مهن نسوية ضد النمطية: معقبّات المعاملات مثالاً

مهن نسوية ضد النمطية: معقبّات المعاملات مثالاً

للحروب آثار كارثية على حياة البشر، لكنها كالسيل تجرف في طريقها مقومات القوة وكذلك مقومات الضعف، لدرجة تصل حتى حدود التغيير الجذري. وبالتحديد، يبرز التغيير واضحاً وغير قابلٍ للإنكارفيما يتعلق بالحياة الجديدة للنساء أثناء الحروب وبعدها. إذ غالباً ما تنتفض النساء على وقائع حيواتهن التقليدية ويباشرن الحضور في مواقع جديدة بفعل قوة الاحتياج أولاً وفي ظل غياب وتراجع سيطرة قوى مهيمنة تتحكم تاريخياً بتفاصيل عيش النساء.

ارتبط عمل النساء بعد الحروب بمفهوم الإعالة، فجأة أصبحت الكثيرات وربما الغالبية من النساء معيلات لأسرهن بعد وفاة الأزواج والآباء والأخوة وحتى الأبناء الكبار من ذكور العائلة، أو تغيبيهم أو هجرتهم أو إصابتهم بالعجز التام أو الجزئي عن العمل.

فوضى عارمة عمت في سوق العمل النسائي (إن صح التعريف)، تم تعميم قاعدة ذهبية وهي أن مجال العمل في البيوت كعاملات منزليات أو طباخات أو مقيمات للمرضى والمسنين مفتوح على مصراعيه أمام النساء ويستقبل كل النساء المعيلات أو المتعطلات ويؤمن لهن دخلا كريماً وكافياً، لكن الحقيقة بعيدة جداً عن هذه الفرضية العمياء والتعميمية. الأهم والأكثر إثارة للغضب، أنه تم تثقيل هذه الأعمال النمطية والملتصقة بواقع العمل النسوي ومنحها تراتبية عالية في سلم الأعمال التي تلجأ إليها النساء وخاصة بعد الحروب، لقد منحوها وصفاً عتيقاً ومغرقاً في ظلمه وتمييزه! “عمل شريف” وهذا أحد مكامن تحفيز النساء على اللجوء إليه وحده وحصرياً دون التفكير بأي عمل سواه.

وفي المقلب الآخر وحتى في السلك الحكومي، شهدت الأعمال النمطية والمغرقة في ثباتها كوظائف نسائية، تراجعاً كبيراً. فقد استقال عدد كبير من المعلمات والموظفات والممرضات، بمن فيهم حملة الشهادات العلمية العليا كالمهندسات، بسبب الهجرة أو النزوح أو تغيير أماكن السكن. وتناقص عدد الطبيبات بسبب خروج عياداتهن عن الخدمة أو بسبب تعذر الوصول إلى أماكن العمل. ولحق الضرر أيضاً بالسيدات صاحبات المشاريع الصغيرة لضيق سوق تصريف الإنتاج ولغياب الاستقلالية والخبرة التي تضمن استدامة العمل وعدم المتابعة مع النساء بعد انتهاء الدورات التدريبية وتقديم المنح.

تغير كل شيء، وفي كل تعمق أو تدقيق في المشهد العام نلحظ تغيراً حاداً علينا التقاطه. ومن هذه التغيرات الوجود الملحوظ لظاهرة جديدة هي مهنة تعقيب المعاملات. فمثلاً في بهو بلدية جرمانا، راقبتُ خمس سيدات امتهنّ هذه المهنة التي كانت مصنفة بأنها ذكورية وعصية وممنوعة على النساء. كانت هذه السيدات يتابعن تعقيب معاملات مكلفات بها من قبل أصحابها، ينبغي عليّ الاعتراف بأنني اليوم عرفت سرهن العظيم لأول مرة، العديد من المراجعين/ات لم ينتبهوا لهن، ظنوا أنهن مراجعات وربما موظفات، ربما لأن الجميع لم يتساءل عن مبرر وجودهن هنا، وربما لأن الغالبية العظمى لا تتخيل أن نساء قد انخرطن في مهنة تعقيب المعاملات.

 تقول إحداهن (و.س) وتبلغ من العمر اثنين وأربعين عاماً، وهي زوجة شهيد حرب: “فجأة وجدت نفسي امرأة وحيدة في مهب الريح، أنا وثلاث بنات، حاصلة على الشهادة الثانوية وبيئتي وعقلي يرفضون أن أعمل في الخدمة المنزلية، استعرضت كافة الأعمال النمطية المعروضة أمامي كامرأة، لكني رفضتها فوراً بمجرد مرورها أمام مخيلتي، فكرت بعمل خاص ومستقل يدر دخلاً كريماً وكافياً لأربع نساء يزداد احتياجهن مع الوقت ومع تضاعف  وتضخم الغلاء وصعوبة تفاصيل العيش اليومية.” وتتابع: “خضعت لدورة تدريبية وبعد الامتحان انتسبت لنقابة معقبي المعاملات.” تقول (و.س) أن عدد المعقبات في دمشق قد وصل لألفي امرأة، وأن اعدادهن في مدينة جرمانا لوحدها قد بلغ خمس عشرة امرأة.

تعتمد النقطة المركزية في اختيار هذا العمل على إرادة السيدات بأن يكنّ صاحبات عمل  ومستقلات ولديهن دخل يعتبرنه كافياً لإعالة أنفسهن وعائلاتهن، أو على الأقل أكثر وفرة من رواتب النساء الموظفات أو من العاملات في البيوت وفي قطاع الخدمات الهامشية وغير المحمية أو المسجلة في نقابات أو مؤمن عليها بشركات تأمين وخاصة لضمان حمايتهن من إصابات العمل وجور أصحاب العمل.

تعرفت إلى خمس معقبات معاملات، كلهن معيلات، زوجات وأمهات وبنات وأخوات لأفراد يحتاجون الدعم والسيولة، لكن التعامل معهن مختلف تماماً، حيث لا مكان للشفقة ولا للامتهان المباشر، اللافت أنهن متعاضدات ويساعدن بعضهن البعض.

شكت المعقبّة (ر.ع) من الرفض العلني لهن من قبل الموظفات بصورة رئيسية، ومن عدم تقبل وجودهن في الدوائر الرسمية، بسبب ترسخ الصورة النمطية أن تعقيب المعاملات مهنة ذكورية! مع أن إحدى المديرات الداعمات لهن أوضحت بأن عملهن متقن بشدة، وبأنهن أقل فجاجة من المعقبين الرجال وأقل ضجيجاً، كما أنهم لا يملن للتزوير أو الابتزاز ولا حتى للرشوة، إضافة إلى اهتمامهن الواضح بالصورة النهائية لكل معاملة وبرأي ورضا الموظفين والموظفات في الدوائر أو المكاتب التي يتابعن المعاملات فيها.

أجابت أصغر المعقبّات سناً (ل، ن) على سؤال رضا الأهل أو المجتمع عن هذه المهنة قائلة: “في البداية لم يعلم أحد بطبيعة عملي، أنا طالبة جامعية في كلية الحقوق، فمن الطبيعي أن الجميع معتاد على خروجي اليومي من المنزل خاصة وأني أعيش في بيئة اجتماعية ضيقة والجميع يعرفون بعضهم، مع الوقت شكت لي والدتي بأن البعض قد قال لها وفي تساؤل غير بريء بأنني أدور من مكان لآخر، وأن البعض قد رآني في عدة أماكن بصورة يومية، تخيلوا لم يسألني احد من الذين رأوني في عدة مراكز ودوائر أتابع فيها معاملاتي عن سبب وجودي هناك، رسموا سيناريو محدد (اتهامي بالطبع) لعجزهم عن تقديم أي إجابة عليه وتبادلوه ثم رماه البعض في وجه أمي.” وتضيف (ل، ن): “حين واجهتهم أمي بطبيعة عملي، اختلف تقييمهم، البعض هنأها على شجاعتي وتدبيري والبعض كرر أنها مهنة لا تليق بالنساء، أما الغالبية فقد باتت تلجأ لاستشارتي بقضايا تستلزم التعقيب والمتابعة.”

 لا تشكو المعقبات بشكل صريح من رفض معقبي المعاملات الرجال لتواجدهن في الدوائر والمحاكم، بل لاحظنا شكلاً من أشكال المساندة بين النساء والمعقبين الشباب خاصة وأغلبهم طلاب جامعيون ويعملون مستقلين أيضاً، أي أنهم لا يملكون مكاتب خاصة لتعقيب المعاملات،  لكن وفي الحقيقة ثمة صراع خفي بين المعقبّات وأصحاب المكاتب العقارية ومكاتب تعقيب المعاملات لأنهم يعاملون المعقبّات وكأنهن قد استولين على أرزاقهن. قال أحد أصحاب المكاتب العقارية صراحة شاكياً ظهور المعقبّات على ساحة العمل: “اتسلبطوا على شغلنا سلبطة!” وأضاف: “تعمل في مكتبي سيدتان، لكن مهامهما محددة، تصوير تنضيد، أرشفة، استقبال المراجعين ويكفي!”

ما بين تعتيم غير مقصود على دخول النساء معترك مهنة تعقيب المعاملات وما بين قبول ورفض إداري ومجتمعي واقتصادي ومهني لحضورهن المميز، تكرّ حبات المسبحة، وتنفرط العقد المتأصلة عقدة إثر عقدة، بحذر، برفض صامت أو بمواجهة معلنة، لا يهم، المهم أنهن هناك وفي كل مكان، قادرات ويملكن قرارهن، سعيدات تملؤهن الثقة والرضا ويملؤنا الأمل بوجود أوسع وأكثر فاعلية وقوة وتقبّل.

اقتراحٌ نقديٌّ في تأسيس مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح: المَنهج (الأنطو/ ثقافيّ) 3 من 3

اقتراحٌ نقديٌّ في تأسيس مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح: المَنهج (الأنطو/ ثقافيّ) 3 من 3

العولمة، ومَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح في الكتابة الإبداعيّة

ب_ التَّأويل الثَّقافيّ للانزياح:

أنهيْتُ حتّى الآن تأسيس (التَّأويل الأُنطولوجيّ للانزياح) في الكتابة الإبداعيّة، وأستكمِلُ تشييد هذا المَنهج عبرَ (التَّأويل الثَّقافيّ) المُكمِّل للتَّأويل الأنطولوجيّ _ في اعتقادي _، ولا سيما في عصر العولمة، بما يُقدِّمُهُ هذا التَّأويل الثّاني من إمكانيّات واسِعة لفَهم الانزياحات الاجتماعيّة والثَّقافيّة والحضاريّة والتِّقنيّة في النُّصوص الإبداعيّة، ذلكَ أنَّ عنوان البَحث يشي بفكرة تقليب الأنساق الثَّقافيّة المُنفتِحة في العَوالِم الكتابيّة؛ أي يتطلَّعُ إلى دراسة (انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها).

تُعرَّفُ المُطابَقةُ عبرَ تعريف نظام التَّمركُز، وهو: “نسَقٌ ثقافيّ مُحمَّلٌ بمعانٍ ثقافيّة (دينية، فكريّة، عرقيّة) تكوَّنت تحتَ شروط تاريخّية مُعيَّنة، إلا أنَّ ذلكَ النَّسَق سُرعان ما تعالى على بُعدِهِ التاريخيّ”[1]. ومن هُنا تُوصَف الهُوِيّة التّاريخيّة المُتمركزة بهذا الوصف لكونها تتجرَّدُ من بُعدِها التّاريخيّ لتكون هُوِيّة مُستقرّة وكونيّة تطمس كُلّ العناصر التي تعارضُها وتستبعدها[2]. وفي هذا الإطار تتشكَّلُ الذّات بوصفها مركزاً يُمثِّلُ المبدأ الواحد[3]، وتستندُ إلى معنىً مُحدَّد للهُوِيّة قوامُهُ الثَّبات، والدَّيمومة، والتَّطابُق، الأمرُ الذي يحفَظُ لها مرجِعيَّتها المُحوريّة في أيِّ فعل بوصفها الذات المُفكرِّة الواعية والمُطلَقة النَّقاء[4].

