الغريب

الغريب

الغريب (1)

عيناهُ تسجّلانِ التفاصيلَ الرتيبة

كعدسةٍ في يـدِتاركوفسكي،

عيناهُ رأتَــا في ثلاثينَ عامًا

ما يراهُ شعبٌ في ألفِ عام،

أين يذهبُ بعينيه؟!

كيف يهربُ من ذاكرةِ الدمعِ والدم؟!

عندهُ من الصُوَرِ

ما يملأُ جدرانَ العالمِ بالنَّعَوات،

من الطعناتِ

ما يجعلُ السماءَ غربالًا،

من القهرِ

ما لا يستطيعُ عمرٌ كاملٌ من الأمجادِ محوَهْ.

* * *

الغريب (2)

عندما تكتبُ قصيدةً عظيمة

أو تنامُ مع امرأةٍ رائعة

أو تقتلُ عدوّكَ اللئيم

يُمكنكَ أنْ تشربَ أنهارًا من الخمر

وتدخَّنَ الأشجارَ سجائرَ،

تركُلَ الأرضَ حتى تدورَ بالاتجاهِ الذي تريد،

تعترفَ لوالديكَ بأنكَ لستَ ابنـهُما،

تُخرجَ جـثّـةً من القبر

وترقصَ معها حتى الصباح،

يمكنكَ أنْ تصرخَ في وجه السماء: أنا سـيّـدُ الأرض!

وبعدَها

يمكنكَ أنْ تموت

كما يليقُ برجُـلٍ أنْ يموت؛

ضاحكًا في وجهِ الموت

باصقًا في وجهِ الحياة.

* * *

في البدء كانت السكين

في البدء كانت السكين

في البدءِ كانت السكين

منذ قابيل

وإلى آخر مجزرة،

الكلماتُ لم تكن ولدتْ بعدُ

الكلمات التي تحفظونها عن الأمل

لن تمنح الحياةَ لوردةٍ صغيرة

مرّتْ من فوقها دباباتُ الوطن،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الفرح

لن تمسحَ دمعةَ طفلٍ فقد درّاجته تحت رُكام المنزل،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الحلم

لن تُقنعَ النائمين تحت سماءِ الحزن المدلهمّ

بالنظرِ إلى السماء،

والكلماتُ التي تحفظونها عن الحبّ

لم تعد تصلُح لحديثٍ مسائي بين عاشقين

على مقعدٍ في حديقة

في زمن “الأندرويد” و “دونالد ترامب”.

أيتها الكلماتُ المغدورة

ماذا سنقولُ لـ “كريم” (*)

– وقد انطمسَتْ قصائدُنا التي لم تُكتَبْ بعدُ –

عن العيونِ والأنهار

عن البحار والمدى

عن الردى!

وحدَها السكينُ

ووحدنا الحنجرة،

وحدها البندقية

ووحدنا الظهر،

وحدَهُ الذئب

ووحدنا الحملانُ الضعيفة.

هلِّلُويا

هلِّلُويا

في البدء كانت السكين.

* * *

(*) كريم: من أطفال غوطة دمشق، اقتلعت عينه جراء القصف.

المسرح السوري في الحرب: ارتجالات جماعية في وجه الموت

المسرح السوري في الحرب: ارتجالات جماعية في وجه الموت

تصادم أساليب حاد شهده المسرح السوري في سنوات الحرب السبع الفائتة، فالمسرح الذي كان يرتهن لأشكاله القديمة وتكراراته المملة خلع هذه المرة ثوب الوقار القومي، ليرتدي بزته المموهة وقبعة الإخفاء الماهرة من جميع أنواع الرقابات السلطوية منها قبل الاجتماعية والقبلية. يمكننا الإطلالة على هذه الخشبة التي تصرخ وهي تحترق؛ إذ سجلت مسارح سوريا -ولاسيما في العاصمة دمشق- عشرات العروض التي عبّرت عن شجاعة واضحة ورغبة في الإشهار والصراخ في وجه الموت العمومي وغرائز التدمير الهمجية.

المسارح السورية أيضاً ولاسيما الأثرية منها والتاريخية من مثل مسرحي بصرى وتدمر تم السيطرة عليهما من قبل المليشيات المسلحة، بل تحول مدرج تدمر التاريخي إلى منصة إعدام شاهد العالم كله ماذا فعل ما يسمى بـ (تنظيم الدولة الإسلامية- داعش) فوق خشبته الحجرية.

سيكون نصيب المسرح القومي من عروض الحرب هو الأغزر إنتاجياً، ولن تكون الرقابة القبْلية حديدية كما كان الوضع ما قبل الحرب، فلجان المشاهدة وقراءة النصوص صارت أمراً شكلياً، وصار من الممكن تقديم أطروحات موضوعية على الخشبة بهامش مفاجئ من حيث سعته وقدرة العاملين في المسرح على أخذ الأمور حتى نهاياتها في انتقاد طرفي النزاع على حدٍ سواء.

“كأنو مسرح” لـ غسان مسعود عن نص لابنته ” لوتس مسعود” كان مثالاً على توسيع هوامش جديدة، وتسمية الأشياء بمسمياتها على الرغم من الحلول الفنية المتواضعة والبنية المباشرة للنص المكتوب؛ إذ كان (مسعود) قد ركز على تناول الحرب من مقلبٍ آخر عبر تطويع نصوص المآسي الكبرى لشكسبير في مسرحيته “عرش الدم- الأوبرا السورية” ولتكون “مكبث” باقتباس رياض عصمت عنها هي حكاية العنف والشر والطموح بالسلطة؛ وحيث (الدم يطلب الدم) كإسقاط ماهر عن نبذ للعنف، وإدانة القتل العبثي.

مثله كان عرض ” اختطاف” لـ أيمن زيدان، والذي قام بالتعاون مع محمود الجعفوري بإعداد مسرحية “الأبواق والتوت البري” للإيطالي داريو فو، موجهاً نقداً لاذعاً لتحالف السلطة مع المافيا، والاستثمار في الإرهاب تحت عناوين وشعارات يسارية ضللت الشعوب وجعلتها نهباً لحكومات رجال الأعمال المتعاقبة.

