دور النشر في سوريا ومحاولات النجاة

دور النشر في سوريا ومحاولات النجاة

لا تستطيع وأنت في الحلبوني الواقعة في قلب العاصمة دمشق إلا أن تتعثر بأحد الكتب المفروشة على الأرصفة،  لتبدأ عيناك برحلة البحث وسط المعروضات عن كتاب محدد فيخطف نظرك عنوان ثان أو تزكية لعنوان ثالث من لسان الباعة، وإطراء لرابع ينصح بقراءته لضرورات إجماع الذوق العام.

في الحلبوني التي ذاع صيتها لإحتضانها العديد من دور النشر والطباعة إضافة للمكتبات التي تتكئ على رفوفها نفائس الكتب والمراجع من مختلف الاختصاصات والعناوين النادرة، يشتكي صاحب إحدى بسطات الكتب المفروشة بعفوية على الأرض فيها، من ركود في حركة شراء الكتاب الورقي بعد أن أطاح به  الإلكتروني (pdf) الذي يتم توفيره للقارئ مجاناً.

يقول البائع متذمراً “أحيانا نبيع كتابين أو ثلاثة في اليوم الواحد وقد نبيع عشرة كتب بعد ساعات عمل طويلة، والسبب هو سهولة ومجانية تحميل أي كتاب صدر حديثا على الإنترنت بصيغة (pdf) مما تسبب بتراجع شراء الكتاب الورقي.”

يشير البائع إلى مساهمة ارتفاع أسعار الكتب المطبوعة في هذه الأزمة فقد يصل سعر الكتاب الذي لا يتجاوز ٣٠٠ صفحة إلى ٢٠٠٠ ليرة سورية “مما يجعل القارئ يحجم عن شرائه ليحصل على نسخته الإلكترونية مجانا.” ويروي البائع بأن إحدى القارئات أوصته على مجلدين للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي غير أنها عدلت عن قرار الشراء بعد أن صدمت بالسعر العالي لهما و الذي وصل إلى ٣٠ ألف ليرة سورية.

تخضع أسعار الكتب بشكل عام لمزاج البائع فترتفع حوالي ٢٠٠ ليرة على بسطات الكتب تحت منطقة جسر فيكتوريا مقارنة بمثيلاتها في الحلبوني.

وقد ساهم غلاء المواد الأساسية للورق والحبر وارتفاع أجور المترجمين في ارتفاع سعر الكتاب، فعلى سبيل المثال وصل سعر طن الورق إلى ٣٥٠ ألف ليرة سورية فيما كان ٥٠ ألف ليرة قبل الحرب، أما أجرة المترجم حاليا فقد بلغت ٢٥٠٠  ليرة للصفحة الواحدة بعد أن كانت ٢٠٠ ليرة سابقاً.

إذا كان هذا حال الكتب، فما الذي حدث لدور النشر؟

تسببت الحرب السورية بهجرة العديد من دور النشر إلى ملاذ آمن يحمي كتبها من الموت، بينما صمد البعض القليل منها مجازفاً بالبقاء و نشر عناوين تقلصت للنصف قياساَ بماكانت تنشره قبل الحرب.   

النشر في الحرب

كرّست الحرب أزمة انكفاء النشر وانخفاض عدد الكتب المترجمة والمؤلفة، يقول صاحب دار كنعان للدراسات والنشر سعيد البرغوثي “أثرت الحرب على جميع مناحي الحياة ومنها الكتاب، كنا نصدر حوالي ٤٠ عنوان سنوياً بين المترجم والمؤلف، ليصبح الرقم أقل من ٢٠ سنوياً خلال السنوات الثماني الأخيرة”، واصفاَ الوضع بـ “الكارثي”.

وتحاول دار كنعان ذات الهوية السورية الفلسطينية التي أسست عام ١٩٨٩ في دمشق لاستدراك الخسائر الثقافية وترميم ما أنهكته الحرب، يقول البرغوثي “نحاول استدراك ما فاتنا من عناوين أثناء سنوات الحرب واللحاق بإيقاعنا السابق مع الحفاظ على طبيعة عملنا الجاد المتمثل بالكتب التنويرية الوجودية.”

وأصدرت دار كنعان في العام الحالي عدة كتب مترجمة عن اللغة الألمانية مثل “الطريق إلى شابلن” و”الاستيلاء على الأرض” و”المسخ والغائب”، كما أعادت طبع عناوين نفذت منها للكاتب طه حسين والناقد الروائي فيصل الدراج.

العناوين الرائجة فقط

يشير البرغوثي إلى أن أغلب المكتبات خلال سنوات الحرب لم تعد ترحب بجميع العناوين خوفا من كسادها وتكتفي باختيار عناوين محددة غالباً ماتتوافق مع طلبات الزبائن. تغيب أيضاً الكتب المنشورة عن الحرب السورية عن إصدارات دار كنعان فبحسب صاحب الدار “لا حصة للكتب التي تتناول الحرب السورية في كونها لم تنتهي بعد، وبطبيعة الحال هذه المهمة تقع على عاتق المؤرخين.”

يتفق بائعو الكتب على البسطات في الحلبوني مع صاحب دار كنعان في ترجيح اختيارات القراء، فالعديد منهم يكتفي بشراء وعرض الروايات الرائجة كروايات أليف شافاق وخالد حسيني وأدهم شرقاوي وروايات عبير وأحلام مستغانمي وغيوم ميسو وسواها، “لأن شراء روايات الكتاب غير المعروفين  يعد مغامرة قد تعرضهم للخسارة” بحسب أحد الباعة.

نضال البقاء

يقول سامي أحمد صاحب دار التكوين: “نشرنا عام ٢٠١١، ٤٠ عنواناً وواظبنا بصعوبة على هذا الرقم سنوياً باستثناء عام ٢٠١٢ الذي شهد ركوداً كبيراً بسبب هجرة العديد من المطابع خارج البلاد وبالتالي عزوف تجار الورق عن البيع، تسبب هذا بأزمة ورق، وعلى إثرها فكرت بالهجرة خارج سورية أيضاً، لكن الدار استأنفت نشاطها في الأعوام التالية لكننا مازلنا متأخرين عن أرقامنا السابقة، فالآن ننشر ٢٥٠ نسخة لكل عنوان بينما كنا ننشر ١٠٠٠ قبل الحرب.”

مكتبة النوري التي أسست عام ١٩٤٧ أيضاً مازالت تناضل للبقاء، ويرى صاحبها محمد  النوري أن الكتاب الورقي يحاول جاهدا الاحتفاظ بماء الوجه في ظل ظهور منافس شرس  له (الكتاب الإلكتروني)، كما طفت الكتب السياسية التي تدور في فلك الحرب السورية على سطح القراءة السورية.

يقول النوري “الكتب المتصلة بالحرب السورية فرضت نفسها على  واقع القراءة وهذا لا يمكن تجاهله.”

ويضيف “غالبا ما يجد الزبون الكتاب غاليا ويعدل عن شرائه بعد أن يحسب تكلفته مقارنة مع الراتب الذي يجنيه والذي غالبا ما يكون من أصحاب الدخل المحدود.”

لعنة الدولار أصابت أسعار الكتب

تضاعفت أسعار الكتب عشرات المرات بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية، فالكتاب الذي كان يكلف ٢٠٠ ليرة سورية قبل الحرب  وصل سعره الآن إلى ٢٠٠٠ ليرة، أما أسعار المجلدات فجنحت نحو الأقصى لتعزز شعور المواطن السوري بالإفلاس، إذ بلغ ثمن مجلدات ميخائيل نعيمة ٧٠ ألف ليرة سورية، وحوالي ٢٥٠ ألف لجميع مجلدات الكاتب الروسي ليو تولستوي، في حين وصل سعر مجلدات فيودور دوستويفسكي إلى ٧٠ ألف.

ولهذا لا يجازف صاحب المكتبة بشراء أكثر من ٥ نسخة لكل عنوان  وينتظر بيعها ليشتري أخرى. هذا و توقفت العديد من الدور عن طباعة كتب تاريخية ودينية والروايات القصيرة بسبب ارتفاع سعر الورق  والحبر وتكاليف الشحن، فتكلفة الكتاب ارتفعت عشرة أضعاف في السنوات الثماني الماضية.

مطابع ودور نشر لفظت أنفاسها الأخيرة

العديد من مطابع الريف الدمشقي جف حبرها بسبب وقوعها على خط الجبهات وتعرضت للتدمير الكامل، المصير ذاته لاقته دور النشر، إذ تعرضت للحرق  وتحولت مستودعاتها لمخازن ذخيرة وأسلحة ومنصات لتراشق النيران والاحتماء منها، وعن ذلك يقول صاحب دار التكوين “كنا نتعامل مع مطبعة في منطقة القدم بريف دمشق لكنها دمرت بالكامل ما سبب لنا خسائر مادية كبيرة، عدا عن عملية البحث عن مطبعة ماتزال في الخدمة في ظل أزمة الورق.”

