في رقعةٍ صغيرةٍ من بلدٍ أنهكته الحروب، يُنسج الأمل بأيدي نساءٍ تحدين تجاعيد الحياة وعذاباتها، لتحكن مطرزات وترسمن لوحات وتدون قصائد وحكايات نابضة بالحب وتصنعن مجسمات فنية سهرن عليها أياماً وليال، ولتتبنى أعمالهن شعار “المرأة روح الحياة وأبجدية الأدب”.
في جناح الأعمال اليدوية تعرض ” شهرزاد سليمان” نتاجات أفكارها من فن تدوير مخلفات البيئة من بقایا الأخشاب والزجاج والخیش والعبوات الفارغة و شرائح النحاس والكرتون المضلع لتخرج منها تحفاً ومجسمات فاكهة وصوان ومعلقات جدارية وصحون للزينة وعلب ضيافة.
يحظى الفن النسائي من خلال المعارض المنظمة باهتمامٍ يفوق ما يتم تقديمه من خلال نشاطاتٍ فردية في مجالات عديدة وفي صناعاتٍ وفنون تراثية نادرة، وحرف يدوية أعدن إليها بريقها ونفضن الغبار عن فنون الأجداد التي يكاد يطويها النسيان.
تهدف التظاهرة الثقافية التي باتت تقليدا سنوياً إلى تشجيع و تطوير النشاطات النسائية وفرصة لخلق فضاء نقاش و حوارٍ بين نساءٍ فاعلاتٍ في المجال الأدبي والفني من مختلف الأجيال وتبادل الخبرات والآراء بغية إبراز دور النساء في الساحة الثقافية والفنية ليقدمن صوراً إنسانية متفردة تكتمل به منظومة العقل الإبداعي للمرأة الفنانة.
تُعتبر الأمثال الشعبية العربية نوعاً من أنواع الأدب الشعبي، وجزءاً من الموروث المروي، الذي تتناقله الأجيال بسهولة، نظراً لتحقق قواعد الاختصار والإيقاع والتصوير، ما يجعل حفظ الأمثال وتناقلها غايةً في السهولة، ويُحافظ على ما جاء فيها من أفكار رغم تغير البيئات والظروف الاجتماعية التي ظهرت خلالها.
أثبتت الأمثال الشعبية قوتها في كثير من المواقف والعلاقات الاجتماعية، حيث تحولت إلى قوانين تقولب أنماط التفكير والحكم بين الناس على بعض المواقف دون أن تتمتع بأي سلطة تنفيذية تفرضها. فقد فرضت الأمثال الشعبية نفسها بنفسها من خلال حُسن صياغتها وتمتعها غالباً بالدعابة، ما يزين استخدامها حتى بين الفئات التي يجب أن ترفضها، لما تنطوي عليه غالباً من أحكام مسبقة وصور نمطية، أو إهانة وتهميش.
يظهر هذا التنميط والحكم المسبق القاسي والمستفز بوضوح في الأمثال العربية حين تتناول النساء، فهن غالباً ثرثارات غبيات كاذبات وخائنات، وفي بعضها هن مصدر المصائب. وفي أحيان قليلة قد يكن ذكيات كريمات مُتقنات لعملهن، لكنهن عندها يكنّ ”أخوات الرجال“، في تأكيد لفظي أن المرأة لا يمكن أن تتحلى بصفات إيجابية ما لم تُشابه الرجال.
وتكمن خطورة هذه الأمثال في ترسيخ الصور النمطية للمرأة والأدوار المنوطة بها في الثقافة العربية. ففي ظل بعض التطور المنجز على صعيد الحياة الاجتماعية للنساء في الوطن العربي، ما تزال الأمثال الشعبية تعمل على تقزيم إنجازاتهنّ من خلال ترسيخ النظرة التي ترى أن ”البنت لو وصلت للمريخ آخرتا للطبيخ“.
وتبدأ عملية الإقصاء الشفهي ثم الفعلي للنساء منذ الولادة في الأمثال العربية التي لا تزال حية ومتداولة؛ فعدة أمثال تؤكد كراهية واستنكار ولادة مولودة أنثى، كالمثل الشعبي اليمني القائل ”ابن عاصٍ ولا عشر مطيعات“، إلى المثل القائل ”صوت حية ولا صوت بنية“، أي أن وجود أفعى في المنزل يُعتبر مصيبة أصغر من وجود بنت فيه.
ويستمر هذا الإقصاء بالتأكيد على أن النساء ثرثارات وكثيرات الكلام، إلا أن كلامهن لا قيمة له وآراؤهن لا جدوى منها، لذا لا بد من إسكاتهن أو تعليمهن السكوت ”لسان البنت متل شعرها كل فترة بدو قص“.
بعض الأمثال لم تسخر من آراء النساء فحسب، بل سخرت من قيمة المرأة عموماً واعتبرتها عديمة الفائدة دون رجل، دون أن تصبح زوجة وأماً، فـ”الرجل بالبيت رحمة ولو كان فحمة”، وويل للمرأة التي لم تنجب لزوجها لأن ”الشجرة اللي ما تثمر حلال قطعها“، ويستمر هذا التهديد حتى بعد أن تنجب إذا أنجبت أنثى ”فأم البنت مسنودة بخيط وأم الولد مسنودة بحيط“.
كذلك تُشجع كثير من الأمثال بعض الظواهر كالعنف تجاه النساء، فتحث النساء على تقبل العنف والانحناء أمامه وعدم مواجهته، فالأهمية والأولوية هي الحفاظ على الزوج قبل الحفاظ على الإنسانية أو الكرامة، ولا بدّ أن كثيرات سمعن عبارات مثل ”الوحش أكل كل الخلق إلاّ مرتو“، أو ”إذا علكك ما بيبلعك“، في توجيه صريح للمرأة للصبر على الزوج وتحمل الحياة معه حتى لو كان متوحشاً.
