في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره وتحديداً في الرسم والأدب، درس نصير شورى المرحلة الابتدائية في مدرسة التجهيز في دمشق، أكمل المرحلة الثانوية في ثانوية جودت الهاشمي في دمشق، والتحق بمعهد الفنون الجميلة في دمشق، نتيجة هذه المرحلة كانت مرحلة الواقعية الانطباعية. حيث أبدع في مزج واستنباط الألوان التي عالج فيها مواضيع ملتصقة بالبيئة والطبيعة من عمارة قديمة وقرى ومناظر طبيعية وورود وأمومة ووجوه إنسانية وموضوعات إنسانية متنوعة. أخذه الشغف باللون والرسم في رحلةٍ إلى مصر ليكمل دراسته في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، والتي تخرج منها عام ١٩٤٧، تعلم نصير على يد كبار الفنانين المصريين، مثل محمد ناجي، وراغب عياد، ومحمود مختار، وتميزت دراسته بتنوعها، حيث درس الرسم والتصوير والنحت، وتأثر بالعديد من التيارات الفنية، مثل الواقعية والتجريد، وخلال فترة دراسته، شارك نصير شورى في العديد من المعارض الفنية، ونال إعجاب الفنانين والنقاد، وبدأ بتكوين أسلوبه الخاص، مستوحياً من التراث العربي والإسلامي، وظهرت موهبة نصير شورى الفنية بشكل لافت خلال هذه المرحلة. ويشير عدد من الباحثين إلى أن دراسته في مصر لم تؤثر به بعمق حيث كانت الواقعية والسوريالية هما الاتجاهان السائدان هناك، يرجع ذلك إلى بدايات شورى حيث تعلّم الرسم على يد الرسام عبد الحميد عبد ربه ثم الفنان جورج بولص خوري؛ خريج المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس.
ساعدت دراسة نصير شورى في القاهرة على تطور أسلوبه الفني، فقد بدأ بتجربة تقنيات جديدة، وظهرت في أعماله تأثيرات من التراث العربي والإسلامي وإثر تخرج نصير شورى من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عاد إلى دمشق وبدأ مسيرته الفنية المهنية، برفقة نضوج معارفه العلمية من خلال دراسته الأكاديمية التي بدأها في مصر، وأكملها في أكاديمية الفنون الجميلة في روما- إيطاليا، والتي تخرج منها عام ١٩٥١ م، وقد كان أول من حصل على درجة الأستاذية (بروفيسور) بين أعضاء الهيئة التدريسية في كلية الفنون بجامعة دمشق، لذلك يعتبر نصير شورى من أهم المؤسسين لكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، ويمكن القول إنه درّس وأثر قي كل من تعلم وتخرج من هذه الجامعة فقد عمل فيها مدرساً لمادة الرسم والتصوير، وشغل منصب وكيل علمي لعدة سنوات، ساهم مع حمّاد وعبد النشواتي وجلال قصيباتي وأدهم إسماعيل في تأسيس “مرسم فيرونيز” سنة ١٩٤١، معبّرين عن قطيعة فنية مع التيارات التقليدية في الفن، كما ساهم في تأسيس “جمعية أصدقاء الفن” في دمشق عام ١٩٥٠ ، وأصدر كتابًا بعنوان “الفن التشكيلي في سورية”.
كان لنصير شورى حب كبير للطبيعة، تجلى ذلك في العديد من أعماله الفنية، فقد رسم المناظر الطبيعية الخلابة، مثل الجبال والوديان والأنهار، واستخدم الألوان الزاهية لتصوير جمالها، إثر هذه المرحلة جاءت مرحلة الواقعية ومن ثم الانطباعية على الرغم من الفروق بين الواقعية التي هي رسم الواقع، والانطباعية أي الرسم من الطبيعة، والتي تأثرت بعوامل عدة وهي مرحلة السفر وتأثره باتجاهات الفن التشكيلي الجديد، وتعمقه بشكل كبير بمعطيات التراث العربي، إضافةً إلى تأثير صديقه المقرب جداً الفنان محمود حمّاد (الذي غادر الحياة قبله بأربع سنوات في عام 1988) والذي كان قد سبقه في الفن التجريدي الحروفي الذي يقصد به استخدام الحرف بتكوينات فنية مجردة، بالاعتماد على الإحساس واللون والانفعالات، وبعد ذلك اتجه نصير شورى إلى الفن الرومنسي الجميل، وإلى نوع من التلخيص الحذر للشكل المشخص، والاختصارات المدروسة للون، وقد انتقل شورى إلى التجريد في منتصف الستينيات مع ظهور مساحات مستطيلة بالألوان والخطوط في لوحاته، قبل أن يزاوج بين التشخيص والتجريد في مرحلة لاحقة ضمن ابداعه الخاص الذي كان يخضع لقواعده أو قيوده الذي يختارها بنفسه. وقبل رحيله بنحو سنتين، اتجه إلى رسم لوحات بلون واحد ومشتقاته، وكانت لوحات كبيرة لها مواصفات خاصة مبرزاً التدرجات الضوئية التي أصبحت تعكس الحالة الداخلية الوجدانية معبّراً عنها بدينامكية وحركة لونية تشير إلى حساسيته الشديدة تجاه مفهوم التناغم.
أقام العديد من المعارض الفردية في سوريا والعالم العربي، وشارك في معارض جماعية دولية، كما أنه أصدر كتاباً بعنوان “الفن التشكيلي في سوريا” ١٩٨٠ ونال العديد من الجوائز، أهمها جائزة “بينالي الإسكندرية” عام ١٩٦١.من أهم أعماله الفنية: لوحة “الريف السوري” (1950)، لوحة “القدس” (1970)، لوحة “الأشجار” (1980)
يمكن القول هنا: إن نصير شورى جمع بين العفوية الانطباعية والعقلانية في التجارب المخبرية المجردة وشبه الزخرفية، وما دفعه لذلك كان محاولة التوفيق بين الحب القديم للتعبير الحر، وبين التجارب المأخوذة من قبل المختبر، وهذا ما أدى به الوصول إلى الاغتراب الشكلاني المجرد أي الابتعاد عن الشكل باتجاه التجريد. تجلّت غنائيته اللونية في تلك المرحلة قبل أن يذهب في تحوّلات عميقة في مشواره، والتي يلخّصها في مقابلة صحافية بقوله إنه “مرّ بثلاث مراحل. كان في الأولى انطباعياً وفي الثانية تجريدياً، ويومها بدأ ولعه بمادة الإكريليك، أما في المرحلة الثالثة فإنه عاد إلى الطبيعة، بعدما علمته المرحلة التجريدية خصائص جديدة في اللون، سماها الواقعية الجديدة، قدم نظاماً شكلياً ولونياً جمع بين التناغم أحياناً والتضاد أحياناً أخرى، وبين الهندسة والطبيعة، وبين الألوان الحارة والباردة، للوصول إلى تكوين له أصالته مستخدماً الدمج والابتكار وخلق تناغمات وتدرجات لونية، لتقديم لوحة فنية مستقلة.
يعتبر نصير شورى من رواد الحركة الفنية التشكيلية في المشهد الثقافي السوري، قد كان لفاعليته الأكاديمية والإبداعية الأثر الحاضر واقعاً وإن كان ذكره غير متناسب مع منجزه.
للاستزادة:
بطرس المعري، شورى وحماد: سورية في لوحة صديقين، صحيفة العرب الجديد، 2017م.
سعد القاسم، مئوية شورى 1920-2020م، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021م.
طارق الشريف، الفنان الراحل نصير شورى، مجلة الحياة التشكيلة، 1992م.
طارق الشريف، نصير شورى سيمفونية الألوان، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2021م.
