خالد خليفة حارس الذاكرة

 خالد خليفة حارس الذاكرة

مات خالد خليفة، الروائي الذي تمكن من تحويل قرائه وربما كل من عرفه أو تعرف عليه من البقّال وعامل محطة البنزين وحتى أعتى نقاده إلى أصدقاء. خذله قلبه المطرز بعدة شبكات طبية لتحمي قلبه من التوقف، اعتاد  بجرأة وتوق كبير للعيش على إجراء القسطرة القلبية واعتبرها  إجراءً روتينياً لا يستحق حتى التوجس منه، قالها ضاحكا وهازئا من الخوف من توقف القلب، إنها نصف ساعة تحت المراقبة، أخرج بعدها معافى ومطمئناً كأي زيارة روتينية لطبيب القلبية. صارت شبكات الحماية ضيفة ودودة كقلبه، تستقر جيداً كي يعتمر قلب خالد بالحب وبمزيد من الحياة والأصدقاء. درّب خالد قلبه على الاستزادة اليومية من الأصدقاء عدداً وحضوراً، كي يحمي قلبه وقلوبهم بفرط المودة باذلاً دوماً كل جهوده الدافئة لمزيد من الكسب، وربما لم يحتج يوماً لتدريب هذا القلب الجميل، لأن الحب فطرة لدية والمودة سلوك يومي.

والكسب عند خالد خليفة موهبة مرتبطة بالسخاء المفرط، يقف خالد لساعات طويلة ليدرب أفراداً راغبين بتعلم الكتابة، من فرط سخائه لم يشكك يوماً بموهبة أحد، اعتمد نظرية الجلوس إلى الطاولة وعممها على كل متدربيه. ترك لهم فرصة الكتابة وكأنها مهنة يومية تليق بحيواتهم مهما كانوا مغمورين أو غير موهوبين، بل وترك لهم قرار الاستمرار بالكتابة من عدمه. علّمهم كيف يقرأون نصوصهم وكيف يحفزون آذانهم لالتقاط الجمال أولاً والضعف ثانياً، كان التشجيع ديدنه، لا تخافوا من الكتابة، مزقوا كل ما لا يقنعكم أو يعجبكم، لا تخافوا الموهبة ولادة وتستجر نفسها بخفة ورشاقة. لطالما استخدم الروائي خالد خليفة وصف الرشاقة والخفة في تدريباته ليمنح المتدربين آلية ذكية لاختبار منتجهم، كان يمنحهم بسخاء بالغ تلك الفرصة للتعرف إلى الفرق بين الخفة المحببة والمنتجة للدهشة في النص وما بين الخفة التي تضعف النص وتفقده كل مكونات التداول أو القبول.

كلنا نعرف بيته في مساكن برزة والمطل على دمشق لدرجة أن حارات دمشق القديمة والجامع الأموي تحت مرمى نظر جميع من دخل أو سكن هذا البيت، إنه عين على دمشق التي عشقها خالد. عاد إلى بيته من اللاذقية حيث يملك شاليهاً خاصاً يعرفه غالبية الأصدقاء، كلهم لهم ذكريات هناك، كلهم يعتبرون أنفسهم أصحاب البيت والشاليه، مفاتيح بيته والشاليه موزعة على أشخاص في كافة أصقاع الأرض، وحين يدعو خالد أحدهم يرفق الدعوة بمفتاح ويردد: افتح وادخل! إنها تعويذة الحب السخي أو السخاء في الحب! عاد ليموت في دمشق وعيناه على دمشق، بيته الذي كلما غادر سوريا أحبه وتعلق فيه أكثر، وكلما عاد إليه سعى لتحسين شروط الحياة فيه كي يبقى في دمشق أكثر وأكثر. بعد عودته الأخيرة من سويسرا، غيّر ثلاجته لتتسع للمزيد من المؤن ولتحفظ الطعام بصورة أفضل، لجأ إلى تركيب شبكة كبيرة للطاقة الشمسية، خالد يبذل حبه عبر دعوات الأصدقاء إلى الطعام، اشترى الكثير من البرغل وجفف البندورة، لأن البقاء هنا يستدعي الكثير من الدعوات والكثير من المؤن. عاد مشتاقاً بشدة، عاد ليجدد عهد الحياة مع الحياة ومع دمشق، لكنه مات وأكياس الباذنجان والفليفلة معلقة فوق رأسه المسجى على أرضية مطبخه، فقد كان يوم وفاته موعده مع تحضير مونة المكدوس.

في مقالاته الأخيرة لـ(المجلة) كتب خالد خليفة عن الفريكة والبرغل، عن عادات أهله في التموين، استحضر التاريخ الماضي والروائح وطرائق التحضير وصور أمه وشقيقاته ونساء العائلة وهن يطهين البرغل أو يحضرن الفريكة من قمح أراضيهم، كان وهو يكتب مفعماً بحضورهن، لدرجة أنه استعاد حرفياً رائحة التراب وحفيف القدور الكبيرة ونكهة السمن العربي.

خالد خليفة هو الشخص الوحيد الذي صرّح للجميع أنه قد اختار أن يصبح كاتباً، قال هذا لأهله وهو في السادسة عشرة من عمره، قالها وفعلها رغم أنه في البداية لم يكن يعرف أو يتخيل الطريق ليصبح روائياً عظيماً وكاتباً ناضجاً، مشاكساً لكنه حازم، نبيل لكنه نزق وشتّام ذكي وشرس وإن عبر الكتابة، وربما عبر نقض الصورة وهدم جدران اللغة الصماء.

درس وحاز على شهادة الحقوق كرمى لعيني أمه، قصة نجاحه في الثانوية تحولت لعتبة من الإنجاز ويتم تداولها وكأنها قرار يسهل تحققه فقط لأن خالد أصرّ على الهدية وأصرّ على تكريم والدته بشهادة جامعية، وانصرف بعدها ليعيش قراره، ليدون أو يرسم أو يصوغ بعناية فائقة ما بدا باهتاً أو عادياً جداً، لكنه تحول بين يديه لمنجز ينتمي لخالد الروائي وينتمي لنا كلنا، وربما نحن من ينتمي للرواية كفعل حياة أو كفعل تدرب على العيش وتبادل المودة مع خالد الروائي ومع خالد الإنسان ومع الشخصيات والوقائع والصور كلها.

 في سهرتنا الأخيرة قبل أسبوعين، رقص خالد كما لم يرقص من قبل، فرحنا به وكأننا نشاركه الرقص، شاكس وتلاعب بإعجابنا لدرجة أننا كنا نطلب منه المزيد، استفرد وحيداً في الساحة الضيقة لمطعم بسيط مازال يجمع أصدقاء وكتاباً وشعراء وفنانين، لكننا كنا جميعاً معه في تلك المساحة الضيقة نرقص ونحن جالسون، ونهلل ونضحك لليل دمشقي أصرّ رواده على البقاء في دمشق مهما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، لكن هل لي بأن أعلمكم بأن ذاك المطعم الصغير قد أغلق أبوابه قبل يومين من وفاة خالد، في دمشق تكثر المواعيد مع الرحيل دون أن نعترف بأن المدينة تضيق وتضيق، نحن لا نريد الاعتراف بذلك تماما مثل خالد، رحل خالد وعينه على دمشق، وكان القرار بأن يدفن في دمشق تكريماً له ولها، دفقة فائضة أو لازمة من الحب من قلب لم تسعفه الشبكات الطبية الكثيرة بالبقاء ليحرس المزيد من ليالي دمشق وأهلها وحكاياتهم ورواياته المخطط لها لكنها لم تكتب بعد.
 ها هو الآن، خالد خليفة الروائي والسيناريست والفنان الذي أهدانا جميعا لوحات رسمها بمتعة وفرح، يرقد في عليائه وفي علياء دمشق في مقبرة التغالبة في حي المهاجرين، يحرس ليل دمشق وأسرار أهلها، سيكتب من هناك رسائل لها، تفوح منها رائحة البرغل والفريكة، أناشيد الأمهات والشقيقات والعمات والخالات والأصدقاء والصديقات وكل الحالمين أو العابرين لانكسارات الأحلام وأسماء الأماكن العصية على الوصول إليها كقريته الغالية والبعيدة عنه كما هو بعيد عنها وعنا.

لا عزاء في كل هذا الرحيل الموجع، لا الكتابة تنهض دون فرسانها ولا الروايات قادرة على كتابة نفسها دونما رواة قرروا الكتابة كفعل من أجل البقاء أو لإحياء المدن والبلدان.

 لمن تركت الرواية يا خالد؟ لمن تركت دمشق وضيقها وليلها ونهارها، وأصدقاءك وقراءك وكل السعداء بأنهم عرفوك ولو لمرة، مرة واحدة لكنها كانت كافية ليقولوا: نعم نحن نعرفه! إنه صديقنا ونحبه. مات صديق الجميع، يا لهول هذا الفقد، مات وزرع في قلوبنا قبراً جديداً.

شيعناه اليوم، قالوا إنها جنازة كبيرة، تساءل الجميع عن هويته، صفقنا له ما استطعنا وكأننا ندعوه للنهوض علّه يستجيب، تركناه هناك يشرف على دمشق، لم يلّوح لنا وداعاً، لكننا لوحنا له كي يرى أننا كنا هنا من أجله، كلنا بكاه وناداه، لم يجب، يبدو أنه يحضر لرواية جديدة يرد فيها على كل نداءاتنا الملتاعة، نحن ننتظر يا خالد، من الصعب جدا أن نسلّم بهذه الخسارة التي أبكت حجر دمشق وقلبها كما أبكتنا.

اقتراحٌ نقديٌّ في تأسيس مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح: المَنهج (الأنطو/ ثقافيّ) 1 من 3

اقتراحٌ نقديٌّ في تأسيس مَنهج التَّأويل (الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ) للانزياح: المَنهج (الأنطو/ ثقافيّ) 1 من 3

مازن أكثم سليمان  

بدأ اهتمامي[1] بالنَّظَريَّات النَّقديَّة المُعاصِرَة في المرحلة الجامعيَّة الأُولى من دراستي في كلِّيَّة الآداب، وظلَّ الاطِّلاعُ على تلكَ التَّيَّارات العريضة محكوماً في دبلوم الدِّراسات العليا (قسم الدِّراسات الأدبيَّة) بطبيعةِ توجُّهات الأساتذة، ومُقرَّراتِهِم، ومرجعياتهِم المَعرفيَّة (المُتحزِّبَة) والطَّارِدَة، عند مُعظمهِم، المَناهِجَ المُتَّهمَة بالتَّغريبِ، أو المَوسومة بالإلحاد، أو المُصنَّفة بوصفِها إحدى أدوات تخريب أصالة اللُّغة العربيَّة، وآدابِها، وبوصفِها، كذلكَ، إحدى (الأسلحة الفتَّاكة) لمَحوِ هُوِيَّتنا الثَّقافيَّة والحضاريَّة المُهدَّدَة من قبَل (آخَر) يكمنُ لنا حتَّى بينَ سُطورِ مُؤلَّفاتِهِ وسياقاتِهِ التي قد نجدُ جُذورَ الكثير منها في تُراثنا القديم والغنيّ جدَّاً إلى حُدود النِّسيان في مَواضِعَ كثيرة للأسف الكبير.

