَّفعيّ الطّارد للفعل الثَّقافيّ المُؤسِّس للحضارة من جانبٍ أوَّل، والمُحاصِر للإنسان بوجهٍ عام، وللمُثقَّف بوجهٍ خاصّ من جانبٍ ثانٍ.

6_ لقد تطابَقت الهُويَّتان (الشَّرق والغرب) في هذِهِ القصّة لصالِح هُوِيّة العولمة التي ابتلعتهُما، فافتقَدَت الذّاتلثَّقافيّة) خُصوصيتِها، ليسَ بفقدانِها فقط نسبة الرواية إليها؛ إنَّما أيضاً بفقدانِها نسبِها الهُوِيّاتيّ الإنسانيّ الأصيل والفاعل حضاريّاً، فطريقة تعامُل الأوساط الثَّقافيّة ومُؤسَّساتِها مع الثَّقافة تكاد تكون مُتطابِقة في كُلّ مكان (مع الاحتفاظ بنسبيّة موضوعيّة لا تخفى علينا)، وطريقة انتشار المُنتَج الثَّقافيّ وتلقِّيه كأنَّهُ سلعة للاستهلاك السَّريع تكاد تكون مُتطابِقة في جميع أنحاء العالم، وسُيولة انتقال المَعلومات غير المُدقَّقة، وتفتُّت بنى المَعرفة الرّصينة والمُتماسِكة تتطابَقُ أيضاً على نحْوٍ واسِع في عصر العولمة، فضلاً عن أنَّ انتهاك سُلطات الدُّول المحلِّيّة وهُوِيّاتِها قد بات أمراً شائِعاً إلى حدّ ما أمام تغوُّل سُلطة العولمة وهُوِيَّتِها، وإلا كيفَ نفسِّر أنْ يهرُبَ كاتبٌ ما كالمسعور في (بلدَيْه اللذين ينتمي إليهِما) بفعل تهديد شخص وهميّ غريب ومُنتمٍ إلى بلد بعيد، فأساليب وجود العولمة قد ابتلعت التَّعدُّديّة ابتلاعاً غير مسبوق، على عكس ما تدَّعي شعاراتُها البرّاقة وسياسات الهُوِيّة المُتَّبعة فيها، وذلكَ لصالح تثبيت سُلطة السّوق وديناميات ثقافة التَّسليع والتَّرويج والاستهلاك.

7_ منذ بداية القصّة يظهر واضحاً مدى خضوع (الراوي/ المُؤلِّف) لسلطة القهر الاستلابيّ العولميّة، ومدى عبوديتِهِ (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) الاختياريّة لمنظومة قيَم السّوق والتَّسليع والاستهلاك، وبغضّ النَّظَر عن إيجاد مُسوِّغات معيشيّة لهذا الأمر، غيرَ أنَّهُ ثيمة جليّة في كيفيّات انزياح أساليب وجود (المُؤلِّف) الذي يرمز لنُخبة ثقافيّة فقدَتْ حُرِّيَّتَها، وأصالة دورها في عصر العولمة، وبظهور المُؤلِّفين المُزيَّفين (عيسى زكريّا وباتريك جيمبسون)، يسقطُ وهْم المُثاقفة، ويتبدَّدُ شعار (حوار الحضارات)، ويطفو المَسكوت عنه في ظلّ سُلطة القهر الاستلابيّ، وهو: حُلْمُ الحُرِّيّة ويوتوبيا الرَّفض، ليكونَ صراعُ (عيسى وباتريك) هو صراع (الشرق والغرب) المُستمرّ منذُ القديم، وحتّى هذا العصر العولميّ.

8_ مثَّلَ (الراوي/ المُؤلِّف) في القصّة النَّموذج (الثَّقافيّ/ الحضاريّ) المُستبعَد والمُستعبَد والمُهمَّش، فهو المُثقَّف الذي فقد ذاتَهُ وكينونتَهُ وماهيتَهُ الحُرَّة (ومشروعَهُ الثَّقافيّ والحضاريّ الأصيل) أمام سُلطة القهر الاستلابيّ للعولمة، وكيفيّات الصِّراع لدَّمويّ في حالات كثيرة) المُنطوية عليها، في حين أنَّ (المُؤلِّفين الوهميين) هُما المُستوى الوقائعيّ الحقيقيّ لانزياح أساليب الوجود في عصر العولمة، بوصفِها مُطابَقات تمركُزيّة ذات حُضور طاغٍ لسُلطة السّوق والاستهلاك السَّريع وسُيولة انتقال المَعلومات، وكُلّ التِّقنيّات التي استمرَّت وفيَّةً لتاريخ طويل من تفتيت العلاقة (الثَّقافيّة/ الحضاريّة) بينَ الشَّرق والغرب.

9_ كانَ خروج (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ للرواية) من لُعبة الصِّراع بعد ظُهور (المُؤلِّفين الوهميينومُحاولتِهِ المُخفقة في إنقاذ الطرفيْن المُتصارعيْن اللَّذين كانا في طريقِهِما إلى الغرق، تستدعي (جدَليّاً) النَّسَقَ المُضمَر والغائبَ بما هو (نسَقُ الاختلاف الثَّقافيّ الحضاريّ)، ونسَقُ احتفاء عالَم القصة في ميادين اهتمامِها بشيء النَّصّ غير المحدود، والذي يرمز إلى مُقاوَمة المُستوى الوقائعيّ الاستعباديّ للعولمة عبرَ يوتوبيا الرَّفض وحُلْم الحُرِّيّة، وهذا الأمر انطوى عليه مشهد الغرق في النَّهر الذي استمرَّ ببثّ الرَّمزيّة الجدَليّة للنَّسَق المُضمَر، ذلكَ أنَّ المُتصارعيْن المُزيَّفيْن بما يُشيران إليه من استمرار صراع الشَّرق والغرب في عصر العولمة، لم ينسيا صراعهُما الدّامي إلّا عندما انتبها أنَّهُما يغرقان معاً في منتصف النَّهر، فهل نصحو ونحتفي بأنساق التَّعدُّديّة والحُرِّيّة والاختلاف الوجوديّ قبلَ أنْ نغرق كُلَّنا ونموت معاً؟ ليس بوصفِنا شرقاً وغرباً؛ إنَّما بوصفنا بشراً نعيشُ في عصر العولمة على كوكبٍ جامحٍ مجنونٍ فقدَ بوصلتَهُ الثَّقافيّة والحضاريّة إلى حدٍّ بعيد.