معارض الكتب، قوارب النجاة

المشاركة في معارض الكتب العربية أصبحت بمثابة القشة التي تنقذ دور النشر من الغرق وتساعدها للتعويض عن الخسارة المالية التي لحقت بهم بحسب صاحب دار التكوين.

وصل رصيد مشاركة  دار التكوين في معرض الكتاب الدولي في دمشق لقرابة ٤٠٠ عنوان  منها لأدونيس وفراس السواح و ديوان شعر لعصام التكروري وغيرهم، فيما طغت الكتب المترجمة مابين رواية وكتب فكرية بنسبة ٧٠٪ وسط مناخ تشوبه رقابة متشددة على مضامين الكتب وتعدد جهات المنع.

يقول أحمد “كنت على وشك الإنسحاب من المشاركة في المعرض بسبب تدخل وزارة الأوقاف والرقابة المتشددة، كما منعت وزارة الأوقاف بعض الكتب من المشاركة علماً أنها حصلت على موافقة طباعة من وزارة الإعلام  قبلاً، كما صدر قرار من وزارة الثقافة يقضي بمنع مشاركة الكتب الصادرة قبل عام ٢٠٠٨.”

الكتاب رفاهية ثانوية

يقول البرغوثي “إن الكتاب من آخر اهتمامات المواطن السوري نظرا لوجود أولويات أخرى عليه تأمينها، بالإضافة إلى دور التربية والتنشئة المنزلية وعدم تخصيص وقت محدد يوميا للطفل ليقرأ، لذلك نحن نعاني أزمة قراءة ومقولة أننا أمة لا تقرأ هي مقولة تنطبق علينا.”

ويلفت البرغوثي إلى أن دار كنعان كانت تصدر منذ نشأتها حوالي ٢٥٠٠ نسخة من كل عنوان ليتقلص هذا العدد إلى ٢٠٠ نسخة فقط في سنوات الحرب.

بدوره يؤيد سامي أحمد صاحب دار التكوين للنشر هذا مضيفا “اكتشفت من خلال خبرتي في مجال النشر عزوف المواطن السوري عن القراءة، لا بسبب الوضع الاقتصادي والقدرة الشرائية، بل لغياب السياسات الثقافية و ترهل النشاط الثقافي والترويج لثقافة الاستهلاك وتوجهه إلى القراءة الأفقية لا العمودية التي تستهدف العمق والمعرفة، مما خلق أزمة حقيقية في القراءة.”  

عصر أفول الفكاهات

عصر أفول الفكاهات

تبدو الحياة بحسب هوراس والبول “كوميديا لمن يفكر و تراجيديا لمن يشعر”، والبحث عن سبب منطقي لما يحدث في عالمنا اليوم أشبه برحلة دون كيخوت البائسة، فأن تسأل “لم حدث ذلك؟” هو أشبه بالسؤال الساذج “لماذا أحرق نيرون روما؟”

وإن جواباً مثل: “لا لشيء، أحرقها كي يتسلى”، قد يبدو أكثر إقناعاً من غيره.

عندما قابلت جاري عند مدخل البناء سألني: “لماذا يحدث للسويداء ما يحدث؟  لماذا يموت أبناؤها دون رحمة؟”

كانت عيناه حمراوين، ولم أجبه، خرجت من المبنى وتركته يمسك بقبضة الباب مثل طفل يتعلم المشي، جاري ذاته سألني قبل أشهر: “لماذا هدموا بيتي؟” ولم أجب أيضاً.

وكأنني أملك جواباً …

على رصيف من أرصفة دمشق، يتمدد رجل فقد عائلته وبيته وأولاده، خلف مجموعة من الأحذية المستعملة، حين اقتربت منه صديقتي أخبرها أنه يبيع أحذية إيطالية وفرنسية، لم تفهم صديقتي فكاهة الرجل. سألته عن موعد قدوم البضاعة فأجاب وهو يشير للأعلى “ستمر الطائرة غداً وترميها لي…”

ابتعدت صديقتي دون أن تنظر للخلف، فقد أفزعتها هذه الفكاهة وأوجعتها، لكن لماذا هربت؟

هل خافت؟

أم شعرت أنها ضحية سخرية؟

لا هذا ولا ذاك، فقد لسعتها الحقيقة.

في عام ٢٠٠٢ قال الممثل الكويتي داوود حسين “نحن نعيش في عصر الضحك.”

ولكن عن أي ضحك يتحدث؟

وإذا كانت الفكاهة رسالة مفادها “أننا نسيطر على المواقف ونعلو عليها” فكيف يمكن أن نعلو على كل هذه المفارقات؟ كيف يمكن ألا يموت جاري بسكتة قلبية عندما رأى ثيابه وأغراض بيته تُباع في الشارع؟ اقترب ليلمسها أمام نظرات البائع الغاضبة.

“لمستها فقط، لكني لن أشتريها” قال لي لاحقاً.

لماذا يموت الأبرياء؟

وأي فكاهة يمكن لها أن تعبر عن منظر الغرقى من النساء والأطفال؟

أي فكاهة والأطفال على الشواطئ مثل دمى سقطت من حقيبة إله؟

في عالم قضى نصف أطفاله وشبانه غرقاً في البحر، فيما يعيش النصف الآخر في الخيام، في عالم يسوده الاتجار بالبشر يصبح التهام الأجنة رفاهية الأثرياء الأخيرة.

عارضات الأزياء اللواتي يتناولن المناديل الورقية لمقاومة الجوع إرضاءً لرغبات الزبائن والسوق، فيمتن.

زيارة الرئيس الفرنسي للبنان لزيارة المثليين وتفقد أحوالهم، بينما خيام اللجوء على بعد أمتار.

المناظرات بين ترامب وكلينتون أليست بحد ذاتها فكاهة!

أن تأتي بعاقل ليناظر مجنوناً فيفوز المجنون؟

وكيف تجتمع أمة على انتخاب أحمق مثل ترامب؟

عالم تُقطع أشجاره ليصنع منها ورق تُؤَرَّخ فيه الترهات.

صور المشعوذين وقارئي الطالع والكف تتصدر المشهد الإعلامي، بينما يقبع كتّاب العالم الثالث وأدباؤه في المعتقلات وزوايا المقاهي وهم يفكرون في فداحة ثمن فنجان القهوة التالي!  

فهل يمكن للفكاهة أن تشمل كل المفارقات؟ ولماذا نخاف الفكاهة؟ هل فقدنا مهارة تذوقها؟

تحتاج الفكاهة لروح حرة، وفكر قادر على استيعاب التناقضات، بودلير يرى فيها “علامة على العظمة وكذلك على التعاسة اللا محدودة.”

وهي بحسب أوكتافيو باز “الابتكار العظيم للروح الحديثة، ووسيلة للنفاذ لقلب لامعقولية الواقع.” هي أشبه بالتوليد السقراطي الذي يستخرج الحقيقة من قلب الجهل، وهي تخفف من شقاء الغموض الذي يكتنف هذا العالم، على العقل الذي يبتكرها. الفيلسوف ديمقريطس -الذي لُقب بالفيلسوف الضاحك- قال للطبيب الذي حاول علاجه وظنوه مجنوناً إنه يضحك من حماقات الناس، ووصفه أبقراط أنه “أكثر الناس حكمة.” ساندرز يشبه الأمر بأخذ حبة دواء مرة شديدة المرارة بعد تغطيتها بغلاف من السكر.

كانت الدعابة وسيلة لفهم هذا العالم، وكانت قادرة على وضعه تحت نور شديد السطوع باعتبارها شارة ودلالة على الحقيقة كهذه المزحة التشيكية:

– سيدتي مرت مدحلة فوق ابنتك!

– حسناً، حسناً. إنني أستحم الآن دسها من تحت الباب!

هل يجب اتهام هذه المزحة التشيكية بالقسوة؟

يعتقد كونديرا أن العمل الأدبي العظيم المؤسس لثرفانتس انبعث من روح اللاجد “حيث تتحرر المخيلة من المسؤولية لتعبر عن هذا العالم وعن المأساة في قلب هذا العالم”،  فما حدث قد حدث ولا يمكن تغييره لكن يمكننا السخرية منه كما فعل ثرفانتس ١٦٠٥- ١٦١٥ مع التراث الكلي لعصر الفرسان.

وكما فعل بائع الأحذية الإيطالية الذي واجه كابوس الفقدان بالفكاهة، فهي وحدها تثير الرعب لأنها وعي للتناقض، وقدرتها  تفوق السلاح في مواجهة السلطة وأدواتها، وهي بحسب أفلاطون “قدرة الضحك على تخريب الوضع الراهن-أياً كان، وقوته الهائلة على تحويل خطوط الدفاع القوية للسلطة إلى مجرد أبنية هشة من القش.”