على هذا النَّحو الجوهرانيّ المُغلَق، بدا (التَّخندقُ)، وأولويَّاتُ الصِّراع ضمنَ تقابَلاتٍ ثُنائيَّةٍ حدِّيَّة وتفاصُليَّةٍ عمياء (أنا والغيْر) مانِعاً قبْليَّاً لكُلِّ جديدٍ أو طريفٍ أو مُغايِرٍ في مُؤسَّساتٍ (علميَّةٍ وتعليميَّةٍ) دعَوْتُها في إحدى مَقالاتي بـِ (الأكادَمَويَّات)، حيثُ دفعتُ أكثرَ من مرَّةٍ خلالَ عشرينَ عاماً من حياتي بينَ جامعاتٍ سوريَّةٍ ثلاث ثمَنَ هذا المَوقف المَعرفيّ والفكريّ، وهيَ المَسألة التي تحتاجُ إلى مَوضعٍ آخَر للحديث عنها بإسهابٍ وتفصيل.

غيرَ أنَّ التَّحوُّل الجذريّ ظهَرَ عندي بقُوَّة أثناءَ عمَلي على بحث الماجستير المُعنوَن بـِ (الانزياح في الشِّعر الجاهليّ _ المُعلّقات أنموذجاً)، والذي انتظمتْ فيهِ قراءاتي كمَّاً ونوعاً وتوظيفاً للنَّظَريَّة النَّقديَّة المُعاصِرَة، ولمَحمولاتِها/ خلفيَّاتِها الفَلسفيَّة، وهوَ الأمرُ الذي نضُجَ أكثر في بحث الدُّكتوراه المُعنوَن بـِ (مفهوم الذّات وجماليّاتُها بينَ شِعر امرئ القيس وشِعر زُهير بن أبي سُلمى).

لكنَّ مُحصِّلَة هذا الجهد التَّراكُميّ ظهرَتْ لديَّ بجلاءٍ في مَخطوط بحثي المُعنوَن بـِ (انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها)، والذي تقدَّمْتُ بهِ إلى جائزَة الطَّيِّب صالح العالَميَّة للإبداع الكتابيّ، وفازَ بهذِهِ الجائزة (المركز الثَّاني) في دورتِها التَّاسِعة (13 شباط/ فبراير 2019)، وذلكَ في مجال (الدِّراسات النَّقديَّة)، حيثُ قامَتْ هيئة الجائزَة بطباعة هذا البَحث، ونشرِهِ في كتابٍ يحملُ عنوانَ المَخطوط نفسِهِ وفي العام نفسِهِ.  

أُعرضُ، هُنا، اقتراحي المنهجيّ غير المنشور إلكترونيَّاً من قبْل، والذي شغَلَ جزءاً من الفصل الأوَّل في هذا الكتاب، وقد دعوتُهُ بـِ (منهج التَّأويل الأُنطولوجيّ/ الثَّقافيّ للانزياح)، وطبَّقتُهُ على رواية (حارس الفيسبوك) للكاتب المصري (شريف صالح)، وعلى قصَّة (حكاية الرُّوح التَّائهة في أوربّا) للكاتب السُّوريّ (مصطفى تاج الدِّين الموسى)، وعلى قصيدة (اللَّيل الذي يعقبُ نهاية الدِّيكتاتور) للشَّاعر المغربيّ (محمَّد بنميلود).

ويبقى هذا الاقتراح مدخلاً أوَّليَّاً مَفتوحَ الآفاقِ الزَّمنيَّةِ والمَعرفيَّةِ في ضوءِ الطُّموح الكبير بتطويرِهِ وتعميقِهِ نظَريَّاً وإجرائيَّاً، ولا سيما بمَا آملُ أنْ يتقاطَعَ عميقاً مع عمَلي الشِّعريّ والتَّنظيريّ والفكريّ، وبمَا يُواكِبَ مُتطلَّباتِ عصرنا هذا، ومفاهيمِهِ السَّائدَةِ (بغضّ النَّظَر عن مدى تبنِّيها هُنا أو نقدِها هُناك)، كمَفهوم (ما بعدَ الحقيقة) على سبيل التَّمثيل لا الحصر، ذلكَ أنَّ الحاجة إلى تعدُّديَّة منهجيَّة وثيقة الصِّلة جدَليَّاً بالأبعاد (الفنِّيَّة/ الإبداعيَّة) هيَ حاجةٌ مُتقاطِعَةُ جذريَّاً معَ الضَّرورة الإنسانيَّة الماسَّة إلى وُجود تعدُّديَّة سياسيَّة واجتماعيَّة وكيانيَّة في ظلِّ ثورةٍ تقنيَّة ورقميَّة غير مَسبوقة عبرَ التَّاريخ البشريّ.

ولهذا لا يكونُ اقتراحُ هذا المنهج مُرتبِطاً بآليَّات العولمة كمَا انطوى عليهِ كتابي، فحسب؛ إنَّما هوَ منهجٌ قابِلٌ، كمَا أدَّعي وأعتقدُ وأدعو إليهِ، للتَّطبيق على نُصوصٍ مُتنوِّعة، وغيْرِ مَحكومَةٍ بعصرٍ قديمٍ أو جديدٍ، ولا مُقيَّدَةٍ بمُحدِّداتٍ أو مُسَبَّقاتٍ مَعرفيَّةٍ أو نظَريَّةٍ أو أيديولوجيَّةٍ حاكِمَةٍ ومُتحكِّمَةٍ، فالتَّجرِبة والتَّجريب بمَا ينبسِطُ عبرَهُما من اختبارٍ وخبرَةٍ ومُراجَعاتٍ وإضافاتٍ ومُواكَباتٍ عصريَّة هُمَا المحكُّ، وهُمَا المُطوِّرانِ كمَا يُفترَضُ، وهذهِ القضيَّةُ هي إحدى أهمّ مُنطلَقات التَّسويغ (النِّسبيّ) لوَجاهَةِ تقديم هذا الاقتراح/ المشروع، والاستمرار بالاشتغال عليهِ مُستقبَلاً.   

لذلكَ أستعدُّ بعدَ نشرِ هذهِ المادَّة المنهجيَّة النَّظَريَّة، أنْ أنشُرَ موادّ عدَّة مُستقلَّة أُطبِّقُ فيها هذا المنهج على بعضِ النُّصوص الشِّعريَّة والنَّثريَّة العربيَّة القديمة والحديثة، ورُبَّما بعض النُّصوص الأجنبيَّة أيضاً. 

_ الاقتراح المنهجيّ كمَا نشَرْتُهُ في الفصل الأوَّل من الكتاب المذكور[2]:

العولمة، والانزياح في الكتابة الإبداعيّة

 لعلَّ أيَّة دراسة نقديّة تستهدف البَحث في تأثيرات العولمة على الكتابة الإبداعيّة في هذه الحقبة، وتسعى إلى اختبار التَّحوُّلات المُستجدّة اجتماعيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً وتقنيّاً في أجناس هذه الكتابة، تحتاجُ إلى مَنهجٍ نقديٍّ مُتماسِكٍ ومُواكبٍ لتطوُّرات عصر العولمة.

فإذا كانت تأثيرات هذه العولمة المُختلِفة قد أفضت إلى تحوُّلاتٍ مُفترَضة في الكتابة الإبداعيّة، فإنَّ دراسة هذِهِ التُّحوُّلات تبدأ من تعيين المُصطلَح والمَفهوم الذي يُترجِمُ تلكَ التَّحوُّلات عبر مُقارَبة التِّقنيّات النَّصِّيّة، ويُشكِّلُ الأداة المَنهجيّة التي تختبرُ النُّصوص الإبداعيّة إجرائيّاً، ولهذِهِ الأسباب اخترْتُ من ناحيتي مُصطلَح (الانزياح) لأتَّكئَ عليه في دراستي بغيةَ تحقيق السَّبر الدَّقيق لتأثيرات العولمة وتحوُّلاتِها في بَحثٍ عنونتُهُ بِـ (انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها).

اشتُقَّ لفظُ (الإنزياح) في اللُّغة العربيّة من المصدر (زيح)، الذي يعني فِعله (زاح) _ ومطاوعه انزاح _ ذهبَ وتباعَدَ[3]، وتُمثِّلُ هذه المادّة المعجميّة المُقابِل الاصطلاحيّ لمُصطلح (E’cart) الفرنسيّ الأصل، العائد إلى فاليري P. Valery، والمُوظَف بعد ذلك من قبَل النّاقد جان كوهن J. Cohen في كتابه “بنية اللُّغة الشِّعريّة” الصّادر عن دار فلاماريون 1966 في نظريّة بنيويّة تُعَدّ أكمل صياغة لسانيّة ـ بلاغيّة له[4]. إذ حاول عبرَها “تطبيق منهج علميّ _ إحصائيّ على لُغة الشعر، وذلك بغية التَّوصُّل إلى اكتشاف كُنهها، والقبض، إذا كان ذلك ممكناً، على تلك المواصفات السِّحريّة التي تجعل من نصّ ما نصّاً شعريّاً”[5].

إنَّ المُقابل الانكليزيّ لمُصطلح (E’cart) هو المصطلح (Deviation) الموجود أيضاً في اللُّغة الفرنسيّة، وحول هذه المسألة يذهب أحمد محمَّد ويس في كتابه “الانزياح في منظور الدِّراسات الأسلوبيّة” إلى القول: إنَّ “ما يغلُب على هؤلاء الذين استعملوا الانزياح هو اعتمادهم ثقافة فرنسيّة: استقاءً أو ترجمة. على حين مالَ إلى (الانحراف) في الغالب أولئك الذين غلَبتْ عليهم المصادر الإنجليزيّة، فهذه لا تحوي إلا كلمة Deviation، وهي كلمة تناسبها كلمة (الانحراف)، على حين أنّا وجدنا E’cart يُناسبها (الانزياح). وهي كلمة فرنسيّة غير موجودة في الإنجليزيّة”[6]. غيرَ أنَّهُ، على الرَّغم من اختياره لمصطلح (الانزياح) عندما يُفاضِل بينَ المصطلحين[7]، يعود ليقول: “ليسَ ثمَّة حرج في أنْ يكون عند النُّقاد مُصطلحان يتناوبان فيما بينَهما مفهوماً ما. وهو ما يتأكَّد إذا ما كان هذا المفهوم يحمل في طيّاته إشكاليّة ما، من مثل مفهوم الانزياح”[8].

لكنَّ جوهر الإشكاليّة في اعتقادنا لا يكمن مُطلقاً في قضيّة المصطلح، على أهمِّيّتها، إنّما يتَّصل بالمفهوم الخاصّ، أو بالمفاهيم الخاصّة بهذا المصطلح على وجه الدِّقّة. فمفهوم الانزياح لا يُمكِن فصله بحالٍ من الأحوال عن مفهوم “الشِّعريّة Poetics” بوصفها عِلْماً موضوعه الشِّعر بحسب تعريف كوهن الذي افتتح به كتابه “بنية اللُّغة الشِّعريّة”[9]. إلا أنَّ المسألة هُنا أبعد من ذلك، فإذا كُنّا نستطيع أنْ نقول على المستوى الإجرائيّ للمفاهيم إنَّ كُلّ انزياح حاصل مُكوِّنٌ من مكوِّنات الدّراسة في منهجيّة شِعريّة ما، فليستْ كُلّ شِعريّة انزياحاً بالمعنى الاصطلاحيّ الذي يُمثِّله منهج كوهن، الذي يُمكِن أنْ نشير إليه بِـ “شِعريّة الانزياح” كما يذهب حسن ناظم في كتابه “مفاهيم الشِّعريّة”[10].

