التنقيب عن الآثار مهنة رائجة في إدلب

التنقيب عن الآثار مهنة رائجة في إدلب

تغيرت حياة أبو عمر (٣٩عاما) من مدينة كفرنبل وانقلبت إلى أحسن حال بعد عثوره على أحد الكنوز الأثرية القريبة من مدينته، وذلك أثناء قيامه بالتنقيب عن الآثار في منطقة سرجيلا الأثرية،فبعد أن كان أبو عمر يعمل في تصليح الدراجات النارية، أصبح اليوم يمتلك الأراضي والعقارات. عن تجربته يقول أبو عمر: “تركت عملي في تصليح الدراجات بعد أن أصبح دخله لا يسمن ولايغني من جوع في ظل الغلاء الفاحش، و أصبحت أعمل في مهنة التنقيب عن الآثار، وقد شجعني على هذا العمل، عثور بعض أقاربي على تحف أثرية قيمة.“

واستغل تجار الحروب ما تمرّ به البلاد من خرابٍ وفوضى فضلا ًعن غياب الرادع الأمني، لتغدو المواقع الأثرية في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وخصوصا في إدلب وريفها، مسرحاً للتنقيب العشوائي غير المشروع. ونشطت حركة التنقيب والتجارة في مجال الآثار عقب خروج مدينة إدلب عن سيطرة القوات الحكوميةمنذ آذار/مارس ٢٠١٥، حيث شرع المئات في عمليات الحفر العشوائية بحثاً عن قطعٍ نادرةٍ ضمتها تربة المحافظة والتي شهدت نهضة حضارية خلال العصور الكلاسيكية (لاسيما خلال الفترة الرومانية والبيزنطية) والإسلامية.

إن عملية البحث عن الآثار ليست بالأمر السهل، وإن حالف الحظ أبو عمر أحد بالعثور على لقىً ثمينة غيرت حياته، إلا أنه يوجد في المقابل العديد ممن يبحثون عن الآثار منذ مدة ولم يجدوا شيئاً حتى الآن. كحال الشاب حسام (٢٠عاماً) من بلدة حيش، والذي عانى من البطالة بعدما اضطر لترك دراسته في الجامعة بسبب الأوضاع الأمنية، فراح ينقب عن الآثار، منذ شهور يصعد التلال ويجوب الوديان عله يوفق بالعثور على لقىً أثرية تمكنه من تأمين متطلبات الزواج على حد قوله. الأستاذ خالد السيد (٣٥عاما) خريج قسم الآثار ينتقد التنقيب عن الآثار بشدة قائلاً: “لم يترك لصوص الآثار في المحافظة وريفها زاويةً إلا ونقبوا فيها بحثاً عن القطع الأثرية، مستخدمين أجهزة كشف متطورة، فهم يتسابقون ويتصارعون على سلب تاريخ سوريا من أجل ملء جيوبهم.”

وعن أسعار بعض القطع الأثرية يحدثنا تاجر الآثار أحمد (٤٥عاما) من معرة النعمان قائلاً: “يتراوح سعر التماثيل الأثرية النادرة بين عشرة آلاف ومئة ألف دولار، أما أسعار العملات الرومانية فتتجاوز الألف دولار للقطعة الواحدة.“ ويقول أحد التجار بأنه باع إحدى القطع بمئة ألف دولار كونها نادرة جداً مشيراً إلى أن طريق التهريب كان يمر بلبنان، ولكن في الآونة الأخيرة شهد هذا الطريق تشديداً كبيراً، ما جعل الكثيرين يفضلون التهريب إلى تركيا، متجاوزين التدقيق العالي على المعابر.

هذا وقد طالت الآثار المدمرة للحرب في سوريا، الإرث الحضاري والتاريخي من متاحف وقلاع وتلال وأسواق ومدن منسية، إذ تعرضت الكثير من المواقع الأثرية للقصف العنيف والمتواصل من قبل الطيران الحربي التابع للنظام السوري وحلفائه، الأمر الذي أدى لهدم تلك العديد من المباني كلياً أو جزئياً وطمس معالمها الأثرية. محمد السعيد (٤٠ عاماً) من سكان قرية البارة الأثرية يتحدث بحزن عن قريته التي انقلبت بشكلٍ جذري عما كانت عليه سابقاً، وللبارة رصيد أثري يعود إلى العهود الرومانية والبيزنطية القديمة ومن بعدها العربية. يقول السعيد بغصة: “دمر القصف ما دمره من المباني الأثرية، أما ما بقي منها فقد شوه معالمه النازحون، حيث قصدت القرية عشرات العائلات النازحة وأسسوا فيها مسكناً لهم، وقاموا بتكسير حجارة تلك المباني وبنوا فيها حظائر للماشية من الجدران الإسمنتية.” كما أن جزءاً كبيراً من تلك المباني دُمّر إثر عمليات تجريب السلاح من قبل عناصر تابعة لفصائل عسكرية بحسب السعيد، فباتت الجدران القديمة مسرحا للتأكد من مدى صلاحية السلاح والذخيرة وفاعليتها، بعد ما كانت تلك المواقع سابقاً تحظى بأهمية كبيرة لدى السائحين الذين يتوافدون إليها من كل حدبٍ وصوبٍ. وتشكل آثار محافظة إدلب ثلث آثار سوريا حيث يبلغ عدد مواقعها الأثرية أكثر من ٧٦٠ موقعاً.

ونتيجة لهذه الفوضى العارمة والانتهاكات بحق الآثار، ظهر في إدلب نشطاء ومتطوعون أخذو على عاتقهم حماية مابقي من الآثار والحفاظ عليها، فبادروا بتأسيس مركز آثار إدلب. وحول الهدف من المركز وعمله تحدّث مؤسس المركز ومديره المختص بعلم الآثار الأستاذ أيمن النابو ( ٣عاماً) قائلاً: “تم تشكيل مركز آثار ادلب في النصف الثاني من عام ٢٠١٢ من أجل حماية آثار محافظة إدلب، من قبل عدد ٍمن الأكاديميين والمختصين في علم الآثار. وكان يقتصر العمل بدايةً على موضوع توثيق الانتهاكات ومن ثم تطور في السنوات الأخيرة ليشمل حماية القطع الأثرية التي تم جمعها من مناطق مختلفة والتي يبلغ عددها مايقارب الألفي قطعة أثرية، حيث يتم تغليف القطع بمادة (تايفك) التي تحميها من العوامل الجوية، بالإضافة لمادة الأكياس الفقاعية التي تحميها من الاصطدام والكسر نتيجة ظروف الحرب التي نعيشها.” كما أكد النابو أنه يتم أيضاً حماية اللوحات الفسيفسائية وترميم ما تعرض منها للأذى، ويختتم حديثه بأن المركز يسعى إلى توسيع النطاق الجغرافي لعمله ليمتد إلى ريف حلب وريف حماه الشمالي ريثما يتم إنشاء مراكز خاصة في كل محافظة. ويأمل العاملون في مجال الآثار توفر مناخ مناسب يسمح لهم بتقييم الأضرار وتوثيقها وترميم آثار هذا البلد العريقة والتي تعرضت لأضرارٍ جسيمة خلال سنوات الصراع.

فرص ضائعة وسياسة انكار… “حزب الشعب الديمقراطي” نموذجاً

فرص ضائعة وسياسة انكار… “حزب الشعب الديمقراطي” نموذجاً

كلما فكرت باليسار السوري قفزت إلى ذهني الجملة التي قالها لي رياض الترك في برلين، لدى زيارته الأولى لأوربا بعد خروجه من سجنه الثاني، عندما قدمت له ورقة بعنوان “هل بقي لليسار من دور يلعبه؟”. كانت الجملة: “لا يوجد يسار”. يومها اعتقدت أنّه حكم وجود واقعي. الآن، وبعد أن صار ما صار، أعتقد أنه كان حكم إعدام.