غازي الخالدي، نصير شورى والتجريد الملحمي المُغني، مجلة الحياة التشكيلية، 1993م.
عفيف البهنسي، الفنون التشكيلية في الإقليم السوري، 1960.
فاروق يوسف، نصير شورى الذي رأى العالم بعيني طفل يتعلم المشي، صحيفة العرب، 2016.
محمود حماد، نصير شورى، وزارة الثقافة، دمشق، 1992م.
وفي دراسة مصدر واكب الفنان نصير شورى وعاصره، لا بدَّ من البحث في كتاب عنوانه (نصير شورى…سيمفونية اللون) الذي صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب بتوقيع طارق الشريف وهو ناقد، وكان قد ألفهُ قبل وفاته عام 2013 وبقي مخطوطاً عند عائلته إلى أن تم نشره بخمس وتسعين صفحة مقسمة إلى ثلاثة فصول، وملحق صور يضم صور 38 لوحة من المراحل المختلفة لتجربة نصير شورى الثرية، وصدر كتاب يحمل عنوان (مئوية شورى) تضمن، مجموعة من شهادات الفنانين والمثقفين والنقاد بينهم الناقد طارق الشريف الذي وصف نصير شورى بأنه «علم بارز من أعلام الفن التشكيلي في سورية، ورائد من رواد الحركة الفنية، ومعلّم له دوره الكبير في توطيد هذه الحركة ورفدها بالأعمال الفنية المتنوعة، التي أسهمت في تطوير الرؤية الفنية وتجديدها، ووضع الأسس والمقومات لانطلاقة الفن التشكيلي وتحديثه، وتقديم الفن الأصيل المعبر عن الواقع، وما فيه من موضوعات وأشكال».
الحق الإنساني في حياة سعيدة وسطوة الواقع الذي يسلبه، هو ما تثير عزة طويل أسئلة حوله في روايتها الأولى (النوفيلا) التي صدرت حديثاً بعنوان “لا شيء أسود بالكامل” عن دار هاشيت أنطون نوفل. جاء العنوان كدعوة لتلمس امكانية الذهاب نحو الطرف الأول واقتناص الحلم وزعزعة السواد الطاغي، فنحن أسرى الوجود ولا شيء يمنح بسهولة. ولعل دعوة التفاؤل تلك من باب الرغبة بنكران الواقع المر والتشبث بالأمل دون تجاهل أن هذا النكران ليس إلا “قاعدة حتمية للألم الطويل الأمد” حسب رأي الراوية. وهكذا من التفاؤل إلى الغوص في جذور الألم والنبش في أسبابها، تأخذنا عزة في عملها كأننا نغوص في داخلنا وذواتنا.
تبدأ الرواية بحوار في جلسات علاج نفسي لإحدى النساء، ثم تتابع على شكل لوحات تختلط فيها الشخصيات والأحداث وتتناوب الذكريات مع الواقع دون ترتيب زمني في خليط آلام الحاضر والماضي الممتد دون شفاء، بدءاً من الأزمة اللبنانية عام 1958إلى تتالي الحروب الخارجية والأهلية وما أفرزته على صعيد المجتمع والأفراد والعلاقات وما تركته في الذاكرة الفردية التي لن تستوعبه. فسنرى كيف يتوارث الألم وتكرسه الأمهات في وعي أطفالهن الذين يرضعونه مع الحليب ويمتصون ذاكرة الحرب والأسى من هلع العيون. فالحروب لا تنتهي بتوقف الرصاص بل تحكم ذاكرة البشر وتترك ذات الإنسان مهشمة ومرضوضة ومرتبكة تجاه الحياة والآخر. ولعل هذا ما يفسر جلسات العلاج النفسي المذكورة في بداية الرواية. تقول إحدى الشخصيات: “كانت الفيلا المهجورة تشبهنا صلبة من الخارج وخربة من الداخل نحتمي فيها من زوابعنا”.
ولا يسلم من ذلك حتى الأجنة، حيث يرثون في الجزء الأخير من الحمل جزءاً من أحاسيس الأمهات إذ يشعرون بها لأن وعي الجنين وذاكرته تكون قد تشكلت كما تخبرنا الراوية ولهذا فإن أطفال فلسطين هم الأكثر تأثراً إذ يكبرون بالألم والكوابيس.
تجمع عزة طويل في روايتها غير التقليدية منذ البداية بين مجتمعين مترابطين عبر التاريخ بقدر خصامهما الحالي في لبنان وسوريا حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية بغض النظر عن العلاقات الرسمية لنرى مثلا أن لبنانية ولدت وعاشت في لبنان (وطى المصيطبة) طوال حياتها كلبنانية والدها سوري ثم تتزوج من سوري وتذهب معه خطيفة، في إشارة إلى تشابك الأنساب والحياة وحيث تغص الآن لبنان باللاجئين السوريين كما كانت تغص سوريا باللاجئين اللبنانيين أثناء حروبهم، لتوازي بين الحرب اللبنانية والسورية عبر تذكر المجازر غير المبررة في كلا البلدين والتي ذهب ضحيتها الأبرياء في الحالتين مع تعددها واختلاف المرتكبين وتشابه النتائج.
ورغم ذلك فالبشر يعيشون ويحبون وينجبون الأطفال ويحتلمون في الأبنية المهدمة والملاجئ وتحت القصف وكأنهم يشهرون البقاء في وجه الحرب والرغبة – الحياة مقابل الموت، فهل هي بذور التفاؤل أم غريزة مقاومة الفناء عبر آلية النكوص البدائي نحو الحياة (التناسل)؟ تقول الكاتبة عن تلك الحالة إنها “أكثر صور العنف إدهاشاً ” .
لكن في هذه المجتمعات والتي لم تترك لها حروبها الأهلية فرصة التعافي أو التطور، تأتي الحياة لا كخلاص أو كما نحلم بل ناقصة وبعلاقات مشوهة يمارس فيها القوي سلطته على الضعيف ويفرغ ما اختزنه من عنف الحرب على الأضعف فتنتهي بالقهر والنهايات المأزومة.
وهو ما تضيئه الكاتبة بطرح قضايا جندرية معيشة فالمرأة التي تعاني رغم أنها كانت رفيقة النضال أو تعرضت للأذية كالرجل في الحرب والمجازر وربما تحدت واقعها والأهل للارتباط به كالذهاب خطيفة دون مشورتهم، إلا أنه يمارس عليها سلطته الذكورية الموروثة، من الضرب والخيانة والاهمال حتى أنها قد تتحمل الهجر والذل للبقاء بجانب أولادها بعد الطلاق.
تقول أم شادي عن زوجها المتوفي: “حتى القهوة كان يشربني إياها مفحمة”.
ولم يكن المنفى أفضل إذ وضع المرأة في ظروف صعبة حتى أصبحت العودة الى لبنان وسط الحرب أرحم.
أتت الرواية على شكل لوحات أو مشاهد سينمائية وبؤر أحداث تبدو منفصلة أو ذكريات مسترسلة كأنها حديث أرواح، إلا أن الكاتبة عمدت إلى تقديمها بلغة مفعمة بالأحاسيس والنبش الجواني لما يحتدم داخل الشخصيات التي تبدو كلها في حالة اختزان معاناة طويلة تنتظر فرصة للبوح واسترجاع حياتها من خلال ذروة ما تبدأ في كل مشهد، لتتابع بسرد كثيف مشدود متناوب بين الراوية وشخوصها بلغة غنية ومؤثرة. وحيث تنجو الشخصيات من فكرة البطولة لتكون كلها ذات قلق مضطرم ومعاناة مستمرة تعيش أزمتها الداخلية التي تصل إلى القارئ في السرد الموشى بإضاءات رمزية عديدة (برودة الجسد، أو عدم القدرة على الانتصاب، أو العصافير، الحمامة، الجدار)، أو عبر موازاة الأحداث والإشارات المتناقضة (كالموت مقابل الحميمية أو ثالوث الموت مقابل ثالوث الحياة والموسيقا مقابل الدمار)،
فيرى القارئ الواقع بأعين الشخصيات ويعيش انكسارهم ومشاعرهم ويتلمس العالم الروحي لهم عبر رسم الصورة وبناء اللقطة، فيستغرق فيها لزمن أطول مما فعله السرد.