10_ وهكذا، مات (المُؤلفان المُزيَّفانليحملا رمزيّاً دلالة (البقاء على قيْد الحياة الوقائعيّة) التي تطوي صراع الحضارات وتهافت الثَّقافة في عصر العولمة، في حين استمرَّ (الراوي/ المُؤلِّف الحقيقيّ) حيّاً، ليحملَ رمزيّاً دلالة (الموت الوقائعيّ)، فها هو ذا يحيا كارهاً كعادتِهِ لِـ (الماء: النَّظافة _ الخصب _ الإحياء _ المشروع الثَّقافيّ الحضاريّ)، لأنَّهُ يُذكِّرُهُ بهُوِيَّتِهِ الفرديّة والجمعيّة المُستلَبة، وها هو ذا تائهٌ كروح لا مرئيّة في أوربا (كما تُشير عتبة عنوان القصّة)، تلفُّهُ الكآبة والغربة والاغتراب، ولا ينتهي ضياعُهُ المُنبسِط بينَ الأبيض والأسود (لوني الصِّراع الحدِّيّ والكراهيّة المُستمرّة بين الشَّرق والغرب، وفي عُموم أنحاء الأرض)، مُنغمِساً في التَّسلية واللَّهو والعبَث، ليرمُزَ ذلكَ إلى ذروة الجدَل بينَ نسَقَي مُطابَقات العولَمة واختلافاتِها، حيثُ ما من خروج قريب للبشريّة من نفقِها المُظلِم هذا، ولكنْ في الوقت نفسِهِ، ما من استسلامٍ نهائيٍّ حاسِم ما دامَ النَّسَق المُضمَر لن يكُفَّ عن استدعاء أساليب الوجود الغائِبة والمُغايِرة والاختلافيّة بوصفِها أساليب انفتاح عالَم الحُرِّيّة الأصيلة المأمول.


[1] شاعر وناقد وأكاديميّ سوريّ، لهُ مُؤلَّفات وكتابات شِعريَّة ونقديَّة وفكريَّة.

[2] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة (عمّان _ الأردن: دار فضاءات للنَّشر والتَّوزيع، ط1، 2017) 60. 

[3] المصدر السّابق، 59.

[4] المصدر السّابق، 60.

[5] المصدر السّابق، 60.

[6] المصدر السّابق، 60 _ 61.

[7] شاكر عبد الحميد: الغرابة _ المفهوم وتجلِّياته في الأدب (الكويت: سلسلة عالَم المعرفة، 384، صفر 1433هـ _ يناير 2012م) 26.

[8] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 62.

[9] المصدر السّابق، 62.

[10] المصدر السّابق، 66.

[11] المصدر السّابق، 75.

[12] المصدر السّابق، 66.

[13] المصدر السّابق، 76.

[14] المصدر السّابق، 73.

[15] المصدر السّابق، 73.

[16] المصدر السّابق، 63 _ 64.

[17] المصدر السّابق، 74.

[18] ميجان الرّويلي وسعد البازعي: دليل النّاقد الأدبيّ _ إضاءة لأكثر من سبعين تيَّاراً ومُصطلَحاً نقديَّاً مُعاصِراً (الدار البيضاء _ المغرب، بيروت – لبنان: المركز الثَّقافيّ العربيّ، ط3، 2002) 38.

[19] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 65.

[20] المصدر السّابق، 75.

[21] المصدر السّابق، 72.

[22] المصدر السّابق، 70 _ 71.

[23] المصدر السّابق، 59.

[24] المصدر السّابق، 59.

[25]يُنظَر: محمّد ثابت الفندي: مع الفيلسوف (بيروت _ لبنان: دار النَّهضة العربيّة للطِّباعة والنَّشر _ سلسلة مُؤلَّفات محمَّد ثابت الفندي بإشراف ماهر عبد القادر محمَّد علي، ط ]د.ت[) 217 .

 [26]يُنظَر: جون ماكوري: الوجوديّة ، ترجمة: إمام عبد الفتَّاح إمام، مُراجعة: فؤاد زكريَّا (الكويت: سلسلة عالَم المعرفة، ذو الحجَّة/ مُحرَّم، 1402 هـ _ أكتوبر/ تشرين الأوَّل، 1982م) 100.

[27] المرجع السّابق، 100.

[28] يُنظَر: مارتن هايدجر: هايدجر: الكينونة والزَّمن، ترجمة: جورج كتّورة، مراجعة: جورج زيناتي (مجلّة العرب والفكر العالميّ: بيروت – لبنان، ع4، خريف 1988) 73. ويُنظَر: عادل ضاهر: الشّعر والوجود _ دراسة فلسفيَّة في شعر أدونيس (دمشق _ سوريّة: دار المدى للثَّقافة والنَّشر، ط1، 2000) 169.

[29] يُنظَر: عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة (بيروت _ لبنان: المُؤسَّسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر، ط1، 1984)، ج2، 600. ويُنظَر: إبراهيم أحمد: إشكاليّة الوجود والتّقنية عند مارتن هايدجر (الجزائر العاصمة _ الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت _ لبنان: الدار العربيَّة للعلوم ناشرون، ط1، 1427 هـ _ 2006 م) 70-71.

[30] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 61.

[31] المصدر السّابق، 67 _ 68.

[32] المصدر السّابق، 77 _ 78.

[33] المصدر السّابق، 68 _ 69.

[34] المصدر السّابق، 70.

[35] المقصود في هذا المقبوس أنَّ (الراوي/ المُؤلِّف) قد أخبَرَ والدتَهُ في دمشق أنَّهُ سيُسافر، وسيُرسل لها كُلّ شهر ما تحتاجُهُ من أموال.

[36] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 78 _ 79.

[37] شاكر عبد الحميد: الغرابة _ المفهوم وتجلِّياته في الأدب، 46.

[38] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 80 _ 81.

[39] المصدر السّابق، 66 _ 67.

[40] المصدر السّابق، 76 _ 77.

[41] المصدر السّابق، 66.

[42] المصدر السّابق، 81 _ 82.

[43] المصدر السّابق، 82.

[44] شاكر عبد الحميد: الغرابة _ المفهوم وتجلِّياته في الأدب، 52.

[45] مصطفى تاج الدّين الموسى: آخِر الأصدقاء لامرأة جميلة، 83.

[46] المصدر السّابق، 83 _ 84.

[47] المصدر السّابق، 60.

[48] المصدر السّابق، 60.

[49] المصدر السّابق، 84.

[50] المصدر السّابق، 85.

[51] المصدر السّابق، 86.

[52] المصدر السّابق، 85.