لخّص، بالنسبة لي، هذا التصريح من شيخ اليسار السوري آنذاك الجانب الذاتي من أزمة اليسار السوري. إنّه الفقدان المطلق للثقة بالنفس. وعندما يفقد المرء الثقة بنفسه يلتحق بأحد أولئك الشجعان الذين مازالوا يحتفظون بتلك الثقة. ويفترض المنطق أن يكون ذلك الملتَحَق به قريباً فكريّاً من المسكين الفاقد للثقة بنفسه. لكنّ حزب الشعب الديمقراطي لا علاقة له على ما يبدو بهذا المنطق، فاختار الإخوان المسلمين، أو لعلّه التحق به لهذا لسبب إيّاه؟

وعندما يرتكب المرء هذه الحماقة فلماذا نستغرب أن ينزلق إلى ما هو أكبر منها؟ كأن يدافع جورج صبرة عن جبهة النصرة مثلاً، في كلمته التي أصبحت من الشهرة بحيث لا أحتاج هنا لذكرها. فالتعاون مع الإخوان المسلمين يمكن تبريره بأنهم سبق أن شاركوا في انتخابات برلمانية ديمقراطية ذات يوم على الأقل، كما هو معروف، رغم كل ما يمكن أن يُقال عن ديمقراطيّتهم بأنها “ديمقراطية أدواتية”، أي أنها مجرّد أداة للوصول إلى الحكم، بدليل غيابها الكامل عن بنية الحزب وعلاقاته الداخلية المبنية على مبدأ الولاء المبني على البيعة الشرعية..الخ. أما جبهة النصرة فقد كانت وما زالت تعتبر الديمقراطية وحكم الشعب شركاً بالله، وهو منطق السلفية الجهادية نفسه الذي أعاد صياغته سيد قطب في كتبه الكثيرة وخاصة “معالم في الطريق” الذي أصبح “إنجيل الثورة الإسلامية” وخاصّة في فرعها الجهادي. وهنا أذكّر باختصار شديد أن الكتاب المذكور كان أحد أكثر ما يقرأه الإخوان أنفسهم، إلى درجة أنهم كانوا يختصرون العنوان بكلمة “المعالم” في أحاديثهم بسبب شهرته بينهم.

خيبتي تلك مع الرفيق رياض الترك تكرّرت مضاعفةً، عندما قرأت نص الكلمة التي ألقاها في احتفالية الذكرى السبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس بتاريخ 14/12/2018 حيث يتحدّث عن “صدمات صغرى” سبّبها النظام بإطلاق مئات السلفيين من سجونه ودفعه لهم لمصادرة الثورة وأسلمتها، لكنّ صدمته الكبرى كانت عدم التدخّل الدولي. إذن فالرجل لم يتعلّم من سبع سنوات فشل لإحدى أكثر الثورات مأساوية في التاريخ الحديث أي شيء.

ولكن ماذا كان يمكن لليسار أن يفعله واقعياً، حتى ولو لم يكن متأثّراً ب”مانديلا سوريا” الذي جعله السجن، على ما يبدو، يعتقد أن كل ما كان هو نفسه يدعو إليه من برنامج اجتماعي ووطني وقومي هو كلام نافل أو مؤجّل في أفضل الحالات وأن النضال الوحيد الذي يستحق التضحية بكل شيء هو القضاء على السجّان الحالي، حتّى ولو كان السجّان المقبل هو والي اردوغان في سوريا مثلاً؟

كان يمكن له أن يتعلّم من دروس جيرانه في إيران مثلاً، فيرى كيف يمد الإسلاميون يدهم للجماعات اليسارية قبل الثورة فإذا استلموا السلطة تخلّصوا منها، واحدةً بعد الأخرى. وقد كان من شأن هذا الدرس أن يجعل الرفاق يتذكّرون قصة “التخوم” التي كان لينين يركّز عليها باعتبار تحديدها قبل أي تعاون مع الآخرين شرطاً مُسبقاً لأي تعاون من هذا النوع. حتّى هنا كان اليساريون الثوريون السوريون يفتقدون لعذر كبير تمتّع به رفاقهم الإيرانيّون وهو أن الشاه كان صنيعة للإمبريالية الأمريكية بالمعنى الملموس (دور السي آي إي في الانقلاب ضد مصدق..الخ). هذا البعد العالمي للنضال لم يختفِ فقط من الخطاب اليساري الثوري السوري، بل ظهر عكسه بالضبط، أي الاستنجاد بالتدخّل العسكري الإمبريالي، إلى درجة أن عدم ذلك التدخّل شكّل “الصدمة الكبرى” للرفيق رياض الترك، كما قال هو نفسه.

أيّ يساري حقيقي كان يُفتَرَض أن تكون “صدمته الكبرى” هي هذا التصريح مثلاً في العام الثاني للثورة: ففي 13 كانون أول 2012 نشرت الحياة ما يلي على لسان معاذ الخطيب : “..كون الحراك العسكري إسلامي اللون بمعظمه هو شيء إيجابي..”. بالنسبة لمعاذ الخطيب كان ذلك إيجابياً طبعاً فالرجل نفسه “إسلامي”، لكنّ التصوّر العام عن مفهوم “اليساري” يجعل أي مراقب محايد يتوقّع من يساريي الثورة السورية في ذلك الوقت أن يعيدوا حساباتهم ويواجهوا جماهيرهم بالحقيقة المرّة وطرق التعامل معها. فماذا فعل هؤلاء فعلاً؟ لقد لجأووا إلى التكتيك النفسي المعروف “الإنكار”. وهو تكتيك يصنّفه المحلّلون النفسيون في خانة “آليات الدفاع النفسي”، كما نعلم. ولكي ينجح هذا الإنكار كان يجب اللجوء إلى “لغة إنكارية” بالكامل بحيث نستبدل عبارة “المجاهدين” بعبارة “الثوار” في المرحلة الأولى ثم بعبارة “المعارضة” في المرحلة التالية. فكلمة معارضة تنطبق على جبهة تحرير الشام تماماً كما تنطبق على “تيار اليسار الثوري” التروتسكي. ومن جهة أخرى نقتصر عندما نتحدّث عن أهداف الثورة على هدف إسقاط الدكتاتورية الحاكمة في دمشق، فهو أيضاً هدف الجولاني كما هو هدف رياض الترك.

هل كان اليسار يستطيع أن يفعل غير ذلك؟

لا شك. وهذا الجواب القطعي سببه ظروف اندلاع الثورة السورية: ممهّداتها (ربيع دمشق ودور المثقّفين الأقرب إلى اليسار فيه)، المسار الذي بدأت به الثورة السورية (شكل الحراك السلمي وشعاراته، الغياب التنظيمي شبه الكامل للإسلاميين في كوادر الثورة في مرحلتها الأولى، حسب كافة الباحثين)، طبيعة القيادة التي قدّمت أولى المبادرات السياسية في مرحلة مشاورات الدوحة المبكّرة، وأخيراً السمعة النضالية الخاصة التي كان رياض الترك يتمتّع بها بسبب تاريخه وشجاعته في مواجهة الديكتاتورية من داخل سوريا وليس من خارجها، والتي شكّلت له “رأسمالاً رمزيّاً” لدى الجماهير كان يمكنه استغلاله للمساهمة في ترجيح الكفّة في صفوف المعارضة لصالح اليسار..

فلماذا لم يفعل الحزب ذلك؟

أظنّ أنني أجبت على ذلك في بداية هذا المقال بشكل غير مباشر. فاليساري الذي يفقد الثقة ب”الرسالة البنيوية” لليسار، سيخدم اليمين في النهاية.

أما عن ماهية تلك “الرسالة البنيوية”. فهي يمكن استنتاجها فقط من مصدرين: الأول نظري يتناول تاريخ الصراع الاجتماعي ودور الذات الثورية فيه، والثاني تطبيقي يحلّل بنية المجتمع السوري في مستوياتها الثلاثة الكبرى الاقتصادية والسياسية والايديولوجية وكيف تتطوّر هذه المستويات الثلاثة أو كيف يعرقل تخلّف أحدها تطوّر الآخر، كما حصل ويحصل فعلاً وما هو “موقع” الذات الثورية في تلك البنية وكيف تعزّز موقعها في سبيل تحقيق برنامجها، الذي هو في النهاية برنامج “القوى الاجتماعية الساعية للتطوير” التي تمثّلها. وهذا كلّه موضوع دراسة يضيق هذا المجال عنها. لكنّ حزب الشعب الديمقراطي السوري فوّت على نفسه فرصة هذه الطريقة في “البرمجة” منذ مؤتمره السادس في أواخر نيسان 2005. رغم أنّ الدافع الواضح وراء مغادرة الأدلجة الماركسية اللينينية إلى غير رجعه كان يكمن خلف كل كلمة من كلمات برنامجه السياسي الصادر عن ذلك المؤتمر. وقد غادر الحزب تلك الأدلجة فعلاً وسار في اتجاه آخر. لكنّه كان إلى اليمين للأسف وليس إلى يسار جديد. وقد كان استمراراً لمسار بدأ في الثمانينات وسار ببطء إلى أن سرّعته الثورة السورية. الهدف السياسي الإجرائي المحدّد والملموس لذلك المسار كان التعاون مع الإخوان المسلمين (الحاضرين الغائبين في كل من مؤتمري حزبي البعث والشيوعي-المكتب السياسي في أواخر 1979 وفق تعبير ياسين الحاج صالح). وهذا التعاون هو المقصود بهذه الفقرة التي ننقلها هنا من البرنامج السياسي للمؤتمر السادس للحزب: ” لقد وضعنا هذا البرنامج، آخذين في الاعتبار الانفتاح على المجتمع وعلى الحركة الديمقراطية في سوريا بطيفها المتنوع، وضرورة الوصول إلى برنامج مشترك في أيّ لقاء أو مؤتمر وطني لأطرافها”.