البطل الحقيقي في الرواية هو الفقد، الفقد بالموت وقبل الموت وبعده، بالحرب أو المرض أو الحوادث، وعجز الإنسان أمام الموت البارد ذي الحضور الرهيب، ورغم أن الإنسان هو من يستدرجه في أحيان كثيرة بما يرتكبه من حروب ومجازر، إلا أنه ميزان علاقتنا بالآخر، إذ يختلف إحساسنا بحجمه، حسب علاقتنا بالشخص. الموت أزمة الأحياء فقد تغدو الحياة بعد تجربة الفقد مجرد أيام للذكريات وكأنها تمجيد للموت. وأمام سطوة النهاية وعدم القدرة على نسيان الأحبة يحاول البشر إيجاد أشكال للتواصل مع العالم الآخر بمعنى إبقاء صلة ما بمن نحب كزيارة القبور وزراعة الورد أو بناء المنزل بالقرب منها لردم تلك الهوة بين الأحياء والأموات، أو المصالحة مع هذا المخيف الجاثم فوق خط النهاية. ولكن كل هذا ليس سوى محاولات قد تحقق العزاء الصادق للفرد.ولهذا لم تكتف الروائية بتقديم الواقع وأثره في شخصياتها والمكان ولم تكتف بنبش التاريخ وحوادثه المفصلية، بل عادت أيضاً إلى بنية الذاكرة الجمعية الدينية والثقافية التي وضعت كثيراً من المفاهيم والعادات التي مازلنا نمارسها كمفهوم الموت وعادة لبس الأسود في الحزن، مثيرة قضايا معاصرة ووجودية في علاقة الإنسان بالحتمية والطبيعة فتتنقل بين الواقع العام والتاريخي والاجتماعي بمهارة تنقل الضوء، لكن رمزية عودة تموز في الربيع التي تعني نهوضه من عالم الأموات أتت في الرواية بشكل معاكس.
في الخاتمة تابعت عزة طويل أسلوب روايتها الخارج عن المألوف، في ترك حياة الشخصيات معلقة على شفا الحديث الذي قد يسترسل إلى ما لا نهاية دون أن تضع أي نهاية لها، لكنها آثرت التدخل بلسان الراوي العليم الذي كان يشارك في السرد لتخبرنا أن الرواية ليست من صنع خيالها بل جزء من حياة أو رحلة مع الحياة والموت ولهذا تقول لا أهمية للنهايات. لكنها تعترف أنها بعد كل هذا قد بدأت تفهم من أين يأتي هذا الألم.
رواية عزة طويل رواية شيقة وغنية ورغم أنها قصيرة لكنها ذات أبعاد ممتدة في ذاتنا نحن أبناء الأوطان المبتلاة بالحروب وكل هذا الألم.
مرةً أُخرى، اقتُلع حليم بركات من جذوره، تحمله رياح هذا العالم إلى عالمٍ آخر مُحتمل. لطالما تحدّث عن تجارب الاقتلاع هذه وهو المهاجر من الكفرون (قريّة من قرى السّاحل السوريّ) إلى مدينته الملّونة بيروت، ومن ثمّة إلى مدن العالم الغربيّ، ليستقرّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. تنقّل في محطّاته السّابقة بين مُدن الاغتراب؛ متاهات الإنسان العربي بين الحلم والواقع، بينما كان العالم الآخر (الموت) محطته الأخيرة. حيث وافته المنية في ٢٣أيار ٢٠٢٣. وهو الذي طالما كتب عن تجربة الموت التي واجهها منذ طفولته الأولى، فقد تُوفّي والده قبل أن يُكمل العاشرة، ثم تُوفّي أصدقاؤه واحداً تلو الأخر، وكان قد رثاهم في مؤلّفه غربة الكاتب. مثل هشام شرابي وسعدالله ونوس وادوارد سعيد.شبّه حليم بركات طائر الحوم وهو الطّائر العابر للقارات، بأبيه الذي طار ولم يعد وأيضاً بأمّه التي غادرت الكفرون إلى بيروت لتُعيل أسرتها ثم لتموت هناك، لكن لاندري إن كان يُضمر في روايته طائر الحوم سيرته ذاتها!
درس حليم اسبر بركات في بيروت، ونال الماجستير من الجامعة الأمريكيّة سنة ١٩٦٠ انتسب في السابعة عشرة من عمره إلى الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ مع من افتُتن بهم من رواد الحداثة الفكرية مثل: أدونيس وفؤاد رفقة ويوسف الخال وغيرهم، وكان أن تعلق بصفية بنت أنطون سعادة ولما لم يستطع الظفر بها فارق الحزب بعد أن روى الكثير من سيرته في روايته (المدينة الملونة) مستبدلاً اسم البطلة صبا باسم صفية كما يُشير النُّقاد.
في محاضرةٍ له في جامعة دمشق (٢٠٠٦) قال بركات إنه كتب باكورة رواياته قممٌ خضراء وهو طالبٌ جامعي، غير أنّ ما كرّس اسمه كروائي هو روايته التّالية “ستة أيام” التي أصدرتها عام١٩٦١ دار مجلّة شعر. وقد ذاعت شُهرة هذه الرواية لما قدّر النقاد والقرّاء نبوءتها بحرب الأيام الستة عام ١٩٦٧ أي بالهزيمة أو النّكسة. رغم أنّ حليم بركات كان يتحفّظ على “نبوءة” روايته، ويفضّل القول بالوعي بالواقع العربيّ في تلك الرواية.
أثّر أدبه على مكانته في العالم العربي فقد كان يُعدّ لإحدى رواياته عندما مضى مع عددٍ من طلبته في الجامعة الأميركيّة في بيروت إلى مخيم زيزيا جنوب عمّان، وأقاموا حيناً للبحث في أوضاع اللاجئين، ومن ذلك كان عمله “نهر بلا جسور”. ويقول إنّ هذا، ومُجمل اهتمامه بالقضيّة الفلسطينيّة كان سبباً في عدم ترقيته في الجامعة الأميركيّة حيث درّس من ١٩٦٦ حتى ١٩٧٢ فغادرها إلى جامعة هارفرد، فجامعة أوستن قبل أن يستقرّ به المقام في جامعة جورج تاون.
ناقش بركات في كتابه “غربة الكاتب العربي” غرباتٍ عديدةٍ داخل الوطن وخارجه محللاً العلاقة بين المعرفة والسلطة وبين المثّقف والحاكم، ومُميزاً بين علاقات اللامبالاة والاضطهاد والوصاية والمشاركة، عبر شخوص أصدقائه، فيذكر عبد الرحمن منيف الذي كان على تواصلٍ دائمٍ معه وكان أن راسله منيف يوماً قائلاً:
حملت نفسي وذهبت إلى الكفرون. قضيت هناك أسبوعاً استطعت خلاله أن أستعيد نفسي. الهواء الرخي، خاصةً في الصباح الباكر، حبّات التين، عنقود من العنب، وأيضاً أواخر الدراق. أما الجبلان اللذان يُطلان على الكفرون و يحرسانها، من ناحية الغرب والقبلة، فإنهما يتغيران عشرات المرات خلال النهار الواحد، تبعاً للضوء و لزاوية النظر.