الحرية وأطيافها المشعة في رواية “زهر القطن” لخليل النعيمي

الحرية وأطيافها المشعة في رواية “زهر القطن” لخليل النعيمي

في بادية مترامية الأطراف لا تلحظ بداية لها أو نهاية يستشعر خليل النعيمي جماليات الحياة العفوية والفطرية في بيئة قاحلة وجافة، إذ يراها مزركشة بالشمس والندى والهواء في روايته العاشرة “زهر القطن” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، بسرد يحاكي السيرة الذاتية لتشابهها مع حيثيات حياته التي عاشها إلى حد ما.

بادية الشام ومنطقة الجزيرة مسرح أحداث وحياة شخوص عمل النعيمي التي توزعت عبر مونولوج داخلي بين شخصيتي الأب والابن وحوار قليل بينهما وبين آخرين.     كان الولد مسحوراً بقدرة أبيه على قص الحكايا وقدرته على الكلام والتعبير عن مكنوناته ليرينا جانبه الطفولي الآخر عبر الصمت الذي لم يستطع الطفل في داخله أن يعبر عن اسمه أو ينطق بإحساسه للبنية الشعثاء التي عشقها طفلاً ولذا عندما طلب من أبيه أن يعلمه الكلام كانت العبارة الذهبية التي تفوه بها الأب وهي :” من أراد أن يتكلّم، عليه أن يتعلّم”.  كانت هذه العبارة هي البوصلة التي تحرك بها وجدانه في حركة تنقله بالأمكنة عبر الصحراء الشاسعة التي تبتلع الحياة والتي استطاع الأب أن يتآلف معها ويطوعها وينحت أسباب الوجود والاستمرار بفعل طاقة الحكاية التي يتقنها، فطاقة الكلام دليل الأنسنة في بيئة تتماهى مخلوقات الوجود مع بعضها من نباتات وشوكيات وحيوانات وبشر، ودائماً كلها في مواجهة الفناء من أنواء الطبيعة؛ للجوع؛  للأمراض السارية؛ للرمال المتحركة.

  توق الابن للكلام جعل من التعلم هدفاً له ولكن كلما تطورت أسباب الوجود كلما ضاقت دائرة المسموح، حيث تفاجأ وهو التواق إلى المزيد من الانطلاق والحرية بأن الكلام له محاذير وخطوط حمراء يجب ألا يتجاوزها وهنا كانت أولى مواجهته مع القمع ليشير بذلك إلى حقبة نهاية الستينات التي أتت بعد فورة المد الوطني ونشاط الأحزاب السياسية بكل تنوعها.

 بدأ صاحب الخلعاء نصه بعتبات نصية متتالية ترك للقارئ مهمة فك ألغازها بدءاً من العنوان “زهر القطن” الشفيف الهفيف وعلاقته بهذه البيئة المتقشفة لنعرف أنه عاصر قطاف زهر  القطن وعرف النساء البيضاوات اللواتي يشبهن القطن في مواسم جنيه، وعبر استهلالات أخرى من أحد أقوال “دارون” تعكس البون الهائل بين التقدم العلمي وبين البيئة البدائية البعيدة عن الحياة التي عاشها أبطاله والقول الآخر الذي لخص فيه تاريخ الكائن بما يحكيه لنفسه وما يحكيه للآخرين وبما يفعله أخيراً ليخلص بعدها إلى الاستهلال الثالث بأن الحقيقة صيغة ذهنية محض لا علاقة فيها للغة والأشياء، هذه العتبات يقف عندها القارئ مطولاً محاولاً إيجاد علاقة بينها وبين النص الذي يكشف أسراره رويداً رويداً.

البادية والصحراء تحيل إلى الصمت والتأمل لاتساع الفراغ من حوله وعجز الكائن عن فهمها لذا تبدو وجوداً محملاً بالغموض والتوجس الذي يجعل الفرد يتأمل في أسرار الوجود وملابساته لتكون الحرية بالنسبة له للعقل والجسد، حرية كونت ملامح هويته التي بزغت في أعماقه بشكل فطري ومتصاعد.

تواكبت حكاية ترحل الابن مع بحثه عن أماكن التعلم، فمن مدرسة “سنجق شيخموس” في عامودا والتي نال فيها الشهادة الابتدائية لينتقل إلى مدينة الحسكة في مدرسة التجهيز للمرحلتين الإعدادية والثانوية حيث عاصر فيها بعضاً من النشاطات السياسية أواخر الستينات وبروز التيارات القومية واليسارية وظهور بعض الأحزاب ذات الشعارات العالية، ليصل بعدها إلى العاصمة ولينفتح وعيه على الحياة الواسعة في دمشق حيث رأى من بعيد قسوة الحياة غير المحتملة التي كان يعيشها هو وأهله في تلك البيداء المفتقرة لأوليات العيش.

خليل النعيمي من القلائل الذين استطاعوا التعبير عن إحساسهم بعوالم الصحراء المتقشفة بعد عبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني، حيث شح المكان والطبيعة الجرداء والعجاج الذي يسبب الاختناق وحجب الرؤية وتلك الرمال المتحركة التي تبتلع الحياة بالإضافة لكائنات الطبيعة المخيفة من جرادين وعقارب وحيات، طوعها لتكون وسيلة عيش وتيقظ لروح الكاتب العالية التي رأت جمالاً يشرق في نور الشمس المتلألئ في صباحاتها والندى الخفيف مبلبلاً أحاسيسه بنشوة لامتناهية، فرغم وجود أسرته في هذا الحيز من صحراء بخيلة ولكنها بذات الوقت مفعمة بمعاني الوجود المهيبة وممتلئة بالروح العالية للانعتاق من كل قيد، وربما كان قدرته وأهله على احتمال هذه البيئة ترجع لعدم معرفتهم بأي شكل لبديل آخر، وعاشوا فيها كما الإنسان الأول الذي ولد في الطبيعة وبدأ يتلمس أسباب الحياة والعيش ويتأنسن فيها.

يقول غاستون باشلار ” البيت هو ركننا في هذا العالم! ، ولهذا يتعلق الإنسان بمكان الولادة والطفولة، هو المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكل فيه خيالنا ومن غيره يصبح الإنسان كائناً مفتتاً”. والنعيمي يتوافق مع هذا القول ويرى في المكان غير الثابت، الخيمة التي تتلاعب بها الريح في الحل والترحال وذلك التراب المترامي الأطراف ومكاناً أليفاً وحميمياً في كثافة وجوده الأول وركنه الأولي، فهو يقف مطولاً عند المكان الأول رمز الكينونة التي صاغت وجوده وأوليات وعيه، ذلك الجدار المائل المهتز لهوية تفتش عن مقومات وجودها، لبشر يختصرون الحياة بحكم وأقوال أفرزتها طبيعة المكان حيث يبرر كل سلوك اعتماداً على قانون حفظ البقاء” فكل ما يحتاجه الإنسان كي يحيا هو أكل حلال” بعيداً عن ثنائية الحلال والحرام لأناس لا يملكون قوت يومهم وتعبير “حبل الصدق قصير” في  كسر لبديهية المثل المعروف في المفاهيم السائدة وخاصة لجهة واقعية ما يجري في العلاقات الشخصية لأنه في حالات المكاشفة لا أحد يعرف “ما يلقى من نفايات عندما يكشف خفايا شخص آخر” وفق تعبيره .