 هل تبقت للإنسان اليوم أية إمكانية؟ أم أن الفكاهة صارت دون معنى، وعجزت عن هضم هذا التناقض؟

باعتقادي أن الروح السائدة الآن هي أقرب للتهكم والعبث والسخرية، وإن كانت الفكاهة بحسب ترجمتها اليونانية “قول الحقيقة تحت ستار الإضحاك”، وإعادة اكتشاف ما هو مألوف بشكل غير اعتيادي ووعي المفارقات (مفارقات الحياة المدهشة)، فإن التهكم يفتقر للوعي والحرية وقد وصف نيتشه صاحبه “بالكلب النهاش”. فهو لا يكتفي بالعض وإنما يتعلم أن يضحك.

لا يعلي هيجل من الموقف الأخلاقي للمتهكم، لأنه ينساق ببساطة مع المستنقع ويغطس فيه وهو يعبر عن سطحية وجفاف روحي وإنساني ووعي مشوه، كما أن “الفكاهة تعكس تحولاً من الشعور بالعجز أو النقص إلى الشعور بالتفوق” بحسب موريل ، وقدرة على التحرر من أسر الأسى.

فهل مازلنا نتمتع بالروح الحرة التي ميزت أسلافنا في وقت ما؟

هل نملك وعياً بالتاريخ الذي يُزيَّف ويُشوَّه كل يوم ؟

وهل مازلنا قادرين على التمييز بين ما يقال لنا و ما تراه أعيننا بينما يتم التلاعب بالصورة وبالمعلومة كل ثانية؟

حين كتب كونديرا وهو في الثمانين “حفلة التفاهة” أراد أن يترك لنا “شهادة حية على عالم بلا روح، عالم غامض وأحمق” لكن كاتب “خفة الكائن” ، و”الحياة في مكان آخر” والذي أراد في أعماله الأولى أن يضع الإنسان تحت إنارة مستمرة وأن يستكشف في عمق المواقف الوجودية والإنسانية ما هو أبعد منها، عن الحقيقة.

من خلال بحثه في جذور العدوانية غير المبررة وغير المفسرة بين البشر،  وبكرهه لحفلات الروك وفيها لا يكون المرء موجوداً ليحكم على الموسيقى بل ليستسلم، ليصرخ، ليمتزج، التماهي لا المتعة، الانصهار لا السعادة  و تحدث عن حسنات البطء في عالم يسرع دون هوادة نحو الهاوية.

 ويروي كاتب “الضحك والنسيان” أن الفكاهة “هي الوميض الإلهي الذي يكشف عن العالم في غموضه الأخلاقي، وعن الإنسان في قصوره العميق عن الحكم على الآخرين وإلا كيف يتوهم دون كيخوت نفسه فارساً؟”

ربما لم يكن دون كيخوت أحمقَ، هو رجل أراد أن يسخر من عالمه بطريقته الخاصة، في  حواراته مع صديقه وحامل سلاحه سانشو يضحكنا ضحكاً موجعاً فأمام الفندق يقابل دون كيخوت عاهرتين، يعتبرهما نبيلتين، ويؤدي للقواد تحية النبلاء. يبدو أن في داخل كل منا دون كيخوت يحاول فهم هذا العالم الأحمق بالعقل دون أن يعي أن كل قرارته متجذرة في الحماقة أو العبث.

في الدودة الهائلة أو “المسخ” حسب الترجمة، يستيقظ ” ك” ليجد أنه تحول إلى خنفساء مقلوبة على ظهرها، هل هناك فكاهة توازي فكاهة كافكا لتكشف عما يتجاوزها عن محنة الإنسان وعن لا معنى وجوده، وفي “مستوطنة العقاب” تبدو عقوبة السحل تحت الشفرات الحادة فكاهة بالنسبة لرجل غفا أثناء نوبة الحراسة أو نسي أن يقف باستعداد، هل هناك فكاهة في الأمر؟  

نعم فكاهة العقوبة التي لا جذور لها سوى في قرار أحمق اتخذه من أقر العقوبة .

في “المحاكمة” يبدو بناء المحكمة الرث والمتآكل، حيث تمارس زوجة المستخدم الجنس مع القضاة بين المقاعد، وحيث تجري الحوارات بعبثية دون أن يفهم المتهم ذنبه تعبيراًًً عن عدالة رثة متآكلة تحركها الرغبات والأهواء، فالمحكمة التي هي العالم لا تقام إلا لإفناء المتهم .

كان كونديرا يسعى جاهداً كي يبين أن حرية الإنسان تأتي من فرادته، من كونه صانع فكاهات، لكنه في آخر أعماله  يستسلم ويعترف “بصيغة النحن” ربما لخجله من التحدث بصيغة المفرد – يقول “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم ولا تغييره إلى الأفضل،  ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام لم يعد هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة، ألا نأخذه على محمل الجد.”

في “حفلة التفاهة” هناك قصة عنوانها “أربعة وعشرون طيراً من الحجل.”

جاء فيها أن ستالين قرر ذات يوم أن يذهب للصيد، ارتدى معطفاً رياضياً قديماً و انتعل حذاء تزلج، حمل على كتفه بندقية صيد طويلة واجتاز ثلاثة عشر كيلو متراً. عندئذ شاهد أمامه طيور حجل جاثمة على شجرة، توقف وعدَّهم فوجدهم أربعة وعشرين طائراً من الحجل لكن يا لسوء الحظ، لم يأخذ معه إلا اثنتي عشرة طلقة. يطلق النار فيقتل منها اثني عشر طيراً، ثم يعود ليقطع ثلاثة عشر كيلو متراً نحو منزله، ويأخذ اثنتي عشرة طلقة ويجتاز الكيلومترات الثلاثة عشر مرة أخرى  ليجد نفسه أمام طيور الحجل لم تزل واقفة على الغصن ذاته، يطلق النار عليها، وها هي جميعاً أخيراً.”

حين روى ستالين لمرافقيه ومستمعيه الحاضرين قصة طيور الحجل، لم يضحكوا، نظروا إليه بوجوه متشنجة، “لأن أياً منهم لم يعرف ما هو المزاح.”

ومزحة صغيرة قد يكون الرد عليها برصاصة في العنق!

مزحاتنا فقدت سلطتها، أصبحت الفكاهات خطيرة، وإن مشهد الأربعة وعشرين طائراً هو فاتحة عصر جديد، عصر أفول الفكاهات، عصر ما بعد المزحات.

مُخرِب الأحلام

مُخرِب الأحلام

كان الشاب المدعو- آدم  والذي صار لقبه فيما بعد – الفيل – يجلس في الباحة السماوية تحت شجرة النارنج، عندما رأى فقاعة أشبه بفقاعة الصابون، تخرج من نافذة الغرفة التي ينام فيها والده وعروسه، وتقترب نحوه .

كان والده قد يئس من أية إمكانية لجعله آدمياً، فقد  طُرد من مدرسته على إثر ضربه لأحد أساتذته كما فشل في كل المهن التي تنقل فيها وكان على قناعة راسخة أنه لم يخلق ليؤدي عملاً نافعاً. بل يتعمد أن  يفسد الأشياء التي يفترض أن يصلحها، كأن يترك في المدافئ ثقوباً ليتسرب منها الوقود وتحرق البيوت بقاطنيها أو يغرس في الأحذية مسامير مسننة، أو يحدث في أقفال الأبواب ثغرة كي يخلعها اللص  ووصل به الأمر إلى وضع العث والديدان في المعاطف التي يبيعها .

بعد  طرده صار يمضي وقته  في باحة البيت تحت شجرة النارنج،  يسهر ليلاً وينام نهاراً. وكان الأب الذي طلق والدة آدم وتزوج شابة صغيرة  يشعر أن منتهى سعادته هي أن ينام ولده حتى وقت متأخر ويتمنى أن لا يستيقظ أبداً.

عندما صارت الفقاعة على بعد إنشين منه ارتجف جسده ورأى ما اعتبره خيانة زوجية تحدث في غفلة عن والده . كانت  زوجة والده، وجارهم الشاب يركضان في الفقاعة الشفافة الحمراء، وكانت الفقاعة التي بحجم كرة قدم تزداد توهجاً مع ضحكاتهما وعناقهما المحموم  بينما تتبدل ألوانها من الفضي إلى الوردي الفاتح إلى الأرجواني المتوهج.

في اليوم التالي لم يخرج كعادته لملاقاة أصحابه، بل أمضى يومه يراقب الزوجة الشابة وهي ترابط عند النافذة وتنظر بعيني قط محروم إلى باب الجيران.  