وعلى هذا الأساس، يُمكِن وصف الشِّعريّة بأنّها النَّظريات المُتعدِّدة التي وُضِعت للكشف عن قوانين الإبداع؛ ليسَ في الشِّعر وحده فقط، إنَّما في جميع الأجناس الأدبيّة والفنِّيّة[11]. فالشِّعريَة بشكلٍ عام “هي محاولة وضع نظريّة عامّة ومُجرَّدة ومُحايِثة للأدب بوصفِه فنّاً لفظيّاً، إنّها تستنبط القوانين التي يتوجَّه الخطاب اللُّغويّ بموجبها وجهة أدبيّة”[12]. ولهذا فإنَّ الشِّعريّة، بما فيها شِعريّة الانزياح،هي منهجيات عِلميّة تتَّسم بالموضوعيّة، ذلك لأنّها تستند إلى النَّصّ الأدبيّ فقط بهدف استنباط قوانينه[13].

ولعلَّ الشَّكلانيين الرّوس هم أوَّل من بدأ هذا الطَّريق، وذلك عبرَ محاولتهم بلورة “مفاهيم كُليِّة تنطوي على قوانين الأعمال الأدبيّة”[14]. وقد استند الشَّكلانيّون الرّوس، ومن جاء بعدهم إلى لسانيّات سوسير f. de Saussure؛ فانطلَقتْ الشِّعريّات البنيويّة تحديداً من صرامة المنهج اللِّسانيّ[15]. وهو ما ينطبق على شِعريّة جاكبسون R. Jakobson، وكذلك على شِعريّة كوهن[16].

لقد منحتْ اللِّسانيّات الانزياح الشِّعريّ مُنطلَقاً لتحديد موضوعه، ولا سيما من خلال ثُنائيّاتها الشَّهيرة، التي تُفرِّق بينَ اللُّغة langue بوصفِها ثباتاً ونظاماً جمعيّاً، والكلام Parole بما هو استعمال شخصيّ محسوس يقوم على التَّفرُّد والتَّغيُّر والحركة. وعبر هذا التَّمييز أصبَحت شِعريّة النَّصّ تنتمي إلى مجال الكلام الأدبيّ، لا إلى الكلام الاعتياديّ العامّ[17]. لذلكَ وُصِفَ الانزياح بأنَّهُ لا يستمدّ تصورُّه من وضعه في الخطاب الأصغر أي النَّصّ، بل يستمدُّ هذا التَّصوُّر عبرَ علاقة الخطاب الأصغر بالخطاب الأكبر أي اللُّغة[18].

وانطلاقاً من ذلك، بدأ كوهن بتأسيس شعريته، مُعتقِداً “أنَّ الشِّعر قبل أن يكون موضوعاً للشِعريّة ينبغي أن يتبلور بصورة تعريف واضح يقبل المعيار”[19]. فاستعارَ أوَّلاً مبدأ المحايَثة اللِّسانيّة القائم على تفسير اللُّغة باللُّغة نفسها[20]؛ وهو ما يعني أنَّه اعتمدَ اتّجاهاً شكليّاً The formalist attitude في مقاربته، وعبَّر عن ذلك بوضوح، مُتَّكئاً على عبارة سوسير: “ليستِ اللُّغة جوهراً، إنّها شكل”[21]، إذ قال: “ووجهة النَّظر الشَّكليّة هذه التي تطبِّقها البنيويَّة على اللِّسان سنطبِّقها من جهتنا على الكلام؛ أي الرِّسالة نفسها. (…) وسيكون الشَّكل، وحده موضوع بحثنا…”[22].

وبما أنَّني في هذا المحور أسعى إلى تأسيس منهج يتواءَم مع التَّأثيرات والتَّحوُّلات التي أحدثَتْها العولمة اجتماعيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً وتقنيّاً في الكتابة الإبداعيّة، يبدو لي أنَّ الاقتصار على مفهوم (الانزياح) في مَنهج كوهن اللِّسانيّ قاصِر عن الوفاء بمُتطلَّبات دراسة الكتابة الإبداعيّة في عصر العولمة للأسباب الآتية:

1_ أسّسَ كوهن توجُّهاته المنهجيّة انطلاقاً من رُؤىً مُسَبَّقة ذات أُسُس عِلميّة _ موضوعيّة، حيثُ إنَّهُ صادَرَ على هذا النَّحو طبيعةَ الانزياح الشِّعريّ المُستمَدّ أساساً من الطبيعة المَجازيّة المُلتبِسة للإبداع الكتابيّ نفسِهِ.  

2_ وحتّى لا يُناقِض مُقدِّماته العلميّة المُسَبَّقة، التي يُفترَضُ أنّها تعتمِد على القوانين المعياريّة الثّابتة لتعيين الانزياح، ولأنّ تلكَ المعايير عاجزة فعليّاً عن الإحاطة بالانزياح بما هو فعلٌ ونتيجة في آنٍ معاً، فقد ثبَّتَ كوهن أُسُسَهُ العلميّة _ الموضوعيّة بقصر منهجه على الشَّكل وحده، مُدَّعياً أنَّ المعنى هو من اختصاص معارِف أخرى نفسيّة أو ظاهراتيّة[23]. وهو الأمر الذي تعود جذوره أصلاً إلى المُحاجَجة اللِّسانيّة _ البنيويّة التي تقول بالبحث عن الكيفيّة التي يتمّ بواسطتِها القول في النَّصّ الإبداعيّ بدلاً من البحث عن هذا الذي يقوله هذا النَّصّ.

3_ وإذا كان كوهن قد اضطّر في أحيانٍ كثيرة على مستوى خطابه النَّظريّ أنْ يقوم بوصف الانزياح عبر المعنى، كما حدَث في تعريفه للاستعارة بوصفِها “استدارة كلام معيَّن يفقد معناه على مستوى اللغة الأُولى، لأجل العثور عليه في المستوى الثّاني”[24]. فإنَّ التّناقض الجوهريّ الذي وقع فيه في هذا السِّياق هو أنَّهُ على الرَّغم من كونه نَفَض يده من مسألة المعنى، لكنَّهُ مع ذلك استُدرِج في مرّات كثيرة إلى تلك المنطقة، أو أُجبِر على دخولها عندما احتاجَتْ شعريتّه إلى المعنى لتثبيت بعض التَّوجُّهات، لكنْ تحت غطاء ما دعاه (شكل المعنى). وقد ظهر ذلك جليَّاً على المستوى الإجرائيّ عندما حاكَمَ السِّرياليين[25]؛ من حيث إنَّ كلامه قد انطوى بصورة غير مُباشرة على فكرة أنَّ الانزياح في جوهره تغيير شكليّ بما هو تغيير في مستوى الدَّلالة. وهذا ما نجده في قوله إنَّ خطأ السِّرياليين يكمُنُ في اعتقادهم أنَّ كلّ انزياحٍ مَجازٌ[26]، يتحقَّق عبر “المُصادفة الموضوعيّة”[27]. كما يظهر هذا الفهم أيضاً في تعليقه على قصيدة “ليْلِيٌّ عَامِّيٌّ” لرامبو، حيث يقول: “إنَّنا لا نستطيع أن نُميِّز في مثل هذا النَّصّ، الفِكرة الطُّفيليّة من الفِكرة الرَّئيسيّة، ولا أن نُعيد الخطاب إلى سببيته بحذف أو نقل ما لا يندرج فيه…. والعنوان نفسه (لَيلِيٌّ عامِّيُّ) لا يُعبِّر عن الموضوع العامّ لهذا النَّصّ. ولا يُمكن في الواقع وضع عنوان لهذه المقطوعة لأنّها تفتقر إلى موضوع يُمكِن تعيينه والإشارة إليه. يتخطّى هذا النَّصّ حدود الخطاب المُتماسِك بسبب ما يعترضه من أشياء مُتنافِرة وأشياء مُختلفة”[28].

وهُنا يبدو كوهن كأنَّهُ يقلب المُعادلة، من حيث إنَّهُ يحكُم على الشَّكل من خلال المعنى. فلا يُقِيمُ بذلكَ حُكمَهُ على الشَّكل، إنَّما على نتيجة ذلك الشَّكل؛ أي بناءً على المعنى المُستغلِق وفق رأيه، أو بناءً على عدم حدوث الانزياح بما هو تغيير في الشَّكل بسبب انتفاء المَجاز بما هو تغيير في المعنى.

4_ ولعلَّ الاضطّراب السّابق بما ينطوي عليه من دلالات يدفَعُنا لتبنّي رأي ريكور P. Ricoeur الذي يعتقد أنَّ المنهجيّات الشَّكليّة، التي تُصنَّف ضمن مناهج التّحليل البنيويّ، في أفضل أحوالها لا تعدو أنْ تكون تأويلاً في السّطح، إذ يقول في هذا الإطار: “ولكن بينَما يبدو الشَّرح البنيويّ من غير بقيّة تقريباً…، فإنَّهُ لا يُقدِّم غير ضرب من الهيكل العظميّ تكون سِمَته المُجرّدة بارزة عندما يتعلّق الأمر بمضمون مُتضافِر التَّحديد لا يتوقّف التّفكير فيه، ولا يتجلّى إلا فيما سَيَلي من المُتابَعات التي تمنَحُه التّأويل والتجديد في الوقت نفسه”[29].

5_ لمّا كان الانزياح مفهوماً مُعقَّداً وفضفاضاً ومُتغيِّراً، من حيث إنَّهُ يخضع للثَّبات والتَّحرُّك معاً، ويتعرَّض لتحوُّلات معياريّة من زمان إلى آخَر[30]، فهذا يدفعُنا إلى التَّأكيد أوَّلاً أنَّ الشِّعريّة ستبقى قضيّة مسكوتاً عنها[31]، وهو الأمر الذي يعني ثانياً أنَّ أمامَنا دائماً أُفُقاً للاستكشاف، وإمكانيّةً للاجتهاد. فالانزياح بما هو منظومة مفهوميّة _ إجرائيّة قابلة للتّشكيل المُستمرّ والتَّنقيح، يمنحُنا نسبيّة الرُّؤية المُساعِدة على إيجاد آليّات عامّة مرِنة تضعُنا على الطَّريق الجوهريّ نحو فهم خصوصيّات الإبداع الكتابيّ، في كُلّ عصر بوجهٍ عام، وفي عصر العولمة الذي نحنُ فيه بوجهٍ خاصّ. 

يتبع…  


[1] شاعر وناقد سوريّ، حائز دكتوراه في الدِّراسات الأدبيَّة من جامعة دمشق 2015. بدأ بنشر الشِّعر والدِّراسات النَّقديَّة منذ العام 1999. أطلَقَ سلسلة بَيانات (شِعريَّة/ نقديَّة) في الأعوام 2015 و2018 و2020، هيَ على التَّوالي: (الإعلان التَّخارُجيُّ) و(الجدَل النِّسْيَاقيّ المُضاعَف _ الانتصاليّة/ البينشِعريَّة) و(شِعريَّة المُكاتَبَة _ الشّاعرُ السّائِحُ المُستأجِرُ)، كمَا واكَبَ إطلاقَ الشَّاعر (حسَّان عزَّت) لبَيانِهِ الشِّعريّ المُعنوَن بـِ (بَيان الغضَب الشِّعريّ) الذي نشرَهُ في صفحات ومَواقِعَ إلكترونيَّة عدَّة منذُ 21 آذار/ مارس 2022، وهْوَ الذي اختارَ لهُ عنوانَهُ الرَّئيس، فضلاً عن مُساهمَتِهِ في نقاط عدَّة أُخرى في البَيان. نشَرَ عشرات القصائد والنُّصوص والمَقالات والدِّراسات النَّقديَّة والفكريَّة ومُقدِّمات الكُتُب والحوارات في الجرائد والمجلّات والمَواقِع الإلكترونيَّة بانتظامٍ منذ العام 2014، ولهُ أكثَر من مَخطوط أدبيّ (شِعر ونُصوص)، وأكثَر من كتاب نقديّ وفكريّ قيْد النَّشر. حازَ جائزة الطَّيِّب صالح العالميَّة للإبداع الكتابيّ _ مَجال الدِّراسات النَّقديَّة (المركز الثَّاني) _ دورة 2018/ 2019.