ويذهب بعضها إلى التظارف في تشريع العنف من خلال الدعابة ”النسوان متل الزيتون ما بيحلو غير بالرص“، إذ يشجع هذا المثل الزوج على تعنيف زوجته حتى تصبح لينة مطيعة، وتصبح الحياة معها حلوة، مثلما يصبح الزيتون أطيب إن هُرس قبل التخزين، مع التحذير الدائم من عواقب تعليم المرأة وتمردها إن أصبحت قارئة ”لا تقري بنتك ولا تندم على العاقبة“.
ولا تحصل المرأة على مكانة إيجابية برأي بعض الأمثال ما لم تكن جميلة، فرأيها غير مهم وعلمها وثقافتها ليسا ذو أهمية، ما يهم فقط هو جمالها لأنه أداتها لإرضاء الرجل، والضمان الذي يعطيها الفرصة لتلعب الأدوار المنتظرة منها كامرأة صالحة، بأن تتزوج وتنجب وتربي “إذا عشقت اعشاق قمر، وإذا سرقت اسروق جمل”، و”الحلوة حلوة ولو صارت نانة وكنة”.
بعض الأمثال أظهرت الاحترام للنساء وقدمتهن بصورة إيجابية، إلا أنها أيضاً حصرت احترامهن وإنجازاتهن بالدور التقليدي المقدس للمرأة وهو الأمومة وتقدير دورها في التربية “جوزك على ما تعوديه وابنك على ما تربيه”، و”اللي ما عنده أم حاله يغم”.
اليوم ونحن نعيش في زمن الثورات والمطالبة بالتغيير السياسي، يبدو أن موروثنا الثقافي ولغتنا اليومية بحاجة للمراجعة والتغيير بدورها. فلا يجوز لأي نشاط يهدف للمطالبة بحقوق النساء وتحقيق العدالة لهن أن يتجاهل اللغة العنيفة والمهينة التي ترسم صورة المرأة وتُحدد أدوارها، ولا بد من استبدال المقولات المجحفة بحق النساء بالتذكير بإنجازاتهن وإنتاجهن الفكري والعلمي والاقتصادي، وإبقاء هذا كله حاضراً في أذهاننا بدءاً من صياغة القوانين والدساتير وانتهاءً بالأدب الشعبي والمرويات.
بمراسم احتفالية وعروض مسرحية وغنائية ودبكات شعبية، أحيا الآشوريون ذكرى السنة البابلية الآشورية في أحضان الطبيعية بأزيائهم الفلكلورية كما يفعلون في الأول من نيسان من كل عام في مناطق الجزيرة وعموم سورية كبداية عامهم الجديد الذي يعرف بعيد “أكيتو”.
وتعنى “أكيتو” الحياة الجديدة باللغة السريانية، و يستمر الاحتفال بها ١٢ يوماً، يبدأ بمرحلة خلق جديدة كما جاء في ملحمة الخلق الأولى ’إينوما إيليش‘ السومرية المكتملة في ملحمة جلجامش.
وعن رمزية مدة عيد أكيتو البالغة ١٢ يوماً يقول الباحث والكاتب ركيس دنحو أنها تساوي أشهر السنة الأثني عشر، “فكل يوم كان يقابل شهراً واحداً مرتبطاً بالسنة الجديدة، ويرتبط الرمز الكامل بالمفهوم الأسطوري للأشهر الاثني عشر للخصوبة والوفرة، ومفهوم مشابه يرتبط بالأعياد الشهرية بأساطير النجوم والأبراج”.
ويربط الكاتب الآشوري دنحو احتفالات الآشوريين والبابليين بمناسبة دينية هامة هي انتصار الإله “مردوخ” الذي كان يعتقد أنه من خلق الحياة والطبيعة على الآلهة “تيامات” حيث تخصص الأيام الأربعة الأولى من الاحتفال لممارسة الطقوس الدينية، وتقديم الصلوات، والقرابين وقراءة قصة الخلق (إينوما إيليش) التي تحكي كيف جرت عملية اتحاد الآلهة ليكون “مردوخ “ملكهم، أما الأيام المتبقية فتتضمن بعض المظاهر الاجتماعية والسياسية إضافة إلى الطقوس الدينية.
وقد مضى على هذا العيد 6769 عاماً بحسب تقويمهم الآشوري البابلي، إذ يعود تاريخ الاحتفال به إلى الألف الثالث قبل الميلاد، واستمر حتى القرن الثاني قبل الميلاد، ليظهر بعد ذلك في أعياد واحتفالات أخرى في العراق وسورية وايران وآسيا وبلدان البلقان بعدما طرأت على طقوس الاحتفال بعض التغيرات.
يصفه الكاتب ورئيس الجمعية الثقافية السريانية حنا حنا ابو تغلات أكيتو بأنه “انتصار الخير على الشر” فهو بحسب قوله “يمثل إرثاً حضارياً وثقافياً لبلاد ما بين النهرين الذي يعود لآلاف السنين للعهد السومري الأكادي البابلي الآشوري السرياني، والذي لازال يستأثر باهتمام الباحثين والأدباء وعلماء الآثار لما يشكله من أهمية بالغة في إغناء مختلف جوانب الحضارة الإنسانية”.
ويوضح تغلات أن الاحتفال بعيد رأس السنة الجديدة يعود إلى عصور مبكرة من حضارة بلاد الرافدين، فقد وردت إشارات في النصوص المسمارية إلى أن هذه الاحتفالات كانت معروفة في المدن العراقية القديمة، وأصبحت شائعة في كل بلاد بابل وآشور في نهاية العصر البابلي القديم.
