بواسطة Mustafa Taj El Deen El Mousa | مايو 24, 2018 | Culture, Roundtables, غير مصنف
إلى الصديقة العزيزة كندة شريقي حنا.
حارتنا هي صوتٌ عتيق لعجوز، صوتٌ يتلاشى ببطءٍ خلف شاحنة ذاهبة إلى العتمة، سأرحل وبذمتي هذا اليقين الوحيد.
عجوز حارتنا أقدم من كلّ بيوتنا، لا أحد يعرف تاريخها، لكنها، تعرف تاريخنا كلّنا، حتى تفاصيله المملّة، نحن وأهلنا ولدنا على يديها.
الكبار يقولون إنّ لديها يقينيات غريبة تشبه حياتها… أنا لا أحبها، هي غير مؤذية، لكنّنا نخاف منها عندما نمرّ بها وهي على كرسيها فوق رصيفها تدخن كخريفٍ عمره ألف سنة.
اليوم سمعتُ صوتها لأول مرّة منذ سنوات، لا يزال دافئاً كحارتنا، كانت تهذي في الخارج للناجين مصادفة من الحرب:
ـ ابن البدينة… أنا أعرفه جيداً، ذلك الشتاء جعل بناتي جميلات… ابن السكير، اشتقتُ له، بسببه صار الحب في حارتنا أحلى، لأجله كانت تلك الرقصة الساحرة. هل تذكرون ذلك الشتاء؟ أمه لم تحب أباه، أجمل الصبيان أولئك الذين يولدون عن غير حب، الوغد. كسر قلبي في ليلته الأخيرة إلى تسع بنات واثنين وأربعين رسالة، اجلبوه إليّ إن كان حياً، اشتقتُ له، يا كلاااااب… أعطوني سيجارة…
(أبو رسائل) سخرتْ مرّة أختي، حملتُ هذا اللقب طويلاً بين غرف بيتنا.
في بيتنا القديم كان لدينا مكتبة بعدّة رفوف، تسلّيتُ أثناء المراهقة بقراءة كتبها، فصارتْ لغتي جميلة.
في ذلك الشتاء، ذات ليلة.. تسلق خالد حائطنا ليقفز إلى شجرة الأكيدنيا حتى غصنها المحاذي لشباك غرفتي، نقر بسبابته على البلور، فتحته مستغرباً. بقلب منكسر الخاطر همس لي وهو يبكي:
ــ أرجوك… أنا أحب يسرى، ساعدني واكتب لي رسالة حبٍ إليها.
وكتبت لخالد ابن الحانوتي، رسالة حب لـ يسرى بنت الخياطة، بعد مسائين كانت النتيجة جميلة له فأعطاني بضع سجائر. ابن عمه حيان فهم القصة، توسل لي من فوق غصن شجرة الأكيدنيا في مساءٍ بارد آخر أنّ أكتب له رسالة حب لـ هناء.
كتبتُ له متأففاً رسالة جميلة، بعد أيام عرف أمجد قصة الرسالتين، ثلاثتهم تسلقوا الشجرة وأمام شباكي ترجوني أن أكتب لهم رسائل لعشيقاتهم من بنات حارتنا.
وكتبت لهم، بصراحة. كنت أستمتع بكتابة الرسائل للبنات جانب المدفأة، وأوقعها بأسماء الآخرين، هذه الرسائل كانت تشغلني عن متابعة مشاجرات والديّ كلّ ليلة.
في درس الفيزياء الغليظ، كتب لي قاسم على دفتره ملاحظة وناولي إيّاه من أسفل المقعد:
ـــ بـ حياة أمك. اكتب لي رسالة حب لـ سمية. ومساءً نلتقي على شجرة الأكيدنيا…
زفرتُ، خلال أسابيع قليلة صاروا تسعة مراهقين أكتب لهم رسائل لتسع مراهقات، ودائماً، بين الأرض والسماء… على أغصان شجرة الأكيدنيا في المساءات الماطرة، أعطي الأوراق لأصحاب الوجوه النحيلة ذاتِ القلوب المعذبة.
أظنّ أنّ أحدهم كان جاسوساً لمدير الإعدادية الأستاذ خليل، طلبني إلى الإدارة فذهبت وبعد دخولي مكتبه طلب مني ــ بلطف غير معتاد ــ أن أجلس، كان مرتبكاً قال لي بخجل:
ـــ بني… أنا أحب المستخدمة جمانة، الغبية لا تفهم عليّ. أريدك أن تكتب لها رسالة مني… عليها اللعنة، مجرد مستخدمة ومغرورة!
ـــ حبيبي أبو الخل، في الحب لا يوجد مستخدمة أو طبيبة… مهندسة أومتسولة… يوجد أنثى فقط و…
كنت أشرح له فلسفتي في رسائل الحب بعد خبرة أوراق كثيرة، وأنا ألف ساقاً على ساق وأنسل من علبة سجائره فوق المكتب سيجارة و…
ـــ انقلع من هنا يا كلب.
قذفني بصحن السجائر فأسرعتُ لأخرج وأنا أتعثر برِجْلي.
ثمّة ليلة محال أنّ أنساها، كان مطرها غزيراً دونما قمر، أمام بلور شباكي تناثر بصمت على أغصان الأكيدنيا تسعة أشباح. أمامهم كنت جالساً على سريري وفوقي لحاف وأمامي أوراق وأقلام. أتأملهم وأتأمل أوراقي، وفي الغرفة المجاورة مشاجرة مؤلمة بين صلاة نقية لأمي وخمر تعيس لأبي.
صراخ هنا وهناك ثمّة عيون حزينة ، تنتظر أوراقي، مصير روحها معلق بالقلم بين أصابعي، والمطر لا يرحم الوجوه المائلة على الأغصان.
ثمّ، ساعتين ونصف… أفتح شباكي لأعطي المبللين بالماء والحب رسائلهم. يأخذونها بفرح ويمضون لأبقى وحيداً على شباك الحب بلا رسالة خاصة بي، محاولاً فهم عدم انسجام الصلوات النقية مع الخمور التعيسة.
ذات ملل اخترعتُ رسالة حب إلى أمي موقعة باسم أبي ووضعتها فوق قطرميز المكدوس، لم تنتبه، مرّة ثانية كتبتُ رسالة حب من أبي لأمي ووضعتها جانب قنينة العرق، لم ينتبه. فشلتُ بمصالحة صلاتِها مع خمره.
بعد شهرين، نساء حارتنا مع بناتهنّ اجتمعنَ في بيت أم العبد للاحتفال بولادتها، العجوز كانت موجودة تراقب بصمت كعادتها، انتبهتْ لشلة بنات في زاوية بعيدة معهن أوراق يقرأن منها سراً، تأملتهن مطولاً. شعرتْ أنهن جميلات، من يقينياتها الغريبة: البنت لا تصير جميلة إلا عندما تصلها أوّل رسالة حب في حياتها.
نهضتْ ومشتْ إليهن، انتبهن بخوف خبأن الرسائل، انحنتْ عليهن وهمستْ بثقة:
ــ من يكتب لكُنّ؟
لم يتجرأن على الإنكار، كلّ واحدة همستْ بخجل باسم المراهق الخاص بها، أخذتْ العجوز الأوراق ونظرتْ فيها، هي لا تعرف القراءة لكن حاستها بالخطوط قديمة، شهقتْ:
ـــ كلّ هذه الرسائل كتبتها يدٌ واحدة.
والتفتت إلى الخلف، كأنها تنظر إلى الليالي السابقة، تذكرتْ مرورها بضع مرّات من أمام بيتنا، والأشباح المعلقة بصمت على أغصان شجرة الأكيدنيا، ابتسمتْ بخبث وتمتمتْ:
ـ ابن السكير. هو من كتب كلّ هذه الرسائل، ما أحلاه (هزّتْ رأسها بحزن وهي تردف بأحد يقينياتها) أجمل الصبيان أولئك الذين يولدون عن غير حب.
تنهدتْ وانحنتْ على البنات مجدداً، همستْ لهن محذرة:
ـــ لا تخبرن الصبيان أنكنّ قد عرفتن صاحب الرسائل، ليظل ابن البدينة يكتب. إن توقفتْ رسائله سوف تصرن قبيحات، بدون رسائل لن تبقين جميلات..
تلك الحفلة، كلّ بنات حارتنا رقصن، أحياناً رقصات فردية وأحياناً جماعية، الرقصة الأحلى كانت جماعية لتسع بنات، صفقن لها النساء كثيراً وما عرفن سرّها.
البنات حافظن على السرّ، لتمر الأيام الممطرة، وشجرة الأكيدنيا تسجل القمر في أغلب الليالي: غياب، والمتسلقون لا يؤذيهم برد، شباكي تغادر منه أوراق وترجع منه سجائر. وفي الغرفة المجاورة، شجار أمي مع أبي لا ينتهي.