مُؤلَّفاتُهُ:

1_ قبلَ غزالة النَّوم _ شِعر _ دار الفاضل _ دمشق/ سوريَّة _ 29 آذار/ مارس 2006.

2_ حركيَّة الشّاغِلات الكيانيَّة _ مُهيمِنات شِعريَّة في زمن الثَّورة والحرب في سوريّة (2011 _ 2018) _ دراسات نقديَّة _ دار موزاييك للدِّراسات والنَّشر _ إسطنبول/ تركيا _ 29 آب/ أغسطس 2019.

3_ انزياح أساليب الوجود في الكتابة الإبداعيَّة بينَ مُطابَقات العولمة واختلافاتِها _ دراسة نقديَّة _ الشَّركة السُّودانيَّة للهاتف السَّيَّار (زين) _ الخرطوم/ السُّودان _ 2019.

4_ بعدَئذٍ قد تنجو المُصافَحات _ شِعر _ دار موزاييك للدِّراسات والنَّشر _ إسطنبول/ تركيا _ 21 آذار/ مارس 2021. 

5_ مَأخوذاً بجَمالٍ ثانٍ _ شِعر _ دار خطوط وظلال للنَّشر والتَّوزيع _ عمَّان/ الأردن _ 24 كانون الثَّاني/ يناير 2023.

[2] مازن أكثم سليمان: انزياحُ أساليبِ الوُجود في الكتابة الإبداعيَّة بينَ مُطابَقاتِ العولمة واختلافاتِها _ دراسة نقديَّة (الخرطوم _ السُّودان: الشَّركة السُّودانيَّة للهاتف السَّيَّار (زين)، ط1، 2019) ص 39 _ 63.

[3] يُنظَر: أبو الفضل جمال الدّين محمَّد بن مكرم بن منظور: لسان العرب (بيروت _ لبنان: دار صادر، ط ]د.ت[) مادّة (زَيَحَ).

[4] يُنظَر: خالد سليكي: من النَّقد المعياريّ إلى التَّحليل اللِّسانيّ _ الشِّعريّة البِنيويّة نموذجاً (مجلّة عالَم الفكر: الكويت، مج23 ع1_ 2، يوليو/ سبتمبر _ أكتوبر/ ديسمبر 1994) 394 _ 395، 397.

[5] هاشم صالح: بنية اللُّغة الشِّعرية (مجلّة المعرفة: دمشق _ سوريّة، ع210 السنة 18، آب 1979) 161.

[6] أحمد محمَّد ويس: الانزياح في منظور الدِّراسات الأسلوبيّة (الرّياض _ السعوديّة: مؤسِّسة اليمامة الصحفية _ سلسلة كتاب الرّياض الشَّهريّ، ط1، ابريل 1424 هـ/ 2003 م) 64 _ 65.

[7] يُنظَر: المرجع السّابق، 52.

[8] المرجع السّابق، 65.

[9] يُنظَر: جان كوهن: بنية اللُّغة الشِّعريّة، ترجمة: محمَّد الولي ومحمَّد العمري (الدّار البيضاء _ المغرب: دار توبقال للنشر، ط1، 1986) 9.

[10] يُنظَر: حسن ناظم: مفاهيم الشِّعريّة _ دراسة مُقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم (بيروت _ لبنان، الدار البيضاء _ المغرب: المركز الثَّقافيّ العربيّ، ط1، 1994) 111.

[11] يُنظَر: المرجع السّابق، 5، من هامش الصَّفحة.

[12] المرجع السّابق، 9.

[13] يُنظَر: المرجع السّابق، 7.

[14] المرجع السّابق، 5.

[15] يُنظَر: المرجع السّابق، 14.

[16] خالد سليكي: من النَّقد المعياريّ إلى التَّحليل اللِّسانيّ، 385.

[17] يُنظَر: حسن ناظم: مفاهيم الشِّعريّة، 71. ويُنظَر: نعيم اليافي: أطياف الوجه الواحد _ في النَّظَريّة والتَّطبيق _ دراسات نقديّة (دمشق _ سوريّة: منشورات اتّحاد الكُتّاب العرب، 1997) 93.

[18] يُنظَر: المرجع السّابق، 91.

[19] أحمد علي محمَّد: الشِّعريّة والانزياح (مجلّة المعرفة: دمشق _ سوريّة، ع515 السَّنة 45، رجب 1427 هـ _ آب 2006 م) 66.

[20] يُنظَر: جان كوهن: بنية اللُّغة الشِّعريّة، 40. ويُنظَر: أحمد علي محمَّد: الشِّعريّة والانزياح، 71. ويُنظَر: حسن ناظم: مفاهيم الشِّعريّة، 113.

[21] هاشم صالح: بنية اللُّغة الشِّعريّة، 168.

[22] جان كوهن: بنية اللُّغة الشِّعريّة، 28.

[23] يُنظَر: المرجع السّابق، 174.

[24] المرجع السّابق، 206.

[25] يُنظَر: المرجع السّابق، 128 _ 129، 172 _ 173.

[26] يُنظَر: هاشم صالح: بنية اللُّغة الشِّعريّة، 172.

[27] يُنظَر: جان كوهن: بنية اللُّغة الشِّعريّة، 173.

[28] المرجع السّابق، 172 _ 173.

[29] بول ريكور: صراع التَّأويلات _ دراسات هيرمينوطيقيّة، ترجمة: منذر عيّاشي، مراجعة: جورج زيناتي (بيروت _ لبنان: دار الكتاب الجديد المُتَّحدة، ط1، كانون الثّاني _ يناير 2005) 85.

[30] يُنظَر: نعيم اليافي: أطياف الوجه الواحد، 104.

[31] يُنظَر: حسن ناظم: مفاهيم الشِّعريّة، 10.

” فجّة خُرق”: الأيادي الناعمة تعيد للبساط اليدوي حضوره في سوريا

” فجّة خُرق”: الأيادي الناعمة تعيد للبساط اليدوي حضوره في سوريا

على الطاولات وعلى الحوائط والأرضيات تتوزع البسط التقليدية الملوّنة بأشكال مختلفة، متسيّدة أثاث المكان وزينته، في ورشة “فجّة خُرق”، الواقعة في محافظة السويداء جنوب سوريا، تُطلق نساء سوريات العنان لأيديهن وخيالهن عبر حياكة بسط تراثية تكاد صناعتها تندثر في عصر السرعة، بدأت فكرة المشروع مع ازدياد حركة الوافدين والوافدات إلى المحافظة، ومع ظهور الحاجة لخلق فرص عمل جديدة تتماشى مع حركة النزوح.

في مبنى الورشة المشيد من الحجر الأسود القديم الذي يميز بيوت السويداء، تجلس صاحبة المشروع السيدة خلود هنيدي بأناقة سيدة سورية واثقة، تتدلى النظارة الطبيّة على قماش فستانها الأبيض، وتزين جيدها وأذنيها بحليّ من الأحجار الطبيعية الملونة، تلخص هنيدي التي عملت سابقاً كأخصائية نفسية ماهيّة المشروع وتقول في تصريحات خاصة لموقع صالون سوريا، “فجة الخرق تعني البساط المصنوع من بقايا الأقمشة، جمعت الورشة سيدات من مختلف المدن السورية بالإضافة إلى نساء من المجتمع المحلي، فكانت أشبه بسوريا مصغّرة”.

تعتبر فجج الخرق إحدى الصناعات شبه المنقرضة، تشرح هنيدي “رغم أنها ليست الحرفة الوحيدة المهددة بالانقراض إلا أنها تكتسب أهمية خاصة لسهولة الحصول على المادة الأولية وتوافرها في كل منزل، كما أنها تحقق بإنتاجها كلا الجانبين: الخدمي والجمالي ويمكن تطويرها بما يخدم احتياجات البيوت المتنوعة، ويقوم أساس الحرفة على استخدام بقايا الأقمشة لتصنيع العديد من القطع الجديدة مثل البُسط، وأغطية الأرضيات، ولوحات تزيين الجدران”.

قديماً كان أفراد الأسرة يحوّلون كل ما لديهم من أقمشة لشرائح ويأخذونها الى النوّال ليعيدها إليهم بساطاً، تضيف هنيدي “بحسب معلوماتي يعود تاريخ صناعة البساط اليدوي في بلاد الشام والعراق والجزيرة إلى القرن الثامن عشر، وأعتقد أن بداية صناعة فجّة الخرق تعود إلى الفترة ذاتها”.

وجود نساء من خلفيات جغرافية وثقافية متنوعة، وسياقات اجتماعية مختلفة ساهم في إغناء التجربة وإخراجها من حدود العمل اليدوي فقط. تشير هنيدي، “لعب هذا دوراً في بناء علاقات حقيقية اتسمت بالفضول والرغبة بالمعرفة، حيث لا تعرف معظم السيدات الوافدات عن مدينة السويداء أكثر من موقعها على الخريطة ربما، وفي الوقت نفسه استطاعت نساء المحافظة من مجتمع السويداء في أقصى الجنوب السوري أن يتعرفن على ظروف الحياة في المدن السورية الأخرى وهذا ما خلق ألفة كدنا نضيعها في ظروف الحرب وتداعياتها”.

بات مشروع “فجة خرق” الذي أبصر النور عام 2017، يوفر مساحة آمنة للنساء للتعبير عن أفكارهن ومخاوفهن ومشاكلهن، لاسيما أن هنيدي بالأساس أخصائية نفسية، وفي ذلك تقول ” وفّر المكان الأليف للورشة والجو المبني على المحبة فرصة للبوح ومشاركة المتاعب اليومية بين السيدات. وهذا ما جعلنا نتجاوز حدود العمل اليدوي وأن نُوجد هامشاً مشتركاً لتبادل المشاعر والأفكار، من خلال جلسات الدعم النفسي التي ترتكز على واقع الحياة اليومية، ومشكلات التهجير والأوضاع المادية والتعامل مع الأطفال، وتطورت الفكرة فيما بعد لتصبح نهجاً دائماً ما زال مستمراً حتى اليوم”.

يحقق المشروع عدة أهداف معاً، فهو مكان لتمكين النساء مهنياً من جهة، ومشروع صديق للبيئة من جهة أخرى، تضيف هنيدي “إعادة التدوير هي إحدى طرق حماية البيئة من التلوث بالإضافة لما تحققه من ترشيد، عبر إعادة إنتاج قطع للاستخدام المنزلي بأسعار معقولة وبمستوى فني جيد وبمواد آمنة، مشروع فجج الخرق غير مكلف مادي لذلك يمكن اعتباره بديلاً مناسباً”، وتختم هنيدي “يعّبر المشروع عن التماسك المجتمعي المفقود في سوريا اليوم، حيث استطاعت الجلسات النسائية الناعمة تجاوز أشكال الخلافات اللي فرضتها النزاعات”.