عند الغروب جلس خلف نافذته يراقب الزوجين وهما ينهيان آخر عاداتهما اليومية. سمع قرقعة الصحون وانسياب الماء في الحمام… دعسات والده… وقفل باب غرفتهما. عندها سحب كرسيه وجلس تحت شجرة النارنج  ينتظر الفقاعة التي اقتربت منه، وقدمت نفسها له كشاشة سينما أبطالها زوجة أبيه وجارهم الشاب. كانا يسبحان عاريين في مغطس ماء حار.

يتعانقان …يركضان على الحافة الدائرية للمسبح …يغيبان في أروقة قصر باذخ،  ثم يقفزان في الماء، و يواصلان السباحة.

غرس سبابته فأحس بلزوجة الفقاعة أخرجها ثم غرسها مجدداً كمن يوجه طعنة بسكين  فانقبض وجه المرأة وتراجعت للخلف، وهي تنظر حولها بذعر، شعر العاشق بالخطر فسبح هارباً خارج الحيز الذي يشمله الحلم لكن آدم ضربه في ظهره بسبابته فانزلق الشاب عند طرف الحوض وارتطم رأسه بالرخام، وسالت دماء كثيرة،  ثم تحول لون الفقاعة قبل أن تتبدد من الوردي إلى الأسود عندها سمع صرختين من الغرفة، وركض والده -الذي كان شخيره قبل ثوان يملأ الأرجاء – هلعاً ليملأ كوب ماء.

ما اعتبره  هواية ومارسه لسنوات  في المقهى وفي الشارع مع  المتشردين تحول بعد وفاة والده إلى حرفة حيث قصده الناس من كل مكان، وطارت سمعته إلى أوروبا وأفريقيا. قصده إعلاميون فاشلون وصحفيون يبحثون عن الشهرة بأي ثمن و دفعوا أموالاً طائلة لكي يروا قدراته الخارقة.

قصده الجميع بما فيهم الفنانون والسياسيون، والأساتذة الجامعيون، وأخيراً السحرة الذين أرادوا أن  يتعلموا منه طريقته في تحويل الحلم الأخضر إلى حلم يابس والأحلام الوردية إلى أحلام سوداء وكوابيس.

كان باب بيته مزدحماً واضطروا إلى هدم حارتين لكي يوسعوا الشارع المؤدي إلى بيته باعتباره ثروة إنسانية كما وقف خمسة عشر شرطياً وثلاثمائة متطوع  لتنظيم حركة المرور، واستعمل مئات المساعدين لتنظيم الزبائن في باحة البيت وفي الشوارع والمقاهي الجانبية والذين كانوا من كل الأجناس والأعمار.

كانت تقصده النساء لكي يباغت أزواجهن وعشيقاتهم في أسرتهن، ويحول أحلامهم  إلى كوابيس….

…الرجال الذين  يطلبون منه أن يتجسس على أحلام رؤسائهم في العمل

…آخرون يتفرجون على رغبات حبيباتهن ولكل شيء تسعيرة  فمشاهدة الحلم لها ثمن، والعبث به له ثمنه أيضاً.

كان كل شيء يسير باعتياد إلى أن أتى ذلك اليوم ….

في البداية أرسلوا إليه أشخاصاً يلبسون قبعات جلدية تخفي عيونهم  يجلسون في باحة البيت، و يراقبون باب مكتبه ويتهامسون فيما بينهم. في صباح أحد الأيام احترق منزله وفي يوم آخر نهبت نقوده ثم طردوا زبائنه وفي النهاية طلبوا إليه أن يعمل لحسابهم.

– تعمل لدينا ويعود لك ما أخذ منك مضاعفاً. عملك الآن سيختلف. نحن لا تهمنا خيانة الأزواج ولا الزوجات ولا ترهات العشاق والمراهقين.

على من سأتجسس إذاً؟

ستعرف لاحقاً.

كان تصنيف الأحلام يتدرج من عالية الخطورة كالأحلام المتعلقة بالأفكار  وأطلق عليها أحلام المجانين… إلى متوسطة الخطورة كالبيوت الفارهة أو السيارات الجميلة أو النساء الفاتنات وسميت أحلام اليائسين… إلى لا خطر منها وهي المتعلقة بوجبات الطعام  كأن يحلم الشخص بدجاجة مشوية أو مرطبان من العسل أو سلة من الفواكه وسميت أحلام الأموات.

لكن رئيسه في العمل أصر على أن كل الأحلام  خطرة لأنه إذا حظي الحالم بمرطبان العسل فسينتقل إلى المرتبة الأعلى، وهكذا حتى يبدأ بإطلاق أفكاره كما يطلق ريحاً من مؤخرته دون حسيب أو رقيب ، وكان يخبره كل صباح  مقطوعته اليتيمة: نحن لم نبن لك هذا المكتب كي تترك تلك الحشرات الخطرة تعبر من سماء المدينة .

وبذلك  صار يعمل دون ملل ويطلق العنان للشر الذي رباه في صدره طيلة السنوات الماضية تحت شجرة النارنج .

في بعض الأحيان كان يقبض على شخص وهو يعبر بوابة بيت ذي إطلالة جميلة أو يتأمل شرفة قصرعندها يلامس الفقاعة بصاعق كهربائي  فتهتز الفقاعة وينهار البيت فوق رأس الحالم، قد يعاود الحالم الكرة في الليلة التالية لكن بعد محاولتين أو ثلاث سيستيقظ مذعوراً بمجرد رؤيته لإطلالة جميلة أو بيت مترف.

وفي أحيان أخرى يجد أحدهم متأنقاً ويمشي بزهو فيوجه مروحة إلى حلمه تجعله يتأرجح وسط دوامة ريح عاصفة ثم يسكب الماء الممزوج بالوحل على ثيابه ولا يكتفي بتخريب هندامه وبعثرة شعره بل يطلق خلفه كلاباً متوحشة.

أحلام الشعراء والفلاسفة صنفت ضمن عالية الخطورة حيث يلقي هؤلاء المواعظ والنظريات حتى في نومهم لذلك  كان يسكب فوقهم دلواً من الأسيد وهو يقسم أن يجعلهم: يتبولون في أسرتهم وعلى زوجاتهم وبالفعل كانوا يستيقظون وقد نسوا كل تفصيل ما عدا رائحة الأسيد والفراش المبلل ولعنات الزوجات.

تسليته الوحيدة هي أحلام الفقراء كأن يباغت شخصاً مع تفاحة أو حبة موز يضع فوق سبابته دودة ويغرسها في الفقاعة فتتحول الثمرة إلى حشرة ضخمة.

أمضى حياته يدخل زلازل في الأحلام  يسكب الأسيد والكيروسين يطلق كلاباً وأفاعيَ، يرمي في طعام الفقراء حشرات وقذارات ولم يترك حلماً يكتمل وكان يردد الحكمة التي سمعها من دون أن يفهمها: للأحلام قوة تجعلهم يستيقظون ويفهمون لكن الكوابيس تفعل العكس.

في النهار يقضي وقته  في الحانة ثم ينام بضع ساعات. في الليل يبدأ عمله صار لديه مساعدون وتلاميذ مثله ضخام الهيئة لذلك أطلق عليهم الفيلة، وأضيف بجانب اسم كل منهم رقم، مثل الفيل واحد، الفيل اثنان، الفيل ألف.

مع الوقت ازداد عدد الفيلة، وصارت الأحلام تُبتر من منتصفها، وتتحول إلى كوابيس، وكان  لكل حلم فيل ينتظره على مفترق الطريق، بعد زمن لم تعد تمر أية فقاعات متوهجة فقط الفقاعات السوداء كانت تستطيع المرور عبر سماء المدينة.  

تدمير صالات العرض

تدمير صالات العرض

أعلن الجيل الجديد للسينما السورية قطيعة مباشرة مع سينما الرواد، متخذين من مفردات الحرب مادةً جوهرية في صياغة أشرطتهم التي يبقى تقييمها رهناً للزمن الآتي، ففي حين نطل على تجارب لافتة على مستوى صياغة الفيلم بصرياً وفكرياً وجمالياً، تعاني أفلام الشباب من ضعف واضح في إنتاج بنية سينمائية بعيدة عن مشاهدات التلفزيون والفيديو كليب، لتبقى عشرات الأشرطة بعجرها وبجرها وثيقة عن زمن وقفت فيها كاميرات شباب وشابات سوريين في مواجهة الرصاص والقذائف، بعد أن فقدت البلاد العديد من صالات العرض، إضافةً لانقسام شاقولي عانت منه النخب السينمائية بين داخل وخارج.