سوف يقدم (زيدان) أيضاً مسرحية “دائرة الطباشير” مستعيراً نص المخرج والكاتب الألماني “برتولت بريخت- 1898- 1956” عن العنوان ذاته الذي أراده “زيدان” مفتوحاً على كافة الإسقاطات الممكنة حول الحرب الدائرة في بلاده منذ سنوات؛ وذلك بحذفه لكلمة “قوقازية” من عنوان النص الأصلي؛ تاركاً “الدائرة” هنا دون إغلاق مكاني أو زماني.

من جانب آخر تناول المسرح الحربي البيئات الفرعية ذات الثقافات الإثنية والعرقية عبر أكثر من عرض كان أبرزها “المرود والمكحلة” لكاتبه عدنان العودة ومخرجه عروة العربي. خروج من سطوة النصوص القديمة نحو أشكال مسرحية جديدة للمراهنة مجدداً على فعل اللهجة وقدرتها على ابتكار الحركة على خشبة المسرح؛ وصولاً إلى خصوصية إبداعية تسعى لتأصيل اللهجات المحلية في اللعبة المسرحية، وذلك بالذهاب أكثر خلف ما يشبه ملحمة سورية معاصرة بدأت عام 1917 بمذبحة الأرمن على يد العثمانيين، لتتقاطع مع حكاية شاب سوري- كردي يصادف أخته من أمه في ليلة من ليالي دمشق بعد سنوات طويلة.

سيكرر (العربي) التجربة في عرض (مدينة في ثلاثة فصول) عن نص ( احتفال ليلي خاص في دريسدن) لـ مصطفى الحلاج، وذلك عبر التعرض لجذر الإشكالية السورية من خلال السؤال التالي: الحرب بين من ومن؟ يسأل أحد الممثلين في العرض؟ فيجيب آخر: “الحرب بين (نا) و(نحن) وليست بيننا وبين إسرائيل، نحن يقتلنا و(نا) يقتلُ نحنُ”. سوف لن تحضر هنا وصايا ” غوبلز” وزير الدعاية الحربية في حكومة هتلر، بقدر ما سنشهد سجالات لها إسقاطاتها على الحرب السوريةبالنظر أكثر نحو التجارب الطازجة.

الأماكن البديلة:

حضرت الأماكن البديلة جنباً إلى جنب مع فن الارتجال كجزء أساسي من مسرح الحرب السوري، ليأتي في مقدمته مختبر مفتوح بشكل علني وشجاع على كتابة النص الجماعي عن أعراض الصرع السوري، وذلك دون التعويل على النصوص الأجنبية المترجمة أو الاقتباس عنها، بل في اقتراح صيغة راهنة وحارّة عن المعيش اليومي وفداحة الخسائر الإنسانية في ظل الحرب. الجنون هنا أتى كثيمة مناسبة لاختراع أبعاد أكثر تحرراً في مخاطبة الجمهور، ولاسيما في التجربة التي قدمها المخرج سامر عمران في مسرحية “رماد البنفسج” محققاً تعاوناً لافتاً مع الكريوغراف نورا مراد لصياغة فضاء مسرحي أطل على اللحظة الراهنة بكل تناقضاتها ومفارقاتها الصادمة؛ حيث عمل كل من “عمران” و”مراد” على تحقيق عرض استوحى حكايته من مستشفى الأمراض العقلية؛ متخذين من سيكولوجيا الجنون مادةً رئيسةً لإدارة الممثل. شخصيات ذكّرت برائعة الألماني بيتر فايس “مارا ساد” وقصة “العنبر رقم ستة” لتشيخوف.

سوف يكرر (عمران) هذه التورية في استخدام مقهى شعبي في قلب دمشق القديمة، وذلك ليقدم مسرحيته “نبوءة- إنتاج عين الفنون” مسنداً دور الحكواتي لممثلة شابة (ربا الحلبي) ليكون الجمهور أمام حكواتية امرأة في مناظرة ذكية مع الكرسي الفارغ الذي يتوسط مقهى النوفرة الأثري بعد موت” أبو شادي” آخر حكواتي في دمشق بعد نزوحه من بيته مع أسرته من ريف دمشق بفعل النزاع الدائر؛ فمنذ موت آخر حكواتي في البلدة القديمة، أصبح أعرق مقاهي العاصمة السورية يستقبل زواره دون سماعهم سيَر عنترة وعبلة وأبي زيد الهلالي، إلا أن “عمران” في “نبوءة اختار “مقهى الشام القديمة” المواجه مباشرةً لمقهى “النوفرة” في تحدٍ فني لافت لرجال احتكروا مهمة السرد لقرون طويلة؛ متناولاً سنوات الحرب في بلاده؛ لتسرد المرأة هذه المرة  حكاية من نوعٍ آخر؛ مبتعدةً عن قرقرة ماء النراجيل وجمر أدخنتها وصيحات أنصار الزير ودياب الغانم. الحكواتية الشابة تلت نبوءاتها المتعددة دامجةً بين التمثيل والترتيل والغناء، مفتتحةً بمقطعٍ من “ملحمة السراب” لسعد الله ونوس 1941- 1997″ المسرحية التي كانت بمثابة استشراف مبكّر لما سيؤول إليه واقع البلاد.

صرخة المسرح في وجه الحرب استمرت قوية وهادرة من خلال عروض كان لها طابعها السياسي، وسمتها الجدلية والمعاندة لأطروحات السياسة (دعارة العقل) كما يصفها نيتشه، ولتأتي عبارة “هوب هوب” لتكون عنواناً للمسرحية التي قُدِّمت على مسرح الحمراء، ولتكون بمثابة طلب صريح وواضح من “سائق الحافلة” السورية بإيقاف فوري وعاجل للحرب الدائرة منذ سنوات على امتداد كامل البلاد؛ فالعرض الذي أخرجه الفنان عجاج سليم كان قد اشتغل عليه مع اثني عشر ممثلاً وممثلة في ورشة مفتوحة على الارتجال الجماعي مع الممثل؛ مطوّعاً نص “الجزيرة القرمزية” للروسي “ميخائيل بولغاكوف-1891- 1940” عن إعداد جوان جان؛ ولصالح مقاربة جريئة اتخذت من الكارثة الوطنية الأعنف في تاريخ البلاد موضوعاً فنياً لها؛ إذ يأتي عرض “هوب هوب” ليكون العرض الجماعي الأول الذي رفع عقيرة المسرحيين السوريين عالياً إزاء ما يدور على أرضهم؛ مقتبسين العبارة الشعبية “هوب هوب” كصرخة بمدلول سياسي لا يخلو من التهكم والمرارة؛ حيث بدا هذا جلياً من كلمة المخرج “سليم” على بروشور العرض: ” (هوب هوب) تعني الطلب من (سائق الحافلة) التوقف السريع؛  وفي اللهجة الدارجة تشير بشكل عام إلى الرغبة بإنهاء فعل، أو حوار، أو مشكلة، …أو أزمة؟”.