عادلة بيهم الجزائري بين تحرير الوطن وتحرير المرأة

عادلة بيهم الجزائري بين تحرير الوطن وتحرير المرأة

إن تاريخ الأمة ومجد الوطن يصنعه أبناؤه الأوفياء من النساء والرجال ويفنون أعمارهم من أجل حرية ونهضة وطنهم، بعضهم يكتب صفحاتٍ في ميادين البطولة والنضال وبعضهم يهدي الأمة إلى سُبل العلم والمعرفة. فبهذه الطريقة قد أعطت الأمم دليلاً على تقدمها وشاهداً على تاريخها الحضاري. وأحد أولئك القامات، السيدة العربية السورية عادلة بيهم الجزائري.
وصفتها ابنتها بأنها امرأةٌ شديدة البأس، ماضيةٌ كالسيف، شجاعة الفؤاد، ولقد كانت أحد أهم روّاد النهضة السياسية النِسوية في سوريا. وولدت في زمنٍ كان فيه الطغيان العثماني على أشده، لا يتوانى عن أي طريقةٍ يضطهد بها الشعب ويسحق شعوره القومي. فعاشت عمرها تناضل من أجل تحرير وطنها العربي وتحرير المرأة.
كان والدها عبدالرحيم بيهم جزائري الأصل، ولقد ولدت في بيروت عام 1900، ثم انتقلت للعيش في سوريا. درست في معهد (Diaconese) الألماني في بيروت، وتتلمذت في اللغة العربية على يد العلامة عبد لله البستاني، صاحب معجم البستان.
بعمرٍ مبكر، في سن السادسة عشرة، بدأت نشاطها الفكري للدفاع عن الهوية العربية، فكتبت مقالات في الصحف الوطنية، كصحيفتي الفتى العربي والمفيد البيروتية، متخذةً اسماً يدل على تمردها وكرهها للمحتل (الفتاة العربية نزيلة الأستانة). وبعد أن ساءت الأوضاع في الحرب العالمية الأولى اجتمعت عادلة بيهم مع عددٍ من رفيقاتها للقيام بعملٍ منظم حاولن من خلاله تحقيق مساعيهن في إيقاظ الوعي القومي العربي لدى النساء وتعليم الفتيات اللواتي لم تتح لهن الفرصة في التعلم. نتج عن هذه الجهود جمعية تمت تسميتها (جمعية يقظة الفتاة العربية).
 كان لهذه الجمعية رأيها الواضح الصارم في بعثة الاستفتاء التي زارت دمشق برئاسة(Crane) فطالبت بالاستقلال التام للبلاد العربية ورفض الحماية والوصاية والانتداب. أيضاً شاركت الجمعية في تنظيم مظاهراتٍ برئاسة السيدة عادلة بيهم في المقاومة ضد الانتداب الفرنسي. كما نظمت الجمعية لجنةً تشرف على دارٍ للصناعة، والتي ضمت مئة وثمانين عاملة للحرف اليدوية. بعد ذلك أسست الجمعية برئاستها مدرسة دوحة الأدب للبنات عام1928.


مدرسة دوحة الأدب:
 تعد هذه المدرسة أحد أهم وأشهر إنجازات عادلة بيهم التي لاتزال ناشطةً حتى الآن. هدفت هذه المدرسة إلى تعليم الفتيات في الأسر غير الميسورة واللواتي حُرمن من التعليم بسبب الظروف القاهرة. ولم يقتصر نشاط هذه المدرسة وأثرها على  القطر بل تجاوزاه إلى الأقطار العربية حيث تلاقت الجهود والمساعي الإصلاحية لدعم دور المرأة في المجتمع، ونتج عن هذا التلاقي تعاون بين جمعية العلماء في الجزائر وجمعية دوحة الأدب في سوريا. ففي عام 1938، وكما تخبرنا الوثائق التاريخية، جرت مراسلات مكتوبة بخط اليد بين الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية “العلماء المسلمين الجزائريين” والسيدة عادل بيهم رئيسة جمعية “دوحة الآداب”، وسعى الشيخ ابن باديس من خلال تلك المحادثات للحد من الضرر العلمي الذي ٍخلفه الاستعمار الفرنسي في الجزائر، معتقداً أن القضاء على الجهل يكون بتعليم المرأة فهو العماد الأول الذي يجب تأسيسه للبدء في الترميم وعلاج الأضرارٍ، طالباً من السيدة عادلة أن تبين له الشروط المطلوبة للسماح للفتيات الجزائريات إتمام دراستهن في الشام. أما نص الرسالة فهو التالي: “الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وآله، قسنطينة 9 جمادى الثانية 1357ه،حضرة السيدة الجليلة رئيسة جمعية دوحة الآداب المحترمة، السلام عليكم ورحمة الله و بركاته، وبعد:
اسمحي لي سيدتي أن أتقدم إلى حضرتكم بهذا الكتاب عن غير تشرف سابق ٍبمعرفتكم، غير ما تربطنا به الروابط العديدة المتينة التي تجمع بين القطرين الشقيقين الشام والجزائر. يَسرُّك سيدتي أن تعرفي أن في الجزائر نهضة أدبية تهذيبية، تستمد حياتها من العروبة والإسلام غايتها رفع مستوى الشعب العقلي والأخلاقي. ومن مؤسسات هذه النهضة جمعية التربية والتعليم بقسنطينة. ولما علمت إدارتها بجمعيتكم المباركة بما نشرته عن مجلة “الرابطة العربية “رغبت أن ترسل بعض البنات ليتعلمن من مدرسة الجمعية. فهي ترغب من حضرتكم أن تعرفوها بالسبيل إلى ذلك. تفضلي سيدتي بقبول تحيات الجمعية وإخلاصها والسلام. من رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس“.
لم ترد السيدة عادلة أن تكون أنشطة الجمعية مقتصرة على مستوى التعليم فقط، بل أرادت توسيع الأنشطة لتشمل الأنشطة الفنية أيضاً. ولهذا الغرض سافرت إلى حلب للقاء “الشيخ عمر البطش” الذي يعد حافظ للموشحات وأكبر مرجع في الأغنية التراثية. ونتيجة لهذا التعاون شهدت مدينة دمشق عام 1947 حدثاً هو الأول من نوعه، كما ذُكِر في كتاب “الموسيقى التقليدية في سوريا“ للباحث السوري الراحل حسان عباس، الذي نشره مكتب اليونيسكو في بيروت. حيث أخذت عادلة بيهم من الزعيم فخري البارودي الموافقة على تدريب الفتيات على الغناء ورقص السماح وإحياء حفلة، فكانت هذه المرة الأولى التي ظهرت فيها الفتيات الدمشقيات وهن يؤدين حفلاً غنائياً راقصاً أمام العامة على خشبة مسرح قصر العظم بحضور رئيس الحكومة آنذاك خالد العظم. ورقص السماح هو أحد أنواع الرقص التقليدي الذي ارتبط بفنون الموشحات، وانتشر هذا النوع من الرقص في حلب قبل أن يأتي ويتم نشرهُ في دمشق. لكن كما كان لهذا الحفل أصوات مرحبة به ومشيدة بنجاحه، كان يوجد العكس. إذ إن الحفل لم يلقَ رضى قاضي دمشق الشيخ علي الطنطاوي، فشرع بالهجوم في المنابر والصحف على عادلة بيهم والحفل الذي أقامته المدرسة “فوصف مدرسة دوحة الأدب على أنها دوحة الغضب، قائلاً إنهم ينظرون إلى الغرب بعين الرضى ويغمضون أعينهم عن تلك العيوب والمفاسد. كما وصف لباس الفتيات بأنه يشبه لباس الجواري قديماً، فتاريخ دمشق الإسلامي مصدر افتخارها، فكيف يرضى مسلمٌ عربي أبي لابنته أن ترقص أمام الرجال الأجانب؟ وكيف يرضى بأن تتلوى وتخلع وهي تغني أغانٍ كلها في الغرام والهيام؟“.


الاتحاد النسائي العام:

لم تكتفِ السيدة عادلة بيهم بجمعية تشمل أنشطتها دمشق فقط، بل أرادت أن تشمل هذه الخدمات القطر بكامله، وبالفعل تم الأمر بعد اجتماع أربع عشرة جمعية اتفقت على تأسيس “الاتحاد النسائي العام السوري” لتكمل هذه المسيرة في السعي لتحرير المرأة ودعمها في تأدية واجباتها وإعانتها على أخذ حقوقها، وانتُخِبت السيدة عادلة لتكون رئيسةً للاتحاد. عُني الاتحاد أولاً بتوعية المرأة السورية بحقوقها وواجباتها، فأقام دورات متواصلة لمحو الأمية في صفوف النساء. كما اهتم بتقديم الدعم للمرأة العاملة، إما من طريق السعي لتحسين دخلها أو تقديم برامج ودورات تقوية في مجال العمل، ولم تُغفل هذه البرامج المرأة الريفية، فقد عمِل الاتحاد على التمكين الاقتصادي وتقديم فرص العمل على المشاريع الزراعية والصناعات. علاوة على ذلك عُني بالجانب الصحي عن طريق تقديم الخدمات الصحية اللازمة والمرفقة بجلسات التوعية.

كان للاتحاد إسهاماته المؤثرة أيضاً في مواجهة الاحتلال وداعماً للنضال العربي والتي ينبغي ذكرها:
 ١- في حرب فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي: تكاتفت الجهود في تقديم المساعدات للمرأة الفلسطينية القادمة إلى سوريا وقُدمت بالتعاون مع السيدة “بهيرة الدالاتي” مساعدات صحية ومالية لرعاية العائلات اللاجئة وفُتحت المدارس لاستقبال أولادهم. كما جُندت مئات المتطوعات في الاتحاد النسائي للمساعدة في خياطة ثلاثة آلاف بذلة عسكرية للجنود السوريين المتطوعين في جيش الإنقاذ.
٢- قدم الاتحاد دعماً كبيراً خلال العدوان الثلاثي على مصر: حيث قادت عادلة بيهم النساء السوريات وتدربت على حمل السلاح في معسكرات أُقيمت في ريف دمشق، تحت عمليات عُرفت باسم “غرف المقاومة الشعبية“.
٣- في حرب تشرين: ظلت السيدة عادلة ناشطة في الدعم الإنساني، ورغم تقدمها في السن لم تتغيب عن حملات إسعاف الجرحى خلال الحرب.
٤- موقف الاتحاد من الجمهورية العربية المتحدة: أيد الاتحاد برئاستها الوحدة السورية المصرية عند قيامها عام 1958. وكانت أحد المستقبلين للرئيس جمال عبد الناصر، فقد كانت السيدة عادلة تكن الكثير من الاحترام للرئيس عبد الناصر الذي أعطى المرأة المصرية حق الانتخاب، فكانت تلتقي به كلما أتى إلى سورية وتتحدث معه عن احتياجات ومطالب الاتحاد النسائي.
ونظراً لما قدمه الاتحاد من إسهامات، فقد تم دعوة السيدة عادلة بيهم بصفتها رئيسة الاتحاد، لمختلف الاجتماعات والمؤتمرات داخل الوطن العربي وخارجه.
حضرت الكثير من المؤتمرات وشارك الاتحاد بوفدٍ مؤلف من ثلاثين عضواً للمشاركة بالمؤتمر النسائي الفلسطيني الذي عُقد في القاهرة وتم انتخاب عادلة بيهم نائبةً لرئيسة المؤتمر السيدة هدى شعراوي والذي تأسس في عام1944. شارك الاتحاد النسائي السوري برئاستها في المؤتمر العربي العام أيضاً، وكذلك في المؤتمر النسائي الأول المُقام في بيروت. وفي عام1960تم انتخابها رئيسة للجنة التحضيرية للمؤتمر الآسيوي الإفريقي. تلقت أيضاً دعوة من الاتحاد النسائي الصيني لزيارة جمهورية الصين وحضور العيد الوطني، كما أنها حضرت مع وفد الاتحاد المؤتمر الآسيوي. دُعيت في عام 1969 لحضور حفل اليوبيل الذهبي لاشتراك المرأة العربية في ثورة 1919، كما أنها تلقت دعوة للحضور والمشاركة في اليوبيل الذهبي لتأسيس الاتحاد النسائي المصري في القاهرة.