لقد مهَّدَ هايدجر لما عُرف بفكر (الاختلاف) الذي سعى إلى مُجاوَزة نظام المُطابَقات التَّمركزيّة، وتفتيت وَحدة الذات، انطلاقاً من عكسه (الكوجيتو) الدّيكارتيّ: (أنا أفكِّر، إذن، أنا موجود)، ليُصبح معه: (أنا موجود، إذن، أنا أفكِّر)، وذلك بقوله بتجاوز الذات لهُوِيّتها الثابتة والمحوريّة بالوجود في العالَم، ومع الآخرين في تجربة عيانيّة معيشة[5]، حيث يتمُّ بناءً على هذا الفهم فصمُ الوَحدة الدّيكارتيّة المُتعالية بين الذات بوصفها الموجود المُتحكِّم، والعالَم بوصفه الوجود المُتحكَّم به، وهو ما يهدف إلى تفتيت وَحدة الذّات بفتح وجودها على العالَم الخارجيّ، والقضاء على مركزَّيتها، الأمر الذي يعني “مُجاوزة ثنائيتَي الداخل _ الخارج، والذّات _ الموضوع”[6]، ثُمَّ يتيح للذّات أن تنبسِط في الخارج إلى أقصى الحدود، وأن تُبعثِر داخلها بتشتيته في كلّ ما هو خارجيّ يؤدّي إلى التَّشظّي والتباعُد والانتشار.

إنَّ الانتشار أو التَّشتيت (التَّشتُّت) Dissemination هو أحدُ المصطلحات التي جَعَلَ منها دريدا أداةً تقويضيّة، ويعني بها تكاثُر المعنى وانتشاره بطريقة يصعب ضبطُها والتّحكُّم بها. فهذا التَّكاثُر المُتناثر ليسَ شيئاً يستطيعُ المرء إمساكه والسيطرة عليه، إنّما يوحي بـِ (اللَّعب الحر free Play) الذي هو حركة مستمرة تُثير عدم الاستقرار والثّبات[7]، وتُرسي تعدُّد الذات اللامتناهي بديلاً عن الوَحدة اللامُتناهية، حيث إنّ الأصل هو انتشار الدلالة وتشتُّتها[8].

ووفق هذا المفهوم سعى فلاسفةُ الاختلاف (فوكو _ دريدا – دولوز) إلى مُجاوزة نظام التّمركز التَّطابُقيّ بالدّعوة إلى مفهوم (الاختلاف)، وهو نقضٌ لمركزيّة الذّات بالتَّعدُّد، ونفي المحدود[9]؛ ذلكَ أنَّهُ مفهومٌ يقومُ على المُغايَرة وعدم التَّشابه والتَّشتُّت وإرجاء المعنى بوصفه حركة توليد الفوارق[10]. فالاختلاف هوَ من طبيعة الذات أكثر مما هيَ من طبيعتها، لأنَّ “الذّات هي مسافة الاختلاف دائماً حتّى عن كُلّ ما هو الأقرب إليها، إلى حدّ الالتصاق. فما أن يُقالَ عن شخصٍ إنَّهُ هو كذا، حتّى يُحِسَّ فوراً أنَّهُ ليسَ كذلكَ تماماً، مهما تلبَّسَهُ ذلكَ التَّعيين”[11]. ومعنى هذا أنَّ مفهوم الاختلاف يُخلخِلُ مفهوم الهُوِيّة المُتمركزة للذات من داخلها، ويهزُّ مفهوم النّموذج الأصلي[12]، وهو ما يخلقُ فهماً لذات جديدة تستجمعُ المُتناقضات لا بوصفها وَحدة، لكن بوصفها اختلافاً مُتحرِّكاً ديناميكيّاً؛ أي بوصفها تغايُراً مع نفسها[13].

وبنقل هذا الفَهم لجدَليّة المُطابَقات التَّمركزيّة والتَّشتيت الاختلافيّ إلى مُستوى أشمَل يتعلَّق بأساليب وجود الذّات الفرديّة والجمعيّة في العالَم، وذلكَ بما يتواءَم مع دراسة الانزياح الذي يُفترَضُ أنْ تحدثُهُ العولمة في عَوالِم النُّصوص الكتابيّة الإبداعيّة، ينبغي أنْ أستكمِلَ التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح بتوظيف (النَّقد الثَّقافيّ) في تحليل (أساليب وجود) العَوالِم الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة الاجتماعيّة والثَّقافيّة والحضاريّة والتِّقنيّة، واختلافاتِها.

إنَّ أول من استخدم مصطلح (النَّقد الثَّقافيّ) هو فنسنت ليتش، وأراد بهذا الاستخدام وصف نوع من النقد يتجاوز البنيوية وما بعدها، والحداثة وما بعدها، لبلوغ نقدٍ يستخدم علم الاجتماع والتاريخ والسياسة والمؤسساتية، دون أن يتخلى عن مناهج النقد الأدبي[14]. لكنَّهُ يجترئ على الفنون الأدبية، معيداً النّظر فيها على أساس علاقتها بالثقافة، دون المبالاة بما قاله النقد الأدبي فيها[15].

وأستطيع أنْ أُحدِّدَ طريقة توظيف (النَّقد الثَّقافيّ) عبرَ التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) لانزياح أساليب وجود عَوالِم النُّصوص الإبداعيّة، اعتماداً على مفهوم (النَّسَق)، حيثُ يرى الدُّكتور الغذّامي أن النَّسَق يتحدَّدُ “بوظيفته، وليس بوجوده المجرّد، والوظيفة النَّسقيَّة لا تحدث إلّا في وضع محدّد ومقيّد، وهذا يكون حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مُضمَر، ويكون المُضمَر ناقضاً وناسخاً للظّاهر. ويكون ذلك في نصّ واحد، أو في ما هو في حكم النَّصّ الواحد”[16]. والنَّسَق بوصفه دلالةً مُضمَرةً، فـَ “هذه الدّلالة ليست مصنوعة من مؤلِّف، ولكنها (مُنكتبة) ومنغرسة في الخطاب، مُؤلِّفَتُها الثَّقافة، ومستهلكوها جماهير اللُّغة من كُتّاب وقرّاء، يتساوى في ذلك الصغير مع الكبير، والنساء مع الرجال، والمُهمَّش مع المُسوَّد”[17]

والأن، بعدَ أن قدَّمتُ مَعالِم مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح، أستطيع أنْ أقول: إنَّ ما انشغلَتْ به مُقارَبتي التَّطبيقيّة انطلاقاً من عنوانِها العريض المُهتمّ بِـ (انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها)، يتعلَّقُ بدراسة جدَليّات (نسَقيْن عامّيْن) تنبسطُ عبرهُما (أساليبُ وُجودِ) العولمة، هُما:  

1_ أساليبُ وُجودِ المُطابَقات بما هيَ تمركُزات ناهِضة على الحُضور، وبوصف هذا الحُضور نسَقاً ظاهِراً لتلكَ الكيفيّات (الوجوديّة/ الثَّقافيّة) التي ينطوي عليها الانزياح في عوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة.

2_ أساليبُ وُجودِ الاختلافات بما هيَ تشظٍّ وتشتُّت ناهِض على الغِياب، وبوصف هذا الغِياب نسَقاً مًضمَراً لتلكَ الكيفيّات (الوجوديّة/ الثَّقافيّة) التي ينطوي عليها الانزياح في عَوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة.

وقد تمَّ تحليل (جدَليّات) هذيْن النَّسَقيْن المحموليْن على الانزياح بوصفِهِما جُمْلة تحوُّلات وتغيُّرات مُفترَضة أحدثتْها العولمة في الكتابة الإبداعيّة عبرَ أربعة مُستويات تبسطُ (أساليبَ وُجودِ) العلاقة النَّسَقيّة/ الانزياحيّة (الجدَليّة) في عصر العولمة، هيَ:

1_ انزياحُ أساليبِ الوُجودِ في عَوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة بينَ منظومة القيَم من ناحية أُولى، وسُلطة السُّوق وثقافة التَّسليع والاستهلاك من ناحية ثانية.

2_ انزياحُ أساليبِ الوُجودِ في عَوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة بينَ التَّماسُك المَعرفيّ من ناحية أُولى، وسُيولة انتقال المَعلومات من ناحية ثانية.

3_ انزياحُ أساليبِ الوُجودِ في عَوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة بينَ الهُوِيّة المحلِّيّة من ناحية أُولى، والهُوِيّة العولَميّة من ناحية ثانية.

4_ انزياحُ أساليبِ الوُجودِ في عَوالِم الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة بينَ الحُرِّيّة (يوتوبيا الرَّفض) من ناحية أُولى، والعُبوديّة (سُلطة القهر الاستلابيّ والقَبول الاختياريّ) من ناحية ثانية.

هذا، وقد أشرْتُ في مُقدِّمة هذا البَحث (في جزئِهِ الأوَّل) إلى أنَّ هذا المنهج غير مَحكوم (كمَا أطمَحُ وأتمنَّى) بدراسة نُصوص حقبة العولمة، فحسب؛ إنَّما هوَ منهجٌ مَفتوحٌ وقابِلٌ للتَّطبيق (كمَا أدَّعي وكمَا أعتقدُ أيضاً)، على نُصوصٍ شتَّى من أيِّ عصرٍ أو مكانٍ أو جنسٍ، فالأمرُ ليسَ منوطاً بمُحدِّداتٍ أو مُسَبَّقاتٍ مَعرفيَّةٍ أو نظَريَّةٍ أو أيديولوجيَّةٍ حاكِمَةٍ ومُتحكِّمَةٍ؛ بل إنَّ التَّجرِبةَ والتَّجريبِ بمَا ينبسِطُ عبرَهُما من اختبارٍ وخبرَةٍ ومُراجَعاتٍ وإضافاتٍ ومُواكَباتٍ عصريَّة هُمَا المحكُّ، وهُمَا المُطوِّرانِ كمَا يُفترَضُ، وهذهِ القضيَّةُ هي إحدى أهمّ مُنطلَقات التَّسويغ (النِّسبيّ) لوَجاهَةِ تقديم هذا الاقتراح/ المشروع، والاستمرار بالاشتغال عليهِ مُستقبَلاً. 

مُلحَق حولَ التَّسمية الاصطلاحيَّة للمَنهج:

(الأنطو/ ثقافيّ)

عرضْتُ فيمَا سَبَق المادَّة التَّأسيسيَّة لمَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح كمَا وردَتْ في كتابي (انزياحُ أساليبِ الوُجود في الكتابة الإبداعيَّة بينَ مُطابَقاتِ العولمة واختلافاتِها)، لكنَّ ما ثبَّتُهُ في (العُنوان الفرعيّ) أوَّل هذا البَحث بأجزائِهِ الثَّلاثة، كانَ اقتراحاً اصطلاحيَّاً جديداً (وهوَ لم يكُن مَوجوداً أو مَنشوراً في الكتاب) غايتُهُ اختزالُ اسمِ المَنهج بِـ: (المَنهج الأنطو/ ثقافيّ)، تسهيلاً للتَّداوُل والاستخدام والإحالات.     

انتهى.


[1] عبد الله إبراهيم: المركزيّة الغربيّة _ إشكاليّة التّكوُّن والتَّمركُز حول الذات (بيروت _ لبنان: المؤسسة العربية للدِّراسات والنشر، ط2، 2003) 11.

 [2]يُنظَر: المرجع السّابق، 12.

[3] عبد الوهاب المسيري: العلمانيّة الجزئيّة والعلمانيّة الشّاملة (القاهرة _ مصر: دار الشروق، ط1، 1423هـ _ 2002م) مج2، 454.

[4]عبد الله إبراهيم: المركزيّة الغربيّة، 11.