هوب هوب

مختبر مسرحي:

بمقابل عروض المسارح الكبرى للعاصمة والأماكن البديلة كان ثمة مختبر مسرحي ينمو بهدوء وكتمان داخل جدران المعهد العالي للفنون المسرحية؛ مختبر كان من الصعب عليه أن يزدهر ويترعرع على مسارح العاصمة السورية؛ أولاً من جهة المحرّمات الدينية والسياسية التي ستواجهه في حال العمل على هذه المسارح المفتوحة نسبياً أمام شرائح متنوعة بين الجمهور والحشد، وثانياً من جهة طبيعة العروض التي يديرها أساتذة ومخرجي الأكاديمية المسرحية الأعرق في البلاد، والتي تنحو إلى صيغ أكثر تحرراً ومباغتة للراسخ في الدماغ الجمعي الديني والسياسي.

هكذا على الأقل قدم فايز قزق عرضه ( إيواء واء واء- أستوديو شريف شاكر) كحلقة من سلسلة عروض كان (قزق) قد بدأها مع طلاب التمثيل، فمن ( وعكة عابرة- 2008) إلى ( حكاية السيدة روزالين- 2011) وصولاً إلى هذا العرض؛ والذي برهن من خلاله بطل عروض (فرقة شكسبير الملكية) تجربةً إثر أخرى أن البروفة هي الزمن الأصلي لصياغة العرض المسرحي؛ سواء من حيث اشتغاله على الارتجال كمسوّدة دائمة الكتابة مع الممثل، أو حتى من خلال تلك الرغبة في نبش خفايا هذا الممثل وزعزعة كيانه الداخلي؛ دافعاً إياه إلى أقصى ما يمكن من البذل والسخاء على الخشبة؛ خارجاً في مسرحية ( إيواء واء واء) إلى براح التأمل الجماعي والبحث وفقاً للفرضية التي وضع المخرج السوري ممثليه فيها؛ لتكون وجهاً لوجه مع الحرب الدائرة في بلادهم.

حكاية الشخصيات الثماني عشرة في عرض ” إيواء واء واء” بدت مزدحمة بحضورها وأفكارها واضطراباتها الموحشة، وتعويلها على التناقضات، من مثل مشاهد الأطفال في لحظة التناسخ العجيب نحو القتل والتآمر، دار الإيواء الذي تحول إلى ماخور، المواجهة الصادمة بين الدين والمدنية، قصة الحب الكردية في عيد النوروز؛ قارب الموت المزدحم بدوره كسفينة نوح سوريّة؛ يكاد الدم يحفُّ بها من كل جهات الأرض الأربع، الملاكم ورجل الدين، الديوث والعاقر؛ الخادم والسيدة. متتالية لا منتهية من غثيانات منفلتة بوحشية على خشبة العرض؛ جعلها (قزق) تبدو كصورة مصغّرة عن بلادٍ ترقص في حفلة تعذيب جماعي؛ حيث لا يهدأ سعير المواجهة حتى يعود ويشتعل وفق ثنائيات متحاربة، سعير لا ينجو منه حتى الأموات في أكفانهم.

كوميديا الحق والحق الآخر! قدمها المخرج تامر العربيد هو الآخر ضمن صيغة الارتجال في عرضه” جسور- مسرح فواز الساجر” متكئاً على نص “قضية أنوف” للكاتبة المكسيكية الساخرة (ماروشا بيلالتا) فاستطاع فريق ممثلي هذا العرض صياغة مشروعهم الساخر من الحرب، معوّلين في ذلك على تقنية الارتجال الجماعي في كتابة شخصياتهم وتلوينها.

لقد كان الاقتراب من تجسيد الشخصية النمطية المسخية في “جسور” تجاوز ذلك عبر إسقاط حكاية المسرحية على المقتلة السورية؛ حيث أطل الجمهور من خلال شخصيات هذا العرض على بلدة خرافية اختلف أبناؤها من أجل أتفه الأسباب (أصحاب أنوف قصيرة وآخرين طويلة)! فاندلعت بينهم حروب عبثية مضحكة؛ قاربها الممثلون بأداء حار ولافت من خلال أسلوبي “الفارس” و” الغروتيسك” لتحضر المأساة والعنف والقتل والمؤامرات بين ذات البين في قالب طريف وكاريكاتوري.

الفنان جهاد سعد جاء أيضاً إلى خيار الورشة الفنية المفتوحة في عرضه “هستيريا” واضعاً ممثليه التسعة على “مسرح سعد الله ونوس” وجهاً لوجه مع امتحانات عدة للجسد واللياقة والصوت وحساسية التفاعل الجماعي على الخشبة؛ لتقدم هذه التجربة عروضها في المعهد العالي للفنون المسرحية بصدامية أداء جماعي جعلت الممثل منساقاً إلى نوعية خاصة من مسرح العنف الذي تتغلب فيه القدرة البدنية على صناعة الشخصية المسرحية؛ حيث استطاع “سعد” في صياغته الفنية الجديدة أن يحقق توريات مسرحية متعددة؛ رامزاً بقوة إلى حال العلاقات الإنسانية في ظل الحرب؛ وما ترتب من آثار نفسية قاسية لهذه الحرب على كل من الرجل والمرأة في ظل هيمنة نشرات الأخبار الدموية على وعي الناس وطبيعة سلوكهم اليومي.