أستمرّ بكتابة رسائل الحب دونما حب، أوقعها بتسع أسماء وأظلّ بعد رحيلهم على شباكي مع السجائر.
بعد أشهر انتقلنا إلى بيت صغير في حارة بعيدة، بعد أن تراكمتْ علينا الديون، جلبنا شاحنة، في ثلاث رحلات نقلنا كلّ إخوتي وصلوات أمي وخمور أبي وأثاثنا.
في النقلة الرابعة والأخيرة تناثرتْ على الشاحنة أشياء غرفتي وكراكيب غرفة المؤونة، مشتْ الشاحنة والمطر يهطل علينا. عبرنا شارع حارتنا، القمر كان موجوداً على غير عادته، صوت الشاحنة كان مزعجاً. وهي تبتعد لوحتُ لها فلوحتْ لي بغصنها شجرة الأكيدنيا، ضيعنا بيتنا القديم، غصة تبتلع الحنجرة، تأملتُ بيوت حارتنا مقهوراً، فجأة. تحت المطر، تسع بنات يخرجن إلى شرفاتهن الصغيرة، ينظرن إليّ… ثمّ، يرفعن أيديهن برسائلي ويلوحن ليّ في بكاءٍ صامت.
خرجتْ من بيتها شبه المهجور إلى الشارع، طاردتْ الشاحنة تحت المطر وهي تدق الإسفلت بعكازها، كانت تصرخ فيّ:
ـــ إلى أين راحل يا ابن السكير؟ ارجع. اللعنة على أمك البدينة… ارجع يا وغد، بناتي صرن جميلات بسبب رسائلك، من سيكتب لهن بعد الليلة؟ لا تقتل قلبي برحيلك يا حقير، ارجع.
عندما جاء الصيف، أختي الكبيرة في المطبخ قالتْ لخالتي بحنق من فوق ماكينة الكبة:
ـــ الله وكيلك، كنا نظن أنّه يدرس في غرفته، بعد رسوبه في الشهادة الإعدادية اكتشفنا أنّه كان يكتب رسائل للبنات. معها حق أن تشمت فينا أم مالك، أبو رسائل، الله يلعنه.
الشاحنة في نهاية الشارع، العجوز وهي تسقط أرضاً قذفتني بعكازها، عكازها وصلني بعد عقدٍ ونصف ليسقط عليّ بهيئة قذيفة في حربٍ لم نعرف من أين جاءتنا.
تمزق كلّ جسدي، اكتشفتُ بعد استيقاظي من القذيفة أن يدي اليمنى خسرتْ خنصرها وبنصرها، أخذوني عبر أنقاض الحارات إلى مستشفى بعيد، قال الطبيب بعد تضميد ثلاثة أرباعي:
ـــ صباح الغد سوف نبتر ساعدك الأيمن. العظم تفتت، جزء من اللحم طارت عنه، أعصاب كثيرة مقطوعة و…
حتى منتصف الليل وأنا أهذي وأتأمل يدي غير قادر على تحريكها:
ــــ إما أن أعيش كلّي أو أموت كلّي.
اقتربتْ الممرضة لتعبث بعامود السيروم، نظرتُ في وجهها، ياااه. حلوة كحارتنا القديمة:
ـــ هل تسمحين لي أن اكتب لك رسالة حب؟ هي أمنية رجل سوف يموت قريباً.
دمعتها بنت مراهقة وعينها شرفة، عجز لسانها عن الرد.
ـــ كتبتُ في حياتي رسائل حب للكثيرات بأسماء الآخرين، أشتهي الآن كتابة رسالة خاصة باسمي.
ـــ لن تموت (قالتْ وهي تمسح على جبيني، ليغني في قلبي قطرميز مكدوس لأمي نسيناه في بيتنا القديم، فحزنتْ لأجله أياماً) مستحيل أن تكتب بيدك أو تحركها.
توسلتُ لها أن تجلب ورقة وقلماً، استجابتْ لملامحي الشاحبة. أدخلتْ بلطف القلم بين أصابعي المضمدة، وتحت يدي بهدوء وضعتْ ورقة، ثم مضتْ.
بيدي اليسرى شبه السليمة، أشعلتُ سيجارة. من الشباك تأملتُ الليل، تأملني الليل ثمَّ ردد لي بصدى مزعج وهو يضحك: سوف تخذلك يدك، أبو رسائل.
أخذتُ آخر نفس من سيجارتي ومن الشباك بأصابعي قذفتُ الليل بها، ثمّ صرختُ بصوت عالٍ: (يالله) وانحنيت.
الكلمة الأولى، تحركتْ يدي اليمنى، أوجاع الأرض تعزف موسيقى غير منسجمة في كلّ جسدي.
دونما إصبعين دخلتُ في السطر الأول، تسعة صبيان يتسلقون على عجل شجرة الأكيدنيا، تسع بنات يسرعن إلى شرفاتهن، كلهم… معاً، يصرخون فيّ: اكتب، اكتب…
دخلتُ في السطر الثاني: أمي وخلفها عشرات المصلين في جامع في العالم الآخر، يلتفتون إليّ، هي وهم ــ من ورائها ــ بصوت واحد يصرخون فيّ: اكتب، اكتب…
دخلتُ في السطر الثالث، أبي وألف مخمورٍ في حانةٍ في العالم الآخر، وهم يترنحون يرفعون كؤوسهم ويصرخون فيّ: اكتب، اكتب…
دخلتُ في السطر الرابع، أنثى جميلة بثياب بيضاء تضمد ما تبقى من حياتي، تهمس لي: ولا مرّة كتب لي أحدهم، لهذا أنا قبيحة، اجعلني جميلة اكتب، اكتب…
دخلتُ في السطر الخامس، واحد وثلاثون شتاءً في حياتي يصرخون حولي كعواء ذئاب جريحة: اكتب، اكتب…
ودخلتُ في السطر السادس.
الصباح يقتحم الغرفة عبر شباكها، يقترب من يدي وقد نزفتْ كثيراً ثمّ يقبلها، كما يقبل حفيدٌ يد جده.
في نهاية السطر السادس من آخر رسالة حب لي، صار صباحي الأخير حفيداً شرعياً ليدي… ابتسمت.
دخلتْ الممرضة، تأملتني. بكتْ، أخذتْ الرسالة من بين أصابعي لتتأمل في سطورها القليلة، جمالها هي. جثتْ جانب السرير.
دخل الطبيب فأسرع إلى ساعدي، فحصه بسرعة ثمّ صاح مندهشاً:
ـــ حال يده صار أفضل، لم تعد بحاجة إلى بتر.
ـــ مات.
قالتْ له بقهر وهي تخفي دموعها خلف رسالتي.
بعد أن دفنتُ، كثرت الأحاديث همساً حول هذا الطبيب.
قالوا إنه قد جنًّ بسب الحرب وأهوالها، كان يحكي دائماً للجرحى، لمرافقيهم، للممرضين، للأطباء، للجدران، لأعمدة السّيروم: عن جريحٍ يعرفه جيداً، مات كله لكن يده ظلّت على قيد الحياة، ويقسم على هذا.
لا أحد صدّقه، سوى ممرضة وتلك العجوز التي تدخن بملل وتبيع الكعك جانب باب المستشفى، وكلما شاهدت طيفي على شاحنة تمرّ بها، تصرخ:
ـــ يا كلااااب، أعطوني سيجارة.
بواسطة Samer Ismail | مايو 17, 2018 | Culture, غير مصنف
لا تزال الحرب تُنبئ بتداعياتٍ كثيرة على مستوى الكتابة الجديدة في سورية، فمن (هجمة الستينيات) التسمية التي أطلقها الشاعر شوقي بغدادي على جيله في تصديره لأنطولوجيا الشعر السوري المعاصر، مروراً بـ(منعطف السبعينيات) المرحلة الأكثر تمرداً على القوالب الشعرية الجاهزة كما أطلق عليها الشاعر منذر مصري والذي أصدر في الحرب كتابه اللافت (لمن العالم- دار نينوى-2016)، وصولاً إلى شعراء الحرب في عامها الثامن، والانقسام الذي أصاب النخب الأدبية بين داخل وخارج، نلاحظ ثيمات جديدة لنصوص مفخخة حملت لعنة الاقتتال الدائر، مثلما حملت وزر أحلامها المنكوبة؛ فالشعر السوري المعاصر وجد انحساراً في السنوات الأخيرة، برأي الناقد جمال شحيّد الذي يرى أن “الرواية أخذت حيزاً كبيراً ومهماً في الثقافة العربية، حيث إن الانحسار الذي تم للشعر عوضت عنه الرواية ولو كان جزئياً؛ لكن موت الشعر في بعض البلدان الأوروبية والمجتمع الاستهلاكي لا يعني موته في بلداننا، فالشعر في سورية مازال إلى حد ما بخير رغم النكسة التي حصلت لهذا الفن الأدبي العظيم، علما بأن شعوب العالم الثالث بشكل عام تهتم بالشعر فكل شاب في مرحلة حياته وخاصة مرحلة المراهقة يكتب شعراً كون القصيدة في النهاية هي تعبير عن الحياة والإنسان، وبحاجة لأن يعبّر عن مشاعره وأحاسيسه فيبدأ بالشعر ويتركه عندما ينضج إذا أراد.”