[5]يُنظَر: صالح شقير: مُقدّمه في الفلسفة العامّة (دمشق _ سورية: منشورات جامعة دمشق _ كلية الآداب، 1424 _ 1425هـ / 2004-2005م) 249. ويُنظَر: فتحي المسكيني: نقد العقل التأويلي، 130.

[6]عبد السلام بنعبد العالي: أسس الفكر الفلسفيّ المُعاصِر _ مُجاوَزة الميتافيزيقا (الدار البيضاء _ المغرب: دار توبقال _ ضمن سلسلة المعرفة الثَّقافيّة، ط2، 2000) 87.

[7]يُنظَر: ميجان الرّويلي وسعد البازعي: دليل النَّاقد الأدبيّ _ إضاءة لأكثر من سبعين تيّاراً ومُصطلحاً نقدياً مُعاصراً (الدار البيضاء _ المغرب، بيروت _ لبنان: المركز الثقافي العربيّ، ط3، 2002) 119_ 120.

[8]يُنظَر: عبد الغني بارة: الهرمينوطيقا والفلسفة _ نحو مشروع عقل تأويليّ (الجزائر العاصمة _ الجزائر، بيروت _ لبنان: منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 1429هـ _ 2008م) 40.

[9] يُنظَر: بشير تاوريريت: الحقيقة الشعرية على ضوء المناهج النقدية المعاصرة والنظريات الشعريّة _ دراسة في الأصول والمفاهيم (إربد _ الأردن: عالم الكتب الحديث، ط1، 1431هـ  _ 2010م) 232 .

[10] يُنظَر: عبد الله إبراهيم: المركزيّة الغربية، 391. ويُنظَر: عمر مهيبل: من النّسق الى الذّات _ قراءة في الفكر الغربي المـُعاصر (الجزائر العاصمة _ الجزائر,بيروت _ لبنان: منشورات الاختلاف _ الدار العربية للعلوم ناشرون ، ط1، 2007م) 44.

[11] مُطاع صفدي: هل يمكن سُكنى العالم شِعريّاً؟ _ العودة من تشظيّ الذّاتويّة الى (فنّ) الانهمام بالذّات؟ (مجلة الفكر العربي المعاصر _ مركز الإنماء القومي: بيروت _ لبنان، باريس _ فرنسا: ع 108 _ 109، شتاء 1999) 23.

[12] يُنظَر: عبد السّلام بنعبد العالي: أسس الفكر الفلسفيّ المُعاصر، 153 _ 154.

[13] يُنظَر: عمارة ناصر: الفلسفة والبلاغة _ مقاربة حجاجيّة للخطاب الفلسفيّ (الجزائر العاصمة _ الجزائر، بيروت _ لبنان: منشورات الاختلاف _ الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، ط1، 1430 هـ _ 2009 م) 63 _ 64.

 [14]يُنظَر: عبد الله محمد الغذّامي: النقد الثقافي _ قراءة في الأنساق الثقافية العربية (بيروت _ لبنان، الدار البيضاء _ المغرب: المركز الثقافي العربي، ط2، 2001) 31_ 32. ويُنظر: إبراهيم محمود خليل: النقد الأدبي الحديث _ من المحاكاة الى التفكيك (عمّان _ الأردن: دار المسيرة للنَّشر والتَّوزيع والطِّباعة، ط3، 1431 هـ _ 2010م)  138 _ 139.

[15] يُنظَر: المرجع السّابق، 140.

[16] عبد الله محمد الغذّامي: النقد الثقافي، 77.

[17]المرجع السابق، 79.

عندما يبكي السوريون

عندما يبكي السوريون

يقول الكرد في أمثالهم، أو حكمتهم التي ترافق مناسبات العزاء، عن المعزين: ” كلٌّ يبكي على موتاه.. أو كلٌ يبكي على نفسه.”

كان الوقتُ ليلاً، قبل منتصفه، سمعتُ بنبأ رحيل الصديق الروائي خالد خليفة في دمشق، بدايةً شعرت بوخزةٍ في صدري، ربما كانت مما وخزه قبل ساعات ورماه طريحاً الى الأبد.

بداية لم أفعل شيئا، أغمضتُ عيني ورحت أتذكر: كنا معاً في حلب.. كنا معاً في دمشق، كنا معاً في ديار بكر.. وآخر اتصال بيننا حدث وهو في سويسرا حين حل عليها ضيفاً ككاتبٍ. يومها تحدثنا عن زيوريخ التي أعرفها جيداً،  وتحدثنا عن الفن و الأدب السويسريين من إلياس كانيتي مروراً  بجاكوميتي ودورينمات وماكس فريش وبول كلى وغيرهم… وصولاً الى  مانو خليل، وقممٍ كماترهورن ويونغ فراو وبيلاتوس.

ثم عاد خالد الى الشام التي يحبها، الشام التي عرفها خالد كما عرف قبلها حلب وعفرين التي ولد فيها أو حولها. في حلب، في أواخر الثمانينيات، كنا مجموعةً من الأصدقاء، كتاب وشعراء وفنانين تشكيليين ومسرحيين وروائيين، نجلس في مقهى القصر، أو نسهر ليلاً في بيت صديقنا الشاعر لقمان ديركي، حيث كان أهله قد خصصوا له منزلاً كاملاً، فحوّل لقمان البيت الى مأوى لكل الأصدقاء المقطوعين من “أهلهم ومدنهم” في تلك المدينة الساحرة: خالد خليفة، محمد فؤاد، صالح دياب، عبداللطيف خطاب الذي سبقنا جميعاً في الرحيل، ثم عنايت عطار، رشيد صوفي، مروان علي، أحمد عمر، خطيب بدلة، محمد عفيف الحسيني، وآخرون كثر لم تعد تسعفني الذاكرة في استحضارهم.

كان خالد وقتها يكتب الشعر، وقد كثر الشعراء، ويبدو أنّ هذا لم يرق لصديقنا خالد فاتجه صوب الرواية، لينشر أولى رواياته “حارس الخديعة” والتي لم ترق لنا وقتها، وانتقدناه كثيراً حول أسلوبه الذي مزج بين الشعر والنثر، فضاعت خيوط الرواية منه ومن القارئ، وبالطبع كان معلمنا في ذلك الحين الشاعر والروائي السوري الكردي سليم بركات الذي كنا نقلده جميعاً.

ثم تفرقنا، من كان يؤدي الخدمة العسكرية عاد الى بلدته، ومن كان يدرس في جامعة حلب تخرج منها وغاب، ومن كان يعمل في السياسة تم اعتقاله أو فرّ الى مكانٍ آمن. وبعد سنوات اجتمعنا من جديد ولكن هذه المرة في دمشق، ودمشق لم تكن كحلب، فليس لدينا صديق كلقمان يفتح لنا باب بيته لنسكن ونأكل فيه، فبدأنا بالبحث عن غرف للإيجار في دمشق الشام، وأغلبنا سكن باب توما لأسبابٍ كثيرةٍ، فهو الحي الأكثر انفتاحاً، والأكثر تقبلاً لمزاج مجموعات من الفنانين والكتاب والشعراء، يعملون في النهار، وفي الليل يصرفون ما لديهم في باراتها، ويخرجون آخر الليل يصرخون ويغنون في أزقتها الضيقة.

 وصارت جلساتنا ولقاءاتنا تتم في مقهى الروضة نهاراً، وليلاً في نادي الصحفيين او في بيت الشاعر الراحل بندر عبدالحميد، وهنا تعرفنا على أصدقاء جددٍ كنا نقرأ لهم، أو نراهم يمثلون على الشاشات، وعلى كتاب وشعراء وفنانين، صحيحٌ أننا لم نكن كلنا منسجمين فكرياً، إلا أنّ أغلبنا يحمل هم الإبداع وحب دمشق. تعرفنا على العشرات من الكتاب والشعراء العراقيين المنفيين في دمشق، وكذلك على أصدقاء شعراء وكتاب لبنانيين يأتون بين الحين والآخر الى الشام.

في هذه الأثناء اتجه خالد خليفة إلى كتابة سيناريوهات تلفزيونية، وتميزت مسلسلاته بنكهة حلبية صافية، فيها من عبق التاريخ وكذلك ” المسكوت عنه ” الكثير، ولعل هذا الاتجاه جعله يتجه تماماً الى الرواية، فكان لرواياته صدى طيب، لا سيما وانه استفاد كثيراً من تجربته المرئية، ومن هنا أيضاً تشعبت علاقات خالد بأوساط عديدة، ممثلين وممثلات، منتجين ومخرجين وشباب وشابات يبحثون عن إنجازٍ ما، وكان خالد ودوداً ومحباً للجميع.

لم يكن خالد ممن يتحزبون إلى هذا أو تلك، كان صديقاً للجميع، ودوماً يدهشني بنقائه، وعدم اغتيابه لأحد، حتى لو كان هذا  “الأحد” يناصبه الحسد أو الحقد، ومن هنا كان أشبه بنسيمٍ ضاحكٍ في كل مكانٍ يصل إليه، يخلق أجواءً مرحةً وحميميةً، يرقصُ في البيت والبارات ويدلق النشوة على الساهرين. أذكر مرةً كنا في اسطنبول، وقد دعانا صديقٌ قديم من أصدقائنا  الفارين من حملة الاعتقالات في منتصف الثمانينات، إلى مطعمٍ وبارٍ مليءٍ بالشباب اليساريين وهناك بدا أنّ لصديقنا صاحب الدعوة حظوةً لدى مدير المطعم إذ خصص لنا طاولة في مكانٍ مرتفعٍ، مخصصٍ للضيوف المميزين. وما أن جلسنا حتى التفت إلينا الجميع، إذ سمعونا  نتكلم بلغةٍ غير لغتهم، فتحلقوا حولنا، وبدأ خالد يتفاهم معهم ليس بلغتهم ولا بإنكليزيته الركيكة. يومها التقطنا أنا وخالد من المحيطين بنا كلمة: كارداش، أي الأخ، وصارت الكلمة مفتاح لقاءاتنا وأحاديثنا، “كيفك كارداش”، “أين أنت كارداش؟” ومنذ سهرة اسطنبول تلك وحتى اليوم، لم نعد ننادي بعضنا بأسمائنا، وبالعودة الى تلك السهرة اكتشفنا أنّ لصديقنا الفار العديد من الأسماء. فكان فرج بيرقدار، الذي كان معنا في السهرة، يناديه باسم بيشمركه، حيث كانا معاً في حزب العمل الشيوعي المحظور. أما لقمان ديركي فكان يناديه بـ”سمير”، وأنا كنت أناديه باسم “فرات”، في حين رحب به صاحب المطعم، ورحبت به المغنية التركية باسم ” باقي”. ضحكنا جميعاً ولم نعد نعرف بأي اسم نخاطب صديقنا، وحده خالد قال ليلتها:” الأفضل أن نرقص ونحن في ضيافة العثمانيين، ورفع كأس العرق، وضعه على جبينه وراح يرقص متمايلاً واندهشنا من عدم فقدانه للتوازن، كان يرفع الكأس يشرب منه، ويعيده لفوق جبينه و يرقص الرقصة الحلبية المسماة ” قبا ” أو (السبعة ابه)، و تتألف من سبع دقات كما يقول الحلبيون، وأربع حركات بطيئة، أو حسب المزاج، كانت هذه الإضافة من شرح خالد. أثناء تلك الرقصة نهضنا جميعاً لنشاركه، والتم علينا رواد المطعم جميعاً، والتفوا حول خالد يصفقون له، حتى أن المطربة  أثناء الاستراحة جاءت لتجلس بجانبه، أو في حضنه، وقد حسدناه جميعاً. لم نكن ندري أن خالداً ومن يومها كان يحاول أن يشبع من هذه الحياة “القصيرة جداً”،  ولهذا أيضاً، كان هاجس الموت يلازمه، ووجده “عملاً شاقاٌ”، فتناساه، حتى جاء إليه على غفلة منه ومنا جميعاً، لنهتف لبعضنا-  نحن أصدقاءه  ونستفسر هل مات خالد حقاً؟ كيف ولماذا ومتى؟ وكلنا حاول أو حلم بأن يكذب الخبر أحدٌ ما في تلك الليلة، لكن هيهات.