لقطة من مسرحية تصحيح ألوان

مسرح تعدد أصوات

مجدداً خرج عبد المنعم عمايري هو الآخر عن كليشيهات المسرح السوري، متابعاً تجربته على الارتجال، والتي كان قد بدأها بعرض  “سيليكون- 2010” آخذاً ممثليه نحو مفازات الممثل الحقيقية، فالنص هنا كان نتيجة لكتابة جماعية امتزجت فيها السيرة الذاتية بصيغة الجماعة، فعمايري أكد في تجربته هذه التي حملت عنوان “ليبيدو” حيوية المقترح وأحقيته كمحترف لانهائي، وكمسوّدة لا متناهية تتم كتابتها في كل مرة يصعد فيها الممثلون على الخشبة؛ فمن خلال إبرام تناص باهر بين نصوص “روميو وجولييت، ريتشارد الثالث، عطيل” لشكسبير، و كل من نصي “عربة اسمها الرغبة” لتينسي وليامز، و”رحلة الليل في النهار” ليوجين أونيل غزل الممثلون أطروحتهم الخاصة بهم، وتصوراتهم الشخصية حول مفهوم إعداد النص وبنائه نحو صيغة عرض احترافي، ليدفع عمايري ممثليه في (ليبيدو) إلى تجربة فعلية لاختبار قدراتهم الأدائية بطريقة تتيح لهم ديمقراطية شاسعة من خيارات الكتابة والتمثيل وإنتاج الأفعال عبر ينابيع الحياة والعيش ضد الحرب.

(سوريون بعنوان) ساق أيضاً تجربة تعدد الأصوات عن أشعار محمود درويش حيث حضر كل من: (السائق العصبيُّ، الجنديّ، الجامعيّ، السيّدةُ، الشاعر، والمسافر) شخصيات المسرحية التي اقتبسها عرض ( سوريون بعنوان- مسرح سعد الله ونوس) من أشعار محمود درويش؛ مطوعاً تعدد الأصوات (البوليفونية-Polyphonie) في نصوص: (لا تعتذر عمّا فعلت، الجدارية، مديح الظل العالي)، لتأتي كحوارات درامية قام بأدائها ممثلو فرقة المعهد العالي للفنون المسرحية؛ مرتكزين في هذه التجربة التي أشرف عليها كل من ( سامر عمران، ووسيم قزق، وشادي كيوان، ونورس عثمان) على إيحائية النص الشعري كخطاب أدبي ينطوي على حوارية الأنا والآخر.

بدوره قدم الفنان أسامة غنم نص (مجموعة الحيوانات الزجاجية) لكاتبها ( تينسي وليامز1911- 1983) محيلاً هذا النص إلى عرضٍ سوري بامتياز تحت عنوان (زجاج- مسرح فواز الساجر). مهارة عالية سجلها (مختبر دمشق المسرحي) الذي يشرف عليه (غنم) بنفسه منذ العام الأول للحرب؛ منهياً بتجربته الجديدة جدلية النص والعرض؛ لصالح فن الأداء وقدرة الممثل على اكتشاف نفسه من جديد على الخشبة؛ بعيداً عن عبودية هذا الممثل لخطة إخراجية صارمة، تعتبر الأدبي مادةً درامية بحتة؛ لا يجوز (درمتتها) إلا بما تمليه المؤشرات والإحالات النصية للكاتب؛ بل عبر الممثل الشريك والمنغمس حتى النهاية في اللعبة المسرحية.

فهم عميق ومؤثر ساقته النسخة السورية ( إنتاج -مواطنون فنانون- آفاق) من نص (الحيوانات الزجاجية) مطوعةً مفردات محلية ومفارقات نفسية أليمة لصالح بناء الشخصيات من جديد؛ انتزاعها من أربعينيات القرن الفائت؛ لزرعها في صراع مرير بين تفاهاتها اليومية وأحلامها المهدورة؛ حيث تصير هذه الشخصيات المتورّمة بثراء عالمها الداخلي؛ نسخةً عن عائلة سورية حزينة؛ عائلة أرادها مخرج العرض صورة عن بلادٍ بأكملها؛ فلم يكن من السهولة بمكان وبعد سبعة أشهر من البروفات المستمرة، الوصول إلى تلك المكابدات الدفينة التي قدّمها (زجاج) بحيوية عالية ورغبة وقلق شديدين لمقاربة الحطام الاجتماعي؛ دافعاً بشخصياته الأربعة إلى أمكنة خطيرة من الذاكرة الجماعية.

بسام كوسا خاض هو الآخر تجارب لافتة في مسرح الحرب السورية؛ كان أبرزها عرض “الكوميديا السوداء عن نص لـ (بيتر شافر) المسرحية التي كتبها رائد الغرابة الإنكليزية عام 1965؛ ليذهب عرض “الكوميديا السوداء” نحو نظرة غاية في الطرافة على حماقات مجموعة من الشخصيات التي تتحسس طريقها في غرفة داكنة الظلمة على مسرح الحمراء الدمشقي؛ حيث ترتطم الشخصيات بكم كبير من المواقف والمفارقات المضحكة بناء على انقطاع الكهرباء؛ الفرضية التي بنى عليها كاتب النص مواقفه الساخرة من كذب المثقفين وانهيار قيم الطبقة الوسطى وتحولهم من ذات إلى موضوع؛ فضلاً عن نفاق أصحاب المال وعلاقات الحب العابرة في فضاء غميضة من التخفي في العتمة.

تجربة سوف يعيدها (بسام كوسا) في مسرحية (تكرار) مقتبساً نص (المتحذلقات السخيفات) لموليير. العرض الذي جاهر عبر ثلاثة أزمنة بتعرية طبقة تجار الحرب ومحدثي النعمة، قدم ثلاث نسخ متتالية من رائعة الكاتب الفرنسي، مطلاً من خلالها على زمن النبلاء المزيفين في القرن السابع عشر، جنباً إلى جنب مع طبقة الباشاوات وأصحاب الطرابيش ورجال ونساء الصالونات الأدبية مطلع القرن العشرين في سورية، وصولاً إلى الزمن الراهن للبلاد، حيث صاغ مخرج العرض مع تسعة من ممثليه ما يقارب ثلاثية تاريخية عن زيف الطبقات الصاعدة في أوقات الأزمات، معللاً بذلك مدخله إلى العرض بمونولوج ألقته الممثلة (فرح دبيات) عن تشابه البشر وعدميتهم في كل الأزمنة، (فلا جديد تحت الشمس)!