الناقد (شحيّد) يقول: “شخصياً بتُ متأكداً من أن الحرب التي تمر بها سورية أنتجت شعراً جميلاً، فالشعر يصبح نشيطاً في الأزمات.” إلا أن الشاعر شوقي بغدادي له رأي مختلف في شعراء اليوم إذ يقول: “الشاعر الحقيقي هو الذي يموت إن لم يكتب، فالشِّعر نابع أولاً وأخيراً من المعاناة الشخصية للكاتب، وهذا ما لا أراه عموماً عند شعراء اليوم الذين يتشابهون في كتاباتهم وكأنهم يحبون امرأة واحدة أو كأنهم يكتبون دون أن يعيشوا ويعايشوا ما يؤلفونه من قصائد.”
الشعر العربي قديماً كان له مكان الصدارة لكنه اليوم للأسف يجلس في الصفوف الخلفية من المشهد الثقافي السوري -يُضيف بغدادي- فكون الشعر نابعاً من إصغاء الشاعر لصوته الداخلي هذا لا يعني أن تخلص قصيدة اليوم إلى نوع من الهوامات، بل يجب تكوين المناخ النفسي والعاطفي على أساس الصدق في القول الشعري، لا من باب التزيين والاحتفاء بالأفكار الكبيرة؛ بل بالتعويل على أهمية الشكل الفني وضرورته في إبداع النص الشعري المتوازن والمؤسس لإشراقات جديدة في القصيدة العربية المعاصرة.”
لم ينج الشعر والشعراء السوريون بطبيعة الحال مما ألم بالوطن برمته من كوارث. وكما انقسم الوطن إلى شظايا انقسم الشعر وشعراؤه إلى شظايا- يقول الشاعر تمام تلاوي المقيم حالياً في السعودية ويضيف: “ثمة شعراء وقفوا إلى جانب النظام، وآخرون وقفوا إلى جانب الحراك، وآخرون اختاروا الحياد، وثمة من آثر الصمت. وتبعاً لهذه المواقف جاءت أشعارهم، على أن هنالك من صمت عن قول الشعر ليس لأنه لا موقف له مما يحدث، وإنما لأن الكارثة لجمت لسانه. ولا ملام عليه، فمن يستطيع النطق أمام كارثة كهذه، سوى أشخاص لديهم قدرات استثنائية على الكلام، فكلما اتسعت الكارثة ضاقت العبارة.”
إننا نحتاج زمناً طويلاً حتى نستوعب هول الصدمة، نحتاج زمناً حتى نستطيع أن ننظر بعين شاعرية إلى هذا الخراب العميم وهذا الموت المجاني وهذا التشرد المليوني عبر الحدود والبحار، يستطرد الشاعر تلاوي الحائز على جائزة الشعراء الشباب في (دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008): “على المستوى الشخصي كان موقفي واضحاً منذ البداية مع التغيير السلمي ولاحقاً ضد السلاح وضد الأسلمة، لأنني أعتقد أن الموقف الأخلاقي والثقافي والوطني يجب ألا يكون منحازاً إلا لما يخدم مصلحة الوطن والتغيير نحو الأفضل بالوسائل الوطنية والسلمية، والتي لا تؤدي إلى مزيد من القتل والخراب، فكتبتُ قصائد عدة تتناول في الأساس البعد الإنساني لما آل إليه حال الإنسان السوري منذ آذار 2011، كما كتبتُ عن الموت وعن الهدم وعن التشرد وعن الشرخ الإنساني الذي جاء نتيجة للشرخ على المستوى الوطني.”
ثمة شعراء كثر تهجّروا في المنافي وكانوا في معظمهم مؤيدين للحراك، فكتبوا له وغنوا… ومنهم من التحق بالعمل الإعلامي أو الميداني، وهم شعراء مبدعون ومعروفون على نطاق واسع، بينما ظل معظم الشعراء المحايدين أو المؤيدين داخل سوريا- يضيف صاحب ديوان (تفسير جسمكِ في المعاجم): “ثمة شعراء استشهدوا بالقصف كالشاعر محمد وليد المصري، أو استشهدوا بسكين داعش كالشاعر بشير العاني، وشعراء آخرون اعتقلوا كالشاعر وائل سعد الدين الذي أفرج عنه بعد فترة طويلة من اعتقاله، وثمة شعراء هُجّروا من بيوتهم ومدنهم أو هربوا، وهؤلاء أسماؤهم لا حصر لها. الشعر السوري برأيي الشخصي حالياً يشبه مصائر هؤلاء الشعراء، فهو إما شاعرٌ مقتول أو أسير أو مهجّر أوهارب.”
الشِّعر يقود المرحلة
الشاعر زيد قطريب الذي أدار وأشرف في سنوات الحرب على ملتقى (ثلاثاء شّعر) في العاصمة السورية منتجاً عنها أنطولوجيا بعنوان: (شعراء تحت القصف) باللغتين العربية والألمانية له رأيٌ أقل تشاؤماً في هذا السياق إذ يقول: “نحن أمام انعطافة كبيرة على صعيد النص الشعري، سوف تتبلور لاحقاً لكن متى لا أحد يعرف بالضبط! هذا الأمر تؤكده الكثير من النصوص المكتوبة من قبل أجيال شعرية مختلفة، فالمسألة لا تتعلق بالشعراء الشباب كما يتخيل البعض. هذه الانعطافة لا يُقصد بها حضور ألفاظ الحرب وأسماء السلاح ومفردات الانفجارات وأصوات الرصاص، لأن حضور هذا المعجم أمر طبيعي ولا يمكن أن يعتبر انعطافة أو تجديداً. إنما هناك انعطافة كبيرة على صعيد المعنى والشكل في آن معاً، فهذه الحرب كانت مناسبة لاستيقاظ كل الأسئلة الفكرية والفلسفية المؤجلة منذ أمد بعيد، وهو ما أدى عملياً إلى استيقاظ أسئلة الشكل المتعلقة بأسلوب الكتابة الشعرية، ولنقل إن هناك علاقة جدلية بين الطرفين؛ بحيث لا خلاف على أسبقية المضمون على الشكل أو بالعكس، فكل واحد منهما يتسبب في إيقاظ الآخر. قريباً، ستودّع الكثير من الكتابات الشعرية معجمها المعروف والمستخدم حالياً وأقصد به اللغة العربية بشكلها الحالي في إشارة إلى تشكّل معجم جديد يفكُّ عقد التحالف الذي نشأ تاريخياً بين النص الغيبي الديني والنص السياسي الاستبدادي، وكل ذلك بفضل الحرب التي أعادت أسئلة الانتماء والهوية والثقافة والذائقة الجمالية إلى الواجهة.”
اليوم- كما يخبرنا الشاعر قطريب: “سيتولى الشِّعر قيادة المرحلة الجمالية والثقافية القادمة ليعيد صياغة الذهنية والمخيلة السورية التي رزحت طويلاً تحت الاحتلال العربي الإسلامي، والآن نحن أمام حركة تحرر كبيرة يقودها النص الشعري وهي تأتي تتمة لما فعله شعراء سوريون عظماء في التاريخ بدءاً من المتنبي والمعري وصولاً إلى السيّاب والملائكة والماغوط وأدونيس. تلك الحركات التي أسست بعامل التراكم الكثير من انتفاضة النص الشعري السوري وعودته إلى رشده إن صح التعبير، سوف تستكمل اليوم بما يكتبه الشعراء السوريون عبر نسف الشكل والمضمون المألوف والمستكين، إنها انتفاضة لا يمكن أن تحدث بنص واحد أو عبر شاعر واحد، بل قد نستطيع تسميتها بالحركة الشعرية التي تشبه ما فعلته مجلة شِّعر في ستينيات القرن الماضي، لكن الأسئلة اليوم أخطر والمعركة أشد مصيرية من ذي قبل، لكن ما هو مؤكد أن الشعر هو من سيقود مجد المرحلة المقبلة.”