واقع صالات العرض

مع انكفاء رؤوس الأموال الخاصة عن الإنتاج السينمائي السوري، باءت كل محاولات الحكومة السورية للاحتفاظ بصالات العرض السينمائية الخاصة؛ فمنعتها قوانين أصدرتها وزارة الثقافة منذ الثمانينات بعدم تحويلها إلى محلات تجارية.  لكن القانون الذي أصدرته وزيرة الثقافة السابقة نجاح العطار بحصر استيراد الأفلام من قِبل مؤسسة السينما، تم تعديله عام 2000 بإمكانية استثمار هذه الصالات وإعفاء أصحابها من كل الضرائب والرسوم في حال قيام ملاكها بإعادة ترميمها وصيانتها، فتم تعديل قانون استيراد الأفلام لإتاحة الفرصة لأصحاب هذه الصالات باستقطاب آخر إنتاجات السينما العربية والعالمية بتسهيلات واسعة مع سوق الأفلام الدولية، أو حتى السماح بتحويل هذه الدور إلى (مولات)- مراكز تجارية بشرط افتتاح صالات سينمائية صغيرة ضمنها.

شرط لم يعجب أصحاب هذه الصالات، فلم يطوروا من صالاتهم رغم الوعود التي قطعوها للمؤسسة العامة للسينما بالتطوير والتحديث، بل حوّلوها إلى أماكن عرض من الدرجة الثالثة، متبعين طريقة العرض المستمر لثلاثة أو أربعة أفلام يومياً وببطاقة دخول واحدة، ناشرين على جدران ومداخل صالاتهم ملصقات (بوسترات) لأفلام متهالكة أكل الدهر عليها وشرب.

اليوم توفي جميع أصحاب هذه الصالات، تاركين شأن هذه الدور العريقة للورثة الذين سافر قسم كبير منهم خارج البلاد من مثل عائلات مأمون الثري، صبحي فرحات وآل مسعود.

إن نزهة سيراً على الأقدام من شارع الفردوس وشارع شيكاغو باتجاه شارع ٢٩ أيار في العاصمة دمشق، سنلاحظ ما حلَّ اليوم بصالات دنيا و الفردوس و السفراء و الأهرام والخيّام والأمير وأوغاريت وسابقاً الزهراء قبل إغلاقها مؤخراً للصيانة. فجأة صار من المتعارف عليه أن هذه الأماكن تحولت إلى ما يشبه (غرف نوم مفروشة) لبنات هوى يقمن باستدراج شبان صغار إلى عتمة الصالة، مقابل مبالغ معلومة لمستخدمي الصالات التي ما زالت تعرض بتقنية الـ35 مم لكنها مؤخراً استخدمت تقنية الإسقاط (الفيديو بروجوكتور) لعرض أفلام بورنو مُقرصنة يشتريها القائمون على هذه الصالات من سوق البحصة المجاور!

تخبرنا الكتب وصور العروض والملصقات السينمائية بأن جمهور هذه الدور كان من الطبقة الوسطى التي اضمحلت وبادت مع سنوات الحرب السورية، فلا يمكن اليوم أن يدخل إلى هذه الصالات سوى من تقطّعت به السبل، ثم إن الصالة الوحيدة التي تم إعادة تأهيلها هي صالة (سينما سيتي- دمشق سابقاً) من قبل مستثمرها المنتج الراحل نادر الأتاسي، حيث وصل سعر بطاقة الدخول للشخص الواحد عام 2016 إلى  ٢٥٠٠ ليرة- ما يعادل ٦ دولارات أمريكية وهذا مبلغ ليس بإمكان المواطن العادي دفعه، إذا ما قرر أن يحضر مع عائلته إلى السينما.

ليست صالات دمشق من تعاني وحدها من هذا الواقع المزري، بل إن صالات حمص من مثل سينما حمص وصالة سينما الأمير قد توقفت بفعل الحرب وتم تدميرها بشكل كبير، وسرقة تجهيزاتها التقنية، ومثلها صالة سينما الأوبرا التي هُدمت وبُني مكانها مجمعات تجارية في المنطقة، وكذلك سينمات الشرق والفردوس والحرية، بينما تحولت كندي اللاذقية إلى ما يشبه مستودعاً حربياً، ومثلها كندي دير الزور التي أتت داعش عليها تخريباً وتدميراً، بينما فقدت حلب معظم صالاتها وعلى رأسها كل من صالة أوغاريت ليتم إعادة إحياء صالة الزهراء مؤخراً لتزاول تقديم عروضها.

بالمقابل ما تزال كندي طرطوس تعمل محتضنة ناديها السينمائي الذي تشرف عليه جمعية عاديات طرطوس بينما تستمر كل من صالتي كندي دمشق ودُمّر في عرض أفلام المؤسسة وأحدث تظاهرات سوق الأفلام العالمية، مع حضور خجول لعشاق السينما، حيث بقيت العروض التجارية لأفلام المؤسسة متوسطة الإقبال، في حين تحظى العروض الخاصة لهذه الأفلام بحضور إعلامي وفني كثيفين.

نوادي وأفلام    

دخل مشروع (دعم سينما الشباب) عامه السادس، ليكون بمثابة مختبر للمخيلة الجماعية الشابة في سنوات الحرب، حيث تزامن ذلك مع صعود نوادٍ سينمائية مستقلة في بعض المدن السورية؛ تقوم بعرض الأفلام السورية والأجنبية الممنوعة منها و المرخص بعرضها، إضافةً لمناقشتها مع الجمهور عبر إدارة مخرجيها ونقادها الشباب، كان أبرزها النادي الذي انشق عن نادي تيار بناء الدولة والذي كان يديره أنس جودة، فيما تقدم نادي LTC A- بإدارة الناشط السينمائي فراس محمد إلى واجهة الأنشطة السينمائية الأسبوعية، محتفياً بأفلام كل من نبيل المالح ومحمد ملص ورياض شيا وعبد اللطيف عبد الحميد وغيرهم، ليؤسس مؤخراً بدعم من مؤسسة السينما ما أسماه بـ (بيت السينما) إضافة لتفعيل (النادي السينمائي الجامعي) بالتعاون مع اتحاد الطلبة، وليكون لقاء شهرياً دورياً للجمهور مع أمهات الأفلام العالمية والعربية، التي يعقب عرضها نقاش حول الفيلم وتحليله فنياً وفكرياً وجمالياً بين صناع الفيلم وجمهور الطلبة.

في اللاذقية كان لمهرجان خطوات حضوره منذ عام 2014 والذي توقف جزئياً، إضافةً لدورات سيناريو أقامها الكاتب حسن م. يوسف هناك، في حين انفرد نادي حلب السينمائي بإدارة الناقد فاضل الكواكبي بأنشطته التي توقفت عام 2014 بعد ازدياد حدة المعارك في المدينة، فمنذ الثمانينات توقفت أنشطة النوادي السينمائية المستقلة التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والنقابات الشعبية، وكان أبرزها نادي دمشق السينمائي في حي الطلياني بدمشق، والذي كان له دور كبير بنشر الثقافة السينمائية في البلاد.

وكانت السينما المستقلة قد شهدت نشاطاً مع بداية الألفية الثالثة عبر تظاهرة سينما الواقع- دوكس بوكس التي كان يديرها المخرج عروة نيربية بالتعاون مع مؤسسة السينما، لتتأسس مع سنوات الحرب نوادٍ جديدة كان أبرزها نادي أحفاد عشتار بإدارة السيدتين لينا الأسعد وديمة العقاد، إضافةً لورش عمل أدارها المخرج محمد عبد العزيز مع طلاب الدبلوم السينمائي، إذ أن هناك عودة إلى مفهوم النوادي السينمائية المدعومة من المجتمع الأهلي، والتي ترافقت مع إتاحة الفرصة أمام سينما الهواة، أو ما يدعى بالسينما المستقلة التي ازدهرت بعد الانتقال من التصوير على شريط الـ 35 ملم إلى تقنية التصوير بكاميرا الديجيتال، مما فتح الباب واسعاً أمام عشرات الشباب لدخول غِمار إخراج أفلام سينمائية تفاوتت مستوياتها بين الجيد والرديء والمتواضع.

لقد وضعت تظاهرة سينما الشباب معايير فنية لعمل المخرجين الجدد، لكن أصحاب هذه التجارب ما تزال تعاني أفلامهم من التكرار والتأثر بالتلفزيون والفيديو كليب، إلا أن هذا لا يعني عدم وجود تجارب جريئة وعميقة فنياً وإنسانياً، وبعيدة عن الخطاب الأيديولوجي المباشر، بل نحا بعضها إلى هواجس الإنسان السوري في ظل الحرب، إنما تبقى شروط المُنح التي تقدمها المؤسسة بحاجة إلى تحسين شروطها الفنية والإنتاجية، مع ضرورة تقبل أفكار الشباب مهما بدت للوهلة الأولى تشاؤمية أو غير تعبوية، فهذه النوعية من الأفلام ستزول مع الزمن.