(عرض البحر) مسرحية هي الأخرى مزجت العبث بالعنف حققها مجد فضة على خشبة سعد الله ونوس مع كل من الممثلين وسيم قزق و الفرزدق ديوب وياسر سلمون؛ ليطل (فضة) بذلك على أبرز نصوص الكاتب البولوني “سلافو مير مروجيك” من خلال نسخة سورية عمل عليها دراماتورجياً مع إبراهيم جمعة.

التجربة التي قدمها المعهد العالي للفنون المسرحية؛ بدت أقرب إلى مسرح اللامعقول من حيث اعتماد المخرج على أسلوب “الغروتيسك” فعكست قالباً عبثياً لشخصيات العرض متكئة على تقنيات مسرح الكلام، وذلك مع الإبقاء على هيكل النص الأصلي “في أعالي البحار” حيث نشاهد ثلاثة رجال يقطعون رحلتهم نحو المجهول فوق طوفٍ خشبي؛ وليكون الجمهور شاهداً على تباينات حادة في الشخصيات الثلاث؛ حيث هناك الانتهازي والرومانسي والعضلي الأهوج.

أنماط كشفت عبر حوارها المطوّل عن ماضيها قبل اختيارها للهجرة عن بلادها، وعن قصص حب وخيبات عاشتها الشخصيات الثلاث في عملها وعلاقاتها الحميمة وصدامها مع الآخر المختلف سياسياً عنها، كلاً حسب وجهة نظره لكن ومع نفاد المؤن على متن الطوف تتكشف نوازع بدائية لدى الرجال الثلاثة؛ وصولاً إلى فرضية التضحية بواحد منهم ليكون زاداً للرجلين الآخرين بدلاً من موت الجميع جوعاً في عرض البحر.

مسرحية (ستاتيكو) ناقشت هي الأخرى الحرب السورية بذكاء لافت، مستعينةً بنص لشادي دويعر وإعداد مخرجها الفنان جمال شقير الذي ذهب في تجربته الأولى إخراجياً نحو مناقشة ثقافة الانتحار عبر شخصية (حكم) التي لعبها سامر عمران إلى جانب كل من نوار يوسف و محمد حمادة، مسجلاً على شريط كاسيت وصيته الأخيرة قبل أن يتدخل كل من جاره وصديقته في تعطيل خطته للموت بعد لجوء الفتاة الشابة إلى شقته للاختباء عنده بعد عودة الأهل المفاجئة.

العرض الذي أنتجته مديرية المسارح والموسيقى حاز ثلاث جوائز في الدورة الأخيرة لمهرجان قرطاج، ذاهباً نحو حذافير الواقع في محاكاته للديكور الذي أنجزته سهى العلي عبر تصميمها لشقة تطل على شارع من أحياء دمشق ليلاً تموضع في عمق الخشبة، بينما حافظ على موقع لافت للوحة (الغارنيكا) لـ بيكاسو؛ مسقطاً الحرب الأهلية الإسبانية على الواقع السوري الراهن؛ في إشارة لما حمل بطل العرض على الانتحار.

ولو كان ورداً أقلّ

ولو كان ورداً أقلّ

ولو كانَ ورداً أقلَّ الذي نامَ ما بيننا في السرير

أكُنّا سنحلُم أكثرَ بالنوم في شُرفات البلادْ؟

وما الحبُّ إنْ لم يكن عارضاً للحديث عن الريحِ

أو جمرةً تتباهى بأحلامنا كلّ صبحِ

وتأخذنا من يدينا لكيلا نموتَ إذا جاء وقتُ الرمادْ!

وما الشوقُ إنْ لم يكن مؤلـِماً وغريباً كصبّارةٍ

وانتظاراً يغيّـرُ أقدارَنا لو أرادْ؟

وحين أفكّرُ فيكَ يهبُّ من المزهريةِ صوتُكَ

يسقطُ قلبي على درجِ البيتِ مني

وأنسى تماماًكأيةِ عاشقةٍ–  كيف يشتدُّ عودُ الغريبة في البرد

أصعدُ نحو هلاكي رويداً رويداً

فيجعلني الوقتُ أغنيةً لا تُعادْ

ولو كان ورداً أقلَّ أكنتَ ستمضي بعيداً لتبحثَ عن وطنٍ آخرٍ

أو نشيدٍ جديدٍ؟

أكنتَ ستكسرُ قلبي كما فعلَ الآخرون به،

أم ستبقى جميلاً كأيّ غريبٍ يرى في المنافي ملاذاً من الحرب

والتركاتِ البخيلة من شجرِ النار أو كذبِ الأصدقاءْ؟

كبرنا كثيراً على أنْ نكون سوانا

وهذا الرحيلُ الذي كان محضَ اتفاقٍ مع الشمس كي نمسكَ الغيم

أصبحَ كلَّ الذي تركتْهُ لنا الأرضُ من سِـيَـرِ الأنبياءْ

* * *

مقاهي دمشق تعود تدريجياً والقراءة على ضوء الشموع

مقاهي دمشق تعود تدريجياً والقراءة على ضوء الشموع

همّشتْ الحرب الدائرة المثقفين السوريين وأنواع الفنون الثقافية، وحُرم الكتاب والمثقفون المقيمون في الداخل، رغم ظروف الحرب، من المشاركة في المهرجانات والمعارض  والأنشطة الثقافية العربية. كانت القطيعة داخلية وخارجية، وقد أدت إلى حرمان الجمهور من الاطلاع على كافة الإصدارات الجديدة من كتب ومجلات كانت تأتي إلى العاصمة السورية بشكل دوري قبل الحرب. واليوم نجد أنفسنا أسرى العالم الإلكتروني – في الأوقات التي تأتي فيها الكهرباء – باحثين عن كتاب أو مجلة أو صحيفة لنطلع من خلالها على ما يدور من أحداث ونتاج ثقافي لم يعد يصل إلينا كمنشورات ورقية.

المقاهي تعود جزئياً

عاد لبعض المقاهي الدمشقية ألقها وتحولت إلى مواقع للتواصل الاجتماعي بعد أن هجرها الكثير من المثقفين صوب العالم الافتراضي. تجد غالبية المهتمين من روائيين وكتاب يحرصون على تواجدهم في المقاهي الشعبية للمشاركة بحوارات وندوات ارتجالية للبحث في ظاهرة أو النقاش حول إصدار جديد رغم أن أبرز ما يسيطر على الجلسات هو الوضع الأمني والتطورات السياسية، لكن أغلب المثقفين يغيبون عن فعاليات ثقافية منظمة تطلقها المؤسسات الرسمية، وهي لم تخرج عن شكل الصالونات الثقافية التي كانت منتشرة في سورية قبل عقود، لكن من دون أن يكون هناك أي اتفاق مسبق على المواضيع التي ستطرح أو تناقش أثناء هذه الجلسات الودية والتي نادرا ما تصل إلى سبعة أفراد.