صدرت مجموعات شعرية كثيرة في سنوات الحرب لكن أكثر الآراء النقدية التي تم تداولها بعد فورة الشعر السوري في الحرب الدائرة الآن بأنه لا أبوّة له أو أنه قتل آباءه وكأننا أمام رأي طه حسين بالشعر الجاهلي معتمداً على مقولة أبي عمرو بن العلاء “ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا” وبناء على هذه الجملة تم التشكيك بشعر امرئ القيس زعماً بأنه موضوع ومنحول؛ أما لدينا فقد حصل الأمر بشكل معاكس. يقول الشاعر باسم سليمان الذي أصدر خلال الحرب أكثر من كتاب شعري وروائي كان أهمها (تماماً قبلة): “الشعر ليس الهدف منه فنياً البتة بل سياسي، فالربيع العربي الذي أراد القطع مع الخطاب الثقافي السائد والمتماهي مع السلطة المثار عليها، ذهب مغترباً في وصف الجيل الشعري الذي نضج وأثمر خلال سنوات الصراع المستمرة، فوصفه بأنه جزيرة تنمو في وسط المحيط لها جملها واستعاراتها ومجازاتها الخاصة وكأن اللغة ولدت الآن لكن المدقق والمتابع بشكل فني بلا تأثر بتجاذبات الجهويات السياسية المتبناة، يستطيع أن يرى التأثير الواضح للأسماء الكبيرة في الشعر السوري على هذا الجيل واستنساخ تجربته وتطويرها، وهذا ليس عيباً، فأمير الشعراء وقف وبكى، وبالتمعّن أكثر يكتشف كيف تشتغل الآلة الثقافية السياسية في تعويم الأسماء وتوجيه الخطاب الشعري نحو سوق العرض للاستهلاك التطهيري وفق رؤية أرسطو، فالمنابر الثقافية ودور النشر والجوائز استقطبت خطاباً شعرياً جهوياً من الناحية السياسية دون غيره حتى لو كان أرفع فنياً وشعرياً، وخاصة بعدما حسمت الجهات الثقافية في المنطقة العربية خياراتها السياسية والتمويلية، هذا الأمر جعل الشِّعر السوري أعور مصاباً بالحول والضلالة الإبداعية.”
ليس ما سبق بهدف التقليل من المنجز الشعري السوري في سنوات الموت بل دفاعاً عن الجمال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التلوث الذي أصاب جوانب الحياة السورية كافة- يُعقب الشاعر باسم سليمان مضيفاً: “إن كان من ثورة نقدية مضادة تعيد الشعر السوري إلى ريادته لابد لها من أن تعترف بأن الشعرية السورية قبل الحرب وخلالها، سواء لناحية الإيجابيات أو السلبيات، كررت إنتاج ذات المناحي السيئة والترويج لها على أنها الخير الوفير في الشعر السوري الآن، فالقطيعة التي أُمل منها أن تحرِّر الشعر من تجاذبات الجهويات السياسية كي ينتصر لقيم الحق والجمال والخير، أكملت بنفس النسق الذي ثارت عليه، فالابن الشعري ارتدى جلباب الأب الشعري بل أصبح بطريركياً أكثر من الأب نفسه.”
أين الشعر؟ تتساءل الشاعرة السورية سوزان علي مردفةً: “عناوين كثيرة طُبِعت وتطبع منذ بداية المأساة السورية في الداخل والخارج، ومع إيماني العميق بأن الحرب بفوضاها وموتاها تجعلنا لا نرى، إلا أن النتاجات الشعرية فاقت أي إنتاج أدبي آخر، مع كل الغرق، مع كل الضبابية التي تحيط بالمشهد، هذا بلا شك ما تدل عليه أغلب النصوص الشعرية التي خلصت إليها السنوات السبع الأخيرة في سورية.”
الانطباعية تتجلى تعقب (علي)، وتضيف: “للحظة تشعر فيها أن الشاعر يرقب ما يجري في الشارع، ثم يبدأ بتدوين أحداثه داخل ورقة في جيبه. تأخذ رحى الحرب مفردات الشعر وتطحنها، لتجرّدها من كل ما ألفناه من الشِّعر السوري.
أين الكتاب؟ تتساءل الشاعرة سوزان علي مرةً أخرى وتقول: “وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحتفي باليومي، بـ(صباح الخير، بمقطع أعجبك، بأغنية اشتقتَ إليها)، هناك سؤال صغير فقط عليك أن تجيب عليه كل يوم: (بماذا تفكر الآن)؟
أو (ما هي حالتك الآن)؟ هل يستوعب هذا السؤال قصيدة جاءت بأكثر من عشرين سطراً؟ وهل يستوعب كتاب ذو صفحات بيضاء، نسخ حالتك الآنية تلك، وما الاستمرارية في نص صُممّ بنيانه بعيداً عن طبيعته؟ وإلى متى سيعيش هكذا نص؟
مجموعات كثيرة اطلعتُ عليها، وأعرف صفحات أصحابها مسبّقاً في العالم الافتراضي، كانت قد اقتطعت نصوصاً كثيرة لها من الفيس بوك لترميها بدون أدنى مسؤولية، ولتتنازع فوق روح البياض الورقي.”
أين الجمهور؟ سؤال ثالث توجهه الشاعرة سوزان علي وتجيب: “سبق أن استمعت إلى أحدهم في إحدى الأمسيات، لم تخن قصائده فقط جوهرها في كتاب، بل أيضاً في نطق وصوت الحروف من حنجرة الشاعر. مرة أخرى صفحات (الفيس بوك) تعرّي الشاعر فوق المنابر، فزرّ (أعجبني) غير موجود هنا للجمهور، وزر التعديل أيضاً لم يعد بالممكن استخدامه بالنسبة لشاعر الافتراضيات!”
الكارثة حدثت لنا في الموت، ولم يكن هناك من عمل يوازي هذا القتل- تشرح (علي) التي صدر لها كتاب شعري عن دار المتوسط بعنوان (المرأة التي فوق فمي) وتضيف: “لأننا في إثرهِ نمشي، نحن لم ننشف بعد، وإن نظرنا خلفنا لن نرى سوى ظلالاً تتكسر، وكما نضع كفاً فوق جبهتنا أثناء ظهيرة حادة لنرى بصعوبة، الشعر اليوم يكاد لا يُرى؛ بالمقابل هناك عناوين تمسك خيط الألم من بدايته قبل حتى أن تفتح الكتاب لتقرأ فهاهي (رصاصة فارغة-قبر مزدحم) مجموعة الشاعر السوري (وفائي ليلى- صادرة عن دار المتوسط عام 2015)، وهناك كتاب (بانوراما الموت والوحشة) للشاعرة رشا عمران الصادر عن دار نون في عام 2014 وهو نص مفتوح على عزلة ووحدة الشاعرة، تركت صفحاتها بلا عناوين، كأنها جرح لا يتوقف عن السؤال والضياع، جرح تفاصيلها اليومية، التي باتت تتكلم أيضاً مع الشاعرة عن تلك الفوضى.”
مجموعات أخرى صدرت في الحرب كان انشغالها بالذاتية وسجنها أيضا عنواناً لها، موت تدور حلقاته بسرعة مع الأنا وللأنا، وكأننا لا نقرأ سوى تجربة يومية تشاهد الآني وتبعد الخيال عن ساحة شعورها، فتفضّل أن تسقي زهور الشرفة وتراقب السماء و تذهب في نزهة إلى البحر، إننا أمام حدث عائلي أو شخصي، في (رفات فراشة) المجموعة الشعرية الصادرة عن (دار التكوين) للشاعرة خلود شرف، والتي لم ينقذها الرمز أحياناً والتجريد أحياناً أخرى من الوقوع في مطبات التكرار وصياغة مفردات تتوهج كحلي فوق السطور (كلا إن الشعر لا يلفظ أنفاسه الأخيرة- تضيف سوزان علي: “إنه يعطي الانطباع بأنه متعب حقاً كما وصّف الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث) يوماً حال الشعر، فالبلاد متعبة أيضاً، حيث القبور مفتوحة سلفاً، والغبار غداً سيكون سميكاً فوق الكتب، الوقت يترنح في ظلِّه، والشِّعر ينتظر طارقاً جديداً يقوده إلى العماء الأول، صافياً عذباً كما كان.”
بواسطة Jamal Saeed | مايو 15, 2018 | Culture, Roundtables, غير مصنف
جدي يضحك كثيراً.
قلت لجدي: “البلبل هو الطائر الذي تراه في المساء عندما تكون مع أمّك على الدرب” ضحك، وضمني…
كان جدي يضحك ويضمني، عندما أقول أشياء كهذه.
