بواسطة أسامة إسبر | فبراير 12, 2023 | Culture, Poetry, العربية, بالعربية, غير مصنف
حين جئْنا إلى الحياة
وُلدْنا على خط الزلازل،
وكبرنا على خطّ الحروب
ومنذ الولادة والأرضُ التي تحتنا تميدُ بنا،
والبناياتُ التي نعيش فيها تتأرجح
كأنها مبنية في الفراغ.
يأتينا الضوء بالقطّارة
والظلام كنهر أتشيرون.
دوماً نسير على حبل البهلوان
ونتعجّب كيف نتوازن طيلة الوقت فوق الهاوية
وهي تقول لنا بصوت ساخر:
أينما توجهتم فأنا تحتكم!
وحين تنشقّ الأرض غاضبةً وتبتلع كل شيء
حين يشهر التاريخ مخالبه
ويمزّق قطعاً من الخريطة
حين تكشّر القوة عن أنيابها
وتقضمُ حديد البنايات ورؤوس البشر
تأخذ المسرحية أبعادها
في انفجارات متتالية
في تدافع جنوني
في انزلاق أبله للصخور
في شقّ كأنه شدقُ الجحيم
في طيش في باطن الأرض
يخطر أيضاً في رؤوس بشرية
تتكسّر الأجساد فوق صفائح الطغيان
ويحطّم الاهتزاز الأعمى جدران الأرض.
أيتها الصفائح التكتونية الكبيرة التسع
أيتها الصفائح الصغيرة الاثنتا عشرة
التي تضمنا جميعاً بذراعين صخريتين
وتتحرك بطيئة فوق وشاح الأرض
أيتها الأحجار التي تسحق رؤوساً،
أيتها الأنقاض التي تدفن أجساداً
أيتها الرصاصات والانفجارات التي تدوي
يا صنّاع الحروب والفقر
نحن هنا،
على قشرة الكوكب
نركض بين الاهتزازات هاربين
من كوى في الكتب المقدسة
من شقوق في الشعارات
من فجوات في العقائد
من ثقوب في الرايات
الأرض تغلي تحت أقدامنا
خلفنا تركض الموجة العالية
وتحتنا تتطوح الصخور
في رقصة سقوط تستمر أربعين ثانية.
بواسطة فريق صالون سوريا | نوفمبر 2, 2021 | Culture, العربية, غير مصنف
رحل امس “عمود الطرب العربي الاصيل”، صباح فخري، عمر ناهز 88 سنة، امضاها في الغناء والابداع الاسطوري… الى حد انه ذات مرة غنى في شكل متواصل لعشر ساعات.
ولد صباح الدين أبو قوس، وهم الاسم الحقيقي لصباح فخري، في العام 1933 في حلب القديمة حيث كان محاطا بشيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية، حيث اعتاد والده اصطحابه صغيرا إلى جامع الأطروش في الحارة القريبة حيث تقام حلقات الذكر والانشاد.
وفي باب النيرب كانت له أول حلقة إنشاد، وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره، وغنى أولى القصائد أمام الملأ والتي تقول: “مقلتي قد نلت كل الأرب، هذه أنوار طه العربي، هذه الأنوار ظهرت، وبدت من خلف تلك الحُجب”. وكان تمكن من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب وحلقات النقشبندية مفتتحا أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز مشايخ الموسيقى. وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي “السمّيعة” الذين يتمتعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينيات القرن الماضي.
التحق بالمدرسة الحكومية الحمدانية في حلب وهناك برز تفوقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة. ويروي كتاب “صباح فخري سيرة وتراث” للكاتبة السورية شدا نصار أبرز مراحل حياة فخري على مدى عقود حيث تقول إن الفنان سامي الشوا تعهده بالرعاية وغير اسم الفنان الناشئ إلى “محمد صباح” واصطحبه معه في جولات غنائية بالمحافظات. ولم يكد محمد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي خلال زيارته إلى حلب عام 1946 ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب، حسب تقرير لوكالة الصحافة الالمانية، كتبته ليلى بسام.
بمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش، وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يتجاوز 14 عاما وكانت أنشودة: “يا رايحين لبيت الله / مع السلامة وألف سلام / مبروك عليك يا عبدالله / يا قاصد كعبة الإسلام).
انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب تسبب في حشرجة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء، إذ يقول الكتاب إن هرمونات الرجولة غيرت من طبيعة صوته وتكوين حنجرته الذي بدا كالمبحوح. وتقول نصار: “لعبت الحالة النفسية لصباح دورها السلبي. كلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. إنه ليس صوتي.. لست أنا ما الذي حصل؟ كلها تساؤلات كان يضج بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق”.
وفي سن الخامسة عشرة أطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مكرها فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب إلى أن التحق بخدمة العلم عندما أصبح شابا يافعا. ومع “اكتمال رجولته تبلورت حنجرته واكتمل تكوينها لتعيد للكنز الدفين تألقه وعاد صوت صباح فخري الرجل يشق لنفسه مكانا بين ذكريات سنين المراهقة في أحياء حلب وبيوتها”.
جاء الى دمشق للانتقال الى القاهرة سعيا لصقل موهبته. لكن السياسي المخضرم فخري البارودي غير حياته، حيث اعجب بصوته. دخل القصر الجمهوري فتىً يافعاً وفقيراً في أربعينيات القرن الماضي، يحمل تحت ابطه سجادة صلاة، بطلب من زعيم دمشق وراعي فنونها الراحل فخري البارودي، الذي تبناه فنياً وأعطاه اسمه “فخري” بدلاً من اسمه الحقيقي “صباح الدين أبو قوس”، حسب مؤرخين سوريين.
أطرب الرئيس شكري القوتلي يومها، وتكرر ظهوره في عرس احدى بناته، ثم عندما أذن أمام الرئيس القوتلي ونظيره المصري جمال عبد الناصر في حلب، خلال زيارة الزعيمين إلى جامع جمال عبد الناصر في حي الكلاسة. لم يترك عاصمة عربية إلا ومر بها منذ ذلك التاريخ، تاركاً بصمات ما زالت واضحة في مخيلة كل من حضر حفلاته.
ذات يوم، سال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عن “الأراصية” التي طالما غنى عنها صباح فخري، وعند زيارته دمشق، طلب أن يستمع اليه شخصياً بعد أن قدم له الأراصية. ثم بدأ بالغناء، فوقف عبد الوهاب حينها وطلب من الحاضرين الوقوف قائلاً: “احتراماً لهذا الصوت الرخيم، عليكم جميعاً أن تقفوا معي!” كانت أم كلثوم تطلب من أصدقائها كلما زاروا سوريا: “والنبي، عاوزة كاسيت لصباح فخري.”
عاش فخري أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق مع المطربة اللبنانية صباح. كما غنى صباح فخري “نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري حيث سجل ما يقرب من 160 لحنا ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال وقد حافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تتفرد وتشتهر به حلب. كما تلى أسماء الله الحسنى مع الفنان السوري عبد الرحمن آل رشي والفنانة منى واصف والفنان وزيناتي قدسية.
وقف في عام 1974 أمام الفنانة وردة الجزائرية بطلا لمسلسل “الوادي الكبير” الذي تم تصويره في لبنان.
تقلد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة عام 2007 “تقديراً لفنه وجهده في الحفاظ على الفن العربي الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الفني العربي الأصيل” كما جاء في منشور التكريم. وشغل مناصب عدة بينها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من دورة ثم نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب كما انتخب عضوا في مجلس الشعب السوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998.
رحل المطرب، الذي سجل رقما قياسيا من خلال غنائه على المسرح مدة تتجاوز عشر ساعات متواصلة دون استراحة في مدينة كراكاس الفنزولية عام 1968.