أخيراً سأسمح لنفسي بهذه الملاحظة غير السياسية: لقد أثبتت خبرتي مع السياسيين العلمانيين العرب عموماً أنّ التصوّر الذي كان كامناً في لاشعورهم حول الإسلاميين كان دائماً يعاني من التشوّه. فهم إمّا يرونهم كمجموعة من الدراويش أو كحزب إسلامي تماماً كما أن الحزب الديمقراطي المسيحي في المانيا حزب مسيحي، أو كمجموعة من الأصوليين المتخلّفين والخطرين (وهو تصوّر حديث متأثر بسلوكيّات الجهادية السلفية). كل هذه التصوّرات لا تنطبق على موضوعها كما أصبح واضحاً بعد سبع سنوات من الثورة السورية، وإن كان ثمة ما هو صحيح في تلك التصوّرات جميعها في الوقت نفسه. أما ما هو التصوّر الأقرب إلى الواقع فمعرفته تتطلّب دراسة بنية التنظيمات الإسلامية وخاصة الجانبين التثقيفي والتنظيمي. ولكن ذلك بالذات هو ما لم يكن من الممكن لمعظم المناضلين ذوي الماضي الشيوعي أن يعرفوه، بحكم البيئة السياسية المختلفة كلّياً التي ترعرعوا فيها. لكنّ الممكن فعلاً، حتّى لمناضل لم يعرف في حياته غير الأوساط الشيوعية هو دراسة تجارب الآخرين من شيوعيي هذا العالم عندما تعاونوا مع الإسلاميين، كتجربة الإيرانيين مع الخميني مثلاً.

لكنّنا على ما يبدو لا نتعلّم إلاّ من كيسنا.

طاولة مستديرة: ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

طاولة مستديرة: ما الذي تبقى من اليسار السوري؟

تهدف هذه الطاولة المستديرة التي أعدها لـ“صالون سوريا“ وأشرف عليها أسامة إسبر وباسيليوس زينو، والتي تحمل عنوان ”ما الذي تبقى من اليسار السوري؟“ إلى تسليط الضوء على واقع اليسار السوري بمختلف تياراته ودوره السياسي والثقافي والاجتماعي في سوريا، ومدى تأثيره في الأجيال الجديدة، وما الانتصارات التي حققها وأين فشل. كما تهدف الطاولة المستديرة إلى إلقاء نظرة من الداخل على اليسار السوري وتجربته وأين أخطأ وأين أصاب، ومن أجل هذا الهدف اتصلنا بعدد من الكتاب والباحثين وطلبنا منهم المشاركة في هذه الطاولة المستديرة انطلاقاً من تجربتهم، وخاصة من كان منخرطاً في السابق في أحزاب يسارية معينة، أو درس هذه التيارات وبحث فيها وتبنى موقفاً نقدياً منها.

 دعت الطاولة المستديرة الباحثين والكتاب السوريين المهتمين إلى مناقشة الموضوع من زوايا مختلفة، كما قام بعض الصحفيين في هذا الإطار باستطلاع الآراء لمعرفة رأي الشارع ورأي الكتاب والباحثين بواقع اليسار الحالي، وطرحنا المحاور التالية للمشاركة:

١- منذ السنوات التي تلت استقلال سورية وحتى الثمانينات من القرن الماضي، برز العديد من المثقفين والمفكرين اليساريين الذين تميزوا بنضالهم واجتهاداتهم الفكرية رغم الخلافات العقائدية والتنظيمية والانقسامات التي شهدتها التيارات والأحزاب اليسارية. ما هي الخطوط الفكرية، البحثية والنقدية والتحليلية (إن وجدت) التي يعمل عليها اليسار السوري، وما مدى حضوره في الثقافة السورية وفي المجتمع السوري؟

٢- وسط الأوضاع الكارثية والدمار الذي أصاب البنية التحتية والاجتماعية والاقتصادية في سورية، هل توجد حركات أو محاولات ضمن سورية تسعى إلى إحياء الحياة الثقافية والفكرية والسياسية على نحوٍ يستجيب للتضحيات والتحديات التي بُذلت؟

٣- ما هي الأسباب التي دفعت بعض اليساريين أثناء مراحل انعطافية حاسمة للتعويل على ضرورة التحالف الاستراتيجي مع حركات أصولية إقصائية أو الدفاع عنها؟

٤- هل يمكن الحديث حالياً عن “يسار سوري” أو مجرد أفراد ذوي ميول يسارية؟  ما الذي تبقى من اليسار السوري على صعيد إنقاذ النظرية في ضوء الواقع السوري وعلى صعيد تنشيط عمل اليسار في إطار رؤية جديدة مختلفة عن السابق الحزبي والتبعي للمركز الذي انهار، وبعيداً عن التحول إلى فئة تحالفية للحصول على حصة من كعكة السلطة؟

٥- ما الدور الذي لعبه مفكرون ومناضلون ماركسيون خالفوا التيار الرسمي وأغنوا الفكر الماركسي على المستوى النظري لكنهم حوربوا على المستوى الحزبي أو كانت لهم وجهة نظر مغايرة مثل الياس مرقص ونايف بلوز وجلال صادق العظم، وغيرهم.

٦-كيف تشكل المكتب السياسي وما هي أطروحاته السياسية، وما طبيعة تحالفاته أو دعوته للتحالف مع الإسلاميين التي أثارت جدلاً؟ وكيف كان موقف التيارات اليسارية الأخرى منه، تجربة سجن رياض الترك والتحولات الأخيرة التي طرأت على أفكاره.

٧-كيف تأسست رابطة العمل الشيوعي، ما هي طروحاتها الجوهرية وكيف انتهت؟ أم هل ما تزل موجودة؟ وهل استطاعت أن تؤسس قاعدة شعبية حقيقية؟ وما هي مواقف الأحزاب اليسارية الأخرى منها؟ وهل ترى الآن أن الأفكار النظرية لهذه الحركة كان يمكن أن تقدم رؤية سياسية مهمة في السياق السوري؟

٨- موقف اليسار من الانتفاضة والحرب في سوريا، ولماذ لم يستطع اليسار استغلال الحدث السوري الكبير وترك الساحة للإسلاميين وتياراتهم الجهادية المتطرفة، وما هي مبرراته في اتخاذ الموقف الذي اتخذه.

سينشر موقع ”صالون سوريا“ المساهمات التي ترده تباعاً ويقوم بتفعيل الروابط:

الفرص الضائعة وسياسة الإنكار، حزب الشعب الديمقراطي
حسين شاويش

اليسار السوري إلى أين؟ هامشية سياسية وحضور ثقافي أغنى
د. كريم أبو حلاوة

اليسارالمتجدد سيظل موجوداً
وائل سواح

سلام الكواكبي: “اليسار إما مستقطبٌ سلطوياً أو نخبوي مرضي”

غسان ناصر

نايف بللوز /الماركسي المختلف (1931-1998)

الهيثم العطواني

اليسار السوري.. التباس الهوية والخطاب
عامر فياض

نحو مادية ديالكتيكية “مثاليّة” للضياع العربيّ الأخير!