هكذا بلور الفن السينمائي في الحرب رغبة الشباب السوري به كشكل من أشكال التعبير المباشر والمغري للتعبير عن هواجسهم، والأكثر التصاقاً مع طبيعتهم وثقافتهم البصرية؛ وما يحدث اليوم في سورية من سباق نحو السينما أشبه ما يكون بما حدث في السبعينات والثمانينات بتوجه الشباب نحو كتابة قصيدة النثر وإصدار أعداد كبيرة من المجموعات الشعرية ذات التوجه الحداثي، لكن ليس هذا المهم، بل المهم هو إيجاد مسارب عمل للمخرجين الهواة الذين يخضعون لدورات تدريبية، فلم يتم حتى الآن دعمهم لتشغيلهم في السينما أو التلفزيون، ناهيك عن عدم وجود صالات عرض وقنوات فضائية كافية وقادرة على استيعاب إنتاجاتهم.

لقد طرح مفهوم (سينما الشباب) طرحاً مغايراً لما اصطلح على تسميته بـ السينما البديلة. المفهوم الذي ذُكر لأول مرة في دورة مهرجان دمشق لسينما الشباب عام 1971، وجاء كرد على السينما التجارية العربية ولاسيما المصرية، حيث بزغ هذا المفهوم لأول مرة مع التأثر بموجة السينما البديلة التي سادت سبعينات القرن الفائت في أوروبا في كل من فرنسا وتشيكوسلوفاكيا السابقة، وحققت نجاحات لا كتيار بل كأفلام، لكن الفارق اليوم بين السينما البديلة بالأمس والسينما البديلة اليوم، هو أن الأولى قامت على أيدي سينمائيين محترفين، وليس على أيدي هواة، وأبرز أسمائها في مصر كان  كل من سعيد مرزوق وعلي عبد الخالق ومدكور ثابت، أما في سورية فكان نجومها كل من نبيل المالح وعمر أميرالاي، وفي لبنان برهان علوية وسمير نصري وكريستيان غازي وجان شمعون.

وبدأت فكرة تظاهرة سينما الشباب عام 2007. فأخذ وقتها هواة السينما ينشطون ويقدمون أفلامهم التي ينتجونها بجهودهم الذاتية، أو برعاية من بعض الجهات الخاصة. نشاط دفع المؤسسة العامة للسينما باعتبارها الجهة الحكومية الوحيدة المعنية بالشأن السينمائي في البلاد؛ إلى تقديم الدعم والرعاية لهذه السينما التليدة؛ وكان المقصود بهذه السينما هنا تحديداً هو كل مواهب الإخراج السينمائي الشابة؛ التي لم تتلق تعليما سينمائياً أكاديمياً، وليست مصنّفة في نقابة الفنانين السورية، فليس في سورية معهد متخصص بتخريج الكوادر السينمائية، ولم يعد هناك  من إنتاج سينمائي خاص؛ فبات من الضروري وجود جهة ما، قادرة على تقديم كل عون ممكن لهواة السينما، وذلك كي يفصحوا عن أنفسهم وموهبتهم.

انطلاقا من هذا كله ولد (مشروع دعم سينما الشباب) ولكن بسبب مشاكل في التمويل تأخر تنفيذ المشروع حتى عام 2012 عندما انطلقت الدورة الأولى منه بعشرة أفلام، تبعها في العام التالي خمسة وعشرون فيلماً، ثم استقر العدد حالياً على ثلاثين فيلماً سنوياً؛ لتصل ميزانية كل فيلم منها إلى ما يقارب مليون ليرة سورية إذ تقدم المؤسسة للمخرجين الشباب كل مستلزمات تنفيذ أفلامهم، من مدير تصوير وإنتاج وفنيي إضاءة ومساعدي إخراج وغير ذلك، إضافة إلى سيولة مالية، كما تقدم للمخرجين الشباب خدمات ما بعد التصوير من مونتاج ومكساج وغيرهما، وصولاً لإنجاز الفيلم بالكامل. وذلك بعد حيازة النص على موافقة لجنة مختصة تدرس السيناريوهات المقدّمة فتختار الأصلح من بينها.

مع سنوات الحرب أمسى مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة من أكثر النتائج الملموسة التي تمخضت عن مشروع دعم سينما الهواة، فأمسى شبه تقليد بعد عقد دورته الخامسة في نيسان الماضي؛ ففيه تعرض الأفلام التي أنتجها المشروع بعد ست سنوات على انطلاقته، وتوزع جوائز على أصحاب التجارب اللافتة وفق نظام لجنة تحكيم مكونة من أبرز المخرجين والنقاد المخضرمين، تعطي مُنحها للمخرجين الجدد، بعد تقييمها ورصد درجة تفاعل الجمهور معها؛ إذ يبدو أن المشروع رغم انتقادات يوجهها البعض لسوية الأفلام التي يحققها هواة آخذاً بالتبلور حيث أقامت مؤسسة السينما في الأعوام الماضية ما يشبه نواةً لمعهد سينمائي في دمشق، مهّد له بالإعداد لدورات تدريبية بمشاركة أساتذة لإعطاء شهادة دبلوم علوم السينما كان أبرز المشاركين فيه كل من: سمير ذكرى وريمون بطرس وحسن سامي يوسف ونجدت أنزور وغسان شميط وفاضل الكواكبي ومأمون الخطيب ومحمد عبد العزيز وجود سعيد وعلي المالح وآخرين.

التباين الحاد في سوية أفلام الشباب السوري عن الحرب، وضع القائمين عليها أمام مكاشفات لابد منها، فكان أبرزها بيان لجنة تحكيم مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة الثالث -21- 26 نيسان-2016- دار الأوبرا السورية والتي أتى بيانها على لسان رئيس تحكيمها المخرج نجدت إسماعيل أنزور كإشارة قوية للمخرجين الشباب بمراجعة أعمالهم مراجعةً نقدية مبتعداً عن المجاملة حيث قال: “تلاحظ اللجنة بقلق أن معظم الأعمال المشاركة لم تراع طبيعة الفيلم القصير وخصوصيته الإبداعية، لا من حيث البنية ولا من حيث الطبيعة والخطاب، كما أن جل هذه الأعمال اتخذت من الدراما التلفزيونية مرجعية جمالية وبصرية لها، فهناك أعمال تصدت لأفكار كبيرة بإمكانيات ضحلة وبسيطة، مما حال من تمكن مخرجيها من تقديم هذه المقولات بالشكل المطلوب، وترى اللجنة أن معظم الأفلام تم تجسيدها في أماكن تصوير واحدة وخلو هذه الأماكن من البشر وكأن الأحداث تجري في مدن مهجورة، ما عدا بعض الاستثناءات؛ وتقترح اللجنة أن يعاد النظر في آلية قبول السيناريوهات المقدّمة من قبل الشباب، وضرورة وجود مستشارين دراميين يشرفون على كتابة هذه الأفلام، وإخضاع مخرجيها إلى دورات مكثّفة قبل إعطائهم فرص الإنتاج.”

الفعالية الشبابية التي تحقق من خلالها ما يزيد عن مائة فيلم على مدى السنوات الست الماضية، لبت جوع النشء الجديد إلى أدوات تعبير مغايرة لأجواء الفرجة السطحية التي عمل التلفزيون على تكوينها لعقود طويلة في البلاد مكرّساً ثقافة مناوئة لحساسية الفن السينمائي، وقدرة هذا الأخير على تربية ذائقة مرموقة بعيداً عن نجوم المواسم الرمضانية، إلا أن أفلام سينما الشباب آثرت في معظمها الشكل المباشر للحرب والإرهاب كعنوان عريض لطروحاتها السينمائية، مقتربةً في معظمها من أجواء الفيديو كليب من حيث تركيزها على التلذذ الجمالي بالصورة، وطغيان الموسيقى التصويرية على كامل البنية الفيلمية، دون الإلمام بإدارة الممثل داخل الكادر، والأهم من هذا وذاك، عدم الأخذ بأهمية السيناريو كأساس جوهري لتحقيق فيلم متوازن فنياً بعيد عن مشاهدات التلفزيون ومسلسلاته، مما عكس فقر فني في وعي بعض المخرجين، في حين أتت قلة قليلة من الأفلام المشاركة على سوية معقولة من الدراية بمتطلبات وشروط الفن السابع.

رنين اليقظة

رنين اليقظة

( كونشيرتو الكمان ليوهان برامز/ الحركة الأولى)

بماذا تَعِدني الموسيقى؟

أهي هروبٌ، شفاءٌ، تَخَطٍّ؟ أمْ ألَمٌ واستبصارٌ وتِيْه؟

تلطمني، ترجُّ صدغيَّ، تفتل قامتي، تنشر ذراعيَّ في العراء، تمسِّد ما ضاع وتَنْفُضُ ما تبقّى. أسلاكٌ دافئة بين القلب والأنامل، حطّت عليها طيور وغادرتْ أخرى. تَبرد فروةُ رأسي، تَخِزني أنفاسي، أكاد- في الهنيهة الفاصلة بين السكون والرنين- أَخْمشُ كلَّ شيء، ألوِّحُ لأيِّ شيء، أتّكئُ على لا شيء.