الاحتفاء بالجسد وإطلاق العنان لحاجاته ورغباته جزء أكيد من عناصر تكوين شخصيته وأسلوب فهمه للتعالق مع الحرية كنزوع طبيعي للإنسان لا يعترف فيها لما يصادرها من قوانين وتشريعات وأعراف ونظم سياسية، لأنها شيء أصيل في وجوده وهو حق له لا منة لأحد فيها، في التقاطه العالي لمعنى الألوان في الطبيعة البكر التي نشأ عليه ليكون الجنس ملفعاً ببياض الأنثى الذي امتزج مع رهافة ولون زهر القطن ضمن إحساس شفاف بصفاء اللون وعفوية التمازج وبعيد عن فهم التحريم والتدنيس للعقلية الذكورية المتعارف عليها.

 في تلك البادية المترامية الأطراف عاش بطله وكأنه الكائن الأول في الوجود، وفيها كانت أولى إرهاصاته لتحديد هويته وملامح كيانه، كان أشبه بذرة رمل في تلك البيداء الواسعة لا شيء يميزه عن سواه لدرجة أن الكاتب لا يعطيه اسماً في تضمين فكرة إن لا كينونة تميزه أو هوية تعبر عنه،  ولذا كان نزوعه الفطري تجاه الحرية، حريته ككائن فطري ما من حواجز تعوق حركته أو ما يفكر به ومن هنا كانت استجابته الطبيعية لنداء الجسد فهو لم يلقن بكوابح الغريزة الاجتماعية وموانع الأعراف ولكنه الجوع رفيقه الدائم وقسوة مريرة في الحياة لم يدرك هولها إلا عندما غادرها ولذا كان ارتحاله الدائم بحثاً عن كينونة ووجود بما فيها من كشف واكتشاف لعوالم جديدة تشبع قلقه الشخصي والمعرفي لمجاهل الوجود.

من المعروف أن الرواية فن ارتبط بالمدينة، ولا يعني ذلك أن أحداثها تقع في بيئة مدينية وإنما تتضمن وعي الكاتب الذي دخل معمعة المدينة وفهم أجواءها وتنوع عوالمها واتساع مجاهل خبراته فيها لتكون المدينة بوابته إلى العالم الفسيح الذي أضاء له الاهتمام بأدب الرحلات الذي انعكست ظلاله في روايته التي بين أيدينا، مما يثير التساؤل أهي سيرة ذاتية للكاتب وهو المهووس بالترحال، وربما هذا الميل للارتحال دليل نزوعه لفلسفة الطريق “الكافكاوية” ولذا كان أدب الرحلة ميداناً واسعاً خاض فيه ونجم عنه أكثر من كتاب على غرار “كتاب الهند الطريق إلى قونية” وسواها يعكس فيها مقاومة الحنين للمكان الأول بالمزيد من الترحال، فلحياته الشخصية آثار كثيرة نراها مبثوثة في ثنايا العمل وبعيدة عن الأسلوب التقريري في توثيق أي حكاية بل كان ميدان الذاكرة خزاناً خصباً لاشتغالات السرد في تكثيف بؤر جمالية علقت بمخيلته وأثرت على حياته وأسلوب عيشه ومن الاتساع إلى الاتساع من البادية إلى البحر نهاية المطاف وكأن العوالم لا تسعه فيهرع إلى الأوسع والأبعد ..الأبعد

يطرح القراءة كبديل عن الفعل أو كعلاقة استدلال في المحيط المنظور إذ يقذف بأسئلته لوعي القارئ: ما جدوى القراءة إذا لم تغير واقع الإنسان ويعجب كيف احتمل كل ذلك الجوع من كل النواحي في مغامرة سردية محدودة الشخوص ولكن يقابلها توغل في عالمهم الداخلي حيث يرصد ذلك  التيه في الصحراء: “عرفنا مصيرنا إن بقينا رابضين كالكلاب في مكان لم يعد يلائمنا”. من هنا يبدأ لديه هوسه بأدب الرحلات فهو يرى أن تنقلاته ضمن بلده على اختلاف جغرافيتها وتنوع تضاريسها أفرزت لديه وعياً جديداً وفهماً أوسع للحياة مما حرض لديه المزيد من الرغبة باكتشاف عوالم أخرى وهو التواق للحرية ليصطدم بالقمع في المدينة، عندما اصطدم بمحققين يسألونه عن ديوان شعر أصدره بحجة الحرب التي تدق أبوابها ليتساءل  “لماذا لا تقوم الحرب وننتهي من هذا الاحتضار فالراحة والعذاب شيء واحد” وربما يستطيع كل شخص أن يدع  أموره تمشي بقليل من التنازل ولكن هو لا يستطيع لأنه فطر على الحرية على كل المستويات  ليفر إلى بيروت  حيث لا يعرف إلى أين،  هل هو الهروب إلى العدم أو إلى عدم العدم الخيارات الآتية مفتوحة على أسوأ الشرور أو أقلها وربما إلى خير كبير يمكن أن يصيبه، ما من يقين في شيء من ذلك، غير أن الثابت ذلك النزوع الكبير للحرية واكتشاف مجاهل جديدة وبوابات مختلفة للوجود لتكون النهاية المتلجلجة بين التردد للعودة وبين سير السفينة الذي يحسم هذا التردد بتحرك المركب مساقاً إلى أقداره الآتية. 

“ماويّة” حكايات اليباب الشاسع ومتعة السرد المزدوج

“ماويّة” حكايات اليباب الشاسع ومتعة السرد المزدوج

“قصص في اتجاه واحد” عنوان فرعيّ أرفقه القاص أنس ناصيف بالعنوان الرئيس “ماويّة”. وماويّة، بحسب الكاتب، قرية تقع شرق مدينة سلميّة في محافظة حماة. وبحسب معرفتي، فإنّ مفردة ماويّة باللهجة العاميّة، تطلق في مناطق من الريف السوريّ، لوصف كلّ ما هو نديّ ورطب، وكأنّ فيه ماء. وقصص هذه المجموعة_ منشورات المتوسّط، إيطاليا 2024_ تنبع من ماويّة، ثمّ تمضي في اتجاه واحد، وهو مصير هذه القرية في الحرب السوريّة الراهنة.