د. علي محمد اسبر

رابطة العمل الشيوعي في سورية بعض ما لها وما عليها
جمال سعيد

اليسار السوري والمواقف المعاكسة للرؤى اليسارية والثورية

أمل نصر

مأزق اليسار السوري وغياب الديمقراطية
أنور بدر

اليسار السوري وسؤال الفعالية

غسان ناصر

حوار مع محمد (أبو علي) صالح (١): حزب العمل الشيوعي والاعتقال وربيع دمشق

محمد صالح

حوار مع محمد (أبو علي) صالح (٢): الطائفية ومجزرة الساعة في حمص

محمد صالح

اليسار التائه بين شعارات متنافرة

حسيبة عبد الرحمن

المنهج الماركسي ما يزال حياً وقابلاً للحياة

سحر حويجة

 

الشباب في سوريا بين التديّن والإلحاد

الشباب في سوريا بين التديّن والإلحاد

خرجت رزان (28 عاماً) من كنف مجموعة “القبيسيّات”، خلعت مانطوها الكحلي، مُبقيةً على حجاب الرأس رغماً عنها، ومع المانطو انتزعت “آخر انتماء دينيٍ أو طائفيٍ لتكتفي بالإنسانية وحدها كهوية أصيلة”، بحسب تعبيرها. وتعرف رزان عن نفسها بأنها “لا دينية أو لا أدرية، حيث لا أؤمن بالديانات السماوية جميعها، ولا أملك الأدلة الملموسة لوجود الله أو عدمه”. فقد أضرمت الحرب نار شكوك رزان حول العدالة الإلهية، تقول الشابة ” بدأت أتساءل عما إذا كان الله عادلاً، ولماذا يسمح بوقوع هذا الكم الهائل من الموت؟ وما الحكمة من وراء هذا الاختبار الشاق، سوى المزيد من البؤس والألم؟ ولماذا اختار لنا هذا المصير بينما هو قادر على تغييره؟”

وأعطت الحرب أيضاً فرصة لرزان لتكتشف الهوة الدينية بين ما تدعو له جماعة “القبيسات” التي تدّعي تمثيل الدين الصحيح، وبين المذاهب الدينية الآخرى، حيث فتح لها العمل التطوعي والمجتمعي الذي بدأته الشابة عام ٢٠١١ أبواباً جديدة لم تألفها.

تقول رزان “أتاح لي العمل التطوعي الفرصة لمقابلة أناس من مختلف المذاهب والأديان، ممن لم أكن أعرف بوجودهم، بسبب الخطاب الديني الأحادي لجماعة القبيسيات حينما كنت من المريدات لهن، فالجماعة متقوقعة على ذاتها وتحجب الرؤية عن الآخر. بالإضافة إلى أنني كنت أتساءل عن سبب هالة القدسية حول الشيخة، التي تتحول إلى وسيط إلهي بين الطالبات وربهن، مع ضرورة رضوخنا لتقديم فروض الطاعة العمياء لها والخوف من غضبها، عدا عن الصدّ الدائم لأي استفسار ديني يصدر مني، وتهديدي بالحرمان من مباركتها”.

إضافة للعمل التطوعي، شكلت النقاشات الدينية والرؤى المختلفة التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي نقطة تحول لرزان نحو اللاتدين، “فقد سهل الإنترنت وغرف الدردشة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التعرف على نماذج مختلفة من الأشخاص من كافة التوجهات والطوائف، وفتح الباب للنقاش أمام التفسيرات المتعددة للنص القرآني، وتقديم رؤى متنوعة عن بنية الكون ونشأته وتكوينه وتطوره” تشرح رزان.

أما منار (35 عاماً) الذي شبَ في حي القميرية أحد أحياء دمشق القديمة فقد أعلن إلحاده صراحة عام ٢٠١٤، قافزاً من ضفّة التدين الملتزم التي كان فيها، يقول منار: “أنا الآن لا أؤمن بوجود الله حتى يثبت العكس، و لم أصبح ملحداً بين ليلة وضحاها، إنما استغرق الأمر سنوات عديدة من البحث والقراءة، رافقها حوادث تراكمية وقعت خلال سنوات الحرب، إلى حين وُضعت أمامي معطيات ومعلومات قذفتني إلى عكس التيار الذي كنت أعوم فيه، إذ كنت  ملتزماً دينياً شغوفاً، وكنت إقصائياً لا أتقبل اختلافات الآخرين الدينية وتفسيراتهم المغايرة لي، مؤمناً دوماً بصحة معتقداتي الدينية.”

شكل عام ٢٠٠٩ نقطة انعطاف لمنار نحو التشكيك في الدين، حيث وجد الشاب في غرف الحوار بين الأديان منفذاً لعرض أفكاره الدينية والتمترس خلف البراهين الدينية الجاهزة لمحاججة الآخر المختلف. يحكي منار كيف دخل في “مبارزة فكرية” مع فتاة سورية مسيحية مقيمة في أمريكا، “كانت غرف حوار الأديان فرصة لممارسة الدور التبشيري الإسلامي، فتعرفت على جميلة واستمر نقاشنا لمدة عامين، فكان كلانا يبذل قصارى جهده لإقناع الآخر بدينه وإشهار حججه الدينية إزاء مواضيع شائكة كالاختلاط والحجاب وتفاسير الآيات القرآنية، والعلاقات الجنسية قبل الزواج، ومقارنة القرآن الكريم بالإنجيل وإذ بها توجه لي سهام الأسئلة التشكيكية التي كانت تراودني وأقابلها بسوط النهي لئلا أتهم بالتعدي على الذات الإلهية، وأحياناً أجيب عليها بقوالب جاهزة دون براهين لأبدأ بعدها رحلة البحث عن الحقيقة.”

علاقة الحرب بالإلحاد

أما الحدث المفصلي الذي مهدّ لترك منار للدين والإيمان، فكان في شباط/فبراير عام ٢٠١٢ حينما استيقظ ليجد قرابة ألفي عنصر من جبهة النصرة يؤدون صلاة الفجر في الشارع، لتتوالى بعدها الخطب الدينية وفتاوى القتل والدعوات الجهادية والتكبيرات. يقول منار “على إثر ذلك قررت عائلتي الرحيل من الحي والنجاة بأرواحنا، وفي طريق الخروج تعرّضت سيارتنا لسبع رصاصات دون أن تسفر عن إصابات ونجونا بأعجوبة.” تزامنت هذه الحوادث المتراكمة مع تبحره في تاريخ الأديان والتاريخ، و نضجت وجبة شكوكه الدسمة على موقد الإسلاميين المتطرفين فبات يتساءل كيف يمكن لشخص يؤمن بالله ورسوله أن يدعو لقتل الآخر في آن معاً؟ أليس الله بقادرٍ على وضع حدٍ لهذه الحرب و إيقاف نزيف الدماء والأرواح التي زهقت ظلماً وبهتاناً؟

لم تكن الحرب سبباً أساسياً لتوجه محمد نحو (اللادينية ـ اللا أدرية) إلا أنها هيأت له الجو خلال السنة الثانية من اندلاعها للإفصاح عن اعتقاده القائل بأنه “لا يوجد دليل قاطع فيما يخص قضية وجود إله من عدمه” بحسب تعبيره.  فالأمر بالنسبة لمحمد يعود إلى طبيعته التشكيكية، والغوص في المصادر التاريخية والعلمية واكتشاف حجم التعارض بين الدين و العلم، إذ يقول الشاب “العلم يقدم رؤية عميقة مدعومة بالأدلة الدامغة تجاه ظواهر جدلية كخلق الإنسان وعملية التطور وكروية الأرض وعمر الكون، في حين يقدمها الدين بطريقة عاطفية وبسيطة مكتفياً بنسبها إلى الله فقط دون براهين.”

يُصر محمد الذي يعمل في مجال التصوير والإخراج على ضرورة وضع تعريف دقيق لـ”الله” وتسميته بوضوح قبل أن يجيب على السؤال “هل تؤمن بالله أو لا؟” فباعتقاد الشاب أن هذا اللفظ اتخذ أشكالاً متطورة لدى العديد من الشعوب وصفات وتسميات متعددة عبر التاريخ، ما يرجح أن تعدد الآلهة هو فعل محض للشعوب موضحاً بنبرة احتجاجية  “لايوجد إجماع عام وموحد حول الله فلكل دين سماوي أو أرضي إلهه. هذا التعدد في الآلهة في تاريخ الشعوب ينفي فكرة وجود تعريف موحد عن الله ويستدعي ضرورة توصيفه على نحو دقيق.” ويعقب قائلاً “باعتباري لا أؤمن بأي دين أو عقيدة ولأن العقيدة الإسلامية ترتكز على الإيمان بالله فهذا يجعلني تلقائياً شخصاً لا أؤمن بالإله الذي تعبده هذه الديانة.”

