بواسطة أسامة إسبر | سبتمبر 6, 2017 | Culture
قصة قصيرة
عربات الخضار في مكانها المألوف. بندورة، بقدونس، نعنع، بامية ديرية، ملوخية، بطاطا، فاصولياء، لوبياء، باذنجان، كوسا، كلمات تخرج من الحناجر في إيقاعات رتيبة في أفق الحي. قرب عربة أخرى بائع يصيح: “خاين يا طرخون”. المأذنة هي الأعلى في الحي. شكلها عادي، لا يعكس عراقة معمارية. السماء غبارية، تتناثر فيها غيوم قطنية. دخان السيارات مرئي بحدة في الشارع العريض. يتعالى الأذان في الجو، صريحاً آمراً ومألوفاً. تُغلق المحلات، تُغطى بعض العربات، ويذهب عدد كبير من الأشخاص إلى الصلاة، لا يتسع المسجد فتركع الحشود على الرصيف وفي الشارع، مما يوقف حركة المرور. يصطفون في خشوع ويركعون. تمتمات شفاه، حركات أيدٍ، انحناءات أجساد، تسبيحات وتكبيرات.
الجو حار والرطوبة مرتفعة، ولم يتبق إلا مائة متر في الشارع الرئيسي وبعدها انعطافة إلى اليسار في زقاق طوله مائتا متر. أُخْرجُ المفاتيح، أفتحُ باباً حديدياً يصدر صريراً مزعجاً وأدخل. كان شريكي في الغرفة يطبخ مجدّرة وبدلته معلقة إلى مسمار في الحائط. رائحة البصل المقلي تغطي رائحة بوطه العسكري. أتناول عباءتي الصيفية، أخلع ثيابي وأرتديها. أتمدد على الأرض، على الحصير وأسند ظهري إلى مسند. ذهني يقودني في اتجاهات مختلفة، اكتشفت أنني كنت جامداً طول تلك السنين السابقة، لم أفعل شيئاً، استسلمتُ للمستوى الذي أنا فيه. لم أمتلك أفكاراً عن الطموح والمغامرة، شعرت أنني ما أزال طفلاً جاهلاً، أو ربما كنت منتظراً، لأبي كي يفعل لي شيئاً، لأخي كي يخرج من أنانيته ويساعدني في إطلاق مشروع. وظيفتي الأولى كان تأمينها كالمهزلة. قريب لي يعمل في سفارة تحدث مع مدير دائرة. ذهبت إلى الدائرة، فرفض الحارس إدخالي في البداية، ثم بعد أن ألحّيت، أطلق ضحكة كريهة مفتعلة وقال بعد أن تأكد من أن المدير طلبني:
– ادخلْ، قَطْع الأعناق ولا قَطْع الأرزاق.
كانت جملته غريبة، أراد أن يمنّني بعد أن عاملني بمهانة. طلب مني مدير مكتب المدير العام أن أوقع بعض الأوراق وأرسلني مباشرة إلى مكتب كي أباشر عملي. كان المكتب صغيراً، حُشرتْ فيه أربع طاولات وأربعة كراس. طاولتي كانت مقابل الباب الذي يبقى مفتوحاً، حيث تمر موظفة كل عشرين دقيقة. تفعل هذا باستمرار، بإدمان، ثم تمط رقبتها وتنظر إلى الداخل. شكلها يدفع إلى النفور، ستفضّل أن تنظر إلى قطة أو كلب، ولذلك درّبْتُ نفسي على ألا أرفع رأسي عن الأوراق التي أمامي حين أسمع صوت كندرتها على البلاط وهي رائحة غادية. لم أشعر بالزمن الذي مر في الدائرة، كان التكرار هو حياتي المبددة في أعمال لا قيمة لها، وفي نهاية الشهر، كنت أنتظر في الدور ثلاث ساعات كي أقبض راتبي. ازدحام رهيب من أجل راتب تافه لا يبقى منه أي شيء بعد أن أقتسم أجرة الغرفة مع صديقي. كان صديقي الذي يؤدي خدمته العسكرية يتحدث في الليل متظاهراً بالنوم، يتحدث كثيراً، في البداية ظننته مريضاً، لكنني اكتشفت أنه يريد أن يوهمني بذلك، ويريد أن يحكي لي ما يجري معه بطريقة غريبة، تبرّئه من المسؤولية، لا بد أن هناك شيئاً في أعماقه جعله مرتاباً بي، كلنا نخفي أموراً في ظلمات النفس وطبقاتها المجهولة، هل لأننا غير قادرين على الانفصال، على التحرر، وإذا ما انفصلنا لا نستطيع أن نكون جذريين؟ لست أدري. أنا أعتزّ بصداقته، وأحبه، ولكنه عاملني بطريقة غريبة، حيرتني. في المرة الأولى التي تحدث فيها، كانت الساعة الواحدة ليلاً، وكان اليوم يوم جمعة، حيث كان لديه مبيت، سمعته يقول:
– أغمضوا أعينكم، تخيّلوا، ماذا ترون؟
ذكر الاسم، فقالوا إنهم يرونه ممتطياً صهوة جواد من نور، يخترق عوالم الظلمة، يوزع الأقمار، يعلق قمراً في سقوف الغرف، وفي كل شارع وزقاق. تنتشر الأقمار في المدينة وتنيرها. وبعد أن يجوب عوالم الظلمة يعود، وتستقبله الحشود، تجرح أيديها وتكتب له بالدم عبارات الحب: انتظرناك طويلاً، بددنا أعمارنا ونحن ننتظرك، أيها الفارس العائد من الظلمة، لك الملكوت، لك عطر العهود، لك الأبدية أيها الخالد، لك الأرض بساحلها وداخلها، لك الرجال، كرمى لك يرمون أنفسهم في التهلكة. وحيث يمرّ ترتفع قباب النور، تتدفق الأنهار بقوة، يطلع الشجر بسرعة وتجود المواسم.
صارحْتُهُ، قلت إنه يتحدث عن أمور معينة فأنكر ذلك. هل يوصل إليَّ رسالة متظاهراً بالبله أو الجنون؟ لم يكن يتوقف عن الكلام حين تنقطع الكهرباء ولا يبين أي قمر من أقمار الفارس الذي يتحدث عنه. حين أقف في صف طويل كي أشتري عشرين لتراً من المازوت أتمنى لو أن الفارس المُبدِّد للظلمة يقتحم المشهد ويفرض سحره ويملأ البيدونات المصطفة. وحين أنتظر الميكرو لمدة ساعة أحياناً وأجري مع المحتشدين كي أؤمن مقعداً، أتمنى لو أنه يجيء على حصانه ويوصلني إلى العمل، وحين أحاول تأمين جرة غاز، أفكر به كثيراً، متمنياً أن يأتي في أية لحظة وينتزع لي جرة من البائع ويوصلها لي إلى البيت على ظهر حصانه. تمنيت قدومه أيضاً حين فاضت المجارير في الحي ودخلت إلى البيوت، ووضعنا خفّافات كي نسير عليها للدخول إلى الغرفة. كانت أم صاحب البيت التي تسكن مع ابنها في الطابق الثاني مصابة بالسعال الديكي. لم تتوقف لحظة واحدة. تمنيت لو أنه جاء وأخذها إلى العلاج، كان وجهها سمحاً ويفيض بالحب والطيبة. اعتدنا على سعالها حتى صار جزءاً من وجودنا، جزءاً من إيقاع حياتنا، وبعد فترة توفيت، وساد الصمت في الليل، لم يعد هناك سعال. شعرت بحنين، بشوق إلى هذا السعال. انتابتني تهيؤات عديدة حول كائن يسعل حتى الموت، دون أن يأخذه أحد إلى العلاج. كان الابن قاضياً مشهوراً بامتلاكه للعقارات في أحياء المخالفات، كان يؤجر مستودعات وشققاً، لكن أمه كانت تسعل طول الوقت. وحين جاءت معي سلافة، وكانت أول عشيقة لي في المدينة أحبتني في ظروف لا يمكن أن يستمر فيها الحب، كان هناك استنفار في البلد وصديقي نام في القطعة، فخلا الجو بالنسبة لي. سارتْ سلافة على الخفافات كي لا تتلوث قدماها بمياه المجارير، كانت الروائح تملأ الحي. لم تقل شيئاً، لكنها قررت أن تشرب الشاي وتذهب، ظل كأسها مليئاً. تذرعت بشيء ما.
ألححت عليها كي نمارس الجنس، وكان بي ظمأ إلى ذلك، وبدأت أمد يدي وأتحسس، قالت مازحة:
– يا لك من عجوز شبق!
كان السير معها في الشارع جميلاً في ذلك اليوم، أذكر وجهها، ربما تغير الآن، دخل في شكل آخر، في قناع مرحلة أخرى من حياتها. لم تقل أي شيء عن ماء المجارير ولا عن السعال، أنا أحضرت لتر العرق وبدأت بشربه في كؤوس صغيرة. كنت أشرب كل يوم إلى أن أشعر بالاسترخاء ثم بالخدر وبعد ذلك أنام. كانت أم شريكي في السكن ترسل له المونة من الضيعة كالزيتون المرصوص والعيطون الأسود والكشك والشنكليش والمكدوس. كانت مأكولات شهية، وكان هو شهماً. لم يدقق أبداً في مصروفاتنا، لكنني شعرت أنه خائف مني، هل يتخيلني منهم؟ لماذا لا يثق بي؟ بدأت تخطر لي أفكار من هذا القبيل. لم أخنه، لم أخن أحداً، ولا أريد أن أقدّم اعترافاً حول الأمر، لم يتعرض لأي موقف من قِبلي وهذا كاف لجعله يبتعد عن هواجس من هذا النوع. أم هل لأنني من طائفة أخرى؟
– أغمضوا أعينكم، تَخيّلوا من جديد، ما الذي ترونه؟
كان مفروضاً على الجميع أن يجيبوا على السؤال. أحدهم قال إنه من نور خالص، وهذا النور يضيء الكون فيما قال آخر إنه الشمس التي تشرق كل يوم.
– أريد أكثر، ألا تفكرون إلا بالشمس والقمر!
أحدهم تلعثم قليلاً، لم يستطع أن يعبّر، عجز عن تصوير ما تخيّله في كلمات، فأخرجوه من المجموعة المتمددة على ظهورها في ساحة رملية مسورة تحت شمس حارقة، حلقوا له على الصفر وحرموه من المبيت. كانت الإهانات تنصب عليه من كل حدب وصوب، عومل كحشرة تُسحق تحت الأقدام.