والآن مات خالد خليفة، وبكى عليه كل من عرفه او قرأ رواياته، وهنا أود الإشارة الى أنّ السوريين وبعد دزينة من سنوات القهر والبؤس والتنكيل، وخيبتهم تجاه العالم، كل العالم، كانوا بحاجة الى شخص مثل خالد خليفة، يُحول ليل دمشق الى متنفسٍ للحلم، وبارقة أمل بأن القادم سيكون أفضل، وأن دمشق لم يغب عنها كل عشاقها، وأن سوريا ورغم كل الدمار والكره والحقد والحرب والرعب، والزنازين سيظل فيها شخص أو أكثر يقول للصامتين: ” لن نترك البلد جميعاً.” كما لو أن السوريين كانوا بانتظار من يترجم لهم قصيدة رياض صالح الحسين:

” يا سورية الجميلة السعيدة

 كمدفأةٍ في كانون

يا سورية التعيسة

 كعظمة بين أسنان كلب

يا سورية القاسية

 كمشرط في يد جرَّاح

نحن أبناؤك الطيِّبون

 الذين أكلنا خبزك و زيتونك و سياطك

أبدًا سنقودك إلى الينابيع

 أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء

 ودموعك بشفاهنا اليابسة

أبدًا سنشقّ أمامك الدروب

ولن نتركك تضيعين يا سورية

 كأغنيةٍ في صحراء.

كان خالد صدىً لهذه القصيدة، في كل روايةٍ، وكل حوارٍ، و كل سهرةٍ، وفي كل بارٍ، كان يلتم حوله الشباب والصبايا، ليرقص خالد، رافعاً كأسه، مترجماً مفردات هذه القصيدة الى رقصة “القبا” الحلبية، مؤكداً أنّ السوريين ورغم قلة الحيلة، ورغم الصمت القاتل، ورغم الرعب، يهمسون لبعضهم : لن نتركك تضيعين يا سوريا.

إن الخيبة التي عاشها ويعيشها السوريون منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، مدت رأسها في موت خالد ورحيله، شعروا أنهم تيتموا من جديد، فبكوا على حالهم. صحيحٌ أن الأصدقاء وغيرهم ساروا في جنازته والدموع تنهمر من عيونهم المرعوبة عليه، ولكن الحقيقة أنهم كانوا يبكون على أنفسهم وعلى سوريا التي تضيع كلما رحل عنها شخص مثل خالد. رحل قبله أحبةُ لنا وبكينا عليهم وعلى أنفسنا، لقد رحل بندر عبدالحميد، ورحل عادل محمود، وحاتم علي، وعمر أميرلاي وآخرون كثر، لكن رحيل خالد وضع السوريين أمام مرآة وجعهم الشاسع، وحيرتهم الطاغية. فقد كان وجوده في دمشق ما يشبه حارساً لها من خديعة عالمٍ أجرم بحق السوريين جميعاً، وكان الكل يريده في دمشق ليشهد لها وعنها ومنها، ليقول لهم ما لا يجرؤون عليه،  لهذا بكوا على أنفسهم فيه، لأنهم أيقنوا أن الجميلين والأنقياء تتفجر طحالهم من القهر كالغزلان، و تتيبس شرايين قلوبهم قبل الأوان. وإذ بكينا على خالد فإنما نبكي على أنفسنا، وعلى قتلانا الكثر طيلة هذه السنوات الدامية.

اقتراحٌ نقديٌّ في تأسيس مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح: المَنهج (الأنطو/ ثقافيّ) 2 من 3

اقتراحٌ نقديٌّ في تأسيس مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح: المَنهج (الأنطو/ ثقافيّ) 2 من 3

العولمة، ومَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح في الكتابة الإبداعيّة

أ_ التَّأويل الأُنطولوجيّ للانزياح:

أهمَلتِ المناهِجُ العلميّة _ المنطقيّة البُعْدَ الأُنطولوجيّ لِلُّغة، مُكتفيةً بِالنَّظَر إليها في جانبِها الأداتيّ، وارثةً عنِ الفَلسفة التَّقليديّة موقفها من الانفعال والخَيال والحواسّ بوصفِهم في مرتبة أدنى من العَقل[1]، وساعيةً لتفسير النَّصّ الشِّعريّ ذاتيّاً وموضوعيّاً، ذلكَ بإخضاعه لقواعد تقنيّة _ قياسيّة، أو إجراءات منهجيّة مُؤسَّسة على البُرهان الحِسابي[2]. وانطلاقاً من هذا، جاءَ اقتراح الاستعاضة عن المناهج العلميّة بِالتّأويل[3]، بعد نزع الحُمولة النَّفسيّة من عمليّة الفهم، من حيث إنَّ التَّأويل ينتقل من الإشكاليّة النَّفسيّة لحياة الغَير، إلى الإشكاليّة الأُنطولوجيّة التي تسعى لِفهم الكائن في العالَم؛ أي بِانتقال الفَهم من كونِهِ عمليّة عقليّة تسعى لِفَهم مسألة الغير، إلى كونِهِ عمليّة وجوديّة تسعى لِفَهم مسألة العالَم[4]. وهو الأمر الذي يربط التَّأويل بالقضيّة الأكثَر عُمقاً، ألا وهيَ اللُّغة، من حيث إنَّ الكائن لا يُفهَم إلا في مَجال التَّكلُّم بِاللُّغة[5]

لعلَّ الإشكاليّة الأكبَر في المناهج الشَّكليّة تكمن _ في اعتقادي _ في مسألة فصل اللُّغة عن الوجود، وهيَ الآليّة التَّجريديّة التي تُفقِدُ دراسة نصوص الكتابة الإبداعيّة حيويتَها الكيانيّة، وتُحوِّل الانزياح إلى تقنيّة قاصِرة _ كما ذكرْتُ من قبل _، ولا سيما بما يُتوَقَّع أنْ يتصدَّى لهُ هذا المُصطلَح بوصفِهِ أداة مفهوميّة وإجرائيّة لتفحُّص التَّحوُّلات الاجتماعيّة والثَّقافيّة والحضاريّة والتِّقنيّة التي يُفترَض أنَّ العولمة أحدَثتْها في النُّصوص، ومن هُنا أقدِّمُ اقتراحي الآتي في هذِهِ الدِّراسة، بتأسيس مَنهج (التَّأويل الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ للانزياح في الكتابة الإبداعيّة):

لقد سعى مارتن هايدجر منذ كتابه العمدة “الكينونة والزمان” إلى تأويل الوجود “بمنهج ظاهراتيّ، يرسم طريقاً أنطولوجيَّاً جديداً في مقابل البدايات الخاطئة التي اتَّسمت بها دراسة علم الوجود منذ العصور القديمة”[6]، وفي هذا المنحى قامَ هايدجر بعملية صهر وإعادة إنتاج لثلاثة اتجاهات فكرية كبرى، وذلك في ضوء عمله القائم على تأسيس علم للوجود[7]عُرِفَ بالأنطولوجيا الأساسيةfundamental Ontology، فأخذ عن دلتاي بعض مرتكزات التَّأويليّة، وأخذ عن كيركيجارد بعض مرتكزات الوجوديّة، وكان التأثير الأكبر لأستاذه هُسِّرل فطوَّر فلسفته الظّاهراتيّة لينقلها من إطار قصديَّة الوعي إلى إطار قصديَّة الوجود. 

إنَّ ما دُعِيَ المنعرج اللُّغويّ Linguistic turn [8]عند هايدجر يعني في جوهره الاختلافيّ “أنَّ اللُّغة وليس الأنساق الفلسفيّة هي بيت الوجود”[9]، ليكونَ ذلكَ لُبّ مشروعه الهادف إلى تقويض ميتافيزيقا الحضور The Metaphysics of presence التَّقليديّة[10]. وهو الأمر الذي شكَّل في فكر ما بعد الحداثة[11] مُرتكزاً أساسيّاً لمَا اصطُلِح على تسميته بِـ (مجاوزة الميتافيزيقا Overcomming of Metaphysics) بما أورثتهُ من ثقةٍ عمياء بالعقل المنطقيّ[12]، الذي اعتُمِدَ ليكون مساراً وحيداً وجاهزاً للبراهين والتَّفسيرات الحسابيّة[13]، وهي المسألة التي انتهتْ “بالتَّفكير إلى افتقار ماهيّته الشِّعريّة”[14].

وهكذا، لم تعُد اللغة في فهم هايدجر “هُنا والوجود هُناك”[15]؛ أي إنَّهُ لا ينظر إلى الواقع المُعطَى لتجربتنا بوصفِهِ مُستقلاً عن اللُّغة، كأنَّها مرآتُهُ، أو كأنَّ أشياءَهُ موضوعات موجودة خارج اللغة، ويتمُّ إحضارُها ميتافيزيقيّاً، إنَّما ينظر إليها بوصفها وجوداً في الكينونة، أو بمعنىً أدقّ بوصفها لغة الكينونة، مُتجاوزاً بذلك النظرة التّقليديّة إليها[16]، حيث تكفُّ الكلمات واللُّغة عن أن تكونا “لفائف تُعبّأُ بها الأشياء لكي يتبادَلَها أولئكَ الذين يكتبونَ أو يتحدَّثون. إنّما في الكلمات واللغة تدخل الأشياء إلى الوجود”[17]. وبهذا لا تكون اللغة مُجرَّد أداة اتصال لتبادل المعلومات الصحيحة، أو وسيلة تعبير عن الأفكار؛ إنّما هي المكان الذي يكشف فيه الواقع عن ذاته، وتتحَّركُ ضمنَهُ الحياة الإنسانيّة[18]. وهو المعنى الذي نجده كذلك عند (جادامر) تلميذ هايدجر؛ إذ إنَّ اللغة لديه ليست مُجرَّد رسم للواقع، إنّما هي حالة وجودّية تشتمل على الوقائع التجريبية وتتجاوزها في الوقت ذاته، لكونها وسطاً حيوياً نعيش فيه ونتنفس به[19]، فهي بهذا المعنى الحدث الماهويّ الذي يكسبنا ملامحنا وأساليبَ وجودنا، ويُمكِّننا من الانفتاح على المجهول. ولو أنَّ ماهيَّتنا لم تكُنْ “تتضمَّن القدرة على اللُّغة، لكان كُلُّ وجود مُنغلقاً أمامَنا، بما فيه وجودُنا نفسه. فلولا اللُّغة لمَا أمكَنَ أن يكون، ولا أمكن أن يوجد بأي أسلوب يُمكِن أن نتخيّله”[20].

وبناءً على هذا الفهم، أقولُ إنَّهُ “حيثُ توجَد لغة يوجد عالم”[21]، وإنَّ هذا العالَم اللُّغويّ هو المكان الذي تنفتح فيه أساليب وجود الحياة، و“تأتي ضمنَهُ الذّات للإجابة عن السؤال عن ماهية الوجود”[22]،حيث أصبح الوجود يُفهَم “وفقَ تأسيسه باللغة”[23]؛ أي بقيام اللغة بتلكَ “الوظائف التي كانت تُعزَى من قبل إلى الوجود ذاته”[24]، فمقاربة العالَم على هذا النَّحو هي حكماً مقاربة للغة التي تفتحه[25]؛ أي بما هو عالم التَّغيُّر والعَمل والقرارات والمشروعات وكُلّ الكيفيّات الوجوديّة المُتنوِّعة، ومن ثمَّ فإنَّهُ حيثُ يوجد عالم، يوجد تاريخ[26].