تتراجف الأوتار مثلما تستقبل شفاهُ المحمومين الفجرَ،

مثلما تستجمع يدُ العائد لهفتَها لتَعبرَ الصقيعَ الفاصل بين جيب المعطف وقفلِ بابٍ ليس خلفه أحد.

تتردّد الخطوات قبل أن تزيح الأشواكَ النامية على العتبة،

ترفرف الأجفان عازمةً على تأثيث الفراغ بظلالِ مَن غابوا.

الانبعاثُ من العدم سيرٌ إلى الموت، الركضُ على المرج زحفٌ إلى الهاوية. الخَلْقُ نَفْخٌ، والنفخُ نقصان. لهذا يتولّى البوقُ مهمّةَ البدء. ألسنةُ لهبٍ تشقّ قميصَ الليل، كلّما صدَّت لفحةً جذبتها الأحطابُ إلى سرير الرماد. طفلٌ غادر القبوَ بلا ذاكرة. بَردانٌ، وتقوده الشمس إلى رأس التلّ. يتمرّغ، يتدحرج غيرَ مُبالٍ: أَواكَبَهُ إلى السفح هديرُ الشلّالِ، أم فحيحُ الأفعى.

تعترض النفخةَ همهماتٌ من عدّة جهات.

بعضُها محاوَلةُ الموجِ فتْحَ ثغرةٍ في سور المَحرقة،

بعضها تَشابُكُ الأكفِّ قبل أن تُطْبِق السقوفُ على الأضلاع،

بعضها تَلاطُمُ الأشباحِ فوق شظايا القارب.

عتابٌ على البحر، فرارٌ من السماء، وعدٌ للأرض.

لأنّ( الفلوت) سؤالٌ مرير مثل لماذا؟ مديدٌ مثل أين؟  مرتابٌ مثل متى؟

بحَّتُهُ غامضة لكنْ كاشفة، صفيرُه مقيَّدٌ لكنْ ممزِّق. من تموُّجِ الهواءِ بين العتمة والضوء، من دأْبِ الرئتين الورديّتين على تضميد جراح المعدن؛ يصير للشهيق رنينُ اليقظة وللزفير صدى انكسار القيد.

حين أُزيحت الستارة لَيَّلَ الضباب، لحظةَ انشقَّ الأصيص ارتطمت البراعم بالزجاج.

من عدّة جهات. لأنّ شَجاهُ كامنٌ في كلِّ متحرّك، وخوفه مطوِّقٌ كلَّ آمِل، وحيْرَتهُ رائدُ كلِّ بصير.

تُزَمُّ الشفتان: فكثيرٌ من الشرفات لم يحتمل أمسِ لوعةَ الناجين،

تجنُّ الأصابع: فقد اشتعلتْ غابتانِ اليومَ،

تنقبض الأحداق: فغداً سيَغشانا الدم.

هاهي الكمنجات، وقد استيقظتْ ذاهلةً، تكرِّر آخرَ صرخات الجريح. تُضخِّمُها، تَطوف بها على الأرصفة، تضيء الأقبيةَ، تمزجها بكلِّ نسمةٍ، وتبدِّدُ يقينَ كلِّ غيمة.

لكنّ دَورها أبعَدُ من نواح الجوقة المُظلِّلة حوافَّ المشهد. إذْ لا منصَّةَ هنا غير حطام الأعمدة، لا شهود إلّا أطفالُ المكان الذين بَرَدَ بهم الزمانُ مخالبَه.

دَخَلْنا في الليل، أُلْبِسْنا معطفَه المقلوب، والتفَّتْ علينا الأكمام. ولنا، إلى أن يحين موعد الصدمات الشافية، أن نهذيَ بما نشاء.

مَن ذا يبالي بما كان لنا من أسماء وبيوت؟

مَن ذا يُصدِّق أننا شهدنا، مِراراً، ينابيعَ تفور وأشجاراً تُزهر؟

هي لا تمهِّد للكمان المنفرد مثلما تحفُّ الحاشية حول موكب سيّدِها، بل هو يبزغ من مركز الدوّامة، يشقّ طريقَه ملتاعاً من دون أن يزيح أو يزاحم. وبين موجةٍ وأخرى، ينزوي في ركن، منكبّاً على جراحه.

صِرْ يا قوسُ شَفرةً، إلى أن يحرق الأنينُ قشورَ هذه الجدران الرطبة.

ضجّي يا أوتارُ بما واجهَتْ به الأعشاشُ صليلَ الفؤوس، حتى تصهر الشمسُ حديدَ هذه الكُوى.

إذا أسَّسَ الفجرُ قريةً آمنة بين رُكبتَي تمثال، فلأنّ الكَمانَ سهران.

إذا تعثَّرَ الرعدُ بسقفِ مَنارةٍ قبل أن يلقي علينا رسائلَه، فلأنّ الكمان يَغرق.

إذا ردَّدتْ صنوبراتُ الجبالِ هديرَ قطاراتِ المنفى، فلأنّ الغيمَ سميعٌ للكمانِ مُجيب.

عاهدتُ الأرضَ، منذ كستني الموسيقى أجنحةً، ألّا أزيد جراحَها بخُطاي.

ورثتُ من نهر الطفولة أبوَّتَه للسواقي: يطلِقها في الحقول، ويسبقها إلى المَصَب.

عرسٌ سوريٌّ: كتابٌ وفيلمٌ لِلاوْرا تانْغِرْلِيني

عرسٌ سوريٌّ: كتابٌ وفيلمٌ لِلاوْرا تانْغِرْلِيني

ليس مجرَّدَ عرسٍ؛ إنَّه سِفرُ رؤيا إنسانيَّةٍ مليئةٍ بالعديد من القصص الصَّغيرة والرَّهيبة التي جمعَتْها لاوْرا تانْغِرْليني بكثيرٍ من الحبِّ والحنان.

هو قصَّة شهر عسلٍ خيريٍّ قامتْ به لاوْرا مع زوجها، المؤلِّف الموسيقيِّ والمغنِّي الرُّومانيِّ ماركو رو، للاستماع إلى أصوات وشهادات اللَّاجئين السُّوريِّين في مخيَّمات لبنان وتركيا.

هو قصَّةُ حُبِّ المؤلِّفة الجارف نحو زوجها من جهةٍ، ونحو سوريا وشعبها من جهةٍ أخرى؛ حُبٍّ مزدوجٍ ترويه لنا بكثيرٍ من النَّشوةِ والعذوبة، وأحياناً بسخريةٍ خفيفةٍ، ولكن في الوقت نفسه، وبطبيعة الحال بسبب الحرب الدَّائرة هناك منذ سنة 2011، بصرامةٍ وإصرارٍ يبغيان رفعَ الحجاب للقارئ عن العواقب الفائقة القسوة التي نجمَتْ عن خراب أرضٍ كانت ذات يومٍ أشبه بفردوسٍ مفقود، عواقبٍ يتظاهر العالَم، الذي هو متواطئٌ في بعض الأحيان ولامُبالٍ في أحيانٍ كثيرةٍ، بعدم رؤيتها.

هذا الرِّبورتاج الذي أعدَّته لاوْرا عن المأساة السُّوريَّة (وهو يوميَّاتُ رحلةٍ، وقبل كلِّ شيءٍ، أضمومةٌ من أقوال وشهادات لاجئين التقَتْ بهم) إنَّما يمثِّل “نافذةً متفرِّدةً وهامَّةً، مفتوحةً على عالَمٍ لطالما عتَّمَتْ عليه وسائل إعلامنا هنا” على حدِّ قول الصَّحفيَّة آنَّا كافِسْتري في معرض حديثها عن هذا العمل.

وكانت لاوْرا، في الأسابيع التي سبقت الزِّفاف، قد حلَّتْ في لبنان لتوثيق حالةِ بلدٍ يرزح تحت مدٍّ مديدٍ من موجاتِ اليائسين السُّوريِّين والفلسطينيِّين الهاربين من الحروب والعنف والدَّمار، فإذا بالعروس المستقبليَّة تتحوَّل إلى شاهدٍ على الظُّروف القاسية والوحشيَّة التي يعيشها اللَّاجئون داخل مخيَّماتٍ أقيمَتْ في بلدٍ يبدو، بموارده المحدودة وبناه التَّحتيَّة غير الكافية، أكثر ترحيباً بالأثرياء والأصحَّاء منه بأولئك البؤساء.