مرة قلت لصديقي أن لا داعي للمناورة وأن بوسعه أن يحكي لي ما يجري معه بصراحة، وأنه يجب أن يثق بي، لكنه تظاهر بأنه لا يفهم قصدي. قبلها كنت أضع لتر العرق وأحضر بعض المازة وأبدأ بالحديث معه، لكنه كان يغيّر الموضوع، وبعد أن ينام، أو يتظاهر بالنوم، يدخل في الموضوع.
–أريد أكثر، من رأى أكثر؟
جاء دور صديقي، قال عنه إنه مجترح معجزات، مرة نقل جبلاً من مكانه، وغيّر مسار نهر كي يخصب مناطق مجدبة، وفي المناطق التي لا تصل إليها المياه يلمس الأرض فتنبجس الينابيع. صارت الحناجر تهتف باسمه حتى في بعض المدن الحاقدة. لم يعد سكان هذه المدن قادرين على السيطرة على حناجرهم التي بدأت تهتف فاعترفوا بأنهم مخطئون وأن حناجرهم صادقة، وقد فعلتْ هذا من تلقاء نفسها.
حصل صديقي بعد أن قصّ ما رآه على إجازة لمدة أسبوع كجائزة له. سافر كي يزور أمه وأباه وأخوته، في الريف البعيد. بقيت لوحدي. خطر لي أن أسافر إلى بلدتي لكنني لم أشعر برغبة في ذلك فقررت أن أمضي وقتي في التسكع في مركز المدينة. ثم في المساء أعود إلى غرفتي. كان لدي بعض الكتب التي كنت أتسلى بها وحين تنقطع الكهرباء أستسلم للنوم. يجيء الصباح معتماً بين الأزقة في الحي الذي أسكن فيه. البنايات متلاصقة والأصوات متلاصقة، ولا يفصلك عن آخرين لا تعرفهم إلا حائط سمكه ٢٠ سم وأحياناً أقل. كان لون الاسمنت طاغياً، والخفّاف غير مليّس في معظم الأبينة، وكل يوم يولد بناء جديد، بسرعة البرق، قبل أن ينشف اسمنت الأعمدة. تحولت أصوات شاحنات نقل الخفاف وأكياس الاسمنت والحديد ومجابل الباطون وصيحات العمال، وقرع المسامير في خشب السقوف إلى خلفية يومية تدجنت الآذان على قبولها، وفي الليل تأتي أصوات أغنيات لمطربين جدد لم يُسمع بهم من قبل، أصوات تتناهب الأفق، تسوّره، تحجبه، ثم تتبدد في خواء المدينة.
أحياناً أنظر إلى سرير صديقي الفارغ، أحاول أن أجمع خيوط كلماته، وأتساءل لماذا يحدث هذا؟ لماذا؟ لماذا؟
في إحدى الليالي رأيت حلماً، قُرع باب الغرفة وسمعت أصواتاً غير مألوفة تنادي باسمي، فتحت الباب، كان شكلاً من النور على جواد من النور، فضح بريق النور غرفتي وأثاثها الفقير، بانت قطرميزات المكدوس والزيتون والعيطون وربطة الخبز، ظهرت الأغطية المتسخة التي لم تُغْسَل منذ فترة، انكشفت ثيابي المعلقة بالمسامير، والمرآة ذات الإطار البلاستيكي، أُضيئتْ فرشات الإسفنج غير المُلبَّسة والتي ننام عليها صيفاً وشتاء، تبدّتْ البقع الصفراء على المخدات، وكراسي البلاستيك المتسخة، وأوراق الجرائد المبعثرة.
– هل يمكن أن أدخل؟
استغربت أنه استأذن مني. دخل على حصانه إلى داخل الغرفة، ترجّل، لمسَ حصانه فاختفى، جلس وقال:
– أعدّ لي مائدة مما لديك.
شعرتُ بالخجل. ماذا يمكن أن أطعم النور؟ أشار إلى القطرميزات، فذهبتُ إليها، لكن كان عليَّ أن أجلي الصحون، وحين فتحت الحنفية لم ينزل ماء. نهض لمس الحنفية فتدفق الماء، غسلتُ الصحون وسكبت له صحن زيتون وصحن عيطون وصحن مكدوس، ذكّرني بالشنكليش فأخرجتُ له قرصاً مستوياً من قطرميز ووضعته في صحن وسكبت عليه الزيت. ثم رتبت الصحون في الطبق القشي ووضعته أمامه. طلب كأس عرق. ذهبت وأحضرت اللتر الذي كان فيه ثلاثة أرباعه. نظر بشهوانية رهيبة إلى الصحون وبدأ بالتهامها، أكل كل شيء وشرب العرق كله، ثم طلب المزيد إلى أن فرغت القطرميزات، ثم نهض دون أن يصافحني، تمتم فجاء حصانه النوراني، وفيما هو ينهض أطلق بعض الغازات، ركب عليه واختفى، وبقيتْ خلفه رائحة غازاته الكريهة. جمعتُ الصحون، كوّمتها على المجلى، وفتحت الحنفية كي أغسلها لكن الماء كان قد انقطع.
كان حلماً غريباً، غير أنني شعرت بالراحة أنه لم يكن فيه أحد يأمرني بأن أغمض عينيَّ وأتخيّل وأروي، ربما لن أجرؤ على قول ما أريد أن أتخيله، ولكن هنا، في غرفتي، في ظلمتي السرية، في الحارة البعيدة عن المركز والتي يلتهمها الاسمنت كوحش مدرّب، وتنهش لحمها الأصوات المسنونة، أمرتُ نفسي:
– أغمضْ عينيك؟ تخيّلْ. ماذا ترى؟
– هاوية، هاوية، نندفع إليها جميعاً.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Aws Yacoub | سبتمبر 6, 2017 | Culture
في كتابه “تطور المجتمع السوري 1831 – 2011″، الصادر موخراً عن “دار أطلس للنشر والترجمة” في بيروت، يقدّم الكاتب السوري نشوان الأتاسي قراءةً في التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريا عند نشأة كيانها ثم دولتها بعد انهيار السلطنة العثمانية وقيام الانتداب الفرنسي وما رافق ذلك من مفاوضات وانتفاضات أفضت حدوداً واستقلالاً وطنياً، محاولاً تقريب تاريخ سوريا الحديث إلى القراء دفعة واحدة بأحداثٍ متسلسلة كثيفة مترابطة على مدى قرن ونصف دون محاولات لإخفاء حقائق أو أدلجتها، عبر تشخيصٍ دقيقٍ للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرّت بها سوريا وقاطعها مع التاريخ وعلم الاجتماع السياسي.
يرصد نشوان الأتاسي (مواليد حمص عام 1948، والمقيم حالياً في باريس)، في كتابه الأول، الذي وضعه في العام 2013 واستغرق تحريره حوالي العام والنصف ليرى النور في أيلول 2015، يرصد التطوّرات التي طرأت على المجتمع السوري سياسياً واجتماعياً بين أربعينات القرن الماضي وبدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مقدّماً محاولة هي الأولى ربّما لكاتب سوري للخوض في تاريخ سوريا الحديث بمراحله المختلفة وصولاً إلى مرحلة حكم حزب البعث والرئيسين الأسد الأب والأبن، وانتهاءً باندلاع ثورة السوريين في منتصف آذار 2011.
وفي (375 صفحة) يستعرض المؤلف أهم الاستراتيجيات التي أسست تناقضات وبؤر الانفجار في المجتمع السوري بما فيها تشويه العلاقة بين المدينة والريف والخلافات المذهبية والطائفية والإشكاليات المناطقية دون إهمال هيمنة العنصر الاقتصادي والصراعات الطبقية.
أربع حقبات زمنية وسياسية..
يبين الكاتب والباحث السياسي اللبناني زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بباريس، في توطئته للكتاب أن الأتاسي قسم دراسته إلى أجزاء أربعة.
جاء الجزء الأول تأسيسياً، ينطلق بعد تمهيد تاريخي من أحداث النصف الثاني من القرن التاسع عشر اللاحقة لحملة إبراهيم باشا على سوريا، ليصل إلى الحرب العالمية الأولى ثم الثورة العربية (1916) اللتين ستُخرجان سوريا من السلطنة العثمانية المتهالكة.
أما الجزء الثاني فيخوض في تطوّر المجتمع السوري بين حدثَين: حدث وصول فيصل ومحاولته تأسيس دولته في دمشق ثم هزيمته أمام الفرنسيّين وبسط سلطة انتداب الأخيرين، وحدث نهاية الانتداب وجلاء القوات الفرنسية عن سوريا المستقلة العام 1946.
وفي الجزء الثالث يعالج الأتاسي العناوين الأعرض للتاريخ السوريّ الحديث، أي التالي على استقلال 1946، حيث تحضر في المقدّمة الانقلابات العسكريّة، من حسني الزعيم في 1949 إلى حافظ الأسد في 1970. مبرزاً أهم المواضيع المتّصلة بالحياة السياسية السورية وبأحوال المجتمع بين ما يعتبره “انتدابين”، الانتداب الفرنسي الآفل و”الانتداب البعثي” المقبل العام 1963.
ووفقاً للباحث اللبناني فإن مؤلف الكتاب تعامل في دراسته مع التاريخ السوري بوصفه “ملكاً للسوريين”، فهو (الأتاسي) يخرق الحظر المسدل على رواية الأحداث منذ العام 1970 من خارج سير النظام الرسمية، أي تلك النافية لوقائع والمستبدلة إياها بأخرى مخترعة أو محورة لتناسب المشروعية المراد كسبها، وهو يعيد الاعتبار إلى مرحلة من التاريخ (لاسيما مرحلة الخمسينات) وهو في كل ذلك يضيف إلى المراجع العربية أو المكتوبة لمؤرخين عرب واحداً تغطي صفحاته المدى التاريخي الأرحب بعد أن كانت أعمال أسلافه ألبرت حوراني وفيليب خوري وحنا بطاطو وكمال ديب وآخرين معنيّة بحقبات سابقة أو متخصّصة ومتوسّعة في مراحل محدّدة.
ويأتي نصّ الأتاسي بالتالي كنصّ جديد يبني على ما سبقه، ويكمل كرونولوجيّاً الفراغات والنواقص متعرّجاً في التحليل وفي المقارنات ليُبيّن الأبعاد الداخلية والخارجية للأحداث، وليقابل بين الدولة والمجتمع وجدليّات علاقاتهما ونزاعاتهما في منطقة “شرق أوسطية” حبلى بالأزمات، وفي سياق دولي من الحرب الباردة ثم من العالم الأحادي القطبية.
