السوريون في الحسكة: سُبل العيش والتحديات

السوريون في الحسكة: سُبل العيش والتحديات

يعيش أهالي محافظة الحسكة منذ عقد ونيِّف حياة مُظلمة وواقعاً مَعِيْشياً متردياً، انقسم المجتمع فيه إلى طبقتين متفاوتتين في الحياة والمتطلبات والآمال، وما عانته المحافظة التي مثَّلت سلة الغذاء السورية في العقود المنصرمة في ظل سنوات الحرب ’’زاد الطين بلة‘‘ طوال سنوات الجفاف الذي ضرب حوض نهر الخابور، وأخرجه عن دوره الفعَّال في دائرة التنمية الاقتصادية للبلاد؛ وبرغم ما قدمته المحافظة من خيرات وثروات كانت تدفع بالاقتصاد السوري بقوة إلى الانتعاش، إلا أنَّ واقع الحياة في محافظة الحسكة بريفها الشاسع يكاد يكون مُغيَّباً تماماً عن عين الإعلام بالعموم وعن طاولة الحوار السوري بشكلٍ خاص، وبعيد نوعاً ما عن التغطية المُنظَّمة للإعلام، عدا تقارير خجولة ومقتضبة لا تَمسُّ حياة المواطنين وتتبَّع مشاكلهم وهمومهم إلا بالقليل النادر كانتباهة النائم الذي أثقل الوسن جفونه، وقد يكون لذلك أسباب كثيرة لا مجال لحصرها، وكان هذا الدافع  للقيام بجولة في المحافظة وريفها لرصد بعض الصور من واقع الحياة هناك، ومحاولة التعرّف على بعض التحدِّيات والصعوبات التي يواجهها السكان لتأمين حياتهم ومتطلبات عيشهم.

واقع معيشي في عالمٍ موازٍ:

يعتمد أبناء الحسكة في معيشتهم بشكل عام كمجتمع زراعي على ما تَجود به الأرض من خيرات، إلى جانب تربية المواشي والاستفادة منها في رفد وتنويع الموارد الحيوية التي يبنى عليها الاقتصاد في المحافظة، إضافة إلى التجارة والصناعة الاستهلاكية الخفيفة التي لا تكاد تغطي متطلبات السوق المحلية، فخلو المحافظة من المعامل والشركات الصناعية الكُبرى والثقيلة أجبر السكان على البقاء في دائرة الاقتصاد الزراعي البدائي ومشتقاته، وهذا ما شكَّل تحدياً صعباً لما يُقارب المليون نسمة في تأمين مستلزمات البناء والزراعة، خاصة في ظل الجفاف الذي ضرب المنطقة منذ العقد ونصف الماضي، مع حلول الأزمة السورية التي أتت لتُفاقم الأزمة الكبرى الواقعة.

هذا، ومع بداية الأزمة السورية خرجت المحافظة بامتدادها الواسع على دائرة السيطرة الحكومية التي تقلَّصت في مساحة محددة وسط المدينة، وبقي الاقتصاد الذي كان يعاني الجفاف لسنوات رهن سيطرة التنظيمات والميليشيات المتتابعة على المنطقة، وغياب التنظيم والتوزيع العادل للموارد على القطاعات الإنتاجية في المحافظة وتخبّط السياسة الاقتصادية وغيابها في معظم الأحوال، الأمر الذي عرقل وبشكلٍ مُتسارع الوضع المعيشي لأهالي المحافظة، حيث بدأت علامات الهزال الاقتصادي تبرز في مظاهر الحياة كافة، لجأ السكان إثر ذلك وهم بحاجة لمورد يدفع عنهم شَبَح الفقر، إلى حلول إسعافية بديلة بعد سيطرة الميليشيات على منابع النفط وإدارتها لتجارة الفيول وتوافره بسعر زهيد إلى تكرير النفط الخام بطريقة بدائية، وإغراق السوق بالمُشتقات النفطية المُشبعة بالرصاص المُشع، وهذا ما نتج عنه لاحقاً آثار مرعبة على البيئة والصحة في عموم حوض الفرات غصَّت بها مشافي الأورام والأمراض المُزمنة؛ ما خلق نوعاً من دائرة اقتصادات تقوم على تجارة المشتقات النفطية والمنتجات التي يسهُل تسويقها وبيعها في أسواق محلية وعلى الطرقات، حتى حلول عام 2018 بُعيد تطهير فلول داعش من ريف المحافظة بشكلٍ عام، مع انتهاء الجفاف الذي استمر لأكثر من عقد وبداية موسم مطري غزير وفَّر آلاف الهكتارات من المحاصيل الزراعية البعلية، انتعشت خلاله الأوضاع المعيشية في المحافظة بمختلف قطاعاتها.

أسواق محلية في قضاء المحافظة:

بدأت الأوضاع المعيشية للسكان مَطلع العام  2019 بالخروج من دائرة الضيق بعد الاستقرار النسبي الذي طال المنطقة، وانتشار الأسواق والمزادات المحلية في المناطق والأرياف بعيداً عن مركز المدينة، والتي نشأت وتوسّعت حول تجمُّعات من باعة المشتقات النفطية ودلَّالي المواشي ومكاتب بيع السيارات وذلك لسهولة تصريف البضائع خاصة وأنَّ هذه الأسواق لا تخضع لرقابة مباشرة لأي جهة ما؛ إثر موسم زراعي وفير بدأ ينحسر مع انحباس الأمطار نهاية شتاء هذا العام، يقف أبو فارس والذي يعمل دلَّال مواشٍ في وسط سوق “الحدادية” للمواشي في ريف الحسكة الجنوبي منادياً بأعلى صوته على المواشي التي جُلبت لتباع في السوق يوم السبت، وأشار خلال لقائه صالون سوريا إلى حركة السوق القوية المعتادة في هذا اليوم في فصلي الشتاء والربيع في كل عام، إلا أنه يعلّل ضعف القوة الشرائية إلى انحباس المطر هذا الشتاء وإلى تواتر العرض والطلب على أنواع محددة في الصيف، خاصة بعد عزوف تجار محافظات الداخل من حماه وحلب عن ورود هذه الأسواق بعد انحباس المطر نهاية الموسم الذي أجهض الكثير من الاحلام والتوقّعات.

ويضيف محمود وهو مُحاسب في سوق الحبوب أن هذه الأسواق أعطت الناس فرصاً جديدة للبقاء على قيد الحياة ومنحتهم بعض الاستقرار على حد تعبيره على الرغم من الغلاء الذي يتأفف منه الجميع ويُقيّد حركة السوق، أمَّا هُمام طبيب الأسنان الذي افتتح عيادته في السوق ذاتها وقد وجد فيها خطوة آمنة، أفاد لصالون سوريا أنَّ ارتفاع الأسعار اليومي نتيجة نسب التضخم المتفاقم وتذبذب سعر الصرف، أخرج الغالب من سكان الأرياف من دائرة الأمان المعيشي ووضعهم تحت خط الفقر، فالكثير من زائريه في العيادة من السكان المحليين يعتمد في حياته على البيع المتفرق للمواشي وتسويق المحصول السنوي وبيعه في سوق محلية تخضع للعرض والطلب المحلي، وكل ذلك يعتمد على الطقس وموسم الأمطار الذي يُنعش السوق ويبعث الحياة في نفوس الأهالي؛ ما قد يجعل من عمله في هذا المكان آمناً ومريحاً نوعاً ما، ذلك أنَّ عيادته تُجنِّب الكثيرين عناء الذهاب إلى المدينة.

هجرة مُتسارعة للشباب:
في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية لجأ الكثير من الشباب في المحافظة إلى اختصار الطريق وتحويل بوصلتهم تجاه أوربا، فبمبلغ يصل نحو 10 آلاف دولارٍ اختار أحمد خريج قسم اللغة الإنكليزية، أن يسلك طريقاً محفوفة بالمخاطر وينطلق هذا الصيف عبر الحدود التركية إلى أوربا هارباً على حد تعبيره من دوامة المجهول التي انتهت إليها المنطقة، بعد أن استنفدت قواه في تحمّل الواقع المعيشي الصعب، وبرغم استدانته للمبلغ الكبير ومخاطرته بحياته في الطريق إلى أوربا، لكنه يرى أملاً في نهاية الطريق قد يُغير من حياته وحياة أسرته.

ظروف تعليميِّة من وحي واقع الحال:
لا زال ريف محافظة الحسكة يعاني بشدة من تبعات الانقطاع التعليمي الذي فرضته الحرب في ظل سيطرة الميليشيات المتتابعة في الجزيرة السورية بعامة، وخروج غالب مدارس المحافظة عن خطة الوزارة التربوية في دائرة التعليم الحكومي، ما أسفر عن ظروف تعليمية انعكست على مستقبل مئات الآلاف من الطلاب بحلقاتهم المتعددة وذلك بحسب توجّهات كل من التنظيمات والميليشيات المُسيطرة، وقالت السيدة أم أحمد في لقائها صالون سوريا إنَّ الواقع المعيشي انعكس على جميع مناحي الحياة بما في ذلك واقع التعليم في المنطقة، وأشارت بدورها إلى أنَّ المستوى التعليمي في مدارس المنطقة قد تردَّى إلى أقصى حد، وذلك يعود إلى أنَّ ما يُعرف بالإدارة الذاتية التابعة لقسد قد أقامت نظاماً تعليمياً في مناطق سيطرتها تستند فيه إلى جملة من المدرسين والإداريين الحاصلين على الشهادة الإعدادية، وعدد قليل من حملة الشهادة الثانوية، إلا أنَّ حَمَلَة الإجازة الجامعية يُعَدُّونَ نسبة ضئيلة جداً في تلك المنظومة التعليمية، وأشارت بدورها زهرة وهي ربة منزل وأم لستة أولاد بكلمات مقتضبة إلى أنَّ تراجع مستوى التحصيل الدراسي للتلاميذ في مدارس المنطقة في ريف الشدادي يعود إلى ضعف الخبرة التدريسية للمعلمين، وافتقار معظم المدرسين إلى أسلوب تعليمي يوجِّه مُخرجات العملية التعليمية نحو أهداف أكثر فاعليِّة، كون الغالب من هؤلاء المُدرسين يحتاج إلى ضبط لغته العربية قراءةً وكتابة”، ما انعكس على تراجع تحصيل الطلاب الدراسي بشكل تفاقمي أدى إلى استمرار الأمية بين كثير من الطلاب، انتهى بأهالي التلاميذ النظر إلى مستقبل أطفالهم التعليمي بعين الإفلاس، وعَدّهم التعليم بلا جدوى في ظل الفشل المتكرر، ما حدا بالكثيرين إلى إخراج أبنائهم من المدارس والزجّ بهم في شتى الأعمال والمصالح اليدوية لتأمين كفاف العيش.