ماويّة المكان الرئيس الحاضر دائماً، حيث يرصد أنس ناصيف في متوالية قصصيّة سيرورة عديد من أهلها وصيرورتهم، قبل الحرب وانتهاء بها. في هذه المتوالية تتوافر الأحداث، وتتكاثر الشخصيّات بين عابرة وثابتة، يتكرّر حضور بعضها في القصص مع إضافة فكرة عنها أو أكثر لتملأ حيّزها السرديّ المحدّد لها. للقصص سارد وحيد، يحكي بضمير المتكلّم “أنا”، هو ابن ماويّة، مقيم فيها، وله دوره الخاصّ في قصص عدّة، لتأكيد المصداقيّة وقوّة التأثير.

يتجاور الزمن السردي والزمن الواقعي ويتشابكان باتساق متقن، يبدأ الزمن السرديّ عندما:”وصلت المعارك إلى ريف حماة الشرقيّ، وأصبحت ماويّة إلى جوار جبهة قتال عريضة بين النظام وعدد من التنظيمات، بدأت بقوّات تتبع للمعارضة وانتهت بداعش.” وصولاً إلى يوم هجوم داعش وارتكاب مجزرة أخرى فيها. أمّا الزمن الواقعي فهو بشقّين الحاضر والماضي، يتناوبان في حضورهما في القصص برمّتها. الماضي مثقل بالحياة والعيش رغم الضيق، والحاضر مثقل بالموت والضيق الأشدّ! ومحظوظ هو من استطاع الهرب والنزوح، بحقيبة ملابس وصور العائلة.

يتماشى السرد سلساً، عفويّاً، وممسوكاً بإحكام واتزان، فلم يترهّل رغم تعدّد الشخصيّات والأحداث في القصّة الواحدة. سرد حيويّ رشيق، وغنيّ شيّق، يكتظّ بحكايات حاضر الشخصيّات وماضيها، بطباعها وأمزجتها، وانشغالاتها المختلفة. الماضي آمن إنّما غير بهيج، وكأنّما “ماويّة” مولودة من رحم الفقر والتهميش، وأهلها منذورون للكفاح الدؤوب، يعملون في مهن مختلفة؛ مزارعون، تجّار مواشي، دكنجيّة… شخصيّات عاديّة ومهمّشة، رافضة للفساد والظلم لكنّها عاجزة، بينها نورس ذو الإعاقة الذهنيّة، وقد ساعدته إعاقته في إبراز شجاعة لا يجرؤ عليها العقلاء من حوله. يحبّه الجميع ويتعاطفون معه، حتّى أنّ الكاتب أفرد له قصّة جميلة وقاهرة بعنوان “المجانين يصيبون منذ المرّة الأولى”، وجعلها فاتحة القصص.

تتأرجح النصوص بين الفنّ القصصيّ وبين الفنّ الروائيّ، تقارب النوفيلا/الرواية القصيرة أحياناً كثيرة. ففي هذه النصوص تغيب شروط القصّة القصيرة الأساسيّة: زوايا التقاط الأحداث الرئيسة، الخواتيم التي تشكّل لحظة التنوير، وحضور عدد قليل من الشخصيّات والأحداث. استعاض عنها القاصّ بسرد تقليديّ جاذب، وتكثيف واقتصاد لغويّ لافت، وحداثة في الشكل. توزّع السرد في نصوص بعناوين منفصلة، إنّما ليست فصولاً روائيّة، بل حافظ كلّ نصّ فيها على فرادته وخصوصيّته، ليجسّد قصّة قصيرة تامّة. قصص جمعها ناصيف بخيط سرد روائيّ يخصّ وحدة المكان والزمان وظهور بعض الشخصيّات في نصوص عدّة. سرد تقليدي يتوهّج في ازدواجيّته المدهشة، طافح بحكايات الناس في ماويّة، أحداث كثيرة وتفاصيل اكتظّت بها حياتهم، بعضها يثير السخرية والضحك أحياناً، والسخرية هنا بقصد إبراز مفارقات الحياة البشريّة عامّة، وحسب. نتابع الأحداث بعين تصدّق ونفس تتأثّر، وصولاً إلى النهايات المريعة من نزوح، وإعاقة، وموت كثيف؛ قُتلت أغلب الشخصيّات. تتطوّر الشخصيّات بتطوّر الأحداث، وإن ورد تصوير لحدث ما يخصّ الحرب وكوارثها، فليس المقصود عرضه لذاته، إنّما وظّفها ناصيف بإتقان في سياق السرد، فهي تشكّل الركيزة الأساسيّة في تطوّر الشخصيّات، وانقلاب نمط حياتها المفاجئ رأساً على عقب، وفي تحديد مصائرها في النهاية. 

أمّا القصّة الطويلة والمؤثّرة “ومضت لتنطفئ” وهي الأطول بين القصص، فإنّها تشمل عناصر النوفيلا وتجسّدها بامتياز. فبطلها “نعيم” شابّ عاديّ يسعى للعيش ببساطة وكرامة، خجول ومسالم، يعاني من مشاعر اليتم والوحدة، يحلم منذ الصغر بالسفر إلى خارج البلاد كي يرى العالم. تعترض حياته عراقيل وخيبات عديدة، يجتازها من دون صخب أو استسلام. تظهر حوله شخصيّات عديدة، بينها من حضر في قصص أخرى، فتجري أحداث جديدة، من خلالها تبرز جوانب أخرى من شخصيّته، وتطول سيرته. ذات يوم يطلّ الأمل على نعيم، ليدبّ الحماس فيه ويخرجه من قوقعته ماويّة للمرّة الأولى، فيذهب إلى مدينة سلميّة لتأمين مستلزمات دكانه الذي تطوّر هو الآخر من بيع الفلافل وتوابعها وحسب إلى مطعم لخمس خبراء صينيّين. يعزّز مجيء هؤلاء حلم نعيم بالسفر إلى الصين. لكنّ الحرب جعلت الأمل مجرّد وميض سرعان ما انطفأ! وينتهي نعيم إلى ما لم يكن متوقّعاً! فنلمس المفارقة في اسمه، والتلميح إلى الواقع الأليم عبر العنوان المخاتل “ومضت لتنطفئ”، واقع يشمل البلاد كلّها!