وتحضر حكاية أعياد الربيع وطقوس الاحتفال بها في السهول والجبال والوديان في ذاكرة نيمو سركيس السيدة السبعينية المنحدرة من مدينة “عين كاوا” من كردستان العراق والمتزوجة في مدينة القامشلي والتي انضمت لجموع المحتفلين في قرية “محركان” في ريف مدينة القامشلي.
تتذكر سركيس خروج الناس من كل القوميات والأديان إلى الطبيعة المغطاة بالعشب الأخضر والمزركشة بزهور برية بمختلف الألوان والأحجام تحيطها غابات كثيفة، وتضيف: “منذ حلول ساعات الفجر الأولى تعلق كل عائلة آشورية حزمة من العشب الأخضر في أعلى مدخل البيت قبل استيقاظ الأطفال وتسمى (دقنا دنيسان)، و تحضر النسوة للمناسبة ما لذ وطاب من المأكولات و الحلويات والثياب الفلكلورية للجنسين وبمختلف الأعمار، وترتدي المرأة فستاناً طويلاً وتحته سروال طويل تتزنز بحزام قماشي، وتغطي رأسها بقلنسوة وتلفها بمنديل أبيض يغطيها وتبقي وجهها مكشوفاً، ويضع الرجل على رأسه قبعة على شكل نصف كرة مصنوعة من الصوف عليها ريش من ريش النعام ويرتدي قميصاً أبيضاً وفوقه كنزة مصنوعة من الصوف و بنطالاً ملوناً ومزركشاً عريضاً من أسفله”.
خارج المنزل تتشابك الأيادي في رقصات فلكلورية على نغمات موسيقية في حلقات الدبكة، وتشعل نار” نينوى” بشعلة تصفها نيمو بالكبيرة.
وتتابع سركيس: “في نهاية آخر يوم من أيام الاحتفال تعود كل عائلة مصطحبة معها باقات الزهور البرية التي تتشارك أفراد العائلة بجمعها، وتعلق باقة منها بجانب باب البيت تعبيراً عن الفرح بقدوم الربيع واستقبال الخير، ويرمي كل أفراد العائلة بقية الزهور مع قطع نقدية في حلة ماء كبيرة، ويطلب من أصغر أفراد العائلة أن يغمض عينيه ويغمس يديه في الحلة ليجمع النقود المعدنية لتنعم العائلة ببركة السنة”.
وتعتبر الاحتفالات بالسنة الجديدة (الأكيتو) “واحدة من أكثر الأعياد والمهرجانات الدينية الاجتماعية الشعبية قدماً وعالمية بمناسبة مرور الفصول أو عودة الشمس” كما تشير صباح شابو مسؤولة الاتحاد النسائي السرياني في القامشلي، مبينة أن الاحتفال بالعيد في العصر السومري كان طبقاً للدورة النباتية لموسم الحصاد والبذار وكلاهما كان يشير لبداية السنة.
وتضيف شابو “جرت العادة على إقامة الاحتفال بعيد ’أكيتو‘ كل عام حسب التوقيت البابلي القمري في الأول من نيسان، وابتداء من العصر البابلي القديم أغنى عيد “أكيتو” الخيال الديني لشعب حضارة بلاد الرافدين لأكثر من 2500 سنة، لأنه كان غنيا على نحو غير اعتيادي بالطقوس والرموز الدينية والأسطورية والاجتماعية والسياسية”.
وبالنسبة لها فإن هذا العيد “رمز للنضال الشعبي من أجل الحرية من أجل نهضة ثقافية متعددة وديمقراطية في المنطقة والشرق الأوسط”.
دخلت الأركيلة المجتمعات السورية منذ فترة طويلة، ربما من ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أنها الحرب بدّلت ملامحها وأصبح هناك فارق بالحضور البشري المرافق لها وبالعامل التسويقي والاستهلاكي الذي يصفها، لابل طبيعتها بحد ذاتها.
يعود تاريخ انتشار الأركيلة لبداية العام الألف الثاني للميلاد، مع الإشارة إلى أن توسع انتشارها قد بدأ في تسعينيات القرن الماضي، وارتبطت الأركيلة بالرجال وباليسر المادي وبالسلطة، كزعيم الحارة أو المختار أو البكوات، وتوسعت لتصبح طقساً يومياً لرجال الحارة كما تثبت الصور المتداولة في المقاهي، ومع هذا فإن حضور النساء برفقة الأركيلة وتعاطيها كان واضحاً في ستينيات القرن الماضي، خاصة بعد التأثر بشخصية المعلمة في السينما المصرية، وإصرار بعض من النساء السوريات على تقليد تلك الصورة. ولا يمكن تناسي صورة بعض القرويات وهن يدخنّ الأركيلة في الأرياف السورية، وخاصة في بعض قرى ريف دمشق، يروي محمد الذي فضل عدم ذكر اسمه أنه ” من الطبيعي جداً أن تقضي النساء في قريته القطيفة -وهي لا تبعد عن دمشق بأكثر من ثلاثين كيلو متر- مساءاتهن على الدكك الحجرية خارج بيوتهن، وهن يسحبن نفس الأركيلة باستمتاع وبحرية كاملة في طقس برز في السبعينيات” مؤكداً أن هذا لم يكن يشكل أية وصمة أو تطاول على بنية المجتمع المحافظ نسبياً في تلك الأرياف.
وعمم العرف العام في المدن الشمالية الشرقية وأريافها صورة مقبولة وشائعة للنساء المدخنات علناً، حتى وهن سائرات في الشوارع والقداحة ذات الخيط المبروم الطويل ترافقهن وكانت تدعى قداحة حجر، كما كانت الأركيلة في مدن وأرياف أخرى بمتناول النساء أيضاً بصورة كرسها مسلسل “صح النوم” بشخصية “فطوم حيص بيص”، إضافة للعديد من الصور التي تظهر تجمعات لسيدات في حفل غنائي أو راقص خاص ضمن أحد البيوت وخاصة الميسورة، وهن يتبادلن تدخين الأركيلة بصورة طبيعية وعادية جداً.