ومن وجهة أُخرى، التقى صالون سوريا بفاطمة وهي معلمة بشهادة إعدادية حكومية انخرطت في السلك التعليمي التابع لما عُرف بالإدارة الذاتية وأفادت برأيها ” أنَّ الواقع يفرض نفسه على الجميع وأنَّ هذا الحال أفضل من بقاء الطلاب دون تعليم، خاصة بعد خروج داعش من المنطقة، فقد وفرت هذه المنظومة التعليمية مورداً شهرياً لعائلتها يصل إلى حوالي 80 دولاراً أغناها عن سؤال الناس، كما أنَّ هذه المنظومة في حلقتيها الأولى والثانية كانت بمثابة حلقة ترميمية أعادت الكثير من الأطفال والطلاب إلى مقاعد الدراسة، وعلى الرغم من عدم قبول الحكومة للشهادات التي تصدر عن هذه الجهة، لكن بإمكانهم متابعة الدراسة الإعدادية وقتما شاؤوا في مركز المحافظة”، وبهذا الحال أضحت الظروف المعيشية والمادية وبُعد الطلاب من المدينة أو قربهم هو الفاصل بين تحصيل التعليم وإكماله أو الاكتفاء بمحو الأمية، ما شكَّل تحدياً يُضاف إلى قائمة طويلة من الصعوبات بات يعانيها أبناء المحافظة.

أعمال صناعية محلية وواقع زراعي:
تندرج محافظة الحسكة ضمن المحافظات النامية، وتشكِّل الزراعة والثروة الحيوانية العمود الفقري لاقتصاد المحافظة، وتشتهر بزراعة القمح والقطن بشكلٍ واسع، إضافة إلى الخضار والبقوليات وبعض الفواكه، وقد انخفضت نسبة مساحة الأراضي المروية بشكل كبير خلال الأعوام الماضية، حيث تُمثل المساحة المزروعة في المحافظة في العام 2007 نسبة 29% من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية في سورية، خرجت اليوم نسبة كبيرة منها عن دائرة الإنتاج الزراعي، وأفاد أبو قاسم لصالون سوريا وهو صاحب مركز لبيع أدوات الطاقة الشمسية في سوق منطقة الـ 47 “أنَّ الناس تعمل رغم كل الظروف الصعبة وضعف المردود، وغالب الفلاحين بدأ يتجه إلى الاعتماد على الطاقة الشمسية لري أرضه في ظل الانقطاع المتواصل للكهرباء وشح الامطار، ما وفَّر المشتقات النفطية التي تحولت إلى القطاعات الإنتاجية الأخرى”. وأشار فرحان في حديثه مع صالون سوريا وهو فلَّاح يسقي أرضه على ضفة نهر الخابور أنَّ شح المياه وانقطاعها أحياناً في فصل الصيف يؤدي بالنبات إلى العطش والذبول ما أجبره على حفر بئر وتركيب مضخة وكل ذلك يرفع من تكاليف الإنتاج، عدا عن التكاليف الباهظة للحراثة والبذار وأدوية مكافحة الآفات، ويترحّم فرحان على أيام الخير والبركة قبل اندلاع الأزمة في البلاد حيث البذار المُحسنة والأسمدة ورخص المحروقات”، إضافة إلى أنَّ فلاحي الحسكة يفتقرون للثقافة الزراعية مع غياب دور الوحدات الإرشادية الزراعية بشكلٍ عام، فالواقع المعيشي وارتفاع أسعار وتكاليف الأدوات الزراعية من شبكات تنقيط ما شابه، واعتياده خطة زراعية واحدة منذ عقود جعلت الغالب منهم يعزف عن زراعة الكثير من المحاصيل الزراعية ذات المردود العالي كالسمسم وعباد الشمس والزعفران ويتَخوَّف من زراعتها ويَعدّها مُجازفة، وذلك لافتقاره المعرفة بدورتها الزراعية وكل ما يتَّصل بزراعتها والاهتمام بها.
بعد الاستقرار النسبي الحاصل في المحافظة مَطلع العام 2020بدأ قطاع الصناعة أكثر نشاطاً منذ اندلاع الأزمة السورية قبل عقد من الزمن، وانحصرت الصناعة في دائرة تلبية حاجات السوق الزراعية ومواد البناء من البلوك والرخام والمواد الاستهلاكية من صناعة البلاستيك والغذائيات، ولا سيما المنتجات التي يسهل تسويقها وبيعها في الأسواق المحلية والتي تتوفّر المواد الأولية والخام لقيام صناعتها بخبرات وكوادر محلية. وفي حديثه مع “صالون سوريا” بيَّن خليل صاحب معمل “الحاصود” للبلاستيك والذي يُنتج خراطيم بلاستيك زراعية تُستخدم في الري، “أنَّ الآونة الأخيرة شهدت قيام بعض المعامل في المنطقة، غير أنَّ أصحاب هذه المعامل يواجهون مشكلات تتعلق بتأمين المحروقات التي ارتفعت أسعارها، إضافة إلى أنَّ الكميات المُخصصة للمعامل لم تعد كافية على حد قوله وأنهم باتوا يلجؤون لتأمينها بأسعار مُضاعفة من السوق السوداء ما يؤدي لارتفاع أسعار المواد المُنتجة لارتفاع تكلفتها”.
ويُشار إلى أنَّ محافظة الحسكة والجزيرة السورية بالعموم شهدت توسّعاً كبيراً في الخارطة الصناعية وزيادة متتالية في المُنشآت الصناعية التي توزَّعت في الأرياف والمناطق ومراكز المدن، ومنها معامل الحلويات والغذائيات التي تقوم على المشتقات الحيوانية كالألبان والأجبان إضافة إلى المنشآت التي تُنتج مواد البناء كالرخام والبلوك، إضافة إلى أنَّ فتح باب الاستيراد من معبر فيش خابور (سمالكا) غير الشرعي الحدودي مع العراق في أقصى الشمال الشرقي لسورية، قد أسهم في زيادة ورود المواد الأولية والخام من الخارج وذلك يوفِّر للصناعات المحلية نمواً متواصلاً مما سينعكس بشكل إيجابي على اقتصاد المنطقة بشكل عام.

واقع عمل الشباب: فرص وتحديات

في ظل الأوضاع الراهنة وبسبب ندرة فرص العمل المستدام وانخفاض المردود، اتجه كثير من الشباب في المحافظة للتطوُّع في المنظمَّات والجمعيات التي تعمل في الجانب الإنساني، وتتوزع في شتى مناطق المحافظة سواء في الريف أو المدينة؛ والتي وجدوا فيها فرصة ذهبية لتحسين أوضاعهم المعيشية واكتساب الخبرات العملية، حيث يصل المرتب التطوعي الشهري في تلك المنظمات الدولية والجمعيات غير الحكومية إلى ما يزيد عن 200 دولار، إضافة إلى توافر شروط وبيئة عمل مناسبة تراعي تطلعات الشباب وتسهم بتمكينهم عملياً واجتماعياً، لكن ليس بإمكان الجميع العمل في تلك المنظمات فهناك مجموعة شروط تعطي الأفضلية لمن يحمل شهادة جامعية في أحد الاختصاصات الهندسية والإدارية أو إجازة في العلوم الاجتماعية والنفسية، كما يُعدّ إتقان اللغة الإنكليزية وعلوم الحاسوب أحد الأبواب الواسعة لضمان عقد عمل جيداً في تلك المنظمات. وأفادت شيرين وهي متطوعة كمُيسرة مهارات الحياة في أحد مخيَّمات اللجوء شمال الحسكة خلال حديثها لصالون سوريا أنَّ العمل التطوعي مع المنظمات الإنسانية غيَّر من مفهوم الحياة لدى كثير من زملائها في العمل، وبات البذل والعطاء بالنسبة لهم هو المحور الرئيس للعمل الإنساني في ظل ما عانته المنطقة خلال السنوات الماضية، وأكدت على حد تعبيرها أن الحلقة الأضعف في هذه الأزمة هم النساء والأطفال، فَصور المعاناة وقصص الفقد تقتحم حياتهنَّ وأطفالهنَّ خاصة في مُخيمات اللجوء في الحسكة. ويُضيف علاء وهو مدير مشروع في إحدى المنظمات الإنسانية “أن مجال العمل في المنظمات الإنسانية يحتاج لمهارات متعددة ومرونة عالية ولا شك أنه يختلف عن العمل في مجالات أخرى ويعطي خبرة واسعة في المجالات ذات الصلة، بالإضافة للمردود الجيد الذي بات يوفر للشباب حياة عملية ومعيشية جيدة نوعاً ما في ظل الأوضاع الراهنة.”

