بواسطة فدوى العبود | سبتمبر 18, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, مقالات
تُجِمع الدراسات التي تناولت حياة مريانا مراش على أهميتها في الصحافة العربية المعاصرة، وريادتها التي تمثلت في تأثيرها على بنات جيلها والجيل الذي يليه.
جاء ذلك من انشغالها بهموم المرأة ودعوتها لتحريرها عبر التعليم وربطها الوعي والاستنارة بالتحرر الخلاق من القيود. هذه الأفكار أدت لاحقاً لبلورة مشاريع فكرية قامت بها النساء في سوريا ومصر والوطن العربي.
تكشف سيرة حياتها بين ميلادها في حلب 1848 ورحيلها 1919 عن نبوغ بحيث تفتحت مداركها في بيت يهتم بالأدب والفكر والثقافة، وتتلمذت في مكتبة والدها فتح الله مراش، وعلى يد شقيقها الأديب فرنسيس مراش أحد أركان النهضة الأدبية في سوريا في القرن التاسع عشر. وتنقلت بين مدارس حلب والمدرسة المارونية والإنجيلية في بيروت، ومدرسة راهبات مار يوسف حيث أتقنت العربية والفرنسية والموسيقى فكانت من أبرع العازفات على البيانو، وفي الثانية والعشرين وما إن اكتملت ثقافتها حتى أخذت تنشر مقالاتها في الصحف والمجلات وأهمها مجلة “الجنان” ومجلة “لسان الحال”.
إن أهمية تجربتها تدفع قارئها لتفحص تمثلات هذه الريادة وتأثيرها وأهميتها بالنسبة لمعاصريها وللأجيال اللاحقة؛ فهي وقياساً لظروف عصرها وجدت في مرحلة صعبة زمنياً وهي فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وثقافياً فرغم أن المرأة في تلك الحقبة قد نالت في الدساتير والقوانين الحقوق التي جاءت في النصوص القانونية لكن الوضع الاجتماعي للمرأة كان أسيراً لدونية النظر إليها، والتقاليد الاجتماعية التي تحرمها حرية التحقق و التفكير في بيئة تسودها قناعة بأنه لا يجب تعليم الفتيات، وقد وصفت مارلين بوث تلك الفترة بأن الوضع وصل إلى حد أنه “لا ينبغي على الفتاة أن تجلس في غرفة استقبال الضيوف” الرجال”.
المسألة الأكثر جوهرية: تفرّد تجربتها ويرى د. محمد علي اسماعيل” أن ريادتها تتأتى من كونها صاحبة الموضوع الأول المشتمل على الأفكار الأولى؛ التي أثرت في الآخرين، فتأثر بها الآخرون وساروا على منوالها، أو استفادوا منها”
وكانت مقالتها اللافتة والأبرز والتي نشرها بطرس البستاني في مجلة الجنان البيروتية في شهر يوليو من عام 1870 بعنوان: شامة الجنان دعت فيها الكتاب لتطوير موضوعاتهم وتحسين مناقشاتهم ولغتهم، كما حثت النساء على الثقافة والعلم ومما جاء عنها أن “مقالاتها في “لسان الحال” “تناولت مجتمعها وعاداته وتقاليده وعمّا حولها من آثار التخلف، وكانت تستحثه على النهوض والابتعاد عن الجمود، وتدعو بنات عصرها إلى الاستنارة والتحرر من القيود مشجعة البنات على الكتابة، داعية المجتمع إلى تحرير المرأة والتمدن والاقتباس من الحضارات، فجاءت دعواتها واقعية جريئة على المجتمع المستكين، وتنثر بين الفتيات روح التمدن والأخلاق والجرأة والشجاعة الأدبية. كما بينت أسباب الانحطاط في المجتمع، مُقارِنة بين المرأة الأوروبية والعربية وقد جاءت مقالاتها احترافية مشبعة بلغة جديدة متخلصة من التقليد السائد”
ما جعل البعض يرى أن أثر أفكارها لم يتوقف عند حدود مقالاتها، بل كان “بداية ولادة حركة نسوية سورية فقد تم عام 1880 تأسيس جمعية علمية أدبية نسائية من قبل سيدات سوريات رائدات أطلقن عليها اسم (باكورة سوريا) وكانت أهدافها مستوحاة من أفكار مريانا مراش وآرائها بتفتيح عقول النساء وتطوير وضعهن الاجتماعي”
ولن تتوقف مراش عند حدود الدعوة لمشاركة المرأة والتحرر الاقتصادي بل ستترك جدلاً وأثراً على أقلام النساء اللواتي تأثرن بهذه الدعوة ” إذ تلقفت السيدة وستين مسرَّة دعوة الآنسة مراش، فنشرت في عام 1871 في مجلة “الجنان” أيضاً مقالة بعنوان “التربية”، أيدت فيها دعوة مرَّاش لطرد “الخوف والوجل”، داعية النساء لأن يرمحن في ميادين الأدب بالقول والعمل”.
هذا الأثر امتد لتساؤلها حول الكتابة فانتقدت أساليب الكتّاب المقعرة في ذلك العصر وكانت تدعو الى تطوير طرق الكتابة والإنشاء وتنويع الموضوعات.
وقد وصل أثر دعوتها إلى مصر “فتبنتها السيدة فريدة شكور، معلمة ثم مديرة مدرسة البنات الأميركية في القاهرة، إذ كتبت في مجلة “الجنان” أيضاً عام 1874 مقالة بعنوان “في النساء” أعادت فيها صياغة أفكار مريانا مراش؛ لتعالج موضوعها عن تربية البنات من أجل إعداد الأسرة المتمدنة مستقبلاً”.
إن جوهر تجربة مريانا مراش، هو أنها استطاعت كامرأة وسط مجتمع يعاني تبعات الفقر والجهل من أن تكتب مقالاتها باسمها الصريح وتحث على شجاعة العقل فقراءة نتاجها يدل بوضوح على كونها امرأة سابقة لعصرها وقيمة تفكيرها كانت في عقلها التحليلي ورؤيتها المستقبلية وقدرتها على الإقناع.
كما أصدرت مجموعة شعرية بعنوان “بنت فكر” وكتاباً عن تاريخ سوريا أواخر العهد العثمانيّ، بعنوان “تاريخ سوريا الحديث” ولكن مأثرتها الكبرى التي تذكر لها أنها أسست في منزلها أول صالون أدبي وقال عنها الأديب سامي الكيالي في مجلة الحديث التي تصدر في حلب: “عاشت مريانا صبابتها في جوّ من النعم والألم مع الأدباء والشعراء ورجال الفكر، وقرأت ما كتبه الأدباء الفرنسيون والعرب فتكونت لديها ثقافة تجمع بين القديم والحديث”.
التقاطعات والمصائر المشتركة.
اللاّفت أن أغلب الدراسات التي تناولت سيرة حياتها، تنتهي بعبارة هزمها مرض عصبي أواخر حياتها، وقد وصفها قسطاكي الحمصي “وكانت مليحة القد، عذبة المنطق، طيبة العشرة، تميل إلى المزاح، حسنة الجملة، عصبية المزاج، وقد تمكن منها الداء العصبي في أواخر سني حياتها، حتى كانت تتمنى الموت في كل ساعة”.
وهذا يجعلنا نتأمل ويستدعي إلى الذهن مصير رائدات التنوير عربياً وغربياً، فقد لقيت الأديبة مي زيادة والكاتبة فرجينيا وولف المصير ذاته، بل أن الرائدة الإنكليزية ماري كرافت 1793 أول داعية للحرية النسوية أصيب بمرض عصبي؛ ومما لا شك فيه أن ظروف النساء تلك الفترة لم تكن هينة، وربما هذا المآل الذي تنتهي له حياة المفكرات والرائدات شرقاً وغرباً يحتاج إلى مقال آخر ووقفة أخرى!
فالهدف من هذا المقال، هو فتح باب للنقاش واستعادة للتأثير المهم لرائدة من رواد الصحافة، وقد حلل د. محمد علي اسماعيل تأثيرها النابع من قوة فكرها الماثلة في “اتباعها أساليب التحليل الاحترافي والقراءة الذكية لواقعها وتقديم أفكارها عبر التمثيل والمقارنة والتعليل وأساليب المحاكمة الرفيعة”.
إن تحدي الآراء السلبية، ومعارضة قناعات المجتمع بأسلوب تحليلي عقلي هو الذي جعل مقالاتها ودعواتها ـتنتشر بين النساء في أنحاء الوطن العربي، لقد غامرت بالكتابة ورفعت صوتها وهي تعرف مسبقاً أن هذه المغامرة لها عواقبها. وأخذت على عاتقها تصحيح الصورة الخاطئة، التي رُسِمت لها في الثقافة والحياة وفي مخيال المجتمع الذكوري في بيئة مقيدة بالأحكام والمنع والنبذ. تكتب هيلين سيكسوس “إن الكتابة الأنثوية المنشودة، ككتابة، تتجاوز السلطة الذكورية في مغامرة البحث عن الذات، وككتابة، تستكشف قدرات المرأة المسكونة بالرعب، وترسم نساء في حالة طيران، وليس في حالة سير على الأقدام”(1)
كانت مريانا رائدة، تعرف بعقلها المتفتح أن هوية المرأة وكينونتها الأصيلة هي في تعليمها واستقلالها الفكري، وأدركت أن الثمن الذي تدفعه مغامرة الكتابة أهون بكثير من الثمن الذي يدفعه من يترك للآخر أن يحدد له هويته؛ وهي تنتمي إلى جيل من الرائدات اللواتي فتحن الآفاق لصحافة تكتب فيها المرأة إلى جانب شريكها الرجل وأدركن بحدسهن المستقبلي أن تحرر المرأة لا يعني حرباً مفتوحة؛ لذلك سيكون صالونها ملتقى لكلا الجنسين ومنبعاً للحوار والنقاش والموسيقى، وسيبقى اسمها مرتبطًا بكونها أول امرأة عربية حققت ريادتها عبر تأثيرها الواقعي وفتحت في الصحافة كوّة لتغيير الواقع.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
هوامش:
-أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر، قسطاكي الحمصي، المطبعة المارونية، حلب، 1925.
-مريانا مراش…. رائدة الشعر النسائي السوري وأول صالون أدبي، سنان ساتيك، مقال منشور في موقع الجزيرة نت، 2019.
-سيد علي اسماعيل، مريانا مراش ريادة تاريخية أم فكرية؟ – مجلة (تراث) الإماراتية -عدد 144 و145 -2011.
-حين تشارك المرأة في كتابة التاريخ. مريانا مراش، مقال ومبادرة “الباحثون السوريون”.
-الموسوعة الصحفية العربية، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إدارة الثقافة
-تاريخ الصحافة العربية، فيليب دي طرازي، 1913، الجزء الثاني، تموز 2021
-نبيل سليمان: نظرية الأدب النسوي، مغامرة البحث عن الذات-ضفة ثالثة 11-أكتوبر -2016.