إذن فإن التبدلات الاجتماعية التي طرأت على الأركيلة ومدخنيها تاريخية، إلا أن الفصل الأهم فيها هو الانتقال من التنباك النقي والمحلي إلى المعسل الذي يكون غالباً مغشوشاً بذريعة النكهة، كما أنه ملون بأصباغ ضارة تحقق أرباحاً لا تقدر لأسواق الاستهلاك.
وتبدو فكرة المعسل وغزوه للأسواق السورية مرتبطة بالخليج، حيث ارتبط استعماله بالمعسل المستورد من هناك أو القادم مع السوريين الكثر المستقرين فيه.
تنتشر اليوم في سوريا العديد من المقاهي الخاصة للأراكيل، محال لبيع المعسل بنكهات جديدة يعلن عنها باستمرار وكأنها سابقة ثقافية مميزة، إعلانات لمحال ومقاهي توصل الأركيلة إلى قلب البيوت وتركز على جودة الفحم، وصولاً الى اختراع المبسم البلاستيكي الخاص بكل مدخني الأركيلة، مباسم سيئة الصنع غير مضمونة من حيث تركيب مواد انتاجها وتغليفها غير معقم أو خاضع لشروط صحية أو رقابة، خاصة في ظل تبادل عام لنفس الأراكيل التي وإن غسلت فبالماء، وبحسب أخصائي السلامة العامة، الكثير من البكتريا تنمو وتنتعش في ذلك الماء وقد تتحول لسم ممرض.
وفي سبيل الفحم قطعت مساحات من الأحراج في وضح النهار، كذلك حصل مع أشجار ليمون تحت ذريعة أن فحم شجر الليمون هو الأفضل والمفضل للأراكيل، حيث يزداد الطلب عليه الآن، وبهذا يصبح تحول شجرة الليمون لفحم مساوياً لقيمة غلالها لسنوات، خاصة في ظل غياب دعم المزارعين، وكساد الأسواق، وهبوط قيمة الليمون، مما يحول مواسمه إلى خاسرة بعد كل التعب والكلفة في العناية والسقاية والقطاف والتحميل.
ويبدو انتشار محال بيع الأراكيل والفحم والمعسل ومقاهيها مؤشراً على سهولة الحصول على تراخيصها وتقدم أيضاً العديد منها شبكة انترنت مجانية وشاشات عملاقة لحضور مباريات كرة القدم تقدم أساساً وبشكل شبه حصري الأراكيل على حساب الظواهر الثقافية. وخير دال على تلك القصدية نجده في تراخيص مقاهي الرصيف التي تتحول كطعم للشباب، حيث يذكر السوريون وخاصة الدمشقيون أن أحد المقاهي كان يشترط جلوس الشباب في داخل المقهى ويمنح الشابات فقط -وخاصة اللاتي يتبعن آخر أساليب الموضة في الزي والاكسسوات – وحدهن فرصة الجلوس على الطاولات القابعة على الرصيف وبهذا تتحول الشابات لطعم ترويجي أو لعلامة استهلاكية تستجر أقدام الشبان الغارقين في استرخاء غير مفهوم، يراقبون من الداخل أنفاس أراكيل الشابات في الخارج، عملية قد تغلف بالمتعة الخفية أو بالشبق المكتوم، لكنها مدروسة ومرعية بعناية من أصحاب المقهى.
ويتفاوت سعر الأركيلة ما بين الثمانمائة ليرة وحتى الألفين والخمسمائة ليرة عدا عن قيمة المشروب المرافق والذي يعتبر بروتوكولاً شرطياً وملازماً للأركيلة، صباحاً مساءً، مكان مغلق أو مفتوح ، حامل أو مريضة، لا شيء يمنع من تدخينها.
وينتشر للأراكل أيضاً العديد من الاكسسوارات الزجاجية والمعدنية، وأخرى بحقيبة صغيرة ومرتبة وكأنها حقيبة مجوهرات، وشابات يحملنها بعناية، وشباب تبدو ظاهرة من قلب حقائب ظهورهم وهم على دراجاتهم النارية أعمدة الأراكيل الحديدية المبرومة وكأنها أدوات الغوص في المتعة اللامحدودة، عدا عن الخراطيم وزينتها.
مدن بلا أندية سينمائية وبلا نشاطات ثقافية نوعية والتراخيص للحصول عليها مؤجلة لوقت غير معلوم، ويمنع ترخيص نادي رياضي في أحد الأحياء بذرائع مختلفة، بينما يرخص لمجمع ترفيهي ضخم قيمة الأركيلة فيه أغلى من كل مقاهي دمشق، هذه المدن نفسها ترعى الأراكيل دون رقابة أو شروط للوقاية من المخاطر، حيث يمكن أن تشاهد في أحدها أطفالاً بعمر الثانية عشرة وهم يدخنونها.
إضافة للمضار التي يتلقاها المدخن بإراده، يتعرض عمال إشعال الفحم وتجمير الفحم -وهم غالباً دون الثامنة عشرة من أعمارهم- يومياً للهباب المسموم والعوادم والفحم السام والخطر على صحتهم، وغالباً يكون أجرهم زهيداً فيعتمدون على مراضاة الزبائن لكسب البقشيش لتحسين موارد دخلهم، هذا عدا عن السهر الطويل في المقاهي وعيش معظم فترات يومهم خارج المنزل و وبيئة العائلة.