يتناوب خطّا السرد الروائيّ والقصصيّ باقتدار في رسم لوحة جداريّة لـماويّة، وتصوير بعض من عاداتها وطقوسها والمعتقدات، الأحلام الصغيرة والأشغال، النجاحات الضئيلة والانكسارات الكثيرة، ومواكبتها للحداثة والتكنولوجيا، شخصيّات تتكاثر وأحداث تتناسل، وصولاً إلى اليوم المأساويّ الرهيب، وزّعها ناصيف بحذاقة فنّيّة على سطح اللوحة بأكمله، حيث تبرز حكاياتها متّصلة ومنفصلة في آن معاً. قصص واقعيّة صيغت بأسلوب تقليديّ تخلّلته حوارات مدروسة ومقنعة، وللمصداقيّة، ورد بعضها بلهجة عاميّة ماويّة إنّما مفهومة، ومن دون مغالاة. وبخيال يحلّق فوق أرض الحكايات، وبقليل من التلميح وكثير من التصريح، يمسك الكاتب بتلابيب القارئ حتّى النهاية، يأسره بمتعة الفنّ، بتوهّج السرد التقليديّ، بتماسكه وحيويّته، بالصدق، وبساطة اللغة، بالحبّ الكبير لماويّة، بحلوها ومرّها ومفارقاتها المضحكة والمبكية، أدرجها ناصيف بإسهاب غنيّ وشيّق، لا شطط فيه أو لغو. يحكي بلغة أنيقة وشفيفة، يعرّفنا ببعض الشخصيّات كلّ على حدة، عن بساطتهم وطيبتهم، تحرّكاتهم وأعمالهم، نزقهم وشجاراتهم، ذكائهم وجهلهم، فقرهم وقلّة حيلتهم، صبرهم وتآزرهم، محبّتهم للغناء وترديد العتابا، وتفضيلهم الحياة الهادئة الرتيبة الآمنة. ونساء ماويّة مكافحات، كرامتهنّ وحفظ العائلة فوق كلّ اعتبار، ذوات أكتاف تحمل أطناناً من المسؤوليّة وقوّة التغلّب على الضنك في الظروف كلّها، مثل عزيزة، في القصّة البديعة “دائرة أمّ محمّد عزيزة”، وهي وغيرها من الشخصيّات الرئيسة تلتصق بذاكرة القارئ.

تتسيّد بطولات فرديّة القصصَ، باستثناء القصّة اللافتة “باص الشام” فالبطولة فيها جماعيّة. عشرات الركّاب يسافرون إلى العاصمة كلّ لمبتغاه، بينها تبرز شخصيّات عديدة، يسلّط القاص السرد عليها، وكعادته، يثير القاص الضحك والإحساس بالأسى والقهر معاً. ركّاب يجمعهم المنبت الواحد، والشعور الواحد بالخوف من تكاثف الثلج ومن الحواجز الأمنيّة، وبالرعب حين عبورهم الطريق الذي، يتربّص فيه عادة أحد قنّاصيّ المعارضة المسلّحة بوسائط النقل القادمة من مناطق محسوبة على النظام! ليجمعهم المصير الواحد أيضاً. يختم السارد قائلاً:”عشرات القلوب كانت تخفق فوق أربع عجلات، خفّضت رأسي، ورحت أفكّر كيف سينتهي هذا الطريق المخيف، ومتى سنعبر.” سؤال يُجمع عليه السوريّون حتّى اليوم، وقصّة تشملهم جميعهم!  

في خضمّ حياتهم المعتادة وسعيهم لتأمين كفاف العيش، يجد الأهالي أنفسهم بغتة وسط حرب تقود مصائرهم، وترسم خواتيمهم القاسية والمرعبة. قرية لا ناقة لها أو جمل في هذه الحرب، فنأت بنفسها عمّا يجري منذ انطلاق الانتفاضة في البلاد، الأمل الذي لم يتعدّ الوميض، إذ سرعان ما تحوّلت الثورة إلى حرب. ذاك النأي لم يشفع لماويّة المسالمة، فانهالت عليها الكوارث من ضفّتيّ الاقتتال! وهي كما يقول السارد:”القرية الصغيرة عليها أن تكابد ذلك الموت كلّه.” يحكي السارد تفاصيل ما حدث لماويّة من دون إطلاق أحكام تخصّ أيّاً من طرفي النزاع، ففيما يبدو يؤثر الرؤية بعينيه الاثنتين، ليحقّق اتزان المنطق الموضوعي وإقناعه. فالحرب لا شكّ، تطحن الجميع!

وسط ذلك الإبهام والعماء المرعب، لم يتوقّف الأهالي عن أعمالهم اليوميّة، وتبعاً للسارد: “امتصّت ماويّة الحرب دون أن تفهمها، فراح يناور سكّانها داخل متاهة الممكن لتحصيل لقمة العيش، وللمضيّ قُدماً وإن برؤوس أطرقت في الأرض من شدّة الفقد والخوف.” حين سئلت أم محمد عزيزة الخمسينيّة عن رأيها في الثورة، أجابت:”رأيي لا بيقدّم ولا بيأخّر عدم المؤاخذة.” وبثلاث كلمات فقط أجاب علي المدلّل الثمانينيّ سائله عن رأيه بإسقاط الرئيس، فقال:”حاج بقا، تعبنا.” تعب هذا العجوز الذي عاش طول عمره محتمياً في ماويّة وراضياً، بعيداً عمّا يحدث خارج بيته، لا يأبه بأيّ تغيير، لتأتي الحرب التي لن تكتفي فقط بأن:”هشّمت أشياء يومه الرتيبةّ.”

ثمّة إحساس خانق بعزلة ماويّة جرّاء إهمال العاصمة لها، وستحدث المجزرة ثانية، وثانية وسط تجاهل وسائل الإعلام الوطنيّة، وصمتها المطبق! كما في قصّة “دكّان علي المدلّل”. وثانية أيضاً، لم تمدّها بتعزيزات عسكريّة، رغم الوعود الدائمة! كما ورد في قصّة “السقوط نحو القمر”، فأسقط في يد الأهالي فتكفّلوا بالدفاع عن قريتهم بأسلحتهم البسيطة. وبات الشباب يقضون الليالي على الأسطح للحراسة، بينهم نبيل الردّاد، لم يكن بلغ العشرين بعد، فحين هجم الدواعش، بوغت بنفسه يهرب في اتجاه معاكس عوض تنفيذ قراره بمشاركة الأهالي الدفاع عن القرية، ليختار “السقوط نحو القمر”، وينام بسلام في قلب القمر المكتمل المعكوسة صورته على سطح ماء البئر!