بواسطة علي محمد إسبر | سبتمبر 7, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, مقالات
كان عبد الرحمن الكواكبيّ (1855-1902 م) شخصيّة استثنائيّة نادرة في عصرٍ مُظلم، ولقد امتازَ بشعورٍ فريدٍ بحرّيته بين أُناسٍ سُلِبت منهم القدرة على المبادرة والفعل والتعبير عن الرأي، فاكتشف أنَّ كثيراً من أبناء جِلدته مِنَ العرب يغرقون في مَوْحِلِ الجُبن والضَّعف والاستسلام لواقعٍ قاسٍ فرضته عليهم قُوى حاكمة، تمثّلت آنذاك في السَّلطنة العثمانيّة، وأدرك بعمق بصيرته أنَّ سبب الانهيار الرَّهيب في القيم والمبادئ والأخلاق ناجم عن الطَّاعة العمياء للحاكمين أو ولاة الأمر. ولقد أُصيبَ الكواكبيّ بخيبة أمل كبرى من تماهي النّاس مع سَحْقِهم وظُلمهم وتهميشهم، أي إنَّ الإنسانَ أصبح مجبولاً بعبوديته، إلى حدّ أنَّ الحريّة أصبحت ظاهرة غريبة وغير مقبولة بين النّاس؛ لأنَّها يمكن أن تسوقهم إلى نهاياتهم. من هنا وجد الكواكبيّ بعمقه البالغ أنَّ النّاس أنفسهم هم أساس قوّة الحاكمين الظَّالمين. ويرجع خنوع النَّاس في رأيه إلى أنّهم-في مرحلة السَّلطنة العثمانيّة-لم يعودوا قادرين على التمييز بين السُّلطة الدينيّة والسُّلطة السياسيّة؛ لأنَّ شخصيّة الحاكم لَبَست لَبوس القداسة، فالتبست على عقول العوام الأمور، فظنّوا أنَّ معارضة الحاكم هي معارضة ولي الأمر الذي يمثِّل المطلق أو الألوهيّة. ويمكن إرجاع هذه الطَّريقة من التّفكير عند الكواكبيّ إلى هدفٍ رئيس وهو تقويض تمثيل السلاطين العثمانيين للخلافة الإسلاميّة، لنزع فكرة حصانتهم الدّينيّة من عقول النّاس، وتحفيز العرب على استرجاع حقّهم بالسُّلطة؛ لكن الخنوع لرهبة السلطة الدينيّة العثمانيّة كان أكبر من طموح الكواكبيّ بإحداث تغيير جذريّ. واستنبطَ الكواكبيّ من ذلك حدوث امتزاج بين الاستبداد الدِّينيّ والاستبداد السياسيّ، فأصبح مضمون الطغيان باسم الدِّين مسكوباً في دَنِّ الطُّغيان السياسيّ، أو بالأحرى وُظِّفت أدوات الاستبداد الدِّينيّ على نحوٍ غير ظاهر لصالح الاستبداد السياسيّ؛ لذلك يتبنّى في كتابه “طبائع الاستبداد” رأياً عن الحكّام الذين هم وفق ما ذكرَ: “يسترهبون النَّاس بالتعالي الشخصيّ والتشامخ الحسيّ، ويذلونهم بالقهر والقوَّة وسلب الأموال حتى يجعلونهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم يتمتّعون بهم كأنّهم نوع من الأَنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون.”[1]
ويدهشُ المرء من هذه الشجاعة المنقطعة النّظير التي تحلّى بها الكواكبيّ في عصر كان يمكن إسكاته فيه بأبسط الطُّرق، إلا أنّه آثر المسير في مشروعه الفكريّ ذي الخصوصيّة الغريبة عن الأجواء الثقافيّة السَّائدة في عصره. وكانت الموضوعة الرئيسة الشَّاغلة له هي قبول الإنسان بذله ومهانته واستعباده، فحاول أن يبحث عن الأسباب التي تقف وراء اقتناع الإنسان بسلبه من شخصيته الإنسانيّة الحرَّة.
ويثير الكواكبيّ إشكاليّة تدلّ على عُمق في التّفكير لا نظير له، فهو يبحث في موقف الطُّغاة من العلوم، ويُحدِّد ببراعة فائقة أنواع العلوم التي يسمح المستبدّون للنّاس بتعلُّمها؛ لأنّها لا تؤدي إلى تطوير تفكير المتعلّمين على نحو يهدِّد عروش هؤلاء الطُّغاة.
يقول الكواكبيّ: “المُستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوِّم اللسان، وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان (…) وكذلك لا يخاف المُستبد من العلوم الدينيّة المتعلّقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربّه، لاعتقاده أنّها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنّما يتلهّى بها المتهوِّسون للعلم، حتى إذا ضاعَ فيها عمرهم، وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذَ منهم الغرور ما أخذ، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذٍ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شرّ السّكران إذا خمر (…) وكذلك لا يخاف من العلوم الصِّناعية (…)، لأنَّ أهلها يكونون مسالمين صغار النّفوس، صغار الهمم، يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز، ولا يخاف من الماديين لأنَّ أكثرهم مبتلون بإيثار النَّفْس، ولا من الرِّياضيين لأنَّ غالبهم قصار النّظر.”[2]
يكشف الكواكبيّ هنا أنّه لا يمكن تأسيس وعي حقيقيّ داخل المجتمعات الخاضعة للاستبداد، لأنَّ الإيديولوجيا التعليميّة للمستبدين، بوجهٍ عامٍّ، تقوم على نشر علوم لا تؤدي إلى تكوين ثقافة حقيقيّة لدى الإنسان، فعلوم اللغة، لا تساعد على امتلاك رؤية حقيقيّة للواقع، وتقتصر على تنمية قدرات هي في حدّ ذاتها لا تعدو أن تكون وسائل لتحصيل علوم من نوع أعلى. كما أنَّ العلوم الدينيّة التي تركِّز على العالم الآخر، ونشر روح الزُّهد والتخلّي والحياد، تسهم في تمكين الحكم للمستبدين، لأنها تدفع الإنسان المتديِّن بهذه الطَّريقة إلى ترك الواقع، كما هو، من دون أن يُعنى بتغييره، ويغلق أبواب نفسه عليه، غارقاً في عوالم موهومة مجذوذة الصِّلة بالحياة الإنسانيّة في أبعادها المختلفة. هذا، إلى أنَّ الكواكبي نبّه إلى أنَّ العلوم الصِّناعيّة لا تدفع المستبدين إلى القلق من انتشارها بين النَّاس، لأنَّ المعارف التي تتأسّس عليها والنتائج المحصّلة فيها تقتصر على أمور تقنيّة نافعة للحياة، والذين يمتلكون العلوم التي تبتكر المنتجات الصّناعيّة-في رأي الكواكبيّ-لا يفكّرون إلا بالأرباح، ولن يفكِّروا بتغيير الواقع ومواجهة المستبدين، لأنهم راضون بما هو كائن، واستمالتهم تُعَدُّ أمراً سهلاً بالنسبة إلى الحكّام الطغّاة. ويبني الكواكبي في سياق كلامه استنتاجاً يستحق التأمُّل وهو أنَّ المستبد لا يخاف من الماديين، ويقصد من ذلك أنَّ المعارف التي تُنمِّي الفهم الماديّ للعالم تولِّد شخصيات غارقة في نزعة ذّاتيّة-حسيّة إلى أقصى حدّ، وغير مكترثة بمشكلات وآلام الآخرين. دعْ أنَّ الكواكبيّ يتّخذ موقفاً سلبيّاً من الرِّياضيين، ويعني بهم علماء الرِّياضيات، ويبدو أنَّه لم يكن من المُعجبين بعلم الرياضيات، لأنَّ المعرفة الناتجة عن هذا العلم تبقى في حيِّز تجريديّ، ولا تقدّم رؤية حقيقيّة عن معاناة الإنسان في العالم.
يمكن هنا أن نكتشف في شخصيّة الكواكبيّ ناقداً إبستمولوجيّاً للعلم من الطراز الرّفيع، ويتصف نقده بخصوصيّة نادرة، فهو يحدّد قيمة أي نوع من أنواع العلوم من جهة دوره في مساعدة الإنسان على مواجهة الطغيان والاستبداد والظُّلم. والحقيقة أنَّ هذا الضَّرب من النَّقد لا يجب أن يُعَدّ غير منصف في مجتمعات تحتاج إلى تحفيز أفرادها لاستعادة وعيهم بضرورة حرّيتهم.
ويتابع الكواكبي كلامه بشأن علاقة ماهيّة العلم بمواجهة الاستبداد قائلاً: “ترتعد فرائص المُستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النّظريّة، والفلسفة العقليّة، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنيّة، والتّاريخ المفصَّل، والخطابة الأدبيّة، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النّفوس، وتوسِّع العقول، وتُعَرِّف الإنسان ما حقوقه، وكم هو مغبون، وكيف الطلب، وكيفَ النّوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم النّاس بالخطابة أو الكتابة…”[3]
يقصد الكواكبي بعلوم الحياة –كما هو ظاهر من كلامه-الفلسفة والعلوم الإنسانيّة، ولم تكن دلالة العلوم الإنسانيّة واضحة في عصر الكواكبيّ، إلا أنه كان واعياً مما ذكره بمدى تنوّع العلوم الإنسانيّة، فذكر “علم السياسة المدنيّة” “وعلم حقوق الأمم (=القانون الدولي لحقوق الإنسان) –وهما علمان معياريّان-، وعلم الاجتماع–وهو علم تعميميّ-، وعلم الخطابة –وهو علم فنّي-، كما ذكر التّاريخ المفصّل ويدخل في إطار العلوم الإنسانيّة. إذن، نحن هنا بإزاء مفكِّر سوريّ مضى على موته نحو مئة وواحدٍ وعشرين عاماً كان واعياً في أكثر العصور ظلاميّةً بأهميّة العلوم الإنسانيّة لإنقاذ الإنسان العربيّ من الاستلاب الذي يعانيه في مختلف جوانب حياته.
ولقد ركّز الكواكبيّ على خوف المستبدين من الخطابة والكتابة، وتُعَدَّ الخطابة سبباً رئيساً لنشر الوعي بين النّاس، فالخطيب المفوّه قادر على تغيير سيكولوجيا النّاس، تحديداً إن كان يقول الحقيقة، فإنّه يستنفر غضبهم على الظَّالمين، ويدفعهم إلى إعادة النّظر في قناعاتهم، وتوجيه جهودهم نحو مواجهة المستبد، لذلك كان رأي الكواكبيّ في مكانه، فكلّ مَنْ يُعبِّر عن رأيه بشجاعة، خطابةً أو كتابةً، يُعَدّ خطراً داهماً على العرش، ولذلك لا بدّ من إسكاته، فاتّبع المُستبد سياسة تكميم الأفواه، وأصبح أي إنسان عُرْضة لأفظع أنواع العقوبات إذا امتلك الجرأة على الكلام الذي يضرّ بمصلحة المُستبد.
ويتحوَّل الكواكبيّ إلى مُحلِّل نفسيّ لشخصيّة المُستبد، فيذهب في تحليله إلى أبعد الأعماق، كاشفاً خبايا نفسه، على نحوٍ يدعو إلى الإعجاب الشديد من براعة وصفه:
“المستبد في لحظة جلوسهِ على عرشه، ووضعِ تاجه الموروث على رأسه، يرى نفسَه أنّه كان إنساناً فصار إلهاً. ثم يرجعُ النّظر فيرى نفْسَه في الأمر نفْسِهِ أعجز من كلِّ عاجز، وأنّه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش؟ وما التّاج؟ وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الرّيش في رأسك طاووساً وأنت غراب؟ (…) والله ما مكّنك في هذا المقام وسلّطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظرْ أيُّها الصَّغيرُ المُكَبَّر، الحقيرُ الموقَّر، كيف تعيش معنا؟!”[4]
لقد كان الكواكبيّ شجاعاً –وهذا أمر يجب التأكيد عليه دائماً-بل كان بطلاً فكريّاً قلَّ نظيره، وكانت شخصيته مجبولةً بحبِّ الخطر، وقد اختار مواجهة الظَّالمين، وأكسبته أسفاره الكثيرة خبرات كبيرة، فقد كان جوَّاب آفاق: سافر إلى الهند والصين ووصل إلى سواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا إلى أن ألقى عصا التّرحال في مصر، ولكن في مصر-كما يُجمِع المؤرِّخون- ترّصده أتباع السلطان العثماني عبد الحميد، ودسّوا له السُّم في فنجان قهوة في حينما كان جالساً مع أصدقائه في أحد مقاهي حي الأزبكيّة في القاهرة، فمات أحد أكثر المفكِّرين جرأة في التّاريخ العربيّ الحديث، واختفى مع موته كتابان هما “صحائف قريش” و”العظمة لله”، وقيل: إنَّ أعواناً للسلطان عبد الحميد سرقوا هذين الكتابين من منزل الكواكبيّ، ولم يبق من كتبه سوى “طبائع الاستبداد” و”أُمّ القُرى”.
ولكن ها هو صدى صرخته المدويّة التي تُعبِّر عن اليأس الكبير الذي كان يسري في نفسه، ما زال يتردّد وقعها في أسماعنا:
“يا قوم ينازعني والله الشُّعور، هل موقفي هذا في جمعٍ حَيٍّ فأحييه بالسَّلام، أم أنا أخاطبُ أهل القبور فأحييهم بالرَّحمة؟! يا هؤلاء، لستم بأحياء عاملين، ولا أموات مُستريحين، بل أنتم بين بين: في برزخ يُسمّى التنبّت، ويصح تشبيهه بالنّوم! يا ربّاه: إنّي أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة، وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون.”[5]
الحواشي
[1] -عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تحقيق وتقديم: محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، ط2، 2009، ص: 30.
[2] -المصدر نفسه، ص: 45.
[3] -المصدر نفسه، ص: 44-45.
[4] -المصدر نفسه، ص: 59.