بواسطة لامار اركندي | مايو 19, 2021 | Culture, غير مصنف
تدور أحداث الفيلم السوري “رضا” وفقاً للمخرج السوري الكردي ياسر حمزة في قرية “سيكركى” في ريف مدينة القامشلي شمال سوريا. يحمل الفيلم اسم بطلته رضا وهي امرأة في الخمسين من العمر لينقل لوحة مأساة تمثل وجهاً من وجوه الحرب السورية وأزمتها.
وفي حديث خاص، يقول المخرج حمزة إن رضا أرملة عاشت بعد وفاة أمها وخالها بمفردها في كوخ طيني متهالك الجدران على أطراف قريتها وحيدة لا تملك أوراقاً ثبوتية في السجلات المدنية للدولة.
خاضت رضا معترك الحياة وكونت عائلتها الخاصة، فكانوا سندها في رحلة الصراع مع الوحدة فصنعت دمية بنفسها أسمتها زوزان وضمت لأسرتها الجديدة كلباً أسمته صورو إضافة إلى قطتها المدللة وملهمة صبرها عزيزة.
ولتأمين لقمة عيشها، يوضح حمزة أن رضا اعتمدت على دجاجاتها وبيع بيضهم لكسب دخل مادي إضافة لتوفير قوت يومي لنفسها ولعائلتها الجديدة.
تكريم عربي
وفي السابع من شهر نيسان (إبريل) الفائت، أعلنت إدارة مهرجان البحرين السينمائي أسماء الفائزين في فئات مسابقتها التي أقيمت بصورة استثنائية راعت الاجراءات الاحترازية وضوابط التباعد الاجتماعي بسبب تفشي فيروس كوفيد19. ومن أصل (450) وافقت إدارة المهرجان على مشاركة (92) فيلماً في الفئات الخمس للمسابقة وهي الأفلام الروائية القصيرة، والوثائقية، وأفلام التحريك، وأفلام المرأة إضافة الى أفلام الطلبة.
ورشح فيلم رضا من بين 20 فيلماً للقائمة القصيرة للجائزة التي شهدت تنافساً قوياً للمستوى العالي للأفلام المشاركة من حيث مضامينها وجودتها التصويرية. وبين ياسر حمزة أنه المخرج السوري الوحيد الذي شارك في قائمة الأفلام الوثائقية التي بلغت 33 فيلماً قدمت من 18 دولة.
وكرم مهرجان البحرين السينمائي في دورته الأولى المخرج السوري الكردي ياسر حمزة بجائزة (دورة فريد رمضان) التقديرية والتي حملت اسم الروائي والسيناريست البحريني الراحل فريد رمضان تكريماً لدوره الرائد في الإنتاج السينمائي، وتقديراً لجهوده في تقديم نصوص الأفلام السينمائية إضافة لدعمه خلال مسيرته الفنية كجزء من دعم الطاقات السينمائية الواعدة في البحرين والعالم العربي.
وحاز فيلم “رضا” على شهادة تقدير من إدارة المهرجان قسم الأفلام الوثائقية تكريماً للمستوى المتقدم لتقنية الصورة وللقفزة التكنولوجية المميزة التي ظهرت على مستوى الصورة والإخراج ونوعية الإنتاج ولقيمة قصة الفيلم الإنسانية.
وضمت لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية للمهرجان: المخرجة الإمارتية “نجوم الغانم”، والناقد السينمائي البحريني “حسن حداد”، والأستاذ في جامعة البحرين “محمد السيد”.
مهرجانات وتقديرات
ونوه المخرج الشاب إلى أن فيلم “رضا” شارك في العديد من المهرجات العربية والدولية ومنها: مهرجان النهج السينمائي بالعراق، حيث رشح للقائمة القصيرة لأفضل فيلم وثائقي، و مهرجان “بي يوند” الدولي للأفلام القصيرة.
إضافة لذلك نال ياسر حمزة شهادة تكريم من مهرجان كركوك بدورته الثانية لعام 2021 تقديراً لمسيرته المهنية الممتدة لأكثر من 25 عاماً.
وعن آخر أعماله تحدث ياسر حمزة لسكاي نيوز عن إنهائه لفيلم تسجيلي بعنوان “أميرة” بالتعاون مع المخرجة رنا شاهين ويعمل حالياً على فيلم تسجيلي آخر بعنوان “لن ترى” مع المخرج أحمد عرفات.
من هو ياسر حمزة
ينحدر المخرج ياسر حمزة 43 عاماً من مدينة القامشلي. وكان قد بدأ مسيرته المهنية في مجال الإعلاموالاخراج كمصمم لوحات إعلانية للمحال التجارية ومصوراً فوتوغرافياً. وبعد إنهاء الخدمة العسكرية انتقل حمزة إلى دمشق وعمل بصفة مونتيراً ومصوراً مع شركة مرح للإنتاج الفني لأربع سنوات، قبل انتقاله بصفة مدير فني ومونتير ومساعد مخرج في شركة شيخاني للإنتاج الفني.
وعمل حمزة أيضاً مع العديد من الأقنية العربية والمخرجين العرب. ومن الأعمال الفنية التي شارك بها: مسلسل رحلة المليون للمخرج الأردني سالم الكردي و لقناة أبو ظبي؛ ومسلسل هوامير الصحراء بجزئية الثاني والثالث لقناة روتانا للمخرج أيمن شيخاني؛ ومسلسل “جاري يا حمودة” مع المخرج وليد العاقل لقناة (MBC). هذا إضافة لمسلسلات عديدة أخرى منها: بيني وبينك (فكاهي)، ومسلسل انباع الوطن (سياسي كوميدي)، ومسلسل الساكنات في قلوبنا (دراما)، وغيرها.
كما أخرج العديد من الكليبات العربية لفنانين من أمثال عامر الغريب، لبنى كمر، حسام طه، وغيرهم.
ويذكر أيضاً أن ياسر حمزة أخرج أفلاماً وثائقية عدة إضافة لفيلم “رضا” وهي “على عتبة الطفولة”، “وعد”، و”زوارق في الظلام”.
بواسطة Mouaz Laham | مايو 13, 2021 | Cost of War, Culture, غير مصنف
الساعة الثانية ظهراً، الشمس كرة من نحاس أحمر، نسمة خفيفة غربية، والسيارات ليست كثيرة في هذا اليوم على طريق المطار. ذلك ما لاحظه محمد من موقعه في الصف الأخير من المدرج.
على منصة الشرف المسقوفة في الملعب البلدي الصغير في جرمانا، جلس عشرات الأشخاص، رجال نساء وأطفال. لم تكن هناك أية مباراة، والأطفال يقفزون كالكرات فوق العشب الصناعيّ على أرضية الملعب. الكبار كانوا ساهمين يحدقون في الفراغ، ويراقبون المشهد ببياض عيونهم، ويتدربون على الانتظار.
محمد، ممسك جواله القديم بيد، وسيجارة الحمراء الطويلة ترفض أن تنتهي بين أصابع يده الأخرى، وعيناه لم تعد تريا إلا أمواجاً سائلة، وأشياء ضاعت معالمها في النظرة الرطبة.
كانوا من الذين خرجوا من بيوتهم، ونزحوا إلى جرمانا. ظنوا أن القصة مسألة أيام، وأصبح الوقت من المطاط. تم تجميعهم وإيواءهم مؤقتاً، تحت مدرجات منصة الشرف في الملعب، حيث توجد غرف للكوادر الرياضية، وغرف لتبديل ملابس اللاعبين وحمامات مشتركة. الآن، أصبحوا هم الكادر كاملاً، وهم وحدهم اللاعبون الأساسيون. وأصبحت كلمة، مؤقتاً، الكلمة الأثقل وزناً في ضمائرهم المثقلة.
فتح محمد جواله، تأكد من وجود تغطية، وأشعل سيجارة أخرى. رن الهاتف رنة قصيرة، نظر باتجاه أطفاله فوق أرض الملعب. إنها زوجته تذكره بأن لا ينسى جلب حصتهم من الطعام.