أطبق الموت على ماويّة والبلاد عامّة، وتبعاً لقول السارد: “الشباب كانوا يموتون من دون أن يدري أهلهم من أجل ماذا يموتون.”ويقول في قصّة أخرى:”شبّان لم تتح لهم البلاد أن يكبروا ويضيفوا على ألبوماتهم صوراً تُظهر شيب شعرهم وتجاعيد وجوههم…” فمن الشبّان من قتل، ومنهم من خُطف، وآخرين عُذّبوا في السجون تحت الأرض!

ورد في مقدّمة القصّة الثانية” بيت العتابا الضائع” الوحيدة الخالية من حديث الحرب: “لقد استغرق منّي عشر سنين حتّى وجدته، بيت العتابا الذي غنّته جدّتي في المساء اللاحق لجنازة أخيها سليمان، ولم تعد تتذكّره.” فبات يشكّل له وسواساً لعقد من الزمن بحثاً عنه، لكنّ السارد لم يصرّح بم يحتاجه، واكتفى بإخبارنا بأنّه وجده عندما اصطحب جدّته التسعينيّة لزيارة قبر أبيه/ابنها، وهناك باغتت حفيدها بتذكّره وغنائه لابنها. ليخمّن القارئ، بعد قراءته  القصص الثمانية المتبقّية، أنّ السارد كان يريده لينشجه لماويّة في مقتلها!  

أنس ناصيف حكّاء بارع، يؤبّد ماويّة وقد جفّت عروقها في قصص يانعة وبديعة رغم الأسى العميق عمق جراحها، قصص لا يجيز غناها الآسر اختصارها أبداً. تغوي قارئها حتّى النهاية، تعلق في وجدانه عميقاً، وتنحفر في  ذاكرته مديداً.

ساندرا علوش تضيء على آلام اللاجئين سينمائياً

ساندرا علوش تضيء على آلام اللاجئين سينمائياً

كان لقضايا اللاجئين في أوروبا وتحوّلات الهويّة التي يعيشونها هناك، دور لافت في نشاط ساندرا علوش (1987) الإعلاميّ، مؤخراً. فاكتشاف المجتمعات الجديدة، ترك أمامها أسئلة مؤلمة عن العنصرية والتهميش وتلك الحيوات المؤجلة لآلاف اللاجئين في أوروبا.

“علوش” التي بدأت عملها مذيعة في العديد من إذاعات سورية المحلية، عملت أيضاً مقدمة برامج تلفزيونية في قناة (الدنيا) وكانت شاشة الإخبارية السورية هي آخر محطة عمل لها قبل الهجرة.

عانت “علوش” بدايةً من التهديدات الأمنية من قبل بعض من يسمّون أنفسهم “المعارضة السياسية”، وذلك نتيجةً لعملها مع قناة إعلامية مؤيدة؛ وبعد استقالتها من الإخبارية السورية عام 2012، تمّ تخوينها وملاحقتها من قبل بعض من يدعون “الوطنية”، فما كان أمامها سوى الهروب خارج البلاد.

لجأت الصحفية الشابة في بداية الأمر إلى لبنان، حيث بقيت هناك لثلاثة سنوات ومارست عملها كإعلامية، إلى جانب خوضها تجربة المشاركة في مسابقة “مذيع العرب” ووصولها إلى النهائيات. في هذه الأثناء استطاعت الحصول على تأشيرة سفر مخصصة للصحفيين المهدّدين أمنياً، وحسمت أمرها بالانتقال في عام 2015 إلى فرنسا برفقة زوجها.

محطة للأمل

اتجهت “علوش” برفقة زوجها، طارق حداد والذي يعمل كمخرج ومصوّر، إلى صناعة التقارير والأفلام حول اللاجئين والمهاجرين في أوروبا الغربية مع قناة (ARTE) الفرنسية الألمانية، والتي أنتجت بالتعاون معها أيضاً سلسلة وثائقية بعنوان “من دمشق إلى إلزاس”؛ تبعها العديد من الأفلام الوثائقية مثل “غرباء في الغابة” والذي حصد عدداً من الجوائز منها: جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير أجنبي (HIIDA)، وجائزة الاستحقاق المرموقة من مسابقة Impact DOCS، وكذلك جائزة التقدير من مهرجان الأفلام الإسكندنافية الدولي (SCIFF)، إضافة إلى جائزتي أفضل مخرج وأفضل مونتاج في مهرجان لوس أنجلوس للأفلام المستقلة (LAIFFA).

وكذلك قامت بإنتاج فيلم “حارس المعبد“، وفيلم ” إنجلترا بعد كاليه”، انتهاءً بفيلم “في عيونكم” الذي تم عرضه لأول مرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهكذا استعادت ساندرا علوش بعد كل ذلك جزءاً كبيراً من توازنها المهنيّ بعد الهجرة، وتطوّر الأمر إلى فتح أبواب أخرى في قضايا الهجرة واللجوء.

تعمل “علوش” حالياً مع منظمة (New Women Connectors) كضابط مناصرة، حيث تقوم بحضور اجتماعات على أعلى مستوى في “البرلمان الأوروبي” والأمم المتحدة للدفاع عن حقوق اللاجئين والمهاجرين.

كما تتعاون مع شبكات حقوقية مثل الشبكة الأوروبية ضد العنصرية (ENAR) ومنظمة Avocats Sans Frontières – محامين بلا حدود، وصندوق الأمم المتحدة للنساء WPHF.

ومن الجدير بالذكر أنه قد تم اختيارها من قبل مكتب “الكويكر” في الأمم المتحدة (QUNO) كمستشارة في مجال الهجرة واللجوء، كما اختارتها شبكة الأمم المتحدة للم الشمل (FRUN) كسفيرة لها.

في عيونكم

واليوم نتوقف مع آخر أعمال ساندرا علوش وهو فيلم “في عيونكم” الذي يعرض واقع الهجرة بعيون المهاجرين واللاجئين. كان الهدف من هذا الفيلم -على ما يبدو هو أن يكون واقع هؤلاء اللاجئين، أيضاً، مرئياً في عيون المجتمعات المضيفة. إذ يتناول الفيلم الوثائقي القصير، معاناة اللاجئين والمهاجرين من خلفيات عربية وإفريقية وجنوب شرق آسيوية في بلاد أوروبا الغربية. ويعالج خصوصاً مشكلة الأشخاص ممن لا يملكون أوراقاً ثبوتية؛ ويكشف لنا الشريط الكثير عن تجاربهم لنتعرّف على العوائق والعقبات التي تخلقها “السياسات العنصرية” للحكومات الأوربية أمامهم، والتي قد تؤدي في بعض الأحيان إلى تدميرهم!