وفي سياق متصل، بات الكثير من شباب الحسكة يفتقدون للأمان والاستقرار المعيشي والاجتماعي وذلك بسبب عزوفهم عن الزواج وتكوين أسرة يستظلون بها من شمس العمر التي مالت نحو الزوال، فغالب الشباب من الجنسين يُعاني من صعوبات تأمين عمل مستدام يُغطي نفقات الزواج وإعالة أسرة صغيرة في لهيب الغلاء الذي تكتوي به البلاد. يقف صالح في شارع فلسطين وسط مدينة الحسكة لبيع القُطنيات وهو شاب تجاوز السابعة والثلاثين وأشار في حديثه لصالون سوريا ” أن فكرة الزواج أصبحت بعيدة المنال بعد كل هذا الغلاء، فمتطلبات الزواج باتت تفوق قدرتنا ومدخولنا، الآن نفكر بتأمين لقمة العيش ومساعدة العائلة الكبيرة على النفقات.  ويضيف جورج وهو صاحب محل ألبسة نسائية: ” ما تزال تجارتنا آمنة نوعاً ما، لكنَّ السوق بشكل عام تعاني من ركود اقتصادي كبير والقدرة الشرائية للمواطنين باتت ضعيفة باستثناء فترة الأعياد ومواسم الحصاد” وبذلك فإن الظروف المعيشية وواقع الحياة بالعموم مُتصل بشكل وثيق بسعر الصرف وارتفاع نسب التضخم أو انخفاضها.

مريانا مراش: أيقونة سوريــــّة في الصحافة العربيّة

مريانا مراش: أيقونة سوريــــّة في الصحافة العربيّة

تُجِمع الدراسات التي تناولت حياة مريانا مراش على أهميتها في الصحافة العربية المعاصرة، وريادتها التي تمثلت في تأثيرها على بنات جيلها والجيل الذي يليه.

 جاء ذلك من انشغالها بهموم المرأة ودعوتها لتحريرها عبر التعليم وربطها الوعي والاستنارة بالتحرر الخلاق من القيود. هذه الأفكار أدت لاحقاً لبلورة مشاريع فكرية قامت بها النساء في سوريا ومصر والوطن العربي.

تكشف سيرة حياتها بين ميلادها في حلب 1848 ورحيلها 1919 عن نبوغ بحيث تفتحت مداركها في بيت يهتم بالأدب والفكر والثقافة، وتتلمذت في مكتبة والدها فتح الله مراش، وعلى يد شقيقها الأديب فرنسيس مراش أحد أركان النهضة الأدبية في سوريا في القرن التاسع عشر. وتنقلت بين مدارس حلب والمدرسة المارونية والإنجيلية في بيروت، ومدرسة راهبات مار يوسف حيث أتقنت العربية والفرنسية والموسيقى فكانت من أبرع العازفات على البيانو، وفي الثانية والعشرين وما إن اكتملت ثقافتها حتى أخذت تنشر مقالاتها في الصحف والمجلات وأهمها مجلة “الجنان” ومجلة “لسان الحال”.
إن أهمية تجربتها تدفع قارئها لتفحص تمثلات هذه الريادة وتأثيرها وأهميتها بالنسبة لمعاصريها وللأجيال اللاحقة؛ فهي وقياساً لظروف عصرها وجدت في مرحلة صعبة زمنياً وهي فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وثقافياً فرغم أن المرأة في تلك الحقبة قد نالت في الدساتير والقوانين الحقوق التي جاءت في النصوص القانونية لكن الوضع الاجتماعي للمرأة كان أسيراً لدونية النظر إليها، والتقاليد الاجتماعية التي تحرمها حرية التحقق و التفكير في بيئة تسودها قناعة بأنه لا يجب تعليم الفتيات، وقد وصفت مارلين بوث تلك الفترة بأن الوضع وصل إلى حد أنه “لا ينبغي على الفتاة أن تجلس في غرفة استقبال الضيوف” الرجال”.

المسألة الأكثر جوهرية: تفرّد تجربتها ويرى د. محمد علي اسماعيل” أن ريادتها تتأتى من كونها صاحبة الموضوع الأول المشتمل على الأفكار الأولى؛ التي أثرت في الآخرين، فتأثر بها الآخرون وساروا على منوالها، أو استفادوا منها”

وكانت مقالتها اللافتة والأبرز والتي نشرها بطرس البستاني في مجلة الجنان البيروتية في شهر يوليو من عام 1870 بعنوان: شامة الجنان دعت فيها الكتاب لتطوير موضوعاتهم وتحسين مناقشاتهم ولغتهم، كما حثت النساء على الثقافة والعلم ومما جاء عنها أن “مقالاتها في “لسان الحال” “تناولت مجتمعها وعاداته وتقاليده وعمّا حولها من آثار التخلف، وكانت تستحثه على النهوض والابتعاد عن الجمود، وتدعو بنات عصرها إلى الاستنارة والتحرر من القيود مشجعة البنات على الكتابة، داعية المجتمع إلى تحرير المرأة والتمدن والاقتباس من الحضارات، فجاءت دعواتها واقعية جريئة على المجتمع المستكين، وتنثر بين الفتيات روح التمدن والأخلاق والجرأة والشجاعة الأدبية. كما بينت أسباب الانحطاط في المجتمع، مُقارِنة بين المرأة الأوروبية والعربية وقد جاءت مقالاتها احترافية مشبعة بلغة جديدة متخلصة من التقليد السائد”

 ما جعل البعض يرى أن أثر أفكارها لم يتوقف عند حدود مقالاتها، بل كان “بداية ولادة حركة نسوية سورية   فقد تم عام 1880 تأسيس جمعية علمية أدبية نسائية من قبل سيدات سوريات رائدات أطلقن عليها اسم (باكورة سوريا) وكانت أهدافها مستوحاة من أفكار مريانا مراش وآرائها بتفتيح عقول النساء وتطوير وضعهن الاجتماعي”

ولن تتوقف مراش عند حدود الدعوة لمشاركة المرأة والتحرر الاقتصادي بل ستترك جدلاً وأثراً على أقلام النساء اللواتي تأثرن بهذه الدعوة ” إذ تلقفت السيدة وستين مسرَّة دعوة الآنسة مراش، فنشرت في عام 1871 في مجلة “الجنان” أيضاً مقالة بعنوان “التربية”، أيدت فيها دعوة مرَّاش لطرد “الخوف والوجل”، داعية النساء لأن يرمحن في ميادين الأدب بالقول والعمل”.

هذا الأثر امتد لتساؤلها حول الكتابة فانتقدت أساليب الكتّاب المقعرة في ذلك العصر وكانت تدعو الى تطوير طرق الكتابة والإنشاء وتنويع الموضوعات.

وقد وصل أثر دعوتها إلى مصر “فتبنتها السيدة فريدة شكور، معلمة ثم مديرة مدرسة البنات الأميركية في القاهرة، إذ كتبت في مجلة “الجنان” أيضاً عام 1874 مقالة بعنوان “في النساء” أعادت فيها صياغة أفكار مريانا مراش؛ لتعالج موضوعها عن تربية البنات من أجل إعداد الأسرة المتمدنة مستقبلاً”.

إن جوهر تجربة مريانا مراش، هو أنها استطاعت كامرأة وسط مجتمع يعاني تبعات الفقر والجهل من أن تكتب مقالاتها باسمها الصريح وتحث على شجاعة العقل فقراءة نتاجها يدل بوضوح على كونها امرأة سابقة لعصرها وقيمة تفكيرها كانت في عقلها التحليلي ورؤيتها المستقبلية وقدرتها على الإقناع.

كما أصدرت مجموعة شعرية بعنوان “بنت فكر” وكتاباً عن تاريخ سوريا أواخر العهد العثمانيّ، بعنوان “تاريخ سوريا الحديث” ولكن مأثرتها الكبرى التي تذكر لها أنها أسست في منزلها أول صالون أدبي وقال عنها الأديب سامي الكيالي في مجلة الحديث التي تصدر في حلب: “عاشت مريانا صبابتها في جوّ من النعم والألم مع الأدباء والشعراء ورجال الفكر، وقرأت ما كتبه الأدباء الفرنسيون والعرب فتكونت لديها ثقافة تجمع بين القديم والحديث”.

التقاطعات والمصائر المشتركة.

اللاّفت أن أغلب الدراسات التي تناولت سيرة حياتها، تنتهي بعبارة هزمها مرض عصبي أواخر حياتها، وقد وصفها قسطاكي الحمصي “وكانت مليحة القد، عذبة المنطق، طيبة العشرة، تميل إلى المزاح، حسنة الجملة، عصبية المزاج، وقد تمكن منها الداء العصبي في أواخر سني حياتها، حتى كانت تتمنى الموت في كل ساعة”.

وهذا يجعلنا نتأمل ويستدعي إلى الذهن مصير رائدات التنوير عربياً وغربياً، فقد لقيت الأديبة مي زيادة والكاتبة فرجينيا وولف المصير ذاته، بل أن الرائدة الإنكليزية ماري كرافت 1793 أول داعية للحرية النسوية أصيب بمرض عصبي؛ ومما لا شك فيه أن ظروف النساء تلك الفترة لم تكن هينة، وربما هذا المآل الذي تنتهي له حياة المفكرات والرائدات شرقاً وغرباً يحتاج إلى مقال آخر ووقفة أخرى!