ويكمل : أصبحت أشاركك عشق الكفرون ولو اختلفت معك بولعي بالصيد هوايتي المفضلة، لكن أعدك أني لن أصيد طائرك طائر الحوم.
وفي الكتاب نفسه يضيء حليم بركات على أدونيس في أغاني مهيار الدمشقي وعالم الشعر الأغنى:
المأساة هي في أن تصغي، فالألحان لا تظل في الخارج. تخترقك، وتحس بانهيارات في أعماقك، وبأنك تنمو. تُرى، أهناك ما هو أروع من الشعور بأنك تنمو؟ العالم يستيقظ فيك، ريح تحرك أغصانك، الأوراق اليابسة تسقط، زبد البحر يغسل وجهك، تعطش، تشرب دونما ارتواء. ضلوعك تتسع وتحتضن العالم بفرح.
أمّا في عالم جبرا ابراهيم جبرا الروائيّ يتساءل بركات: هل يمكن الفصل بين الكاتب والكتابة؟ وإذا لم يكن من الممكن الفصل بينهما فهل يجوز اعتبارهما واحداً نتيجة لعمليةٍ متواصلةٍ من الاندماج الكلي؟ وإذا لم يكن من الممكن الفصل أو الدّمج، فكيف نفهم العلاقة بين الكاتب والكتابة كتعبيرٍ عن الذّات، وبين الذّات والواقع في مختلف أبعاده؟ أليست الكتابة عمليّة خلقٍ وإنتاج في آنٍ واحد؟
في روايته “عودة الطائر إلى البحر” نجد معاينة الروائيّ والّرواية لهزيمة 1967، فالأستاذ الجامعيّ رمزي الصفدي يحضر من بيروت إلى عمان والقدس ونابلس وجنين… ولهذه الرّواية ريادتها المتمثّلة بسرد الأساطير والموسيقى، حيث الهولندي الطائر رمز للعربيّ وللفلسطينيّ بخاصة. ويمضي رمزي الصفديّ بهذا الرّمز إلى شخصية “الفدائي” فيراه الجسر الوحيد الذي يصل العرب بالمستقبل، ويعبر بهم سور المأساة، لذلك لن يستريح العربي في اليوم السابع.
على الرغم من الانتشار الواسع لحليم بركات كراوٍ عربيّ كانت له بصمةٌ مميّزةٌ في الرّواية السيريّة، ورغم تحدّثه عن أنّ العربيّ معرّضٌ لكلِّ أنواع الظّلم والمنع والقمع والامتثال القسري وفي ظلّ غياب حلولٍ واقعيٍة وجذريةٍ، سيظل يسعى جاهداً للتحرّر من واقعه من خلال الفانتازيا، إلا أنّه كان أيضاً من أهم من كتب بالاجتماع العربي المعاصر، يؤكّد حليم بركات في مؤلفاته أن الكتابة الثوريّة تدل على محدوديّة الفرضية التي تقول بتصادم بين الفن والالتزام بالقضايا السياسيّة الكبرى. فهو يرى أن بإمكان الروائي أن يُخضع السياسة لعملية الخلق والتّفكير النقدي التّأملي في إطار الصراع الإنساني المحتدم.
لقبه مايكل هيدسون الاقتصادي الأميركي بـ إميل دوركهايم العرب، نتيجة أعماله في علم الاجتماع العربي وهو القائل أنّ الثّقافة هي رؤى الحياة والكون وتصوّراتها، وأساليب العمل المفضلة، والقيم والإبداعات والفنون الأدبية من شعرٍ وروايةٍ وقصةٍ والفنون التشكيلية من رسمٍ ونحت، والموسيقى والغناء والرقص، وفرق بين ما يسمى بالثّقافة السّائدة، والثّقافة النّقدية المُضادة، والثّقافة التوفيقيّة. و بيّن أنّ هناك أيضاً ما هو ظاهر للعيان وما هو خفيّ، وما هو اتباع و ما هو إبداع و ما هو عقلاني وما هو عاطفي.
جسّد بركات فعله الثقافي بالرّواية كما ذكرنا وبالتّفكر بقضايا المجتمع العربي أيضاً، فقد انكبّ مدّة ثلاثين عاماً على كتابة مؤلّفه (المجتمع العربي المعاصر) الصّادر عن مركز الوحدة للدراسات والذي عُدَّ من أهمّ كُتب علم الاجتماع العربي تناول فيه قضايا المجتمع العربيّ باحترافية الأكاديمي المشتبك مع واقعه، احتضن الكتاب أربعة أقسام عُنونت بعناوين أهمّ الإشكاليات العربيّة، فقد جاء القسم الأول بعنوان الهويّة العربيّة والاندماج الاجتماعي، تناول فيه الهويّة العربيّة بين التنوع والاندماج وأنماط الاجتماع العربيّ (البدويّ، الريفيّ، والحضريّ) ومآلات الاندماج الاجتماعي والسياسي. وجاء القسم الثاني بعنوان البنى والمؤسّسات الاجتماعيّة ليتناول الطبقات الاجتماعيّة ومفهوم الطّبقة كما يُضيء على العائلة العربية وعلاقات القرابة ويُناقش الصراع السياسي في إطاره الاجتماعيّ. بينما يعرض القسم الثّالث المعنون بالثّقافة العربيّة أنماط الثّقافة العربيّة واتجاهاتها المعاصرة كما يناقش موضوع القيم العربيّة مصادرها واتجاهاتها، واختتم الكتاب بالقسم الرّابع المعنون باستشراف المستقبل العربيّ ناقش فيه قضايا الثّورة والتنمية والاغتراب وتجاوز حالة الاغتراب.
حليم بركات (١٩٣٣-٢٠٢٣) ولد في ٤ كانون الأول ١٩٣٣، في الكفرون (سوريا) حصل على درجة الإجازة في علم الاجتماع ١٩٥٥ ودرجة الماجستير عام ١٩٦٠ من الجامعة الأمريكيّة في بيروت ثم نال درجة الدكتوراة في علم النّفس الاجتماعي عام ١٩٦٦ من جامعة ميشيغان الأمريكيّة، عمل زميلاً باحثاً في جامعة هارفارد من ١٩٧٢ حتّى ١٩٧٣، ودرس في جامعة تكساس عامي ١٩٧٥ و١٩٧٦ و من هذا العام حتّى ٢٠٠٢ كان أستاذاً لتدريس البحوث في مركز الدّراسات العربيّة المعاصرة في جامعة جورج تاون.
كتب بركات ما يقرب من عشرين كتابًا وخمسين مقالًا عن المجتمع والثّقافة في مجلاّت مثل المجلّة البريطانيّة لعلم الاجتماع، ومجلّة الشرق الأوسط، ومواقف، والمستقبل العربي.. كما أصدر روايات ومجموعة قصصيّة غنيّة بالرمزيّة والرمز خلال حديثها عن الأحداث العالمية. من أهم أعماله:
تعملُ التشكيلية السوريّة يارا عيسى (1989) من وحي الألم السوريّ، إنّها تُعيد إنتاج ذاكرة الحياة الضاربة بالحرب واللجوء، تُعيدها بصيغة إنسانيّة، كان لها أثر كبير على حياتها الشخصيّة، كما شعرنا من خلال حديثنا معها. فهي المُتخرجة من كلية الفنون الجميلة عام (2016) جامعة دمشق، والتي عاشت الأحداث السّورية بشكل جوهريّ عبر بوابة العمل الإغاثيّ الإنسانيّ، حتى أواخر العام 2018. واليوم في باريس ضجّت ذاكرتها بآلاف الصور عن سوريا وعن السّوريين وعن الأحداث الرهيبة التي عاشوها، والتي كانت هي جزءاً منها، لم يكن ثمّة طريقة لفهمها ومواجهتها على ما يبدو سوى بالفن.