الساعة الثالثة بعد الظهر، الشمس غيرت قليلاً من زاويتها، أصبح ظل المنصة أكثر طولاً، إلا أن الأطفال ما زالوا في الشمس. إنها ساعة توزيع الطعام. اجتمع الأطفال والنساء وبعض الرجال، حاملين قدورَهم، وصفائح الماء. كان غداء اليوم مؤلفاً من الأرز، حساء الفاصولياء مع البندورة، وربطة خبز.
أعطى محمد حصتهم من الطعام لزوجته، وعاد إلى المدرجات، يدخن ويتابع عد السيارات المارة على طريق المطار غير البعيد.
نزح محمد وزوجته وأطفاله الثلاثة، من قرية ليست ببعيدة عن جرمانا. وفكر لو أن المدرجات أعلى قليلاً، لاستطاع رؤيتها. غير أن المدرجات كانت أقل ارتفاعاً من مخيلته. كان يمتلك محلاً لتصليح الأدوات الكهربائية والإلكترونية، وعندما خرجوا فجراً من المنزل، بقي رجاء زوجته معلقاً في رأسه إلى الآن:
” عدني بأننا سنعود”
في تلك الليلة، كان صوت تكسير الزجاج في بيته يغطي على صوت الرصاص في الخارج. أخذت زوجته بتكسير كل الأواني الزجاجية، وتقلب كل ما تطاله يداها، كانت تصرخ، تبكي، وتكسر. ومع كل صحن يتفتت، تتفتت هي، إلى ملايين القطع. وعندما رجاها محمد بألا تفعل ذلك، قالت:
“لا علاقة لك، اتركني أفعل ما أشاء”
” لكنكِ سترعبين الأطفال النائمين”
“ألم يرتعبوا إلى الآن؟ وهل ناموا أصلاً؟ لقد قضوا الليل وهم يجفلون من صوت القذائف والرصاص”
” أرجوكِ، توقفي عن التكسير”
” أريد أن أحطم كلّ شيء، هل تسمع؟ كلَّ شيء. أليست صحوني، كؤوسي؟ أليس هذا جهاز عرسي؟ أتذكّر كل قطعة، كيف وفرتُ ثمنها واشتريتها. وكيف لمعتها ووضعتها في الفيترينة. ألا تذكر أنت؟..أنا أتذكر، كل قطعة لي معها قصة: الستائر، الصمديات، الطربيزات، طقم السفرة والكراسي، السجادة وحتى نزّالات الطعام. لي معهنَّ قصة: ثيابي، ثياب أولادي، ثيابك. قصة ماذا؟ قصة حب إذا شئتَ. والآن يريدون منّا أن نخلي البيت، بيتنا، وأن نخرج بثيابنا فقط. أريد أن أكسر كلَّ شيء، اريد أن أمزق حتى الثياب”
” أرجوك، يكفي”، وكان يبكي
“هل تصرخ فيَّ؟”
” أصرخ فيكِ ، فيّ، وفي كل العالم. لا أتذكر!! بلى أتذكر، ماذا تريدين مني أن أفعل؟ أحطم الجدران، أحرق الأبواب والنوافذ. أليسَ هذا بيتنا، بيتي، بيتكِ، بيت أطفالنا. هل أهدمه بيديّ؟”
تضحك زوجته بهستيريا وتقول:
” بيتنا؟ بيتي؟ بيتك؟ بيت الأطفال؟ والآن لم يعد كذلك”
“إنه بيتنا، وسيبقى، وسوف نعود إليه، ليست لنا علاقة بأي أحد، ولم نرتكب أي خطأ، ولن نذهب بعيداً. مسألة أيام فقط، وسيبقى كل شيء على حاله. ألا ترين هذه الشراشف؟ سأغطي بها كل الأثاث، والأجهزة، ولن تتلفها الغبرة. كل شيء سينتظرنا حتى نعود، سيحتفظ برائحتنا فيه، ورائحته فينا”
” نعم سنعود، ولن نجد لا رائحتنا ولا رائحته”
تصمت قليلاً وكأنها تأخذ نفسَاً:
” هل ترى ما هو مرسوم على هذه الصحون؟ “
“روميو وجولييت”
“كانوا عشاقاً؟”
” نعم”. وكان يكاد يلمس هدوءاً في صوتها، فيشرق قليلاً.
” أتذكر من أين جلبتَه؟”
” أذكر، من لبنان”
” إنه جديد وما زال في علبته”. تخرج الطقم كاملاً من العلبة. وتتابع:
” لن يكون هناك أصدقاء في السهرة، ولن نقدم الحلويات في هذه الصحون” . تضربه في الأرض وتتحول الصحون إلى طحين زجاجي.
“أرجوكِ”
” هل ترى هذه النرجيلة؟ طويلة مثل زرافة من كريستال. اشتريتها من الحميدية لكي نضعها على الشرفة وندخن. لا أريد أن أسمع صوت نفسَها في صدر أي أحد. هل تسمع. في صدر أي أحد”
وتنفجر النرجيلة.
” أرجوكِ، يكفي”. قالها بلا صوت.
“لا يكفي، الثياب، ثيابي، ثياب الأطفال، لا أريد أن أراها على أي جسد غير أجسادنا والصور، صورنا على الجدران والرفوف، سأحرق كل شيء..”
” الصور لا. سأخفيها في الحقيبة”
وبعد دقائق من صمت حاد. قالت:
“عدني بأننا سوف نعود”
جاء رنين الهاتف، الآن، برنة طويلة ينقذه من ذكريات تلك الليلة، ومن وعده أيضاً.
كانت الأخبار التي تلقاها جيدة، ولأول مرة، منذ ثلاثة أشهر، يرى بياضاً ضمن كل هذا السواد الذي أحاطهم منذ خروجهم في فجر تلك الليلة. لقد تمت الموافقة على تشغيله في معمل لتجميع الأجهزة الكهربائية براتب جيد.
ألقى نصف السيجارة، وهبط الدرجات قفزاً. على باب غرفة الحارس الأمني لمركز الإيواء، استوقفه المسؤول، أخبره بأنه يتعاطف معه، وأنه يسعى جاهداً لمساعدته في الحصول على الموافقة الأمنية التي تمكنهم من الخروج من المركز واستئجار منزل. لكنه قال بأن الأمر يحتاج إلى مبلغ من المال، ليس له بأية حال فهو يعتبر نفسه كأخ، وإنما لأشخاص مسؤولين عن ذلك ويتعاطفون معه أيضاً، وكل ما كان الدفع بشكل أسرع كان ذلك أفضل له. ومستمداً ثقة إضافية من الخبر الذي تلقاه للتو، ضمن محمد له ذلك، وأخبره بأنه سيدفع له فور استلامه الموافقة، وأن المبلغ جاهز.
“هذا ما كنت أريد سماعه”. قال الحارس.
وضغط على يده بقوة، كشعور متبادل بالتضامن.
كانت غرفتهم هي الأخيرة ضمن صف غرف تبديل الملابس، وكان الممر مملوءاً بحبال غسيل وثياب وشراشف وكأنه سفينة شراعية. وهواء مملوء بالدوار.
في غرفتهم، كان اللون الرمادي هو المسيطر، ككل الغرف. فرشات وبطانيات رصاصية من تلك التي توزعها الأمم المتحدة، بالإضافة إلى بعض الأشياء الضرورية الأخرى التي اشتراها بسعر رخيص من سوق الأشياء المستعملة. من ضمنها تلفزيون سيرونكس ملون 14 بوصة مع جهاز استقبال، كان التلفزيون مخصصاً لمشاهدة برامج الأطفال والأخبار، حيث ضمن له الحارس خط من الصحن اللاقط الخاص بغرفة الحراسة مقابل مبلغ من المال.