ويبين الكاتب السوري في هذا الجزء (الثالث) بتحليل عميق، الاصطفافات والتحالفات وأدوار الجيش وبعض الأحزاب أو التيارات الرئيسية والزعامات الوطنية والمحلية. وكيف هيمن حزب البعث على المجتمع والدولة والسلطة، هيمنة وصفها الكاتب بأنها “انتداب ثان”، قضى على التعدّد السياسي والتجربة الليبرالية التي عاشتها سوريا في الخمسينات قبل أن توهنها الانقلابات العسكرية، وكذلك على تجربة الوحدة مع مصر التي قضى عليها النظام البعثي.
أما الجزء الرابع والأخير فخصصه الأتاسي لدراسة “العصبية والدعوة والمُلك” بوصفها دعامات حزب البعث وقوام نشاطه وتنظيمه المُفضي بعد انقلابه العسكري سيطرةً على سوريا و”قيادةً للدولة والمجتمع فيها” لغاية العام 2011 تاريخ بدء الثورة الشعبية ضدّه.
كما يستعرض الكاتب مرحلة حكم الرئيس حافظ الأسد وتأثيره على الحرب الأهلية اللبنــانية، وعــلاقته بإيران، والاتحــاد السوفييتي ومن بعده روسيا، ومن ثمّ تطييفه الجيش والأمن، وصراعه مع أشقائه على السلطة وتأهيله لأولاده لوراثة الحكم، وهذه المرحلة بالذات هي من المراحل التي حاول الكثير من الكتّاب السوريين تجنبها، غير أن الأتاسي خاض فيها وفي وقائعها بتوسع معرّجاً على الخمس عشرة سنة من حكم ابنه بشار الأسد، ومن ثمّ إلى السنتين الأخيرتين من الثورة السورية وتشكيل تنسيقياتها وتياراتها السياسية وعسكرتها. دون أن يفوته تناول استراتيجية حافظ الأسد المستندة إلى جعل عدد كبير من مضموني الولاء ينتسبون إلى البعث، وتزيينه الحكم بما عرف بـ(الجبهة الوطنية التقدمية)، وإقراره لدستور منحه صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية كافة، جعلت منه شخصياً حاكماً بأمره. وكيف حوّل تدريجياً البلاد في عهده إلى “دولة أمنية” تسيطر عليها فروع الاستخبارات وقوات الوحدات العسكرية الرديفة للجيش النظامي، كالحرس الجمهوري والوحدات الخاصة.
وفي هذا المبحث اعتمد المؤلف المنهج “الخلدوني” في مقاربة الحقبة البعثية، من خلال اعتبار العصبية مدخلاً لفهم الولاءات والخصومات والتضامن داخل دوائر حزب البعث وقيادته وداخل الطائفة العلوية.
كما وثقت صفحات الكتاب لمحاولات تأسيس منتديات للمجتمع المدني وحلم البعض من المثقفين بترسيخ حرية الرأي والتعبير، وكيف وأد بشار الأسد هذه المحاولات.
كذلك يستعرض الكتاب علاقة نظام الأسد الأب السلطوية الإملائية ما بعد حكم البعث بالمنظمات الفدائية الفلسطينية، ورفعه شعار “الصمود والتصدي والتوازن مع العدو الصهيوني” كعنصر من عناصر شرعيته، متطرقاً في هذا الصدد إلى مفاوضات السلام مع “إسرائيل”، وموقف الرئيس حافظ الأسد من اجتياح العراق للكويت وحرب الخليج، والتحسن السريع في العلاقة السورية التركية زمن الأسد الابن ومن ثمّ انهيارها بنفس السرعة.
كما يتعرض الأتاسي لـ”ورطة” اغتيال الحريري في لبنان التي أجبرت القوات السورية على الخروج منه والقيام بتغييرات عسكرية داخلية أطاحت بالرعيل الأول لتستقدم شريحة جديدة أكثر فساداً وطائفيةً، وكيف أن كل المحاولات للانفتاح على المجتمع الدولي باءت بالفشل.
إماطة اللثام عن قصة اغتيال المالكي..
من أهم القصص التي أماط الأتاسي عنها اللثام في كتابه هذا، قصة اغتيال الضابط السوري عدنان المالكي في منتصف خمسينات القرن الماضي. كاشفاً في الصفحتين (214 – 215) من الكتاب تفاصيل القصة الحقيقة –كما يدعي- والتي يرويها لنا على النحو التالي: “كانت إحدى نتائج الإطاحة بالشيشكلي إعادة بعض الضباط الذين سرّحوا من الخدمة في عهده، وكان أبرزهم عدنان المالكي، حيث تم تكليفه بمنصب معاون رئيس هيئة الأركان. وفي شهر نيسان 1955، وأثناء حضوره لمباراة في كرة القدم، قام رقيب في الشرطة العسكرية يدعى يونس عبد الرحيم (علوي) باغتياله، وعلى الفور قام شرطي آخر (علوي) بإطلاق النار على عبد الرحيم فأرداه قتيلاً، وبذلك طُمست معالم الجريمة ولم تُعرف دوافعها. لكن حزب البعث اعتبر اغتيال المالكي ضربة موجهة له على اعتبار أنه كان صديقاً لهم، كما كان شقيقه رياض عضواً في الحزب، لكن عدنان نفسه لم يكن بعثياً.
كان ممن شاركوا في عملية الاغتيال ثلاثة من عناصر الشرطة، أحدهم الرقيب محمد مخلوف (شقيق زوجة الرئيس السابق حافظ الأسد وخال الرئيس الحالي بشار، ووالد رجل الأعمال السوري الذائع الصيت رامي مخلوف). ولما كان الثلاثة أعضاء في الحزب القومي السوري الذي كان يسعى لإلحاق سورية بحلف بغداد، فقد اُعتبر الاغتيال جزءاً من محاولة عراقية لقلب نظام الحكم في سورية. كما وجهت التحقيقات أصابع الاتهام إلى زعيم الحزب الذي خلف أنطون سعادة، اللبناني جورج عبد المسيح، لأن حزبه كان قد وجه سابقاً اتهاماً للمالكي بأنه كان وراء تسريح رفيقهم المقدم غسان جديد (الشقيق الأكبر لصلاح جديد، عضو اللجنة الخماسية العسكرية البعثية، والرجل الأول في سورية بين عامي 1966 و1970)، وكان المالكي قد سرّحه فعلاً متهماً إياه بالتعامل مع الأميركيين. وعلى هذا شُنّت حملة تصفيات واسعة ضد الحزب أدت إلى انتهاء دوره ووجوده في سورية، وحُظر الحزب قانونياً، كما حُكم على مخلوف بالسجن المؤبد ولم يُفرج عنه إلا إثر انقلاب البعث عام 1963. وجرى اغتيال غسان جديد في بيروت. وبذلك تمكن البعثيون من التخلص نهائياً من أكثر منافسيهم خطورة على الساحة السياسية والعقائدية في سورية.
وقد ظهرت لاحقاً نتائج تحقيقات متعددة، نفت ضلوع الحزب في عملية اغتيال المالكي، وعزتها إلى المخابرات المصرية، في إطار الصراع بين العراق من جهة ومصر والسعودية من جهة أخرى. كما أن الحزب نفسه نفى بشدة ضلوعه في العملية واعتبرها ذريعة لتصفيته سياسياً وتنظيمياً. وفي مطلق الأحوال، فقد أدت العملية، وبغض النظر عن هوية مدبريها الفعليين، دورها كاملاً، بحيث أطلقت يد البعث في توجيه السياسة السورية، بتعاون – مرحلي – مع الحزب الشيوعي”.
وقد قسّم الأتاسي في سياق اطروحاته، الحقبة البعثية إلى مراحل ثلاث: مرحلة محمد عمران (1963 – 1966)، فمرحلة صلاح جديد (1966 – 1970)، ثم مرحلة حافظ الأسد الذي خلفه ابنه بشار (2000 – حتى يومنا هذا). مستعرضاً كيف تخلّلت هذه المراحل تبدّلات في القيادة البعثية وفي الهويات المناطقية والطائفية للضباط البعثيين، كما تخلّلتها حربا العام 1967 و1973 مع “إسرائيل” وجرى خلالها اجتياح لبنان وتطوير تحالفات إقليمية مع إيران. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الحليف السوفياتي، تبدّلت بعض أدوار سوريا الخارجية وبدأت التحوّلات الاقتصادية داخلها، واستُبدلت لاحقاً القيادات السياسية بأُخرى أكثر ارتباطاً بالعائلة بعد توريث بشار الحكم العام 2000. فحكَم الأخير عقداً من الزمن قبل أن تبدأ الثورة على حكمه في أول العقد الثاني وتفتتح تاريخاً جديداً.
وتجدر الاشارة إلى أن الكاتب نشوان الأتاسي، ضمّن كتابه مجموعة من الملاحق (ديمغرافية وجغرافية واقتصادية)، حاشداً مراجع مهمّة وحواشي غنية بالتفاصيل والمعطيات، مستنداً على كم كبير من المراجع والأبحاث ومذكرات عدد من السياسيين السوريين الراحلين الذين كان لهم أثر كبير في الحياة العامة السورية، من أمثال خالد العظم وأكرم الحوراني وبشير العظمة.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Christa Salamandra | سبتمبر 6, 2017 | Culture
تدهورت علاقة المالح مع السلطات السورية بعد فيلمه شظايا، والذي يعتبره مخرجه نهاية مرحلة في حياته المهنية. حدث أمر محوري في عيد ميلاده في سبتمبر 1981. إذ فيما كان المخرج يقود سيارته بالقرب من وزارة الخارجية، أشار له حارس للتنحي جانباً للسماح لسيارة رسمية بالمرور. توقف المخرج، ولكن على ما يبدو ليس بالسرعة الكافية، فقام الحارس بضربه على رأسه بعقب بندقية. فقد المالح وعيه ليستيقظ على صوت اعتذار ضابط في مركز الشرطة. قرّر مغادرة سوريا وسافر إلى الولايات المتحدة على منحة فولبرايت، على الرغم من عدائه الطويل الأمد لسياسة البلد الخارجية. لقي المالح استقبالاً حاراً ومشجعاً في عدد من الأكاديميات. درس الإنتاج السينمائي في أوستن وجامعة كاليفورنيا، ولكن مدفوعاً بشوقه للإخراج، انضم إلى شركة إنتاج ليبية في جنيف في سويسرا وجدها باردة ثقافياً وعقيمة إبداعياً، “عالم بنوك ورجال الأعمال.” أمضى المخرج وعائلته عقداً في اليونان، حيث أنتج نبيل أفلاماً للتلفزيون الليبي، بما في ذلك “وقائع حلم”، فكرة خيالية مُستوحاة من الماركسية تدور حول التقدم البشري متخيلاً مدينة فاضلة حرة. ألّف المالح خلال إقامته هذه في اليونان السيناريو لعمله الرئيسي التالي “الكومبارس”.