وبنقل هذا الفَهم النّاهِض على تجذُّر الوجود في اللُّغة بوصفِها عالَماً، أُعيِّنُ الأساس الأوَّليّ لدراسة الانزياحات المُفترَضة التي أحدَثتها العولمة في نصوص الكتابة الإبداعيّة اجتماعيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً وتقنيّاً، حيثُ أنقلُ هذِهِ الرُّؤية إلى فضاءات تلكَ النُّصوص،  فإذا كان وجود اللغة يعني وجوداً لعالَم ما، فإنَّه من الطَّبيعيّ أن يستقدِمَ العملُ الكتابيّ الإبداعيّ عالَماً[27]؛ ذلكَ أنَّ جادامر يعتقد أنَّ “جوهر واقعة الحقيقة التي تَحْضُرُ في العَمَل الفنيّ هو أنَّها تَنفتِحُ على مجال مفتوح”[28]، وهذا المجال الذي يدلّ عليه العَمَل الفنيّ هو ما يُسمِّيه بِـ “الزِّيادة في الوجود” [29].

وهذا يُعيدنا إلى هايدجر الذي يرى أنَّ النَّصَّ الأدبيَّ ليس تعبيراً عن حقيقة داخليّة لِلمُبدِع، إنّما هو تجرِبة وجوديّة. وكما أنَّ اللُّغة ليسَتْ ذاتيَّة ولا موضوعيّة، فكذلكَ النَّصّ الأدبيّ ليسَ ذاتيّاً ولا موضوعيّاً، بل هو تجرِبة وجوديّة تتجاوّزُ الذَّاتيّة والموضوعيّة[30].

إنَّ “شيءَ النَّصّ اللاّمحدود” كما يدعوه ريكور هُوَ العالَم المبسوط أمامَ النَّصّ؛ أي بِوصفِهِ ذلك الانفتاح المُتعلِّق بِالامكانيّات الجديدة النّابعة من قُدرتِهِ على أن يقذفَ نَفسَهُ خارِجَ ذاتِهِ ويُوَلِّد عالَماً[31]. فالنَّصّ يؤسِّس لدى ريكور“مرجعيته الخاصّة الكامِنة في ذاتِهِ والمُتمثِّلة في عالّمِهِ الذي يُحيلُ إليه أو أفعاله التي يُنتجها وتُعبِّرُ عن نشاطِهِ ووظيفتِهِ. مثلما أنَّ النَّصّ يُحرِّر دلالتَه من وصاية القصديّة المُتعالية بِاستقلالِهِ عن مؤلِّفه، كذلكَ يُحرِّرُ أيضاً مرجعيَّتَهُ من المرجعيّة المُباشرة، بِاستقلالِهِ عن العالَم الخارجيّ. وهُنا يكمُنُ شرطُ إمكان الفهم، لأنَّ ما هو مُعطى لِلفهم ليسَ قصديّة المُؤلِّف أو الواقِع الخارجيّ، وإنَّما العالَم المُمكِن الذي يفتتحُهُ النَّصّ”[32]. وبناءً على ذلك فإنَّ العَمَلَ الفنِّيَّ “يفتتِحُ وُجودَ الموجود بِطريقتِهِ”[33]؛ أي يفتتِحُ عالَماً “لَمْ يُوجَدْ على هذا النَّحو قطّ”[34]، فَفعلُ “إقامة الحقيقة لنفسها في العَمَل هو إنتاج موجود من هذا النَّوع، لم يكن مِنْ قَبْل”[35]؛ إذ إنَّ النَّصّ الكتابيّ وإِنْ كان يُشير إلى عالَم سابِق عليه، لكنَّهُ ليسَ مُتًّجِهاً نحو الخارِج بفعل العلامات، كما أنَّهُ ليسَ مُؤسَّساً على بِنية موضوعيّة تُغْلِقُهُ على ذاتِهِ، إنَّما هو يُعرَضُ في وُجودِهِ الخاصّ، دافِعاً المُتلقّي للِتَّأمُّل فيه[36].

لعلَّ استقلال نصوص الكتابة الإبداعيّة عن قصديّة مُؤلِّفِها من جانبٍ أوَّل، وعن العالَم الخارجيّ من جانبٍ ثانٍ، لا تعني الانغلاق الحدِّيّ والقطيعة التّامّة عن هاتين المرجعيتين؛ إنَّما تعني الاستقلاليّة النِّسبيّة التي تمنَحُ النُّصوص الكتابيّة صفة (العالَم) الخاصّ بها، والذي ينزاح في أساليب وجودِهِ الخاصّة (قليلاً أو كثيراً) عن قصديّة المُؤلِّف وعالَمِهِ الخارجيّ، ذلكَ أنَّ مفهوم التَّأويل الأنطولوجيّ للانزياح في عوالِم الكتابة الإبداعيّة ولا سيما في عصر العولمة ينبغي _ كما أظنّ _ أنْ يتجاوَز تلكِ النَّظرة الضَّيقِّة التي ترى أنَّ النُّصوص موضوعات مُنعكسة، أو بنى لغويّة مُجرَّدة؛ إنَّما هي عوالِم لها (ماهيّاتها) العيانيّة المُختلِفة، التي لا تُعيَّن مُسَبَّقاً، إنَّما تبعاً لأساليبِ وجودٍ تَفْتَحُ النَّصّ الكتابيّ الإبداعيّ على أبعادِهِ الوجودية المُمكِنة، بما هوَ في اعتقادي (بُؤَرة جدّليَة) تمنح “إمكانية التَّوتُّر والصِّراع بينَ الظاهِر والخفيّ، بينَ الظَّلام والنُّور، بينَ المقول والّلامقول”[37]، حاملةً في مُنبسَطِها كُلّ سِمات العالَم؛ ذلكَ أنّها تنطوي على كلّ ما هو موجود من أشياء، وعلى كُلّ ما يُشكِّل البيئة البشريّة أو الميدان Setting الذي تُعاش فيه الحياة البشريّة[38]. فعالَم النَّصّ ميدانٌ بصريٌّ مفتوح لِلاهتمام concern بِوصْفِ هذا المُصطلح يدُلُّ على العلاقة المُعقَّدة التي يُشير إليها حرف الجرّ (في) في عبارة (الوجود في العالم)؛ إذ تشمل بصفة عامّة الطُّرقَ التي لا نهاية لها التي تصطدم بها مصالح الإنسان مع الموجودات المحيطة من حوله، مُتفاعلاً معها تبعاً لفعاليّات الاهتمام الإيجابيّة أو السَّلبيّة، ولاسيما تلك النَّشاطات المُتَّصلة بِتسخير البيئة المُحيطة لِخدمته، من تعامل واستخدام وطعام وشراب وبناء وصناعة وزراعة وتنقُّل وتدمير وعُدوان وإزالة عقبات[39]، وغير ذلك من الأفعال التي لا تنفصل بِحالٍ من الأحوال عن وجود الإنسان مع الآخرين، بِوصفِهِ عُنصراً أساسيّاً من عناصر الوجود البشريّ في العالَم اليوميّ الذي يقتضي دُخول عدد غير محدود من الناس في علاقات وأعمال مُتشابِكة ومُتبادَلة[40].

ففي نصوص الكتابة الإبداعيّة “يوجد أُناس يعملون، أو يتألَّمون، وأكثر من هذا، تُعَدُّ النُّصوص ذاتها أفعالاً”[41]، وفي هذا المنحى يُطوِّر هايدجر“القصديّةَ إلى قصديّة في مجال الفعل، وإلى دلالة حقيقيّة لِفكرة العالَم المَعيش”[42]. فحركيّة عالَم النَّصّ تعني أنَّ “العَمَل الإبداعيّ فعلٌ معيش”[43]، وعندما نتَّجه إلى دراستِهِ وفقَ التَّأويل الأنطولوجيّ للانزياح، ينبغي أنْ نُطبِّق قاعدة إدموند هُسِّرل الأشهر في فلسفتِه (الظاهراتيّة Phemonenology)، والتي تقول بِـ “قصديّة الاتّجاه إلى الأشياء ذاتِها”[44] كما تنفتِح أمامَنا.

وعلى الرَّغم من أنَّ هُسِّرل كانَ يُريد عبرَ قصديتِهِ مُجاوَزة وَحدة الذّات المُتعاليّة، باتّخاذ العالمَ المَعيش موضوعاً للتّأمُّل؛ إذ اكتشف “بدلاً من الذات المثاليّة المنغلقة داخل مجالها الخاصّ بالمعنى، كائناً حيّاً لهُ عالم”[45]، مُركِّزاً انتباهه “على الحقائق البسيطة للعالَم المعيش، من قبيل: إنّني لي بدن، وإنّني أحيا في جماعة مُشترَكة، وإنَّ العالَم يوجد…إلخ”[46]. وبهذا المعنى اهتَّم ببناء التجربة المعيشة بوصفها اللقاء الأول بين الوعي والعالَم[47]، غير أنَّ محاولة هسرل لإخراج الذات من قوقعتها قد انتكستْ عندما قادته آليّاته القصديّة المنهجيّة “إلى وعي متعالٍ لا يرى للعالَم أي وجود متعالٍ على الذات”[48]، وهيَ المسألةُ التي انتهت بالظاهراتية إلى شكل من المثالية المُتطرِّفة التي أحالت الكون إلى أفكار ومضمون باطنّي للوعي[49].

لقد انطلق هايدجر، تلميذ هُسِّرل اللَّدود، من هذه الإشكالية تحديداً، رافضاً أن نردّ الأشياء إلى الأنا الخالص[50]؛ فننظر إلى العالَم من قمّة جبل، في حين أنَّنا مندمجون أصلاً بموضوع شُعورنا[51]، لينتقل بفكرة القصديّة من قصديّة الوعي Intentionality of consciousness إلى قصديّة الوجود الإنسانيّ Intentionality of Being  بوصفه مُتَّجهاً نحو العالَم، ومفتوحاً على الوجود[52].

وعلى هذا النَّحو، طوَّرَ هايدجر فكرة القصديّة، ناقلاً مركز ثقل الذات من الوعي إلى الوجود[53]، مُتجاوِزاً بذلك مثاليّة هُسِّرل المُتعالية التي اختزلتِ الوجود داخل حدود قصديّة الوعي نفسه، نحو علم للوجود يسعى إلى اختزال الوعي نفسه، إلى جانب فهم الوجود الإنسانيّ، والموجودات، داخل حدود قصديّة الوجود[54]. فماهيّة ظواهر الوجود الإنسانيّ هيَ بنظره على صلة عميقة بظواهر الوجود ذاته[55]، وما يُظهِر الظاهرة نفسها هو حقيقة الوجود الذي نتَّجه إليه[56]، بالشّكل الذي يكشف عن نفسه في عالَم الخبرة المعيشة[57]. وهيَ المسألة التي تسمح للظاهرة بإظهار ذاتِها بأساليب عديدة أحياناً[58]، ذلكَ لأنَّ معناها قد تغيَّر مع هايدجر من (مقولة – إدراك) إلى (طريقة – وجود)[59]

وهكذا، تُصبح رُؤيتُنا المَنهجيّة للانزياح بوصفِهِ تأويلاً أُنطولوجيّاً ناهِضةً على مُستويين:

1_ النَّظَر إلى نصوص الكتابة الإبداعيّة على أنَّها (عَوالِم)، تنبسِطُ فيها أساليب الوجود (طرُق الوجود) المُتنوِّعة بما هيَ (أي هذِهِ العَوالِم) ميادين اهتمام وحياة وصراع.

2_ النَّظَر إلى آليّات دراسة هذِهِ النُّصوص في عصر العولمة عبرَ قصديّة الاتّجاه إليها كما تنفتِح أمام الدّارِس؛ أي بما هيَ قصديّة وجود تتَّجه نحْوَ عَوالِم نصوص الكتابة الإبداعيّة لتحليل (أساليب الوجود) فيها كما تنبسط أمامَنا، وهو الفَهم الذي يستفيد جوهريّاً من اعتقاد ريكور أنَّ الجُملة تُمثِّل وَحدة الخطاب الأساسيّة لكونِها وَحدة الحدَث الفِعليّ الذي لا يُمكِن أنْ تحقِّقه العلامة اللِّسانيّة؛ أي الكلمة المُفردة[60]. وهذا ما يدعوه (علم الجُملة) التي هي كُلٌّ غير قابل للتجزئة إلى كلمات بما هي معنيّة بمفهوم المعنى (الفحوى Sense)[61].