بالنسبة لـيارا التي تجمّع تلك المرايا المكسورة في داخلها، هناك اقتراحات جديدة تقدمها للعالم، وهذا الحوار فيه محاولة مشتركة بيننا وبينها لقراءة أعمالها ومواكبة تجربتها التي تحضّر فيها حالياً لإطلاق أعمال فنية ضمن معرض مقبل في فرنسا:
هل تلخّصين لنا ما هي هذه التجربة؟ متى سوف تكتمل؟ ومتى من المحتمل أن تظهر للضوء؟ هل سيكون لها امتدادات على مستوى الأسلوب ومعالجة الفكرة؟
يارا: اسم التجربة التي أعمل عليها حالياً هي “الأزرق لم يعد آمناً بعد الآن” (The Blue is not save any more). من المحتمل أن تكتمل خلال هذا العام وأن تظهر قريباً للضوء. بعد البدء ها هنا، أشعر أنّني أكتشف عوالمَ وتقنيات أخرى، وبالتالي أعتقد أنّ هذه التجربة بالنسبة لي ماتزال غنية بالمساحات المليئة بالحرية على مستوى الفكرة.
شعرت أنّ الجسد في معظم أعمالك هنا يعيش في ضجيج مشّوش من التفاصيل، هناك مجموعة من الأجساد؛ هي لأشخاص بأعمار متفاوتة، على وجه التحديد: في أحد أعمالك يبدو بأنهم قد سجوا على بحر أو سماء أو أزرق ما تتركينه أمامنا لاحتمالات إنسانية تجعلنا نرى الأجساد كأنها ذكرى، ترى من هؤلاء؟ ولماذا يجتمعون بهذا الحزن؟
يارا: السّماء والبحر هما فسحتان مليئتان بالتناقضات؛ الأمل والموت، الحبّ والحرب، القُرب والبُعد، المنفى والوطن، الأمان والخوف، الوجود والعدم. كلّها تناقضات جمعتها تلك المساحات الزرقاء والتي منذ أن بدأت الحرب في سوريا عام (2011)، تحوّلت تلك المساحة إلى فضاءات غير آمنة للسوريين. اكتظت السّماء بالدخان، والبحر قام بابتلاع المئات. وصرنا نستطيع استشعار الخطر في أيّة جملة تتضمن كلمات كالبحر والسّماء، على الرغم من أن تلك المساحات الزرقاء كانت مدعاةً للسلام. أمّا فيما يتعلق بأعمار الشخوص التي تقدمها أغلب الأعمال، فقد حاولت أن أنقل جميع الفئات العمريّة من الأمان إلى العدم، فالحرب في مساحاتها لم ترحم حتّى الأطفال أو الرضّع.
إذاً، نحن أمام مواجهة فنيّة لأمكنةٍ غيّرت إلى حدٍّ ما دلالاتها بسبب الحرب في سوريا، هل نعتبر أنّك تقترحين المواجهة مع الذاكرة من أجل التحرّر من الألم الجمعيّ أم ماذا؟
يارا: يمكنك أن تعتبر هذه الأعمال توثيقاً للذاكرةِ العاطفيّةِ ضمن تشكيلاتٍ لونيّة وسياق عمل فنيّ مُتصل يسمح لنا بالتخيل والمشاهدة العاطفية عن بعد. وكأنّنا ننظر من السّماء إلى البحر، أو من البحر إلى السماء لنجد أنفسنا نخوض تلك التجربة العاطفيّة مع أبطال هذه الأعمال الذين لم يمتلكوا كثيراً من الخيارات؛ فإمّا الموت بفعل القنابل تحت السّماء أو الغرق في البحر طمعاً بالنجاة. إنّ هذه الشخوص والإيحاءات التعبيريّة؛ سواء في ملامح الوجوه أو في تعبيراتِ الجسد، ما هي إلا محاولة لإيصال التناقضات العاطفيّة والتي كوّنت بدورها هذا المزيج بين الحزن، والفرح، والأمل، والخيبة! سوف نرى هذه الحالات العاطفيّة تتوارى وتظهر لنا على اللوحة من خلال تداخل الألوان والخطوط، وانتهاكها في بعض الأحيان خصوصية الأزرق لتعطيه طاقة انفعاليّة وردَّ فعل قاسياً وعاطفياً، وانعكاسُ ردّ الفعل على الجمهور كما المرايا المكسورة المُعاد تشكيلها إذاً هو توثيق وانعكاس لعواطفنا نحن من عانينا من الحرب.
لاحظنا تقارباً في تكون بعض الأعمال لجهة التشكيل الأول لهويتها، والذي ما يلبث أن يقدم ذلك التشكيل انزياحاً لولادات غريبة في ذات العمل، إلى أيّة درجة نستطيع القول إنك تعودين لأعمالك تبعاً لظروف ما، من أجل وضع لمسة أخرى عليها.. ومتى تشعرين أن العمل قد تشكل تماماً؟
يارا: التقارب هو بسبب وحدة الحالة العاطفيّة التي تجمع هذه الأعمال، إنّها حالات عاطفية مستوحاة من معاناتنا كأناس من الحرب، ومستوحاة من تجربتي الشخصيّة على اعتبار أنّني بقيت في سوريا حتى منتصف عام (2019)، وقد كُنت على تماس مباشر مع الأحداث والنزاعات على الأرض، أضف إلى أن ذلك ينبع -أيضاً من كوني سورية في الدرجة الأولى وعملتُ مع المنظمات الحقوقيّة والإنسانيّة هناك. بالنسبة لنضوج العمل الفني، أعتقد أنّه يتطلب وقتاً وممارسة طويلة الأمد، وتلك الممارسة توحّد بين الحالة العاطفية من جهة، وحالة العمل من جهة أخرى، وفي كلّ مرة؛ دائماً أجد بأن هناك نتائج أفضل.
ما المقصود “بأنك تجدين أن هناك دائماً نتائج أفضل في كل مرة”! هل تعنين مثلاً التعديلات التي تشعرين أنها لازمة لتكون النتيجة أفضل في لوحة جديدة لنفس الموضوعة، أم القصد هو أنه في كلّ عمل جديد تشعرين بأنّ نتيجة الفكر، ككل، أفضل، بما أنّ الموضوع مشترك في أفكار اللوحات حسب ما رأينا؟
يارا: الفن بالنسبة لي عمل تراكميّ، لا يوجد هناك نتيجة مُثلى، لأن العمل الفنيّ يسعى دائماً للكمال، والفنان يفني حياته في محاولة إنتاج عمل فنيّ أفضل أو أنضج.. إلخ، ليرتقي إلى الكمال، وهذه العملية هي من تُعطي الفنّ قيمته الخلّاقة، والإبداع الذي يرافق هذه المحاولات هو من يمنح هذه الأعمال رونقها الخاص، لأنّ هذه العملية تمنح الفنان خصوصيته وبصمته التي استمدها من هذه التجربة. أسعى مع كلّ عمل جديد إلى الارتقاء بالعمل والحصول على نتيجة أفضل لذلك أبذل في كلّ مرة جهداً مضاعفاً. وكلّ مرّة أشعر بأن العمل الفنيّ يأخذني إلى أماكن أعمق، لذلك أشعر دائماً أن هناك نتيجة أفضل. أتوقف عندما يجب أن أتوقف وأنهي العمل ليس لأنّه وصل لأفضل شكل، بل لأن هذه الخطوة انتهت.