رسم المالح “الكومبارس” للإنتاج المصري متخيلاً النجوم نور الشريف ويسرا. ولكن في زيارة له لمروان حداد مدير المؤسسة العامة للسينما في دمشق، عرض عليه الأخير تمويلاً لتصوير الفيلم في سوريا مع الممثلين السوريين بسام كوسا وسمر سامي في الأدوار الاساسية، بدأ التصوير في دمشق في عام 1992 للفيلم الذي أصبح أفضل أعمال المالح وأشهرها خارج وطنه بل أصبح الفيلم أيضا أول عمل سينمائي السوري يحصد اهتماماً كبيراً. (1)
بصدوره عام 1993 عكس “الكومبارس” الهموم الاجتماعية والسياسية المحورية في عمل المالح. يصور الفيلم كفاح سالم، طالب في كلية الحقوق وعامل في محطة الغاز، وصديقته الأرملة الخياطة ندى، اللذان يقيمان علاقة رومانسية وسط هموم الظلم واللوم، واللذان لم يحظيا بأية خصوصية أثناء الخطوبة منذ ثمانية أشهر. استعار بطل الرواية الشاب، وهو ممثل طموح لديه فأفأة، شقة صديقه عادل للقاء محبوبته. تدور أحداث الفيلم بأكمله، باستثناء الافتتاح والختام، بين جدران باهتة لدار خانق، في رمزية للحالة السورية وربما العربية. أشارت اللقطات إلى الوجود الكئيب للشخصيات الرئيسية ‘: سالم يقوم بتلميع السيارات والتدرّب على أدوار قصيرة لمدير المسرح الذي ينسى أسماء الكومبارس؛ وندى في مصنع آلات الخياطة تتقاسم فناء منزل متواضع مع عائلة أخيها.
في أحد لقاءات الحب قال عادل أنه سيلتقي بأهل زوجة المستقبل، وهو على وشك الزواج، ولكن حنقه على الرذيلة صديقه. يقرع الباب غريب متأنق ويتّكِىء على عتبة ليطرح بإلحاح أسئلة مهذبة عن الجار المجاور. يتوقع سالم أنه عنصر مخابرات، الذي يشير إلى أنه التقى الممثل الهاوي. تغادر الشخصية المريبة، ويعتبر عادل أن الحدث لا يهمه، ولكن كلا الرجلين بات متوتراً.
يرتب سالم السرير وحيداً ومرقباً ويتخيل العنصر واثباً مع عشاق يتلوون تحت الغطاء. تقرع الباب بائعة متجولة، ولكنها تحتج عندما أعطاها سالم المال من دون أخذ بضائعها: “أنا لست متسولة”. تصل ندى مهيجة في وقت متأخر، قلقة من أن يكون شقيقها قد لحظها لها وأن يكون الجيران أثناء صعودها الدرج قد شعروا بغرض الزيارة غير النزيه. حثها سالم على اعتبار الشقة “مساحة حرة” منفصلة عن العالم الخارجي.
قطعت تخيلات سالم حول مداعبة ندى حديثهما الحرج. وعندما تعانقوا أخيراً، حطم الزجاج المتهاوي هجران ندى. طلبت مغادرة الشقة مذعورة من أن يفتضح أمرها. يقترح سالم تبادل عهود الزواج لقتل خوفهما. يتخلل سمعهم نغمات عود حزينة قادمة من بيت أحد الجيران من خلال الجدران الرقيقة. يتحدث سالم عن التمثيل ويلقي بضعة أسطر من أحدث اعماله، والذي يلعب سبعة أدوار مختلفة ولكن لا يتم ذكره في البرنامج. لم تذهب ندى أبداً الى المسرح. اعتلى سالم منصة وهمية جامعاً الستائر وأغطية غرفة المعيشة. مثل دور الحاكم الظالم الذي يرسل رعاياه المتمردة إلى السجن. اعترضت ندى على الظلم، ولكن قال لها سالم أن ليس لديهم خيار سوى لعب الأدوار المكتوبة. إنه لن يقبل الإهانة إذا حدثت في الواقع. ثم يقوم بتجسيد اثنين من أدواره الأخرى: حارس في السجن وعنصر مخابرات، شخصيات يحتاجها الحكام. تكره ندى هذه الشخصيات الجديدة وقالت: إنها تفضل أدواره الثانوية، والتي برغم صغرها إلا أنها تُمثِّل ناساً محترمين. يرى سالم أنه يجب أن يقبل هكذا أدوار من أجل تحقيق النجاح. ينوي المالح القولَ: إن كلّ سوري يواجه معضلة مشابهة.
خطيبة عادل المحدث النعمة فجة وتُقحِم نفسها في كل شيء. إنها تغيظ الحبيبين، ولكنها تتعاطف معهما –لو كان لديهم المال لتزوجا، مثلها وعادل. تتركهما بمفردهما، فيضحكان وهما في طريقهما للسرير الذي تداعى على الفور. ولإصلاحه زحفوا تحت شبكة الإطار الحديدي، لاحظت ندى تشابه الشبكة مع قضبان السجن الذي يرزح خلف قضبانه الكثير من مواطنيهم. يقاطعُ جرس بعيد عناقاً آخر.
تستعد ندى للمغادرة، ويعود العنصر المتأنق هذه المرة مع اثنين من قطاع الطرق يسأل عن زوّار الجيران المعتادين. يسحب المتوحشون عازف العود الأعمى الذي يتوسل طلباً للمساعدة. يحاول سالم التدخُّل ولكن أحد البلطجية يطرحه أرضاً ويأخذ العازف بعيداً. لا يستطيع الكومبارس التمثيل، يجعل الرعب أبكماً، حتى لتوسلات ندى التي تغادر الشقة وتنهار حين تبتعد عن مسامع سالم لتخرج خلسة من المبنى. في المشهد التالي يلحق بها سالم المحبط المُتخبِّط قبل أن يسير في الاتجاه المعاكس. تزحف صورة الكاميرا مُتسلّقة بناية سكنية ضخمة.
قد يكون الكومبارس عمل المالح أو العمل السينمائي السوري الأكثر تجسيداً وإدانة لسياسة البعث البوليسية. يصل انتقاد الفيلم إلى أبعد من النخبة السياسية، يتّهم الربط المبدع للعجز الجنسي والقمع السياسي المجتمع العربي والنظام الأبوي
(Wedeen 1999, 116; Gugler 2011,129-130)
مهنة سالم هي الروي. الإرغام على التصرُّف ضدّ معتقدات المرء ورغباته يورط جميع السوريين في مسايرة للنظام. [2] ترثي ندى التي أجبرت وسالم على التصرُّف مثل اللصوص وسرقة وقت يمضيانه بمفردهما. حتى في هذا، لم يكونا مفلحين.. يوحي المالح أن سوريا لا تقدم لمواطنيها سوى أدوار صغيرة ليؤدوها في الخفاء؛ يتواطأ العديد ويُحاربوا الدولة ، ولكن يفشلوا في تحقيق المكاسب التي وعدوا.
بلغ فيلم الجماهير العالمية، ليكسب بطليه سمر سامي وبسام كوسا أعلى جوائز التمثيل في بينالي السينما العربية في باريس ويفوز المالح بجائزة أفضل مخرج في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (Gugler 2011,131)، كما فاز في الجائزة الفضية في مهرجان ريميني السينمائي الدولي في عام 1995. وقد تمّ عرض فيلم الكومبارس لأول مرة في سورية صباح يوم جمعة كحدث صباحي ثانوي بدلاً من أن يكون مُنافساً في مهرجان دمشق السينمائي الدولي في عام 1995. يذكر المالح أن هذا هو أسعد يوم في حياته، اليوم الذي “كسر جليد المنفى الطويل.” أحرج مسؤول من المهرجان الأخير، في زيارة لدمشق، السلطات السورية إلى عرض الكومبارس في سوريا، حيث انتصر الفيلم. ملأت الجماهير مسارح الكندي الحكوميّة الستة خلال عرض الفيلم لمدة أربعة أشهر .(Wedeen 1999,116)
في حين شهدت فترة التسعينات تحسناً طفيفاً في شروط الإنتاج الفني، إلا أن أمل أن التحرّر السياسي من شأنه أن يترافق مع الانفتاح الاقتصادي تبدّد في وقت مبكر من العقد. عندما سأل الصحفيون المالح لتقييم حال السينما العربية، أجاب: “إنها حالة العالم العربي عموماً: كتلة يحكمها قانون القصور الذاتي، يديرها اللصوص والمستفيدين والعشائر وأولئك الذين يحملون أجندة معارضة ومتناثرة، والمبدعين من الأفراد الذين لا يملكون المال، لا السلطة ولا السلاح، ولكنهم يجسدون المشروع الوطني “.
بقي التزام المالح تجاه سوريا وجمهورها ثابتاً، وانعكس في عمله التلفزيوني. مُتفرّداً بين صُنّاع السينما السورية، فقد أخرج عدة مسلسلات، لصناعة الدراما التلفزيونية في البلاد كأهم دراما عربية. فازت أعمال مثل “حالات” و”سري للغاية” بجوائز في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون. وبعد إجراء بحوث مكثفة، كتب المالح سيناريو مسلسل “اسمهان”، السيرة الذاتية للمغنية السورية الأصل نجمة الشاشات المصرية اسمهان. أخرج العمل التونسي شوقي الماجري في عام 2008 وعُرِض على مختلف القنوات الفضائية العربية.