يتبع… 


[1] يُنظَر: محمَّد طواع: هايدجر والميتافيزيقا _ مُقارَبة تُربة التَّأويل التِّقنيّ للفكر (الدار البيضاء _ المغرب: أفريقيا الشَّرق، 2002) 137 _ 138.

[2] يُنظَر: المرجع السّابق، 61، 137 _ 138. ويُنظَر: سعيد توفيق: في ماهيّة اللُّغة وفلسفة التَّأويل (بيروت _ لبنان: مجد المُؤسَّسة الجامعيّة للدِّراسات والنَّشر والتَّوزيع، ط1، 1423 هـ _ 2002 م) 145 _ 146. ويُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجماليّة _ دراسة في فلسفة الجمال الظّاهراتيّة (بيروت _ لبنان: المُؤسَّسة الجامعيّة للدِّراسات والنَّشر والتَّوزيع، ط1، 1992) 127.

[3] يُنظَر: عمارة ناصر: اللُّغة والتَّأويل _ مُقارَبات في الهرمينوطيقا الغربيّة والتَّأويل العربيّ الإسلاميّ (الجزائر العاصمة _ الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت _ لبنان: دار الفارابي _ الدار العربيّة للعلوم ناشرون، ط1، 1428 هـ _ 2007 م) 15.

[4] يُنظَر: المرجع السّابق، 71. ويُنظَر: بول ريكور: من النَّصّ إلى الفعل _ أبحاث التَّأويل، ترجمة: محمَّد برادة وحسّان بورقيّة (القاهرة _ مصر: عين للدراسات والبُحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة، ط1، 2001) 69.

[5] يُنظَر: عمارة ناصر: اللُّغة والتَّأويل، 71.

[6] مارتن هايدجر: أصل العمل الفنِّيّ، ترجمة: أبو العيد دودو (كولونيا _ ألمانيا: منشورات الجمل، ط1، 2003) 10، من مُقدِّمة المُترجم.

[7] يُنظَر: فؤاد كامل عبد العزيز: فلاسفة وجوديّون (القاهرة _ مصر: الدار القوميّة للطِّباعة والنَّشر، ط ]د.ت[) 7.

[8] يُنظَر: فتحي المسكيني: نقد العقل التَّأويليّ _ أو فلسفة الإله الأخير _ مارتن هايدجر _ من الأنطولوجيا الأساسيّة إلى تاريخ الوجود _ 1919 _ 1944 (بيروت _ لبنان: مركز الإنماء القوميّ، ط1، 2005) 9.

[9] المرجع السّابق، 37.

[10] يُنظَر: عبد السَّلام بنعبد العالي: أسس الفكر الفلسفيّ المُعاصِر _ مُجاوَزة الميتافيزيقا (الدار البيضاء _ المغرب: دار توبقال _ ضمن سلسلة المعرفة الثَّقافيّة، ط2، 2000) 39 _ 59.

[11] يُنظَر: ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع الصَّفدي وآخرون (بيروت _ لبنان: مركز الإنماء القوميّ _ مشروع مطاع الصَّفدي للينابيع، 1989 _ 1990) 9، من مقدمة المُترجِم.

[12] يُنظَر: محمَّد طواع: هايدجر والميتافيزيقا، 36، 58.

[13] يُنظَر: ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، 9، من مقدمة المُترجِم. ويُنظَر: سعيد توفيق: في ماهيّة اللُّغة وفلسفة التَّأويل، 18.

[14] يُنظَر: محمَّد طواع: هايدجر والميتافيزيقا، 71.

[15] د. سعيد توفيق: ماهيّة اللغة وفلسفة التأويل، 61.

[16] يُنظَر: عادل ضاهر: الشعر والوجود _ دراسة فلسفيّة في شعر أدونيس (دمشق _ سوريّة: دار المدى للثَّقافة والنشر، ط1، 2000) 271-273. ويُنظَر: إبراهيم أحمد: إشكالية الوجود والتقنية عند مارتن هايدجر، (الجزائر العاصمة _ الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت _ لبنان: الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 1427 هـ _ 2006 م) 86.

[17]عادل مصطفى: فهم الفهم _ مدخل إلى الهرمينوطيقا _ نظَريّة التَّأويل من أفلاطون إلى جادامر (القاهرة _ مصر: رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2007) 232.

[18] يُنظَر: تيري إيغلتون: نظريّة الأدب _ مدخل، ترجمة: ثائر ديب (دمشق _ سوريّة: دار المدى للثَّقافة والنَّشر، ط1، 2006) 107.

[19]يُنظَر: ماهر عبد المحسن حسن: جادامر _ مفهوم الوعي الجماليّ في الهرمنيوطيقا الفلسفية (بيروت _ لبنان: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع _ المكتبة الفلسفية _ إشراف: أحمد عبد الحليم عطيّة، 2009) 90، 249.

[20] عادل مصطفى: فهم الفهم، 258 .

[21] سعيد توفيق: في ماهية اللغة وفلسفة التأويل، 130.

[22] فتحي المسكيني: نقد العقل التأويلي، 39.

 [23]إبراهيم أحمد: إشكالية الوجود والتقنية عند مارتن هايدجر، 86 .

[24] جون ماكوري: الوجوديّة، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة: فؤاد زكريا (الكويت: سلسلة عالم المعرفة – سلسلة كتب ثقافية شهرية يُصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 58، ذو الحجّة/مُحرَّم، 1402هـ _ أكتوبر/ تشرين الأول، 1982) 219.

[25] يُنظَر: عمارة ناصر: اللغة والتأويل، 67.

[26] يُنظَر: مارتن هايدجر: هلدرلن وماهيّة الشِّعر، من كتاب “مارتن هايدجر _ في الفلسفة والشِّعر، ترجمة وتقديم: عثمان أمين (القاهرة _ مصر: الدار القوميّة للطِّباعة والنَّشر _ مكتبة نفائس الفلسفة الغربيّة، 1963) 86.

[27]عادل مصطفى: فهم الفهم، 267 .

[28] ماهر عبد المحسن حسن: جادامر _ مفهوم الوعي الجماليّ في الهرمنيوطيقا الفلسفية، 124.

[29] هانز _ جيورج جادامر: تجلّي الجميل ومقالات أخرى، تحرير: روبرت برناسكوني، ترجمة ودراسة وشروح: سعيد توفيق (القاهرة _ مصر: المجلس الأعلى للثقافة _ المشروع القومي للترجمة، 1997) 119.

[30] يُنظَر: محمّد عزّام: اتجاهات التأويل النَّقديّ _ من المكتوب الى المكبوت _ دراسة (دمشق _ سورية: منشورات الهيئة العامّة السّوريّة للكتاب _ وزارة الثَّقافة _ في نظريَّة الأدَب (3)، 2008) 87.

[31] يُنظَر: بول ريكور: من النَّصَ الى الفعل، 25، 96_ 101.

[32] محمّد شوقي الزّين: تأويلات وتفكيكات، _ فصول في الفكر الغربيّ المُعاصِر (الدّار البيضاء _ المغرب _ بيروت _ لبنان: المركز الثَّقافيّ العربيّ، ط1، 2002) 77.

[33] مارتن هايدجر: أصل العمل الفنَّي، 93.

[34] المرجع السّابق، 45، من مدخل هانز _ جيورج جادامر لِهذا الكِتاب.

[35] المرجع السابق، 130.

[36] يُنظَر: سعيد توفيق: في ماهيّة اللُّغة وفلسفة التَّأويل، 134. وينظَر: مارتن هايدجر: أصل العمل الفنِّيّ، 44، من مدخل هانز_ جيورج جادامر لِهذا الكتاب.

[37] المرجع السّابق 111.

[38] يُنظَر: جون ماكوري: الوجوديّة، 112.

[39] يُنظَر: المرجع السّابق 119.

[40] يُنظَر: المرجع السابق، 151.

[41] بول ريكور: من النَّصّ الى الفعل، 4.

[42] سعيد توفيق: الخبرة الجماليّة، 80.

[43] فريد الزّاهي: النَّصّ والجسَد والتَّأويل (الدّار البيضاء _ المغرب: أفريقيا الشَّرق، 2003) 26.

[44] يُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجماليّة، 23. ويُنظَر: تيري إيغلتون: نظريّة الأدب، 96. ويُنظَر: عادل مصطفى: فهم الفهم، 192.

[45] يُنظَر: هشام معافة: التأويلية والفن عند هانز جيورج جادامر (الجزائر العاصمة _ الجزائر، بيروت _ لبنان: منشورات الاختلاف _ الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 1431هـ  _ 2010م) 70.

[46] سعيد توفيق: الخيرة الجماليّة، 45.

 [47]يُنظَر: محمّد شوقي الزين: تأويلات وتفكيكات، 48.

[48] يُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجماليّة، 37.

[49] يُنظَر: عادل مصطفى: فهم الفهم، 207.

[50] يُنظَر: عبد الغفّار مكاوي: نداء الحقيقة _ مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهايدجر “ماهية الحقيقة، نظرية أفلاطون عن الحقيقة، اليثيا: هيراقليطس _ الشذرة السّادسة عشر” (القاهرة _ مصر: دار شرقيّات للنّشر والتّوزيع، ط1، 2002) 63.

[51] يُنظَر: رامان سلون: النظريّة الأدبيّة المُعاصرة، ترجمة: سعيد الغانمي (بيروت _ لبنان، عمان _ الأردن: المؤسسة العربية للدراسات والنشر _ دار فارس للنشر والتوزيع، ط1، 1996) 163.

[52] يُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجمالية، 80، 133. ويُنظَر: عدنان بن ذريل: الفكر الوجودي عبر مصطلحه _ دراسة (دمشق _ سوريّة: منشورات اتّحاد الكُتّاب العرب، 1985) 212.

[53] يُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجمالية، 79-80.

[54] يُنظَر: المرجع السّابق، 325.

[55] يُنظَر: سعيد توفيق: في ماهية اللُّغة وفلسفة التّأويل، 125.

[56] يُنظَر: عبد الغفّار مكاوي: نداء الحقيقة، 63-64.

 [57]يُنظَر: عادل مصطفى: فهم الفهم، 214.

 [58]يُنظَر: سعيد توفيق: الخبرة الجمالية، 81.

[59]يُنظَر: فتحي المسكيني: نقد العقل التأويلي، 76.

[60] يُنظَر: بول ريكور: نظريّة التَّأويل _ الخطاب وفائض المَعنى، ترجمة: سعيد الغانميّ (الدار البيضاء _ المغرب، بيروت _ لبنان: المركز الثَّقافيّ العربيّ، ط1، 2003) 31 – 32.

[61] يُنظَر: المرجع السّابق، 31 _ 33.

غابات سوريا في الزوبعة

غابات سوريا في الزوبعة

     ها هو البردُ يقترب في سوريا، ويشعر الناس مع اقترابه برعب كيانيّ، إذ سينتقلون من أعلى ذروات الحرارة في الصيف إلى أخفضها في الشتاء دون المرور بخريف حقيقيّ بسبب ما يجري من تغيُّرات مُناخيّة، وإذا لم يحضِّروا أنفسهم لمواجهة عواصف الثلج والزمهرير والصقيع، فستكون النتائج كارثيّة، وليس في وسع سكان المدن فعل شيء سوى انتظار حصصهم الشحيحة من مادة المازوت التي لن تكفي أكثر من أيام معدودات، فمن كان منهم مالكاً للمال يمكن أن يشتري المزيد من هذه المادة من السوق السوداء بأسعار مرتفعة جداً؛ أما من لا يملك المال فيجب عليه أن يتدرّب مع عائلته على ارتداء الملابس السميكة ولفِّ الجسم بالأغطية إلى أن ينقضي الشتاء، مُعَرِّضاً نفسه وأطفاله لأمراض من أنواعٍ مختلفة يزيدها هولاً ضعف المناعة بسبب سوء التغذية، علاوة على ما قد تتعرّض له العائلات من اضطرابات نفسيّة، تحديداً النساء والأطفال، بفعل الضائقة الشديدة التي تمر بها البلاد.