[5][5] -المصدر نفسه، ص: 108.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
بواسطة دعد ديب | أغسطس 24, 2023 | Culture, العربية, مقالات
رغم التطور العلمي المتسارع والاختراعات التكنولوجية، مازالت الغيبيات تشكل عنصراً أساسياً من حياة الكثير من أعضاء مجتمعنا، ما يجعل فكرة تفكيك المقدس وتناوله بالتمحيص والتدقيق وطرح الشك والسؤال ركيزة لا بد منها للنهوض بالعقل المستنير المعتمد على الحقيقة العلمية المثبتة فكريًا، كخطوة أولية للحاق بركب التطور واختزال الزمن الذي يفصلنا عن مواكبة آخر ما توصلت إليه الحضارة الإنسانية.
من هنا برزت أهمية الجرأة في تناول الأدب لفكرة محاورة المقدس رغم ما ينتظر من يقتحم هذا الموضوع من مخاطر التكفير والتهديد بالقتل وقريب العهد محاولات المتشددين اغتيال نجيب محفوظ ومحاربة نصر حامد أبو زيد ونجاحهم في اغتيال فرج فودة رغم أنهم يعترفون بعدم قراءتهم شيئًا لكل من ذكر. ولكن نما إليهم أنهم كافرون ومعادون للدين، فالدين يتشارك في كل مناحي الحياة الدنيوية التي تتغير بشكل متسارع ما يستوجب إعادة فهمه وقراءته بما يتناسب وروح العصر المتغير، وهذا ما اشتغل عليه أنور السباعي في كل من روايتيه: الأعراف ” برزخ في جنتين” و”مسيح الخلافة” حيث العتبة النصية بالعنوانين توحي بمقاربته للمسألة وتثير التساؤل بمقاصده وتدفع القارئ لتقصي ما يكتنف هذا العنوان من لبس وغموض.
ففي رواية “الأعراف” الصادرة عن كتابنا لعام 2018 يسوق الأقدار للقاء في زنزانة بين شيخ إمام جامع و ثوري ملحد على خلفية الأزمة التي مرت على البلاد السورية ضمن حوارية عملت على خلخلة العقلية الدينية في عمق قضاياها المسلم بها ورغم ضيق المكان الذي احتجزا فيه كان الفكر يحلق عاليًا مفككًا التاريخ والشرائع والنزاعات العقائدية والمذهبية يستند فيها إلى قول جلال الدين الرومي: “الحقيقة كانت مرآة بيد الله، وقعت وانكسرت شظايا، لذلك صار كل من ينظر في جزء منها يعتقد أنها الحقيقة كاملة.” ومن هذا الباب يتمترس كل في موقفه ويدعي احتكار الحقيقة ويرى الآخر مخالفًا له، رغم أن كل طرف منهم يستند على جزء منها ويترك جزءًا آخر ويمضي الحوار متصاعدًا حول معنى قبول الإله بالظلم المطبق على البشر وقتل الأطفال والكوارث التي تحصل. ما معنى أن يتفرج على ذلك كله، معرجًا على موضوع العقاب والثواب ومعنى العبادة ذاتها وما حاجة الإله المتعالي إليها وهو الغني عن ذلك كله، وربطه حواريات الفقهاء بالواقع السياسي في كل مرحلة، وكيف وظف الدين دائمًا في خدمة السياسة وحصد نتائجها المدمرة الفقراء والمضطهدون مستعرضًا بعض الآيات العنفية: “إن الذين كفروا بآياتنا، سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب” سورة النساء:56، عدا عن إثارة قضية خلق القرآن من جديد، هل هو خالق أم مخلوق؟ التي راح ضحيتها العديد من أصحاب فكر المعتزلة في التاريخ وهذا بحد ذاته كاف كي نتجاوز النصَّ إلى المعنى والفكر المعاصر.
أما في روايته “مسيح الخلافة” الصادرة عن دار سامح للنشر لعام 2022 فقد بدأ بها كمن يسرد يوميات كائن يعيش اللاجدوى في السويد ولا يستوعب عقله أن تخلو الطرقات من الجثث والضحايا وألا تثقب أذنيه أصوات الهاون والمتفجرات مستحضرًا ذاكرة قريبة تشبه في جزء منها أدب اليوميات في رؤية حداثية لتمازج الأجناس الأدبية عبر مذكرات الشخصية المحورية جيلان وتقاطعها مع حياة فادي وتلاقي مصائرهما رغم الاختلاف الطائفي، الطائفية التي كان لها وجوداً مدمرًا في المقتلة السورية، وقد اجتمعت فصائل جهادية من كافة جهات الأرض لتمعن في النسيج الاجتماعي هتكًا وتمزيقًا، وتغيب بعدها مطالب الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية حيث تبدلت المواقع مع أسلمة الحراك وتنوعت الأصوات والآراء والمواقف بين مؤيد ورافض وصامت.
فمقاربة المقدس الاجتماعي بدأت منذ البداية عندما تنامت تساؤلات جيلان الشخصية المحورية عن مفاهيم العقل الذكوري السائد باستخدام مفردات الأنوثة على شكل شتائم وما مر بها من الهواجس الأولى للفتاة وخوفها من ملامح أنوثتها؛ ولماذا هي عورة، وتخوفها من الحيض الأول؛ وبين الحيض والموت قصة حياة كل أنثى في الشرق وتطاولت أسئلتها لتتجرأ على المحرمات ورميها في محراب الرفض فمثلاً لماذا يحلل ضرب الزوج لزوجته في الآية المعروفة.
وما كلمات الأب ليتني “ما جنيت على أحد” كنوع من التناص مع وصية أبي العلاء على قبره “هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد” حيث نصف الكلمة يوحي بالشق الكامل الذي سكت عنه النص وهو تخوف الأب مما ينتظر كل امرأة لا تندرج في القطيع السائد فكيف تقنع المرأة بدين يدعو إلى ضربها، وهي ستضرب على أي حال ولكن مع الفتوى الدينية تحرر الذكر من عقدة الذنب تجاه الموضوع بأنه حق له ولكن علم الأخلاق هل يقول ذلك!
فالصبية التي ربيت على الاعتزاز وفق قول نوال السعداوي: “لا تكوني مثل أي أحد كوني أنت” في صوت متفرد للمرأة في النص سليلة أبوين من طائفتين مختلفتين تعاني مواجهة مضاعفة في الحق والانتماء والهوية.
لا يريد أنور السباعي أن يتهم بأنه متحيز لدين محدد أو طائفة معينة ونقدها فهو ينتقد الجميع لذلك رغم كل ما نعرفه عن المحبة بالمسيحية يورد قول السيد المسيح: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا.
فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا.” (متى 10: 34) مؤكدًا على وجوب تأويل أي نص بما يتفق وينسجم مع روح وحاجات الإنسان المعاصر حيث يرى بذور للعنف في أي دين يجري استثماره لقضايا دنيوية وعهود محاكم التفتيش لاتزال حاضرة في الذاكرة.
يدخل الكاتب عميقًا في أفكار الأقليات مشيراً إلى ظاهرة التقمص عند بعض الطوائف الباطنية وكيف تستخدم في التنابذ المذهبي مستبطنًا وقوفها على الحياد في الأزمة التي عصفت بالبلاد والخوف الذي تعيشه لانتماء ولدت به ويتم تكفيرها بناء عليه.
يضيء كذلك على الأعراف المبثوثة بالوعي الديني وكيف المعزون بجد فادي من الأصدقاء يتحرجون من كلمة “الله يرحمه” لأن الرحمة لا تجوز على الكافر أو النصراني “ص 133” في بعض الفتاوى المتشددة، ويعيد للأذهان عبارة “نصراني طورق” التي درجت في فترة ماضية كان لا يستطيع فيها أن يمشي بالسوق رافعًا رأسه، فادي كان صوت الآخر في الحراك الذي يرى كيف يقصيه لانتمائه المذهبي ويورد استهجانه للتاريخ الذي يعتبره كمسيحي ذميًا أي ناقص المواطنة. الإضاءة كذلك على مجتمع داعش المتشدد في المجالين الديني والاجتماعي الذي ينظر للنساء نظرة دونية واستعبادية فيقول: “كل النساء عاهرات ماعدا أمي” والمواقف المتطرفة الأخرى في فهم الشريعة فكل من يمتنع عن بيعة الأمير يصنف في حكم الخوارج ويتوجب محاربته وNهدار دمه.
وكل ذلك باسم الرب، لمن يدعي امتلاك صوت الإله وجنته وناره، ناهيك عن الخوف الذي يكتنف صورة عذاب الآخرة وتصوير الخالق بشكل مفزع يقوم بشي من لا يلتزم بتعاليمه وعبادته ليكون ظل المستبد ودريئته التي يتحصن بها.
في أسلوب آخر من قراءة المذكرات للدخول في تاريخية أحداث حصلت بطريقة ما وعلى الرغم من أنها طريقة كلاسيكية لكنها لبست لبوسًا عصريًا في ذاكرة فادي عبر استخدام الذواكر الرقمية وأجهزة النت، فطريقة زر الإطلاق بالقتل لا تشعر القاتل بوطأتها وبالجرم المرتكب وتبدو كأنها لعبة كمبيوتر تدرب عليها اليافعون طويلًا لذا لم يدركوا أبعادها، ألا وهي سهولة القتل الذي لا يرى القاتل فيها ضحيته.
الريف الحلبي يشتعل وآمال الثورة عند جيلان باتت في الحضيض. سوريون بانتماءات مختلفة يتبادلون مواقعهم المتناقضة فمن كان مع الجيش السوري انتقل لصفوف داعش ومن كان مع الجيش الحر صار مع الجيش النظامي وهكذا دواليك. وفادي تحول من الإنسان المسالم المؤيد إلى مجاهد دوره جز الرقاب عند فقدانه لذاكرته ما يذكرنا بالمسلوب في قصة جنكيز إيتماتوف الذي لا يعي ولا يتذكر من كان وإنما حنين عميق يسحب روحه لشيء ما ولا يدرك معناه.
ففي حادثة موت سلمى صديقة جيلان، كل الاحتمالات واردة بالتسبب في مقتلها، هل هم الثوار الذين هاجموا بسيارة مفخخة؛ أم هو النظام الذي اضطرهم للسلاح؛ أم أن السلاح كان موجودًا من اليوم الأول؛ أو من أعطاهم التمويل للسلاح؛ أو من صنع تلك السيارة التي فخخت. من القاتل ومن الضحية، حيت بات تبادل الأدوار بردود الأفعال والدفع نحو الانتقام كل لمظلوميته التي يراها.
السؤال القاسي هل خرجنا للحرية أم لدفنها، الحرية باتت ثوبًا مطاطًا يلبسه جسد بكل الأحجام والكل يعتبرها قضية له وهدفه، ولكن الضياع هو مآل الكثيرين ممن خابت أحلامهم وممن لم يكونوا يريدون الوقوف في صف الرصاص، الضياع الذي أودى بنوار “ابن الساحل” للانتحار وهو ابن السجين السياسي السابق خوفًا من دخوله في حرب ليس طرفًا فيها.
الاسم الكردي لجيلان صاحبة الرؤية الملونة التي بها جذبت عاشقها إليها إذ إن هشاشتنا تعكس إنسانيتنا، حاول الكاتب من خلالها المرور ليطرح بعض النماذج عن القضية الكردية ومظلوميتها في طرحه لهموم الجنسية والحق فيها.
ينفصل السارد عن شخصياته ليذكرنا أنه في السويد يعيش غربته الأخرى في الزمن الحالي الذي يطل فيه على ذاكرته القريبة يحاور ذاته: كيف لي أن أحيا بلا أصوات قذائف وبلا جثث موزعة على الطرقات، ويفتش عن وجود يكون فاعلًا فيه، فالراوي المجهول الذي نكتشف دوره في الحكاية يميط الستار عن الأحداث في البدء ويسدله مرة أخرى ليكون أحد الشخوص في نهاية حكايته وقد انكسرت أحلامه واغتصبت ثورته وبقي وحيداً لا يقبله أحد معبرًا عن خيبة جيل كامل توزع مقهورًا في رحاب الأرض.
بواسطة عامر فياض | أغسطس 17, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية
“نحن لا نصنع مسرحاً لكي نثبت فقط أننا لاحقون بركب المدنية، إننا نصنع مسرحاً لأننا نريد تغيير وتطوير عقلية، وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعاً.. المسرح في الواقع هو أكثر من فن، إنه ظاهرة حضارية مُركبة، سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً لو أضاعها وافتقر إليها”. ربما تلخص تلك الكلمات، وهي للمسرحي سعدالله ونوس، حجم المسؤولية الثقافية الكبيرة التي تحلى بها خلال مسيرته المسرحية، التي أبدعت مسرحاً جديداً، مسرحاً وجودياً فلسفياً يقوم على الجدية والوعي ويختلف عن مسرح الخطابة والتهريج، يؤمن بدور الفعل وتأثير الكلمة، يدافع عن قضايا الناس ويشجع المجتمع أن ينهض ويمتلك وعياً.