إعادة تدوير

المطالعة على ضوء الشموع في ساعات الليل هي ما يميز ليالي المثقفين السوريين، كثير منهم عاد لقراءة كتب كان قد قرأها سابقاً، أو قراءة كتب مركونة في مكتبته المنزلية ولم يسمح له الوقت للاطلاع عليها في زمن الكهرباء والتواصل الاجتماعي، حتى زمن الكتابة على الورق عاد وفرض نفسه بقوة. ولم يعد البعض يرزح تحت رحمة التيار الكهربائي، المهم أن لا يتوقف عن الفعل.

هناك قسم كبير من المثقفين بدأ يرتاد مكتبات الرصيف للبحث عن كتب قديمة أو كتب ترفض المكتبات وضعها على رفوفها ليطفئ عطشه الثقافي، إعادة تدوير ثقافية لصحف ومجلات صادرة في عشرينات وثلاثينيات القرن المنصرم.

ورغم الكثير من العراقيل هناك من يصر على إنشاء حركة ثقافية ولو على الصعيد المحلي، القاص خضر الماغوط قال: “ما زلنا نتابع الحياة الثقافية والأدبية، عن طريق الندوات والمحاضرات والملتقيات الخاصة التي أحدثتها الحرب في العديد من المناطق السورية، غير خاضعين للظروف القاهرة والصعبة التي تصادفنا،” مؤكدا على “أن المقاطعة الدولية والعربية المفروضة على سورية لم تكن مقاطعة اقتصادية فقط، بل هي مقاطعة لكل نواحي الحياة بما فيها الثقافية، فلم يعد يصل من دور النشر الخارجية إلى سورية كتب، مجلات، صحف، دوريات أو حتى تبادل للوفود الثقافية بين سوريا والعالم الخارجي. تُوجه إلينا دعوات لمهرجانات الرواية والقصة من قبل المنظمين في الدول العربية، لكن السياسة تحرمنا من المشاركة ولا تمنحنا سمة دخول.”

يضيف أن المكتبات وأكشاك بيع الصحف أصبحت خاوية تماماً من كل ما هو جديد. وبالطبع افتقدنا جميعاً إلى الكثير من الصحف والمجلات التي كنا نتابعها وفقدناها فجأة، وكان من الممكن أن يحدث تصحر ثقافي بالكامل لولا وجود الكتب والجرائد والمجلات الورقية بما يعادلها من النسخ الإلكترونية عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت في متناول الأغلبية من المهتمين رغم بعض الصعوبات أحياناً.

هناك دوريات ليس لها مواقع على الشبكة العنكبوتية، وأخرى لا تزود مواقعها إلا بعناوين الموضوعات،  إضافة إلى قلة عدد الصحف والمجلات السورية، حتى الصحف التي تصدر غاب عنها زوايا الثقافة والفكر والأدب والإبداع لسببين، أولهما أن الجريدة الرسمية تخصص أغلب صفحاتها لمواضيع تخص الحرب والصراع في المنطقة، وغابت عنها الصفحات الثقافية، إلا في ما ندر، أما الصحف والمجلات الخاصة فنجدها جنحت إلى الاهتمام بالدعاية والإعلان التجاري، أضف إلى ذلك الشللية والعلاقات الخاصة، فلا يجد الكاتب مكاناً له طالما هو بعيد عن الشلل واللوبيات الثقافية، هذا ما يحدث أيضا في الجرائد والمجلات الحكومية، التصحر موجود في العلاقات بين المثقف والصحف المحلية، أكثر مما هو ناتج عن غياب الصحف والمجلات الخارجية، لكن رغم الإمكانيات البسيطة والثقافة والوعي، استطعنا  تجاوز المعوقات التي تسعى إلى توقف حياتنا الاجتماعية والفنية والثقافية وما زال هناك وسائل لاستمرار الحياة الثقافية، رغم قساوة الظروف التي خلقتها الحرب وتخلقها في كل لحظة.

الشاعرة عبير سليمان تؤكد على استمرار علاقتها مع الكتاب رغم أنها فوضوية نوعا ما: “قبل الحرب كنت أحرص على اقتناء الإصدارات الجديدة وأثابر على القراءة، أثناء الحرب أقرأ مجموعة من الكتب وبشكل عشوائي من غير أن أنتهي من قراءتها أنهيت بعضها فقط، الكتب التي أحرص على قراءتها وأنتهي منها في يوم واحد كتب الشعر ربما لأنها الأقرب وجدانيا.”

أما فيما يخص دور النشر الخارجية لم يعد يصلنا الجديد، أحيانا نستطيع الاطلاع على النسخ الإلكترونية للأصدقاء خارج سورية، أما الكتب الأخرى فنعرف عنها من خلال ما تكتب عنه الصحافة. في سورية دور النشر مستمرة وثمة أزمة إعلانية، لا أحد يلقي الضوء على الأسماء والإصدارات الجديدة، ودور وزارة الثقافة خجول بالنسبة للكتاب كما النشاطات الأدبية شبه المعدومة، ولولا التواصل الافتراضي بين الكتاب والشعراء لاعتقدنا أن أنواع الأدب أصابتها قذيفة ولفظت أنفاسها الأخيرة.