لاحظنا أن هناك كائنات غريبة تشبه الأسماك أو لها أجساد حيوانات تمشي على أربع قوائم، وهي متداخلة بطريقة سوريالية مع بعضها في أحد أعمالك، هل يمكن أن يشرح الفنان فكرته إلى جانب عمله بجملة أو جملتين؟ هل هي ضرورة برأيك ولماذا؟
يارا: بالطبع، أعتقدأنّها ليست ضرورة، ولكن، هذا يعود إلى خصوصيّة العمل الفنيّة والهدف منه، لنبدأ من توقيع الفنان على اللّوحة، ووضعه لتاريخ العمل، وهذا يفيد في تحديد الحقبة الزمنيّة التي أتمّ بها الفنان هذا العمل. أو قد نرى أحياناً العديد من الأعمال التي تحمل عناوين تدلّ على الأحداث التي ترافقها، مثل تلك الأعمال الملحميّة للمعارك عبر التاريخ، أو تلك الأعمال التي تهدف إلى تسليط الضوء على قضايا إنسانية… إلخ، فخصوصية العمل الفني تختلف وأهدافه قد تكون مختلفة. برأيي الشخصي لا أفضّل الأعمال التي توضع بجانبها ملاحظات، أحبّ التأمل وأن أعيش تجربتي الشخصية مع العمل، دون أن ألجأ إلى الملاحظات المنوطة بجانبه، مع الأخذ بعين الاعتبار تجربة الفنان والخلاصة التي يطرحها أمامنا.
إذاً أنت تراهنين على المتلقي وعلى ثقافته في فهم الأعمال الفنية والتواصل معها وتتركين له حرية فهم العمل، ترى كيف تفكرين بهذا الجانب عندما ما تختارين موضوعاً راهناً لازال يتغير مثل الحدث السوريّ؛ خصوصاً وأنّك تتوجهين لمجتمع متنوع مثل المجتمع الفرنسي؟
يارا: ضمن هذه التجربة تحديداً أعتمد بصورة عامة على ذاكرة المتلقي، على وجه الخصوص المتلقي الذي لديه ذاكرة لجوء أو حرب، أو على أشخاص تهتم إنسانيتهم بهذه القضايا، أو لربما من يستطيع أن يشعر بهذه الانفعالات اللونية على اللوحة. أما فيما يتعلق بالأعمال الفنية القادمة؛ لربما سوف أتجه إلى مفاهيم أكثر شمولية كالخوف والدهشة والألم كي أستطيع أن أصل إلى العالم في كل مكان. لقد عانينا فعلياً من الحرب، ولكن الكوارث والحروب والنزاعات بكلّ أنواعها موجودة في كلّ مكان، لربما المفاهيم الأكثر شمولية هي الأقوى والأبقى والأكثر تأثيراً ولها شعور جمعيّ؛ تخاطب أكبر شريحة ممكنة من الناس، في المحصلة يرغب الفنان أن يعبّر عن ذاته!
لا بدَّ في مواقف الحزن القصوى، كمجمع عزاءٍ مثلاً، من وقوع حوادث مضحكة، لا يملك المرء فيها إلا أن يستسلم للضحك بعد مكابدة طويلة. للأسف، أو ربما لحسن الحظ، تنفلت الضحكة عاليًا في النهاية ويحدث ما كنا نخافه. الأمر ذاته في الحروب والأزمات الكبرى، خصوصًا في المرحلة التي تلي الحرب، لا بد لمواقف مشابهة من أن تحدث، أو بمعنى أدق، من أن تتوالد. وهل ثمة ما هو أحق من جراحنا الشخصية كي نضحك عليه!
بعد مضي نحو ثلاثة عشر عامًا على الحرب السورية، بكل ما جرّته على شعبها من تشرد وفقر واغتراب، لا تزال تتجلى إلى اليوم، مخلّفات تلك الأزمة بأشكالٍ عدّة. سأختار منها المضحك فقط، تخفيفًا عن الجميع، تاركةً لغيري الحديث عن القهر والأسى. علمًا أن ما سيُذكر مبكي في جوهره، على غرار ما قاله المتنبي: ” لا تحسبنّ رقصي بينكم طربًا، فالطير يرقص مذبوحًا من شدة الألمِ”.
دَعَوات مبتكرة
لا غريب أن المنتَج الأساس في الحروب كلها، مشردون يجوبون الطرقات ويفترشونها. إما ضاقت بهم السبل، أو استسهالًا، لا فرق، إلا أنهم يلجؤون إلى التسول طريقةً يكسبون بها لقمة العيش، ما جعل التمييز بين المحتاج وغيره أمرًا صعبًا. وفي غياب وجود إحصائيات رسمية لأعداد المتسولين في سورية، نعتمد على “حسّنا العالي” في تقدير العدد الآخذ في ازدياد، وفي كشف المتسول المحق من المتسول الكذّاب. ما أثار اهتمامي أكثر من العدد المهول، هو الأسلوب المبتكر للفت الانتباه. بات المتسول على علمٍ بدواخلك وأمنياتك، فهو في النهاية من الشعب، وإلى الشعب يعود. فإذ به يلعب على هذا الجانب، يدغدغ فيك رغباتك الدفينة وأسرارك الخفية التي لا تبوح بها حتى لنفسك.
منذ أيام، اقترب مني أحد أفراد هذه الجماعة، وأصرُّ على تسميتهم جماعة، لأني أكاد أجزم بوجود تنظيم سري لهم، يجتمعون ويتباحثون في شؤون المواطن ونقاط ضعفه والكلمات المفتاحية التي تحرك مشاعره. اقترب وقال: “الله يسفّرك”! نظرت إليه بذهول، كيف تحولت تلك الدعوات من “الله يخليلك أهلك” وما إلى ذلك، إلى “الله يسفّرك”!
مرة أخرى قالت لي إحداهن: “الله يبعتلك نصيبك عَ ألمانيا أو عَ دبي” ما كان مني سوى أن أضحك أمام هذه الابتزازات العاطفية. وللصدفة كان صديقي المغترب معي، وحين جاء دوره في الدعوات، لم تفلح معه دعوة “الله يسفّرك” التي سبق وتحققت. واعترف لها، لسوء حظه، أنه في زيارة. طمعت الأخت بمال المغترب الذي كان، لكنها لم تحصّل في النهاية سوى خمسة آلاف ليرة سورية، متأففة أن ما نالته أقل من نصف دولار!
زواج بيرفع الراس
من تداعيات الحروب أيضا، كثرة الزيجات. ولكن هل كل الزيجات زيجات! اختلفت معايير الزوج المثالي مع تفاقم الأزمة. لدرجة أصبحت فيها المزية الأساسية للزوج، اغترابه. وكلما كانت سنوات اغترابه أكثر، كلما كان أفضل، إذ إنه سيحمل جنسية البلد الحاضن، أي على مبدأ النبيذ المعتق.
الاسم لا يهم، وكذلك العمر والحالة الاجتماعية والمهنة، هذه أمور ثانوية نسأل عنها لاحقًا، لدرجة بتنا نقول: “زوّجنا البنت ع ألمانيا” أو “الشب كتير أكابر، ما عاد نذكر من أي عيلة، بس عَ كندا”.
ليت الأمور توقفت عند هذا الحد. صار معيار تقييم نجاح الأنثى في العلاقات، المسافة التي تقطعها كي تلتقي بالزوج. وكأننا في ماراثون، الفائزة ليست الأسرع، إذ ليس من خط نهاية نصل إليه ونقطع الشريط، بل من تبتعد أكثر. وبذلك، توفَّر للفتيات أسلوب مفاخرة جديد، إذ قالت لي إحداهن: “والله إجاني عريس ع هولندا، حركيلنا حالك، مانك شاطرة”.
ومنذ ذلك الوقت، وأنا أبحث عن الحركات التي فعلتها تلك المحظوظات المسافرات القاطعات مسافات، دون جدوى. انتسبت مؤخرًا إلى نادي رياضي، علّني أزيد من لياقتي وأدخل السباق. لكنّي أخاف أن أتحمس كعادتي، فأستمر في الركض وأصل إلى القطب الجنوبي. لا أعتقد أن ثمة مغتربين هناك!