فالهدف من هذا المقال، هو فتح باب للنقاش واستعادة للتأثير المهم لرائدة من رواد الصحافة، وقد حلل د. محمد علي اسماعيل تأثيرها النابع من قوة فكرها الماثلة في “اتباعها أساليب التحليل الاحترافي والقراءة الذكية لواقعها وتقديم أفكارها عبر التمثيل والمقارنة والتعليل وأساليب المحاكمة الرفيعة”. 

إن تحدي الآراء السلبية، ومعارضة قناعات المجتمع بأسلوب تحليلي عقلي هو الذي جعل مقالاتها ودعواتها ـتنتشر بين النساء في أنحاء الوطن العربي، لقد غامرت بالكتابة ورفعت صوتها وهي تعرف مسبقاً أن هذه المغامرة لها عواقبها. وأخذت على عاتقها تصحيح الصورة الخاطئة، التي رُسِمت لها في الثقافة والحياة وفي مخيال المجتمع الذكوري في بيئة مقيدة بالأحكام والمنع والنبذ.   تكتب هيلين سيكسوس “إن الكتابة الأنثوية المنشودة، ككتابة، تتجاوز السلطة الذكورية في مغامرة البحث عن الذات، وككتابة، تستكشف قدرات المرأة المسكونة بالرعب، وترسم نساء في حالة طيران، وليس في حالة سير على الأقدام”(1)  

كانت مريانا رائدة، تعرف بعقلها المتفتح أن هوية المرأة وكينونتها الأصيلة هي في تعليمها واستقلالها الفكري، وأدركت أن الثمن الذي تدفعه مغامرة الكتابة أهون بكثير من الثمن الذي يدفعه من يترك للآخر أن يحدد له هويته؛ وهي تنتمي إلى جيل من الرائدات اللواتي فتحن الآفاق لصحافة تكتب فيها المرأة إلى جانب شريكها الرجل وأدركن بحدسهن المستقبلي أن تحرر المرأة لا يعني حرباً مفتوحة؛ لذلك سيكون صالونها ملتقى لكلا الجنسين ومنبعاً للحوار والنقاش والموسيقى، وسيبقى اسمها مرتبطًا بكونها أول امرأة عربية حققت ريادتها عبر تأثيرها الواقعي وفتحت في الصحافة كوّة لتغيير الواقع.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

هوامش:

-أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر، قسطاكي الحمصي، المطبعة المارونية، حلب، 1925.

-مريانا مراش…. رائدة الشعر النسائي السوري وأول صالون أدبي، سنان ساتيك، مقال منشور في موقع الجزيرة نت، 2019.

-سيد علي اسماعيل، مريانا مراش ريادة تاريخية أم فكرية؟ – مجلة (تراث) الإماراتية -عدد 144 و145 -2011.

-حين تشارك المرأة في كتابة التاريخ. مريانا مراش، مقال ومبادرة “الباحثون السوريون”.

-الموسوعة الصحفية العربية، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إدارة الثقافة
-تاريخ الصحافة العربية، فيليب دي طرازي، 1913، الجزء الثاني، تموز 2021 

-نبيل سليمان: نظرية الأدب النسوي، مغامرة البحث عن الذات-ضفة ثالثة 11-أكتوبر -2016.

وجهات نظر متنوعة حول مظاهرات السويداء ومرحلة اللا تراجع

وجهات نظر متنوعة حول مظاهرات السويداء ومرحلة اللا تراجع

“ما لم نحظَ بعقدٍ كامل وتوافقي لشكل المواطنة نكون كمن يتحرك في مكانه، نحن نحتاج لئلا نستسلم للتكبيل المناطقي الذي سيجعل كل فئةٍ منّا تحارب وحدها، تحارب وتخسر أمام هيكلية منظمة!”. هذا الاقتباس هو تعبير عن رأي المهندس علي جمال المقيم في مدينة جبلة الساحلية والمتابع عن كثب للتطورات المتسارعة في الجنوب السوري وتحديداً تظاهرات السويداء. خلال حديثه مع “صالون سوريا،” بيّن جمال أنه من وجهة نظره فقد وقع أهل السويداء ضحية ارتكابات سياسية عفوية كانت كفيلة بإطاحة الدعم الواسع من حولهم والذي حظوا به في الأيام الأولى.

المهندس الإنشائي بحكم ما أسماه اقترابه من الشارع في حيزّه الجغرافي تمكن من رصد تحولات وتبدلات في مواقف بعض الناس في الساحل عاطفياً ووجدانياً خلال المرحلة السابقة، حيث يقول: “منذ عام 2020 على الأقل والناس تختنق في كل سوريا اقتصادياً، ظلّ الأمر كذلك حتى الربع الأول من العام الجاري ما بعد الزلزال والانفتاح العربي الهائل والقمة العربية والمسارات المتعددة فتنفس الناس الصعداء، دون مبالغة، ملامح أوجههم تغيرت، لكنّ ذلك لم يدم طويلاً، حتى أغلقت دمشق الأبواب في وجه كل تلك المسارات وعرف الناس أنهم عادوا للوراء كثيراً”.

ويضيف جمال موضحاً الواقع السوري: “صارت الأمور حينها أشبه بجمر تحت الرماد، البلد كلّها قابلة للانفجار، والدولة ببساطة قررت استفزاز الناس بلقمة عيشهم وبطريقة لا يمكن وصفها، كان ذلك في منتصف آب/أغسطس الفائت، فجأة اشتعلت البلاد كلّها، إن لم يكن بالتظاهر الذي بدأ في السويداء فبالصوت المرتفع على صفحات التواصل الاجتماعي ومن كل الأطراف”.

شرح جمال أنّ ما بدأ كشرارةٍ في السويداء كان مرشحاً لصبغ البلد بأكملها بلون واحد ذي مطلب واحد، “ولكن، قلّة الحنكة السياسية هناك وغياب الإشراف الدقيق وتداخل الأطراف والمرجعيات جعلَ الحراك سريعاً مناطقياً سياسياً لا معيشياً وجعله يبدو كما لو أنّه محصور بطائفة لا بلد، وهنا كانت بذرة الشقاق الأولى مع الجميع”.

الحكومة مرتاحة

يتفق الطبيب عزّت سليمان من حمص مع بعض آراء المهندس جمال، فيقول لـ “صالون سوريا”: “السوريون اليوم بحاجة لما يجمعهم لا ما يفرقهم، لا يوجد عاقل في الكون يمكنه التشكيك بوطنية أهل السويداء، أو أهل سوريا عامّةً، ولكن يمكن القول إنّه ببساطة تم جرّ المحافظة لفخٍ محلي غير قابل للتصدير اليوم على عكس أيامه الأولى، وهذا ببساطة ما يجعل الحكومة مرتاحةً ولربما سعيدةً بمشهد المكونات التي بدأت تخوّن بعضها ويشتم كلٌّ منها رموز الآخر على صفحات الفيس بوك”.

أخطاء كبيرة

يحاول هذا المقال الوقوف بشكل عقلاني وموضوعي على بعض المشاكل التي أحاطت بتظاهرات السويداء التي انطلقت بعيد منتصف شهر آب/أغسطس الفائت بقليل، والتي كانت مرشحة لتخرج من نطاقها المحلي وتغزو الخارطة السورية الواسعة التي تشاركها المشاكل والآلام ذاتها.

انطلقت تظاهرات السويداء في مرحلة وجدانيةٍ حساسة لعموم السوريين، مرحلة عنوانها كل “نظام” لا يطعمنا يجب أن يصير ماضياً، وهذا ما كان يمكن أن يُشتغل عليه لو خُطِط لتلك التظاهرات باستراتيجية أكثر تماسكاً وبصيرةً.

من نافلة القول إنّ إدلب الغارقة بمشاكلها في شكلها الحالي لم تكن لتشكل ثقلا إضافياً (غير عسكري) في تغيير الواقع السوري الذي يعتمد على الداخل في منطلقه ورؤيته، وكذلك شرق الفرات الذي غرق تالياً في مواجهات العشائر وقسد.

إذن، من المعلوم أنّ الثقل المحمول من الداخل عبر المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة هي التي سترشح كفّة الموقف القادم، وعليه، كان يجب وبغض النظر عن اسم أول محافظة تنتفض، أن تجد سبيلاً للتنسيق مع بقية المحافظات والمكونات لتوحيد المطالب وتعميمها ليكون “الكفٌّ” إذا ضُرِب في درعا يسمع صداه في اللاذقية.

لذلك، كان خطأ الانتفاضة تلك واقعاً من اليوم الأول لها، اليوم الأول الذي تجمع فيه الناس وسط السويداء وفي قراها رافعين علم طائفة الموحدين الدروز (علم الحدود الخمسة)، بكلّ ما يمثل من رمزية وقدسية لهم، لكنّه لم يكن مفهوماً لبقية الشركاء في الأرض.

عزز غياب العلم السوري من خطورة قوقعة الحراك، ومع ذلك ظلّ الأمر لا يشكل فرقاً حقيقياً طالما أنّ المطلب واحد، وهو مطلب معيشي شامل يعود على الجميع بالخير.

إلا أنّ بعض المتظاهرين، أفراد أو فرد على الأقل، ليس مهماً، رفعوا قرابة اليوم الرابع أو الخامس علم الثورة السورية، العلم ذا النجمات الحمر الثلاث، وهنا يجب العودة لما ذكرناه مسبقاً أنّ موقف أهل إدلب لن يزيد عن التعاطف في حين أنّ ذلك الحراك يحتاج تحركات عملية سريعة داخلية وفي ذات الوقت لا تسيل فيها نقطة دم واحدة.