ومنذ مسرحياته الأولى ظهر ونوس، الذي درس الصحافة في القاهرة بداية الستينيات، كأحد أعلام التنوير، كونه من أكثر الكتاب المسرحيين العرب التزاماً بالقضايا الوطنية العربية، بل كان، في كثير من الأحيان، صوت ضمير العديد من المثقفين ولسان حالهم، في زمن الصمت والعجز عن حرية التعبير. حَمَل عنهم عبء المواجهة مع السلطات السياسية والدينية، وعبَّر من خلال كتاباته بشكلٍ واضحٍ عن فكره اليساري دون مواربة، وبرز مسرحه كأداة لنشر التوجهات الفكرية والتنويرية وعكس ظروف العالم العربي وعرَّى واقعه السياسي، فعقب نكسة حزيران كتب ونوس مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، التي جعلته من أبرز أعلام كُتاب المسرح، وتناول من خلالها واقع هزيمة العرب ووجع الشعب المهزوم. وعقب انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1987 كتب مسرحية “الاغتصاب” التي صورت الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال رواية فلسطينية وأخرى إسرائيلية، يميز فيهما بين الصهيوني واليهودي ويوضِّح حجم المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال. وقد كان ونوس من أكثر الكُتاب مناصرة للقضية الفلسطينية، وذلك منذ بداية دراسته لفن المسرح في فرنسا أواخر الستينيات، حيث أحيا مع زملائه العديد من النشاطات السياسية والثقافية، التي كانت تهدف للتعريف بقضية الشعب الفلسطيني.
ومنذ بداياته خلق ونوس تقنيات وأساليب مسرحية جديدة، أهمها تقنية كسر الحاجز بين المسرح والجمهور، أو ما يسمى بهدم الجدار الرابع بين الممثل والمتلقي. ومن خلال هذه التقنية كان ونوس يحضُّ المتفرج على المشاركة في بناء الحدث المسرحي ويتوقع منه أن يُعبِّر عن رأيه، ونستند في ذلك إلى كلام ونوس: “المتفرج هو النصف الأساسي لأي عرض مسرحي، هو هدف العرض، وهو مسؤول عنه أيضاً، لذلك عليه أن يمارس حقوقه كاملة، أن يؤدي دوره بشكل تام وإيجابي. عليه أن يملأ حيزه في كل نشاط مسرحي، أن يقبل ويرفض، أن يضغط ويقاطع، أن يقول ما يريد ويصحح ما يُحكى له. باختصار ألا يكون سلبياً يأخذ ما يُقدم له دون اعتراض، ودون تمحيص”.
في مسرحية “حفلة سمر” تكون الخشبة مضاءة منذ البداية والمسرح دون ستارة، مفتوح أمام الجمهور منذ دخوله إلى الصالة، فيما يجلس بعض الممثلين بين الجمهور ليؤدون أدوارهم من هناك، وهو ما جعل العرض أشبه بمسرحية داخل المسرحية وفسح المجال أمام الجمهور ليتفاعل مع العرض وليكون جزءاً منه، وأعطى للحدث وللشخصيات بعداً اجتماعياً مميزاً.
التقنية ذاتها استُخدمت في مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” التي تدور أحداثها داخل مقهى شعبي، حيث صُممت الخشبة على شكل ذلك المقهى، الذي يضم حكواتياً وعدداً من الزبائن. ومن خلال تفاعل زبائن المقهى وتعليقهم على الحكاية، التي يرويها الحكواتي، وتدخلهم في مجريات الأحداث، عمل ونوس على توريط المتفرج وجعله طرفاً فاعلاً في العرض المسرحي، وفسح له المجال ليتدخل في مجريات الحدث وليتفاعل مع الشخصيات (زبائن المقهى) ويخلق حواراً معهم.
تسييس المسرح
طرح ونوس مشروع تسييس المسرح ، بدلاً من المسرح السياسي، انطلاقاً من إيمانه بقدرة وأهمية هذا النوع من المسرح، الذي يقوم على فكرٍ نهضوي وتحريضي، في إحداث التغييرات السياسية والاجتماعية في العالم العربي. وهنا نستند إلى قوله: “على المسرح أن يُعلم الجمهور، ويعكس له أوضاعه بعد أن يحللها ويضيء خفاياها، وأن يحفز الناس على العمل، وأن يحثهم على أن يباشروا مهمة تغيير قدرهم الراهن. المسرح العربي الذي نريد هو الذي يدرك مهمته المزدوجة هذه: أن يعلم ويحفز متفرجه. هو المسرح الذي لا يُريح المتفرج أو يُنَفس عن كربته، بل على العكس هو المسرح الذي يُقلق، يزيد المتلقي احتقاناً، وفي المدى البعيد يهيئه لمباشرة تغيير القدر”. وبهذا المعنى فإن وظيفة المسرح لا أن يُفرغ طاقات الجماهير ويرفه عنها وإنما عليه أن يشحن الجماهير ويحرضها على التغيير ويطور عقليتها ويستنهض طاقاتها، ليتشكل وعيها السياسي وتستفيق من تخديرها، وذلك على عكس المسرح “التنفيسي” الذي كان سائداً في مرحلة السبعينيات وتنحسر وظيفته في إضحاك الجمهور والتخفيف عنه، وهو المسرح الذي كانت تستخدمه السلطات السياسية كأداة لإيهام الجمهور بأن هناك حرية تعبير عن الرأي. ولأن ونوس كان ناقداً لهذا النوع من المسرح جعل مسرحه أشبه بمنتدى سياسي واجتماعي يناقش أبرز القضايا والأسئلة الراهنة للجمهور، ويقوم على شراكة وتفاعل بين الممثل والمتلقي ليتعلم كل منهما من الآخر.
في مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” كان ونوس يهدف لتحريض الجمهور على التعبير بحرية عن مواقفه ووجهات نظره حيال ما يجري فوق الخشبة، ويدفعه ليفكر بشكل نقدي تحليلي، ويميّز بين الكذب والحقيقة، ليس فقط أثناء العرض وإنما في الواقع أيضاً، فالعرض ينتقد الحكومات والزعماء السياسيين والمؤسسات الرسمية فيما يتعلق بالنتائج الكارثية المؤلمة لنكسة حزيران وآثارها السلبية على الشعب، الذي تجرع مرارة الهزيمة، والذي سيواجه مختلف أساليب القمع من قبل السلطات السياسية في حال عَبَّر عن استيائه مما جرى أو ناقش أسباب الهزيمة.
وفي مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” يحاول ونوس أن يحفِّز الشعب على تغيير واقعه، عبر انتقاده لسلبية هذا الشعب وإذعانه المطلق لسلطة الزعيم، وانتقاد خوفه من الدفاع عن نفسه أو التعبير عن استيائه من الطغيان والظلم، والمطالبة بأبسط حقوقه المسلوبة. وتتحدث المسرحية عن فيل الملك، الفيل الذي عاث خراباً وفساداً في المدينة وأقلق راحة سكانها، ولكن الشعب المستاء من الفيل والمتضرر منه، وعوضاً عن تقديم شكوى للملك، اقترح تزويج الفيل تحت تأثير الخوف من عقاب الملك، وهو ما ساهم في مضاعفة آلامه وعذابه.
المسرح أداة لنقد السلطات
يعتبر ونوس من أهم الشخصيات الثقافية العربية التي جمعت بين التنظير والممارسة، عبر خطابه المسرحي الذي ساهم في نشر قيم الوعي والحرية وكان ناقداً لجميع الأشكال السلطوية في المجتمع. ففي مسرحية” الملك هو الملك” ينتقد السلطة السياسية، وذلك من خلال قصة ملكٍ ظلم شعبه ظلماً لا يطاق، فانتشر الفقر وعم الجهل والتخلف بين الناس وبات الشعب يتضور جوعاً ويحلم برغيف الخبز، وكان من بين هذا الشعب رجل معدم يتمنى أن يصبح ملك البلاد ليومٍ واحدٍ فقط، لكي ينشر العدل ويقضي على الجوع والفقر ويعيد للناس حقوقها المسلوبة، ولما ذاع خبر الرجل أمر الملك بإلقاء القبض عليه، وبدل أن يعاقبه أمر بتحقيق أمنيته وتنازل له عن العرش لمدة يوم، ولكن الرجل بمجرد أن وضع التاج على رأسه تغيرت أفكاره فجأة، فزاد الظلم ظلماً وفاقم واقع الشعب سوءاً. ما توضحه المسرحية هو أن صفات وممارسات الملوك ثابتة لا تتغير، فالملك هو الملك مهما تغيرت الوجوه والأسماء التي تشغل هذا المنصب.
وفي مسرحية “طقوس الإشارات والتحولات“، وجه ونوس انتقاداته للسلطة الذكورية والدينية، وأظهر من خلال العرض موقفه الداعم للمرأة، التي تظهر معاناتها كضحية للسلطة الأبوية والزوجية، في مجتمع ذكوري يحرمها من ممارسة أبسط رغباتها في الحب فيما يبيح للرجل جميع أشكال المتع والرغبات الجسدية. المسرحية حملت خطاباً جريئاً ومناهضاً للعادات والتقاليد، يعري دور رجالات الدين ويفضح زيف ادعاءاتهم، وينادي بحرية جسد المرأة في ظل إذعانه للأعراف والقيم الدينية والقمع المجتمعي. كما يبرز العمل النوازع النفسية للشخصيات في علاقتها مع تحولات جسدها، ويقدم قراءة معمقة للجسد البشري وأبعاده العاطفية والروحية ويمنحه سمواً وتمجيداً، ويدعو لتحريره من رغباته في سبيل أن يصل لحريته. ومن خلال العرض كان ونوس يرسل أفكاراً وإشارات إلى الجمهور تحرض مخيلته وتدفعه لكي يتساءل ويعي الواقع الذي تعيشه المرأة.
أما في مسرحية “منمنات تاريخية ” فقد انتقد ونوس السلطات الثقافية والاقتصادية والمجتمعية، من خلال استدعاء الموروث التاريخي لمحاكاة الواقع الحالي بإسقاطات تاريخية، إذ يحكي العرض عن احتلال تيمورلنك لدمشق، ويفضح السلطة الاقتصادية بتحالفاتها المشبوهة مع التجار وأصحاب رؤوس الأموال، الذين خافوا على مصالحهم وتجاراتهم ليتحالفوا بدورهم مع رجالات الدين والمجتمع، الذين استغلوا سلطتهم لتحقيق مآربهم ومصالحهم الخاصة، فتخاذلوا جميعاً وأذعنوا للاحتلال وأسهموا بإسقاط دمشق بيد تيمورلنك.
مساهمات
قدمت مسرحيات ونوس إسهامات كبيرة في تطوير الحركة المسرحية العربية وفي إنارة الوعي العام بقضايا التحرر وحرية التعبير والتغيير الاجتماعي. كما اشتهرت أعماله عربياً وعالمياَ وتُرجمت إلى عدة لغات ونالت الكثير من الجوائز العربية والعالمية، وأصبحت مرجعية مسرحية يتسابق المخرجون على تقديمها. وإلى جانب ذلك أسهم ونوس في نهاية السبعينيات في إنشاء المعهد العالي للفنون المسرحية، وعمل مدرساً فيه، كما عمل مديراً للمسرح التجريبي في مسرح القباني وأسس مع صديقه المسرحي الراحل فواز الساجر عام 1977 فرقة خاصة تهدف لتقديم المسرح الوثائقي. وفي العام ذاته أسس مجلة “الحياة المسرحية” وشغل منصب رئاسة تحريرها منذ انطلاقتها وحتى عام 1988. ويعود له الفضل، إلى جانب بعض زملائه المسرحيين، في إقامة مهرجان دمشق المسرحي عام 1969 الذي حقق نجاحاً كبيراً على مستوى الوطن العربي، وقد قدم فيه مسرحيتين من أعماله: “الفيل يا ملك الزمان” إخراج علاء الدين كوكش، و”مأساة بائع الدبس الفقير” إخراج رفيق الصبان.