الألمانية هي اللغة الأم
سألت صديقي عن زميلٍ لنا إن كان يتعلّم الألمانية حقًا! أجابني: “شو الغريب؟ أبو حسن الخضرجي عنا بالحارة عم يتعلم ألماني”. أينما تحركت وكيفما التفتت، في المقهى والشارع والسينما وحتى في أثناء نومك، هناك من يتعلم الألمانية. باتت لغة العصر. قد يبدو الأمر مبهجًا ومدعاة فخر. لغة جديدة تعني ثقافة جديدة. لكن الأمر ليس كذلك أبدًا.
حين كنت في معهد اللغة الألمانية منذ سنتين، اقتصر تعلّم بعضهن اللغة على الأساسيات، بحجة أن “لَمْ الشمل” لا يتطلّب أعلى من المستوى الأدنى! تفاجأت بجرأة بعضهن. اللغة صعبة وليست أمرًا يؤخذ استسهالًا. ستقولون لي: تعلمتِ اللغة إذًا!
وهنا موضوع آخر، أصبح تعلُّم اللغة محط شك، وخصوصا بالنسبة للفتاة. إذ يوحي بوجود عريس محتمَل، أما الدراسة سعيًا خلف فرصةٍ ما، لهو أمر مستبعد! يبدو أنه مستبعد حقًا. دليل أنني في سوريا الآن أكتب ما أكتبه وبلغتي الأم التي أحب.
اقتصاد ملون جديد
مع انهيار العملة السورية، انهار الشعب والبلد. بينما ازدهر المغترب وأبو المغترب وأم المغترب وأخوات المغترب! غدت حياة كل هؤلاء معلّقة إلى سعر الأحمر والأخضر. يأملون أن ترتفع قيمته دون اكتراث لقيمة الليرة، إضافة إلى أن هبوطه لن يسهم في خفض أسعار السلع التي تعرف طريقًا واحدًا فقط، لا تسلك سواه، صعودًا وبسرعة قياسية.
أُضيف إلى طابور البنزين والخبز، وصفد البيض في المؤسسة الاستهلاكية، طابورٌ آخر، هو طابور الحوالات المالية، عدا عن تلك الطوابير الخامسة المخفية في الأزقة وعتمة الطرقات.
ولدت كذلك شيفرة جديدة بين أبناء الشعب، إذ نقول: “بدك تبيع أو تشتري، بندورة ولا خيار؟” في إشارة إلى العملات الصعبة. حتى انقلب الأمر الذي بدأ مزحة، أزمة وجودية. فالخيار والبندورة في الواقع، يحتاجان إلى قرض كي تبتاعهما!
تحويل الأزمات إلى نكات
يقال إنه متى كَثُر الكلام المضحك وقت الكوارث فإنها كارثة أكبر. لكن ما الذي نملكه أمام هذه الكوميديا البشرية سوى أن نضحك! هل تنفع الشكوى! إذًا لا بد من تحويل أزماتنا إلى نكات، والأكثر من ذلك توثيقها. فهي إرثنا المتجدد والمتحوّل بتحولنا. قد تكون هذه المواقف المضحكة المبكية، في جزءٍ منها، من يوميات المواطن السوري عامةً، ويومياتي أنا، ابنة اللاذقية خاصةً، أو لنقل ابنة “الحفرة السعيدة” كما يسميها أحد مثقفي اللاذقية. حتى مثقفونا باتوا يضحَكون ويُضحِكون. “الحفرة السعيدة”! يبدو أننا في حفرة فعلًا، ضحكنا أم بكينا، سيرتد الصدى ويصم آذاننا عن سماع أصوات العالم، ويحجب ضوضاءنا عنه.
جورج طرابيشي فيلسوف وأديب سوري، يُعدُّ من أبرز المفكرين اليساريين والقوميين العرب. ومن أكثرهم غزارة في إنتاجه الفكري وترجماته. وقد مرَّ في حياته – كما يروي هو – بست محطات كانت فارقة في مشواره الشخصي والفكري. أول تلك المحطات تجاوزه أو تحرره من ربقة المسيحية، التي تجعل من الخطيئة محور حياتنا. والثانية اقتناعه أن القضية الأساسية في التغيير الحقيقي، هي تغيير العقليات لا الأنظمة والسياسات، والثالثة تتعلق بالموقف من المرأة؛ لأن الموقف منها يتعلق بالموقف من العالم بأسره، والرابعة متعلقة بتعرُّفه على فرويد والتحليل النفسي، والخامسة اكتشافه تزييفات الجابري حيال موقفه من إخوان الصفا، والسادسة متعلقة بموقفه من الحرب في سورية ومن صمته حيالها، فهو لم يصمت ولكنه أصيب بخيبة أمل بأن الربيع العربي الذي استبشر به خيراً في البداية، كان بمثابة ردة إلى ما قبل الحداثة المأمولة، والغرق في مستنقع القرون الوسطى.( طرابيشي، المحطات الست في حياة جورج طرابيشي، موقع الجمهورية نت).
طرابيشي من مواليد حلب (١٩١٦-١٩٩٣). ويحمل الإجازة باللغة العربية، وماجستير في التربية، وقد عمل مديراً لإذاعة دمشق، بُعيد فض الوحدة بين سورية ومصر، وكذلك عمل رئيساً لتحرير مجلة دراسات عربية في بيروت، لكنه اضطر لترك لبنان بسبب الحرب الأهلية هناك، وانتقل إلى فرنسا وعمل في مجلة الوحدة، وتفرَّغ بالكلية للعمل الفكري مؤلفاً ومترجماً لعشرات الكتب الفلسفية والأدبية والتراثية.
تبنى طرابيشي في كتابه ” مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام ” فكرة احتضان الحضارة العربية للفلسفة، حيث ازدهرت الفلسفة في ظل هذه الحضارة، عكس ما أشاعه بعض الفكرين العرب – أمثال: أحمد أمين وعبد الرحمن بدوي والجابري- من أن هذا الاحتضان للفلسفة كان محصوراً بالغرب، وأن الشرق العربي كان محروماً من نفحات الفلسفة وإبداعاتها. (طرابيشي، مصائر الفلسفة، 1998، ص7 وما بعدها) فقلب معادلة التقدم والتأخر، وأعاد الأمور، بل الحقائق إلى نصابها، دون تحريفات الإيديولوجيا وتزييفات روَّادها من الغرب والشرق. ومع ذلك فقد أنكر وجود فلسفة عربية حديثة أو معاصرة، وهي إن وجت فهي ” فلسفة مترجمة، أو مولّدة بوساطة الترجمة. يصدق ذلك على توماوية يوسف كرم، ووجودية عبد الرحمن بدوي، وجوانية عثمان أمين…( طرابيشي، 206، هرطقات1، ص59).
لقد عمل طرابيشي على ترجمة أهم مؤلفات ماركس ولينين وفرويد وهيجل وسارتر وجارودي وسيمون دي بوفوار، ورغم أن تلك الترجمات لم تكن عن لغتها الأم، إلا أنه كان لها دور مهم في نشر الثقافة والفلسفة الأوربية في الأوساط العربية، وقد انعكست تلك الترجمات على أعمال طرابيشي، وتأثر بمدرسة التحليل النفسي، حيث طبق منهج التحليل النفسي على الرواية العربية، ويعود له الفضل في تناول الرواية العربية وتحليلها تحليلاً نفسياً، وإثرائها بالبعد الفلسفي الذي انعكس على كل كتاباته. ولا نتحدث هنا عن الترجمات، بل عن أعماله الخالصة ككتابه شرق وغرب، وعقدة أوديب، ولعبة الحلم والواقع، والأدب من الداخل…الخ.