من جهته يرى باسيل أن الحرب ليست إلا مناخاً هيأ لتحرر بعض الشباب من الدين، بعد أن وجدوا فيها فرصة للتعبير عن رأيهم، ويقول” تسببت الحرب بخلق حالة من غياب الرقابة والمحاسبة الدينية والاجتماعية، فالأشخاص الميّالون نحو اللا دينية ولديهم الرغبة في التعبير عن رأيهم، وجدوا في الحرب فرصة  سانحة للإفراج عن الأفكار المحظورة في مجتمع متدين، باعتبار أن الطاسة ضايعة،” مؤكداً أن الممارسات التي بدرت من التنظيمات الدينية المتشددة التي نشأت أثناء الحرب هي التي دفعت الشباب للابتعاد عن الدين.

كذلك كانت علاقة  ياسر (32 عاماً) مع الأديان علاقة مشبوهة منذ المراهقة، إلا أن الحرب عززت هذه الشكوك لتضعها في دائرة اليقين، فيعرف الشاب عن نفسه بأنه لا يؤمن بالأديان لكنه يؤمن بوجود الخالق، ويوضح قائلاً “أرى أن الأديان الإبراهيمية ليست إلا من صنع البشر نتيجة التمايزات الطائفية في الدين الواحد، والتباينات الواضحة بين الأديان الثلاثة.”  كرّس اتكاء الحرب على عكازة الدين لدى ياسر هذا المفهوم “فتجيير الدين في الصراعات السياسية -لما له من سلطة عليا في البلدان المتدينة- ساهم في ترسيخ القناعة القائلة بأن الأديان هي فعل ارتكبه البشر، فكيف نفسر حالة التجييش الديني والطائفي في الحرب وضلوع رجال الدين المتشددين في استقطاب المقاتلين والجهاديين من جميع أنحاء العالم بعد أن تمت أدلجتهم على الإرهاب والتكفير والقتل؟ ناهيك عن المفارقة الأزلية التي تحوم حول الدين فتراه يحرم الخمر على الأرض، في حين يبيحه بل ويبشر به في الجنة والأمر ينطبق على الجواري في الوقت الذي تعتبر العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة خارج إطار الزواج زنا.”

الأهل بين القبول على مضض والنبذ

ينتمي ياسر لمجتمع متدين ومحافظ، حيث كان جده من جهة والدته شيخاً قديراً في إحدى قرى مصياف التابعة لمحافظة حماه، ولذا حرص على عدم مضايقة أهله، وتفهم عدم تقبلهم لأفكاره الجديده، فاستمر بتأدية بعض الواجبات الأقرب إلى الاجتماعية منها إلى الدينية.

منار من جهته أخبر أسرته بأمر إلحاده، ولم تقطع علاقتها به، بل تقبلته “على مضض” كما يصف دون أن يتدخل أحدهما بالآخر، فيما تدعو أسرة محمد، المتدينة التي تنحدر من قدسيا، له بالهداية “والعودة إلى الصراط المستقيم”، ومازالت تجمع بينهم الزيارات العائلية والاتصالات بعد أن استقل عنهم.

إلا أن رزان تواجه خطر النبذ والقطيعة والرفض القاطع فيما لو عرفت أسرتها المحافظة  المنحدرة من الصالحية، أنّ ابنتهم قد رفضت القيود الدينية وتفضل “عيش حياتها” وفق مفاهيمها الخاصة على أن تتحمل العواقب الوخيمة لمصارحتها، وتقول: “تناول مثل هذه النقاشات المشككة بالمسلمات الدينية في المنزل أمر مستبعد ومرفوض كلياً، وسيعرضني حتماً للكثير من الصراعات والمتاعب لذلك أتكتم عن رأيي وأحاول العيش وفق مفاهيمي الخاصة.” غير أن  فسحة التعبير عن الآراء الدينية الحبيسة في المنزل يتم الإفراج عنها مع بعض الأصدقاء المنفتحين على الآخر “دون محاسبة أو صدامات عنيفة” كما تقول.

ربط الأخلاق بالدين فقط

“أول تهمة تلصق بي كملحد، هي أنني لن أمانع أن أمارس الجنس مع أمي أو شقيقتي، وهذا الأمر مرفوض كلياً وغير صحيح، فسواء كنت أؤمن بالله أو لا، فلن أفعل ذلك لاعتبارات جينية وأخلاقية وضعتها بنفسي لنفسي، وإن كان الدين وحده هو المصدر الوحيد للقيم الأخلاقية، كيف نفسر اغتصاب بعض الشيوخ للأطفال، واستغلالهم جنسياً للنساء، وتعدد العلاقات الجنسية للرجل المسلم المتزوج مع العلم أن دينه يسمح له بأربع زوجات؟” يقول منار.

أما بالنسبة لياسر فإنه يتفهم نظرة المجتمع له، عازياً السبب إلى أن الناس يرفضون بالفطرة كل من يناقش المسلمات الدينية أو يتجرأ على الخوض بها متخذين أحكاماً مسبقة عنه، وبناء عليه يرون في اللاتدين على أنه يمثل ممارسة مباحة لكل ما هو مشتهى مقموع بسوط الدين. فيما ترفض رزان فكرة احتكار الدين للمنظومة الأخلاقية بوصفه المنبع الوحيد للقيم، إنما هي المبادئ الخاصة التي يحددها الشخص لنفسه قائلة  “لا يوجد رابط بين الدين والأخلاق، فأن تكون متديناً لا يجعل منك أبداً شخصاً أخلاقياً والعكس صحيح، فبالنسبة لي أتبع المبدأ القائل لا ضرر ولا ضرار كممارسة يومية في التعامل مع نفسي ومع الناس عامة “.

علامَ تستند البيوت؟

علامَ تستند البيوت؟

حاولنا ألّا يصير الصمت قيداً، خاصّةً ونحن نواجه به دخانَ المحرقة الذي يلفُّ البيتَ، ورشقاتِ الدم التي تسكبها الشاشات.

ابتدأتُ ترجمة فصلٍ جديد من أسرار الغابة، وتهيّأَتْ لحياكةِ جوربٍ من الصوف.

في المسافة الفاصلة بين كتفينا، على الأريكة القلقة، كانت الزفرات تتشابك ورفيفُ الأجفان يتموّج؛ مثلما تتبادل الأشجار بجذورها إشاراتٍ عن جفاف التربة، أو دنوِّ عاصفةٍ، أو هجمةِ دخيل. مسافة تصرّ على الهبوط يوماً بعد يوم، رغم تناقُصِ المقيمِينَ ونُدرةِ الضيوف، لأنّ كائناتٍ غامضةً تَنخر الخشبَ؛ وتيّاراتٍ خفيّةً تفتق المخملَ. كم مرّةً عاتبْنا السقفَ ونحن نرمّمها بالمسامير ونحشوها بالقشّ. في عينيها يقينٌ أنّ النعيم زال، وفي نبضان صدغيَّ رهبةٌ من تابوتٍ سينغلق.

كان عليَّ أن ألتقيها قبل جفاف الأنهار، فأقتبسَ طواعيةَ اليدين للمخيّلة، وتَمضيَ القامة بين المتاهات مثل سهمٍ ليّنٍ خبير، ويتّقدَ الذهن من طلاقة المُحيّا.

ساعاتٌ، لا المسلّةُ تَضلُّ ولا الخيط ينعقد.

يغيب المعدن تحت الحبكات، ثم يَبْرز لامعاً مثلما يَعرض الطفل للشمس مهاراتِه الجديدة في الغوص والعوم. تكاد تُسْمَعُ من عناق اللونينِ همهماتُ راقصينِ حافيينِ في قاعةٍ خاوية.

لمن ستكون الغلبة؟ للناريِّ الملتفّ كلدغات الشهوة، أم للَّيْليِّ الحائم كفراشات الظنون؟

واضحٌ أنّ الأحمر سينفرش لباطنِ القَدم ويطوِّق الكاحلَ، أمّا الأسود فيكفيه أن يتقن ما نُذِر له: كُحْلاً يَحرس، وزنّاراً يغوي.