وإلى جانب إسهاماته المسرحية شغل ونوس منصب مدير قسم النقد في مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة عام 1964، وعُيَّن رئيس تحرير لمجلة “أسامة” الخاصة بالأطفال، بين عامي 1969 و 1975، كما عمل محرراً وكاتباً في الصفحات الثقافية في عددٍ من الصحف العربية، كصحيفة الثورة والآداب، وشغل منصب مسؤول القسم الثقافي في جريدة السفير اللبنانية.
مقاومة المرض بالكتابة
عام 1992 أصيب ونوس بمرض السرطان وتوقع الأطباء أنه لن يعيش سوى ستة أشهر، لكنه رغم ذلك لم يغب عن المشهد المسرحي، وكان يقاوم مرضه بسلاح الكتابة لنحو خمس سنوات، كتب فيها أهم أعماله المسرحية. وفي عام 1996 كلفه المعهد الدولي للمسرح، التابع لليونسكو، بكتابة رسالة يوم المسرح العالمي، التي ترجمت إلى عدة لغات، وأكد من خلالها عشقه وإخلاصه للمسرح، حيث يقول فيها: “منذ أربع سنوات وأنا أقاوم السرطان. وكانت الكتابة، وللمسرح بالذات، أهم وسائل مقاومتي. طبعاً من الصعب أن أشرح للسائل عمق الصداقة المديدة، التي تربطني بالمسرح، وأن أوضّح له أن التخلي عن الكتابة للمسرح، وأنا على تخوم العمر، هو جحود وخيانة لا تحتملها روحي، وقد يعجلان برحيلي”. وفي الرسالة ذاتها كتب ونوس جملته الشهيرة الخالدة، التي أصبحت بمثابة حكمة يرددها الملايين في كل مكان: “نحن محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.
توفي ونوس، ابن مدينة طرطوس، في 15 أيار عام 1997، عن عمر ناهز 56 عاماً، بعد صراع مع مرض السرطان استمر لأكثر من خمس سنوات، تاركاً وراءه نحو أكثر من عشرين عملاً مسرحياً، إلى جانب عشرات المقالات والأبحاث والدراسات المسرحية، وقد نشرت أعماله في ثلاثة مجلدات.
ونذكر هنا أبرز أعماله المسرحية وفق تسلسلها الزمني:
مسرحية “ميدوزا تحدق في الحياة” 1963 (نشرت في مجلة الآداب)
مسرحية “جثة على الرصيف” 1963 (الموقف العربي- دمشق)
مسرحيتا “فصد الدم” و “مأساة بائع الدبس الفقير” 1964 (مجلة الآداب)
مجموعة من المسرحيات القصيرة بعنوان “حكايا جوقة التماثيل” 1965
مسرحية ” حفلة سمر من أجل 5 حزيران” 1968 (عرضت في سوريا، لبنان، السودان، العراق والجزائر. وترجمت إلى اللغة الفرنسية والإسبانية)
مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” 1969 (عرضت في جميع الدول العربية. وترجمت إلى الإنكليزية والروسية والبولونية)
مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” 1970 (عرضت في سوريا، لبنان، العراق، مصر، الكويت،الإمارات، الجزائر، فرنسا، ألمانيا. وترجمت إلى الألمانية والروسية. كما تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج محمد شاهين وإنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا عام 1974)
مسرحية “سهرة مع أبي خليل القباني” 1972 (عرضت في سوريا، الكويت وألمانيا. وترجمت إلى الروسية)
مسرحية “الملك هو الملك” 1977 (عرضت في سوريا، تونس، العراق، مصر، الإمارات،البحرين. وترجمت إلى الإنكليزية والروسية)
عرض “يوميات مجنون” للمسرح التجريبي 1977
مسرحية “رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقضة” 1978 (عرضت في سوريا، الكويت،لبنان، مصر، المغرب)
مسرحية “الاغتصاب” 1989 (عرضت في سوريا، لبنان، الأردن، مصر. وترجمت إلى الألمانية والإيطالية)
مسرحيتا “منمنات تاريخية” و “يوم من زماننا” 1993
مسرحيتا “طقوس الإشارات والتحولات” و “أحلام شقية” 1994
مسرحية “ملحمة السراب” 1995.
المراجع
١-سعدالله ونوس/ الأعمال الكاملة/ المجلد الأول (دار الأهالي للنشر والتوزيع- دمشق / الطبعة الأولى 1996).
٢- “رسالة يوم المسرح العالمي”، ص 17 من المجلد الأول / الأعمال الكاملة لسعدالله ونوس (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى1996).
٣-سعدالله ونوس / الأعمال الكاملة / المجلد الثاني (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى 1996).
٤- سعدالله ونوس/ الأعمال الكاملة/ المجلد الثالث (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى 1996).
٥- “بيانات لمسرح عربي جديد” ص 15 من المجلد الثالث/ الأعمال الكاملة لسعدلله ونوس (دار الأهالي- دمشق/ الطبعة الأولى 1996).
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
بواسطة أسامة إسبر | أغسطس 14, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, تقارير
وضاح السيد فنان سوري تخرج من كلية الفنون الجميلة في دمشق سنة ١٩٩٠. أقام ٢٤ معرضاً فنياً وشارك في عدة معارض داخل سوريا وخارجها. أسس في دبي مركز وضاح السيد للفنون. ابتكر عجينة خاصة للنحت، وحصل على أربع جوائز آخرها جائزة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم للسلام. لوحاته مقتناة في ٢٨ دولة.
صالون سوريا: متى رسمتَ هذه اللوحة، ما الشرارة الأولى التي كشفت الطريق إليها، هل هناك فكرة أو إيحاء أو تأثير معين دفعك إلى رسمها؟
وضاح السيد: رسمتها منذ عشر سنوات. وكان المصدر الملهم لي في رسم لوحة ملاذ هي الثقافة الروحية وعلومها المختصة في طرق التطهير الروحي والتي تدعو جميعها لفكرة إيجاد الملاذ العقلي والروحي للنفس.
ص. س: ما موضوع هذه اللوحة، وما العوالم التي تشير إليها وما الذي تحاول إيصاله فنياً فيها؟
وضاح السيد: في لوحتي ملاذ… كانت عيناها الملاذ الذي يشفي الروح التائهة… ووجهها هو اختزال وانعكاس لتلك العوالم المستنيرة التي تغني للخير وللحب بصمت التعبير في وجهها.
ص. س: ما الذي تشكله هذه اللوحة في مسيرتك الفنية؟
وضاح السيد: ملاذ …هي الهوية الخاصة باسمي كفنان و هي المرآة الصافيهة لفلسفتي الروحية.
ص. س: كيف تختلف هذه اللوحة عن لوحاتك السابقة؟
وضاح السيد: هي نقلة نوعية من التعبيرية المحلية كمدرسة فنية إلى التعبيرية الكونية التي تنتقل بالمتلقي إلى البعد الخامس روحياً.
ص.س: ما الذي يتوفر في هذه اللوحة كي نقول بأنها لوحة إبداعية؟
وضاح السيد: تتوفر فيها الجدة في الموضوع والطرح التشكيلي فهي محاولة ناضجة لتحويل تكنيك التطهير الروحي إلى مشهد بصري.
ص.س: ما الأدوات المستخدمة في اللوحة وكم استغرق إنجازها؟ استعملت في صناعتها ؟
وضاح السيد: تقنيات ألوان الإكريليك مع الريشات المروحية بكل قياساتها واستغرقت في رسمها عشرة أيام.
ص. س: هل كانت آراء النقاد والمشاهدين مطابقة لما ترمي إليه في هذه اللوحة؟
وضاح السيد: معظم المشاهدين من نقاد وذواقة اتفقوا على رأي واحد …أنها لوحة فيها إدهاش بصري وسحر تعبيري والروحانيون منهم استطاعوا أن يقرؤوا لغتها البصريه العلاجية.
ص.س: ما مصير هذه اللوحة؟
وضاح السيد: اللوحة تم اقتناؤها من سيدة إماراتية وقد طُبعت نسخ منها واستُعملت في عدد من المسلسلات السورية، منها بقعة ضوء.
ملف يعده: أسامة إسبر
بواسطة سوزان المحمود | أغسطس 10, 2023 | Culture, Roundtables, العربية, بالعربية, مقالات
لماذا نتذكر نازك العابد اليوم، ربما لأنها كانت من أكثر الشخصيات تأثيراً في بدايات القرن الماضي، ومن أبرز النساء في الفضاء العمومي السوري وأكثرهن جذرية في مواقفها من قضايا مصيرية في بدايات القرن كموقفها من حقوق المرأة إن كان بمناصرة حقها في التصويت والانتخاب أو بالتعليم واقتحام سوق العمل أو بقضية السفور والحجاب، ومن الحقوق الوطنية كالمطالبة بالاستقلال وبناء الدولة أو موقفها من الانتداب الفرنسي والبريطاني والحركة الصهيونية وقضية فلسطين.
ربما لم تكن نازك العابد استثناءً بين بنات جيلها من طبقة النخبة الأرستقراطية المتعلمة رغم فرادتها المشهود لها، كانت نجمة يشحذُ تألقها عملها الدؤوب الناجم عن هواجسها الإنسانية والوطنية ووعيها بحاجات وطنها في تلك المرحلة التاريخية، وإحساسها العميق بالواجب تجاه بنات جنسها ومجتمعها، وربما أحد وجوه فرادتها أنها جمعت بين الأصالة والحداثة، إذ جمعت في شخصيتها خلاصة خصائص الشخصية العربية الشرقية المتنورة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخصائص الشخصية المنفتحة على الغرب بوعي متحفز، دون انبهار، والمراقبة لكل ما يُنتج به في تلك الفترة من فلسفة وعلوم وتقدم فكري وطب، والمستأنسة بأفكار وقصص كبار الشخصيات الغربية وخاصة النساء، والراصدة المتحفزة للحركة النسائية العالمية و لحركة النساء العاملات في كافة بلدان العالم المتقدم، والمستفيدة مع أبناء جيلها من فترة التنظيمات العثمانية، وهي الفترة التي حدثت فيها الإصلاحات التي مهدت للحداثة في البلدان الواقعة تحت حكم الدولة العثمانية، ومنها سوريا بحدودها الطبيعية القديمة.
شخصية نازك السياسية
وعلى الجانب السياسي يلاحظ من يطلع على كتابات نازك أنها كانت في قلب الأحداث التاريخية أولاً بحكم أنها ابنة عائلة سياسية بامتياز فمعظم أفراد عائلتها انخرطوا في العمل السياسي تاريخياً إلى جانب عملهم بالتجارة، وبحكم أن العائلة كانت مقربة من الباب العالي العثماني لفترات زمنية ثم لحق بها الضيم من نفي وتضييق بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني، كتبت نازك العابد مقالاً تصف فيه حفل تأبينه الذي تصادف أثناء وجودها في إسطنبول في فترة نفي العائلة في أزمير. وكانت لاتزال في مقتبل الشباب “تركتُ أزمير مع والدتي وقد كانت منفى عائلتنا برخصة جاء بها علينا طلعت باشا وسرنا إلى الأستانة لقضاء بضعة أسابيع فصادف وصولنا في أيام عبد الحميد الأخيرة فتسنى لي أن أشهد حفلة الدفن التي لم تشهد أهالي الأستانة السابقون والمعاصرون على زعمهم حفلة مثلها فكأن الاتحاديين شاؤا أن يكفروا عن إساءتهم لهذا الرجل فعوضوا عليه وهو ميت بكل الإكرام الذي سلبوه منه وهو حي إذ تقدم المركب البوليس ثم الجند النظامي ….”[1] ثم تصف نازك العرض العسكري الذي رافق جثمان السلطان المخلوع عن عرشه.
السياسة كانت جزءاً لا يتجزأ من عالمها وعملها ونشاطها التنويري، إن كان في جانبها النسوي حيث كانت من أوائل المطالبين بحق المرأة في التصويت والانتخاب والمدافعة بقلمها وتنظيمها للنساء العاملات، كما كانت من النساء القائدات والقادرات على تجييش الشارع وقيادته في مظاهرات نوعية للإفراج عن المعتقلين، كما حدث عندما اعتقلت سلطة الانتداب الفرنسي الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر ورفاقه، بعد رحيل لجنة كراين 1922 وكانت قد ظهرت العابد سافرة بدون حجاب أمام الدبلوماسي الأمريكي شارل كراين، الذي جاء للوقوف على حال الشعب السوري تحت أولى سنوات الانتداب الفرنسي وكان أن قادت مظاهرة نسائية كبيرة على أبواب قلعة دمشق مع سبعين سيدة على رأسهن السيدة سارة مؤيد العظم زوجة الشهبندر مع أرامل شهداء 6 أيار ترفض فيها الانتداب الفرنسي وتطالب بتحرير المعتقلين[2]. نفيت ثلاث مرات بسبب عملها السياسي مرة من قبل السلطات العثمانية ومرتين من قبل سلطات الانتداب الفرنسي.