جلبت الألفية الجديدة الشباب بشار الأسد الذي تلقى تعليمه في بريطانيا إلى السلطة بعد وفاة والده في عام 2000. انضمّ صُنّاع الثقافة للعديد من السوريين في توقع حل الدولة البوليسية وظهور السياسة التشاركية. قاد المالح تشكيل لجان إحياء المجتمع المدني، التي اجتمعت في منزله في دمشق. شكّلت المنظمة واحدة من أبرز المنتديات الجديدة في ما أصبح يعرف باسم ربيع دمشق، النقاشات الإصلاحية المزهرة الوجيزة التي ميزت الأشهر الأولى لتولي الرئيس الجديد منصبه. وانضم المالح، بكونه المُتحدِّث الرسمي باسم المجموعة المُثقفين البارزين لطرح المخاوف من زيادة الفقر والفساد والعسكرة وتنامي نفوذ الإسلام السلفي. وقّع أعضاء المُنتدى سلسلة من التصريحات التي تدعو إلى ذات إصلاحات ديمقراطية نفسها التي طالبت بها لاحقاً جماعات المعارضة عام 2011 مثل إلغاء قانون الطوارئ المستمر منذ أربعة عقود. وبعد أقل من عام، حدثت سلسلة جديدة من التدابير القمعية، بما في ذلك الاعتقالات الجماعية، لتعري ما اعتبره المعارضون الهدف الحقيقي وهو تحديد هوية المعارضين وإسكاتهم. وسرعان ما قام مدير المؤسسة العامة للسينما الجديد بتهميش المالح، جنباً إلى جنبٍ مع صنّاع السينما الآخرين في البلاد- عمر أميرالاي وأسامة محمد، ومحمد ملص – كمُنشقين. تلقّى أعضاء آخرين من هذا الفوج الدعم الأجنبي؛ واجه المالح قلّة في المال. اقترض المال لفيلم تلفزيوني وكان فيلم “غراميات نجلاء” اول فيلم ناطق باللغة العربية فيلم يصوّر رقمياً. بُثَّ على التلفزيون السوري، يستكشف هذا العمل انقلاب الحياة في قرية سورية خلال استضافة طاقم الدراما التلفزيونية. كما كتب سيناريو لفيلم سياسي عن هروب ضابط فاسد من بغداد عشية الغزو الأميركي Hunt Feast، الذي يعتبره المالح فيلم أحلامه صُوِّر عام 2005 كمشروع سوري بريطاني مشترك، لكن العمل بقي أسير معركة قضائية بين المُنتجين.
تمّ تكريم المالح في السنة التالية لمهرجان دبي السينمائي الدولي (الذي شمل المكرَّمين آخرين كالمخرج الأميركي أوليفر ستون ونجم بوليوود شاه روخ خان)، لمساهمته البارزة في السينما. ثم استقبل لجنة من الهيئة السورية لشؤون الأسرة وأنتج ستة عشر وثائقياً واثنان وخمسون “حلقة” للتلفزيون السوري تمّ حظر أغلبها على الفور. والجدير بالذكر أن من بينهم الأجزاء الثلاثة من الطريق إلى دمشق. هذه الرحلة الفوتوغرافية عبر سوريا تُنذر بالصراع الحالي بشكل خارق للطبيعة، وزيارة مناطق مُشقة وحرمان والتي وبعد سنوات قليلة ستثور في احتجاجات مناهضة للنظام.
شكّل المالح رحلة الطريق مع افتتاح اصطلاحي من الفولكلور العربي “كان ياما كان أيام زمان” ليروي القصة الحقيقية الكاملة لأمة فاشلة. يرسم المالح مشاهد “المدن المنسية” والأطلال الأثرية في سوريا بالتوازي مع الدمار المعاصر الذي يجبر الكثير من المواطنين على التخلي عن المدن والقرى المحببة للبحث عن حياة أفضل في العاصمة. يسافر طاقم الفيلم الوثائقي عكس هذه الموجة البشرية. على الرغم من اختلاف اللهجات إلا أنّ حسرة السوريين هي إلى حدّ كبير واحدة: البطالة والاستغلال والتلوث والفساد. يطالب أكثرهم الدولة بالتحرك، ولكن صوت يشير مُتفرّد إلى وجود الفردية الليبرالية الجديدة: “ألا يكفي، كل الضغوط التي يواجهونها من الخارج”، تتساءل أمّ شابة لكثير من الأطفال “لماذا نلوم الحكومة على أخطائنا؟ ” يندب مغنٍ في الخلفية: “لكل واحد قصة في القلب.” تُوفّر السينما مقياساً: كان في إحدى القرى ذات مرة ثلاثة دور السينما، كلها قد أغلقت. مشاهد من الفقر، وأحلام الناس في تركها تلقى الإجابة لدى أولئك المهاجرين الذين أسسوا لسكن غير شرعي في ضواحي دمشق. على الرغم من أنها لم تصل للجماهير السورية، فقد كان عرض “الطريق إلى دمشق” الدولي الأول في Dox Box Global Day في مالمو في السويد في مارس 2012، وتم عرضه لاحقاً في أكاديمية ومنظمات غير ربحية مختلفة في أوروبا والولايات المتحدة.
مزج الفيلم ببراعة الصور والقصص ونسج حكايات شخصية وسياسية، ليعكس التزام صانعه لكشف حقيقة غير مريحة. كانت الأنظمة العربية والحكومات الأخرى أحسنت صنيعا لو أنها أصغت للرسالة القوية في “الطريق إلى دمشق”. عندما أشار معظم زملائه إلى اللامبالاة الجماعية المتزايدة، كان المالح أحد قلّة من المثقفين العرب بالتنبؤ أربع سنوات مقدماً بالانتفاضة العارمة التي اجتاحت المنطقة عامي 2010 و 2011: “أعتقد أن شيئا ما – انفجاراً – سيحدُث، لأنه ليس من الممكن للإنسان أن يقبل العيش في هكذا ظروف لفترة أطول، على الأقل كانت هذه دروس التاريخ. سينبعث ضوء من هذه الفوضى والتلوث.. أنا أعلم أن هناك العديد مثلي في العالم العربي. ونحن نستمد قوتنا من مجرد معرفتنا أننا هنا، على قيد الحياة “(المالح 2006، 94).
[للجزء الأول اضغط/ي هنا وللنسخة الإنجليزية اضغط/ي هنا]
[ترجمه إلى العربية رفاه برهوم]
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة Christa Salamandra | سبتمبر 5, 2017 | Culture
يُجّسد المُخرِج السوري نبيل المالح شخصية الفنان الناشط، المُنِتج الثقافيّ المُلتزم اجتماعياً والناشط سياسياً. تحدّى المالح بأعماله، على مدى عقود من إنتاج أنماط فنية مختلفة، الأنظمة الفنية والثقافية والسياسية. غالباً ما يستشهد المالح بلحظة حاسمة من الطفولة المقاومة: يُواجِه الطفل نبيل, البالغ من العمر سبع سنوات, الجندي الذي حاول أن يبعده عن أرجوحة حديقة عامة لكي يتمكّن أطفال ضُبّاط من اللعب فيها. في مقابل تحديه هذا، تلقّى الطفل الصفعة التي، كما المالح يقول، تردد صداها طوال حياته. [1]
ولد المالح عام 1936، وهو ابن طبيب رفيع المستوى في الجيش ، هوالشقيق الأكبر لأربعة أخوة في أسرة نخبوية دمشقية. درس القانون في جامعة دمشق، ولكن ميوله انصبت في العلوم وشغفه كان في الكتابة والرسم. التقى المالح بالملحق الثقافي التشيكي بالصدفة ، الذي شجعه على متابعة حلمه في دراسة الفيزياء في براغ. بسبب عدم وجود التمويل، قام الفتى ذو السبعة عشر ربيعاً ببيع واحدة من لوحاته للأونروا، ليكسب بذلك ما يكفي لأول أشهر من وجوده في تشيكوسلوفاكيا. غيّر المالح اختصاص دراسته من الفيزياء النووية الى قسم السينما في براغ ، وانضمّ بذلك الى فريق ضمّ جيري مينزل وميلوس فورمان. وأثناء تواجده في تشيكوسلوفاكيا، لفت انتقاده للنظام الناصري المسيطر على سوريا في ظلّ الجمهورية العربية المُتّحِدة انتباه أجهزة الاستخبارات السورية التي دعته بالمُنشَق الأمر الذي بقي مصدر ضيق وإلهام.
بعد عودته إلى سوريا بعد التخرج في عام 1964 كأول خريج سوري من مدرسة السينما الأوروبية، أخرج المالح الأفلام القصيرة واستمر بالرسم مقيماً أول معارضه الفنية. وكتب أيضا سيناريو مقتبس عن رواية للكاتب السوري حيدر حيدر بعنوان (الفهد)، و هذه الرواية كانت تصوير خيالي لأبي علي شاهين، الثائر الأسطوري لحقبة الاربعينيات 1940. وقبل أسبوع من موعد التصوير المُقرّر، ألغت وزارة الداخلية تصريح التصويربحجة أن الفيلم يُمجِّد سفاح. وفي عام 1971 أعطي فيلم ليوبارد إذناً رسميّاً، وأصبح هذا التجسيد للمقاومة الريفية أول أطول فيلم روائي سوري.
أسر فيلم (الفهد) قلب الجمهور العربي حين صدوره عام 1972 ليقدم بذلك السينما السورية إلى الساحة العالمية. تدور أحداث الفيلم في العام 1946 حين قلّصت قوات الانتداب الفرنسي وجودها، واستغراق الاقطاعيين المحليين المعروفين بالأغوات في الظلم. يبدأ الفيلم بمشهد يعاد أكثر من مرة وهو مشهد قريب لوجه بطل الرواية مقطب قبالة بحر هائج يرسم القصص الشعبية السورية. في المشهد الثاني، ذو الصورة الظلية، تسأل شفيقة، زوجة أبو علي، عن سبب امتلاكه بندقية بعد أن غادر الفرنسيون. أبو علي يتجنّب الإجابة على السؤال، ولكن يأتي الجواب بسرعة: الإقطاعيين السوريين المدعومين من قبل الجنود يطلبون جزية تفوق قُدرة الفلاحين على الدفع بعد موسم حصاد سيّئ. يُقاوِم البطل ولكن يُلقى القبض عليه ويُضرب، إلا أنه يتمكّن من الهرب إلى التلال ليشنّ هجمات مُتمرِّدة ضِدّ قوات جديدة من الاستبداد. حاول رفاق من أيام مقاومة الفرنسيين الانضمام إليه، ولكنّ أبو علي صدهم ؛إنها معركته وحده.
حاول الجنود حمل المتمردين على الاستسلام من خلال مضايقة سكان القرية وسرقة طعامهم وبعد الغارة العسكرية البشعة التي قُتِل فيها ابن أخت أبو علي، طالبت شقيقة البطل أخيها بالثأرلابنها. لقد أدّى تمرُّده هذا إلى انتقام عنيف. زارت شفيقة أبو علي في مخبئه مُؤكِّدة دعم القرويين له، على الرغم من وحشية الآغا ليُجسِد هذا اللقاء العاطفي لأول مشهد إغراء في السينما العربية، إذ داعبت الكاميرا جسد المُمثّلة العاري إغراء المُتمدّد تحت المُتمرد الوَلِه (الإغراء “، نهاد علاء الدين).