كانت زوجته وأولاده يتناولون طعامهم عندما دخل، ولمحت زوجته ظل ابتسامة وتغير في لون وجهه، حدقت فيه مطولاً، لم يستطع أن يصمت أكثر، أخبرها أولاً بخبر تشغيله، نهضت، احتضنته، عندها أخبرها بأمر الموافقة الأمنية. همست له:
” أخرجنا من هنا بأقصى سرعة”
ناولته صحناً أبيض مصنوعاً من الميلامين وملعقة. سكبت له الأرز مع الفاصولياء، وكانوا يتناولون الطعام بصمت. وشعر بمرارة فمه نتيجة التدخين المستمر.
قليلة هي المرات التي خرج فيها من الملعب، كان يشعر، في كل مرة يخرج فيها، أن الشوارع ترفضه، أن الجميع سيعرفون بأنه مهجَّر، بأنه غريب. على دوّار المصارف، القريب من الملعب، جلس على حافة رخامية، كان عدد المارة قليلاً، وخطر قذائف الهاون مازال مستمراً. كان يدخن وينظر إلى الأسفل، وكأنه لا يريد أن يعرفه أحد، أو أن يتعرّف إلى أحد.
رنَّ هاتفه للمرة الثانية اليوم، كانت المكالمة قصيرة، حادة ومؤلمة.
في تلك الليلة، بعد أن تركت زوجته ما لم تقوَ على تكسيره، خرجوا خمستهم فجراً، كأشباح، مشوا مع الناس التي تمشي باتجاه نقطة التجمع، أشباح تشبههم أيضاً، ومع كل خطوة كان البيت يبتعد حتى أصبح شبح بيت. ومع اتساع الضوء، كان المئات من الناس، يحملون حقائبهم، أمتعتهم وأولادهم ويسيرون. سيارات صغيرة وكبيرة، باصات وسيارات شحن، كلها مملوءة بحشد لا يعرف الطريق. كان التكهن سيد الحفلة.
على معبر الخروج انتظروا أربع ساعات حتى فرغ الجنود من تدقيق كل شيء، وكان هناك تعب وجوع وصراخ ونفاد صبر.
على الحاجز الآخر، انتظروا وقتاً أطول، وشوطاً جديداً من التدقيق. في حدود الرابعة عصراً وصلوا إلى مأواهم الأخير في الملعب البلدي الصغير في جرمانا. باقي الناس تقاسمتهم مراكز الإيواء.
أشعل سيجارة جديدة، نظر إلى السماء، كانت صافية ونفس النجوم كان يراها من سطح بيته. شعر بأنه لا بد وأن يبدأ من جديد، وأن يخفي أمر المكالمة عن زوجته خشية أن يفسد عليها فرحها البسيط هذا اليوم. كانت المكالمة قصيرة وحادة:
لقد أصيب بيتهم بصاروخ، وسوّي بالأرض والتهمت النار كل شيء.
بواسطة Yazan el-Haj | مايو 9, 2021 | Culture, غير مصنف
من بين مئات القصص التي كتبها أنتون تشيخوف طوال قرابة ربع قرن، يختلف القرّاء حيال القصة الأعظم أو حتّى القصة المفضّلة. لا بدّ من قصص عديدة تتنافس، وعلى الأرجح أنّ تلك الخيارات ستتغيّر بتغيُّر الزّمن وبتغيّر خبرة القرّاء وتجاربهم وأعمارهم. قد لا يكترث المهووسون بأعمال تشيخوف – وأنا منهم – بتلك الأفضليّات، إذ أجد المتعة ذاتها حين أعيد قراءة قصص أولى مثل «المقلب» (1882) و«موت موظّف» (1883)، أو قصص أخيرة مثل «الأُسقف» (1902) و«الخطيبة» (1903)، إلا أنّ لي تفضيلاتي بطبيعة الحال. المفضَّلات، بالتّعريف، غير مرتبطة بالأفضليّة، إذ أُدرك أنّ «وحشة» (1886) ليست من أفضل أعماله، غير أنّها تحضر في ذاكرتي دومًا حين يرد اسم تشيخوف. حتّى تولستوي له تفضيلاته التي قد تثير الدّهشة أو العجب؛ كانت «حبّوبة» (1899) قصّته التشيخوفيّة المفضّلة؛ ليس هذا بغريب، إذ تبدو بطلة القصة أولنكا إحدى مخلوقات فردوس تولستوي العجيبة حيث الطِّيبة التي تُقارب السذاجة هي أقصى درجة سموّ يمكن للإنسان أن يبلغها؛ إلا أنّ تفضيلاته المسرحيّة مكمن دهشتنا: لم يكن تولستوي من المتيّمين بمسرح تشيخوف، وعبّر عن رأيه هذا صراحةً لتشيخوف في مناسبات عديدة. كان تشيخوف يأخذ آراء تولستوي المسرحيّة بروح رياضيّة وحسّ فكاهة عالٍ، إذ ما الذي يمكن توقّعه من الشّيخ الذي يمقت مسرحيّات شيكسپير؟ ولكنّ تولستوي كان يحبّ مسرحيّة «الدب» (1888) التي لا يمكن لأحد، حتّى تشيخوف نفسه، أن يضعها ضمن المسرحيّات الأفضل. كانت مسرحيّة هزليّة، بصرف النّظر عن رهافة كاتبها الذي عبّر بسخريته اللاذعة أنّ غجريًا بدبٍّ حقيقيّ سيعجز عن بلوغ النّجاح الماليّ الذي حقّقه دبّ تشيخوف المجازيّ؛ بيد أنّ تولستوي كان يقهقه حين شاهدها. تستحق المسرحيّة التي حظيت بقهقهات تولستوي النّادرة أن نقرأها أكثر وأن نحبّها أكثر، كما هي حال قصّة «حبّوبة» التي حرّضت دموع أعظم الكتّاب الروس.
أما من تناقض بين عدم اكتراثك لأفضليّات القرّاء وبين حرصك على تتبُّع مفضّلات تولستوي كي نضعها محكًّا لإعادة قراءة أعمال تشيخوف وإعادة تقييمها، عزيزي المهووس بأعمال تشيخوف كلّها كما ادّعيت؟ ربّما! غير أنّ هوسًا لا براء منه، مثل هوس المراهقين بنجوم التّمثيل، أو هوس تلاميذ المرحلة الابتدائيّة بمعلّمة الإنگليزيّة (معلّمة العربيّة في حالتي!)، ينتابنا ويحكمنا حين نعرف تفضيلات الكتّاب لأعمال غيرهم من الكتّاب بالرغم من إدراكنا أنّنا لن نفهم أسبابهم بطبيعة الحال. هو الوله ذاته (أو لعلّه وَلهٌ مضاعف) الذي ينتابنا حين نعرف تفضيلات الكتّاب أنفسهم لأعمالهم. صحيحٌ أنّ الكتّاب، في الغالب، أسوأ من يقيِّم أعمالهم الخاصة، إلا أنّ هذه الحقيقة نافلةٌ. لن تتغيّر آراؤنا حيال الأعمال الأعظم: «الملك لير» هي «الملك لير» حتّى لو صدقت الأقوال التي تشير إلى أنّ شيكسپير كان يفضِّل «اغتصاب لوكريس» عليها، غير أنّنا سنقرأ «لوكريس» بأعين جديدة بعد أن نعرف هذه الشّائعة. أما تشيخوف فقد رأى أنّ «الطالب» (1894) ليست قصّته المفضّلة من بين أعماله وحسب، بل تطرَّف في رأيه حين عدَّها أقصى نموذج كمال لأعماله. لا تتجاوز القصّة بضع صفحات بحبكةٍ بسيطة: طالب لاهوت يتجوّل ليلًا في الجمعة العظيمة ويلتجئ من البرد القارس إلى كوخ أرملتين ليتدفأ قليلًا، فيروي لهما قصة الجمعة العظيمة ودموع بطرس بعد أن أنكر يسوع، ثم يتابع طريقه شاقًا الظّلمة بعد أن تلمَّس نور المعرفة حين ربط بين الماضي والحاضر بخيوط لامرئيّة مثَّلتْ صلة وصل مدهشة بين دموع بطرس المريرة ودموع الأرملة الأم، فتغمره بهجةٌ غريبة يغبطها عليه تشيخوف نفسه، ويضعها نموذجًا يتحدّى به النقّاد الذين يتّهمونه بالتّشاؤم.