يورد طبيب مختص بالأمراض الصدرية مخاطر الأركيلة، مؤكداً على أنها مميتة وتسبب أمراضاً مزمنة للقلب والرئتين، إلا أن مدخينها يتجاهلون هذا وتسود بينهم ثقافة “دخن عليها تنجلي”، “أركل بتزنكل”، و”يلي مالو أركيلة مالو شغيلة”، و”بالنفخ وحده تحيا الصدور”.
الأخطر هو السمة العائلية للأركيلة، أم وبناتها، عائلة كاملة تجتمع على الأركيلة، إبريق من الشاي أو الزهورات الساخنة وطبق من البزر الرخيص، وفي كل بيت منقل خاص لفحم الأركيلة ودبوس زينة لفتح راسها الممتلئ بالهباب، وتبديل دوري للخراطيم، ومباسم متكررة وكثيرة تنام على الأرض كل مساء، ويعلن السوريون أنه في الأركيلة حياة، وتستمر المهزلة، وربما المقتلة.
تعتبر اللغة إحدى المكونات الثقافية الأبرز للمجتمعات البشرية، وهي مرآة عاكسة لفكر المجتمعات وتراتبية القوى فيها. هناك جدل واسع بين المفكرين حول أسبقية الفكر على اللغة وعجز اللغة عن التعبير المطلق عن الفكر. لذلك أعتقد أن مناقشة موضوع اللغة لا يكتمل دونما استحضار الفكر الفردي والإجماع المجتمعي. فمفردات اللغة المستعملة تتحدد وفق تصور المرأة لذاتها وتصور المجتمع للدور المرسوم لها. فمن الصعب تشريح اللغة على كافة المستويات، فيما لو تحدثنا فقط عن مفردات اللغة بحد ذاتها. فالقضية هنا ليست بصدد الحديث عن التأنيث أو التذكير في مفردات اللغة بل عن ضرورة الغوص فيما هو أبعد من ذلك ألا هو التعايش بين الفكر واللغة. فاستعمال اللغة ومفرداتها هو أحد الأدوات في التعبير عن الذات التي تحدد العلاقات الاجتماعية المتشابكة ورؤية المرأة لذاتها وانعكاس صورتها في مرآة المجتمع. فما اللغة إلا أداة لتعزيز الفكر.
السؤال المطروح هنا: هل يختلف هذا التعايش بين الفكر واللغة عندما يقوم الشخص بتعلم لغة ثانية؟ خاصة عندما يكون هذا المتعلم شخص بالغ يرزح تحت ظرف اللجوء في بلاد العالم المتقدم؟ وهل هذه التجربة متشابهة عند الرجل والمرأة في مرحلة خلق الهويات الجديدة بتعلم لغة ثانية؟
إن اتقان لغة بلد اللجوء حاجة أساسية لا مفر منها للقدرة على النجاة والتأقلم في مجتمعات جديدة، وهي مهمة غاية في الصعوبة خاصة للاجئين السوريين، فقد حُرم غالبيتهم بسبب النظام التعليمي السوري من اتقان لغة ثانية، مما ضاعف من معاناتهم. واعتقد أن هذه سياسة تعليم مقصودة بكل تأكيد، بغاية تكبيل عقول السوريين للسيطرة عليهم حتى ولو خرجوا من حدود السيطرة المكانية.
تختلف دراسة اللغة عن دراسة أي مواد دراسية أخرى فموضوع اللغة ينضوي على الاطلاع على ثقافة جديدة1 ، مما يشجع الفكر على بدء عملية المقارنة التي تفتح الباب لاستحضار أسئلة لم تكن مألوفة في ظل التعود الذي غالباً ما يتسبب في تعطيل الفكر النقدي. وهذا ينطبق على مجتمعات اللجوء ككل لكنني أعتقد أن أثره أعمق عند المرأة اللاجئة مما هو عند الرجل بحكم اختلاف مستوى القوة الاجتماعية لكليهما. فللرجل مكانة اجتماعية ودور في بلده الأصلي يُشعره أصلاً بالتفوق على المرأة من حيث تراتبية القوى في المجتمع، بينما نجد أن المرأة لا تمتلك هذا الحس بالتفوق الاجتماعي مما يجعلها ترى ما تكتشفه في سياق تعلم اللغة الجديدة بعينٍ مختلفةٍ عن عين الرجل. فاللجوء في دول العالم المتقدم يخفف من تراتبية تلك القوى ليجد اللاجئ نفسه في أغلب الأحيان، سواء أكان رجلاً أم امرأة، في أدنى درجات سلم القوى. فعندما يتناول تعليم اللغة مثلاً مواضيع إبداء الرأي والتعبير عن الذات، نجد المرأة مهتمة ومتحمسة أكثر من الرجل في المشاركة مما يساعدها على التعلم بشكل أسرع وذلك لأنها تمارس، من خلال هذا السياق الجديد في استعمال اللغة، قوة لم تعهدها من قبل. بينما لا نجد ذات الدافع عند الرجل الذي اعتاد أن يمارس هذه القدرة التعبيرية بلغته الأم مما يولد عنده حنيناً لتلك اللغة التي كانت تعبر عن مكنوناته ويمارس من خلالها سلطته بكل سهولة. فعالم استخدام اللغة للتعبير عن الذات عالم جديد على المرأة اللاجئة لم تعهده من قبل، فهو يشعرها بأنها فاعلة وقادرة على التعبير عن رأيها وذاتها وهذا ما يجعلها، في رأيي، مجدة أكثر في تعلم اللغة كون دوافع تعلم اللغة عندها ترتبط باكتشاف الذات.