انضمت شفيقة في وقت لاحق لزوجها في الدفاع عن موقفه ضدّ فصيلة مُسلّحة. كمادوّن Cecile Boëx أنّ هذا التصوير للأنثى المُقاوِمة يُفِسد اتفاقيات السينما التجارية، وشفيقة لم تَعُد مُجرّد جسد يُرضِي الرغبات الجنسية، ولكنها مُتمرّدة تُحارب من أجل قضية جماعية )2011,135(
تدهورت أحوال الفلاحين ، وعبد الرحيم “المُسلّح الوحيد”، قتل لإطعام صديقه المُطارد. مدفوعين بالغضب، انضمّ عدد من رجال القرية لأبو علي في غارة على مجموعة من الجنود تتناول الذبائح عند الآغا، سرقوا أسلحتهم، وأضرموا النار في مستودع القائد العسكري. أُلِقي القبض على شفيقة وابنها علي في محاولة لإرغام الُمتمردين على الخروج من مخبئهم، لكنه فاجأ الحُرّاس وأنقذهم. عاد إلى أهله وحاول نقلهم إلى مكان أكثر أماناً، لكن هذه المحاولة فرقتهم ليعود أبو علي وحيداً مرة أخرى. لجأ لفترة قصيرة لأحد شيوخ القرية، الذي شكك في الخطة التي خلقت سلسلة انتقام دموية ، ليجيب أبو علي “لم أستطع إلا أن أفعل شيئاً”. أجابه الحكيم “لكن بندقيتك لم تقم بما هو خير”، ، مشيراً إلى أن الجنود إن هم الا رجال فقراء مقموعين يحاولون إطعام أسرهم.
اتهم الفلاحون أبو علي بخوض معركة خاسرة وجلب الخراب إلى القرية و لكنهم تملصوا من مطالبة السلطات بمعرفة مكان البطل. إلا ان خيانة أبي علي أتت من عمه الذي خنقه المتمردون قبل تمكن الجنود من سحبه بعيدا عنه. رُبط البطل وتم جره في شوارع القرية، ثم قُيّد بشبكة من السلاسل و تم ضربه. طلقات من النار على البحر لجلب الانتباه لشخصية أبو علي المكبلة بالأصفاد تسير على طول الشاطئ متجهة لحبل المشنقة، حيث القرويين جنبا إلى جنب مع الآغا ورجاله، ينتظرون بصمت كئيب. و عند شنق أبو علي يظهر مشهد جوي لكامل الريف وتظهر في الأفق صورة ظلية خيالية للفلاحين الحانقين.
يمثل الفهد جهده الأول المتواصل لاستكشاف، من خلال المثال السردي، الخطأ الذي استمر في إضعاف مساعي السوريين الثورية. تعزز السياسة صياغة الفيلم بدلا من السيطرة عليه. يتماهى المالح مع بطل روايته ، وهو المتمرد المنعل الوحيد الذي يقاتل من أجل الاستقلال الحقيقي، “مدفوعاً بالكرامة واحترام الذات والتصميم على الذهاب للحد الأقصى، حاملاً صليبه بلا ندم.” بسرده قصة أبو علي، كما هو الحال في أعماله الأخرى، يناضل المالح من أجل لغة سينمائية جديدة لا تنتمي إلى مدارس النمط السينمائي:
لم يسبق لي ان أحسست بأن هناك مدرسة أستطيع اتباعها، فأنا أحاول ايجاد طرق خاص بي. أحيانا أنجح. لكن كشف الخمار عن ما لا نعرفه عن أنفسنا يبدو لي أكثر أهمية من اتباع حركة سينمائية. . ما من أنماط قابلة لإعادة الاحياء، هنا فقط اشكال يجب أن تُخلَق وتُكتَشف. أنا أتجنب المدارس والاتجاهات الموجودة مسبقاً.
يوظف فيلم الفهد تقنيات الواقعية الجديدة بما في ذلك مواضيع الفقر والقمع، والاستعانة بممثلين غير محترفين و بالتصوير الأسود والأبيض. يمكن القول أن الفيلم أسس للهجة الأسلوبية على مدى العقود اللاحقة للإنتاج الخيالي الاعلامي السوري. يعكس الفهد جمالية الظلام التي أصبحت السمة المميزة لأسلوب البصرية السورية. إذ يعتمد المنتجون الثقافيون الحاليون، عمدا أو من غير عمد، على جمالية قاتمة قُدّمت في الفهد ( Salamandra 2012;2015).
تعكس مشاهد مؤطرة للريف وبيوته الحجرية التقليدية اهتماما مدروسا لمصداقية الديكور والملابس. يرى المالح الفيلم كجزء من التوثيق الثقافي، كشكل من الأنثروبولوجيا الإنقاذ لتقفي ما تبقى من “البيئة الريفية الحقيقية “. تظهر مشاهد الحصاد في المناطق الريفية الممارسة اليومية تحت مراقبة الجنود المتوعدة. يصف المالح الدافع وراء تقنياته الواقعية:
تطلبت البيئة القاسية حلولاً قاسية. كرهت ولازلت أمقت الادعاء. جسد اللون، بالنسبة لي في ذلك الوقت، نزيفا كاذباً غطى أصالة الأشياء والشخصيات والعواطف. استكشفت مع الفهد المواقع والناس. أذهلتني أصالة كليهما [في المنطقة الساحلية السورية] تجانست تماما مع مفهومي للفيلم. حتى أنني رفضت مساحيق التزيين. قلت الجميع أن أشعة الشمس كانت أفضل خبير تزيين. غمرني العمل مع الناس من تلك القرى، الذين لم يذهبوا إلى السينما قط، بنشوة الفرح.
يتوقف غنى الفيلم الواقعي المحلي على اللغة، و يعتمد الحوار على مصطلحات العامية السورية. وهذا، بحسب المالح، يعكس روح السياسي في عصره. توظف الأفلام من حقبة الثمانينات والدراما التلفزيونية من التسعينات فصاعدا اللهجات المحلية مع التجمعات الطائفية والإقليمية المصاحبة لها – مودية في كثير من الأحيان إلى تأثير مثير للجدل (سالاماندرا 2004). لكن مازالت أواخر السبعينات تحمل أمل الوحدة العربية: “لم أعط اهتماما خاصا للهجة، بالنسبة لي كان الفهد رمزا سوريا أو حتى رمزا قوميا عربيا.. في ذلك الوقت، لم تكن للهجة الساحل السوري نفس الدلالات السياسية أو الاجتماعية كما اليوم. لم أتنبأ بالانتقال الجلي من اللهجة إلى الموقف “. [2]
حصل الفهد على جائزة خاصة في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي في عام 1972، وهو نوع من الاعتراف الأوروبي بما حققه صانعوا السينما العرب. كما حظي الفيلم بنجاح محلي غير مسبوق. ومن مفارقات صناعة السينما السورية فإن معظم أعمالها التي المؤسسة العامة للسينما إما أن تكون ممنوعة من العرض أو ببساطة تفشل في تحقيق التوزيع المحلي (السلطي 2006). عرض الفيلم في دور السينما في جميع أنحاء سوريا رغم رسالته الضمنية: لقد مات الاستعمار الأجنبي ، ولكن لازال القمع حياً. احتل فيلم وصانعه مكانة متميزة في الذاكرة الجمعية للوسط الفني السوري، وألهمَ أجيالاً من صُنّاع الإعلام. استشهد شريف كيوان، عضو جمعية أبو النضارة للمخرجين المُتمردين، بمشهد الحبّ:” رؤية جسد امرأة في الفيلم مَلأني بشعور حرية عارم، لقد تخطّى المشهد الحدود إذ أثّر فيي أكثر من أيّ شيء سياسي مباشر “. [3]
ما زال الفيلم يُذكر خارج منطقة الشرق الأوسط: اختار مهرجان بوسان الدولي في كوريا الجنوبية عام 2005 فيلم الفهد كأحد “الروائع الخالدة في السينما الآسيوية.”
يُجسِد المالح تناقض السينما السورية؛ على الرغم من تلقيه تمويل المؤسسة العامة للسينما إلا أنّ المالح يُعامَل كمنفي، تمييزٌ يعتبره المالح شرفاً. لقد مكّنه التمويل الحكومي بالتخلي عن مصادر تمويل خارجية، الأمر الذي منحه بحسب اعتقاده مصداقية محلية أكبر. على غير عادة الأفلام العربية نال الفهد كغيره من أعمال المالح وخصوصا الكومبارس، على حدّ سواء الإعجاب العالميّ والشعبية المحلية. عُرض في أكثر من عشرين صالة عرض سورية لأكثر من ثلاثة أشهر، أسّس العمل لسمعة رائعة في العالم العربي وخارجه.
وعلى الرغم من التدخُّل المُشتِّت من مُمثّلي الدولة الذين وصف المالح تصرفاتهم بـ “تصرفات أشبه بالمخابرات أكثر من كونها تصرفات وكلاء ومديري مشاريع ثقافية،” كانت فترة السبعينات مُثمرة للصناعة السورية الحديثة. عقدت دمشق عام 1972 أول مهرجانها السينمائي الدولي السنوي مُعزّزة السينما العربية البديلة. أنتج المالح خلال هذا الوقت العديد من الأفلام القصيرة التجريبية، بما في ذلك ” نابالم” ذو التسعين ثانية، الذي يربط بين حرب فيتنام والاحتلال الإسرائيلي مستوحياً قصته من الحروب في فلسطين وفيتنام لينال عليه الجائزة الأولى في مهرجان تولون السينمائي. وفيلم ” الصخر” الذي ناقش ظروف العمل المحفوفة بالمخاطر لعمال المقالع السوريين. وأخرج أيضا عمل ” المخاض” الجزء الأول من ثُلاثية ” رجال تحت الشمس”، الثلاثية التي تناقش وضع الفلسطينيين والتي عُرِضت عام 1970. وقد قدّم عمله ذو المُحاكاة الساخِرة والمُموِّل من القطاع الخاص ” غوار جيمس بوند” دريد لحام كشخصية تلفزيونية كوميدية إلى الشاشة الكبيرة عام 1974. فيما ناقش “السيد التقدمي” عام 1975 تحقيقات صحفية لكشف فساد الطبقة الوسطى. لكن تمّ حظر الفيلم في سوريا لتصويره السلبي لصورة النظام/الحكم.