     لكن نجد اختلافاً في الموقف من هذه المعاناة بين سكان المدن وسكان الأرياف في سوريا، إذ إنَّ بعض سكان الأرياف أشدّ مراساً في مواجهة صعوبات الحياة في الشتاء من سكان المدن، ويبدو أنَّ بينهم رجالاً احتفظوا بجينات وراثيّة يمكن أن تحوّلهم إلى شخصيات مختلفة في أوقات المحن ليستعيدوا قدرة أسلافهم على مواجهة قسوة الحياة، إذ يخرج الكثير منهم في هذه الأيام إلى الغابات من أجل جمع الحطب، أو قطع الأشجار للحصول على مورد للتدفئة في هذه الظروف العصيبة، وتأمين مخزون يكفيهم الشتاء كلّه، وكأنهم يتحدون الطبيعة من أجل البقاء كما فعل أسلافهم من مئات السنين.

     ويمكن تحليل هذا الوضع من أوجه مختلفة: إذ إنَّ قطع أشجار الغابات من دون أيّ شك يتسبب في الاحتباس الحراريّ وهو ظاهرة مُناخيّة خطيرة تؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وإطلاق غازي ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما بكميات أكثر من المعتاد على نحو يفضي إلى نضوب المياه، كما يؤدي قطع الأشجار وإزالة الحِراج إلى نفوق الحيوانات البريّة، واتّساع رقعة التصحّر، علاوة على اتّجاه السكان على نحو حتميّ إلى الهجرة في المستقبل من مناطقهم بسبب تغيرات سلبية قاسية في العوامل المُناخيّة. ولا بدّ في هذا السياق من التمييز بين الأشخاص الذين يقومون بهذه الأفعال تبعاً لغاياتهم. ذلك أنَّ هناك أشخاصاً امتهنوا مهنة قطع الأشجار وإزالة الحِراج، لاستخدام أخشابها في البناء، او لبيعها كوقود (=فحم أو أخشاب مُقَطَّعة)، كما يمكن أن تتم إزالة الغابات أو البساتين من أجل الحصول على أراض صالحة للبناء من أجل السكن أو إنشاء المصانع أو المشاريع المختلفة، وهذا يجب مواجهته بكلّ الطرق المتاحة من أجل منع البلاد من الاتّجاه نحو الخراب الحقيقيّ.

     بيد أنّه ماذا يمكن نفعل أو نقول لقرويين فقراء يعيشون في أصعب الظروف وأقساها في تاريخ البشريّة، إذا قاموا بقطع الأشجار لتدفئة أطفالهم وشيوخهم ومرضاهم، فهل يمكن لنا أن نقنعهم بنظرياتنا عن الإيكولولوجيا والهيدرولوجيا وعلم الحفظ الحيويّ؟

   لا شك في أنَّ نظرات هؤلاء إلينا ستتحوّل إلى نظرات ازدراء، لأنهم سيتأكدون حينها من أننا سطحيون جدّاً لنقبل فناء الإنسان وبقاء الطبيعة، فما قيمة الطبيعة الخلّابة إذا كانت قبراً كونيّاً لأسمى الكائنات فيها؟

    لقد كان شعار الرواقيين كما كرّسه زعيم مذهبهم زينون الفينيقيّ-السوريّ هو “العيش في وفاق مع الطبيعة”، وهذا يعني أن يقبل الإنسان عن طيب خاطر كلّ ضربات القدَر بالمعنى الواسع؛ لكن شريطة أن يؤدي واجبه كاملاً في مواجهتها حتى لا تفتك به وتزيله من الوجود. وهذا ما يفعله أبناء سوريا في الوقت الراهن، فهم يواجهون القدر بمختلف معانيه، ويجب أن نعرف أنَّ القدَر بالمعنى الرواقيّ مختلف عن القدَر بالمعنى اللاهوتيّ أو الدينيّ. إنّه يعني كلّ ما يصيب الإنسان من مصائب مهما كانت أسبابها، لكن شريطة تقبُّلها ومواجهتها في آن واحد!

     وإذا مزجنا تجربة السوريين الحاليين بتجربة أسلافهم الفينيقيين الذين كان زينون نفسه واحداً منهم، لاكتشفنا أنَّ أشجار غابات فينيقيا لم تُقطع قديماً إلا لصناعة سفن مخرت عباب البحار لإنشاء مستوطنات على مختلف سواحل البحر الأبيض المتوسط، ولنقل أدوات التطور الحضاري وفي مقدمتها الأبجدية الألفبائيّة الصوتيّة إلى اليونان وروما ومنهما إلى سائر أنحاء أوروبا وأجزاء كثيرة من العالم.

     لقد كانت جبال الساحل السوري التي كانت تشمل تاريخيّاً جبال لبنان مغطاة بأعظم الغابات الغنية بالحياة البرية بمختلف أشكالها؛ لكنها الآن مع مجيء عصر العولمة تتحوّل إلى جبال جرداء مقفرة، أو إلى صُقعٍ بَلْقَعٍ على حدّ تعبير العرب القدماء حينما يصفون أرضاً خاوية من كلّ شيء.

    غير أنّه يجب فهم معاناة القرويين في هذه الجبال والتعمُّق في معاناتهم إلى أبعد حدّ ممكن، فقد تعاقبت أجيال عديدة منهم طوال قرون من أجل جعل هذه الجبال صالحةً للحياة الإنسانيّة، ولا يمكن إلا أن يشعر كلّ واحد منهم بألم كبير حينما لا يجد أمامه أي إمكانيّة للمحافظة على حياته وحياة عائلته إلا باللجوء لقطع أشجار لها رمزيّة كبيرة في عقولهم ونفوسهم، وكـأنّي بواحدهم حينما يضطر لقطع إحدى الأشجار يشعر بأنّه يجتثُّ ذاته من جذورها؛ ولكنه لا يفعل ذلك إلا مرغماً، وقد وصل الأمر بأشخاصٍ إلى حدّ قطع أشجار جوز أو مشمش أو زيتون محيطة بمنازلهم ويستفيدون من ثمارها، لأنهم يخشون من هول البرد القادم إليهم، على نحو لا تمكن مقاومته، فيُقدمون على قطع هذه الأشجار بعد إحجام، لكنهم يفعلون ذلك لاعتقادهم أنَّ بقاء أطفالهم أكثر أولويّة من بقاء الأشجار، ولا بدّ أن يأتي يوم في رأي هؤلاء يمكن فيه غرس الأشجار من جديد، أعني غرسها في تربة صالحة، غير هذه التربة الحالية التي أصبحت مَوْحِلاً للفساد الداخليّ والتآمر الخارجيّ بمختلف أشكالهما.

     وينطبق هذا الأمر على مختلف مناطق الغابات في سوريا، سهولاً وهضاباً وجبالاً وسواحل، وأعتقد أنَّ التنوّع الأنثروبولوجي الرائع في الشعب السوري تبعاً لتوزّع السكان في التضاريس المختلفة يحمل غنى إنسانيّاً لا مثيل له في التاريخ، فحتى التنوّع السكانيّ في الولايات المتحدة الأمريكيّة هو في العمق تنوّع مصطنع قائم على اجتماع أو جمع شعوب من مختلف أصقاع الأرض لتكوين أُمّة عالميّة؛ أما في سوريا فالأمر مختلف، فنجد طبيعة مخصوصة حتى على مستوى الشكل والهيئة والملامح واللهجة على نحوٍ يدلّ على غنى إنسانيّ عظيم؛ لكن أين من المشتاق عنقاء مُغْرب؟

     لقد دنَّست هذا التنوّع السوري العظيم العرقيّة والطائفيّة والحزبيّة، لكن رغم كلّ شيء يبقى كلّ سوريّ مشدوداً نحو ما أسماه الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر ببراعة كبيرة “نداء الأصول”. نعم إنَّ صوت النداء يتردّد في سمع كل سوريّ من أجل إعادة خلق سوريا من جديد. ولقد أبدعَ أنطون سعادة حين تحدّث عن أصل القوميّة، فأكّد أنَّ ما يحدّد الانتماء القومي هو “البريَّة”، ويقصد أنَّ البريّة أو أرض الغابات التي شاهدها المرء لأول مرّة في حياته هي التي توحّده مع أشخاص شاهدوا المنظر نفسه، ولا يجب أن يوحّده مع الآخرين، قوميّاً، أي عامل آخر، سواء أكان عرقيّاً، أم دينياً، أم لغويّاً.

    ها هي الآن تُقطع أشجار هذه البريّة السوريّة بعد أن اقتُطعت أجمل أراضيها سابقاً من المحتلين والمستعمرين، بسبب زوبعة مدمِّرة هائلة سحقت بعواصفها الرعديّة ورياحها الثلجيّة وأمطارها الغامرة كلّ شيء؛ لكن أفلاطون قال مرَّةً وبحقّ: “إنَّ كلَّ ما هو عظيم يكمن في الزوبعة”. وأراد من ذلك أنّه لن يبقى بعد الزوبعة إلا الأصيل والجوهري وسيتلاشى كلّ ما هو عرضي وعابر، لذلك مهما حدث ستبقى ماهيّة الشعب السوريّ خالدة، ولم يكن الفينيقيون السوريون القدماء إلا معلّمين لأفلاطون نفسه حينما تحدّثوا عن طائر الفينيق الذي سينبعث من رماده، ولن يتجدد طائر الفينيق وحدَه، بل ستتجدّد معه هذه الغابات ليحلّق فوقها مُطلقاً صيحة الرجوع.

الصديق العابر للقلوب: عن خالد خليفة وحب البلد والأصدقاء

الصديق العابر للقلوب: عن خالد خليفة وحب البلد والأصدقاء

على مدار السنوات الماضية، فقدنا الكثير من الأحباب، الأصدقاء والغرباء أيضاً. حتى اللحظة لم أشعر بغياب أيّ منهم، فهم يأتونني في مناماتي المشربكة جداً، ينسجون وإياي سيناريوهات متقنة لأحداثٍ يلعبون دور البطولة فيها. أستيقظ من النوم ورائحة كل منهم تخز أنفي وتبقى عالقة في مسامات جسدي. في أحد مناماتي، أرسلت إلى صديقي المقرب جداً أخبره بأنني رأيته اليوم ينقذني من رصاصة كانت عالقة في رقبتي، فأخبرته: “تخيل بأنني لم أمت، كنت ُ في إحدى المظاهرات فهاجمنا الرصاص من كل حدب وصوب لتستقر طلقة في رقبتي”. الغريب في الموضوع أنني لم أرَ دمي في المنام، هذا فأل سيء، “الدم يفسد المنام” هكذا كانت والدتي تطمئنني عندما أستيقظ هلعة. إلا أنني في منامي هذا كدت أختنق حتى الموت، وعندما استيقظت شعرت بانحلال في الاعصاب، وخدر في اللسان.. اكتمل يومي وأنا لا أشعر بجسدي، وحتى هذه اللحظة أحس بخدر الموت والطلقة المستقرة في رقبتي ما زالت تخنقني. بحتُ لصديقي بأنه كان المطمئن هذه المرة في المنام وليست أمي! منذ تلك اللحظة التي سمعت فيها رشقات الرصاص تصمُّ أذني وأنا خائفة من خبر يفزعني، فصوت الرصاص في المنام يترجمه الواقع بخبر وفاة، وهذا أيضاً ما باحت به والدتي وهي تضع يدها على فمها لإسكاتي: “يا قلبي لا تخبري أحداً عن أحلامكِ السيئة، فعند رويها على مسامع الآخرين فأنتِ تثبتينها في عالم الحقيقة”.