***
لم أعد قادراً على أن أعرف البلبل بالطريقة القديمة نفسها، صرت كبيراً وأتيت مع الكثيرين ـ الذين كبروا أيضاً ـ إلى دمشق.
ذات مساء دمشقي، عدتُ إلى غرفتي، فعلت ما يفعلُه الآخرون تماماً: وضعتُ المفتاحَ في القفل، وأدرتُه، لم تكن غرفتي كعادتها؛ كانت تضم ستة رجال لم أر ملامحهم من قبل، خمسةٌ يحملون بنادق، وسادسهم يحمل مسدساً. ستُّ فوّهات، لو خرجت من أي فوهة رصاصة واحدة لسال دم… ولـ…
طلبوا مني أن أديرَ وجهي إلى الحائط، وأن أرفعَ يديَّ. كانت كتبي وثيابي مبعثرةً على الأرض. انتبهتُ إلى أن القميص السماوي الذي أهدتني إياه ليلى مرمي، وأني أدوسه بقدمي، حاولت أن أبعدَ قدمي عن القميص، ركلني أحدهم، أثناء استجابتي لركلته أزحت قدمي عن القميص. قلت إنّ ليلى لن تؤاخذني، فهي تعلم أني وضعتُ حِذائي على القميص مرغماً، وها قد أزحتُها. لكني لم أعرف: ما الذي يحدثُ في غرفتي. خطر لي أنني أرتدي القميص السماوي، وأن فوهة قد أطلقتِ النار، رأيت كيف يسيل الدّمُ، ويلوّن زرقة القميص. طلبوا مني أن أدلَّهم على المكان الذي أضع فيه السكر والشاي، قلت لهم إنني مستعد لأن أصنع لهم الشاي بنفسي، وأقدمه لهم، رفضوا، سألتهم: “من أنتم؟” قال حامل المسدس: “اخرس!” صمتُّ. وتابعتُ تصور مشهد موتي: أيُّ لغزٍ مربك سيكون موتي بطلق ناري… ليتني أعرف شيئاً قبل أن… أين سأقع؟ صارت عيناي تبحثان في المساحة التي يمكن أن ترياها من أرض الغرفة، وفجأة أيقظني موتُ الأميرة من موتي. رأيتُ الأميرة مرميةً على الأرض وقد تحوّلت إلى أشلاء، أحزنني ذلك كثيراً، رأيت كيف أن حذاءً قد هشّم فمها، لا أدري لماذا شعرت أنه يدوس على فمي! لأقل أنني أحسست بوقع الحذاء في المكان الذي أضع فيه فمي أما ثقوبها فقد صارت أقواساً بعد أن تحطم جسدها! أجبرني الرجال الستة على الذهاب معهم، لم أعد أذكر إلا مشهد الأميرة المرمية. وحيدة بقيت بين أشياء مبعثرة على أرض غرفتي، التي لم أزرها بعد ذلك اليوم أبداً.
***
في مساء خريفي ـ يبدو أنه موغل في القدم أحياناً، ويبدو وكأنه مساءُ البارحة في أحيان أخرى ـ كنت أمشي وراء أمي على درب ريفي ضيق، صرخت فجأة: “أمّي… انظري، إنه عصفورٌ حلو… حلوٌ كثيراً!” قالت أمي ببرود لا يليق بجمال ريشه ولا باشتعال دمي: “إنه بلبل“.
كان الطائر يحط على غصن شجرة زعرور. ركضت باتجاهه حاملاً إعجابي ودهشتي، لكنه طار قبل أن أصل إليه ـ منذ ذلك اليوم وأنا أشعر أن ما يثير دهشتي وإعجابي يطير قبل أن أصل.
ـ أمي، أنا أحببتُه. لماذا هرب مني؟ أين سيذهب؟
طلبت أمي أن لا أثرثر! لم أكن أثرثر، كنت أسألها من أعماق روحي. طارت عيناي وراء الطائر، ورأيتهُ وهو يحطُّ في غابة القصب القريبة، انحنى رأس قصبة وهو يحط فوقها. كانت باقي القصبات تلوّح بأيديها مرحبة بالطائر الحلو.
قلت لجدي: لقد حطّ البلبل على رأس أميرة غابة القصب، انتقى الأميرة أليس كذلك؟
ضحك جدي، كان جدي يضحك كثيراً. قال لي: إنها الأميرة طبعاً.
***
أمي تضرب، تضربني إذا خالفت أمراً لها…
قالت لي: لا تدخل غابة القصب، وقالت لي: فيها ثعابين، ولدغة الثعبان تميت، وقالت: القصب يجرح مثل السكين، هنالك عقارب أيضاً. صار دخول الغابة يلغ في دمي، ففي الغابة عصفور حلو… وأميرة، ثم أن الغابة محرمة وهذا يكفي لملئها بالأسرار! دخلت غابة القصب المحرمة في ظهيرة من ذلك الخريف البعيد، متحدياً تحذيرات أمي، راغباً في التعرف على أميرة الغابة، كنت أريد أن أقول للبلبل: أنا أحبك. والله العظيم أحبك، فلماذا فررت؟
عبثاً بحثت عيناي في السماء القريبة! بدت عصافير الدوري تافهة لا قيمة لها، ولم يدهشني طيرانُها. كنت أبحث عن ذلك الملوّن الحلو…
تبدو الغابة من بعيد أكثر جمالاً مما هي عليه وأنت في داخلها. لا أسرار تراها عيناك، سوق متشابهة متكررة… ليس هناك بساط أخضر، كالذي تحمله القصبات على رؤوسها وتنشره في الهواء. لا شيء غامضاً يستحق الاكتشاف.
بعد أن يئست من رؤية الطائر ومللت، بدأت أبحث عن الأميرة، لا أدري بأية لغة أقنعتني إحدى القصبات بأنها الأميرة، لكنني صدقتها وفرحت، وصار لدخولي إلى الغابة معنى. لعلّي كنت أبحث عن هذا المعنى!
أيقنت أنها الأميرة، قطعتها بالسكين التي سرقتها من المطبخ، وجررتها معي إلى البيت، محولاً إياها إلى حصان له ذيل أخضر، يكنس الطريق، ويثير الغبار.
ضربتني أمي لأنها بحثت طويلاً عن سكين المطبخ، ولأني جرحت يدي ـ كان جرحاً صغيراً، ولم ينزف إلا القليل من الدم الذي تيبس فوق جسد الأميرة، وضربتني لأني خالفت أوامرها ودخلت غابة محرمة علي؛ لكنها لم تؤذ الأميرة. قال جدي بصوت غاضب: لماذا تضربينه؟ بدأت أمي تشرح له بصوت عالٍ، ولكنها كفت عن الضرب. عرفت أن جدي يغضب أحياناً ولكن جدي يضحك، يضحك كثيراً. ضحك عندما قلت له إنني أحضرت أميرة غابة القصب معي، وضحك عندما أكدت له أنها الأميرة لأن البلبل حط على رأسها، وضحك عندما سألته: “أين ذهب البلبل؟” وقال لي إنه سيعود.
ـ متى؟
ـ بعد قليل!
وقال لي: “سأصنع لك شبّابة عندما تتيبس القصبة” وأردف ضاحكاً: “أقصد الأميرة.”
***
أمسك جدي بالقصبة، خلصها من أوراقها التي تيبست، أمرني بإحضار الحطب، أشعل ناراً، أحضر سيخاً من الحديد، وضعه في قلب النار، بسهولة صنع لي شبابة. بعدئذ تغيرت ملامحه، بدا وكأنه يصلي صلاة غريبة، كان يحدق في جسد الأميرة، يحركه بين أصابعه بحنان، بدت أصابعه مختلفة، كانت ترتجف رجفاناً لا يرى، رجفاناً من داخلها، وكان وجهه متأملاً غائباً، والأميرة بين يديه مطواعة هادئة.
اقتطع قطعة ونظر إليها ملياً، وبدأ يقيس بأصابعه. بعدها أخذ سيخ الحديد المحمر من النار وبدأ يضع ثقوباً على جسد الأميرة، كانت النار ترقص وتلوّن وجه جدي تبعاً لرقصتها، ويد جدي تهتز قليلاً.
بدا لي ذلك طقساً غريباً، وسيطر عليّ خشوع لا أعرف كنهه.
بعد أن انتهى جدي من تشكيل جسدها كما يرغب، نهض بهدوء، وبدا قلقاً بعض الشيء! وفي المساء، رفع جدي كأس الخمر الذي اعتاد أن يشرب نِصفَه كل يوم، ودلقه في فم الأميرة، ثم صبّ لنفسه نصف كأس جديد. بهدوء رفع الأميرة بين يديه، وبدأ ينفخ في فمها… كان الصوت ساحراً.