رفع علم الثورة ببساطة مثلّ خذلاناً لشريحة كبيرة متعاطفة تماماً مع الحراك، فالقضية المتعلقة بالعلم السوري هي قضية وجودية مرتبطة باللاوعي لدى عائلات دفنت الآلاف من أولادها محاطين بذلك العلم، ومن الرفاهية القول إنّ المشكلة زالت بين السوريين من مؤيدي هذا العلم أو ذلك، القصة خرقت الجسد الواحد بوضوح، وبعد ذلك، وقبله، لم يرفع العلم السوري الرسمي.

في الأيام التالية أيضاً تم إلقاء بيان باللغة الإنجليزية عبر أحد المشاركين في التظاهرات يطالب فيه نصاً من مجلس الأمن الدولي باسم المتظاهرين التدخل في سوريا تحت الفصل السابع عسكرياً وإزاحة النظام بالقوة. هذه القصة وحدها أحدثت شرخاً إضافياً ولكن هذه المرة ليس مع بقية المكونات، بل بين أهل السويداء أنفسهم، وهو ما شوش وأثرَ في سياق المظاهرات.

كل ذلك تماشى مع تغيّرٍ جذري في نهاية الأسبوع الأول للتظاهرات، حيث تحولت كل المطالب من معيشية إلى سياسية، صارت المطالب مرتكزة على رحيل النظام ومحاسبته وتطبيق القرار 2254، وإن كان ذلك منطقياً لشريحة سورية لها الحق في المطالبة، ولكن ضيع فرصة تاريخية أمام الحراك لتغيير مصير البلد قبل أن تشد العصب الديني والمناطقي في أماكن أخرى لصالح السلطة من غير دراية.

الأحداث عينها أدت لانقسام تاريخي بين المرجعيات التاريخية الثلاث وهم شيوخ عقل طائفة الموحدين الدروز في الجنوب، ففي حين وقف الشيخ حكمت الهجري إلى جانب المتظاهرين، وقف الشيخان الحناوي وجربوع إلى صالح التهدئة ودعم الدولة، فانقسمت المدينة من جديد على بعضها.

وفي المقابل خرجت أصوات من طرف السلطة لو كانت منتفعةً أباً عن جدٍ لما احتدّت في خطابها لتلك الدرجة التي بدت مستغربَة على نطاق واسع، وبينهم الإعلامي ر. ل الذي يقدم فيديوهات شبه يومية على صفحته في فيس بوك تتهم كل المتظاهرين بأنّهم عملاء للخارج.

والإعلامي اللبناني ح. م الذي هدد بأنّ داعش صارت في محيط السويداء، ليدين بعلّوه على الملكية نفسها الدولة في أيّ حدثٍ أمني، وحكماً هذا آخر ما تريد الدولة اتهامها به في ظل الظروف الدولية الملتهبة من حولها. وكذلك المغني الشعبي ر. ه الذي استخدم لكنة أهل الساحل لتهديد المحتجين، ولا يمكن نسيان و. أ وهو من عائلة الأسد والذي يكفي ظهوره على وسائل التواصل الاجتماعي ليكون سبباً لثورة جديدة، كما يقول سوريون كثر تندراً وفي الساحل تحديداً.

من وجهة نظرٍ رسمية

إذن، قلّة التخطيط والتنسيق ولربما العفوية وغياب المرجعية الواضحة أدت للوقوع في كل تلك الأخطاء المتتالية بزمن قياسي، وموضوع غياب المرجعية هو ما يقوله أمنيون سوريون في مجالسهم عن غياب من يمكن الحديث معه في السويداء في هذه الظروف.

السويداء بالنسبة للسلطة بحسب مصدر مطلع لـ “صالون سوريا” لديها مطالب محقّة ولكنّها مطالب تخصّ كل السوريين وليس الجنوب فقط، ويؤكد هذا المصدر الذي رفض الإفصاح عن اسمه أن: “استمرار التظاهرات يؤثر على المدينة ولا يمكن الضغط على يدنا من خلالها وفي نفس الوقت نتوخى استخدام القوة ولكن إنصاف السويداء على حساب بقية المحافظات أمر لا يمكن تحقيقه”.

وحول تحول المطالب إلى سياسية والتمسك بها يقول: “يحقّ لهم التعبير، ولكن نعتقد أنّهم يعبرون بطريقة سيئة بحقهم متناسين أنّ الوضع القائم هو صمام أمان البلد وإلّا فستنهش الحرب الأهلية البلد”.

لا تراجع

رداً على ذلك يقول الشاب ماهر حرب أحد المتواجدين باستمرار في التظاهرات أنّ النظام ساقط لديهم وسيسقط في كل البلاد، “قصة الحرب الأهلية هي لإخافتنا، نحن لا نريد هذا النظام وسنحارب سلمياً حتى النهاية، فلا يمكن أن يستمر نظامٌ لا يريده شعبه”.

وكذلك الأمر بالنسبة لمتظاهر آخر وهو سالم حناوي والذي يوضح موقفه: “لن نخرج من الساحات حتى نغير مصير سوريا ولو كنا وحدنا في رأس حربة هذه المعركة، الآن، لا تراجع عن مطالبنا ولم نخرج لنتراجع، السويداء برجالها ونسائها جاهزةٌ لأي طارئ”.

أما بالنسبة لعمار وهو اسم مستعار لشخص انسحب من التظاهرات باكراً فلديه الآن وجهة نظر مختلفة يشرح فيها أن: “النظام لم يكترث لأمرنا وتوقعنا تحركاً إيجابياً سريعاً اتجاهنا، ولكنّ ذلك لم يحصل، الآن قد نستمر أشهراً، نتظاهر دون نتيجة، والأمن يسجل أسماء كل من تظاهر لأنّ هذه طبيعته، لا أريد المغامرة أكثر، ألم ترَ كيف صمت أهل الساحل فجأة؟”.

سامي عزام أيضاً شاب يشارك في المظاهرات وهو متمسك بمطالب الناس هناك كما يوضح، وعن ذلك يبين: “سندفع ثمن كرامتنا مهما غلت لنحصل عليها، نحن الآن نعلم أننا وقعنا في بعض الأخطاء، وكان يجب التريث في بعض التفاصيل وتمرير الملفات واحداً واحداً لنظلّ نحظى بدعم الأكثرية، ولكن القصص كانت عفوية ووطنية للغاية ولربما انفجارنا الجماعي هذا هو ما سيؤتي بثماره، وبالتأكيد لن نتراجع ونترك الساحات للفاسدين واللصوص والأذناب.”

يريدون بلداً لهم

ما وقعت به السويداء اليوم هو ذاته تماماً ما وقعت به الثورة السورية في بداية الأحداث السورية سنة ٢٠١١، إذ كثيراً ما عانت من العفوية وغياب التنسيق والمبادرات الفردية والتدخلات العشوائية التي قادت لفرز أصوات طائفية جرّت الحراك إلى منحنيات خطيرة فرزت السوريين في خنادق متباعدة وجعلتهم يقتلون بعضهم في حرب كان يمكن لو عوملت بعقلانية جمعيّة شاملة آنذاك أن تجنب البلاد كل ما مرت به، ولكن ما تم شيطنته يومها، تتم شيطنته الآن.

يمكن القول أن معظم أهل الداخل السوري معجب بشجاعة أهل الجنوب هذه الأيام ولو بدرجات، والجميع يريد مخرجاً من الكارثة، والجميع حين يجوع يثور ما لم يرزح تحت ضغوط توحي له بأنّ حياته مهددة خارج كانتونه الصغير. هذا بالضبط ما لم تتمكن مظاهرات السويداء من امتصاصه عن طيب نيّة وغياب دراية وحنكة في الغالب لتقدم المدينة الصغيرة نفسها بعبعاً لأطراف أخرى لا يمكن النجاح بدونها. ولتجلس السلطة على تلٍّ عالٍ وتشير بإصبعها فقط دون أن تنطق قاصدةً أن انظروا: يريدون بلداً لهم فقط.

*تم إعداد هذا التقرير قبل إعلان خبر وقوع محتجين في السويداء ضحايا إطلاق وابل من الرصاص عليهم يوم الأربعاء ١٣ أيلول الجاري واتهامات لمناصرين للحكومة السورية بالوقوف وراء هذا التصعيد.

الطالعات يهْدمن بيت المقاطيع

الطالعات يهْدمن بيت المقاطيع

منذ بدء المظاهرات في السويداء، خرجت النساء من مختلف المراحل العمرية وبصوت يصدح عالياً مطالباً بالحريّة، لتتحول أغنية ياطالعين الجبل، إلى يا طالعات من الجبل ترددها بشغف وفخر شفاه النسوة اللواتي هدمن كلّ أنواع الظلم الذي بدأ من الأسرة لينتهي بنظام كامل قائم على قوانين تمييزية ضدّ النساء.

لم تقف الشعارات عند المطالبة بالقضاء على الفساد بكافة أشكاله، بل طالبت النساء بالمساواة: “الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات فالمرء إما أن يكون حرّاً أو لا يكون“، هكذا رفعت النساء والفتيات والرجال الأحرار شعاراتهم، ورفعوا أيضاً لافتات تقول: “طالعات سوريات للحرية للعدالة للمساواة مشاركات وشريكات“.

وظهرت النساء على الشاشات وخرجن إلى الساحات يطالبن بالمواطنة المتساوية والمساواة مع الرجل أمام القوانين في لفتةٍ تؤكد أن هذا هو الوقت المناسب وكل وقت هو الوقت المناسب تحدّياً لعقود كانت تتحكّم بحقوق النساء وتعتبر أن الوقت ليس مناسباً للمطالبة بحقوقهن فالأولوية للقضايا الكبرى.