بحلول نهاية فترة السبعينيات، واجهت سوريا توتراً متزايداً مُتمثّلاً بتحديات الإسلاميين المُسلّحة والتي بلغت ذروتها في القمع الوحشي للانتفاضة في حماة عام 1982 .وفرضت دولة البعث سيطرتها على التعبير الإبداعي. يقول المالح “تعارضت مع البيئة الثقافية المتحجرة في شعارات التقدم الزائفة “، ولكنه واصل عمله. وشهد العام 1979 إطلاق رائعته الثانية ” بقايا صور” معالجة واقعية لرواية السيرة الذاتية التي كتبها حنا مينا، مُؤرّخاً الحياة الاجتماعية في الريف السوري. [4] أٌعجب المالح بأسلوب مينا الغني في رسم شخصياته وإحساسه ببيئته الريفية، الأمرالذي قد يؤدّي إلى ” الوجود الإنساني الهشّ والبحث عن حياة كريمة” صوّر المالح فيلمه المُلوّن ناسباً إياه لعشرينات القرن الماضي. يروي الفيلم قصة صراع أبو سالم السكير في محاولاته الحثيثة لاستعادة أرض زوجته التي انتزعها منهم الأتراك، كما يحكي الفيلم عن جهود أبو سالم الضائعة للحفاظ على أسرته الفقيرة. تنازل البحار الخبير فقبل بوظائف غريبة في قرية ساحلية، روى أبو سليم لجيرانه قصص البحارة ” أوه مصر والمرأة” ولم يجيد الأعمال الوضيعة التي قُدّمت له ، لم تناسبه حياة اليابسة، ولم يلبث أن تحوّل إلى التهريب ولكنه خُطف. تسولت زوجته أم سليم(الممثلة والمخرجة المسرحية نائلة الأطرش) للحصول على الطعام وطلبت من جيرانه ذلك ، بما في ذلك الأرملة الجميلة )سمر سامي) والتي تربطها بزوجها علاقة غرامية. تفاقم الجوع و منع أطفالهم الثلاثة من تناول الطعام حتى يحيط ظلّ بعد الظهر صخرة بعينها.
انتقلت العائلة إلى الجبال، حيث يجد عمّ أم سالم، برهوم عملاً لأبو سالم مع مُختار القرية البخيل النزق الذي يغسل ثيابه بنفسه. ولكن البحّار تعب بسرعة من العمل في الأرض. أُجبرت الابنة الكبرى للزوجين والتي لازالت في سن المراهقة، على الخدمة المنزلية في بيت المختار لإعالة أسرتها . حملت تربية دود القزّ وعود الخلاص، تُظهِر بعض اللقطات فرحة القرويين وهم يُعاملون دودة القزّ برفق على أوراق التوت، لكن تُغرِق الهند سوق الغزل والنسيج الدولي بمواد أرخص. تعاظمت ديون الأسرة للمختار، الذي يسيطر على الإمدادات الغذائية ، فيتم إرسال الابنة الأصغر للعمل في منزل أحد آغوات السهول بالقرب من الحدود التركية. انضمت الأسرة لها بعد تسريحهم ابنة العم برهوم البكر من الخدمة لدى المختار.
وتقع القرية في حالة اضطراب، إذ سُرق مستودع الآغا. يبدو أن لا أحد يعرف أو يهتمّ بوظيفة وسكن أبو سالم الموعودين. تشهد الأسرة مُواجهة بين رجال الزعيم والقرويين . تخطو الشجاعة زنوبا )المظفرة منى واصف(، التي سُمّيت باسم الملكة المُحارِبة التاريخية في سوريا، ضاحكةً بخطوات واسعة ، متهمة مختار القرية بسرقة الحبوب نيابة عن الآغا. “أنت كلب”، تسخر قائلة “هزّ ذيلك للآغا وسوف يعطيك عَظمَة” يحاول أبو سالم الاقتراب من الآغا ولكنه يُزجر . يتعرّف عبدو أحد جنود الآغا على ابن عمه أبو سالم ويجد للبحّار وظيفة حِراسة مستودع الآغا . يُعطّى بُندقية ليكسب شبهة جيرانه الجُدد، باستثناء زنوبا التي أصبحت صديقة الأسرة. كانت تأخذ ابن سالم الجائع في رحلات طويلة إلى النسخة المحلية من حساء المطبخ، وتغسل عيون الصبي الصغير الملتهبة بماء البحر.
حاول عبده مهاجمة زنوبا، ولكن أبو سليم قام بحمايتها. وازداد التوتر بين الرجلين أكثر بسبب موقف الجندي من الفلاحين، الذين كما يقول:”لا يخرجون للعمل إلا تحت تهديد البندقية.” استفحل الخلاف بعد اتهام المُزارعين الجائعين بسرقة الطعام من الآغا، ليجد أبناء العمومة أنفسهم على طرفي نقيض من معركة بين القرويين والجنود. تجمّع المزارعون لاقتحام المستودع “لاسترجَاع حقنا” حاول الجنود منعهم وحصل تبادل لإطلاق النار. قَتلَ البحّارُ الغاضب ابنَ عمه . أضرمت زنوبا الضاحكة بجنون النار في مستودع الآغا، وتمّ إطلاق النار عليها من أعلى السطح . ليبلغ أبو سليم الجريح مشارف الفيلم النهائية وصوت ابنه المذعور يُردّد “ضاعت الحياة.”
يعزف الفيلم على وتر تحولات الضعف والقوة. على الرغم من كونها شخصية ثانوية، فإن برهوم طويل القامة، القوي، يسعى في حين أن أبو سالم، الذي يُجسد دور البطل الأعلى. أضعفت زنوبا كلا من القرويين والجنود على حدّ سواء بعدوانيتها. يوسع الفيلم المشهد المحلي الحميم للرواية ليغطي موضوعات الهيمنة والقمع. حوّل المالح شخصية مينا )أبو سالم( الماجن، و مُحبّ النساء السكير، إلى شخصية مُحبَطة ولكن كريمة “بصراحة، لم أكُن أحبّ كونه مُدمِن على الكحول، كان لدى أبو سالم شيئاً نبيلاً وصادقاً ، لقد سعى لحياة كريمة. لم أستطع تجاهل كلّ هذا. لم أحبّ تجربة المؤلف، لذلك قمتُ باختيار ما أحبّ في الناس: قُدرة المشقة والفقر على خلق النبل”.
[هذا المقال هو نسخة مختصرة من “نبيل المالح: فهد سوريا،” في عشر مخرجين عرب، الذي حرره جوزيف غوغلر (بلومينغتون: مطبعة جامعة إنديانا، 2015).]
[ترجمه إلى العربية رفاه برهوم. للنسخة الإنجليزية اضغط/ هنا]
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة أسامة إسبر | سبتمبر 5, 2017 | Culture
(إذا كنتُ سوريّاً، فما العجبُ أيُّها الغريب؟
نحن نحيا في وطنٍ واحد هو العالم)
ميلاجر، شاعر سوري فينيقي
من أين أنت في سوريا؟
يربكني هذا السؤال، يجرحني في الصميم، ويُخَلْخِل تكويني، يُشعرني أنني ابن القوالب الاجتماعية القديمة، أنني أنتمي إلى ما قبل إنسان الحداثة، إلى ما قبل إنسان الحقوق والقوانين، ينبّهني إلى السجن الذي أعيش فيه، وإلى الجدران التي تخنق فرديتي بهوائها المحبوس الملوّث، ويجعلني ذرة باهته لا مرئية متراصة مع ذرات أخرى، وبالتالي يلغي اختلافي، ويُجرم بحقي. يعرّيني في قفص الحزب الواحد، والمذهب الواحد، والإيديولوجيا الواحدة.
أعشق كلمة سوري حين تكون طبيعية كالهواء الذي نتنفسه، لا يفرضها أحد عبر لعبة التصنيف أو التسمية ذات الطابع الإقصائي أو الإلغائي. وفي خضم المأساة، وفيما السوريون يموتون على الجبهات أو الطرقات أو في المنازل أو في أعالي البحار، أو يعانون في مخيمات اللجوء والمنافي، أو في بيوتهم من الظمأ والجوع والبرد والعتمة والحزن، وفي ظل هذه الحرب المدمرة التي اتخذتْ طابعاً طائفياً، والتي قادت إليها سياسات وجملة ظروف وتدخلات نجحت في تحويل حراك مدني إلى حراك عسكري ثم إلى حرب طائفية دفعت سوريا إلى حافة الهاوية، فقدت كلمة سوري قيمتها وصارت بحاجة إلى تعريف، عرّشتْ عليها الأسماء التصنيفية، وظلتْ، كما كانت، منفصلةً عن مفهوم المواطنة، وعن الحرية والديمقراطية، وعن جملة الحقوق التي تحدِّد الإنسان كإنسان حديث، ظلت كلمة مرتبطةً بانتماءات إلى أحزاب حاكمة أو تطمع بالحكم، مكيّفةً مع ولاءات فئوية مستعادة من القرون الغابرة، في سياق اجتماعي نبدو فيه كما لو أننا ننتمي إلى منظومات متباعدة زمنياً ومتجاورة كالطبقات الجيولوجية )كما عبّر المفكر عبد الله العروي(، والتي ترتبط الآن بمشاريع إقليمية ودولية الهدف منها تدمير سوريا.
كانت البداية ملحمة مدنية ألّفها جيل جديد، مغاير ومختلف، صادر عن قطيعة ثقافية مع النخب والإيديولوجيات السائدة، تظاهر مطالباً بحريته وكرامته ضمن دولة القانون والمواطنة، دولة الحقوق والحريات، لكن فتح النار على المتظاهرين، وركوب المتطرفين والغرب للموجة وعسكرة الانتفاضة، والتدخلات العابرة للحدود وأدوا الحلم في مهده، وقضوا على الجيل المدني الذي فجّر الانتفاضة، كي يخلو المكان لأصوليات شرسة، عثرت على التربة الخصبة الملائمة، وعلى الحاضنة المناسبة في البيئة التي أنشأتها البراميل المتفجرة.
ثمة من يستخدم سوريا كوقود للحفاظ على الكرسي، ويضحّي بها كلها للبقاء عليه، وثمة من يقوم بالعمل نفسه كي يستولي على الكرسي. ثمة من يحتكر سوريا في الخطاب، ويمارس القتل لترويجه، وثمة من يزجّ بسوريا بأكلمها في سجون العقائد، ويمارس الذبح باسمها، والذين يموتون هم أبناء سوريا، والقتل هو واحد سواء تم باسم الوطن أو باسم الجنة، من أجل الثأر أو من أجل العرش.
سوريا تتفكك وتنصهر لا لكي يعُاد سبكها وفق رؤية أو مشروع وطني مدني وديمقراطي، بل كي يهيمن على أشلائها النازفة أمراء الحرب، كي تتحول خريطتها إلى قطع صغيرة في أفواه ذئاب كثيرة. ففي هذه البلاد الممزقة والنازفة والمدمرة، التي شُرِّد أبناؤها، المليئة بالجرحى والأرامل والمبتورين والمعطلين والعاطلين عن العمل، تنتشر فوهات القتل على امتداد الخريطة، ويتبخر الشبان تحت شمس الهجرة، فارين من الجحيم، تائقين إلى المغادرة حتى لو كان ثمنها الموت غرقاً، لأن الحياة ضيقة، منعدمة، لأنهم يُسَاقون إلى حروب خاسرة ويُضحَّى بهم على مذابح العروش.