الجمعيات التي ضمها الاتحاد
ضم الاتحاد النادي النسائي الأدبي، يقظة المرأة الشامية، خريجات دور المعلمين، دوحة الأدب، الندوة الثقافية النسائية، الإسعاف النسائي العام، الجمعية الثقافية الاجتماعية، المبرة النسائية، جمعية نقطة الحليب.ولم تكن الطريق ممهدة أمام هذه الجمعية فقد واجهت العديد من العوائق، وعلى الرغم من أن هذه الجمعية وغيرها كان غرضها المساعدة الجادة للقيام بنهضة وتحسين أحوال المرأة، إلا أنه كان دائماً هناك من يرفض هذا التغيير ويراه سلبياً وأحياناً مضللاً. ففي أحد اجتماعات الاتحاد النسائي تمت الدعوة لإقامة بحفل خيري في دمشق هدفَ إلى جمع التبرعات لصالح جمعية نقطة الحليب. لكن الجمعيات الدينية اعترضت على الحفل بحجة أن النساء الحاضرات في الحفل سافرات. وخرجت المظاهرات في دمشق مطالبةً بإلغاء الحفل وعدم السماح للسيدات بحضور الاحتفالات إلا أن الرئيس سعد الله الجابري رفض الاستجابة لمطالب المتظاهرين وأرسل عناصر الشرطة لتفريقهم، ثم طلب من السيدة عادلة الحضور في مكتبه وتم الاتفاق على أن يقوم الاتحاد النسائي بحجب المعونات التي كان يقدمها للناس، لبضع ساعات لا أكثر وأن يتم الرد عليهم: “اذهبوا إلى المشايخ وخذوا خبزكم منهم“. بالفعل قبلت السيدة رئيسة الاتحاد مطلب رئيس الحكومة، وتم الاعتذار من كل من جاء إلى مراكز التوزيع التابعة للاتحاد والطلب منهم أن يذهبوا إلى الجمعيات الدينية. لكن لم يستطع رجال الدين تلبية المطالب والحاجات، فسكت المعارضون وتابعت الجمعية أعمالها.
واصلت السيدة عادلة بيهم العطاء إلى أن وافتها المنية عام 1975. وفي اليوم العالمي للمرأة، منح الرئيس السوري حافظ الأسد عادلة بيهم الجزائري “وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة“ لكنها لم تتمكن من استلامه فاستلمته نيابة عنها ابنتها ورفيقتها في الكفاح أمل الجزائري.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

السوريون في الحسكة: سُبل العيش والتحديات

السوريون في الحسكة: سُبل العيش والتحديات

يعيش أهالي محافظة الحسكة منذ عقد ونيِّف حياة مُظلمة وواقعاً مَعِيْشياً متردياً، انقسم المجتمع فيه إلى طبقتين متفاوتتين في الحياة والمتطلبات والآمال، وما عانته المحافظة التي مثَّلت سلة الغذاء السورية في العقود المنصرمة في ظل سنوات الحرب ’’زاد الطين بلة‘‘ طوال سنوات الجفاف الذي ضرب حوض نهر الخابور، وأخرجه عن دوره الفعَّال في دائرة التنمية الاقتصادية للبلاد؛ وبرغم ما قدمته المحافظة من خيرات وثروات كانت تدفع بالاقتصاد السوري بقوة إلى الانتعاش، إلا أنَّ واقع الحياة في محافظة الحسكة بريفها الشاسع يكاد يكون مُغيَّباً تماماً عن عين الإعلام بالعموم وعن طاولة الحوار السوري بشكلٍ خاص، وبعيد نوعاً ما عن التغطية المُنظَّمة للإعلام، عدا تقارير خجولة ومقتضبة لا تَمسُّ حياة المواطنين وتتبَّع مشاكلهم وهمومهم إلا بالقليل النادر كانتباهة النائم الذي أثقل الوسن جفونه، وقد يكون لذلك أسباب كثيرة لا مجال لحصرها، وكان هذا الدافع  للقيام بجولة في المحافظة وريفها لرصد بعض الصور من واقع الحياة هناك، ومحاولة التعرّف على بعض التحدِّيات والصعوبات التي يواجهها السكان لتأمين حياتهم ومتطلبات عيشهم.

واقع معيشي في عالمٍ موازٍ:

يعتمد أبناء الحسكة في معيشتهم بشكل عام كمجتمع زراعي على ما تَجود به الأرض من خيرات، إلى جانب تربية المواشي والاستفادة منها في رفد وتنويع الموارد الحيوية التي يبنى عليها الاقتصاد في المحافظة، إضافة إلى التجارة والصناعة الاستهلاكية الخفيفة التي لا تكاد تغطي متطلبات السوق المحلية، فخلو المحافظة من المعامل والشركات الصناعية الكُبرى والثقيلة أجبر السكان على البقاء في دائرة الاقتصاد الزراعي البدائي ومشتقاته، وهذا ما شكَّل تحدياً صعباً لما يُقارب المليون نسمة في تأمين مستلزمات البناء والزراعة، خاصة في ظل الجفاف الذي ضرب المنطقة منذ العقد ونصف الماضي، مع حلول الأزمة السورية التي أتت لتُفاقم الأزمة الكبرى الواقعة.

هذا، ومع بداية الأزمة السورية خرجت المحافظة بامتدادها الواسع على دائرة السيطرة الحكومية التي تقلَّصت في مساحة محددة وسط المدينة، وبقي الاقتصاد الذي كان يعاني الجفاف لسنوات رهن سيطرة التنظيمات والميليشيات المتتابعة على المنطقة، وغياب التنظيم والتوزيع العادل للموارد على القطاعات الإنتاجية في المحافظة وتخبّط السياسة الاقتصادية وغيابها في معظم الأحوال، الأمر الذي عرقل وبشكلٍ مُتسارع الوضع المعيشي لأهالي المحافظة، حيث بدأت علامات الهزال الاقتصادي تبرز في مظاهر الحياة كافة، لجأ السكان إثر ذلك وهم بحاجة لمورد يدفع عنهم شَبَح الفقر، إلى حلول إسعافية بديلة بعد سيطرة الميليشيات على منابع النفط وإدارتها لتجارة الفيول وتوافره بسعر زهيد إلى تكرير النفط الخام بطريقة بدائية، وإغراق السوق بالمُشتقات النفطية المُشبعة بالرصاص المُشع، وهذا ما نتج عنه لاحقاً آثار مرعبة على البيئة والصحة في عموم حوض الفرات غصَّت بها مشافي الأورام والأمراض المُزمنة؛ ما خلق نوعاً من دائرة اقتصادات تقوم على تجارة المشتقات النفطية والمنتجات التي يسهُل تسويقها وبيعها في أسواق محلية وعلى الطرقات، حتى حلول عام 2018 بُعيد تطهير فلول داعش من ريف المحافظة بشكلٍ عام، مع انتهاء الجفاف الذي استمر لأكثر من عقد وبداية موسم مطري غزير وفَّر آلاف الهكتارات من المحاصيل الزراعية البعلية، انتعشت خلاله الأوضاع المعيشية في المحافظة بمختلف قطاعاتها.

أسواق محلية في قضاء المحافظة:

بدأت الأوضاع المعيشية للسكان مَطلع العام  2019 بالخروج من دائرة الضيق بعد الاستقرار النسبي الذي طال المنطقة، وانتشار الأسواق والمزادات المحلية في المناطق والأرياف بعيداً عن مركز المدينة، والتي نشأت وتوسّعت حول تجمُّعات من باعة المشتقات النفطية ودلَّالي المواشي ومكاتب بيع السيارات وذلك لسهولة تصريف البضائع خاصة وأنَّ هذه الأسواق لا تخضع لرقابة مباشرة لأي جهة ما؛ إثر موسم زراعي وفير بدأ ينحسر مع انحباس الأمطار نهاية شتاء هذا العام، يقف أبو فارس والذي يعمل دلَّال مواشٍ في وسط سوق “الحدادية” للمواشي في ريف الحسكة الجنوبي منادياً بأعلى صوته على المواشي التي جُلبت لتباع في السوق يوم السبت، وأشار خلال لقائه صالون سوريا إلى حركة السوق القوية المعتادة في هذا اليوم في فصلي الشتاء والربيع في كل عام، إلا أنه يعلّل ضعف القوة الشرائية إلى انحباس المطر هذا الشتاء وإلى تواتر العرض والطلب على أنواع محددة في الصيف، خاصة بعد عزوف تجار محافظات الداخل من حماه وحلب عن ورود هذه الأسواق بعد انحباس المطر نهاية الموسم الذي أجهض الكثير من الاحلام والتوقّعات.

ويضيف محمود وهو مُحاسب في سوق الحبوب أن هذه الأسواق أعطت الناس فرصاً جديدة للبقاء على قيد الحياة ومنحتهم بعض الاستقرار على حد تعبيره على الرغم من الغلاء الذي يتأفف منه الجميع ويُقيّد حركة السوق، أمَّا هُمام طبيب الأسنان الذي افتتح عيادته في السوق ذاتها وقد وجد فيها خطوة آمنة، أفاد لصالون سوريا أنَّ ارتفاع الأسعار اليومي نتيجة نسب التضخم المتفاقم وتذبذب سعر الصرف، أخرج الغالب من سكان الأرياف من دائرة الأمان المعيشي ووضعهم تحت خط الفقر، فالكثير من زائريه في العيادة من السكان المحليين يعتمد في حياته على البيع المتفرق للمواشي وتسويق المحصول السنوي وبيعه في سوق محلية تخضع للعرض والطلب المحلي، وكل ذلك يعتمد على الطقس وموسم الأمطار الذي يُنعش السوق ويبعث الحياة في نفوس الأهالي؛ ما قد يجعل من عمله في هذا المكان آمناً ومريحاً نوعاً ما، ذلك أنَّ عيادته تُجنِّب الكثيرين عناء الذهاب إلى المدينة.

هجرة مُتسارعة للشباب:
في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية لجأ الكثير من الشباب في المحافظة إلى اختصار الطريق وتحويل بوصلتهم تجاه أوربا، فبمبلغ يصل نحو 10 آلاف دولارٍ اختار أحمد خريج قسم اللغة الإنكليزية، أن يسلك طريقاً محفوفة بالمخاطر وينطلق هذا الصيف عبر الحدود التركية إلى أوربا هارباً على حد تعبيره من دوامة المجهول التي انتهت إليها المنطقة، بعد أن استنفدت قواه في تحمّل الواقع المعيشي الصعب، وبرغم استدانته للمبلغ الكبير ومخاطرته بحياته في الطريق إلى أوربا، لكنه يرى أملاً في نهاية الطريق قد يُغير من حياته وحياة أسرته.