تحاول فكرة هذا الوثائقي التأكيد على أنه من غير العادل معاملة اللاجئين بشكل مختلف عن غيرهم من الناس، في الوقت الذي يبذلون فيه كلّ ما لديهم من أجل “الاندماج” و”العمل الإيجابي” في المكان الذي قد قادهم القدر إليه.  كما نلتقط من المشاهد والحوارات التي تابعناها؛ أثر فجوة اللغة والثقافة والأيديولوجيا، وتكريس النظرة الفوقية للقادمين من دول العالم الثالث، مما يعوق اندماجهم ومجاراتهم لشعوب تلك البلاد.

وفي حديثها معنا قالت ساندرا علوش: “الحكومات الأوروبية لديها منطقها المبني على نظرة استعمارية فوقية وهذا واضح في كل الجوانب، فمثلاً نظام الفيزا مختلف تماماً إذا كان الزائر قادماً من دولة مثل كندا أو البرازيل عنه إذا كان الزائر قادماً من دولة إفريقية أو شرق متوسطية أو جنوب شرق آسيا؛ بالتالي ليس لكل المهاجرين نفس الحقوق ونفس المعاملة وهذا يخلق ظلماً اجتماعياً تدفع ثمنه المجتمعات المهاجرة من خلال عدم تكافؤ الفرص في التعليم والعمل والمشاركة السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية وتتسبب بعزل هذه المجتمعات وخلق مشاكل أكبر للدول المضيفة”.

وتضيف: “لكن بالمقابل هناك مسؤولية تقع أيضاً على المجتمعات المهاجرة في تقبل الثقافة الجديدة التي دخلوا إليها، وتغيير بعض العادات والتقاليد والمفاهيم التي لا تتناسب مع المجتمعات الأوروبية ومحاولة تغيير الصورة النمطية عن المهاجرين واللاجئين وتعريف المجتمعات المضيفة بالجانب الإيجابي من ثقافاتنا المختلفة”.

من ناحية أخرى يطرح الفيلم المشاكل من نظرة واقعية، عقلانية، بعيداً عن اللعب على وتر الضحية. يقدم وجهة نظر خبراء من المجتمعات المهاجرة، ويناقش هؤلاء القضية من جميع الجوانب مقترحين حلولاً عملية.

نرى بعض التجارب الفردية الناجحة التي تمثل كفاحاً حقيقياً في بيئة غير متعاونة، ينتج عنها قصص نجاح مؤثرة وملهمة، فقد تحولت معاناة بعض اللاجئين إلى مشاريع مناهضة للعنصرية التي طالتهم وتطول سواهم، فهم لا يكتفون بعرض المشكلة وتصوير المعاناة، بل يحاولون طرح الحلول والمقترحات أيضاً.

لقد كانت ساندرا علوش لاجئة من بين هؤلاء قبل وقت قصير، ومرّت بمعظم تلك الصعوبات، وتحدثنا اليوم عن ذلك قائلة: “لطالما كنت مهتمة بحقوق الإنسان والعدالة والحرية، وتبلورت هذه القيم من خلال تجاربي الشخصية والمهنية التي وجهتني بشكل أو بآخر لأن أدرك أنني أريد تسخير طاقتي لتحسين أوضاع المجتمعات المهاجرة والمهمشة في أوروبا. ولربما أدخل المجال السياسي يوماً ما للتمكن من تمثيل جزء من اللاجئين والمهاجرين هنا.. كل شيء وارد.. فأنا أؤمن بأن التغيير المطلوب يحدث من داخل مجالس النواب الأوروبية وبالأساليب الديموقراطية المتاحة؛ مدعومة بضغط شعبي” على حد تعبيرها.

وعن رحلة صناعتها لفيلم “في عيونكم” قالت ساندرا علوش في حديثها لموقع صالون سوريا: “بدأت العمل على تطوير الفكرة في أبريل/ نيسان 2023 بالتعاون مع الصحفي الأرجنتيني “إنريكه تيسيري” المقيم في فنلندا، والناشط أيضاً في الدفاع عن حقوق المهاجرين. ثم بحثنا عن فرص للتمويل وقمنا بتقديم الفكرة للشبكة الأوروبية ضد العنصرية ENAR وحصلنا على تمويل صغير بقيمة 5500 يورو. قمت بالتصوير وحدي في شهر أغسطس/ آب في هولندا وفرنسا وسويسرا وبلجيكا، وتعاونت مع طارق حداد لتنفيذ العمليات الفنية البصرية والسمعية، كما حصلت منه على حقوق استخدام مقطوعات موسيقية من تأليفه في الفيلم لتكون هي الموسيقى التصويرية. عُرض الفيلم للمرة الأولى في مدينة أوتريخت ضمن فعالية قمت بتنظيمها مع منظمة New Women Connectors، حيث دار نقاش مع الحضور حول الفيلم وموضوع الهجرة واللجوء؛ ثم عرضنا الفيلم في بروكسل بحضور عدد من منظمات المجتمع المدني”.

أما عن الصعوبات والتحديات التي واجهها ويواجهها الفيلم حالياً، تقول علوش: “تركزت الصعوبات بالنسبة لي في الميزانية المحدودة التي فرضت علي تنفيذ الفيلم بأقل الإمكانيات؛ ومن ثم أصبحت الصعوبات في التسويق، والذي يتطلب شبكة علاقات قوية مع منصات ومحطات مختلفة، خاصة وأنه يتناول موضوع حساس قد يتعارض مع سياسات معظم المنصات وقنوات العرض”.

ومع ذلك لا تزال “علوش” تسعى لتسويق “في عيونكم” والمشاركة في العديد من الفعاليات، لعلها تتمكن من إيصال الرسالة الحساسة والمهمة التي يطرحها الفيلم، حيث ينافس حالياً في عدة مسابقات، من ضمنها مهرجان أفريقيا لحقوق الإنسان، حيث سيتم عرضه في العاصمة كيب تاون.

ويبدو أن ساندرا علوش لن تتوقف عن توثيق وتصوير الواقع لنا، ولكن هذه المرة بطريقة أكثر ابتكاراً، إذ تقوم الآن بالتنسيق والتعاون مع مغني الراب اللبناني بو ناصر طفار، لإنتاج عمل جديد يستعرض أهم أحداث الشرق الأوسط خلال الأعوام الخمسة عشر الفائتة، والذي سيمثل تجربة فريدة، وسيكون عملاً ذا طابع جديد ومختلف، من خلال دمج النضال السياسي بالموسيقى.