كلما تعثرتُ بمصطلح أو حيّرني لغزٌ من حياة الشجر، خرجتُ إلى الشرفة آملاً أن يعيْنني المشيُ على الاشتقاق، ويَكشفَ لي قمرُ الشتاءِ الصلةَ بين جَرْس الكلمة ومعناها، ويسجدَ الغيم هناك على جذوع السنديان المبقَّعة بدماء رُفقائي.

لا داعي للقياس! سبحان من أسرى بالضمير من الأنامل إلى الأهداب، فصارت النظرةُ ميزانَ ذهب.

لو لم تُزَمَّ كلُّ فردةٍ بوردة، لسكبتُ فيهما ما يسكبه حرّاس القلعة في أبواق النصر.

غداً سوف تضحك وهي تجرّبه أمام ابنتنا، متّخذةً من باب الشرفة المشمس مرآةً. ستتعالى ضحكاتهما عفواً، ولن أبوح بسرّ هذه الدغدغات.

                                             -2-

في غيابه، أنبأَني البرْدُ أنّ الضوء نصالٌ في الظهر؛ والظلمةَ درعٌ مسموم.

نذرتُ، إنْ عاد، ألّا ألتمس من الموسيقى شيئاً غير النَّسيان.

رشيقٌ منعزل. أصغرُ من لهفة الواصل، وأكبر من كفِّ المودِّع. يحلّق مفرَداً بمساراتٍ قوسيّة منخفضة، كالرشقات التي تنثرها النافورة في باحةٍ مُطفأة. ويستقر منزوياً شِبهَ ساجد، لاهياً عن أي خطَر، منشغلاً بذاته. يسبل جناحيه في الفيء، ويموّج رأسَه في الشمس.

كلما مسَّه شعاعٌ أطلق صفراتٍ رنّانة يمتزج فيها مرَح العابثِ بتمتمة الزاهد، ويختلط عزمُ رافعِ الأعمدة بشجنِ التائهِ وسط الأنقاض. في إيقاعها المعدني السريع امتنانٌ للنهار، وفي صداها الحجري المترنّح رهبةُ من الليل. موجَزةٌ كرسائل اللَّهَب، كثيفةٌ كرشفة النبيذ، صريحةٌ كعتاب المطر للنافذة.

لا يلبث فوق الغصن غير دقائق، يقتات من قشر الزيتونة ما يعينه على الرحيل؛ وينهل من ضميرها ما يستدلّ به على خطّ الإياب.

لسوادِ إهابِه ونصوعِ عنقِه وتَراخي ذيلِه، أطلق عليه أبناء الريف الساحليّ اسمَ《 الرُّوَيْهِب 》تصغيراً يجمع بين الدلال والإجلال لاسم الراهب، وغبطةً لِما في حياة هذين الكائنين من خفّةٍ وغموضٍ وثقة.

أديْنُ له بقدرتي على احتمال لدغاتِ الضجر، والحذَرِ من نوايا الخريف، وتأويلِ رؤى الأمواج.

كم بيتاً تماسَكَ وصفا لأن صفراته شدّت الضلوعَ و مسّدت الرُكب وسكّنتْ رجفاتِ الشفاه!

يهبنا هذا الرنينُ اللمّاع يقيناً بأن صدوع أمسنا المهجور آيلةٌ للالتئام، وتقْنِعنا هذه البحّة اللّدنة أنّ رطوبة الملجأ شفاءٌ لحرقات الخدود من لفحات البادية.

                                                  -3-

أتمتِمُ باسمكَ، لأن كل الأشياء فقدتْ أسماءها.

لأن الزمان استدارَ كهيئته الأُولى مبهَماً لاهباً.

لا لكي أقوى على النوم. ما أكرمَ السَّهَرَ ووجهُكَ سقفي!

ما أوهى مطارقَ الليلِ على قامةٍ شَدَدْتَها.

نهارٌ أنّى أطلقتَني: الطفلُ الذي كان يحبو حول الساقية، وكلّما رأى صورتَه لَطَمَ الماءَ.

الشابُّ الذي أبى، قبل أن يَغرق صاحباه، أن يخوض في نهرٍ لا يَبِيْنُ قاعُه.

المنفيُّ اللاهث بين الإسفلت والشمس: خفيفاً كسنبلةً فرَّتْ بها قَطاةٌ من بين المناجل.

تحت القضبان معصوبَ العينين، يمسُّ حفيفُ هذه الحروفِ خدَّيَّ؛ يرنُّ الموج في عظامي وتُنثَرُ على رُكبتيّ رسائلُ الزبد.

عندي، بَدَلَ البستانِ الذي أحرقوه، أصيصٌ في الشبّاك. إذا غفوتُ قبل أن أسقيه، نبَّهتْني لصلاةِ الفجر حمامة.

                                -4-

أمطرتْ في الصيف، لأن الصفحات التي كُتبتْ شتاءً شابَها الدمُ.

شاءت الريح أن تطوِّقَ الغيومَ الناشئة من لهاثنا، وتردَّها إلى الأرض بَرَداً يحرق وهديراً يجرف.

نَمَتْ لحزنِ أيلولَ مخالبُ، ولمّا تَظهرْ حبّةُ زيتون.

قد نجد لشقوقِ الأيدي والشفاه علاجاً. لكنْ، علامَ تستند البيوت إذا أنكرتنا العصافير؟

                            -5-

دامَ اهتزازُ الحبلِ فترةً أطول من التي سبَّبَتْها جفلةُ الطائر.

تلمّستُ موضعَ ارتطام رأسي بباب الشرفة، فهرّتْ منه قِطعُ كلسٍ رطب.

توتَّرَ الحبل. سَرَتْ فيه ذبذباتٌ متصاعدة. بدا عازماً على الإفلات من المسمارَين، راغباً في اللحاق بالراحل أو الالتفافِ على عنقي.

                                         -6-

مَنَّيْتِني ب《 هناك》. خالَطَ بحّتَكِ لهاثٌ كخفقان اللّهب، وربّما أَتْبَعْتِ الكلمةَ بإيماءةٍ للأعلى، مثلما يلوّح الطفل لغيمةٍ ارتدَتْ وجهَ أُمِّه قبل أن تتمزق.

تقولين《 هناك》، كأننا محمولون على أجنحة لا ملفوفون بسلاسل؛ كأن السفر أغنيةٌ لا انسلاخ، كأن مطارق الوقت تصير حريراً في بعض الأمكنة.

وحقِّكِ ما سبحتُ في نهرٍ إلّا جفَّ، ما استندتُ إلى شجرةٍ إلّا أُحرِقتْ، ما سامرتُ كتاباً إلّا دِيْسَ.

لا أعرف غير《 هناك》 واحدة، وكلُّ ما《 هنا》 كدْحٌ لها وفرارٌ منها ونِزاعٌ عليها. تلك التي تُنسَج أفياؤها من حسراتنا، وتُرفَع قبابُها من ارتجافات الرُّكَب، وتنبثق ينابيعها من نيران الشفاه.

إنّ في يأسي قوّةً لا تتقنها إلّا الموسيقى. وقد عهدتُ إليها رَفعَ قواعدِ غدي. فكثيرٌ ممّا قُدِّرَ عليّ يَمُوج الآن تحت الجلد، يهدر في دمي، يرنُّ في العظام.

                                       -7-

توقّعتُ من حديد الأعمدة أن يفقأ عيونَ سارقِيه، ويُنشِبَ في وجوههم وأيديهم براهينَ على بأسٍ أغرتنا به الكتب، وأرهبتنا منه الأسلحة.

أملتُ- على الأقلّ- أن يتناثر في العتمة كسهامٍ من الجمر إكراماً للنيران التي صهرَتْه، أو يتفتّتَ شظايا في باحات الكارثة وفاءً للظهور التي استندتْ إليه.

لا أنْ يلتوي ويتكوّم في الشاحنات كأكداس الحطب، ويتجرجرَ خلف العجلاتِ كأذيال قطيعٍ مفجوع.

هذا دليل على أن المواد التي أنشأْنا بها الأمسَ كانت غباراً. وإلى أن تُخرج لنا الأرض معدناً أعزَّ وأصلَب، سأنسج لي بيتاً من ضباب الأسئلة.