ظروف تعليميِّة من وحي واقع الحال:
لا زال ريف محافظة الحسكة يعاني بشدة من تبعات الانقطاع التعليمي الذي فرضته الحرب في ظل سيطرة الميليشيات المتتابعة في الجزيرة السورية بعامة، وخروج غالب مدارس المحافظة عن خطة الوزارة التربوية في دائرة التعليم الحكومي، ما أسفر عن ظروف تعليمية انعكست على مستقبل مئات الآلاف من الطلاب بحلقاتهم المتعددة وذلك بحسب توجّهات كل من التنظيمات والميليشيات المُسيطرة، وقالت السيدة أم أحمد في لقائها صالون سوريا إنَّ الواقع المعيشي انعكس على جميع مناحي الحياة بما في ذلك واقع التعليم في المنطقة، وأشارت بدورها إلى أنَّ المستوى التعليمي في مدارس المنطقة قد تردَّى إلى أقصى حد، وذلك يعود إلى أنَّ ما يُعرف بالإدارة الذاتية التابعة لقسد قد أقامت نظاماً تعليمياً في مناطق سيطرتها تستند فيه إلى جملة من المدرسين والإداريين الحاصلين على الشهادة الإعدادية، وعدد قليل من حملة الشهادة الثانوية، إلا أنَّ حَمَلَة الإجازة الجامعية يُعَدُّونَ نسبة ضئيلة جداً في تلك المنظومة التعليمية، وأشارت بدورها زهرة وهي ربة منزل وأم لستة أولاد بكلمات مقتضبة إلى أنَّ تراجع مستوى التحصيل الدراسي للتلاميذ في مدارس المنطقة في ريف الشدادي يعود إلى ضعف الخبرة التدريسية للمعلمين، وافتقار معظم المدرسين إلى أسلوب تعليمي يوجِّه مُخرجات العملية التعليمية نحو أهداف أكثر فاعليِّة، كون الغالب من هؤلاء المُدرسين يحتاج إلى ضبط لغته العربية قراءةً وكتابة”، ما انعكس على تراجع تحصيل الطلاب الدراسي بشكل تفاقمي أدى إلى استمرار الأمية بين كثير من الطلاب، انتهى بأهالي التلاميذ النظر إلى مستقبل أطفالهم التعليمي بعين الإفلاس، وعَدّهم التعليم بلا جدوى في ظل الفشل المتكرر، ما حدا بالكثيرين إلى إخراج أبنائهم من المدارس والزجّ بهم في شتى الأعمال والمصالح اليدوية لتأمين كفاف العيش.

ومن وجهة أُخرى، التقى صالون سوريا بفاطمة وهي معلمة بشهادة إعدادية حكومية انخرطت في السلك التعليمي التابع لما عُرف بالإدارة الذاتية وأفادت برأيها ” أنَّ الواقع يفرض نفسه على الجميع وأنَّ هذا الحال أفضل من بقاء الطلاب دون تعليم، خاصة بعد خروج داعش من المنطقة، فقد وفرت هذه المنظومة التعليمية مورداً شهرياً لعائلتها يصل إلى حوالي 80 دولاراً أغناها عن سؤال الناس، كما أنَّ هذه المنظومة في حلقتيها الأولى والثانية كانت بمثابة حلقة ترميمية أعادت الكثير من الأطفال والطلاب إلى مقاعد الدراسة، وعلى الرغم من عدم قبول الحكومة للشهادات التي تصدر عن هذه الجهة، لكن بإمكانهم متابعة الدراسة الإعدادية وقتما شاؤوا في مركز المحافظة”، وبهذا الحال أضحت الظروف المعيشية والمادية وبُعد الطلاب من المدينة أو قربهم هو الفاصل بين تحصيل التعليم وإكماله أو الاكتفاء بمحو الأمية، ما شكَّل تحدياً يُضاف إلى قائمة طويلة من الصعوبات بات يعانيها أبناء المحافظة.

أعمال صناعية محلية وواقع زراعي:
تندرج محافظة الحسكة ضمن المحافظات النامية، وتشكِّل الزراعة والثروة الحيوانية العمود الفقري لاقتصاد المحافظة، وتشتهر بزراعة القمح والقطن بشكلٍ واسع، إضافة إلى الخضار والبقوليات وبعض الفواكه، وقد انخفضت نسبة مساحة الأراضي المروية بشكل كبير خلال الأعوام الماضية، حيث تُمثل المساحة المزروعة في المحافظة في العام 2007 نسبة 29% من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية في سورية، خرجت اليوم نسبة كبيرة منها عن دائرة الإنتاج الزراعي، وأفاد أبو قاسم لصالون سوريا وهو صاحب مركز لبيع أدوات الطاقة الشمسية في سوق منطقة الـ 47 “أنَّ الناس تعمل رغم كل الظروف الصعبة وضعف المردود، وغالب الفلاحين بدأ يتجه إلى الاعتماد على الطاقة الشمسية لري أرضه في ظل الانقطاع المتواصل للكهرباء وشح الامطار، ما وفَّر المشتقات النفطية التي تحولت إلى القطاعات الإنتاجية الأخرى”. وأشار فرحان في حديثه مع صالون سوريا وهو فلَّاح يسقي أرضه على ضفة نهر الخابور أنَّ شح المياه وانقطاعها أحياناً في فصل الصيف يؤدي بالنبات إلى العطش والذبول ما أجبره على حفر بئر وتركيب مضخة وكل ذلك يرفع من تكاليف الإنتاج، عدا عن التكاليف الباهظة للحراثة والبذار وأدوية مكافحة الآفات، ويترحّم فرحان على أيام الخير والبركة قبل اندلاع الأزمة في البلاد حيث البذار المُحسنة والأسمدة ورخص المحروقات”، إضافة إلى أنَّ فلاحي الحسكة يفتقرون للثقافة الزراعية مع غياب دور الوحدات الإرشادية الزراعية بشكلٍ عام، فالواقع المعيشي وارتفاع أسعار وتكاليف الأدوات الزراعية من شبكات تنقيط ما شابه، واعتياده خطة زراعية واحدة منذ عقود جعلت الغالب منهم يعزف عن زراعة الكثير من المحاصيل الزراعية ذات المردود العالي كالسمسم وعباد الشمس والزعفران ويتَخوَّف من زراعتها ويَعدّها مُجازفة، وذلك لافتقاره المعرفة بدورتها الزراعية وكل ما يتَّصل بزراعتها والاهتمام بها.
بعد الاستقرار النسبي الحاصل في المحافظة مَطلع العام 2020بدأ قطاع الصناعة أكثر نشاطاً منذ اندلاع الأزمة السورية قبل عقد من الزمن، وانحصرت الصناعة في دائرة تلبية حاجات السوق الزراعية ومواد البناء من البلوك والرخام والمواد الاستهلاكية من صناعة البلاستيك والغذائيات، ولا سيما المنتجات التي يسهل تسويقها وبيعها في الأسواق المحلية والتي تتوفّر المواد الأولية والخام لقيام صناعتها بخبرات وكوادر محلية. وفي حديثه مع “صالون سوريا” بيَّن خليل صاحب معمل “الحاصود” للبلاستيك والذي يُنتج خراطيم بلاستيك زراعية تُستخدم في الري، “أنَّ الآونة الأخيرة شهدت قيام بعض المعامل في المنطقة، غير أنَّ أصحاب هذه المعامل يواجهون مشكلات تتعلق بتأمين المحروقات التي ارتفعت أسعارها، إضافة إلى أنَّ الكميات المُخصصة للمعامل لم تعد كافية على حد قوله وأنهم باتوا يلجؤون لتأمينها بأسعار مُضاعفة من السوق السوداء ما يؤدي لارتفاع أسعار المواد المُنتجة لارتفاع تكلفتها”.
ويُشار إلى أنَّ محافظة الحسكة والجزيرة السورية بالعموم شهدت توسّعاً كبيراً في الخارطة الصناعية وزيادة متتالية في المُنشآت الصناعية التي توزَّعت في الأرياف والمناطق ومراكز المدن، ومنها معامل الحلويات والغذائيات التي تقوم على المشتقات الحيوانية كالألبان والأجبان إضافة إلى المنشآت التي تُنتج مواد البناء كالرخام والبلوك، إضافة إلى أنَّ فتح باب الاستيراد من معبر فيش خابور (سمالكا) غير الشرعي الحدودي مع العراق في أقصى الشمال الشرقي لسورية، قد أسهم في زيادة ورود المواد الأولية والخام من الخارج وذلك يوفِّر للصناعات المحلية نمواً متواصلاً مما سينعكس بشكل إيجابي على اقتصاد المنطقة بشكل عام.

واقع عمل الشباب: فرص وتحديات

في ظل الأوضاع الراهنة وبسبب ندرة فرص العمل المستدام وانخفاض المردود، اتجه كثير من الشباب في المحافظة للتطوُّع في المنظمَّات والجمعيات التي تعمل في الجانب الإنساني، وتتوزع في شتى مناطق المحافظة سواء في الريف أو المدينة؛ والتي وجدوا فيها فرصة ذهبية لتحسين أوضاعهم المعيشية واكتساب الخبرات العملية، حيث يصل المرتب التطوعي الشهري في تلك المنظمات الدولية والجمعيات غير الحكومية إلى ما يزيد عن 200 دولار، إضافة إلى توافر شروط وبيئة عمل مناسبة تراعي تطلعات الشباب وتسهم بتمكينهم عملياً واجتماعياً، لكن ليس بإمكان الجميع العمل في تلك المنظمات فهناك مجموعة شروط تعطي الأفضلية لمن يحمل شهادة جامعية في أحد الاختصاصات الهندسية والإدارية أو إجازة في العلوم الاجتماعية والنفسية، كما يُعدّ إتقان اللغة الإنكليزية وعلوم الحاسوب أحد الأبواب الواسعة لضمان عقد عمل جيداً في تلك المنظمات. وأفادت شيرين وهي متطوعة كمُيسرة مهارات الحياة في أحد مخيَّمات اللجوء شمال الحسكة خلال حديثها لصالون سوريا أنَّ العمل التطوعي مع المنظمات الإنسانية غيَّر من مفهوم الحياة لدى كثير من زملائها في العمل، وبات البذل والعطاء بالنسبة لهم هو المحور الرئيس للعمل الإنساني في ظل ما عانته المنطقة خلال السنوات الماضية، وأكدت على حد تعبيرها أن الحلقة الأضعف في هذه الأزمة هم النساء والأطفال، فَصور المعاناة وقصص الفقد تقتحم حياتهنَّ وأطفالهنَّ خاصة في مُخيمات اللجوء في الحسكة. ويُضيف علاء وهو مدير مشروع في إحدى المنظمات الإنسانية “أن مجال العمل في المنظمات الإنسانية يحتاج لمهارات متعددة ومرونة عالية ولا شك أنه يختلف عن العمل في مجالات أخرى ويعطي خبرة واسعة في المجالات ذات الصلة، بالإضافة للمردود الجيد الذي بات يوفر للشباب حياة عملية ومعيشية جيدة نوعاً ما في ظل الأوضاع الراهنة.”

وفي سياق متصل، بات الكثير من شباب الحسكة يفتقدون للأمان والاستقرار المعيشي والاجتماعي وذلك بسبب عزوفهم عن الزواج وتكوين أسرة يستظلون بها من شمس العمر التي مالت نحو الزوال، فغالب الشباب من الجنسين يُعاني من صعوبات تأمين عمل مستدام يُغطي نفقات الزواج وإعالة أسرة صغيرة في لهيب الغلاء الذي تكتوي به البلاد. يقف صالح في شارع فلسطين وسط مدينة الحسكة لبيع القُطنيات وهو شاب تجاوز السابعة والثلاثين وأشار في حديثه لصالون سوريا ” أن فكرة الزواج أصبحت بعيدة المنال بعد كل هذا الغلاء، فمتطلبات الزواج باتت تفوق قدرتنا ومدخولنا، الآن نفكر بتأمين لقمة العيش ومساعدة العائلة الكبيرة على النفقات.  ويضيف جورج وهو صاحب محل ألبسة نسائية: ” ما تزال تجارتنا آمنة نوعاً ما، لكنَّ السوق بشكل عام تعاني من ركود اقتصادي كبير والقدرة الشرائية للمواطنين باتت ضعيفة باستثناء فترة الأعياد ومواسم الحصاد” وبذلك فإن الظروف المعيشية وواقع الحياة بالعموم مُتصل بشكل وثيق بسعر الصرف وارتفاع نسب التضخم أو انخفاضها.