اعتقدت أن جدي خدعني! أخذ جسد الأميرة الفعلي، وترك لي شبّابة تافهة. قلت لجدي: “الأميرة هي التي تركتها لنفسك! ضحك جدي! قلت له: أريد هذه. وأشرت بإصبعي إلى الناي التي صنعها. ضحك ومدها صوبي. استغربت أن يتخلى عنها بكل تلك البساطة!
***
لم تكن أصابعي قادرة على أن تتباعد وتغطي ثقوب الناي، تعبت حتى تعلمت كيف أُصدر صوتاً. سألت جدي: لماذا باعدت الثقوب هكذا. ضحك جدي وقال: ستعرف عندما تكبر.
ـ ومتى سأكبر؟
ـ بعد قليل… لا تستعجل!
مضى “القليل” الذي تحدث عنه جدي، وكبرت! ـ ليتني لم أفعل ـ صارت أصابعي تغطي ثقوب الناي. كانت أمي تحتج على الصفير الذي أحدثه، لم أكن وقتها أعرف كيف أتحدث مع الأميرات، كنت أنفخ بغلظة، وكانت الأميرة تحتج وتتوجع، لم أكن أعرف كيف أهمس روحي في فم الأميرة لتقول شيئاً حلواً! مراراً كانت أمي تهددني بتحطيم الأميرة فوق رأسي إذا لم أكف عن الصفير.
***
بعد أن دربتني الأميرة على الحديث معها، رفعت فم الأميرة إلى فمي ذات مساء صيفي، وبدأنا نحدّث أمي عن مساء مشيناه معاً، عن بلبل حلو وشجرة زعرور قرب درب ريفي، عن الولد الذي كنته. عن أشياء تعرفها أمي… وعندما أنزلت فم الناي عن فمي، قالت أمي: “اعزف أيضاً. هذا العزف يدخل إلى القلب!” فرحت لأن أمي لم تعد تقل لي: “كف عن الصفير!”
أنا والأميرة أخبرنا أمي حكاية عنها، حكاية تعرفها كثيراً، أشياء تستوطنها بطريقة ما. أحبتها أمي دون أن تعرف ما هي بالضبط، شيء كسر مفضوح، يبقى سراً ويبقى مباحاً! هذا ما تعلمنا قوله أنا والأميرة.
***
قالت لي ليلى، وعيناها تتجنبان النظر في عيني: “أظن… أننا… أقصد أن أقول... أعتقد… ربما كان من الأفضل… أن نفترق!.”
غضبت، سألت مرتجفاً: “لماذا؟” كان قلبي صدىً لسؤالي، وسؤالي لم يكن يعني إلا شيئاً واحداً: أنا أشتعل حباً فكيف يمكن أن يخطر لك أن نفترق. لم أقدر وقتها على أن أفهم أن ليلى كائن آخر له جسده وروحه، وله الحق في التصرف بهما!
تركتني ليلى، وصار قلبي يرتجف كعصفور مذبوح ومجنون! بدا العالم غير قابل لأن يُفهم. أخذت الأميرة معي، وذهبنا معاً وراء خطواتي، قادتني خطواتي إلى غابة سنديان، تطل على نهر صغير. كانت روحي تحمحم بوجع: “ليلى ليلى لمَ شبقتني*.“
جلست على صخرة، صرت أقول للناي أسئلتي ووجعي، وصارت تنشر في الفضاء القريب أوجاع مراهق بريء عذب. من ثقوب الناي خرج آلهة طيبون، تجمّعوا تحت أشجار السنديان، أتوا يحملون نبيذاً معتقاً هناك في السموات البعيدة حيث يقطنون، ربما كانوا يقصدون النهر القريب للاستحمام، تحلقوا حول الصخرة، واقترب كبيرهم مني، ودموعه النورانية تنساب فوق لحيته القدسية، قال لي: يا لقلبك! إنه يستحق فرحاً وسع السماوات والأرض! وقال لي وهو يصغي إلى الناي: صدقت. صدقت يا بني، أصعب من الألم بكثير أن تتألم وحيداً! ركعوا عند أقدام الصخرة، وقفوا، ثم ربت كبيرهم على شعري، فأزلت الناي بخشوع عن فمي، لم يعد هناك سنديان أو صخرة أو مساء! يد إله حنون تربت برقة الآلهة على كتفي! بدأت أبكي… وبعد قليل بحثت عنهم… وأدركت أن العين لا تستطيع رؤيتهم لأنهم خرجوا من ثقوب الناي وانتشروا هناك في فضاء غابة السنديان. وكثيراً ما أحس بهم عندما أذهب إلى هناك… حيث زرعتهم.
***
لم أصبح موسيقياً شهيراً.
لم يجر معي أيّ صحفي مقابلة لأقول له إنني لا أحب العزف على النوطة، فسطورها مثل قضبان السجن، لا تستطيع الروح أن تتخطاها، ولم أقل لأحد أن الناي هي أفضل بكثير من الآلات الوترية كلها، لأن الناي تقبل أن تسكب فيها روحك مباشرة والآلات الوترية تحتاج إلى وسيط كالأنامل والريشة، حيث يضيع شيء من الروح…
كل ما كان يقال لي: “اعزف لنا” فأوافق عندما يأتي اللحن، واللحن يأتي هكذا فجأة، يأتي دون أن يستأذن أو أن يطلب منه القدوم. ولم أكن أرغب في أن أدونه على “نوطة” كنت أوزعه في المساحة الواسعة، يخرج مثلاً من نافذة الغرفة التي استأجرتها ويتمشى في سماء المدينة.
في الغرفة التي استأجرتها، وضعت رفاً صغيراً، ووضعت فوقه قطعة من الحرير الفيروزي، وأمسكت الناي وقلت لها: “هذا سريرك“. فوق ذلك السرير كانت تنام الأميرة إلى أن يوقظنا اللحن معاً! كانت تستيقظ وتقول شيئاً حلواً ثم تعود إلى سريرها!
***
منذ زمن بعيد غادرت تلك الغرفة، وتركت الأميرة مهشمة في أرضها وقد أُنزلت من سريرها عنوةً! تساءلت كثيراً عن مصيرها، لم أستطع أن أقول لنفسي أن أصحاب البيت كنسوها ورموها في سلة المهملات، وبعدها انتقلت إلى إحدى سيارات القمامة. يحزنني أن أصدّق ذلك وكعزاء كنت أقول: كم من الورود الجميلة تنتهي إلى بطون تلك السيارات.
حاولت وفشلت في أن أعود إلى غابة القصب وأنتقي أميرتها الجديدة. لم أعد قادراً على أن أمشي مع أمي مساءً وأرى طائراً مدهشاً ولم يعد جدي حياً. لو كان حياً لسألته: كيف يمكنني أن أصادف أميرة مرة أخرى؟ هل سيضحك جدي الذي كان يضحك. يضحك كثيراً…
*ورد في إنجيل متى / الإصحاح 27، الآية 46 على لسان السيد المسيح وهو على صليبه “إيلي، إيلي لمَ شبقتني“، أي إلهي إلهي لماذا تخليت عني.
بواسطة Mouaz Laham | مايو 11, 2018 | Culture, غير مصنف
إن ما يفصلنا عن صراخكِ الجوفيّ هو هذا: اللاشيء. عندما تكونين وحيدةً وسماؤكِ بلون الخيبة، عندما يعيدُ صوتكِ الجوابَ كاملاً عن أسئلةٍ بلاصوت، عندما تكذبُ عيناكِ الكحليتان على الطريق الذي يؤدي إلى اللا مكان. عندها، فقط، يغدو اللاشيء خيطٌاً يربطكِ بالعالم، وريحاً لا تُرى، لكنها تعبقُ بالكلمات، تهزُّ الخيطَ فتولدُ موسيقا تهجم موجةً في إثر موجة. ونغدو نحنُ، مشاهديكِ، مشاركيكِ الفعل، لا يفصلنا شيءٌ عن تدفقكِ الذي ترميه في وجوهنا، ونصبح جزءاً من همسكِ، ضحككِ، بكائكِ، رقصكِ وغروبكِ الذي يموت الآن ويولد حجراً فوق مياهنا الساكنة. وتصبح أجوبتكِ هي الأسئلة التي تطرحها الورقة على المهب، سقوط المهبّ ذاته في التجربة التي تعني: كم أنتِ كثيرةٌ في وحدتكِ التي تشخصينها كتمثالٍ حي يصرخ ويحاور أشياءه: مرآته، سريره، ثيابه، أدوات زينته وتفاصيل وحدته ذاتها، فتبدو الأشياء وقد تأنسنت واحتفظت بروحها إلى الأبد، في وقتٍ يكاد يكون الإنسان نفسه شيئاً.