وثانياً بحكم اختلاطها ومشاركتها معظم أبناء جيلها من النخبة الفكرية والاجتماعية في زمنها من رجال ونساء تقدميين حالمين بإنشاء دولة سورية مستقلة ذات تشريعات حديثة خاصةً من عاد منهم من الدراسة في الغرب عاقداً العزم على خدمة وطنه. وستقوم نازك بتوظيف كل ما اجتمع لها من مكانة اجتماعية ونفوذ ومعرفة وجرأة في خدمة بلادها وأهدافها، حتى آخر عام في حياتها.
نضالها الفكري
علِمت نازك باكراً أن كلمتها ذات تأثير فعال في الشأن العام، وكانت ذات شخصية كاريزمية قيادية قامت بإلقاء الخطب في مناسبات عديدة وأعيد نشر بعضها في المجلات والصحف وقتها، إذ اشتهرت بقوة شخصيتها وفصاحتها وقوة تأثيرها، ما جعلهم يلقبونها ببيروت بنازك بك بدل نازك خانم[3]. فكانت الكلمة واللغة إحدى وسائل النضال الفعال الذي خاضته إن كان على الصعيد الاجتماعي الداخلي الإصلاحي أو الوطني “إذن الشيء المهم بالنسبة للغة هو الخطاب التواصلي فما دام فعل الخطاب “يتضمن أيضاً انجاز فعل أو دعوة إليه، إذ ليس هناك كلام من أجل الكلام فاللغة هي نفسها أداة لممارسة أفعال ويصبح الخطاب قابلاً للتحقق، فالبعد اللغوي للنظرية التواصلية يكمن في توضيح الجانب الاجتماعي التواصلي للغة، فهو يرى فيها مجالاً للتواصل الاجتماعي الفعلي بين الأفراد”[4].
كانت نازك تقوم ببناء خطاباتها بشكل مدروس ومؤثر، تعرف كيف تصل بحجتها إلى قلب المتلقي وعقله في آن واحد، لذلك كانت ذات حظوة بين أفراد جيلها وحتى لدى الملك فيصل الأول وزوجته.
وحتى المسؤولين الأجانب إذ كانت تجيد خمس لغات العربية والتركية والألمانية والإنكليزية والفرنسية.
موقفها من فلسطين
وربما من أشهر خطاباتها، الخطاب الذي يوضح أنها تحمل فكراً عروبياً حيث يمكننا أن نستنتج ذلك من مقالها المنشور في مجلة العرفان، ويذكر نسيم نصر في مقاله “نازك العابد بيهم” في مجلة الأديب عدد2 ص16/تاريخ 1961 أن هذا الخطاب ألقته نازك عندما وجهت لها الدعوة لحضور المؤتمر النسائي العربي في القاهرة سنة 1938 برئاسة هدى شعراوي، حيث دعيت نازك إليه ممثلة عن بيروت. يتضح في هذا الخطاب وعيها وترقبها للوضع في فلسطين آنذاك وتتبعها لكل المجريات السياسية ومتابعتها لكل التصريحات التي يقوم بها المسؤولون الاسرائيليون والمسؤولون الغربيون من جهة والعرب الفلسطينيون من جهة أخرى، كالمفتي الأكبر الشيخ أمين الحسيني والمطران حجار وما أدلوا به أمام لجنة بيل، واطلاعها على عمل اللجان المهتمة بالوضع في فلسطين ونلاحظ تمييزها بين الصهيونية وبين اليهودية، واطلاعها الملفت على تاريخ اليهود وحوادثهم، وتنبأها بما سيُحدثه زرع دولة إسرائيل في قلب الدول العربية وآثاره المستقبلية على المنطقة وخاصة على مصر، وضررها من الناحية الاقتصادية، لقد كانت سيدة ذات حدس قوي وذكاء استثنائي، نقتطف من خطابها ما يلي وكانت تعلق على حوادث العنف المنظم التي حدثت في فلسطين من قبل العصابات الصهيونية وعلى رد فعل الفلسطينيين عليها: “أجل نتألم وإن كان القتيل صهيونياً، مع علم منا أن الصهيوني يريد إجلاءنا عن ديارنا ويريدها.. له دون غيره، وأن يطلق عليها “أرض إسرائيل” وأن يقيم بها حكومة يهودية لغتها عبرانية وثقافتها إسرائيلية لا نقول هذا جزافاً، بل إن لجنة بيل الملكية لخصت مطالبيهم في تقريرها الذي رفعته بالسنة الفائتة لجلالة الملك فجاء في جملة اقتراحاتهم أن لا تتخذ أية إجراءات لمنع اليهود من أن يصبحوا أكثرية ومتى تم ذلك يجب أن لا تمنع فلسطين من أن تصبح يهودية.” وقد أجمل الدكتور وايزمن هذه المطامع فقال أمام اللجنة “نريد أن تصبح فلسطين يهودية كما أن إنكلترا إنكليزية!”
“إن هؤلاء الناس إذا تمكنوا من فلسطين، قضوا بما لديهم من دهاء ومال وعلم على العروبة وأمانيها والعروبة لا تزال يانعة والتاريخ ما يزال طافحاً في الأمثلة على دهائهم وإن ينسَ العرب فلا ينسون سياسة التفريق التي انتهبوها في المدينة بين الأوس والخزرج سياسة حكمتهم برقابهم حتى أنقذهم الإسلام.
“سيداتي،
لسنا نناضل عن كل هذا فحسب، بل إننا نكافح في سبيل الحياة والحياة في هذا العصر. حريتها واستقلالها ونعيمها ورخاؤها كل ذلك يتوقف على الثروة. وأي نجاح اقتصادي ننتظر إذا قامت دولة إسرائيل في قلب البلاد العربية. وكأني بمصر، وقد وصلت إلى أعلى ذروة من ذرى الدور الصناعي وأخذت تلج في الدور الزراعي الصناعي، وأوشكت أن تدخل في الدور الثالث وهو الصناعي التجاري كأني بها أشد الأمصار تعرضاً للخطر الصهيوني. أجل فإن مشاريع مصر العظيمة وسياسة طلعت باشا الحميدة توشك هذه كلها أن تصطدم بمشاريع تستند إلى رساميل أعظم وسياسة تتوكأ على دهاء أشد إذا استتب للصهيونيين الأمر بفلسطين قوا على اقتصاديات مصر وأعادوا الدور الذي مثلوه عهد الخديوي إسماعيل. سيداتي إذا استعرضنا كل هذا أدركنا لماذا اختار شباب فلسطين وكهول فلسطين ونساء فلسطين الموت للحياة”[5].
المجلات التي كتبت بها
كتبت نازك العابد معبرة عن أفكارها الريادية، إن كان حول تحرير المرأة وحقوقها أو حول القضايا الوطنية والاجتماعية، في أهم المجلات والجرائد المعروفة في عصرها: ومنها مجلة العروس[6]، ومجلة الحارس[7]، ومجلة العرفان اللبنانية[8]، ومجلة لسان العرب[9]، كتبت أيضاً في مجلة الأديب اللبنانية[10]، بالإضافة إلى مجلتها نور الفيحاء[11]. لم تنصرف نازك للكتابة الإبداعية بل سخّرت كل ملكاتها الفكرية للقضايا الاجتماعية الإصلاحية والسياسية، وكان أسلوبها جزلاً ومباشراً ولغتها سلسة وواضحة. صبت اهتمامها على المقالات والخطابات بالدرجة الأولى.
مجلة نور الفيحاء
لم تكن نازك الشخص الأول الذي يصدر مجلة أو جريدة من عائلتها فقد سبقها إلى ذلك عمها أحمد عزت ابن هولو باشا، وهو والد الرئيس محمد علي العابد وكان من مشاهير الساسة في عهد انهيار السلطنة العثمانية فقد قام بإصدار جريدة أسبوعية باللغة العربية والتركية سماها جريدة “دمشق” وكان ذلك في عام 1878م، ويقال إنه أول من أدخل الكهرباء إلى دمشق وأمر ببناء السكة الحديدية زمن التنظيمات العثمانية.
صدرت مجلة نور الفيحاء عن جمعية نور الفيحاء، وهي مجلة نسائية، أخلاقية، أدبية، صدر منها ثمانية أعداد فقط، وقد توقفت عن الصدور بعد دخول الانتداب الفرنسي إلى دمشق بوقت قصير حيث أغلقت بسبب مناهضة نازك العابد وأعضاء جمعيتها لسلطة الانتداب. صدر العدد الأول منها في كانون الثاني 1920، وصدر العدد السادس الذي بين أيدينا سنة 1338 للهجرة في 15 حزيران سنة 1920. وللأسف فُقِدت معظم أعدادها، هذا العدد الوحيد الموجود في دمشق على حد علمنا، بينما عُرِضت ثلاثة أعداد أخرى نادرة في مكتبة جامعة هارفارد[12].
كانت تقدم مقالها الأول بعنوان شهيرات النساء وغالباً تأتي بشخصية نسائية عربية معروفة ومهمة ولها تأثير في المجتمع المحيط بها، في هذا العدد كانت الشخصية المحتفى بها السيدة زينب، ثم تنتقل لشخصية من شهيرات النساء الغربيات، وفي هذا العدد احتفت بملكة روسيا، في المقال الذي يليه تقدم المجلة مقال بعنوان (أنقذوها فهي دليل الحياة) تتحدث فيه عن المرأة ودورها، ثم يليه مقال (ديانا حامية المرأة)، وتتحدث فيه عن الإلهة الرومانية ديانا حامية الفتاة، ثم يأتي مقال بعنوان (شقاء الزوجين) ص،182 ثم مقال بعنوان (رد افتراء) وتتحدث فيه المجلة مدافعة عن المرأة الشرقية، ثم مقال (مصنع إحياء الأشغال اليدوية) ص185، ثم يليه مقال بعنوان (النساء العاملات) 187، وهو مقال يدل إلى أي درجة كانت نازك والناشطات في المجلة مطلعات على ما يدور حولهن في العالم، إذ أوردت المجلة احصائيات محددة حول عدد النساء العاملات في أوروبا و(ألمانيا وفرنسا) وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وعدد النساء العاملات في المصانع والمخازن والسكك الحديدية والبنوك والبيوت. ثم هناك مقال ص188حول الآداب اليابانية، وليس المقصود هنا الأدب بمفهومه المعروف بل سلوك الشخصية اليابانية المتأدب، ثم هناك مقال بعنوان (الغبار! الغبار!) وهو حول الاهتمام بالصحة العمومية وتطالب فيه المجلة من المجالس البلدية تعميم النشرات الطبية وما يجب نبذه من العوائد المضرة ولا سيما في زمن الأوبئة وكان في هذه الأثناء انتشر في سوريا وباآن شديدا الفتك، هما النزلة الاسبانيولية والحصبة.
ثم هناك مقال حول حفظ صحة المنزل والطب المنزلي، أسباب الأمراض وسير المرض وأدواره للدكتور حكمة المرادي. باختصار عنيت المجلة بكل ما يخص المرأة والعائلة والبلاد والعالم. وكانت تحاول أن تكون جسرا بين ما يدور في العالم من حولها وبين النساء في سوريا في ذلك الزمن، إذ كان من الملفت رصدها لتطورات وضع المرأة في بلدان العالم المتقدم، ومحاولة نقل عادات وتقاليد الشعوب الأخرى عبر صفحات مجلتها المنفتحة على كل ما يدور حولها.
نضالها على صعيد تمكين المرأة
لعبت نازك بحكم مكانتها الاجتماعية دورا بارزاً بتأسيس العديد من الجمعيات التي ساهمت في خلق مجتمع أهلي متكاتف، ومنها جمعية نور الفيحاء في دمشق وفيها مدرسة لرعاية بنات شهداء الثورة العربية ومعمل أشغال يدوية ساعد في تمكين عدد من النساء من امتلاك مهن يعشن منها ويخترقن سوق العمل الذي كان حكرا على الرجال، وجمعية النجمة الحمراء التي أصبحت الهلال الأحمر السوري، وجمعية يقظة المرأة الشامية سنة 1927 مع عادلة بيهم الجزائري وريما كرد علي[13]، والعديد من الجمعيات في بيروت بعد انتقالها إليها بعد زواجها:
يقول نسيم نصر عن نشاطها في لبنان في مقاله “نازك العابد بيهم”: انتقلت إلى بيروت تقرن جهدها النسوي بجهد رجل من قادة التفكير الاجتماعي والتاريخي، بعد أن جمعهما رباط الزواج الشريف. ورجلها هذا هو المؤرخ الأديب محمد جميل بيهم.