إن الذين يدّعون الدفاع عن الوطن يعرفون في سريرتهم أنهم لا يدافعون إلا عن السلطة واميتازاتها، ليس عن سلطة تمثلهم، انتخبوها ديمقراطياً، أو عن حقوقهم التي يدوسون عليها فيما هم يُستخدمون كأدوات لقمع من ينادي بها، وبإعلانهم عن استعدادهم لحرق البلد من أجل الكرسي، يرسّخون ثقافة الانتقام، ويحاربون بلا بوصلة، مختارين الانتحار ومضحين بأنفسهم مجاناً على مذبح السلطة. أما الذين يقولون إنهم يقاتلون من أجل الإسلام وباسمه ودفاعاً عن أغلبية الشعب فيدمرون الوطن بعقليتهم الثأرية مرسخين الهويات القاتلة. فهل لغة الثأر لغة الحضارة أم لغة البداوة؟ هل نريد “ثواراً” يقفزون فوق القانون ويرسخون شريعة الغاب، يعبّر عنهم ويسوّغ لهم مثقفون تحريضيون يصفوّن حسابات طائفية؟
سوريا السجينة في قوالب السياسة الإيديولوجية الأحادية والتطرف العسكري، في قوالب التدين النفطي المهادِن والمُشترى، في قوالب التطرف المُعَد في المخابر الأمنية، سوريا التي يتسلّل إليها القتلة عبر الحدود، ويُربى فيها القتلة داخل الحدود، ما الذي حدث فيها ولها؟ وما الذي يمكن فعله من أجلها؟
تتبلبل الأذهان وتعجز الألسنة أمام هول الدمار والقتل والتشريد والنفي والاعتقال.
اقتتال شرس على السلطة، هذا ما تشهده سوريا، والغائب الأكبر هو رؤية واضحة، خريطة طريق نحو وطن يتعانق فيه جميع أبنائه، وطن المواطنة والحرية والكرامة. هل صار هذا حلماً بعيداً؟ لا شك أنه حلم بعيد، ذلك أن سوريا على طريق الهاوية. إنها بحاجة إلى معجزة والمسؤولية جماعية.
ستنفق سوريا سنيناً طويلة في بناء بيوتها ومعالجة جراحها والشفاء من رضوضها وصدماتها، ستستغرق سنيناً طويلة للتحرر من أفكار كثيرة يسوّقها ناطقون بأسماء الجماعات المتناحرة. والآن، يدفع المجتمع السوري ضريبة حلمه المدني، وتطلعه إلى حياة حرة وكريمة، يدفعها على كل مستوياته وفي كل مناطقه، لكن بالرغم من التشرد والنفي والموت والاقتتال والدمار، سيسير السوريون إلى العناق في النهاية فوق الأنقاض، لا لكي يتصالحوا قابلين الأوضاع القائمة، بل ليتصالحوا مجمعين على استمرار سيرورة التغيير في إطار عناق مدني وحراك مدني يخرجان من أنقاض المدن والقرى نحو بناء سوريا للجميع، بعيداً عن المحاصصة الطائفية، والصفقات الإقليمية والدولية، وتسوّل التدخل الخارجي، وتسوّل التدخل العربي، وبعيداً عن كل العصبيات الدينية والإيديولوجية.
هذا هو الحلم، هذا ما يجب أن نصبوا إليه بالرغم من طبقات الألم والقهر المتراكمة، بالرغم من أسوار الكراهية التي تعلو.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]
بواسطة أسامة إسبر | سبتمبر 4, 2017 | Culture
“سوريا خارج الإطار، فنانون معاصرون من سوريا” (2016) ، عنوان جميل لكتاب مهم صدر مؤخراً في إيطاليا (Imago Mundi, Luciano Benetton Collection). يعكس الكتاب جهداً حقيقياً بذله كل من الباحثة الإيطالية المتخصصة بالدراما والفن السوري دوناتيلا ديلاراتا، ومساعدة التنظيم رولا علي ولوشيانو بينيتون المشرف على “Imago Mundi” ولفيف من الأصدقاء والفنانين والباحثين الذين تعاونوا لتحقيق المشروع. العنوان هو أيضاً الاسم الذي أُطلق على المعرض الذي افتتح في 31 آب/أغسطس،2015 في مدينة البندقية بإيطاليا، وذلك في إطار معارض أخرى ل”Imago Mundi” الذي يرعى ويشرف على معارض من كل أنحاء العالم.
وهدف معرض الفن السوري هذا إلى كسر الصورة النمطية السائدة عن سوريا بأنها بلد الصراع الطائفي والحروب الأهلية واختزالها في موضوع اللاجئين والمآسي، متجاوزاً في ذلك الدور الذي يثير الشكوك للإعلام في عصر العولمة. فسوريا، في هذا المعرض، هي بلد الفن على مر العصور، وبلد الثقافات والحضارات المتنوعة والمختلفة، وبلد فنانين من مختلف المناطق يتجاوزون بفنهم وشعرهم وإبداعهم التقسيمات الضيقة واختزال البلد في عقلية القاعدة أو الإيديولوجيا الأحادية التي تنسج قناعاً من خيوط العلمانية والتدين.
وبين دفتي هذا الكتاب الضخم توثيق لعدد كبير من الفنانين والشعراء والمصورين. ويشكل هذا الكتاب ـ الوثيقة الذي يتألف من أكثر من 400، صفحة من القطع الكبير خطوة مهمة في التوثيق للفن السوري وتسليط الضوء عليه، ويحتوي على السير الذاتية للفنانين وصور الأعمال الفنية، ويحتفي بالعمق الثقافي والفني والشعري السوري في وقت يتم فيه تهديد تراث سوريا الحضاري والثقافي ويتعرض للتدمير، سواء بالقصف العشوائي أو بالتدمير المنظم الذي تمارسه تنظيمات دينية وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية.
يعكس الكتاب جهداً كبيراً في محاولته إلقاء الضوء على فنانين سوريين من مختلف المشارب والاتجاهات والأجيال والمناطق، وهو بصدوره يؤكد أن العمق الحضاري والثقافي في سوريا هو الذي سينتصر في النهاية مهما طال التدمير والتخريب ومهما استمرت الحرب الحالية والتي دمرتها وحولتها إلى ممالك للوردات الحرب.
صدر الكتاب بالإنكليزية والعربية والإيطالية وقدم له لوشيانو بينيتون، الذي ذكر في مقدمته إن سوريا تقاوم الصراعات الداخلية وشلل الدبلوماسية بقوة الجمال، وبالهيام الحيوي للفن. وسوريا هذه تهدف إلى تجاوز التصوير الإعلامي لها: “الحرب والدراما واللاجئين الذين يضغطون على حدودنا”.
وأضاف أن جمع وعرض 140عملاً فنياً لفنانين سوريين من داخل سوريا ومن المنفى، والتي تعبر بشكل حقيقي عن سوريا اليوم، عَنَيا التغلب على تعقيدات تتعلق بالصراع، وتبدلات مفاجئة في الجبهة (أحياناً في التحالفات بين الأطراف)، ومجازفات وصعوبات بلد يعاني من الوحشية. لكن “Imago Mundi” تمكن من التغلب على هذه التحديات، وجمع مجموعة فريدة، عبر جهود كبيرة بذلها الذين ساهموا في تنظيم المعرض.
قدمت الناقدة الفنية مالو هالاسا أيضاً للكتاب وذكرت في مقدمتها أن رعاية دوناتيلا ديلا راتا للمعرض تجاوزت الحدود التقليدية بين الفن التشكيلي وأشكال أخرى من التعبير الفني. فما هو تجريبي أو شعبي تحدى ووسّع وجامل الأشكال الفنية الأكثر تقليدية. أي أن هناك، بحسب هالاسا، مقاربة توفيقية لا تهدف إلا إلى تأكيد حضور الفن عبر معرض واسع الطيف كهذا.
وتضيف هالاسا: “يعبر المعرض عن الدوافع الأولية للإبداع والتعبير الحر في ثورة بلاد اسمها سوريا. فبعد خمس سنوات من الحرب في سوريا تقريباً، يساعدنا الفن أيضاً في معرفة أين يجد بعض السوريين أنفسهم اليوم. وتلعب أعمالهم الفنية دوراً مهماً كمضاد لإحصائيات اللاجئين والوفيات وتطويع الجهاديين التي اختُزلوا إليها عالمياً هم وبلادهم”.
منظمة المعرض دوناتيلا ديلاراتا قدمت للكتاب أيضاً وذكرت في مقدمتها أن المعرض يفكك الصورة النمطية التي تسوق إعلامياً عن سوريا، وأن اللوحات المائة والأربعين المعروضة تشير إلى ما هو غير مرئي وغير معلن وغير مسموع، وتقترح وسيلة جديدة لطرح أسئلة على قصتنا غير الدقيقة عن سوريا وابتكار القصة الحقيقية من جديد عبر النظر إلى أنفسنا كبشر يتوقون إلى الحياة والجمال.
وأضافت أن “سوريا خارج الإطار” يقدم 140 فناناً سورياً من مجموعة واسعة من الأجيال تمتد من الخمسينات إلى التسعينيات. ومن عدة مدن وقرى سورية ومن خلفيات دينية وعرقية متنوعة. ويضم المعرض رسامين ومصورين ورسامي كاريكاتير وشعراء وخطاطين وفناني مسرح ومخرجين وفناني غرافيتي وصانعي أفلام. وهو يشمل كلاً من الفنانين المعروفين الذين يتم عرض أعمالهم وبيعها عالمياً، وطلاب الفنون الجميلة الواعدين الشباب الذين بدأوا للتو مسارهم الفني.
وقد احتوى الكتاب على لوحات وصور ونصوص لكل من هاني عباس ونضال عبد الكريم ومحمد عبد الله، وهبة العقاد ودينو أحمد علي وفادي الحموي ووضاح السيد وأسامة إسبر ولارا حداد وهالا محمد وكفاح علي ديب وحسين غرير وعلا الأيوبي وريم يسوف ولاوند ظاظا وعليا خاشوق ومحمد ديبو وياسمين فضة وأمير فخر الدين وهبة الأنصاري، ودلير موسى وجون إيف بيزيان ونهاد الترك وهاني موعد ورزان حسان، بالإضافة إلى فنانين آخرين لا يتسع المجال لذكر جميع أسمائهم هنا.
كما وجه معدو الكتاب الشكر إلى رولا علي، مساعدة التنظيم، والتي من دونها ما كان معرض “خارج الإطار” ليرى النور، وللوشيانو بينيتون الذي منح فرصة استضافة المعرض ولمجموعة أصدقاء من مختلف الثقافات ولسوريين بقيت أسماؤهم مجهولة.
[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع
جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with
Jadaliyya]