                              -8-

ابيضَّت الأجفان. كنتُ أظنها معصومةً، لا سيّما وهي بهذه الهشاشة والتبعثر والانطواء.

حتى لو كان القفل مجرَّدَ زخرفة، لا بدَّ من أن يحطّمه السارق: إمّا عند الدخول استقواءً على العتمة، أو عند المغادرة انتقاماً من خيبة المسعى.

                        -9-

صحيحٌ أن الولد طيرٌ، لكنّ الأب شجرة. عنيدان في المهبّ، طيِّعانِ إذا رنّت الأجراس.

لَيْلَ واكبكِ المطر، حمدتُ المُنشئَ على ما وُهِبْنا: طلاقة الجناحين، واستقامة الجذع.

فلا أثْنَتْكِ المسافةُ عن اللهفة ،

ولا زادني فراغُ العشِّ إلّا ابتكاراً الخفيف.

                    -10-

حالَما أهيّئُ حقيبةَ السفر، تضجُّ العصافير على الشرفة.

أحَدُها( ولا أعرف إن كان هو دائماً نفسَ العصفور) يلتصق بفجوةٍ رطبةٍ في الحائط، نافضاً جناحيه، صافراً بنزَق.

عصافيرُ أخرى تتناتفُ كسرةَ خبزٍ قُربَ الباب،  مع أنّ الفتات منثور.

تتزاحم على دمعةٍ من مطر الليل، والنهرُ تحتنا.

تتراجفُ في ظلِّ الكرسيّ، والشمسُ غامرة.

تَكرَّرَ هذا المَشهد صباحاتٍ عديدة، حتى ظننتُ أنها تفتقد شيئاً في غيابي، أنها تدرك من حرارةِ زفراتي إلى أين أنوي، أنّ شِجارها استبطاءٌ وصَخَبَها رسالة.

                      -11-

لم يفاجئني سؤالكَ:《 من نحن؟》، بل ظنُّكَ أنّ لديَّ جواباً.

وددتُ لو أتْبَعتَ ميمَ الحيرةِ بالألِفِ الذاهلة كأجنحة اللّهَب، لا بهذه النُّونِ المطمَئنّة كقاع الهاوية!

السوريون و الجنس: رعشات في الخفاء

السوريون و الجنس: رعشات في الخفاء

لم يكن الجنس يوماً من المواضيع التي يمكن تداولها بشكل صريح في المجتمع السوري، وقد ارتبط الجنس دائماً لدى الأسرة السورية بـ”العيب والحرام”، انطلاقاً من مفهومي الأخلاق والدين.

وبرغم تغييب الرقابة الفنية “للمشاهد الساخنة” من المسلسلات الدرامية السورية، إلا أن العديد من مواليد جيل الثمانينيات من الفتيات والشبان، يذكرون حالة الارتباك التي كانت تصيبهم أمام الوالدين، عندما كانت تمر صدفة، مشاهد قُبلات ناديا الجندي وفاروق الفيشاوي، وإغراء سهير رمزي لمحمود ياسين وحسن يوسف، في الأفلام المصرية القديمة.

وللآن ما زالت مواضيع التثقيف والتوعية الجنسية لكلّ من الوالدين والأبناء غائبة تماماً عن  مناهج التعليم السوري العلمية والتربوية، وبهذا بقي الجنس محصوراً بين ما ينتجه الخيال من “فنتازيا جنسية”، وممارسة العادة السرية، هذا طبعاً في حال عدم ممارسته بشكل فعلي، وهذا منتشر لأسباب تتعلق بالقيود الاجتماعية التي تحرّمه على المرأة أكثر مما تحرّمه على الرجل، وأخرى استندت إلى نصوص دينية جعلت منه “زنا” إن مورس خارج إطار العقد الزوجي.

وعلى الرغم من التعدد الديني والثقافي والطبقي في المجتمع السوري، إلا أنه لا يقل تعقيداً في بنيته عن حال المجتمعات العربية، كما تختلف درجة الانفتاح فيه والتعصب الديني والاجتماعي، بين الريف والمدينة، ومن مدينة إلى أخرى، تبعاً للمستوى الثقافي والتعليمي والتوزع الطائفي.

تعدى الانفتاح الظاهري في بعض المناطق السورية في الكثير من الأوقات مسألة الاختلاط بين الجنسين – ضمن أطر حددتها الأعراف الاجتماعية-، وارتداء آخر صيحات الموضة من فساتين مكشوفة وسراويل ممزقة، إلا أنه لم يصل إلى حد اعتبار الجنس ممارسة طبيعية تندرج ضمن مفهوم الحرية الشخصية، بل ظلت الأجساد الملتهبة تلتقي وتتأوه سراً.

منتجات الإثارة الجنسية وليالي السوريين الساخنة

تفخر محلات بيع “اللانجري” في أسواق دمشق، بصناعة واستيراد أحدث الموديلات ذات الألوان والنقوش العديدة، القطنية منها والدانتيل والشَبَك، و”التفريعة” كما تُعرف باللهجة الدارجة، ولا تكتفي ببيع الألبسة الداخلية فحسب، بل تبيع دون أي حرج منتجات الإثارة الجنسية، من زيوت ومزلقات مُعطَّرة، وكريمات جيلاتينية مُنكّهة، بالفريز والموز والتوت، والتي تُدهَن على كامل الجسم، أو الأجزاء الحساسة منه، كحلمتي الصدر والأعضاء التناسلية، “وتباع هذه البضاعة لشرائح مختلفة من النساء يستشرنني في كيفية استخدامها وأي منها أكثر إثارة لليلة ساخنة” كما يقول حسام صاحب أحد محلات اللانجري في سوق الحميدية.

لكن هذه الحالة ليست عامة، فالعديد ممن بلغوا الثلاثينات من عمرهم لم يحظوا بعد بليلة “ساخنة”،  ومازال إحساس النشوة الجنسية لديهم مرتبطاً “بطرق تفريغ ذاتية”، كما يسميها سامر خريج قسم اللغة العربية من جامعة دمشق، والبالغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً، ويضيف سامر “يرافق إحساس النشوة هذا ترقب ممزوج بالخوف، ورغبة لاقتطاف اللذة بصعوبة”. فبعد تعرض سامر للرفض مرات عديدة من قبل فتيات شعر نحوهن بالانجذاب، فقد ثقته بنفسه ولجأ لممارسة العادة السرية للخروج من حالة الكبت والتشتت العقلي بفعل ضغط غريزته الجنسية، ويقوم سامر بهذا موظفاً مخيلته في استدعاء ممثلة معجب بها، أو أي فتاة يثير جسدها غريزته الجنسية، لبلوغ لحظة الذروة.

ووجد البعض حلولاً إضافية غير العادة السرية التي يمارسها الشبان والفتيات على حد سواء لتفريغ طاقتهم الجنسية في حال عدم توفر شريك عاطفي، أو تأخر سن الزواج.

بالنسبة لرانيا، البالغة ثمانية وثلاثين عاماً، والتي لم تمارس الجنس في حياتها أبداً وهي من سكان دمشق القديمة، شراء قطعة “لانجري” صارخة، أو مشاهدة فيلم رومانسي، قد يساعدها على تهدئة طاقتها الجنسية. ورغم أن رانيا كانت على علاقة عاطفية، إلا أنها لم تستجب لرغبة حبيبها بالمجامعة الجسدية، “لأنه لم يقدم لها ضمانات بالبقاء معها إلى الأبد، فقررت عدم المجازفة” بحسب تعبيرها، مخافة أن ينبذها بعد انقضاء شهوته، وتخسر فرصتها المقبلة في الزواج.

ولا يرتبط الجنس بحالاته المختلفة -سواء نشأ عن حب، أو لقضاء ليلة من الليالي العابرة- بشروط حياتية صارمة كما في حالة رانيا. فبالنسبة لنشأت المنحدر من مدينة السويداء، والمقيم في الخارج، الممارسة الأولى للجنس تكون “لاكتشاف الجسد وآلية عمل أعضائه، في حين أن الجنس من أجل الحب، يجعلك تقوم بكل ما يُمتِع الشريك دون تردد، بما في ذلك الجنس الفموي بالشفاه أو اللسان، فهو يداهمك في أي وقت ودون تنظيم مسبق” بحسب قوله.