لا نجد دارسًا أو ناقدًا للأدب الروسيّ يصرّح بأنّ القصة إحدى درر تشيخوف، غير أنّنا نجد نبرةً عقلانيّة ترفع من شأن القصة بدعمٍ من خيوط لامرئيّة أخرى تربط الماضي بالحاضر، حين يتلمّس النقّاد والقرّاء عون تشيخوف فتسمو القصة لأنّها مفضّلة تشيخوف. نجد نبرة موضوعيّة لدى إرنست سمنز، أحد أهم مرجعيّاتنا في الأدب الروسيّ، الذي يشير إلى أنّ تشيخوف «وصل إلى ذرى الكمال في التّناغم المُحكَم بين الشكل والمضمون، وبين النّبرة والجوهر، التّناغم الذي لا بدّ أن تولستوي قد فكَّر فيه حين عدَّ تشيخوف پوشكن الرّوس في النّثر.» علاقتي الشخصيّة بقصة «الطالب» أقلّ موضوعيّة من سمنز، إذ باتت العمل الأوحد الذي يبرق في ذاكرتي بوصفه مرادفًا للجمعة العظيمة وصلب يسوع. أهو سحر تشيخوف أم سحر تلك الخيوط اللامرئيّة التي نتلمّسها حين نقرأ القصة ونعيد قراءتها بالتّوازي مع سرديّة الجمعة العظيمة؟ نجد حضورًا أكبر للقصة لدى القرّاء الغربيّين بطبيعة الحال، إذ لا نجدها في مختارات تشيخوف العربيّة الأشهر التي ترجمها أبو بكر يوسف، مع أنّه يشير إليها في مقدّمة ترجمته بوصفها واحدةً من أهم قصص تشيخوف. لا نعلم ما إذا كان الحذف من يوسف نفسه أم من دار «رادوگا» بسبب النّبرة الدينيّة للقصة التي لم تكن لتتلاءم مع توجّهات الدور السوڤيتيّة. نقصها فادح ضمن أيّة مختارات لتشيخوف، إذ قدَّم فيها جوًا فريدًا لا نجده في أعماله الأخرى: ليست نبرة دينيّة بالمعنى المتعارف عليه بل نبرة روحانيّة تُعيد قراءة قصة الصلب بوصفه لحظةً أدبيّةً فارقة. يسوع هنا رمز فداء بقدر ما هو رمز للحظات الموت التي يكون فيها المحتضر وحيدًا حتّى لو كان ابن الله. جوّ قريب من أفكار تولستوي التي شهدت مدًا وجزرًا متواصلين عند تشيخوف؛ جو قريب من يسوع تولستوي: يسوع عِظة الجبل، يسوع البشريّ لا الإلهيّ، وكذا الأمر بالنّسبة إلى بطرس الذي نجد صورته البشريّة الهشّة لا صورة الحواريّ المعصوم. كان تشيخوف شحيحًا في التّصريح عن أفكاره الدينيّة، ولذا نجد لرسالته إلى أحد الأصدقاء عام 1899 إبّان تدهور صحة تولستوي أهميّة كبرى في قراءة أفكار تشيخوف. أحسَّ تشيخوف آنذاك بوطأة الخواء الذي سيتهدّده لو مات تولستوي، ولذا كشف عن أفكاره الدّفينة: «لستُ مؤمنًا، غير أنّ إيمان تولستوي هو الإيمان الأقرب إليّ والأكثر تناسبًا مع أفكاري من بين جميع الإيمانات.» لا نعرف رأي تولستوي بقصة «الطالب»، إلا أنّنا ندرك مدى تأثّر تشيخوف بيسوع التولستويّ (الذي بات يسوعًا تشيخوفيًا بعد أن أعادت أصابع تشيخوف الذهبيّة تشكيله من جديد) حين نقرأ القصة بتمعّن.
القصة التي تبدو في القراءة الأولى (وتُقدَّم في القراءات النقديّة) ميتا-حكاية، حكايةً داخل حكاية، تعيد صياغة نفسها مع إعادة القراءة، على الأخص حين نقرأ الشّخوص بكونهم عناصر أخرى من عناصر الطّبيعة التي تتجاوز دور الخلفيّة الضيّق الذي يؤطّر القصة لتصبح هي القصة في ذاتها. ليست «الطالب» محض ميتا-حكاية، بل هي أقرب إلى ماتريوشكا تنطلق من الجمعة العظيمة ودلالاتها، لتصل إلى دواخل الشّخوص ببراعةٍ تشيخوفيّة مدهشة تومئ ولا تُصرِّح حتّى حين يبدو تشيخوف شديد الوضوح. يعيد تشيخوف عرض الجمعة العظيمة ضمن سياق الحاضر، حين ينقل أورشليم إلى غابة روسيّة في دراما موجزة ثاقبة. يُمهّد للقصة بتمهيد اعتياديّ: «كان الجوّ لطيفًا وهادئًا بادئ الأمر.» ومن ثمّ تبدأ الدراما مع انقلاب الطّقس إلى رياح وبرد وظلمة وقفر لا يُسمَع فيه إلا عويل الريح وخطوات الفتى الذي يمضي بهدوء إلى النّور. ظلمة تامة ما خلا بصيص نار شاحبة في كوخ الأرملتين. يكتفي تشيخوف بسكتش حياديّ سريع يصف الأرملتين، فندرك لاحقًا أنّهما تعرفان الفتى، إذ يبدو أنّه يمرّ بهما يوميًا في طريق عودته، غير أنّ اليوم يوم مختلف، لا لكونه الجمعة العظيمة، بل لأنّ أوان انقشاع العتمة في عيني الفتى قد آن. يلجأ الفتى المقرور الجائع إلى نيران الأرملتين ويبدأ حكايته. اللافت أنّ الفتى لا يتحدّث عن يسوع، بل عن بطرس، عن دموع بطرس بعد أن أنكر معلّمه. جمعة تشيخوف العظيمة ليست «لجمعة العظيمة»، بل جمعةُ شهود تلك الجمعة العظيمة. يُخطئ الدّارسون حين يشيرون إلى «سذاجة» حكاية الفتى لأنّها تبدو – برأيهم – متخبّطة التفاصيل، فيما هو في واقع الحال ينتقي تفاصيل بعينها من روايات الأناجيل الأربعة ليعيد سرد الحكاية وتأويلها. حكاية الفتى حكاية عتمة، ودموع، وندم، وهجران. تبدو التّفاصيل الإنجيليّة الاعتياديّة باهتةً ونائيةً حين يرويها الفتى بهدوء محايد وهو يتدفّأ، غير أنّ الدموع تُباغته، دموع بطرس ودموع ڤاسيليا الأرملة الأم، فيبدأ إدراكَه الواعي لما رواه لاوعيُه.
حكايته الأولى هي حكاية اللاوعي المكرورة التي تُردَّد في كلّ عِظة في الجمعة العظيمة: «يقول الإنجيل: فخرج بطرس إلى خارجٍ، وبكى بكاءً مرًّا.» غير أنّ الدّموع كانت مفتاح الوعي الذي قلَبَ الحكاية بأسرها: «بوسعي تخيُّله خارجًا هادئًا جدًا، مُعتمًا جدًا، ونشيجٌ مكتومٌ بالكاد يُسمَع.»