يرى الباحث غارندر أنّ رؤية الشخص لذاته وكيفية تعريفه للنجاح يؤثر على قدرته على التعلم، أي أنّ الموروث الثقافي يؤثر على تعلم اللغة الثانية2. فتعلم اللغة يتمحور حول هوية المتعلم وكيف يرى نفسه. فغالباً ما كانت المرأة ترى نفسها كما يراها مجتمعها. ففي سورية مثلاً يجب أن تدرس المرأة بشكل عام في مجالاتٍ محددةٍ وتعمل في مجالاتٍ أكثر تحديداً، حتى أن الموضوعات التي تتحدث فيها تختلف عما يتحدث به الرجل وذلك يتبع بالضرورة للدور الذي حدده لها المجتمع سلفاً. لقد خلق اللجوء هويات مختلفة، فاختل ميزان القوى القديم الذي حرم المرأة من شغلِ مركزٍ مساويٍ للرجل، وهذا ما أثر على طريقة تعلم اللغة عند المرأة التي بدأت بتشكيل هوية جديدة لذاتها. في دراسة عن النساء المهاجرات وتعلم اللغة، وجدت الباحثة بوني نورت بيرس أن النساء عندما يتعلمن لغة ثانية يخلقن لأنفسهن هوية اجتماعية جديدة. فعندما يتحدثن باللغة الثانية، فإنهن لا يقمن فقط بتبادل المعلومات مع المتحدثين المستهدفين، ولكن يقمن باستمرار بتنظيم وإعادة تنظيم إحساسهن بذاتهن وارتباطهن بالمجتمع3 . يتم إنتاج الهوية الاجتماعية وإعادة إنتاجها في التفاعل الاجتماعي اليومي، فالدوافع الذاتية والثقة بالنفس والانفتاح على الآخر ليست صفات شخصية ثابتة، ولكنها متغيرة وفقا للعلاقات الاجتماعية وتوازن القوى في المجتمع.
1Peirce, B. N. (1993). Language learning, social identity, and immigrant women
2Gardner, R. C. (1985). Social psychology and second language learning: The role of attitudes and motivation. London: E. Arnold
3Peirce, B. N. (1995 .(Social Identity, Investment, and Language Learning
يعرف قاموس مصطلحات الجندر والجنسانية مجتمع الـ”إل جي بي تي”/”LGBT” المعروف عالمياً بأنهم المثليون والمثليات وثنائيو وثنائيات الميل الجنسي والمتحوّلون والمتحوّلات جنسيًا وحاملو وحاملات صفات الجنسين والكوير، و تنقسم الآراء ووجهات النظر التي تتعلق بهذا المجتمع في سوريا إلى اتجاهات عديدة. يرفض البعض تجريم ومعاقبة الأشخاص بناء على ميولهم الجنسية، على اعتبار أن هذا النوع من الاضطهاد مخالف لحقوق الإنسان، معتبرين أن التوجه الجنسي هو مسألة شخصية بحتة لا يحق لأحد التدخل فيها. “إلا أن المبالغة في التعبير عن هذا التوجه، وجعله علنياً في الأماكن العامة، هو ما يعد غير مقبول، أسوة بأي تصرف آخر يعد غريباً عن المنظومة الأخلاقية في سوريا” بحسب أيهم المصري وهو مهندس معلوماتية يقيم في دمشق.
فيما يرى عيد الآغا أستاذ التاريخ في دمشق أن الموقف من هذا المجتمع لا يمكن أن يكون مجرداً من المفاهيم الدينية ونظرة المجتمع السائدة، “لأن ثمة قيوداً قيمية ومجتمعية ترفض بشكل صارم وواضح الممارسات الجنسية المخالفة للطبيعة كما وصفتها الأديان”.
وعلى الرغم من تباين الآراء والمواقف وتشددها في كثير من الأحيان ضدهم، وترافق ذلك مع إطلاق نعوت وصفات سيئة على الأشخاص المنتمين إلى مجتمع الـ”إل جي بي تي”/”LGBT، إلا أنه لا يمكن التغافل عن التحول الملحوظ الذي طرأ خلال السنوات الأخيرة على طريقة التعاطي معهم في سوريا. إذ لم يعد مستغرباً رؤية أشخاص مثليين، أو ممن يبدو على هيئتهم عدم وضوح في الهوية الجندرية، يتجولون في الشوارع، ويدخلون إلى البارات والمقاهي العامة. كما أن السوريين المنتمين إلى الـ”إل جي بي تي”/”LGBTباتوا أكثر انفتاحاً وتقبلاً لعرض قصصهم على الملأ، انطلاقاً من فكرة أن تسليط الضوء على ما يتعرضون له من معاناة، قد يساهم في إيصال صوتهم، وتوضيح المغالطات التي تحيط بعالمهم.
فعلى الشبكة العنكبوتية الناطقة باللغة العربية، انتشرت الكثير من الحملات والتجمعات الافتراضية على غرار صفحة “إل جي بي تي بالعربي” التي أسسها فادي سليم عام 2017، وصفحة موالح سابقاً.
ويبدو أن الحرب لعبت دوراً إيجابياً لصالح بعض مجموعات الـ”إل جي بي تي” في سوريا التي أصبحت تمتلك جرأة وتعلن نفسها ومواقفها على العموم، وذلك نتيجة انحسار الرقابة الأمنية التي كانوا خاضعين لها فيما سبق، وانشغال السوريين عموماً بأوضاع كانت تعد مصيرية بالنسبة لهم.
لكن هذا لا يعني أنهم باتوا يعيشون بحرية ودون ضغوط، أن أن بإمكانهم إحداث تغييرات حقيقية للاعتراف بوجودهم، على غرار ما يحدث في بعض المجتمعات الغربية.
فالمجتمع السوري يعتبر من المجتمعات المتدينة والمحافِظة، التي ما يزال فيها الدين الإسلامي مصدراً أساسياً للتشريع، والدين الإسلامي يحرّم بشكل لا لبس فيه المجامعة الجنسية بـ”خلاف الطبيعة”، ويعتبرها من الكبائر، كذلك تعارض الكثير من القوانين هذا، كقانون الأحوال الشخصية، فضلاً عن أن المسيحية تنهي عن ذلك في إحدى الآيات الواردة في الإنجيل، وفيها “لا تضاجع ذكراً مضاجعة امرأة”.