وفي لبنان سارت نازك مع الطليعة النسوية تسهم بنصيب بارز في مختلف نشاطات المرأة التقدمية، فأنشأت سنة 1933 نقابة المرأة العاملة في بيروت، وهي أول نقابة للعاملات والكاسبات. ومن أقوالها في هذا الشأن: ” ان تطور الحياة العالمية في العصر الحاضر، وتفاقم المزاحمة على أسباب العيش قضيا على المرأة، هذا المخلوق اللطيف أن ينزل إلى الكفاح في ساحة الكسب لمنازلة الرجال منازلة لم يتأهب لها من قبل فكانت صدمة في الناحيتين الصحية والأخلاقية.
ومن دواعي الأسف أننا نحن الشرقيين، ولئن كنا حريصين على الاحتفاظ بالجنس اللطيف من مميزات لا مناص لنا من مجاراة الغرب فيها فإننا نأخذ كل تقاليده وحضارته، لذلك أصبح من الواجب تنسيق أعمال نسائنا العاملات والكاسبات تنسيقاً يفضي إلى دفع كل ضرر عنهن. وهذا ما أرادته نقابة المرأة العاملة، فإنها تحاول أن توفق بين التخلص من الأزمة الاقتصادية وبين عواقب إقبال النساء على العمل”[14].
وكانت قد أسست مع زوجها في لبنان بالإضافة إلى جمعية عصبة المرأة العاملة، جمعية مكافحة البغاء 1933 الذي حاولت سلطات الانتداب تنظيمه ونشره، وجمعية أخوان الثقافة، وجمعية تعنى بالأمهات وكانت أول من يحتفي بهن ويحدد يوم لعيد الأم، وجمعية تعنى باللاجئ الفلسطيني بعد نكبة 1948.
القناعة حوض ماء راكد
نازك المرأة المقاتلة للكسل والخمول والطموحة التي لا تهدأ تقول في مقال بعنوان “القناعة دواء إن زاد أضر” في مجلة العرفان تتحدث فيه عن زيارتها لاحدى المدارس وتصف فيه درساً سمعته من إحدى المدرسات حول موضوع (القناعة كنز لا يفنى) وقد بالغت المدرسة في الإعلاء من قيمة القناعة على حساب الطموح، ما أزعج السيدة نازك وقتها، نقتطع من مقالها ما يلي:
“روح التمرد المتأصلة في نفسي أنقذتني بعد مغادرة المدرسة من بلاغة المعلمة، لاسيما أني كنت طالما أنكرت القناعة وكنزها، وكتبت مرة انتقدها، فعن لي أن أتصفح ما دونت خلال سن الشباب في هذا الموضوع، فإذا بي أقول: “كثيراً ما أجتهد للوصول إلى نقطة أنشدها وأظن أني بوصولي إليها ألامس السعادة الحقيقية، ولكني لما أدرك هذه النقطة التي كانت نفسي تطمح إليها أشعر بأن أحلامي لم تتحقق، وافتقد القناعة فلا أجدها بل أحبو للحصول على أوفر مما حصلت وأفضل”[15].
يقولون إن السعادة الحقيقية في القناعة، وأنا لا أشاطرهم هذا الاعتقاد بل القناعة عندي هي كحوض ماء راكد إذا لم يتجدد حيناً بعد آخر فسدت عناصر الماء فيه فأصبح كريه الطعم والمنظر والرائحة تمجه النفوس” تميز نازك بوضوح بين القناعة السلبية وما تسميه الارتضاء وتقصد به الرضى عن الذات بعد بذل الجهد. وتبجل من موضوع ارتقاء السلم الاجتماعي عن طريق الكفاح والطموح والعصامية.
نازك المزارعة
كانت نازك قد “درست الزراعة في كلية روبرت الأمريكية[16]، و تذكر في مقالها “المرأة في الحياة الزراعية” وهو حديث كانت قد ألقته في اجتماع أقامته جمعية “إخوان الثقافة” في بيروت، وتتحدث فيه عن مزاولتها للزراعة لمدة عشرين عاماً بعد أن جعلت والدها يقدم لها قطعة أرض في الغوطة تزرعها وتعتني بها، بعد جدال مع عائلتها التي اعتبرت أن جهودها ستذهب سدى لأن هذه الأرض سبخة وغير قابلة للزراعة لكن نازك المقاتلة العنيدة لم تأبه لكلام العائلة واستخلصت لنفسها قطعة أرض قامت بإصلاحها بنفسها بمساعدة الفلاحين و تتحدث في المقال عن الزراعة وتطلب من النساء تقدير هذه المهنة وعن وجوب تأهيل الفلاح كما في أوروبا ليقدم أفضل النتائج: تقول “أشعر منذ الصغر بميل قوي إلى مزاولة الأعمال المجدية، ولما أتيح لي أن أرفع صوتي في المجتمع كان أول ما يخطر لي إذا وقفت خطيبة أو كتبت مقالاً موضوع العمل وما يجب أن يكون موقف المرأة منه. وما أمعنت التفكير في رقي بلادي إلا وثبت عندي أن السبيل إلى ذاك يكون بتأمين اقتصادياتها وتحرير شؤونها الحيوية ثم ما تدبرت أمر المرأة ومصيرها إلا وتأكد لدي أنها عبثاً تطلب مساواتها وتحررها عبثاً تتوخى بلوغها، مرتبة الشقيق إذا بقيت عالة عليه في حياتها.” وكانت نازك من أوائل من انتبهوا لمشكلة هجرة الشباب من الريف إلى المدينة وما سيخلفه ذلك من مشكلات مستقبلية، وتقول في الخطاب نفسه:” وأما ترك القرية ومغادرتها إلى المدينة للتحري عن العمل فهذا عارض أو علة اجتماعية يشكو الغرب منه ويوجس خفية من مغبته كل من الشرق والغرب. وما دامت المرأة العربية قد بدأت تفكر في العمل المجدي شئنا أم أبينا مراعاة للحياة الاقتصادية ومجاراة لروح العصر فأرى المجال متسعاً أمامي لأن أناديها بلغة الحب والحنان فأدعوها إلى الحقل، إلى الزراعة إلى الأرض”[17]. وكانت تربطها علاقة طيبة بالفلاحين إذ شاركتهم الزراعة واهتمت بفتيات يتيمات في الغوطة وأيضاً قاتلت معهم سلطات الانتداب في الثورة السورية.
نازك ومحاربة الطائفية
لقد وعيت نازك لخطر الطائفية[18] ولا بد أن إدراكها هذا له علاقة باطلاعها ومعرفتها بالأحداث الطائفية الدموية التي حدثت في دمشق عام 1860، قبل ولادتها بسنوات قليلة وهزت المجتمع الدمشقي بعنف، خاصة أن عائلتها أجارت المسيحيين وقتها “وأثناء حوادث 1860، آجار عمر آغا وولده هولو باشا المسيحيين، وتقديراً لصنيعهما هذا قلدهما القنصل الروسي في دمشق وسام القديس ستانيسلاس”[19] وربما شاركت بالمناقشات الحادة التي حدثت حول حقوق الأقليات في المؤتمر السوري العام الذي عقد في 1919 – 1920 ومناقشات دين الدولة الوليدة التي خرجت من رحم الدولة العثمانية المنهارة والتي تتلمس النور، وبما أن نازك كانت تنحاز (لمدنية) الدولة كعدد لا بأس به من أفراد النخبة السورية المتنورة والعائدة من الغرب كعبد الرحمن الشهبندر الذي عُرِف بعلمانيته، ولمعرفتها أن مدنية الدولة ستسمح للمرأة بنيل حقوقها وبالانخراط في قضايا المجتمع بشكل حقيقي وفعال، إذ أنها كانت تدرك صعوبة هذا الأمر بعد أكثر من خلاف مع رجالات الدين الدمشقيين، لذلك نجد أكثر من إشارة لموقفها من الطائفية إن كان في مجلتها نور الفيحاء، حيث طرحت سؤال للرأي العام، ومن المفيد هنا عرض السؤال والاجابات التي تلقتها المجلة عليه وكان من ضمن من أجاب على السؤال هي ووالدتها السيدة فريدة الجلاد:
ما هي أنجع الوسائط لإماتة الطائفية في بلادنا؟
توحيد برامج المدارس والسير بالتعليم على خطة واحدة، (صبحية تنير)
أحسن الوسائط لإماتة الضغائن الطائفية هو الاعتقاد المتين في الشرائع الدينية لأن كل منها تحرض على احترام جميع الأديان (والدة نازك)
أحسن الوسائط توارد الشبان والشيوخ وكثرة الاجتماعات فيما بينهم وأن يتبادلوا الزيارات والولائم وأن لا تنزوي كل طائفة بمحلة خاصة بها (ع.س)
فصل التقاليد الدينية عن المصالح الدنيوية لأننا نرى أن زيداً يتحامل على عمرو ويحقد عليه بداعي الدين وإذا محضنا سبب الحقد نجده دنيوياً.
أن نؤلف جمعية من كل الطوائف تبذل جهدها لتقوية دعائم الاتفاق (ث)
الجواب: العلم، العلم (م.ع)
التعارف والتوادد والتحابب والاعتقاد بأن الأديان وجدت لتهذيب العواطف البشرية وتثقيف الأفكار وخدمة الإنسانية التي ترى الضغائن بين الطوائف أنانية مجردة (نازك)”[20]
نلاحظ أيضاً اهتمام نازك بتنوع منابت وخلفيات السيدات اللواتي انضمّمن إلى جمعياتها ويتضح ذلك من خلال إحدى خطاباتها أمام عصبة المرأة العاملة التي أسستها في بيروت عام 1933، نورد ذلك الاقتباس من خطابها من مقال نسيم نصر في مجلة الأديب:
“وهذه النقابة التي تفاخر بأنها تألفت من كل الطوائف، ومن الطبقة الراقية المتعلمة تغتبط لأنها جمعت بين الفئة الممتازة من صاحبات المهن الحرة من طبيبات وصيدليات وقابلات وممرضات وكيماويات وصحفيات فضلاً عن الأستاذات والأديبات، وهي ترى من واجبها إثارة وطنية الأمة لترويج المصنوعات الوطنية”[21].
نسبها
ولدت نازك العابد عام 1887من أسرة دمشقية عريقة إذ ينحدر آل العابد من عشيرة الموالي المشارفة. وهي قبيلة عربية صرفة تنتسب إلى قبيلة بني إبراهيم من بني مالك من جهينة، وقد استوطن جدهم محمد بن الأمير قانص في حي الميدان بدمشق حوالي 1700. عمل أفراد الأسرة بتجارة الحبوب والمواشي، وأصبح لهم نفوذ واسع في حي الميدان، والدها مصطفى باشا العابد، من أعيان دمشق تولى متصرفية الكرك، وولاية الموصل في أواخر العهد العثماني[22]، ووالدتها السيدة فريدة الجلاد وهي من النخبة المتنورة من نساء المجتمع الدمشقي وكانت نازك تقوم بطرح الأسئلة عليها مع مجموعة من الأشخاص المتنورين في مجلتها نور الفيحاء. وتذكر ليندا شيلشر[23]. “يسلم مؤرخ الأسرة في يومنا هذا بما أجمعت عليه المصادر في القرن التاسع عشر من أن آل العابد يتحدرون من عشيرة الموالي. وأن جدهم محمد الذي استوطن الميدان عام 1700/1701، كان ابن قانص العابد أحد أمراء عرب المشارفة (المتفرعين عن الموالي) الذين ينتهون بنسبهم إلى بكر بن وائل. وكان أول من برز في دمشق من رجال هذا البيت عمر آغا العابد، وقد لمع اسمه إبان الحكم المصري. أما ولده هولو آغا (جد نازك) (1824/25-1895/1896) فبدأ عمله الوظيفي الذي اتسم بالنجاح في عهد التنظيمات معيناً قائمقام في سهل البقاع.