ما كان الفتى ليدرك معنى الحكاية حتّى حين كان هو من رواها إلا حين خرج هو أيضًا إلى خارج، حين خلَّفَ الدّموع وراءه وعاد إلى الظّلمة القارسة: «خيَّمت العتمة عليه من جديد، وبدأت كفّاه تتجمّدان. هبَّت ريح قاسية، عاود الطّقس الشتائيّ الحقيقيّ حضوره مرةً أخرى، وما بدا أنّ أحد الفصح سيحلّ بعد غدٍ.» بدا الأمر وكأنّ الزمن الذي يفصل الجمعة العظيمة عن أحد الفصح ليس يومين فقط، بل فصل كامل بين شتاءٍ وربيع، أو ربّما أبدٌ بين ماضٍ ناءٍ وحاضرٍ ينزلق من بين الأصابع. وحينما أدرك الفتى نسبيّة الزمن، بدا الأمر وكأن أحد الفصح قد تمثَّل له وحده من بين جميع الآخرين الذين ما زالوا يتخبّطون في العتمة.
يخطر لنا أن نتساءل: أين يسوع هنا؟ يسوع حاضر منذ بداية الحكاية-داخل-الحكاية إلى نهايتها، وإنْ كان حضورًا شفيفًا غير مباشر. يشير تشيخوف عَرَضًا إلى العمّال الذين عادوا إلى بيوتهم القريبة من كوخ المرأتين؛ أشخاص بعيدون بالرغم من قربهم، كما كان جمهورُ الشُّهود على الصلب غائبين وهم حاضرون. الظَّلمة التي غطَّت الأفق، كما نراها في الرواية الإنجيليّة، هي الظلمة ذاتها التي طوَّقت الجميع في قصة «الطالب»، ظلمة الخواء والقفر والبرد والصمت المتواطئ، فيما كان من صُلب قد صًلب، ومن بكى قد بكى. كان يسوع وحيدًا في آلامه ما خلا حضور المريمات اللواتي يُشار إليهنّ إشارةً عابرةً في الأناجيل. مريمات يسوع هنّ الشُّاهدات الوحيدات الفعليّات في الجمعة العظيمة بآلامهنّ ولوعتهنّ، كما الأرملتان في قصة تشيخوف الشّاهدتان الوحيدتان في الجمعة العظيمة الجديدة التي يعيد الفتى روايتها. أما الباقون فيواصلون حياتهم وكأنّ شيئًا لم يكن. ما كانت دموع بطرس لتُسمَع في وطأة الصمت المًعتم، إلا أنّ دموع ڤاسيليا ولوعة لوكيريا حطّمت صمت العتمة الجديدة، فحرّضت الفتى على نسف العتمة وتلمُّس النّور.
«شرع يغمره شيئًا فشيئًا إحساسُ صبا، وصحّة، وقوّة – كان في الثانية والعشرين فقط – مترافقٌ مع استبشارٍ، يفوق الوصف، بقدوم سعادة، سعادةٍ غريبةٍ غامضة. وبدت الحياة فاتنةً، مدهشةً، متشرّبةُ بمغزًى سامٍ.» تلك هي خاتمة القصة التي يعقّب عليها هارلد بلوم بأنّ تشيخوف أدرك ربّما مضيّ ثلاثة أرباع عمره حين أشار بمرارةٍ إلى عُمر الفتى. كان تشيخوف في الثالثة والثلاثين حين كتب قصة «الطالب» (كان عنوانها الأول شديد الإيحاء: «مساءً»، غير أنّ تشيخوف غيّره لاحقًا)؛ كان بعُمر يسوع، وكانت هذه القصة أولى القصص التي كتبها في يالطا التي كانت المكان الذي أرَّخ سنوات المرض الذي سيفتك بتشيخوف بعد أحد عشر عامًا. أميل شخصيًا إلى أن الأمر أكبر من محض إحساس تشيخوفيّ مرهف بدنوّ الموت. نتذكّر أن يسوع – الذي مات في الثالثة والثلاثين – هو ذاته يسوع النبيّ الوحيد الذي لم يُقدَّر له عيش الحياة. عاش جميع الأنبياء الآخرين حيواتهم طولًا وعرضًا، زواجًا ومالًا ومكانةً وجيوشًا، ما عداه، مع أنّه ابن الله، روح الله، كلمة الله، أو أيًا تكن الصفة التي يفضّل كلّ قارئٍ اختيارها تبعًا لمعتقده. لعلّ قصة الجمعة العظيمة أكبر من محض تذكير بالدموع والصلب والدم واللوعة والفاجعة. ثمّة أمرٌ آخر أصغر ربّما، أو لعلّه أعظم: حين نتذكّر سنّ الثالثة والثلاثين ندرك متأخّرين كم أهدرنا من أعمارنا. ما من شيءٍ يعوّض تلك السّنوات، ولا حتّى دموع بطرس. يصرّ تشيخوف أنّ قصته تنسف التّشاؤم الذي ألصقه النقّاد بأعماله، إلا أنّ نبرة ملانخوليا شفيفة تغمر الخاتمة والقصة بأكملها. ربّما كان تشيخوف قد أدرك دنوّ الموت، ولكنّه – حتمًا – غبط الفتى على ما لم يُتَح لتشيخوف، ولنا، إدراكه باكرًا. كان الفتى في الثانية والعشرين فقط حين تلمَّس النّور. نحن تأخّرنا، إنْ كنّا قد تلمّسناه.
*تنشر هذه المادة بالتعاون مع جدلية.
بواسطة Yazan el-Haj | مايو 1, 2021 | Culture, غير مصنف
كان يعشق الحياة. عبارةٌ غريبة ضمن سياق الثقافة العربيّة، عبارة عجائبيّة ضمن سياق الثقافة السوريّة على الأخص. لا مكان لعشق الحياة حين تكون مفردة «الموت» المفردة الأكثر تكرارًا على نحوٍ واعٍ ولاواعٍ في الأعمال الإبداعيّة السوريّة ولدى مبدعيها على السّواء. كان يقهقه في بلاد الابتسامات الشّحيحة، وكأنّه يرسم بحياته مقياس ڤلاديمر نابوكوف لتصنيف النّاس: كان نابوكوف يقسم النّاس إلى أولئك الذين يضحكون وأولئك الذين يبتسمون، وقد كان من أنصار الضاحكين؛ وكان ممدوح عدوان يقسم النّاس إلى أولئك الذين يضحكون وأولئك الذين لا يضحكون ولا يفهمون النّكتة، وقد كان من أنصار الضاحكين طبعًا. كان نابوكوف مولعًا بجمع الفراشات؛ رفاهية لا تُتاح لسوريٍّ مثل عدوان، فاكتفى بلملمة الدّقائق كي يعيش الحياة إلى أقصاها، ويعشق الحياة إلى أقصاها. لم يكن ساذجًا كي يُخدَع بقشور «التّفاؤل الثوريّ» الذي اجتاح الستينيّات والسبعينيّات، فحتّى هذا التفاؤل يفترض أّنّ الحياة ليست مكانًا للعشق بل للنّضال كي تحظى الأجيال اللاحقة (أيًا تكن تلك الأجيال المجهولة الغامضة) بحياة تستحق العيش. هذا ما يفترضه الأمر نظريًا على الأقل. لم تكن أعماله ذات تفاؤل ثوريّ، ولم تكن تفاؤليّة عمومًا، إنْ صحَّ تصنيف الأعمال وفقًا لمقدار تفاؤلها أو تشاؤمها. كانت أعماله ذات نبرة حزينة، مثل باقي الأعمال السوريّة العظيمة. الأمل طيف آخر قد يتبدّى وقد لا يتبدّى. ما ميَّزَ أعمالَه حقًا خيطٌ شفيفٌ لعشق الحياة. حتّى ضمن قنطار الكآبة والحزن والأقدار المقبضة، نجد أنّ شخوصه، بعضها على الأقل، تحتفي بالحياة عبر عيشها. يعشقون ويُعشَقون، يتخاصمون ويتصادقون، يأكلون ويشربون ويضاجعون بنهم أحيانًا. كانوا يعشقون الحياة على اختلاف أفكارهم وأخلاقهم وعوالمهم، كانوا يعشقون الحياة مثل مُبدِعهم. ما الذي رآه هذا الرجل كي يعشق حياةً محكومةً بالموت؟ ما كان عقدُ الستينيّات الذي أبصرَ أولى نتاجاته الإبداعيّة عقدًا مغريًا بالعيش، دع عنك عشق العيش. وما كان ساذجًا ليُصدِّق أنّ صحوة حياة السبعينيّات أكثر من محض نسمةٍ ستُبدّدها البزّات العسكريّة عقدًا إثر آخر. الثمانينيّات؟ جحيم لَفَحَ الجميع. التّسعينيّات؟ كان الشّاب قد بات كهلًا يدرك أنّ الأمل ليس إلا سرابًا إلهيًا أو شِعريًا. الألفينات؟ لم يشهد إلا أربع سنوات منقوصة منها، وقد كانت سنواتِ المرض الذي لن يُمهله طويلًا. ولكنّ الرجل بقي عاشقًا للحياة؛ يعشق الحياة حتّى بعد أن مات؛ بل إنّ عشقه لتلك الحياة المتملّصة من بين الأصابع تعزَّز أكثر بعدما مات. إثر رحيله عام 2004، دارت أغلب المراثي حول أشيائه التي كانت تُمثِّل جوهر عيشه: سيّارته الڤولكس ڤاگن الخنفساء، شَعره المُصفَّف بعناية، قهقهاته، سيگارته، كأسه، سنوات عُمره التي اقتطعها الموت بغتةً بالرّغم من عامٍ ونصف العام من الاستعداد للحظة الموت: استعداده هو واستعداد الآخرين. كانت مراثٍ ملموسةً عن أشياء ملموسة: ما اختطفه الموت فعلًا كان اختطافًا للسيّارة التي راكمتْ غبار وقوفها حتّى كاد يُمحى سواد بقع الخنفساء الحمراء اللامعة، اختطافًا لخصلات الشَّعر الجميلة التي تساقطتْ شيئًا فشيئًا كأوراق شجرة فاكهة، اختطافًا للقهقهات الصادحة في زمن اعتقال البسمة والضحكة، اختطافًا للتّبغ وللكحول اللذين واصلَ عدوان غبَّهُما كَمَنْ يُجرِّبهما للمرة الأولى، بشغف العاشق، عاشق الحياة، عاشق العيش. تخطر لي الآن بعض ردوده الساخرة الثّاقبة في حوار أُجري قُبيل رحيله ونُشر في جريدة «تشرين» بُعيد رحيله بأيّام. ما عدت أذكر ما إذا كان هذا الحوار حواره الأخير، وما عدتُ أذكر ما إذا كان الحوار ضمن الجريدة نفسها أم ضمن ملحق أدبيّ. كان الحوار يشغل وسط الجريدة تمامًا بحيث يمكن الاحتفاظ به منفردًا، كما فعلتُ إلى أن ضاع الحوار مع ما ضاع من مكتبتي القديمة. لن أدخل الآن في شجن ما كان وضاع، ورثاء المكتبة القديمة والبيت القديم، لأنّ ممدوح عدوان لا يحبّ هذا الجوّ الكئيب، ولعلّه سيشير إلى رأسه بأصابعه التي لا تفارق السيگارة ويقول: المهم الذاكرة، اكتب ما تتذكّره قبل أن تُبتلى بزهايمر. المشكلة أنّي ما عدتُ أتذكّر تفاصيل كثيرة من الحوار باستثناء أنّ الأسئلة كانت نمطيّة مكرورة ترفع الضّغط، غير أنّنا نقرأ الحوارات عمومًا، والحوارات العربيّة خصوصًا، للاستمتاع بالإجابات لا بالأسئلة. أتذكّر إجابتين بدقّة: أولاهما إجابة على سؤال تناولَ «أزمة الشِّعر»، إلا أنّ عدوان قلب السؤال رأسًا على عقب ليُذكّرنا بأنّ الشِّعر في أزمة دومًا، أو بالأحرى بأنّ الشِّعر لصيقٌ بالأزمة، يولد منها، بمعنى أنّ الشِّعر (الشِّعر الحقيقيّ لا النَّظْم) بضاعةٌ نادرةٌ على الدّوام، من أوّل أيّام الشِّعر إلى نهاية أيّام الدُّنيا. ولذا لا معنى للحديث عن «أزمة»، بل عن شعراء. فالقبائل كانت تحتفي عند بروز شاعر لها مع أنّ العرب كلّهم يقرضون الشِّعر تقريبًا؛ والمتنبّي، مثلًا، ليس شاعرًا فردًا ضمن صحراء تخلو من الأبيات والقصائد، بل كان واحدًا من بين عشرات أو مئات الشُّعراء، غير أنّه برز عنهم بعبقريّته وجموحه وتفرّده، وطالما أنّنا لا نتحدّث عن أزمة شعر أيام المتنبّي، ليس لنا أن نتحدّث عن أزمة اليوم، أو أزمة تخصّ الشِّعر العربيّ أو أيّ شِعر في هذا العالم. صحيحٌ أنّ نسبة الشِّعر الحقيقيّ قد تضاءلت إلا أنّ هذه طبيعة تقلُّب الأزمنة. ما الذي لم يتضاءل اليوم ضمن مجال الكتابة؟ وحين أنهى المُحاور أسئلته «العميقة»، قرَّر لسببٍ مجهول طرح سؤال عابر (أو لعلّ هذا ما ظنّه المُحاور) على عدوان الذي كان يصارع السرطان في أيامه الأخيرة يتمحور حول «سرّ» مواصلته التّدخين والشّرب بالرّغم من إصابته بالسّرطان. أجاب عدوان بهدوء عابث قلبَ فيه السؤال كعادته من «بالرغم من» إلى «لأنّ»، فأشار إلى أنّه بقي يدخّن ويشرب لعقودٍ وهو مطمئنّ، لمّ ينبغي عليه التخلّي عنهما الآن حين اقتربت ساعة الموت؟ تتلاقى الإجابتان في معنى واحد: ما جدوى الحياة إنْ كنّا سنفكِّر في الموت وننشغل به، وما جدوى الحياة إنْ كنّا سنواصل عيشنا ونحن محض نسخة متطابقة من الآخرين؟ حياتنا، وإنجازاتنا في هذه الحياة، وسيلتُنا الوحيدة لقهر الموت، لا بمعنى الانتصار عليه، بل بمعنى مخاتلته. وقد كان ممدوح عدوان أحد أجمل مَنْ خاتلوا الموت، وواجهوه ندًا لندّ.