كما أن مجتمعاً يعتبر حتى الآن ممارسة الفتاة للجنس خارج إطار الزواج مسألة “عرض وشرف”، ولا يزال الناشطون فيه يكافحون من أجل إصدار قانون يعترف بالزواج المدني الاختياري، لا يمكن التعويل عليه لتقبل مجتمع الـ”إل جي بي تي”/”LGBTبالصيغة التي يريدون. حتى أن قانون العقوبات السوري يعاقب على الممارسة الجنسية من نفس الجنس، بالسجن مدة ثلاث سنوات، علماً أن العقوبة غير معمول بها بشكل فعلي، لكنها تبقى تؤرق حياة المثليين، التي لا تخلو من حوادث ملاحقة واعتقال، كما أن القوانين التي من شأنها أن تمنح الحق بتغيير الجنس القانوني، غير واردة في الطرح، ولا يبدو أنها قد تبصر النور قريباً.
الخوف والتخفي
يتقاسم أفراد مجتمع الـ”إل جي بي تي” الهموم والمشكلات نفسها، مع بعض الاختلافات التي تفرضها طبيعة الحالة والتوجه الجنسي والهوية، فالتكتم والسرية خشية عدم كشف الأمر، يعد سمة مشتركة بين المثليين، إضافة إلى اتخاذ بعض منهم نمَطَي حياة مختلفين، يشكل أحدهما النمط “الشائع” في المجتمع، بينما يعبّر النمط الآخر عن كيانهم الحقيقي.
يتحدث فادي سليم، الشاب المثلي الذي كان يسكن في حي القصاع في دمشق عن التجربة التي مر بها، قبل أن يتخذ هو وزوجه الحالي القرار باللجوء إلى ألمانيا عام 2015. فمنذ نشأته الأولى، كان فادي يشعر باختلاف ما داخله إلا أنه لم يدرك حقيقة هذا الشعور حتى بلغ التاسعة عشر من عمره، وتأكد من ميوله الجنسية نحو الشباب.
ولم يكن من السهل لفادي أن يسير في رحلة الإدراك والكشف هذه، فقد عانى من نبذ الذات، وفكّر في الانتحار عندما كان طالباً في المرحلة الإعدادية، لأنه تبادل قُبلة مع أحد أصدقائه في المدرسة آنذاك، فشعر حينها أنه “شاذ وسيء الأخلاق”، لأنه عجز عن إثبات ذكورته، التي يتمثل حيز منها بأن يختار شريكاً مغاير الجنس. ولم يُجد فادي نفعاً من مواعدة إحدى الفتيات، للتغلب على الاضطراب الذي كان يعتمل في داخله، فهو لم يستطع أن يمارس الجنس معها، حتى أنها لم تكن تزور مخيلته أثناء ممارسته العادة السرية، إلا أنها ظلت صديقة له، وقد ساعدته على التظاهر أنهما مستمران في علاقتهما، من أجل التستر على هويته المثلية أمام عائلته والمجتمع المحيط به.
يروي فادي سليم: “إن التركيبة الشرقية للمجتمع السوري تساعد إلى حد كبير في عدم الكشف عن الميول المثلية، لأنه من الطبيعي وضمن المسموح به أخلاقياً واجتماعياً، أن يتشارك شابان أو فتاتان مكان السكن، وأن يتبادلا القُبلات عند المصافحة”. إضافة إلى أن آراء أخرى تفيد أن هذا المجتمع نفسه، يبدو أكثر تقبلاً للفتاة المثلية، مما هو عليه مع الشاب المثلي، علماً أنه ما من أدلة تثبت صحة هذه الفرضية، فحقيقة الأمر، أن المثليات يتعرضن للإهانة والاضطهاد، خاصة عندما يُكتشف أمرهن، أو يميل مظهرهن إلى الذكورة.
إلا أن النظرة الشرقية التي يغلب عليها الطابع الذكوري، “يميل جزء منها إلى الاعتقاد أن رؤية فتاتين أثناء المعاشرة الجنسية، هو حدث جمالي أكثر منه جنسي، لأن المرأة مثال للجمال، ولا يمثل جسدها العنف الذي يمثله الرجل بوجود العضو الذكري” كما يقول رفيف المهنا الطبيب النفسي.
ولا تقفالآراء النمطية المحيطة بالمثلية الجنسية في سوريا عند هذا الحد، فالموروث الثقافي يفرض على العائلات والأهل أن يغرسوا “أفكار الرجولة في أذهان الصبية الصغار، وعدم السماح لهم بالتصرف كالنساء، ومنع الفتيات من القيام بأفعال مسترجلة”، برأي قاسم العبدالله وهو من سكان حي المزة. بيد أن وسم المثليين عامة أن الجنس هو شغلهم الشاغل، وربط سلوكهم الجنسي بالدعارة في كثير من الأحيان، هو أكثر ما يزعج أفراد هذا المجتمع، علماً أن تصرفات بعض منهم تساهم في تكوين هذه الفكرة النمطية عنهم.
وهذا ما حدث مع سائق التاكسي عماد، عندما كان يقل راكباً إلى منزله في حي الميدان الدمشقي، فتودد له هذا الراكب مظهراً انجذابه الجنسي نحوه، دون أن يخطر في باله أنه سيلقى رداً عنيفاً من عماد.