مريانا مراش: أيقونة سوريــــّة في الصحافة العربيّة

مريانا مراش: أيقونة سوريــــّة في الصحافة العربيّة

تُجِمع الدراسات التي تناولت حياة مريانا مراش على أهميتها في الصحافة العربية المعاصرة، وريادتها التي تمثلت في تأثيرها على بنات جيلها والجيل الذي يليه.

 جاء ذلك من انشغالها بهموم المرأة ودعوتها لتحريرها عبر التعليم وربطها الوعي والاستنارة بالتحرر الخلاق من القيود. هذه الأفكار أدت لاحقاً لبلورة مشاريع فكرية قامت بها النساء في سوريا ومصر والوطن العربي.

تكشف سيرة حياتها بين ميلادها في حلب 1848 ورحيلها 1919 عن نبوغ بحيث تفتحت مداركها في بيت يهتم بالأدب والفكر والثقافة، وتتلمذت في مكتبة والدها فتح الله مراش، وعلى يد شقيقها الأديب فرنسيس مراش أحد أركان النهضة الأدبية في سوريا في القرن التاسع عشر. وتنقلت بين مدارس حلب والمدرسة المارونية والإنجيلية في بيروت، ومدرسة راهبات مار يوسف حيث أتقنت العربية والفرنسية والموسيقى فكانت من أبرع العازفات على البيانو، وفي الثانية والعشرين وما إن اكتملت ثقافتها حتى أخذت تنشر مقالاتها في الصحف والمجلات وأهمها مجلة “الجنان” ومجلة “لسان الحال”.
إن أهمية تجربتها تدفع قارئها لتفحص تمثلات هذه الريادة وتأثيرها وأهميتها بالنسبة لمعاصريها وللأجيال اللاحقة؛ فهي وقياساً لظروف عصرها وجدت في مرحلة صعبة زمنياً وهي فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وثقافياً فرغم أن المرأة في تلك الحقبة قد نالت في الدساتير والقوانين الحقوق التي جاءت في النصوص القانونية لكن الوضع الاجتماعي للمرأة كان أسيراً لدونية النظر إليها، والتقاليد الاجتماعية التي تحرمها حرية التحقق و التفكير في بيئة تسودها قناعة بأنه لا يجب تعليم الفتيات، وقد وصفت مارلين بوث تلك الفترة بأن الوضع وصل إلى حد أنه “لا ينبغي على الفتاة أن تجلس في غرفة استقبال الضيوف” الرجال”.

المسألة الأكثر جوهرية: تفرّد تجربتها ويرى د. محمد علي اسماعيل” أن ريادتها تتأتى من كونها صاحبة الموضوع الأول المشتمل على الأفكار الأولى؛ التي أثرت في الآخرين، فتأثر بها الآخرون وساروا على منوالها، أو استفادوا منها”

وكانت مقالتها اللافتة والأبرز والتي نشرها بطرس البستاني في مجلة الجنان البيروتية في شهر يوليو من عام 1870 بعنوان: شامة الجنان دعت فيها الكتاب لتطوير موضوعاتهم وتحسين مناقشاتهم ولغتهم، كما حثت النساء على الثقافة والعلم ومما جاء عنها أن “مقالاتها في “لسان الحال” “تناولت مجتمعها وعاداته وتقاليده وعمّا حولها من آثار التخلف، وكانت تستحثه على النهوض والابتعاد عن الجمود، وتدعو بنات عصرها إلى الاستنارة والتحرر من القيود مشجعة البنات على الكتابة، داعية المجتمع إلى تحرير المرأة والتمدن والاقتباس من الحضارات، فجاءت دعواتها واقعية جريئة على المجتمع المستكين، وتنثر بين الفتيات روح التمدن والأخلاق والجرأة والشجاعة الأدبية. كما بينت أسباب الانحطاط في المجتمع، مُقارِنة بين المرأة الأوروبية والعربية وقد جاءت مقالاتها احترافية مشبعة بلغة جديدة متخلصة من التقليد السائد”

 ما جعل البعض يرى أن أثر أفكارها لم يتوقف عند حدود مقالاتها، بل كان “بداية ولادة حركة نسوية سورية   فقد تم عام 1880 تأسيس جمعية علمية أدبية نسائية من قبل سيدات سوريات رائدات أطلقن عليها اسم (باكورة سوريا) وكانت أهدافها مستوحاة من أفكار مريانا مراش وآرائها بتفتيح عقول النساء وتطوير وضعهن الاجتماعي”

ولن تتوقف مراش عند حدود الدعوة لمشاركة المرأة والتحرر الاقتصادي بل ستترك جدلاً وأثراً على أقلام النساء اللواتي تأثرن بهذه الدعوة ” إذ تلقفت السيدة وستين مسرَّة دعوة الآنسة مراش، فنشرت في عام 1871 في مجلة “الجنان” أيضاً مقالة بعنوان “التربية”، أيدت فيها دعوة مرَّاش لطرد “الخوف والوجل”، داعية النساء لأن يرمحن في ميادين الأدب بالقول والعمل”.

هذا الأثر امتد لتساؤلها حول الكتابة فانتقدت أساليب الكتّاب المقعرة في ذلك العصر وكانت تدعو الى تطوير طرق الكتابة والإنشاء وتنويع الموضوعات.

وقد وصل أثر دعوتها إلى مصر “فتبنتها السيدة فريدة شكور، معلمة ثم مديرة مدرسة البنات الأميركية في القاهرة، إذ كتبت في مجلة “الجنان” أيضاً عام 1874 مقالة بعنوان “في النساء” أعادت فيها صياغة أفكار مريانا مراش؛ لتعالج موضوعها عن تربية البنات من أجل إعداد الأسرة المتمدنة مستقبلاً”.

إن جوهر تجربة مريانا مراش، هو أنها استطاعت كامرأة وسط مجتمع يعاني تبعات الفقر والجهل من أن تكتب مقالاتها باسمها الصريح وتحث على شجاعة العقل فقراءة نتاجها يدل بوضوح على كونها امرأة سابقة لعصرها وقيمة تفكيرها كانت في عقلها التحليلي ورؤيتها المستقبلية وقدرتها على الإقناع.

كما أصدرت مجموعة شعرية بعنوان “بنت فكر” وكتاباً عن تاريخ سوريا أواخر العهد العثمانيّ، بعنوان “تاريخ سوريا الحديث” ولكن مأثرتها الكبرى التي تذكر لها أنها أسست في منزلها أول صالون أدبي وقال عنها الأديب سامي الكيالي في مجلة الحديث التي تصدر في حلب: “عاشت مريانا صبابتها في جوّ من النعم والألم مع الأدباء والشعراء ورجال الفكر، وقرأت ما كتبه الأدباء الفرنسيون والعرب فتكونت لديها ثقافة تجمع بين القديم والحديث”.

التقاطعات والمصائر المشتركة.

اللاّفت أن أغلب الدراسات التي تناولت سيرة حياتها، تنتهي بعبارة هزمها مرض عصبي أواخر حياتها، وقد وصفها قسطاكي الحمصي “وكانت مليحة القد، عذبة المنطق، طيبة العشرة، تميل إلى المزاح، حسنة الجملة، عصبية المزاج، وقد تمكن منها الداء العصبي في أواخر سني حياتها، حتى كانت تتمنى الموت في كل ساعة”.

وهذا يجعلنا نتأمل ويستدعي إلى الذهن مصير رائدات التنوير عربياً وغربياً، فقد لقيت الأديبة مي زيادة والكاتبة فرجينيا وولف المصير ذاته، بل أن الرائدة الإنكليزية ماري كرافت 1793 أول داعية للحرية النسوية أصيب بمرض عصبي؛ ومما لا شك فيه أن ظروف النساء تلك الفترة لم تكن هينة، وربما هذا المآل الذي تنتهي له حياة المفكرات والرائدات شرقاً وغرباً يحتاج إلى مقال آخر ووقفة أخرى!

فالهدف من هذا المقال، هو فتح باب للنقاش واستعادة للتأثير المهم لرائدة من رواد الصحافة، وقد حلل د. محمد علي اسماعيل تأثيرها النابع من قوة فكرها الماثلة في “اتباعها أساليب التحليل الاحترافي والقراءة الذكية لواقعها وتقديم أفكارها عبر التمثيل والمقارنة والتعليل وأساليب المحاكمة الرفيعة”. 

إن تحدي الآراء السلبية، ومعارضة قناعات المجتمع بأسلوب تحليلي عقلي هو الذي جعل مقالاتها ودعواتها ـتنتشر بين النساء في أنحاء الوطن العربي، لقد غامرت بالكتابة ورفعت صوتها وهي تعرف مسبقاً أن هذه المغامرة لها عواقبها. وأخذت على عاتقها تصحيح الصورة الخاطئة، التي رُسِمت لها في الثقافة والحياة وفي مخيال المجتمع الذكوري في بيئة مقيدة بالأحكام والمنع والنبذ.   تكتب هيلين سيكسوس “إن الكتابة الأنثوية المنشودة، ككتابة، تتجاوز السلطة الذكورية في مغامرة البحث عن الذات، وككتابة، تستكشف قدرات المرأة المسكونة بالرعب، وترسم نساء في حالة طيران، وليس في حالة سير على الأقدام”(1)  

كانت مريانا رائدة، تعرف بعقلها المتفتح أن هوية المرأة وكينونتها الأصيلة هي في تعليمها واستقلالها الفكري، وأدركت أن الثمن الذي تدفعه مغامرة الكتابة أهون بكثير من الثمن الذي يدفعه من يترك للآخر أن يحدد له هويته؛ وهي تنتمي إلى جيل من الرائدات اللواتي فتحن الآفاق لصحافة تكتب فيها المرأة إلى جانب شريكها الرجل وأدركن بحدسهن المستقبلي أن تحرر المرأة لا يعني حرباً مفتوحة؛ لذلك سيكون صالونها ملتقى لكلا الجنسين ومنبعاً للحوار والنقاش والموسيقى، وسيبقى اسمها مرتبطًا بكونها أول امرأة عربية حققت ريادتها عبر تأثيرها الواقعي وفتحت في الصحافة كوّة لتغيير الواقع.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

هوامش:

-أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر، قسطاكي الحمصي، المطبعة المارونية، حلب، 1925.

-مريانا مراش…. رائدة الشعر النسائي السوري وأول صالون أدبي، سنان ساتيك، مقال منشور في موقع الجزيرة نت، 2019.

-سيد علي اسماعيل، مريانا مراش ريادة تاريخية أم فكرية؟ – مجلة (تراث) الإماراتية -عدد 144 و145 -2011.

-حين تشارك المرأة في كتابة التاريخ. مريانا مراش، مقال ومبادرة “الباحثون السوريون”.

-الموسوعة الصحفية العربية، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إدارة الثقافة
-تاريخ الصحافة العربية، فيليب دي طرازي، 1913، الجزء الثاني، تموز 2021 

-نبيل سليمان: نظرية الأدب النسوي، مغامرة البحث عن الذات-ضفة ثالثة 11-أكتوبر -2016.