كان سيفرح حتمًا حيال هذه الاحتفاءات لأنّها احتفاءات بالحياة (حتّى لو كانت حياةً ماضية) أكثر من كونها حديثًا عن الموت (حتّى وإنْ كان حقيقةً حاضرة). يدرك عدوان أنّ الحياة، لا الموت، هي ما يستحق الكتابة. فالموت ليس إلا تذكيرًا بالحياة، بما كان وما لم يكن، بما صار وما لم يصر. تضاعفَ جمال الاحتفاءات/المراثي حين تركَّزت لاحقًا على تنوُّع نتاجه المدهش. فهذا التنوُّع – في ذاته – برهانٌ آخر على عشق عدوان للحياة، لحياةٍ أخرى، حياة الكتابة حيث خلق حياة موازية. لم يترك عدوان جانبًا من جوانب هذه الحياة الموازية إلا وجرَّب فيه، لعب فيه، عبث فيه، أعاد تشكيله. لعب بالشِّعر وفيه، وفي الترجمة، وفي المسرح، وفي الرواية، وفي الصحافة، وفي السيناريو التلفزيونيّ، وفي المقالات الثقافيّة. ولكنّ المراثي تلاشت وبهتت مع مرور الأيام إلا حين يتذكّر أحدهم ذكرى ولادته أو رحيله، وتضاعفت وطأة التّلاشي حين ترافقت مع تلاشي أعماله التي لم تحظ معظمها بإعادة طباعة. نجتْ بعض التّرجمات، وبعض كتب المقالات، ورواية «أعدائي»، وبعض ذكريات السيناريوهات. نجت لا لأنّها أفضل نتاجاته كما غربلها الزّمن بالضّرورة، بل لأنّها أكثرها رواجًا. يُشار إلى طبعة للأعمال المسرحيّة الكاملة صدرت عام 2006، إلا أنّي لم أصادفها، وباتت قراءاتي معتمدة على ما قُرصِن من المسرحيّات القديمة، وما تسلَّل إلى المكتبات من نُسخ مستعملة. ولم يبق من الشِّعر إلا مجموعته الأخيرة «قفزة في الهواء» التي صدرت في ذكرى رحيله العاشرة عام 2014، ومختارات صدرت عام 2017، وربّما نفد هذان الكتابان أيضًا. طبعة «دار المدى» لأعماله الشعريّة الكاملة اختفت منذ سنوات. كانت طبعةً جميلة ضمن سلسلة أعمال شعريّة كاملة لعدد من الشّعراء: نزيه أبو عفش، محمد الماغوط، سنيّة صالح، أدونيس، سعدي يوسف، نفدت هي الأخرى، لولا تدارك أدونيس وسعدي يوسف أمرهما حين أعادا طباعة أعمالهما طبعة جديدة قبل بضع سنوات. حين أتذكّر أيّة قصيدة من قصائد هؤلاء الشّعراء أو أعيد قراءتها، أستعيد تلك الطبعة ذاتها. قرأتُ قصائد عدوان عام 2005 أو 2006. كانت تجربة لن تتكرّر. قرأتُ القصائد بتتابع جنونيّ وكأنّما الدّنيا ستنتهي خلال أيام. ما زلتُ أظنّ أنّ المقالات وبعض المسرحيّات، لا القصائد، أعظم ما كتب عدوان. لعلّ رأيي سيتغيّر لو أُتيحت لي فرصة إعادة قراءة القصائد كاملةً اليوم. ولكنّ هذا كلّه ليس مهمًا الآن. المهمّ هي حياة عدوان، وعشقه لتلك الحياة، وبراعة تبيان عشقه لها حين كتب عنها في كتابته عن أصدقائه الراحلين. تُقرأ مراثي عدوان، التي نشر بعضها في كتاب «جنون آخر»، بوصفها سيرةً ذاتيّةً مبعثرة كتب فيها عدوان نفسَه وحياتَه بقدر ما كتب الآخرين. هنا، فقط، يُزاح عشق الحياة قليلًا، أو ربّما يتخفّى قليلًا، ليواجه عدوان الموت بالكتابة، بالحياة، تحديدًا حين كتب عن سعد الله ونّوس الذي اختطفه الموت قبله بسبع سنوات. ليست مقالته القصيرة أعظم ما كُتب عن ونّوس بطبيعة الحال، إلا أنّ فيها التقاطات بارعة لم أجدها عند غيره. كتب عدوان عن ونّوس، وعن نفسه، وعن سوريا، وعن الثقافة، وعن معنى أن تكون كبيرًا بين الكبار، وكبيرًا بين الصغار.
يكتب عدوان عن رحيل ونّوس بوصفه نقطةً فاصلة في تاريخ ثقافة، نقطة تُميِّز المياه الشاسعة حيث تتنافس الحيتان فَتَهِبُ المياهَ من عنفوانها؛ وتُميِّز المياه الضحلة، كأس الماء الصغيرة الشّحيحة، حيث لا مكان للحيتان، بل لأسماك صغيرة تافهة لا تدرك ضيق عالمها فتظنّ تلك الضّحالة هي الكون بأسره. حيتان في كأس ماء، هذا ما كان عدوان يرى نفسه وأمثاله النّادرين ممّن صمدوا في زمن الضّيق. أدرك عدوان احتماليّة تضاؤل أحجام هؤلاء النّادرين بعد رحيل ونّوس، فالحوت «يحتاج إلى مناخ وبيئة من الحيتان. ولكي تكون كاتبًا كبيرًا يجب أن يكون حولك شعب يستوعب كاتبًا كبيرًا، وكتّابٌ كبار يساعدونك على فرض قيمتك من خلال سعيهم لفرض قيمتهم هم.» لا حيتان في كأس ماء، ولا غابات في صحراء. لن تكون للشاعر قيمة حين تتمحور الأسئلة عن «أزمة الشِّعر»، ولن تكون له قيمة لدى قرّاء يقرؤون القصائد بمسطرة الاقتباسات. كان عدوان يرثي نفسه حين رثا ونّوس، كما نرثي أنفسنا مع كلّ راحل من الراحلين الذين يختطفون ذكرياتنا/ذكرياتهم معهم فنتضاءل حتّى لو لم نكن كتّابًا، كبارًا أو صغارًا. لا حاجة لأن تكون قريبًا من المبدع كي ترثيه. أتذكّر هنا تعليقًا ساخرًا لصحفيّ تحوَّل روائيًا ثمّ قرَّر استنساخ ألبرتو مانگيل، أو صورته الظاهريّة بطبيعة الحال، انتقدني حين كتبتُ قبل سنوات عن عدوان. كان يفترض عدم أهليّتي للكتابة عن عدوان لأنّي لم أكن أحد ندماء سهراته. نكتة دفعت جميع ندمائي في سهرتي السابقة للقهقهة بمن فيهم إنكيدو الذي لا يقهقه إلا نادرًا. ولكنّها كأس الماء الضحلة مرةً أخرى. إنْ كان عدوان أدرك انمساخ البحر الشّاسع إلى كأس ماء بعد رحيل ونّوس، فأيّ ماء بقي لنا الآن بعد أن رحل عدوان والماغوط وسنيّة صالح وهاني الراهب، إنْ اكتفينا بالسوريّين؟ لعلّ السّرطان الذي نهش جسد ونّوس أطلق بذوره في جسد عدوان، غير أنّ عدوان لا يكترث للرثاء في ذاته، بل يذكّر نفسه ويذكّرنا بوجوب عشق الحياة حتّى لو كانت طيف حياة في بلاد الضيق. ما دفعه لعشق الحياة أكثر، ولعشق ونّوس أكثر، هو أنّ ونّوس حوَّل سنوات الموت إلى حياة جديدة بالمطلق. كان نتاجه في سنواته الأخيرة أعظم ما كتب على الإطلاق، ولذا مضى إلى الموت بثقةِ المحارب الذي نفض غبار آخر انتصاراته. يذكّرنا عدوان أنّ الموت أضعف من أن نشغل أنفسنا به؛ الحياة أقوى وأجمل وأشدّ إغواء، ولذا لا بدّ من اعتصار دواخلنا قبل أن يعتصرنا الموت. لا بدّ من أن نواجه الموت بكبرياء «لأنّنا لم نترك وراءنا ما لم نعشه، وما لم ننجزه، وما لم نستمتع به. ثمّ نتقدّم لمواجهة الموت مُتخَمين بالحياة». ماذا بشأن ما لم ننجز، ما حلمنا بإنجازه؟ ينفض عدوان السؤال كما ينفض دخان سيگارته التي لم تنطفئ، ليذكّرنا أنّ ما بقي ليس لنا، بل لمن بقي وراءنا كي يبنوا عليه (وهذا نادر)، أو يدمّروه ليشيّدوا ما هو أفضل (وهذا أندر)، أو يهدموه لمجرّد الهدم كما فعلت أجيال متلاحقة طوال عقود وهي تسبح في مستنقعات الضّحالة (وهذا ما يحدث في الغالب).
ما الذي رآه هذا الرجل كي يعشق حياةً محكومةً بالموت؟ رأى الحياة، وتجاهلَ الموت، ببساطة.
*تنشر بالتعاون مع جدلية.