ذلك ما يقوله “كحل عربي”، مونودراما الحجرة للشاعرة سوزان علي، الذي شخصته بتوتر خلّاق الممثلة روجينا رحمون، في محاولة لنقل المسرح إلى فضاء آخر، فضاء مغلق من حيث الحيز لكنه مفتوح على احتمالات عالية من الشعور والتأثير والتلقي.
هنا لن نشاهد خشبة، لن نشاهد التدرج المنظوري للمقاعد التي تعلوها الرؤوس ولا يحجبنا عن الفعل أية ستارة. سنكون ضمن الفضاء ذاته نتلقى الكلمات والانفعالات وكأنها فينا. ذلك ما يفرضه البقاء لصقاً مع نفَس الممثلة وأدق سكناتها. وكل ما يمثله الديكور هو غرفة مستطيلة، مقعدان بلا مساند ظهر، طربيزة، برواظ خشبي فارغ يمثل التلفزيون، برواظ آخر يمثل مرآة بلا مرآة، خزانة تبدو كحقيبة كبيرة، سرير وحده أخذ شكله الكامل لكنه مملوء بالفراغ، وحنفية ماء لا تتوقف عن التنقيط. هل بقي شيء من العناصر؟ نعم. بقي هناك خمسون مشاهداً وجهاً لوجه مع الممثلة وكل هذا الهذيان.
“لما بتصير حيطان البيت من لحم ودم، وبيصير للذاكرة إبرة وخيطان”
بهذه الجملة يوسم بروشور العرض، وكأنه باقتضابه يلخص ما فعلته تلك المرأة الوحيدة المصابة بالخيبة، خيبتها من الزمن الذي غيب والديها، خيبتها من حبيبها الذي هجرها، ويبرز الفقد وكأنه الموضوع الأساسي للعرض، عاكسةً بذلك صورة لكل السوريين الذين عانوا بمجملهم فقداً من نوع ما، وتغدو وحيدة بشكل لا يطاق فتقرر السفر، وهنا يبدأ ذلك الحوار مع ذاتها وأشيائها، الحوار الذي نكتشف من خلاله مأساتها الحية.
ويبدأ العرض برسم لوحات وتعليقها في براويظ فارغة معدة لاستقبال فقد ما. برسمها للوحات سريعة وآنية ومنقولة عن جسدها ، تحاول الممثلة نقل أجزاء من جسدها على الورق بالنظر إليه ورسمه، إلا أننا نكتشف أن ما قامت برسمه هو شيء مختلف: بيت، شجر، طفل وكأنها ذاتها الأشياء المفقودة، مؤكدةً على أنها جزءٌ من ذاتها أيضاً. وتبدأ بعد ذلك بإسقاط حزنها على الأشياء، فتحاور التلفزيون محملةً إياه سبب نقل خبر وفاة والديها بانفجار، وتصرعلى عدم أخذه معها عندما تسافر، تحاور المرآة متذكرة لحظات عشقها لـ”رامي”، الذي نفهم بأنه كان رساماً في بداياته وأنها كانت ملهمته “لهديك الفترة بس” وهجرها ليحب فتاة أخرى. في هذا الجزء المحوري من العرض تعيش المرأة أقسى تناقضاتها بين الرقص ووضع المكياج ويأخذ الكحل العربي دلالته من خلال تلطيخه عيني المرأة “لأنه يخفي الدموع” إلا أن الدموع رغم الكحل تخرج مصرةً على الهطول. تحاور حنفية الماء، ربما لأنها تثرثر باستمرار ولم تصلحها عن عمد لحاجتها للصوت. تهاجم السرير الذي تحلم أن يضمها بكثير من الحنان مع حبيبها المفقود أيضاً، تحاور ثيابها وخزانتها ودائماً تسأل “بدكن تروحو معي؟” لوين؟” هذا السؤال برز بشكله الحاد عندما سألت ثيابها السوداء، وكل ثيابها سوداء بدءاً من الفستان الذي ترتديه إلى الثياب الأخرى، عاكسةً تلك الحالة من انسداد الأفق، الأفق الأسود بطبيعة الحال.
هذا التناقض الذي تعيشه المرأة في لحظات يومها، يتكثف أيضاً في قرارها بالسفر. فنحن نفهم أننا أمام امرأة على وشك السفر. لكن ماذا عن التعلق بالأسماء وبالصور وبالأشياء حتى لو كرهتها، وبالذاكرة. ماذا تفعل بذاكرتها، بذاكرة الأشياء نفسها؟ هل تسافر؟ إن اللحظة التي انتهى عندها العرض تبدو غائمة إذ يوحي بقاؤها تحت قطرات الماء أنها باقية. ومن جهة أخرى يظهر مزيج الأصوات المختلطة بأنها سافرت. ويبقى التناقض في اتخاذ القرار وتضادات الرغبة هو الواضح أمامنا وعلى بساط الغرفة.
إن ما شاهدناه من نقل المسرح بكل عناصره إلى الغرفة، ومناقشة حالة الفقد التي نعيشها، هو محاولة لتأكيد الحضور وإيجاد فضاء بديل وفتح مسارات أخرى للمسرح لمواكبة حالات فنية وإبداعية جديدة .
كحل عربي
تأليف وإخراج: سوزان علي
تمثيل: روجينا رحمون
تصميم الإضاءة: أدهم سفر
سينوغرافيا: سها علي
موسيقا: جمال تركماني
مدير الإنتاج: رامي سمان
مكان العرض: غاليري مصطفى علي، دمشق.
بواسطة Zeina Hamwi | مايو 2, 2018 | Culture, Roundtables, غير مصنف
لا فائدة! أخبار الموت والجوع والدمار تتكرر منذ خمس سنوات. مفردات الصحف في الحروب معروفة ومحدودة: “غارة، قذيفة، هدنة، انفجار، قتلى وجرحى، مفاوضات، طائرات، فشل، مساعٍ دولية، ضحايا….” تُضيفُ إليها كلّ بلد ابتكاراتها المحليّة الخاصة من أسماء الأسلحة المُستحدثة وألقاب المُتصارعين والتقسيمات الجديدة للمناطق وغيرها.
قبل الحرب كنتُ أحرص على جلب وأرشفة الأعداد التي تروقُ لي والتي تنشر ما أحبّ الاحتفاظ به والعودة إليه: ملفٌّ عن موضوع يهمني، إحياءُ ذكرى سنوية لشاعرٍ أو كاتبٍ أُحبّه، مراجعةٌ لكتاب ثمين، افتتاحيةٌ مميزة أو مقالٌ صحفيٌّ لافت.
أما اليوم فلم أعد مهتمّة بالاحتفاظ بها. الحربُ علّمتني أصلاً ألّا جدوى من الاحتفاظ بشيء مادّي. في ظروف النزوح والهرب المتواصل لا نحملُ معنا إِلَّا ما نحفظه في عقولنا وقلوبنا. وكل شيء آخر هو إما ضائع أو مسروق أو متروك أو محروق أو فانٍ.
كَوَّرتُ الجرائدَ بنَزَقٍ وتوتّر غير آبهةٍ بالمقالات والعناوين التي لم أمرّ عليها. ألقيتُ بها في حاوية المطبخ. قبّلتُ أمي الواقفة أمام حوض الجلي قبلةً طويلة ووعدتُها ألّا أبتعدَ أو أتأخّر. وخرجتُ من البيت.
لم أشعر بشيء ولم أنتبه لفقدانِ حقيبة يدي إِلَّا عندما رأيتُه يتأبّطها وهو يركض أمامي بخفّة نشّال محترف.
ركضتُ خلفه وأمسكتُه بسهولة. كان ولداً في حوالي العاشرة، بهيئة عادية، لا رثاثة فيها ولا رائحة تسوّل.
واجهتُه وأنا أمدُّ يدي صوب الحقيبة:
“هاتِها، لن تجد فيها ما تحتاجه. لا أحملُ محفظة نقود، ليس عندي إِلَّا محفظة قُبَل.”
اتسعتْ عينا الصبي وافترضتُ أنه سيستفسر، فبادرتُه سريعاً لأحدّثه برغبةٍ ومتعة عن هوايتي الوحيدة:
“أنا لا أؤمن بفكرة حفظ النقود، أنا أحفظُ القُبَل. أجمعُها في أيّ محفظة متعددة الجيوب؛ ستجدُ في الجَيب الداخلي قُبَلاً من فئة الـ (وسط) وهي القُبَل التي نتبادلها مع المعارف العاديين في المناسبات الرسمية والمباركات والأفراح والتعازي. ورغم أنها تتفاوت في قيمتها وأهميتها إلا أنني أجمعها في جيبٍ واحد لأن فرز هذا النوع من القبل مُربِكٌ وصعب.