إن ما يحيط بالمثلية الجنسية من مغالطات، ليس لها أي استناد علمي أو منطقي، يعود إلى هيمنة المنظور الأخلاقي على المنظور الطبي، فعلى الرغم من أن كمية كبيرة من الأبحاثالجنسية، أثبتت أن المثلية بعيدة عن كونها مرضاً وفعلاً شاذاً عن الطبيعة، وأن التأثيرات الهرمونية أثناء نمو الجنين، قد تؤثر على أجزاء معينة من الدماغ، وبالتالي تؤثر على التوجه الجنسي، إلا أن عدم الاطلاع على هذه الأبحاث، والإصرار على أن العلاج النفسي والإقناع قد يسهم في تحويل المثلية الجنسية، يعكس الرؤية السائدة للمنظور الأخلاقي والثقافي المهيمن في المجتمع السوري.
قصة عابر للجنس
يندرج العابرون جنسياً“ترانس سيكشوال”/”Transsexual people” تحت مصطلح المتحولين “الترانس جندر”/”Transgender people”، وهم يخضعون أو يحتاجون للخضوع لعمليات تدخل هرموني أو جراحي، لتكون أجسامهم متوافقة مع الهوية الجندرية التي يعبرون إليها. وقد لا ينفع التستر واتخاذ نمَطَي حياة مختلفَين مع العابرين جنسياً، الذين لا تتوافق هويتهم الجندرية مع الجنس البيولوجي عند الولادة بالتشريح أو الجينات، فهم لا يستطيعون إخفاء التغييرات التي تطرأ على مظهرهم الخارجي، وليس ثمة قوانين في سوريا تتعلق بالعابرين.
وبهذا يواجه العابرون جنسياً مجموعة إضافية من التحديات في المجتمع السوري، يتجسد معظمها في قصة جان، الذي لا يزال إلى الآن، يعيش ارتدادات فترات الاضطراب وعدم التوازن التي لازمته منذ الصغر. فالجسد الأنثوي الذي يرافقه منذ ثلاثة وعشرين عاماً، أرهقته مضادات الاكتئاب والهرمونات الأنثوية، التي دأب المعالجون النفسيون والأطباء على وصفها له، على اعتبار أن ما يمر به هو فترة اختلال مؤقتة، يمكن معالجتها عن طريق الأدوية. فأصبح يقضي معظم وقته نائماً، منفصلاً عن الواقع، مسلوب الإرادة عن فعل أي شيء في الحياة.
كان جان في السابعة عشر من عمره عندما أدرك أنه في حالة انفصال تام عن جسده، وأن هويته الجندرية بشكلها الأنثوي لا تمثله، فقرر حينها أن يوقف حياة الزيف والتظاهر التي كان يعيشها إرضاءً لأهله، وهم لا زالوا يصرون حتى الآن على التعامل معه على أنه فتاة، واستبدل الملابس النسائية وأدوات التبرج التي كان يستخدمها بناء على طلب المختصين، الذين ارتأوا حينها أن التمسك بالشكل الأنثوي سيحل المشكلة، وبدأ بارتداء ما يناسبه من الملابس الرجالية، والتمثل بالهوية التي يشعر أنها تعبر عن حقيقيته الجندرية، متحدياً عائلته والمحيط الاجتماعي في سوريا.
لا يشكل الصراع مع المحيط التحدي الوحيد لجان، فالحياة العاطفية لديه شبه معدومة، وتمثل العادة السرية بالنسبة له “تجربة مزعجة” على حد وصفه، فأعضاؤه التناسلية الأنثوية لا تلبي رغبته، ولا تمكنّه من الوصول إلى حالة النشوة والانفجار التي يشعر بها الذكر عند القذف، فضلاً عن أن الإحساس بعدم الانجذاب الجنسي نحو أي من الجنسين، لا يزال ملازماً له منذ فترة طويلة.
يتعرض جان أثناء خروجه إلى الشارع لكثير من عبارات السخرية والاستهزاء بمظهره، وتلاحقه نظرات المارة المليئة بالاستغراب والتساؤل، فشكله الخارجي أصبح خليطاً بين الأنوثة والذكورة، ورغم إخفائه لثدييه بقطعة قماش، إلا أنه لا يزال يحتفظ ببعض الملامح الأنثوية، وهذا ما جعل “التلطيشات الساخرة” كما يصفها، تكون أقرب إلى التي تُقال للمثليين.
إن مسألة اختلاف الهوية الجندرية، وعدم قدرة العابرين جنسياً على توثيق الهوية التي تمثلهم قانونياً، تضعهم أمام مشكلة يواجهونها في الدراسة والعمل، وهي تعتبر الأهم بالنسبة لهم. إذ لا يمكن لجان أن يوثق تخرجه من كلية الإعلام بهويته الذكورية، وهو ما جعله يتخلى عن دراسته الجامعية، وأفقده فرصاً للعمل في مجال تصميم الغرافيك الذي أتقنه بنفسه، كما أن عمليات التصحيح الجنسي في سوريا، تُجرى فقط في حالات التشوه الخلقي للأعضاء التناسلية، الأمر الذي يحتّم على جان السفر إلى الخارج، في حال أراد الحصول على المساعدة الطبية اللازمة وإجراء التصحيح.
وكما تلاحق الأفكار النمطية المثلية الجنسية، كذلك هو الأمر بالنسبة للعابرين، إذ إن الآراء السائدة تميل إلى الاعتقاد، أن التحول أو العبور إلى الجنس الآخر، هو خيار شخصي يتبع لمزاج الشخص وأهوائه. إلا أن حقيقة الأمرهي أن العابرين لا يستبدلون هويتهم الجندرية بهوية أخرى، لأنهم لطالما كانوا وسيظلون الجنس الآخر الذين عبروا إليه. وعليه، فإن خوف المجتمع من وجود الـ”إل جي بي تي”/”LGBT”، والإصرار على نبذهم، فيه كثير من الظلم والمبالغة غير المبنية على أسس منطقية وعلمية، لأن الميول الجنسية والهوية مسألتا وجود وتنوع أفرزته الطبيعة.