تربيتها وتعليمها:
“درست اللغتين الألمانية والفرنسية على يد مدرسين خصوصيين، قبل أن تلتحق بمدرسة أمريكية خاصة في سوق ساروجا، كانت تملكها وتديرها سيدة أمريكية تُدعى “ميس أثينبرغ”[24]. نُفيت إلى أزمير مع سائر أفراد أسرتها سنة 1915، ودرست الزراعة في كلية ربورت الأميركية، وهي جامعة إسطنبول الأمريكية التي كانت تُعرف أيضاً بجامعة البوسفور. كان والدها رجلاً متحرراً في تربية أولاده، وقد أرسل شقيقها هولو إلى جامعة كامبريدج البريطانية، وشقيقتها ثريا إلى مدرسة الراهبات، قبل أن تتزوج الوجيه حمدي أكريبوز. ونظراً لتحرر بنات ثريا العابد في سلوكهنّ ولباسهنّ، صاروا مثالاً للتحرر في المجتمع الدمشقي، وصارت عبارة “بنات أكريبوز” تُطلق على أي مجموعة سيدات يعشن في جو متحرر ورفاهية كبيرة.”، درست نازك أيضاً أصول الإسعاف والتمريض، ومارسته في معالجة الجرحى في معركة ميسلون وفي الثورة السورية.
زواجها من نصير المرأة
لم تتسرع نازك العابد في موضوع زواجها أبداً بل كانت عواطفها خاضعة لعقلها وإدراكها المتطور عن بنات جيلها، وكانت تتصرف كما تفكر تماماً، إذ طالما طالبت الرجال أن يختاروا شريكات حقيقيات، والنساء أن تطالبن بحقوقهن، في مقالاتها وخطاباتها، لذلك كانت تبحث عن شريك حقيقي في النضال من أجل ما تؤمن به من قيم وقضايا إنسانية ووطنية وعلى رأسها قضية المرأة لذلك تأخرت في موضوع الزواج حتى عام 1929 إذ اختارت العلامة والمؤرخ البيروتي محمد جميل بيهم (1887-1978) ليكون زوجها، وكانت قد تعرفت عليه في جلسة المؤتمر السوري الأول في عام 1920 في دمشق، وهو من أهم المناصرين لحقوق المرأة، نقتطف من مقال “النهضة النسائية في بيروت المحروسة” ما يوضح دوره وأهميته في ذلك “من الأهمية بمكان القول، إن الحركة النسائية في بيروت المحروسة شهدت مؤيدين لها من رواد النهضة الفكرية والسياسية، ويأتي في مقدمتهم العلاّمة المؤرخ محمد جميل بيهم (1887-1978)؛ فمنذ عام 1919 طلبت منه الأميرة نجلاء أبي اللمع – صاحبة مجلة الفجر – الكتابة عن نشاط المرأة، فكتب مقالاً بعنوان «مؤتمر النساء في بيروت». كما كان يومذاك أحد المشاركين في المؤتمر النسائي الذي عقد في الجامعة الأميركية في بيروت تأييداً للمرأة. وفي عام 1922 شارك في حفل تكريم الأديبة مي زيادة، وبات محمد جميل بيهم نصيراً لقضايا المرأة في بيروت المحروسة ولبنان والعالم العربي. لذلك، حرص على نشر آرائه وتأييده لقضايا المرأة من خلال المحاضرات والندوات، ففي عام 1928 ألقى محاضرة مهمة في طرابلس عن تحرير المرأة. وفي عام 1929 اجتمع بمندوبة مؤسسة روكفلر السيدة روس وود سمول باعتباره نصيراً للمرأة، وكان هدفها من هذا الاجتماع الاطلاع على الحالة الاجتماعية للمرأة في المشرق العربي. وفي عام 1929 سافر إلى أوروبا بصحبة زوجته السيدة نازك العابد لنشر الدعاية للنهضة النسائية اللبنانية والعربية، وذلك بالتنسيق مع رائدات العمل النسائي في لبنان وسورية. وحرص محمد جميل بيهم الإسهام في رفع مكانة المرأة أينما كانت، لذلك، أسس عام 1933 «جمعية مكافحة البغاء» منتقداً سلطات الانتداب الفرنسي التي شجعت على آفة البغاء في لبنان بواسطة التشريعات والقوانين التي كانت تصدرها.
وما هي إلا سنوات حتى أصبح محمد جميل بيهم وقضايا المرأة توأمان لا ينفصلان، لهذا، لم يكتفِ بإلقاء المحاضرات والندوات واللقاءات الصحافية، بل أصدر عدة كتب حول المرأة وقضاياها وتاريخها منها:
1- كتاب المرأة في التاريخ والشرائع.
2 – كتاب المرأة في التمدن الحديث.
3 – كتاب فتاة الشرق في حضارة الغرب.
4 – كتاب المرأة في حضارة العرب، والعرب في تاريخ المرأة.
5 – كتاب شاهد عيان يسد فراغاً في التاريخ.
لقد استمر محمد جميل بيهم حتى وفاته عام 1978 يدافع عن المرأة وحقوقها وحقها في التعلم والتعبير والمساواة، ورفض التمييز العنصري والوظيفي، ورفض العنف الأسري، ورفض انتهاك كرامتها، وحقها في الطبابة، وفي السياسة وفي العدالة الاجتماعية”[25].
موتها
توفيت نازك العابد عام 1959 عن عمر ناهز 72عاماً في لبنان، لكن جثمانها نقل إلى مدافن عائلتها، رغم أن معظم المعلومات على الإنترنت تشير إلى أنها دفنت في مقبرة الآس في الميدان، لكن عندما ذهبت إلى منطقة الميدان وبحثت عنها لم يعرف أحد من أهل الميدان مقبرة الآس، لكن عندما سألتهم عن نازك العابد أخبروني أنها في مقبرة آل العابد عند بوابة الميدان، وعندما وصلت الى هناك وجدت مدافن آل العابد أو مدافن هولو باشا العابد تحتضن ضريح نازك مع عدد من أضرحة عائلتها في مدفن خاص مسور.
نقش على لوح ضريحها ما يلي: ” يا رحيم العباد، هذا ضريح المرحومة نازك خانم بنت المرحوم مصطفى باشا العابد رائدة النهضة النسائية بدمشق، عاشت مكافحة تخدم مجتمعها بإخلاص، مناضلة لرفعة قومها والإنسانية، أسست المدارس والنوادي والجمعيات الخيرية، ونادت باستقلال العرب. ولدت في دمشق سنة 1316هـ وتوفيت في 14 صفر سنة 1379 هـ الموافق 20 آب 1959 م[26].
لم تنجب نازك العابد أطفالاً، لكنها قامت بتبني طفلة يتيمة ربتها ودرّستها في الجامعة الأمريكية في بيروت، لكن لم يُستدل عليها حتى اليوم.
نازك الملهمة
يحمل اسم نازك بأصليه الفارسي والتركي معنيين مختلفين من جهة الرقة والرهافة ومن جهة أخرى الصلابة والحدة، المرأة الرقيقة كحد الرمح، وهما سمتا شخصية نازك العابد المرأة الجميلة والمثقفة والعاملة الصلبة الجادة في مسعاها لتحقيق أهدافها، لقد كانت منارة لبنات جيلها.
كانت نازك العابد ملهمة للكثيرين من أبناء وطنها والعالم، حتى أن بعض الآباء سموا بناتهن تيمناً بها مثل والد الشاعرة العراقية نازك الملائكة رائدة الحداثة الشعرية، أيضاً ألهمت سيرتها وكفاحها الكثيرين ومنهم الكاتبة البريطانية الرحالة المغامرة روزيتا فوربز، في روايتها المعنونة:
“Quest:The Story of Anne” وصدرت بعد عامين من معركة ميسلون[27].
لقبت نازك بعدة ألقاب منها ما لقبتها به الصحافة الغربية جان دارك العرب أو الشرق، وسيف دمشق، والوردة الدمشقية وغيرها، كُرِمت من قبل الملك فيصل ومنحها لقب جنرال فخري لدورها في معركة ميسلون الخالدة وحازت على رتبة نقيب في الجيش السوري، وكانت أول امرأة سورية تتصور بالزي العسكري دون حجاب، حازت على عدة أوسمة، وسام الشفقة من السلطنة العثمانية، ووسام الاستحقاق من الدولة اللبنانية، ولقب جنرال فخري من الملك فيصل، فكانت أول امرأة تدخل الجيش السوري.
هوامش:
[1]: مجلة العروس عنوان المقال “حول مآتم عبد الحميد” للآنسة نازك كريمة مصطفى باشا العابد.
[2]: سامي مروان مبيض “سكة الترامواي، طريق الحداثة مرّ بدمشق” صدر عن دار الريس ط1 أيلول 2022 -ص 79-80-81.
[3]: المصدر نفسه.
[4]: مجلة الحوار الثقافي العدد 2-2021 بحث جرادي سكينة ونورية سوالمية “دور الفضاء العمومي في تشكيل التواصل الاجتماعي”.
[5]: مجلة العرفان العدد 8-9 تاريخ الإصدار 1939 الصفحات 771-772-773-774 عنوان المقال “في سبيل فلسطين” وهو الخطاب الذي ألقته السيدة نازك العابد بيهم. في المؤتمر النسائي العربي في القاهرة برئاسة هدى شعراوي عام 1938 بحسب نسيم نصر، مجلة الأديب.
[6]: مجلة العروس 1910-1926 لصاحبتها ماري عجمي، وهي مجلة نسائية علمية، أدبية، صحية، فكاهية.
[7]: مجلة الحارس كانت تصدر من حيفا مجلة دينية مسيحية تؤكد على الأبعاد الأخلاقية عبر نشر أعمال أدبية منقولة غالباً عن الإنكليزية، وكانت كنيسة حيفا هي الهيئة التي أصدرت المجلة. ولكن صاحب الامتياز هو سامي أبو حمد وقد شارك رجل الدين الأجنبي ل ويتمان صاحب امتياز مجلة مصباح الحق الصادرة بين السنتين 1938-1940 في هيئة تحرير المجلة.
[8]: مجلة العرفان اللبنانية 1909-1936 مجلة علمية، أدبية، أخلاقية، اجتماعية، أسسها الشيخ أحمد عارف الزين.
[9]: مجلة لسان العرب 1918-1919 صحيفة يومية صدرت من دمشق خلال عهد الملك فيصل الأول وكان رئيس تحريرها خير الدين الزركلي.
[10]: مجلة الأديب صدرت في لبنان 1942-1983 مجلة شهرية كان رئيس تحرير ألبير أديب.
[11]: مجلة الفيحاء هي المجلة التي أصدرتها نازك العابد عن جمعيتها نور الفيحاء، صدر العدد الأول في كانون الثاني عام 1920، صدر منها ثمانية أعداد فقط.
[12]: سامي مبيض مقال في رصيف 22 “بعد 100 عام على غيابها …مجلة نور الفيحاء الدمشقية في جامعة هارفارد 4-2-2022.
[13]: سامي مروان مبيض “سكة الترامواي، طريق الحداثة مرّ بدمشق” صدر عن دار الريس ط1 أيلول 2022.
[14]: مجلة الأديب العدد 2-1961 صفحة 16.
[15]: مجلة العرفان اللبنانية العدد 4-1946 الصفحات 359-360-361.
[16]: كلية روبرت الأمريكية، هي جامعة إسطنبول الأمريكية التي كانت تُعرف أيضاً بجامعة البوسفور. سامي مبيض “طريق الحداثة مر من دمشق ” صفحة 73.
[17]: مقال نازك “المرأة في الحياة الزراعية” مجلة الأديب العدد 6 تاريخ الإصدار 1 يونيو 1943.
[18]: ما يقال له فتنة 1860- وما سمي شعبياً “طوشة النصارى” حيث قتل خلال سبعة أيام أكثر من خمسة آلاف مسيحياً في منطقة باب توما وبعض حارات القيمرية، سامي مبيض “نكبة النصارى” دار الريس الطبعة الأولى 2020.
[19]: ليندا شيلشر “دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر” ترجمة عمرو ودينا الملاح صفحة 187.
[20]: مجلة نور الفيحاء العدد 6 – 1920.
[21]: مجلة الأديب نسيم نصر العدد 2-1961.
[22]: موقع التاريخ السوري المعاصر.
[23]: ليندا شيلشر “دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع” ص 186-187-188.
[24]: سامي مبيض “طريق الحداثة مر بدمشق” دار الريس 2022 ص73.
[25]: مقال بعنوان “النهضة النسائية في بيروت المحروسة” 2013.
[26]: زيارة خاصة قمت بها لمدافن العائلة في حي الميدان.
[27]: سامي مبيض “طريق الحداثة مر بدمشق”.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”