الكاتب والفنان التشكيلي أيمن الدقر قال: “لا أعتقد أن التصحر الثقافي بسبب الحرب، التصحر قائم أصلا عند معظم الناس. لا أعتقد أن هناك عائلة سورية لا تمتلك مكتبة منزلية، وهناك مكتبات تزخر بكتب مهمة وعشرات الكتب التي تحمل توقيع مؤلفها وأجزم أن أحدا منهم لم يقرأ إلا صفحة الإهداء.” لكن بشكل خاص وإن كنا نريد الحديث عن النخبة أو القارئ الحقيقي، أعتقد أن أغلب ما كان يرد من مجلات لا يستحق القراءة أما الكتب فهناك ما يستحق المطالعة والاقتناء، غير أن غالبية الدوريات التي كانت تصل ورقية كالصحف حجزت لها مكانا على صفحات الانترنت، ومن يريد فعلا أن يقرأ ويتطلع إليها يستطيع ذلك بسهولة باستثناء القليل ممن لم يتصالحوا مع التطور التكنولوجي وما يزالون يستخدمون القرطاس والقلم جازماً أن أسباب التصحر الحقيقية بدأت قبل الحرب. يسأل: “أين كتب الطفل ومجلات الأطفال واليافعين؟.” الطفل استبدل الكتاب بجهاز خليوي وألعاب إلكترونية، مع تطور عالم الميديا والقنوات الفضائية التي تعمل على خلق ثقافة جديدة أرهقت الإنسان العربي وجعلته غير قادر على تنمية ميوله الثقافية وتركته رهينة القلق والخوف من المستقبل.

من جسر فكتوريا إلى جسر جورج واشنطن

عمار شاهين صاحب بسطة لبيع الكتب، قال لنا: “بالطبع هناك مشكلة بالنسبة للإصدارات الجديدة التي لم يعد يصل أغلبها، لكن ذلك لم يؤثر بشكل كبير، هناك آلاف الكتب المهمة التي تستحق القراءة ولم تطلع عليها الأجيال الجديدة، وهي موجودة لدينا بأسعار زهيدة مقارنة بأسعار الكتب الجديدة التي تصدر وغير مهمة.” ويرى شاهين أن الكتب القديمة والمجلات مضامينها أهم بكثير مما فقدناه من الكتب والمجلات الحديثة التي لم تعد تصل أثناء الحرب، مضيفا: “هل يمكن مقارنة مجلة شعر أو الآداب بالمجلات الثقافية التي كانت تأتي من الخليج وكتب التنفيعات. كنا دائما نرفض شراءها ووضعها ضمن مجموعتنا، حتى الإصدارات القديمة من المجلات السورية – مجلة المعرفة – أهم بكثير من الأعداد الجديدة التي تصدر اليوم من المجلة ذاتها، لدينا الكثير الكثير من أمهات الكتب القيمة التي لا يمكنك أن تجدها أصلا في أشهر المكتبات السورية، لكن ما زال البعض يتعامل مع مكتبة الرصيف بتعالٍ خاصة، ولم تهتم الحكومات بمكتبات الرصيف وتمنحها أكشاكاً خاصة بها كما منحت بعض المهن اليدوية وبائعي السجائر.

عادل صاحب بسطة صغيرة في مدخل بناء يؤكد أنه كان يعيش وعائلته من مهنة بيع الكتب والمجلات، لكنه اليوم يضع كتباً قديمة ومجلات قديمة نادرا ما يجد راغبا لها. يقول: “اليوم يعرض علينا كتب ومجموعات أكثر مما يطلب منا، أكثر من شخص طلب مني أن أبيع له مجموعات أدبية، وموسوعات كان اقتناها في زمن الرخاء، اليوم رغم ارتفاع سعر الورق والتجليد الفني سعر تلك المجموعات أقل لكن لا أحد يقبل أن يقتنيها، المهتمون بالكتاب والثقافة لا يملكون المال، وأصحاب الأموال لا يعنيهم إلا المجلات الفنية وأخبار الموضة،” نعم هناك جفاف وتصحر و”تقحل” حسب تعبيره.

أبو مهيار الميداني لديه عروض للكتب المستعملة، لكن الكتب القيمة مغلفة يضعها جانبا في صناديق كرتونية، مجلات مسرحية وسينمائية تعود إلى أيام الوحدة بين سورية ومصر، مجلدات ضخمة، أعداد قديمة جدا لمجلات مصرية ولبنانية، جهة مخصصة للكتب الصادرة عن دور نشر عراقية، للوهلة الأولى تعتقد أنه مجرد بائع “كومسيون” يشتري ويبيع الكتب المستعملة، لكن ما إن تبدأ الحديث معه حتى تجده يكبر ويكبر حتى يملأ الفراغ تحت جسر فكتوريا. يكاد رأسه يوازي الجسر، تكتشف أنه ليس مجرد بائع أو مطلع يرشدك إلى الكتب المهمة، يقدم شرحا وافياً عن كل كتاب، حتى الكتب غير الموجودة لديه يقدم لمحة عن المؤلف وأهم ما صدر له بما فيها الكتب المترجمة، تكتشف لا حقا أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. يقول: “ما تشاهده عندي مجرد جزء مما كنت أملكه من الكتب، المكتبة التي فقدتها مع منزلي وابني المخطوف في حي “عين ترما” كانت تضم خمسة عشرة ألف كتاب وكلها كتب مهمة، سأبيع ما بقي لدي من كتب وأهاجر إلى أمريكا، لدي موافقة من قبل الحرب لكن لم أسافر، اليوم لم أعد أملك إلا القليل من الكتب.

دور النشر والمكتبات

بعض الدور لا تصدر عنواناً واحداً في العام، وبعضها تعيد طباعة ما نشرته سابقاً. الدور العلمانية وبعض الدور الدينية ما زالت تحافظ على نشر كتب جديدة، الكل يحاول الحفاظ على وجوده رغم المتغيرات السياسية، وكثيرة هي العناوين التي يعاد نشرها، أو تقوم بعض الدور بطباعتها على نفقتها الخاصة إكمالا لمشروعها  غير المعلن. بالمقابل هناك الكثير من دور النشر توقفت عن العمل بسبب الظروف الاقتصادية التي فرضتها الحرب، ودور عمرها بعمر الحرب لم تطبع كتابا واحدا، وأخرى قديمة تعيد طباعة عنوان واحد فقط. كلفة طباعة الكتاب الواحد اليوم توازي طباعة ستة كتب في العام الأول من الحرب وذلك بسبب غلاء الورق والأحبار والمواد التي تخضع لانخفاض سعر الليرة، وهذا برأي الكثيرين سبب إحجام البعض عن اقتناء الكتاب اليوم، والذي لا يتناسب سعره مع دخل الفرد. كما يلجأ بعض الكتاب لطباعة مؤلفه على نفقة المؤسسات الرسمية من غير أن يدفع ليرة واحدة لكنه يقع في مشكلة الحذف والرقابة التي ترفض غالبا ما لا يتوافق مع مزاج الرقيب.