يضمُّ الكتاب الصَّادر بالإيطاليَّة عن منشورات إينفينيتو، والذي يقع في 189 صفحة، توطئةً بقلم جان أنطونيو إسْتِلَّا ومقدِّمةً بقلم كورَّادينو مينْيُو.

وقد قام بإنجاز التَّسجيل الصَّوتيِّ للفيلم الذي حملَ العنوانَ نفسَه “عرسٌ سوريٌّ”، وتضمَّنَ أربع أغانٍ غير منشورةٍ سابقاً، كلٌّ من لاوْرا تانْغِرْليني وزوجها ماركو رو الذي وضعَ بدورِهِ موسيقى جميع أغاني الفيلم وكتب كلماتها (باستثناء اثنتين منها شاركتْه في كتابة كلماتهما زوجته الصَّحفيَّة).

وبالنَّتيجة، فإنَّ ما ينبثق عن هذا العمل المتوقِّدِ عاطفةً وحماساً، بالإضافة إلى حبِّ الكاتبة للشَّعب السُّوريِّ وحزنها على مصيره المضطرب وغير العادل، هو سيناريو دراميٌّ يستصرخُ الضَّمائر الصَّامتة للشُّعوب الأوروبِّيَّة وبقيَّة شعوب العالَم، داعياً إيَّاها إلى الاستيقاظ والعمل لوقف، أو على الأقلِّ لتخفيف هذه المأساة الإنسانيَّة الكبرى.

“بكلماتها الصَّريحة والقاطعة”، يقولُ الصَّحفيُّ كارلو كراكُّو، “تجعلنا لاوْرا جزءاً من تلك الأحداث المشحونة بالعواطف والمشاعر الإنسانيَّة، العامَّة والخاصَّة، صفحةً تِلْوَ صفحة. وهي بذلك إنَّما تسلِّط الضَّوء، مِن أعماق صورةٍ مظلمةٍ ومأساويَّةٍ، على بذور الأمل الثَّمينة المرصودةِ لبناء جسرٍ، مجازيٍّ وملموسٍ في آنٍ واحدٍ، نحو مستقبلٍ أكثر إشراقاً من هذا الحاضر العديم الرَّحمة والقاتم.”

ويواصل: “السُّوريُّون، من لبنان وتركيا، ومن البلدان الأوروبِّيَّة التي وصلوا إليها بشقِّ الأنفس، يحلمون بالعودة إلى ديارهم، إلى سوريا جديدة يعمُّها السَّلام والهدوء والتي لم تعد موجودةً وهي اليوم تكافح من أجل استعادة حقيقتها أو العودة إلى حقيقتها.”

تشرحُ الكاتبةُ أنَّ هذا المشروع، وهو المرحلة الأخير من مسار التَّوعية الذي كانت تقومُ به لسنواتٍ حول مسألة اللَّاجئين السُّوريِّين، في البداية وحدها ككاتبةٍ وصحفيَّةٍ، ثمَّ صحبةَ زوجها كمغنٍّ ومؤلِّفٍ موسيقيٍّ، إنَّما يريدُ أن يعطي وجهاً وصوتاً للكثير من المهمَّشين الذين قابلَتْهم في رحلتيهما إلى تركيا ولبنان بُعَيدَ زفافهما، ذلك الزِّفاف الخيريِّ الذي أرادتْ من خلاله أن تقدِّمَ مساعدةً ملموسةً وسُوَيعاتٍ من التَّرفيه للعديد من اللَّاجئين السُّوريِّين، ومعظمهم من الأيتام.

فعلى وجه الخصوص، تقول، “لقد قدَّمنا قبلَ زفافنا مساعدةً ماليَّةً عن بُعدٍ لمؤمن وهو لاجئٌ سوريٌّ صغيرٌ يتيمُ الأب يعيش الآن في لبنان مع أمِّه واثنين من أخوته الخمسة، ويعاني مشاكل سلوكيَّة بسبب فقدان الأب وصدمة الحرب.

وتهدف تلك المساعدة إلى السَّماح له، ولأخوته أيضاً، بالدِّراسة. وقد التقينا به عندما سافرنا إلى لبنان لقضاء يومٍ معه”.

لاوْرا التي ما إن انتهَتْ شعائرُ زفافها في إيطاليا حتَّى ركبَتْ الطَّائرة مع زوجها، واستثمرَتْ معظمَ هدايا الزِّفاف التي حصلا عليها في شراء القرطاسية ولعب الأطفال وزجاجتَين من المشروبات الباردة مع كعكةٍ كبيرةٍ وخمسٍ وسبعين سترةً شتويَّةً من أنطاكية وحملاها شخصيَّاً إلى الرَّيحانيَّة للأطفال السُّوريِّين نزلاءِ دار الأيتام هناك، تضيفُ قائلةً: “الآن لا نريد التَّوقُّف عند هذا الحدِّ، بل نريد أن نفعل المزيد. نريد من ناحيةٍ أخرى أن نخصِّص عائدات حقوق النَّشر الخاصَّة بهذا المنتَج الأدبيِّ والسَّمعيِّ والبصريِّ لصالحِ مشاريع أخرى تدعم السُّوريِّين.”

من الكتاب:

… ماذا كنت تودُّ أن ترى لو كانت لك عينان ثاقبتان؟ “بودِّي لو أرى حارتي مرَّةً أخرى… فبعد أربع سنواتٍ لم أعد أتذكَّرها جيِّداً… وبودِّي لو أرى ما بقي من بيتنا” كانت عيناه تتلألآن ببريق الذِّكرى، وكذلك كانت عيناي منذ بضع دقائق وأنا أستمع إليه…

… كانت الموسيقى الانتصاريَّة قد بدأتْ بالفِعل، منطلقةً من الصَّناديق المكنونةِ بين زُحلوقةٍ وأرجوحة. الأطفالُ في ملابسهم الاحتفاليَّة يرفعون البالونات الملوَّنة وينتظرون مرور العريسَين. ها قد بدأ عرسُنا السُّوريُّ، بين السُّوريِّين، ولأجل السُّوريِّين…

“… سوريا كلُّها قد تغيَّرَت. منازلُ لا يُحصَى عديدُها قد تهدَّمَت. حتَّى أنَّ أنفاسَ النَّاس هناك قد تغيَّرَتْ، فرائحة الدَّم تبلِّلُ الهواءَ في كلِّ مكان. كلُّ شيءٍ كان جميلاً، كلُّ زاويةٍ، كلُّ شارعٍ، كلُّ زقاق… ما كنتُ لأرحلَ عنها لو أنَّني استطعتُ إلى ذلك سبيلاً…”

“… اتركونا وشأننا. هذا هو ما تحتاج إليه سوريا. إنَّنا أناسٌ طيِّبون، نحبُّ العالَم كلَّه، ولكنَّ العالَم لا يحبُّنا…”

… بعد لحظةٍ من ذلك دخلَتْ إحدى اليتيمات لتعطيني وشاحاً صوفيَّاً يضرب لونه إلى الحُمرة، واحداً من تلك الأوشحة التي كنَّ قد صنعنَها بأيديهنَّ خلال بعض الأنشطة التَّرفيهيَّة. مرَّةً أخرى، تتحرَّك مشاعري بقوَّةٍ لا قِبَلَ لي بها. إنَّها أجمل هديَّةٍ تلقَّيتُها في عرسيَ السُّوريِّ هذا…

“… أتخيَّلُ أنَّني في سوريا، ولكنَّني لا أرى أحداً هناك؛ وحيداً أسيرُ في الشَّوارع الخالية، ذلك أنَّ الجميع قد ماتوا”. مرَّةً أخرى أشعرُ بلكمةٍ عنيفةٍ على معدتي…

* * *

عن لاوْرا تانْغِرْليني: صحفيَّة بدأت مسيرتها المهنيَّة عام 1998. حاصلة على شهادة في علوم الاتِّصال من جامعة لاسابْيِينتزا في روما. وتدير منذ عام 2008 قسمَ الأخبار في قناة راي الإخباريَّة. باحثة في اللُّغة والثَّقافة العربيَّة، تناولَتْ في عملها مراراً وتكراراً الوضعَ في الشَّرق الأوسط، ولا سيَّما المأساة السُّوريَّة التي كتبت عنها ثلاثة كتبٍ هي: “سوريا الهاربة” 2013، وحصلت عنه على جائزة فيودْجي ستوريا، المرتبة الأولى؛ و”لبنان في هاوية الأزمة السُّوريَّة” 2014، وحصلت عنه في عام 2015 على جائزة تشِرُّوليو عن فئة الدِّراسات النَّقديَّة؛ و”عرسٌ سوريٌّ” 2017. كما حصدَت العديد من الجوائز لعملها الصَّحفيِّ والتزامها الأخلاقيِّ تجاه الشَّعب السُّوريِّ.