أما فيما يتعلق بالمسألة القومية، فقد تناولها طرابيشي بتأثير من الفلسفة الماركسية، وكان يغلب عليه في بداياته الفكرية الطابع الثوري والماركسي، قبل أن يتحول إلى الاتجاه الليبرالي الديمقراطي، وقد ألَف في هذا الشأن: الماركسية والمسألة القومية، والماركسية والأيديولوجيا، والاستراتيجية الطبقية للثورة، وغير ذلك من المؤلفات التي يغلب عليها اتجاهه اليساري الماركسي. وكان موقفه وقتئذٍ من التراث العربي سلبياً، قبل أن يتحول لدراسته دراسة ناجعة ومثمرة.
ولعل أهم ما أنتجه الطرابيشي متعلق بمسألة نقد الفكر العربي، وقد بدأ مشروعه هذا بنقد نقد الفكر العربي لمحمد عابد الجابري، واستغرق ذلك من وقته ما يقارب العشرين عاماً. ورغم أنه بدأ رحلته مع الجابري، بإعجاب لافت بكتابه ” تكوين العقل العربي”، إلا أن طرابيشي سرعان ما انتبه إلى ملاحظات نقدية على هذا الكتاب أولاً ثم على المشروع النقدي للجابري ككل.
خصص طرابيشي لهذا النقد أربعة أعمال، كانت تتجه بشكل مباشر لنقد الجابري، وهي: نظرية العقل العربي، وإشكاليات العقل العربي، ووحدة العقل العربي، وأخيراً العقل المستقيل. لكن طرابيشي لم يبقَ حبيس آراء الجابري، ولا حبيس تزييفاته الأيديولوجية المقصودة أو غير المقصودة. حيث إن الجابري – حسب طرابيشي – عمل على تقسيمات شرقية وغربية، وخص الشرق بالبيان والعرفان، أما البرهان فهو من نصيب الغرب أو المغرب حيث ينتمي الجابري. وقدَّم طرابيشي عشرات الأدلة على تزييفات الجابري للتراث، بل للإرث العربي والإسلامي عموماً والمشرقي خصوصاً. وانتهى طرابيشي إلى ” أن دوائر العقل العربي الإسلامي متحدة المركز، سواء أكانت بيانية أم برهانية أم عرفانية، وهذا معناه أن النظام الابستمي لهذا العقل واحد، وبالتالي ما كان لهذا العقل أن يشهد أية قطيعة ابستمولوجية مهما تمايزت عبقريات الأشخاص وعبقريات الأماكن.” ( طرابيشي، 2002، وحدة العقل العربي الإسلامي، ص 405).
والذي يقرأ كتاب طرابيشي ” وحدة العقل العربي ” يدرك في آن معاً موسوعيته وعمقه في قراءة التراث الفلسفي والفكري العربي، حيث نراه من جهة يمسح على نحو أفقي أعلام الثقافة العربية من الفلسفة إلى اللاهوت إلى التصوف، يبدأ بابن سينا وينتهي بابن طفيل وابن رشد، يحلل الغزالي ويعرج على ابن حزم، ليصل إلى الشاطبي، ثم نراه يغوص في تحليل عمودي ليقف على أدق التفاصيل وأكثرها عمقاً.
فطرابيشي لم يبقَ حبيس الملاحظات النقدية على الجابري، بل تجاوز ذلك لفهم التراث العربي بكل ما فيه، ولم يقتصر على قراءة الفلسفة اليونانية وامتداداتها الوسيطة والحديثة والمعاصرة، الغربية منها والشرقية، بل نراه قد قرأ التراث من نصوصه الأصلية، فكتب من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، ولم يكتفِ بذلك بل تطرق للفقه والتصوف واللاهوت المسيحي والإسلامي، وتناول كل ذلك بعقلية نقدية منقطعة النظير. والنقد لديه لم يكن نقضاً أو هدماً، بل كان نقده بناءً، غايته تصويب ما اعوج من منظور تنويري، فقد كان ينقد ليصوِّب، يَهدم ليبني، ويجرح ليبنّه الغافلين.
لم يكن طرابيشي كغيره من المفكرين، الذين اتجهوا لنقد التراث، فبقوا حبيسين في أقفاص ذلك التراث، بل إن طرابيشي كان يمسح التاريخ الفكري والفلسفي والديني، يسبر أغواره متسلحاً بالنقد أو التفكيك، بكل ما تعنيه هذه الكلمة أو هذا المنهج النقدي الخطير. فكتب كتابه الهام “هرطقات “، بجزئين الأول خصصه لهرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة، كشف فيه عن زيف بعض التصورات والمفاهيم والممارسات المتعلقة بهذه المفاهيم، كاشفاً عما يعتري الثقافة العربية المعاصرة من زيف وأضاليل تُسِيء للتراث والتاريخ العربي، الذي يراه طرابيشي بأنه حافل بقيم الديمقراطية والعلمانية، عكس ما ينشره متفلسفو العرب المعاصرون، الذين لم يروا في التراث غير أوراق صفراء لا تسمن ولا تغني من جوع، ولهذا نراه يخصص الجزء الثاني من كتابه ” الهرطقات ” لإشكالية العلمانية، كاشفاً ومبرهناً عن مظانها في تراثنا العربي.
أما بخصوص الديمقراطية فقد كتب يصف حاله يوم صار ديمقراطياً، فقال: ” ويوم انتهيت إلى أن أصير ديمقراطياً لم أرَ في الديمقراطية ايديولوجيا خلاصية، نظير ما فُعل بعقيدتي الوحدة العربية والاشتراكية، ولم أضع أي رهان من طبيعة عجائبية على تحول ديمقراطي يأتي عن طريق صندوق الاقتراع، إذ لم يقترن بتحول عقلي في صندوق جمجمة الرأس: رأس النخب كما رأس الجماهير.” ( طرابيشي، 2008 ، هرطقات 2، ص7).
استطاع طرابيشي وبحق أن يغوص لعمق القضايا التراثية بعقلية علمانية مستنيرة، وبأدوات ومناهج فلسفية وعلمية راهنة، فكك كل إشكاليات الفكر العربي، وعلى رأسها إشكالية البنية الشعورية للعقل العربي ذاته، وإشكالية وجدلية اللغة والعقل، منذ المرحلة الشفوية للثقافة، وصولاً إلى عصر التدوين (طرابيشي، 1998، إشكاليات العقل العربي، ص 9 وما بعدها) فلم ترهبه مقدسات اللاهوتيين، ولا أوثان الفلاسفة ولا أفكارهم ولا حدودهم الصفراء، وقدَّم لوائح امتياز لما للتراث العربي وما عليه. فنراه هنا يقيِّم مشروع حسن حنفي في موسوعته ” التراث والتجديد ” فهو يرى أن ” أجمل الصفحات، وأعمق الصفحات، وأكثر الصفحات أصالة، هي تلك التي خطها يراع حسن حنفي وهو يمارس تجاه التراث والذات الوظيفة النقدية، وبالمقابل فإن تلك الصفحات التي دبجها في تعظيم التراث والذات هي من أكثرها ضحالة، وابتذالاً…” ( طرابيشي، 1991، المثقفون العرب والتراث، ص 274).
وأخيراً قدَّم طرابيشي للأدب والنقد الأدبي والروائي ربما أول تجربة في التحليل النفسي والفلسفي الوجودي والماركسي والتفكيكي. وعشرات الترجمات لنفائس نادرة في الثقافة الفلسفية والأدبية والإنسانية. فكان بحق فيلسوفاً وأديباً في زمن خلا أو يكاد.