العناوين الجديدة

العناوين الجديدة قليلة نسبياً في أي مكتبة مختصة. يتصدر الواجهة كتب الصراعات السياسية والحروب، وكتب تروي سيرة بعض الحكام الذين أثروا في العالم أثناء فترة حكمهم. الرواية تحتل المكتبات لكن أغلبها إصدارات قديمة ومحلية، الكتب والروايات التي تطبع في دول مجاورة لكتاب سوريين من غير الممكن أن تجدها على رفوف مكتبة بسبب غلاء ثمنها والاحتكار الذي تمارسه الدور الخارجية على المؤلف حين تكون الطباعة على كلفتها.

يرجع صاحب مكتبة نوبل المشكلة إلى غياب الكثير من العناوين الجديدة بسبب فرق الأسعار ودخل الفرد يقول: “إن دخل الفرد في الحرب لم يعد يسمح له باقتناء كتابين، جميع أنواع الكتب السورية تضاعفت أسعارها ثلاث أو أربعة أضعاف بما فيها الكتب القديمة كونه لم تعد تتكرر طباعتها، غير أننا لم نعد نستطيع تلبية رغبة القارئ بأنواع الكتب التي تصدر في دور نشر خارج سورية لعدة أسباب أولها فرق السعر وانخفاض سعر الصرف، وأجور الشحن الغالية نسبياً، الأمر الذي يضاعف سعر أي كتاب إلى عشرة أضعاف سعره في السابق، حتى أننا لم نعد قادرين على شراء عناوين جديدة لوضعها في الواجهة ولا أحد يسأل عنها، الكثير من المهتمين يسألون عن أسماء وعناوين لكنهم يحجمون عن شرائها، وللأسف لم يعد يوجد نهم للقراءة بسبب ظروف الحرب، للأسف الثقافة لم تعد أولوية عند المواطن السوري. وبعد بدء الحرب الكثير من المكتبات أغلقت أبوابها ومنها ما تحول إلى مطاعم للوجبات السريعة ولبيع إكسسوارات الهاتف الخليوي.”

لم تتوقف الجهات المعنية بالثقافة والكتاب عن العمل طيلة فترة الحرب سواء في طباعة المؤلفات السورية، أو ترجمة المؤلفات من لغات أخرى، محاولة أن يكون سعر الكتاب متماشياً مع دخل الفرد رغم الزيادة التي طرأت عليه خلال الخمس سنوات الماضية، حتى أنه بإمكان المهتم ترقب المعارض الصغيرة الدائمة والتي تقدم حسومات للقارئ تصل إلى خمسين بالمائة أحيانا، لكن أغلب الإصدارات تتعلق بالحرب وآثارها وأسبابها وتداعياتها وثقافة المقاومة، العروبة وأسئلة النهضة، الأزمة السورية وثقافة التكفير الإرهابي، الحرب القذرة …الخ. أما الكتب الثقافية فنجدها مكررة كأن تصدر المجموعة الكاملة لشاعر أو قاص، أو دراسات نقدية عن الشاعر وشعره وغالبا ما تكون بتكليف من الشاعر ذاته لبعض أصدقائه، أو تكون من أجل المال فنجدها خالية من النقد الحقيقي وتتجه نحو الإطناب والتصفيق والتأليه الأدبي، وللأسف أغلب الإصدارات الثقافية ضعيفة من حيث المضمون والكتب التي تحمل قيمة قليلة نسبيا بالنسبة لما يتم طباعته ونشره كل عام. وهو أحد أسباب عزوف ونفور الفرد عن قراءتها والاطلاع على محتوياتها.

دمرت الحرب الكتاب كما دمرت رموزاً من التراث الإنساني، وهو ليس مجرد كلام استهلاكي فهناك الكثير من الجرائم الفنية ارتكبت بحق المكتبات الخاصة، ومستودعات كثيرة للكتب خاصة وعامة لا  أحد يعرف شيئاً عن مصيرها، وثمة كتب نُهبت وكتب أُحرقت وكتب كان مصيرها حاويات القمامة، مكتبات شخصية تركها أصحابها وأغلب تجار الكتب المستعملة فقدوا مستودعات مليئة بكتب قديمة، وكل هذا انعكس على الجو العام وعلى حياة الفرد والمثقف فلم تنج الثقافة هي الأخرى من اللصوص والحدث اليومي والقذائف والحرب.

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليك

حين اشتقتُ إليكِ كتبتُ قصيدةً على الجدار

هدمتْها القذيفةُ

.وسالَ الدمُ من حروفها

حين اشتقتُ إليكِ بحثتُ عن أطفالٍ غير جياعٍ

.فلم أجدْ

حين اشتقتُ إليكِ صعدتُ إلى الجبال

ونظرتُ إلى المدن

.فلم أجدْها

حين اشتقتُ إليكِ أشعلتُ شمعةً

وفضحتُ تشرّدي الأخير.

حين اشتقتُ إليكِ لمستُ جثّةَ مقاتلٍ جانبي

.وشعرتُ به يبتسم

حين اشتقتُ إليكِ نسيتُ قصيدةيطير الحمام.. يحطّ الحمام

وتذكرتُ قصيدةفي البالِ أغنيةٌ يا أختُ عن بلدي

فأحسَسْتُ بحَلْقي طعمَ العِتاب.

حين اشتقتُ إليكِ نزلتْ طيورٌ خضراءُ في حَنجرتي

.وماتتْ من قلّةِ الماءِ والخبزِ في هذا الحصار

.حين اشتقتُ إليكِ كانت الرصاصةٌ قد غيّرت اسمي

حين اشتقتُ إليكِ تنفّستُ هواءً نقيّاً

.وكأنني لستُ في ثلاجة الموتى

حين اشتقتُ إليكِ سمعتُ الملائكة يحصونَ أهل الجنّة

.ويكذّبون نشرة الأخبار

.حين اشتقتُ إليكِ كان الشعراءُ يلصقونالنعواتعلى أعمدة الكهرباء

حين اشتقتُ إليكِ دخلتُ مغارةً

.ونمتُ بهدوء طفلٍ لم يعرفْ أنه على هذه الأرض

…إلخ

.ليست خيانةً أنْ أشتاقَ إليكِ في هذه اللحظات الأخيرة

* * *