أما جوليا البالغة سبعة وعشرين عاماً، فالجنس بالنسبة لها “ليس مسألة ذوق شخصي، فقد أصبح أمراً بالغ التعقيد، يخضع فيه الشريك أو الصاحب لعدة اختبارات، للتأكد من صدق مشاعره ونبل أخلاقه، قبل الجماع في سرير واحد” كما تقول، وتعود هذه الاختبارات لكون جوليا عاشت تجربة زواج فاشلة، لم تكن فيها حياتها الجنسية مع زوجها السابق في أفضل حالاتها، ورغم مضي عام ونصف على آخر ممارسة جنسية لها، و شعورها الحالي بالوحدة والإهمال، إلا أنها باتت أكثر تروياً، خاصة وأن لديها بنتين، ” ألسنة الناس وأحكام المجتمع” بحسب قولها.

ولا تقتصر حكايا الجنس وخباياه في المجتمع السوري على العازبين والوحيدين، فبعض الأزواج من الرجال والنساء لا يكتفون بالجنس مع الشريك “الشرعي”، إذ تتحول العملية الحميمية أحياناً مع مرور الوقت لفعل روتيني، يشوبه إحساس بالبرود والتوتر، والبُعد.

كما حدث مع شذى من سكان جرمانا في ريف دمشق، المتزوجة منذ خمس سنوات، ودفعها هذا لممارسة الجنس مع غير زوجها، دون أن تطلق على ما تفعله صفة “الخيانة”. فحبيبها السري كما تصف ضاحكة “يقبّل كل سنتمتر في جسدي، و في كل مرة يلمسني فيها أئن وأرتجف وكأنها المرة الأولى”. أما فؤاد البالغ من العمر اثنين وأربعين عاماً، فيصف علاقته بزوجته بالممتازة، ومع ذلك لا يمتنع عن ممارسة الجنس مع نساء أخريات، فالنساء بتعبيره “أحلى شيء في الوجود.”

فحولة كبار السن

ولا تقتصر الرغبة الجنسية على فئة عمرية محددة، فإن كان المجتمع السوري يدين الجنس غير الشرعي، فنظرته أكثر تشدداً لعلاقات المتقدمين بالسن، لدرجة أن لقب “المتصابي أو المتصابية العجوز” شائع الاستخدام بين المعارضين لهذا النوع من العلاقات، فهم يرون به استغلالاً بين طرفي العلاقة، وقد ارتفعت نسبته نتيجة الحرب إثر الخلل الكبير في التركيبة الجنسية للسكان، حيث تَفَوقَ عدد الإناث على عدد الذكور بشكل كبير، إثر نزوح ومقتل العديد منهم.

يروي عبد الله البالغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً، كيف هجرته خطيبته بعد مضي سنتين على التحاقه بالخدمة، “لترتمي في أحضان رجل ستيني يملك المال ولا يملك الفحولة الجنسية” كما يقول. من ناحية ثانية يروي خليل المعروف بـ”أبو صالح”، والذي تجاوز الخامسة والستين وهو من سكان حي العمارة في دمشق، حكايات عن تجاربه الجنسية مع فتيات يصغرنه بسنوات عديدة، ويقول “إن الأمر لا يتعلق بقوة الإيلاج، لأن السن ليس عائقاً أمامي، فاستثارة جسد المرأة بالمداعبة، قد يصل بها إلى النشوة أكثر من الإيلاج نفسه”.

ويمهد للانجذاب الجنسي بين طرفي العلاقة عوامل تختلف من شخص لآخر، فالاهتمام بالنظافة الشخصية كالتخلص من الشعر الزائد في الجسم، ولون أظافر اليدين والقدمين، يُعتبر من الأساسيات بالنسبة لماهر البالغ أربعة وثلاثين عاماً، والمهتم باقتناء اللوحات الفنية. كما أن القبلة الفرنسية، أو كما يسميها “البوسة باستخدام اللسان”، تفصيل مهم لديه للبدء بالعملية الجنسية، “فلو وقفت أمامي أنجلينا جولي، ولم تكن تُفضل هذا النوع من القبلات، سيختفي لدي شعور الإثارة والقدرة على الانسجام” بحسب وصفه.

الجنس بين الدين وترقيع غشاء البكارة

يصر أصحاب الرأي الديني على عدم إباحة العلاقات الجنسية دون إطار شرعي، كما يؤكد الشيخ محمد خير الشعال في أحد دروسه، “أن من لا قدرة له على الزواج عليه بالعفة وغض البصر والصوم”، فيما ترتفع أصوات أخرى ترى في الطروحات الدينية إجحافاً بحق الطبيعة البشرية. “فنسبة كبيرة من رواد المواقع الإباحية هم من المجتمعات المتدينة” حسب قول إياد مهندس الاتصالات من مدينة جبلة، والمقيم في تشيك منذ عامين، والذي يرى “أنه لا يمكن للأديان أن تحدد شكل الممارسة الجنسية، إذ يجب أن تكون متوفرة ودون قيود، وأن تعتمد على المتعة المتبادلة، دون هيمنة أحد طرفي العلاقة.”

ولم تحرّم الأديان ممارسة الجنس دون زواج فقط، بل وضعت ضوابط أخرى، أدانت فيها ممارسته من الدبر. فبولس الرسول أوضح موقف المسيحية من الإتيان بالمرأة بما هو مخالف للطبيعة، في رسالته إلى أهل رومية، “لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى أَهْوَاءِ الْهَوَانِ، لأَنَّ إِنَاثَهُمُ اسْتَبْدَلْنَ الاسْتِعْمَالَ الطَّبِيعِيَّ بِالَّذِي عَلَى خِلاَفِ الطَّبِيعَةِ”، والأمر سيان في الإسلام، الذي نهى عنه في حديث النبي محمد “مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا.”

وقد تساعد ممارسة الجنس من الدبر بإنهاء زواج عاسر، كما حدث مع سلمى “اسم مستعار”، والتي تقدمت إلى البطرياركية الأرثوذكسية في دمشق بطلب فسخ زواج، لأن “زوجها مهمل وعنيف، إضافة إلى أنها ترفض المجامعة من الخلف.”

إلا أن هذه الممارسة أيضاً تعتبر سبباً لإمتاع الكثير من الإناث والذكور على حد سواء، وتلجأ إليها الكثير من الفتيات خوفاً من فض غشاء البكارة قبل الزواج. الصيدلانية سارة والبالغة من العمر تسعة وعشرين عاماً تقول “من غير المعقول أن أمتنع عن اختبار الرعشة الجنسية إلى أن أجد العريس المناسب، وهذا ما جعلني أوافق على ممارسة الجنس من الخلف، فهو على الأقل يبقيني عذراء بنظر الدين والمجتمع.”

ورغم أن عذرية الفتاة قبل الزواج، شرط يحظى بإجماع شبه كلي في المجتمع السوري، إلا أن بعضاً من الشبان لم يعودوا يقتنعون به، بعد انتشار عملية ترقيع غشاء البكارة، فباتوا أكثر تقبلاً لعدم عذرية الفتاة، لمعرفتهم الجيدة أن الكثيرات تمارسن الجنس، إما دون المساس بغشاء البكارة، أو أنهن يتدبرن الأمر داخل عيادة طبيب النسائية بتقريب حواف الغشاء، وتبلغ تكلفة هذه العملية بين المئة إلى مئتي دولار.

باسل الشاب الثلاثيني من مدينة درعا، والذي يعمل سائقاً على خط دمشق بيروت، يقول: “إن عذرية الفتاة لا تعنيني، بقدر ما تعنيني الطريقة التي خسرت فيها عذريتها، فلا ضير إن فعلت ذلك عن حب.”

تعد نظرة باسل استثناء عن نظرة الشرف العامة المتعلقة “بقطرات الدم”، فغالبية الأزواج لا زالوا يصرّون على رؤية المنديل الملون بالأحمر، كما تؤكد هدى الحداد وهي طبيبة نسائية في ريف دمشق. وترفق الدكتورة هدى إجراء عملية ترقيع الغشاء إلا في بعض الحالات الاستثنائية ذات الدوافع الإنسانية، كالاغتصاب، أو بناء على طلب الزوجين بإجراء شق جراحي في غشاء البكارة ذي النوع المطاطي، المعروف بتمدده ليناسب طول القضيب، فيطمئن الزوج لرؤية قطرات الدم بعينيه.