عقود من الاضطهاد والتعسّف بمظهر متحرّر

عانت المرأة في السويداء ذات الغالبية الدرزية، مثلما عانت المرأة في كافة المحافظات السورية من الاضطهاد والتعسف في القانون الذي يأتي لصالح الرجل دوماً وخاصّة عند التطبيق. فهنا المرأة من حيث الظاهر متحررة يمكنها الخروج للعمل والقيام بأعمال كالرجل ومعه، ويمكنها مشاركته في الأفراح والأحزان، ولها قوتها ورأيها، وكذلك قانون المذهب الدرزي يمنع تعدد الزوجات ويعطي للمرأة حقاً في الميراث، ولها الحق في اختيار شريكها، لكن عند التطبيق تختلف الموازين.

يحكم الطائفة الدرزية قانون أحوال شخصية مذهبي خاص بالموحدين الدروز يرجع ببعض أحكامه للشريعة الإسلامية حسب المذهب الحنفي فيوافقه أحياناً ويخالفه أحياناً أخرى فالقانون المذهبي يمنع تعدد الزوجات ويمنع الطلاق بالإرادة المنفردة.

ويتوافق معه في نقاط تضطهد النساء من مثل أنه يجيز زواج الطفلات كما في المادة الأولى من القانون: “ﻴﺠﻭﺯ ﺍﻟﺨﺎﻁﺏ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻠﻴﺔ ﺍﻟﺯﻭﺍﺝ ﺒإﺘﻤﺎﻤﻪ ﺍﻟﺜﺎﻤﻨﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻭﺍﻟﻤﺨﻁﻭﺒﺔ ﺒإﺘﻤﺎﻤﻬﺎ ﺍﻟﺴﺎﺒﻌﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻤﻥ ﺍﻟﻌﻤﺭ“.

ويمكن أن يأذن شيخ العقل أو القاضي بالزواج  كما تقول ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 2:

“لشيخ العقل أﻭ ﻗﺎﻀﻲ ﺍﻟﻤﺫﻫﺏ أﻥ ﻴﺄﺫﻥ ﺒﺎﻟﺯﻭﺍﺝ ﻟﻠﻤﺭﺍﻫﻕ ﺍﻟﺫﻱ أﻜﻤل ﺍﻟﺴﺎﺩﺴﺔ ﻋﺸﺭﺓ ﻤﻥ ﻋﻤﺭﻩ ﻭﻟﻡ ﻴﻜﻤل ﺍﻟﺜﺎﻤﻨﺔ ﻋﺸﺭﺓ إﺫﺍ ﺜﺒﺕ ﻟﺩﻴﻪ ﻁﺒﻴﺎ أﻥ ﺤﺎﻟﻪ ﻴﺘﺤﻤل ﺫﻟﻙ، ﻋﻠﻰ أﻥ ﻴﻜﻭﻥ إﺫﻥ أﺤﺩ ﺸﻴﺨﻲ ﺍﻟﻌﻘل أﻭ ﻗﺎﻀﻲ ﺍﻟﻤﺫﻫﺏ ﻤﻭﻗﻭﻓﺎً ﻋﻠﻰ ﺇﺫﻥ ﻭﻟﻲ ﺍﻟﻤﺭﺍﻫﻕ“.

وتحتاج المرأة إلى ولي لإتمام الزواج وهو شيخ العقل أو قاضي المذهب في حال عدم موافقة وليها دون مبرر. وتلزم المرأة بالطاعة وتعتبر ناشزاً إن تركت بيت الزوجية أو منعت زوجها من معاشرتها كما في المادة 23:

التي تقول: “ﺍﻟﺯﻭﺝ ﻤﺠﺒﺭ ﻋﻠﻰ ﺤﺴﻥ ﻤﻌﺎﺸﺭﺓ ﺯﻭﺠﺘﻪ ﻭﻤﺴﺎﻭﺍﺘﻬﺎ ﺒﻨﻔﺴﻪ ﻭﺍﻟﺯﻭﺠﺔ ﻤﺠﺒﺭﺓ ﺃﻴﻀﺎ ﻋﻠﻰ ﺇﻁﺎﻋﺔ ﺯﻭﺠﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻭﻕ ﺍﻟﺯﻭﺠﻴﺔ ﺍﻟﻤﺸﺭﻭﻋﺔ“.

والمادة 36 تقول:” ﺍﺫﺍ ﺘﺭﻜﺕ ﺍﻟﺯﻭﺠﺔ ﺒﻴﺕ ﺯﻭﺠﻬﺎ ﺒﺩﻭﻥ ﺴﺒﺏ ﻤﺸﺭﻭﻉ ﺃﻭ ﻜﺎﻨﺕ ﻓﻲ ﺒﻴﺘﻬﺎ ﻭﻤﻨﻌﺕ ﺯﻭﺠﻬﺎ ﻤﻥ ﺍﻟﺩﺨﻭل ﺇﻟﻴﻪ ﻗﺒل ﻁﻠﺏ ﻨﻘﻠﻬﺎ ﻟﺒﻴﺕ ﺁﺨﺭ ﺘﺴﻘﻁ ﻨﻔﻘﺘﻬﺎ ﻤﺩﺓ ﺩﻭﺍﻡ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﻨﺸﻭﺯ“.

و تعاني المرأة الحاضنة من مخاوف إسقاط الحضانة منها في حال زواجها من رجل غريب .

الوصية الذكورية وانتهاك الحق

وبالرغم من أن البنت تعتبر حاجبة للإرث بخلاف المذهب الحنفي، إلا أن الكارثة الإنسانية والأخلاقية التي تصيب النساء هي استخدام المادة القانونية التي تسمح بالوصية بكامل التركة حيث أنّه ” ﺘﺼﺢ ﺍﻟﻭﺼﻴﺔ ﺒﻜل ﺍﻟﺘﺭﻜﺔ ﺃﻭ ﺒﺒﻌﻀﻬﺎ ﻟﻭﺍﺭﺙ ﺃﻭ ﻟﻐﻴﺭ ﻭﺍﺭﺙ” . ومن هنا تبدأ معاناة المرأة التي تخضع لهذا القانون ويستخدمها المجتمع الذكوري ضدها فقي أغلب الحالات يوصي الوارث بكل ما لديه للذكور من العائلة ويترك للنساء من بناته أو أخواته أو زوجته ما يسمى ب”غرفة المقاطيع” حيث يتم إبقاء غرفة من منزل الأهل للإناث اللواتي لا يبقى لهن معيل مثل المطلقة أو الأرملة التي لا تملك شيئاً، وكذلك للبنت العزباء طالما أنها لم تتزوج ولا تملك معاشاً.

وبالمقابل يكون لهذه المرأة من الغرفة حق الانتفاع فقط، وهو ما يعني بأنه لا يحق لها أن تبيعها أو تورثها لأولادها، فقط يحق لها الانتفاع بها كأن تقوم بتأجيرها أو السكن فيها وهو ما يعني حرفياً حرمانها من ميراثها الشرعي.  

 فـ”الوصية المطلقة حسب المادة ٣٠٧ من قانون الأحوال الشخصية في المذهب الدرزي تنص على أن تنفذ الوصية للوارث أو لغيره بالثلث أو أكثر، ما يعني أنها شاملة بكامل التركة، ويمكن التوصية بها جملةً، حتى لغير الوارث، وهي غير محددة أو مقيدة بحدود الثلث من التركة.”

سلام لن يتحقق دون الشريكات

ولأن السلام لن يتم دون مشاركة النساء في جميع مستويات صنع القرار، وفي عمليات حل الصراعات والمفاوضات كما جاء في قرار مجلس الأمن 1325 كأول قرار  يهدف إلى ربط تجربة النساء في النزاعات المسلحة بمسألة الحفاظ على السلام والأمن الدوليين لذلك لا بدّ من زيادة تمثيل المرأة على جميع مستويات صنع القرار في المؤسسات الوطنية والإقليمية والدولية وفي آليات منع نشوب الصراعات وإدارتها وحلها، واتخاذ تدابير خاصة لحماية المرأة والفتاة من العنف القائم على نوع الجنس.

وهذا لن يتحقق نهائياً إلا بخروج المرأة السورية لتهدم بيديها بيوت المقاطيع بكافة أشكالها وأماكنها من خلال العمل للوصول إلى قانون أسرة عصري يحمي النساء والرجال والأطفال بمختلف احتياجاتهم وانتماءاتهم دون النظر إلى الدين أو المذهب أو الطائفة يجمع السوريين  والسوريات في ظل دستور يحمي المرأة الإنسان  ويمنحها حقوق المواطنة والمواطنة المتساوية.

هوامش

١- ياطالعين الجبل أغنية من التراث الفلسطيني كانت تغنّيها النساء لتنبيه السجناء الفلسطينيين بأن هنالك عملية فدائية وشيكة وكي لا ينتبه السجّانون كنّ يغنينها مشدداتٍ على حرف اللام.