وستجد في جيب آخر قُبَلاً من فئة الـ (هامّ) وهي القُبَل التي نتبادلها مع الأصدقاء والمقرّبين في لحظاتٍ شتّى: شوق، لقاء بعد غياب، دفقة عاطفية طارئة، وغير ذلك. هذه المجموعة أربطها بعناق من النوع المطاط. فالعناقات هنا جزءٌ أساسي من القبلات لا تكتمل ولا تطيب إن غابتْ عنها.
ستجدُ أيضاً مجموعة خاصة من القُبَل تمّ تغليفها بورقٍ لاصقٍ شفاف، هذه قُبَل المهاجرين والراحلين والمتوفين، هي قبلاتٌ توقّفَ التعاملُ بها وأصبحتْ قبلاتٍ نادرة، لذا أشمّسها وأيبّسها ثم أجلّدها بما يحفظها من الرطوبة والنسيان، فكلمّا طال الوقت كلّما ارتفعتْ قيمتُها وزادتْ غلاوتها.
أما في السحّاب الخلفي للمحفظة فستجد مجموعة هائلة من القُبَل الصغيرة، (فراطة) يعني. هذه قبلات يومية أتبادلها مع أفراد أسرتي وتترافق عادةً مع: صباح الخير، تصبحون على خير، نعيماً، شكراً وهكذا… ورغم أنها كثيرة ومتوافرة إِلَّا أنها ضرورية، ضرورية جداً، لا أستطيع التحرّك بدونها.”
أخذتُ نفساً عميقاً كي أبدأ بشرح الجزء الثاني من هوايتي الذي يتحدث عن (قواعد التخزين ومحاذير غسيل القُبَل) لولا أنني لمحتُ في عيني الصبي دمعةً كبيرة قَبْلَ أن يصرخَ بي:
“أعرف، أعرفُ كل شيء عن قبلاتك ومحفظتك وهوايتك، وأنا هنا لأجل ذلك. لقد جمعتُ حتى الآن مئة وخمسين محفظةَ قُبَل من حقائب وبيوت الناس الرافضة للحرب. بعضها سرقته، والبعض الآخر حصلتُ عليه كتبّرع من أصحابه لدعم الخطة”.
سألتُه بخجلٍ وذهول:
-أي خطّة؟
-خطّة أطفال سوريا. لقد اتفقنا على أن نجمع أكبر عدد ممكن من القُبَل والعناقات، سنحشو بها البراميل وجرات الغاز ومدافع جهنم وسنطلقها على كلّ المدن والقرى المحتاجة، وسنـ…
-لا تُكمِل، خذ المحفظة والحقيبة كلّها، سأستردُّ فقط المجموعة المغلّفة الخاصة بالراحلين لأن تعويضها مستحيل، وسيتكفّل الأهل والأصدقاء بتعويضي عن الفئات الأخرى، سأرسلُ لك أيضاً كلّ ما أستطيع جمعه من قُبلات حتى يحين موعد الخطة. رجائي الوحيد أن تتصل بي وتخبرني بما يستجدّ.
زوّدتُ الصبي بقبلتين إضافيتين على خدّه وجبينه، ودّعتُه بعناقٍ طويل ثم عدتُ إلى بيتي سعيدةً ومتفائلةً بخطّة القُبَل.
بعد أيام اتصل بي، كان صوته ضعيفاً وبعيداً ومكسوراً:
-أردتُ فقط أن أطمئنكِ عليّ. أنا بخير. لكنني خارج سوريا مع مجموعة من الأطفال وقد لا نعودُ أبداً.
اهتزّ قلبي مُتَنَبِّئاً بخبرٍ تعيس:
-لماذا؟ ألم تنفّذوا الخطة؟
-بلى، نفّذناها. وأطلقنا آلاف القُبَل صوب معظم الأماكن المشتعلة بالخوف والكراهية، لكننا الآن ملاحقون ومطلوبون من كلّ الأطراف، يقولون إننا أفسدنا مساعيهم وأفشلنا كلّ شيء حتى المباحثات الدولية، لذا قرّرنا أن نهرب.
-لم أفهم، ماذا حدث؟
-الهدنة، لقد اتهمونا بخرق الهدنة.
بواسطة Salon Syria Team | مايو 2, 2018 | Culture, Roundtables, غير مصنف
مقدمة
تركت الحرب بصمتها على كل شيء في سوريا بما فيه الآداب والفنون، وكانت القصة القصيرة أحد الأنواع الأدبية التي عايشت الحرب وعبّرت عنها بطرق مختلفة، فهناك كتاب استلهموا شخصيات وأحداث قصصهم منها، وآخرون قاربوها بشكل غير مباشر وثمة من أعاد خلقها في جو آخر تعاني فيه الشخصيات أو تتحدث وتهمس مولدة الدفء والأمل وسط تقوض الحلم، وثمة من جرّبوا فنياً ووصلوا لنتائج وآخرون كرروا النماذج التقليدية لكن يبقى وسط كل هذا ما هو غير قابل للمساومة، أي البناء الفني للقصة، والذي هو المعيار، فالأحداث تأتي وتذهب، وليس المهم أن يعكس الكاتب الحدث أو يصوره بل المهم هو إعادة خلقه من منظور جديد، وهكذا فإن القصة تصمد لا لأنها تتحدث عن الحرب بل لأن الحرب تتحدث من خلالها وتتكشف وتتعرى فيما تنفتح نوافذ أخرى للأمل خارج صور الدمار واليأس. فالأدب لا يرتبط في النهاية إلا بأدبيته، وما يعرّف النص الفني ليس حديثه عن حرب أو تشبعه بتفاصيلها وإنما عمق أسلوبه الفني وعمق نظرته إلى الواقع وعمق ابتكاره لواقع فني، حيث كما هو معروف في الأدب يبتكر كل كاتب عالمه الخيالي الخاص كي يقول كلمته أو يوحي بفكرته فيما يهدف إلى إغناء حساسية القارئ وتطوير ذائقته ومساعدته على مقاربة الواقع من منظور جديد.
إن الأدب الحقيقي يساعدنا على قراءة الأحداث بطريقة مختلفة عن القراءات المدبرة، ويعمّق وعينا بالمأساة، ويفتح لنا أبواب ما هو غير معبر عنه، وهو يهدف أيضاً إلى تعرية طبقات السرد التي صادرت خطاب الحرب وقدمته مغلفاً برؤى محدودة، لا تتغلغل إلى العمق الإنساني، إلى حيث يمكن أن نرى الأمور خارج المسبقات والتحيزات والتحزبات، حيث يعنينا مصير الإنسان في مواجهة الأحداث الكبرى التي تهدد وجوده، والحرب إحداها، وحيث من الجوهري أن نطرح أسئلتنا حول ما يجري وإلى أين تقودنا الأحداث.
وعلى مستوى آخر تشهد القصة القصيرة السورية تراجعاً ملحوظاً على مستوى النشر والتوزيع وتكاد تختفي مع الشعر عن قائمة اهتمام الناشرين رغم أهميتها، وكونها أكثر تكثيفاً وتنجو من السرد الأفقي والحشو الذي لا لزوم له، غير أن كتاب القصة في سوريا لم تفتر همتهم وواصلوا طريقهم إلى درجة أن كثيرين منهم ينشرون أعمالهم على حسابهم ويهدونها لأصدقائهم ودائرة المقربين منهم مما غبن هذه التجربة وحرمها من الوصول إلى شريحة واسعة من القراء، أضف إلى ذلك تراجع القراء، وأجواء عدم الاستقرار التي زلزلت المنطقة.
ضمن هذا السياق يقوم موقع صالون سوريا بنشر ملف بعنوان “نماذج من القصة القصيرة السورية” يعده أسامة إسبر، وهذه النماذج تمثل توجهات مختلفة في الكتابة ولأجيال مختلفة، حيث سيجد القارئ أن لكل كاتب طريقته الخاصة في كتابة القصة، وهذه الخصوصية هي ما نركز عليه، فالاختلاف والفرادة هو الأساس وهو ما يغني الأدب، وهذا ما يطمح إليه منبر صالون سوريا، وهو أن يفرد مساحة لإظهار تنوع وغنى المشهد القصصي في سوريا.
سننشر القصص التي تردنا تباعاً ونفعّل روابطها:
–خطّـــــــة القُبَـــــل
زينة حموي
–الناي الأميرة
جمال سعيد
–شتاء الرسائل الجميلة
مصطفى تاج الدين الموسى
–في قاعِ النهر
معاذ اللحام
–صياح الديك
ناظم مهنا
–مُخرِب الأحلام
فدوى محمود العبود
–الهدية