هكذا إذا يا خالد، أنت من كنت المخصوص بالحلم، وتلبستك ترجمته!

نادمة على سردي لذلك الحلم اللعين، والذي حتى اللحظة لم أستفق منه..

في نفس اليوم الذي رحلت فيه يا خالد كنا نراسل بعضنا البعض في تمام الساعة 1.11، أخبرتني كم أنك مشتاق لنا وأصبحت بالشام، وبعد فترة سوف تذهب إلى دبي لتحصل على الإقامة “التنكية” حسب اصطلاحك، عندها يمكنك القدوم إلى بيروت والبقاء مطولا دون شروط الأمن العام القذرة وتحديدهم لزمن وجودك معنا. تخيل أننا في بلاد لا تعرف قيمة الإنسان ولا تحفظ كرامة الكتاب والعمال والباحثين والهاربين من الموت، في كل يوم يخرجون إلينا بقرار يجعلنا نعود إلى ذاكرة الأفرع الأمنية التي لم نخرج منها أصلاً. أستعيد ذكرى أحد الايام التي أعادوك فيها من مطار رفيق الحريري لأسباب تافهة جداً، عدت مخذولاً ولم تساومهم أو تحاول معهم لأنك على علم بأنهم سيعقدون الأمر أكثر.

تعارفنا لم يكن منذ زمن بعيد، تعرفت عليك في محاضرة مهمة بعنوان “التحولات المعمارية لمدينة دمشق” في حركة البناء الوطني، على الرغم من أننا في وقت سابق لهذه المحاضرة كنا نلتقي كثيرا لحضور العرض السينمائي في المكان نفسه، إلا أنني كنت أخاف أجواء الفن والمثقفين، جئت إلينا، كنت أنا وأحد أصدقائنا، سلمت بيديك المدببتين وكانت تلتصق برقبتك كتلة دهنية، شرعت بفتح حديث سريع ونظرت إلي وسألتني: “أشعر بأنك لا تحبينني”، حينها كدت أموت خجلاً، فأجبتك: “لا الموضوع ليس على هذه الشاكلة ولكنني لا أرتاح لأجوائكم”، وسألته عن الكتلة التي على رقبته فغير الموضوع وفتح آخر..

منذ تلك اللحظة نشأت بيننا صداقة عميقة اختصرت سنيناً طويلة، وبدأت مرحلة جديدة في حياتي التي كانت حينها متجمدة بعد استقالتي من المديرية العامة للآثار والمتاحف. طوال تلك السنين تحمّلت جرمانا التي ضمت أغلى الأرواح على قلبي، ونادي السينما أعباء الوحدة والمنفى داخل البلاد التي نحب

أكثر ما يميز خالد هو ذكاؤه بفتح الأحاديث والمواضيع التي تعني من يجلس معه، ففي بداية صداقتنا جلس يحدثني عن عفرين، وقتها سألني: هل أنتِ من هناك قرأت لك مقال عن آثارها، أجبته بـ”لا، ولكنني من عشاق تلك الجغرافيا”. جرى نقاشٌ مطوّل عن مشاريع مؤجلة توثق تاريخ ذلك المكان وتصف بقاعه وروعة أهله. أتى من أحدثه عن الفطور من تحت سواعد العم أبو إسماعيل وهو يجلب لنا الزيتون المعشق بالزعتر البري والزيت العفريني، وأنا أرتشف مشروبي أخبرته: “من لم يتذوق الزيت والزيتون العفريني خسران كتير”.

برقت عيناه وأخبرني عن فيلم وثائقي كان قد أعده للتلفزيون السوري يتحدث عن تأريخ جغرافي لتلك المنطقة ومقابلات مع سكانها ليتحدثوا هم بأنفسهم عن ضيعهم وجمال الطبيعة المعكوس في طيبة أرواح أهلها.

يميز خالد الكثير من الأشياء، إلا أن أهم خصاله تبسيط الحدث أو القصة ورويها بأسلوبٍ مشوّق وبأرق الكلمات وأبسطها، يجذب من حوله بسوالف لا تنتهي، كنت أعود من جلساتنا المسائية في “القصبجي” مفعمة بالطاقة، المكان الذي يحب والذي تفاجأ جداً بأنني لم أسمع به مسبقاً، أنبني وقال: “أنتِ آثارية ما بصير ما تعرفي مقاهي البلد الأصيلة”. صحيح جداً تأنيبه هذا، فدائما ما تشدقت بأن المقاهي هي ذاكرة البلاد ووثيقتها الأساسية، إلا أنني اكتشفت حينها بأنني أجهل الكثير عن المباني المعمارية الرمزية التي تعد الركن الأهم في الذاكرة الشعبية.. التأنيب الآخر الذي حظيت به من خالد، عندما شاركت بأمسية “حكايا الصور” -الفعالية الأهم على الإطلاق عندما انتهيت من حكايتي، جاء دور خالد في الحديث: “هذه ليست بالقواعد الصحيحة للحكاية أو القصة عليكِ أن تتجردي من التورط بتعريف المحيط بتاريخ البلاد وأهميتها، شطحتي جدا في وصف الآثار والتاريخ، فورطي من حولك ببذل مجهود كبير في التركيز في عتبات الحكاية”.

هذا أيضاً أكثر ما يميز خالد وجوده في كل الأوساط، يشعر بأنه ملزم ومسؤول أمام هذه الفعاليات التي يغيب عنها عادة الروائيون والمثقفون، بينما هو كان يقحم نفسه فيها فنجده دوما بقربنا يقدم النصح والنقد اللاذع دون سماحه لأواصر الصداقة بأن تسرق جزءا من ملاحظاته.

في كل يوم أحد، نأتي إلى النادي السينمائي المكان الذي استقطب إليه جيلاً جديداً، استيقظ على عتبات الحرب وفقدان معاني الحياة الطبيعية، القذائف تشتعل خارجاً ونحن في قبوٍ يعرض موسيقا أفلام الحروب، ولكن بنبرة مخففة لما يجري خارجاً. استطاع النادي السينما أن يركز على عرض الأفلام التي تعرض ويلات الحرب، ولكن بأسلوب خال من الدماء والوحشية، التركيز على ملامح البشر، المعاناة الحقيقة للخارجين منها، كان الجو يلتهب تارة ويشتعل طوراً بمشاهد وحشية وإنسانية تفرزها المجزرة وغريزة البقاء المشبعة بما نعيشه.

رافقنا خالد طوال يوميات السينما، ورافقناه نحن في المشوار المسائي بعد نشاط السينما، حيث تبدأ رحلة الهزل والضحكات العالية التي تنزع صمت المدينة من كبوته، يخلع في مكاننا-في شارع بغداد سابقاً، والقصاع لاحقاً جديته ليرتدي ثوبا مزركشاً بالرقص وإلقاء الخطب على الجمهور.

عندما قرأت رواية “لم يصلِ عليهم أحد” أرسلت له ملف word يحوي رأيي بالرواية، احتوى الملف الكثير من الأشياء التي احببتها والقليل القليل من التفاصيل التي لم أستسغها، فأخبرني حينها “ختومة بدك حطها على صفحتي أو تنشريها بشي مكان”، أخبرته بأنني أفضل أن يبقى الأمر بيننا، فأنا لا أعرف التحدث على العام بشأن من أحب.

عند انتقالي إلى بيروت لم ينقطع تواصلنا مطلقاً، يفتح أسبوعيا تقريباً فيديو للسهرات ويخبرني بأنهم يفتقدونني ويدير الموبايل على المجموعة التي أحب.. لا أقوى على كل هذا الحب..

محظوظون بأن خالد كان قبل كل رحلة إلى الخارج يأتي إلينا، ويبقى ليلة أو ليلتين، كنا نشعر بالامتنان كوننا محطته التي تجعلنا نراه ولو قليلاً، يأتي محمّلاً بأخبار من نحب ورائحتهم التي تزكي بيتنا، فنبقى أياماً وليالي نستحضر أحاديثه ونضحك من قلبنا، فخالد لا يعرف سرد المأساة بحذافيرها، بل يضفي عليها خلطته الساخرة وضحكاته التي تخفي شرح عينيه المشعتين حتى وهما مغلقتان. وكان لنا نفس الجمعات عندما يحين موعد عودته من الخارج يأتي وفي جعبته العديد من السرديات والحكايات المضحكة والمضحكة حتى التخمة. استمرت إحدى حكاياته تدور في الأرجاء وتنتشر زمناً كاملاً، والتي تروي تفاصيل مترجمته التي صدم عندما اكتشف بأنها السيدة الأولى، ليخبرها ماذا تفعل سيدتنا الأولى في بلدنا.

تاريخ كامل سيطوى بالنسبة لي برحيل خالد، فقط لأنه يعرف كيف يحب، لقد أتقن فعل الحب بشكله العميق والمباشر، احتفى بأصدقائه جل الاحتفاء، في إحدى زياراتنا مع أحباب قلبي إلى شاليه خالد، أخبرني بأنه يريد أن يجعل من غرفة الأصدقاء أجمل من غرفته.. “هم أغلى ما يوجد لدي”، لن أنسى مقدار الدلال الذي حظينا به ثلاثتنا في شاليه “الندم” حسب تسميته.

مرت سنوات الحرب وكان مرورها قاسياً جداً، أنعش الأصدقاء الأغلى من الروح يومياتها وصعوباتها التي كانت تأتينا بحلة مختلفة عن السابقة لنا، تعرقل أنفاسنا فنعجز عن مجابهتها فنهرب إلى باحة القلوب المتعبة إلا أنها الأجدر بالمواساة وامتصاص فعل الغصة والحرقة. خسرنا الكثير من الأحبة وكنا نتجاوز الفاجعة بسهراتنا وجمعاتنا الغالية. لم أنعِ رحيلهم يوماً باستثناء رحيل واحد منهم، شكّل رحيله نقطة انعطاف في حياتي. بتّ على يقين بأن من يرحل يأخذ جزءا من قلوبنا، لا يتركها وحيدة يسكن بقاعا داكنة، فيأتي إلينا في أحلامنا ليخبرنا بأنه معشش في منزله الملون بذكرياتنا معاً

حرقة كبيرة هذا الفقد.. إلا أنه فقدٌ غريبٌ من نوعه، فمنذ خبر الوفاة وأنا لا أتقن إلا فتح ملفات الصور والبحث عن يومياتنا وضحكاتنا، فأعيد فعل الضحك كما لو أنني أعيش المشهد ذاته، وهذا ما يتميز به خالد أيضاً يجبرنا على الضحك حتى في أقسى اللحظات.

لم أتوانَ يوماً عن الإفصاح عن مشاعري تجاه أصدقائي، فهم أغلى الموجودات في هذه الحياة البائسة، وجودهم أضفى جمالاً لا يحظى به أي إنسان، ولطالما أخبرت من حولي بأن الحياة جبرت بخاطري بأنها كللتني بأصدقاء هم ليسوا بالأصدقاء هم الحياة بكل تفاصيلها، والروح ترخص لهم. وهذا ما كنت أبوح به لخالد دوماً، أخبره كم أحبه وكم وجوده جميل في هذه الحياة، كان يخجل ويرد بابتسامة تلتصق بخدين محمرين، فأقول مستهجنة: “لااا آخر ما أتوقعه بأنك تملك حس الخجل، غريب هذا الفعل عنك”.

فيعود لطبيعته ويخبرني: “ختومة وأنا بحبك وأنتوا أكتر شي بحبه وبحتفي فيه”.

نهايةً لا أعلم إن كان لزاماً علي أن أذكر بأن هناك أمانة تثقل كاهلي “مخطوط روايتك” المقبل الذي كنا سنفرد اتصالاً طويلاً لأجله، لقد تركت لدي هذا الأثر الذي لازال ينبض وفي طور الخلق، ماذا سأفعل به الآن!

*الصورة من تصوير أحمد حسن.