عبد الرحمن الكواكبيّ وحيداً يعبرُ درب الآلام

عبد الرحمن الكواكبيّ وحيداً يعبرُ درب الآلام

     كان عبد الرحمن الكواكبيّ (1855-1902 م) شخصيّة استثنائيّة نادرة في عصرٍ مُظلم، ولقد امتازَ بشعورٍ فريدٍ بحرّيته بين أُناسٍ سُلِبت منهم القدرة على المبادرة والفعل والتعبير عن الرأي، فاكتشف أنَّ كثيراً من أبناء جِلدته مِنَ العرب يغرقون في مَوْحِلِ الجُبن والضَّعف والاستسلام لواقعٍ قاسٍ فرضته عليهم قُوى حاكمة، تمثّلت آنذاك في السَّلطنة العثمانيّة، وأدرك بعمق بصيرته أنَّ سبب الانهيار الرَّهيب في القيم والمبادئ والأخلاق ناجم عن الطَّاعة العمياء للحاكمين أو ولاة الأمر. ولقد أُصيبَ الكواكبيّ بخيبة أمل كبرى من تماهي النّاس مع سَحْقِهم وظُلمهم وتهميشهم، أي إنَّ الإنسانَ أصبح مجبولاً بعبوديته، إلى حدّ أنَّ الحريّة أصبحت ظاهرة غريبة وغير مقبولة بين النّاس؛ لأنَّها يمكن أن تسوقهم إلى نهاياتهم. من هنا وجد الكواكبيّ بعمقه البالغ أنَّ النّاس أنفسهم هم أساس قوّة الحاكمين الظَّالمين. ويرجع خنوع النَّاس في رأيه إلى أنّهم-في مرحلة السَّلطنة العثمانيّة-لم يعودوا قادرين على التمييز بين السُّلطة الدينيّة والسُّلطة السياسيّة؛ لأنَّ شخصيّة الحاكم لَبَست لَبوس القداسة، فالتبست على عقول العوام الأمور، فظنّوا أنَّ معارضة الحاكم هي معارضة ولي الأمر الذي يمثِّل المطلق أو الألوهيّة. ويمكن إرجاع هذه الطَّريقة من التّفكير عند الكواكبيّ إلى هدفٍ رئيس وهو تقويض تمثيل السلاطين العثمانيين للخلافة الإسلاميّة، لنزع فكرة حصانتهم الدّينيّة من عقول النّاس، وتحفيز العرب على استرجاع حقّهم بالسُّلطة؛ لكن الخنوع لرهبة السلطة الدينيّة العثمانيّة كان أكبر من طموح الكواكبيّ بإحداث تغيير جذريّ. واستنبطَ الكواكبيّ من ذلك حدوث امتزاج بين الاستبداد الدِّينيّ والاستبداد السياسيّ، فأصبح مضمون الطغيان باسم الدِّين مسكوباً في دَنِّ الطُّغيان السياسيّ، أو بالأحرى وُظِّفت أدوات الاستبداد الدِّينيّ على نحوٍ غير ظاهر لصالح الاستبداد السياسيّ؛ لذلك يتبنّى في كتابه “طبائع الاستبداد” رأياً عن الحكّام الذين هم وفق ما ذكرَ: “يسترهبون النَّاس بالتعالي الشخصيّ والتشامخ الحسيّ، ويذلونهم بالقهر والقوَّة وسلب الأموال حتى يجعلونهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم يتمتّعون بهم كأنّهم نوع من الأَنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون.”[1]

      ويدهشُ المرء من هذه الشجاعة المنقطعة النّظير التي تحلّى بها الكواكبيّ في عصر كان يمكن إسكاته فيه بأبسط الطُّرق، إلا أنّه آثر المسير في مشروعه الفكريّ ذي الخصوصيّة الغريبة عن الأجواء الثقافيّة السَّائدة في عصره. وكانت الموضوعة الرئيسة الشَّاغلة له هي قبول الإنسان بذله ومهانته واستعباده، فحاول أن يبحث عن الأسباب التي تقف وراء اقتناع الإنسان بسلبه من شخصيته الإنسانيّة الحرَّة.

      ويثير الكواكبيّ إشكاليّة تدلّ على عُمق في التّفكير لا نظير له، فهو يبحث في موقف الطُّغاة من العلوم، ويُحدِّد ببراعة فائقة أنواع العلوم التي يسمح المستبدّون للنّاس بتعلُّمها؛ لأنّها لا تؤدي إلى تطوير تفكير المتعلّمين على نحو يهدِّد عروش هؤلاء الطُّغاة.

      يقول الكواكبيّ: “المُستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوِّم اللسان، وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان (…) وكذلك لا يخاف المُستبد من العلوم الدينيّة المتعلّقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربّه، لاعتقاده أنّها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنّما يتلهّى بها المتهوِّسون للعلم، حتى إذا ضاعَ فيها عمرهم، وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذَ منهم الغرور ما أخذ، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذٍ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شرّ السّكران إذا خمر (…) وكذلك لا يخاف من العلوم الصِّناعية (…)، لأنَّ أهلها يكونون مسالمين صغار النّفوس، صغار الهمم، يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز، ولا يخاف من الماديين لأنَّ أكثرهم مبتلون بإيثار النَّفْس، ولا من الرِّياضيين لأنَّ غالبهم قصار النّظر.”[2]

     يكشف الكواكبيّ هنا أنّه لا يمكن تأسيس وعي حقيقيّ داخل المجتمعات الخاضعة للاستبداد، لأنَّ الإيديولوجيا التعليميّة للمستبدين، بوجهٍ عامٍّ، تقوم على نشر علوم لا تؤدي إلى تكوين ثقافة حقيقيّة لدى الإنسان، فعلوم اللغة، لا تساعد على امتلاك رؤية حقيقيّة للواقع، وتقتصر على تنمية قدرات هي في حدّ ذاتها لا تعدو أن تكون وسائل لتحصيل علوم من نوع أعلى. كما أنَّ العلوم الدينيّة التي تركِّز على العالم الآخر، ونشر روح الزُّهد والتخلّي والحياد، تسهم في تمكين الحكم للمستبدين، لأنها تدفع الإنسان المتديِّن بهذه الطَّريقة إلى ترك الواقع، كما هو، من دون أن يُعنى بتغييره، ويغلق أبواب نفسه عليه، غارقاً في عوالم موهومة مجذوذة الصِّلة بالحياة الإنسانيّة في أبعادها المختلفة. هذا، إلى أنَّ الكواكبي نبّه إلى أنَّ العلوم الصِّناعيّة لا تدفع المستبدين إلى القلق من انتشارها بين النَّاس، لأنَّ المعارف التي تتأسّس عليها والنتائج المحصّلة فيها تقتصر على أمور تقنيّة نافعة للحياة، والذين يمتلكون العلوم التي تبتكر المنتجات الصّناعيّة-في رأي الكواكبيّ-لا يفكّرون إلا بالأرباح، ولن يفكِّروا بتغيير الواقع ومواجهة المستبدين، لأنهم راضون بما هو كائن، واستمالتهم تُعَدُّ أمراً سهلاً بالنسبة إلى الحكّام الطغّاة. ويبني الكواكبي في سياق كلامه استنتاجاً يستحق التأمُّل وهو أنَّ المستبد لا يخاف من الماديين، ويقصد من ذلك أنَّ المعارف التي تُنمِّي الفهم الماديّ للعالم تولِّد شخصيات غارقة في نزعة ذّاتيّة-حسيّة إلى أقصى حدّ، وغير مكترثة بمشكلات وآلام الآخرين. دعْ أنَّ الكواكبيّ يتّخذ موقفاً سلبيّاً من الرِّياضيين، ويعني بهم علماء الرِّياضيات، ويبدو أنَّه لم يكن من المُعجبين بعلم الرياضيات، لأنَّ المعرفة الناتجة عن هذا العلم تبقى في حيِّز تجريديّ، ولا تقدّم رؤية حقيقيّة عن معاناة الإنسان في العالم.

     يمكن هنا أن نكتشف في شخصيّة الكواكبيّ ناقداً إبستمولوجيّاً للعلم من الطراز الرّفيع، ويتصف نقده بخصوصيّة نادرة، فهو يحدّد قيمة أي نوع من أنواع العلوم من جهة دوره في مساعدة الإنسان على مواجهة الطغيان والاستبداد والظُّلم. والحقيقة أنَّ هذا الضَّرب من النَّقد لا يجب أن يُعَدّ غير منصف في مجتمعات تحتاج إلى تحفيز أفرادها لاستعادة وعيهم بضرورة حرّيتهم.

    ويتابع الكواكبي كلامه بشأن علاقة ماهيّة العلم بمواجهة الاستبداد قائلاً: “ترتعد فرائص المُستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النّظريّة، والفلسفة العقليّة، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنيّة، والتّاريخ المفصَّل، والخطابة الأدبيّة، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النّفوس، وتوسِّع العقول، وتُعَرِّف الإنسان ما حقوقه، وكم هو مغبون، وكيف الطلب، وكيفَ النّوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم النّاس بالخطابة أو الكتابة…”[3]

      يقصد الكواكبي بعلوم الحياة –كما هو ظاهر من كلامه-الفلسفة والعلوم الإنسانيّة، ولم تكن دلالة العلوم الإنسانيّة واضحة في عصر الكواكبيّ، إلا أنه كان واعياً مما ذكره بمدى تنوّع العلوم الإنسانيّة، فذكر “علم السياسة المدنيّة” “وعلم حقوق الأمم (=القانون الدولي لحقوق الإنسان) –وهما علمان معياريّان-، وعلم الاجتماع–وهو علم تعميميّ-، وعلم الخطابة –وهو علم فنّي-، كما ذكر التّاريخ المفصّل ويدخل في إطار العلوم الإنسانيّة. إذن، نحن هنا بإزاء مفكِّر سوريّ مضى على موته نحو مئة وواحدٍ وعشرين عاماً كان واعياً في أكثر العصور ظلاميّةً بأهميّة العلوم الإنسانيّة لإنقاذ الإنسان العربيّ من الاستلاب الذي يعانيه في مختلف جوانب حياته.

       ولقد ركّز الكواكبيّ على خوف المستبدين من الخطابة والكتابة، وتُعَدَّ الخطابة سبباً رئيساً لنشر الوعي بين النّاس، فالخطيب المفوّه قادر على تغيير سيكولوجيا النّاس، تحديداً إن كان يقول الحقيقة، فإنّه يستنفر غضبهم على الظَّالمين، ويدفعهم إلى إعادة النّظر في قناعاتهم، وتوجيه جهودهم نحو مواجهة المستبد، لذلك كان رأي الكواكبيّ في مكانه، فكلّ مَنْ يُعبِّر عن رأيه بشجاعة، خطابةً أو كتابةً، يُعَدّ خطراً داهماً على العرش، ولذلك لا بدّ من إسكاته، فاتّبع المُستبد سياسة تكميم الأفواه، وأصبح أي إنسان عُرْضة لأفظع أنواع العقوبات إذا امتلك الجرأة على الكلام الذي يضرّ بمصلحة المُستبد.

    ويتحوَّل الكواكبيّ إلى مُحلِّل نفسيّ لشخصيّة المُستبد، فيذهب في تحليله إلى أبعد الأعماق، كاشفاً خبايا نفسه، على نحوٍ يدعو إلى الإعجاب الشديد من براعة وصفه:

    “المستبد في لحظة جلوسهِ على عرشه، ووضعِ تاجه الموروث على رأسه، يرى نفسَه أنّه كان إنساناً فصار إلهاً. ثم يرجعُ النّظر فيرى نفْسَه في الأمر نفْسِهِ أعجز من كلِّ عاجز، وأنّه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش؟ وما التّاج؟ وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الرّيش في رأسك طاووساً وأنت غراب؟ (…) والله ما مكّنك في هذا المقام وسلّطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظرْ أيُّها الصَّغيرُ المُكَبَّر، الحقيرُ الموقَّر، كيف تعيش معنا؟!”[4]

     لقد كان الكواكبيّ شجاعاً –وهذا أمر يجب التأكيد عليه دائماً-بل كان بطلاً فكريّاً قلَّ نظيره، وكانت شخصيته مجبولةً بحبِّ الخطر، وقد اختار مواجهة الظَّالمين، وأكسبته أسفاره الكثيرة خبرات كبيرة، فقد كان جوَّاب آفاق: سافر إلى الهند والصين ووصل إلى سواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا إلى أن ألقى عصا التّرحال في مصر، ولكن في مصر-كما يُجمِع المؤرِّخون- ترّصده أتباع السلطان العثماني عبد الحميد، ودسّوا له السُّم في فنجان قهوة في حينما كان جالساً مع أصدقائه في أحد مقاهي حي الأزبكيّة في القاهرة، فمات أحد أكثر المفكِّرين جرأة في التّاريخ العربيّ الحديث، واختفى مع موته كتابان هما “صحائف قريش” و”العظمة لله”، وقيل: إنَّ أعواناً للسلطان عبد الحميد سرقوا هذين الكتابين من منزل الكواكبيّ، ولم يبق من كتبه سوى “طبائع الاستبداد” و”أُمّ القُرى”.

    ولكن ها هو صدى صرخته المدويّة التي تُعبِّر عن اليأس الكبير الذي كان يسري في نفسه، ما زال يتردّد وقعها في أسماعنا:

      “يا قوم ينازعني والله الشُّعور، هل موقفي هذا في جمعٍ حَيٍّ فأحييه بالسَّلام، أم أنا أخاطبُ أهل القبور فأحييهم بالرَّحمة؟! يا هؤلاء، لستم بأحياء عاملين، ولا أموات مُستريحين، بل أنتم بين بين: في برزخ يُسمّى التنبّت، ويصح تشبيهه بالنّوم! يا ربّاه: إنّي أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة، وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون.”[5]

الحواشي


[1] -عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تحقيق وتقديم: محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، ط2، 2009، ص: 30.

[2] -المصدر نفسه، ص: 45.

[3] -المصدر نفسه، ص: 44-45.

[4] -المصدر نفسه، ص: 59.

[5][5] -المصدر نفسه، ص: 108.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

مشروع لإحياء المدن الميتة في الشمال السوري

مشروع لإحياء المدن الميتة في الشمال السوري

على هيئة كائنات حيّة لها هيئة وتفاصيل تتحوّل صور المواقع الأثرية في لوحاته، حيث يعمل الصحفي أغيد شيخو على مشروع قوامه الحفاظ على المواقع التراثية الواقعة بين حلب وإدلب شمال سوريا والتي يعود تاريخها إلى القرن الرابع للميلاد، وتُعرف باسم “المدن الميتة”.

يوضح شيخو في حوار أجريناه معه أنه “كان من المهم أنسنة المواقع الأثرية في اللوحات عبر برامج تقنية وتقديمها على شكل طائر أو إنسان أو نبات دون إضافة أي عناصر خارجية من خارج الصورة، كل حالة حسب ما تستوجبه..الخيال هنا يلعب دوراً هاماً وطبيعة الموقع، الذي يتحول بالمحصلة إلى كائن حي له روح ومشاعر نتعامل معه كما نتعامل مع بعضنا كبشر، التعاطي مع الأماكن التاريخية لابد أن يكون بذات المستوى من الحساسية بهدف تقدير أهميتها وحفظها من الاندثار”.

“الكثير من المواقع التاريخية والقلاع والمعابد الأثرية تعرّضت في بعض أجزائها وهيكلها للخراب، نتيجة الحرب في سوريا ومن هنا انطلقت الفكرة، يوضح شيخو “المواقع الأثرية كانت واحدة من الأماكن التي التجأ إليها النازحون اضطراريا بهدف حماية أنفسهم ، ولكن هذا النزوح كان له انعكاس سلبي عليها بسبب قلة الثقافة والوعي وعدم المعرفة بماهية الأماكن وقيمتها التاريخية وأهمية المحافظة عليها، هذا فضلاً عن عمليات التنقب  العشوائي، كلّ ذلك أدى إلى تضرّر عدد كبير من المواقع الأثرية في الشمال السوري”.

يضيف شيخو “التخريب الذي تعرضت له المواقع الأثرية في الشمال السوري كان يحتاج لجهود جبارة لحماية التراث عبر الإضاءة على المواقع الأثرية والتأكيد على أهميتها عبر اللوحات، بأنها ليست عبارة عن حجارة عشوائية فقط، إنما هي كائنات لها روح وكينونة وشخصية، دائما نستخدم مصطلح روح المكان وهو ما أحببت تجسيده على هيئة كائنات مختلفة بشرية وغير بشرية”.

يعدّ الشمال السوري بيئة خصبة تزخر بالمواقع الأثرية والتاريخية.. وفي هذا السياق يوضح شيخو الأساس الذي اعتمده لاختيار بعض المواقع الأثرية دوناً عن غيرها.. “المناطق التي اخترتها أوشكت على الاندثار في الذاكرة السورية، عملي بالأساس سيكون بلا جدوى من دون وجود صور للمواقع الأثرية، عندما يكون للصورة مصدر أقوم بذكر الأرشيف أو المصور فهذا يعطي عملي قيمة إضافية، لابد من شكر الجهات أو الأشخاص الذين قاموا بالتصوير والتوثيق، معظم صور المواقع التي عملت عليها كانت لرحّالة أجانب أو مستكشفين زاروا المنطقة بفترة عام 1900 للميلاد”.

التحدي الأكبر بالنسبة له كان تقديم المواقع الأثرية برؤية شبابية، عبر نمط مختلف وجديد، يُعقّب الصحفي السوري ” اللوحات اعتمدت على صورة واحدة فقط للموقع الأثري، الصعوبة كانت أنه حتى لنفس الموقع لايوجد صورة من جانب آخر، لطالما تساءلت كيف أستطيع خلق شخصية بصورة واحدة فقط بشكل جديد لا يعيد نفسه، الشخصيات التي ابتكرتها نستطيع تسميتها دمى أو كرتوناً حسب رؤية كل شخص، هذه الكائنات ليست لها حدود وقادرة على وصف الفكرة ببعدها التاريخي والإنساني والمكاني”.

وحول الخلطة التي جمعت بين عمله الصحفي ومجالات التصميم والرسم يقول شيخو “شغفي بالفنون ليس جديداً، بداياته كانت عبر محاولاتي احتراف فن الزخرفة الإسلامية، كذلك حاولت تجربة أنماط أخرى من الفن، منذ بداية عملي في الصحافة كان لديّ اهتمام بالثقافة والتوثيق، نطّلع يومياً على كم كبير من المعلومات بحكم عملنا كصحفيين، وهو ما انعكس على المشروع حيث دمجت بين العمل الصحفي والفني، في الحقيقة الأمر كله أتى بمحض الصدفة ولم يكن عن تخطيط مسبق”.

وبالنسبة للمرحلة القادمة من المشروع يوضح شيخو “المشروع مستمر ولكنه في الحقيقة بحاجة لدعم كبير أنا أعمل عليه بجهود شخصية بحتة من دون أي تمويل، الخطوة الثانية في حال توفرت الإمكانيات المناسبة تحويل اللوحات إلى دمى حقيقية، وتوزيعها على الطلاب في مخيمات النزوح في الشمال السوري أو أهالي المنطقة، لتسهيل شرح تاريخ المواقع الأثرية عبر دمىً لها تاريخ وأحداث عاشتها، مما يسهم في حفظ التراث الهام للمنطقة من الضياع والاندثار”.

“أغيد شيخو” صحفي ومذيع سوري مهتم بالبحث والتوثيق يقيم في إسطنبول، من مواليد عام 1987، أنهى اختصاصه الجامعي في اللغة العربية وآدابها، ويتابع دراسته حالياً في قسم “التراث الثقافي والسياحة” في جامعة إسطنبول، في رصيده العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ومنها برنامج “خبر نوستالجي”، كما شارك في عدد من المعارض الجماعية في جامعة حلب بمجال التصوير، وله عدد من المطبوعات في مجال توثيق الحياة العامة.